Geri

   

 

 

İleri

 

الجزء الخامس

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

والمهاجرين معه فرحه صلى اللّه عليه وسلم بقدوم مهاجري الحبشة :

قال ابن هشام : وذكر سفيان بن عُيينة عن الأجْلَح ، عن الشَّعْبي : أن جعفر بن أبي طالب رضى اللّه عنه ، قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومَ فتح خيبر، فقبَّل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين عينيه، والتزمه

وقال : ما أدري بأيهما أنا أسَرُّ. بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر ؟

مهاجرو الحبشة الذين قدموا مع عمرو بن أمية :

قال ابن إسحاق : وكان من أقام بأرض الحبشة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟

حتى بعث فيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضَّمْري ، فحملهم في سفينتين ، فقدم بهم عليه وهو بخيبر بعد الحديبية.

من بني هاشم بن عبد مناف : جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب ، معه امرأته أسماء بنت عميس الخثعمية ؛ وابنه عبد اللّه بن جعفر، وكانت ولدته بأرض الحبشة. قُتل جعفر بمؤتة من أرض الشام ، أميراً لرسول اللّه صلى ، اللّه عليه وسلم رجل.

ومن بني عبد شمس بن عبد مناف : خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ، معه امرأته أمينة بنت خلف بن أسعد -

قال ابن هشام :

ويقال : هُمَيْنة بنت خلف - وابناه سعيد بن خالد، وأمة بنت خالد، ولدتهما بأرض الحبشة. قتل خالد بمرج الصُّفَّر في خلافة أبي بكر الصديق بأرض الشام ؛ وأخوه عمرو بن سعيد بن العاص، معه امرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرّث الكناني، هلكت بأرض الحبشة. فُتل عمرو بأجنادين من أرض الشام في خلافة أبي بكر رض اللّه عنه. ولعمرو بن سعيد يقول أبوه سعيد بن العاص بن أمية أبو أُحَيحة :

ألا ليت شِعْري عنك يا عمرو سائلا  إذا شبَّ واشتدت يداه وسُلِّحا

أتترك أمرَ القوم فيه بَلابل   تكشف غيظاً كان في الصدرِ مُوجَحَا

ولعمرو وخالد يقول أخوهما أبان بن سعيد بن العاص ، حين أسلما، وكان أبوهم سعيد بن العاص هلك بالظُّرَيْبة، من ناحية الطائف ، هلك في مال له بها :

ألا ليت مَيْتا بالظُّرَيْبةِ شاهدٌ  لما يفتري في الدين عمرو وخالدُ

أطاعا بنا أمر النساءِ فأصبحا      يُعينان من أعدائِنا من نُكايدُ

فأجابه خالد بن سعيد،

فقال :

أخي ما أخي لا شاتم أنا عِرْضَه  ولا هُوَ من سوءِ المقالة ِمقصر

يقو ل إذا اشتدت عليه أمورُه      ألا ليت ميتاً بالظّرَيبَةِ يُنْشَرُ

فدعْ عنك مَيْتاً قد مشى لسبيله  وأقبلْ على الأدنَى الذي هو أفقر

ومُعَيْقيب بن أي فاطمة، خازن عُمر بن الخطاب على بيت مال المسلمين وكان إلى آل سعيد بن العاص ؛ وأبو موسى الأشعري عبد اللّه ابن قَيْس حليف آل عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس. أربعة نفر.

ومن بني أسد بن عبد العُزى بن قصي : الأسود بن نَوْفل بن خوَيْلد. رجل.

ومن بني عبد الدار بن قُصي : جَهْم بن قَيْس بن عبد شُرَحْبيل ، معه ابناه عمرو بن جَهْم ، وخُزَيمة بن جَهْم ، وكانت معه امرأته أم حَرْملة بنت عبد الأسود هلكت بأرض الحبشة، وابناه لها، رجل. ومن بني زهرة بن كلاب : عامر بن أبي وقاص ، وعُتبة بن مسعود، حليف لهم من. هُذَيْل. رجلان.

ومن بني تَيْم بن مُرة بن كعب : الحارث بن خالد بن صَخْر، وقد كانت معه امرأته رَيْطة بنت الحارث بن جُبَيْلة، هلكت بأرض الحبشة. رجل.

ومن بني جُمَح بن عمرو بن هُصَيْص بن كبب : عثمان بن ربيعة بن أهبان. رجل. ومن بني سهْم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب : مَحْمِيَّة بن الجَزْء، حليف لهم من بني زُبَيْد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، جعله على خُمس. المسلمين. رجل ومن.بني عَدِي بن كعب بن لُؤي : مَعْمَر بن عبد.اللّه بن نَضلَة. - رجل.

ومن بني عامر بن لُؤَي بن غالب : أبو حاطب بن عَمرو بن عبد شمس ، ومالك بن ربيعة بن قَيْس بن عبد شمس ، معه امرأته عَفْرة بنت السَّعْدِي بن وَقْدان بن عبد شمس. رجلان.

ومن بني الحارث بن فهر بن مالك : الحارث بن عبد قَيْس بن لَقِيط. رجل.

وقد كان حُمل معهم في السفينتين نساء من نساء من هلك هنالك من المسلمين.

فهؤلاء الذين حمل النجاشي مع عمرو بن أمية الضَّمري في السفينتين ، فجميع من قدم في السفينتين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ستةَ عشرَ رجلا. باقي مهاجرة الحبشة : وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة، ولم يقدم إلا بعد بدر، ولم يحمل النجاشي في السفينتين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمّ ، ومن قدم بعد ذلك ، ومن هلك بأرض الحبشة، من مهاجرة الحبشة : تنصر عبيد اللّه بن جحش : من بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف : عُبَيْد اللّه بن جَحش بن رئاب الأسدي ، أسد خُزَيمة، حليف بني أمية بن عبد شمس ، معه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وابنته حبيبة بنت عُبيد اللّه ، وبها كانت تكنىِ أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكان اسمها رَمْلة خرج مع المسلمين مهاجراَ، فلما قدم أرض الحبشة تنصر بها وفارق الإِسلام ، ومات هنالك نَصْرانيا، فخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على امرأته من بعده أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب.

قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عُرْوة،

قال : خرج عُبيد اللّه بن جحش مع المسلمين مسلماً، فلما قدم أرض الحبشة تنصَّر،

قال : فكان إذا مر بالمسلمين من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال : فتَّحنا وصأصأتم ، أي قد أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تُبصروا بعدُ. وذلك أن ولد الكلب إذا أراد أن يفتح عينيه للنظر صأصأ قبل ذلك فضرب ذلك له ولهم مثلا : أي أن قد فتحنا أعيننا فأبصرنا، ولم تفتحوا أعينكم فتبصروا، وأنتم تلتمسون ذلك.

قال ابن إسحاق : وقيس بن عبد اللّه ، رجل من بني أسد بن خُزَيمة، وهو أبو أمية بنت قَيْس التي كانت مع أم حبيبة، وامرأته بَرَكة بنت يَسار، مولاة أبي سفيان بن حرب ، كانتا ظِئْرَيْ (٥) عُبَيْد اللّه بن جحش وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، فخرجا بهما معهما حين هاجرا إلى أرض الحبشة. رجلان.

ومن بني أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَي : يزيد بن زَمَعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، قُتل يوم حنين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شهيداً، وعُمر بن أمية بن الحارث بن أسد، هلك بأرض الحبشة. رجلان.

ومن بني عبد الدار بن قُصَي : أبو الروم بن عُمَيْر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ؛ وفِرَاس بن النضْر بن الحارث بن كَلَدة بن عَلْقمة بن عبد مناف بن عبد الدار. رجلان.

ومن بني زُهرة بن كلاب بن مرة : المطلب بن أزْهَر بن عبد عَوْف بن عبد بن الحارث بن زُهرة، معه امرأته رَمْلة بنت أبي عَوْف بن ضُبيرة بن سعيد بن سعد بن سَهْم ، هلك بأرض الحبشة، وَلَدت له هنالك عبد اللّه بن عبد المطلب ، فكان يقال : إن كان لأول رجل ورث أباه في الإسلام. رجل.

ومن بني تَيم بن مُرة بن كَعْب بن لؤي : عمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم ، قُتل بالقادسية مع سعد بن أبي وقاص. رجل. ومن بني مخزوم بن يَقَظة بن مُرة بن كعب : هَبَّار بن سُفيان بن عبد الأسد، قُتل بأجنادين من أرض الشام ، في خلافة أبي بكر رضى اللّه عنه ، وأخوه عبد اللّه بن سفيان ، قُتل عام اليرموك بالشام ، في خلافة عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ، يُشَكُّ فيه أقُتل ثَمَّ أم لا، وهشام بن أبي حُذَيفة بن المغيرة، ثلاثة نفر.

ومن بني جُمَح بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب : حاطب بن الحارث ابن مَعْمَر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جُمَح ، وابناه محمد والحارث ، معه امرأته فاطمة بنت المُجَلَّل ، هلك حاطب هنالك مسلما، فقدمت امرأته وابناه ، وهي أمهما، في إحدى السفينتين ؛ وأخوه حطَّاب بن الحارث ، معه امرأته فُكَيْهة بنت يَسار، هَلك هنالك مُسلما، فقدمت امرأته فُكَيهة في إحدى السفينتين ، وسُفيان بن مَعْمَر بن حَبيب ، وابناه جُنادة وجابر وأمهما حَسِنَة، وأخوهما لأمهما شرَحْبيل ابن حَسِنة ؛ وهلك سفيان وهلك ابناه جُنادة وجابر في خلافة عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه. ستة نفر.

ومن بني سَهْم بن عَمْرو بن هُعَعيْص بن كعب : عبد اللّه بن الحارث ابن قَيْس بن عَدِي بن سَعد بن سَهْم الشاعر، هلك بأرض الحبشة، وقَيْس بن حُذَافة بن قيس بن عدي بن سَعْد بن سهم وأبو قَيْس بن الحارث بن قَيْس بن عَدِي بن سعد بن سهم ، قُتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق رضى اللّه عنه ، وعبد اللّه بن حُذَافة بن قَيْس بن سعد بن سَهْم ، وهو رسولُ رسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى كِسْرى، والحارث بن قَيْس ابن عدي ؛ ومَعْمَر بن الحارث بن قَيْس بن عَدِي ؛ وبِشْر بن الحارث بن قَيْس بن عَدِي ؛ وأخ له من أمه من بني تميم ، يقال له سعيد بن عمرو، قُتل بأجنادين في خلافة أبي بكر رض اللّه عنه ، وسعيد بن الحارث بن قَيْس قُتل عام اليرموك في خلافة عُمر بن الخطاب رض اللّه عنه ؛ والسَّائب بن الحارث بن قَيْس ، جُرح بالطائف مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقُتل يوم فِحْل في خلافة عمر بن الخطاب رش اللّه عنه ،

ويقال : قُتل يوم خَيْبر، يُشَكُّ فيه ، وعُمَيْر بن رِئاب بن حُذَيفة بن مِهْشم بن سعد بن سهم ، قُتل بعين التمر مع خالد بن الوليد، مُنْصَرفه من اليمامة، في خلافة أبي بكر رض اللّه عنه ، أحد عشر رجلا.

ومن بني عدي بن كعب بن لؤي : عُرْوة بن عبد العُزَّى بن حُرْثان بن عَوْف بن عُبَيد بن عُوَيْج بن عدي بن كعب ، هلك بأرض الحبشة ؛ وعَدِي بن نَضْلة بن عبد العُزَّى بن حُرْثان ، هلك بأرض الحبشة. رجلان. الشعر الذي كان سبب عزل عمر للنعمان بن عدي عن ميسان : وقد كان مع عَدِي ابنه النعمان بن عديّ ، فقدم النعمان مع من قدم من المسلمين من أرض الحبشة، فبقي حتى كانت خلافةُ عمر بن الخطاب ، فاستعمله على ميسان ، من أرض البصْرة، فقال أبياتا من شعر، وهي :


 

 

ألا هل أتى الحسناء أن حليلَها  بِمَيْسان يُسْقَى في زُجاجٍ وحنْتَمِ  

اذا شئت غنتني دَهاقينُ قريةٍ  ورقَّاصةٌ تجثو على كلِّ مَنْسِمِ  

فإن كنتَ نَدْمانى فبالأكبرِ اسقني   ولا تَسْقني بالأصغرِ المُتَثلِّم

#    لعل أميرَ المؤمنين يسوءُه  تنادُمنا في الجَوْسَقِ المتهدِّمِ  

فلما بلغت أبياته عمر،

قال : نعم واللّه ، إن ذلك ليسوءني، فمن لقيه فليخبره أنى قد عزلته ، وعزله. فلما قدم عليه اعتذر إليه

وقال : واللّه يا أمير المؤمنين ، ما صنعتُ شيئا مما بلغك أنى قلته قطّ ، ولكنى كنت امرءًا شاعراً، وجدت فضلا من قول ، فقلت فيما تقول الشعراء فقال له. عمر : وايم اللّه ، لا تعمل لي على عملٍ ما بقيتُ ، وقد قلتَ ما قلتَ.

ومن بني عامر بن لُؤَيّ بن غالب بن فِهْر : سلَيط بن عَمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نَصْر بن مالك بن حِسْل بن عامر. وهو كان رسولَ رسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى هَوْذة بن على الحنفى باليمامة. رجل.

ومن بني الحارث بن فِهْر بن مالك : عثمان بن غَنْم بن زُهَيْر بن أبي شداد ؛ وسعد بن عبد قيس بن لَقِيط بن عامر بن أمية بن الحارث بن فِهْر، وعياض بن زُهَيْر بن أبي شداد. ثلاثة نفر.

فجميع من تخلف عن بدر، ولم يَقْدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة، ومن قدم بعد ذلك ، ومن لم يحمل النجاشي في السفينتين ، أربعة وثلاثون رجلا.

الهالكون منهم : وهذه تسمية من هلك منهم ومن أبنائهم بأرض الحبشة :

من بني عبد شمس بن عبد مناف : عُبَيْد اللّه بن جَحش بن رئاب حليف بني أمية، مات بها نصرانياً.

ومن بني أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَي : عمرو بن أمية بن الحارث بن أسد.

ومن بني جُمَح : حاطب بن الحارث ، وأخوه حَطَّاب بن الحارث. ومن بني سَهْم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب : عبد اللّه بن الحارث بن قَيْس.

ومن بني عَدِي بن كعب بن لُؤَي : عُروة بن عبد العُزَّى بن حُرْثان بن عَوْف ، وعدي بن نَضْلة، سبعة نفر.


 

 

ومن أبنائهم ، من بني تَيْم بن مرة : موسى بن الحارث بن خالد بن صخر بن عامر، رجل.

مهاجرات الحبشة

وجميع من هاجر إلى أرض الحبشة من النساء، من قدم منهن ومن هلك هنالك ست عشرة امرأة، سوى بناتهن اللاتي وُلدن هنالك ، من قدم منهن ومن هلك هنالك ، ومن خرج به معهن حين خرجن :

من قريش ، ثم من بني هاشم : رُقَية بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

ومن بني أمية : أم حَبيبة بنت أبي سفيان ، مع ابنتها حبيبة، خرجت بها من مكة، ورجعت بها معها.

ومن بني مخزوم : أم سَلَمة بنت أمية، قدمت معها بزينب ابنتها من أبي سلمة ولدتها هنالك.

ومن بني تَيْم بن مرة : رَيْطة بنت الحارث بن جُبَيْلة، هلكت بالطريق ، وبنتان لها كانت ولدتهما هنالك : عائشة بنت الحارث ، وزينب بنت الحارث ، هلكن جميعا، وأخوهن موسى بن الحارث ، من ماء شربوه في الطريق ، وقدمت بنت لها ولدتها هنالك ، فلم يبق من ولدها غيرُها، يقال لها فاطمة.

ومن بني سَهْم بن عمرو: رَمْلة بنت أبي عوف بن ضبَيْرة.

ومن بني عدي بن كعب : ليلى بنت أبي حَثْمَة بن غانم.

ومن بني عامر بن لُؤَيّ : سَوْدَة بنت زَمعة بن قيس ، وسَهْلة بنت سُهَيل بن عمرو، وابنة المحَلِّل ، وعمرة بنت السَّعْدِي بن وَقْدان ، وأم كلثوم بنت سُهَيل بن عمرو.

من غرائب العرب : ومن غرائب العرب أسماء بنت عُمَيْس لن النعمان الخَثْعَمية، وفاطمة بنت صَفْوان بن أمية بن مُحرث الكنانية، وفُكيهة بنت يسار، وبركة بنت يسار، وحَسِنة أم شَرْحَبيل ابن حَسِنة. من وُلد من أبنائهم بالحبشة : وهذه تسمية من وُلد من أبنائهم بأرض الحبشة

من بني عبد شمس : محمد بن أبي حُذيفة، وسعيد بن خالد بن سعيد، وأخته أمَةُ بنت خالد.

ومن بني مخزوم : زينب بنت أبي سَلَمة بن الأسد.

ومن بني زُهرة : عبد اللّه بن عبد المطلب بن أزهر.

ومن بني تَيْم : موسى بن الحارث بن خالد، وأخواته عائشة بنت الحارث ، وفاطمة بنت الحارث ، وزينب بنت الحارث.

الرجال منهم خمسة : عبد اللّه بن جعفر، ومحمد بن أبي حذيفة، وسعيد بن خالد،وعبداللّه بن عبد المطلب ، وموسى بن الحارث.

ومن النساء خمس : أمة بنت خالد، وزينب بنت أبي سَلَمة، وعائشة وزينب وفاطمة، بنات الحارث بن خالد بن صَخْر.

عُمرة القضاء

في ذي القعدة سنة سبع

قال ابن إسحاق : فلما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة من خيبر، أقام بها شهرَيْ ربيع وجُمَادَيين ورجباً وشعبان وشهر رمضان وشوَّالاً، يبعث فيما بين ذلك من غَزْوه وسراياه صلى اللّه عليه وسلم. ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون معتمراً عمرة القضاء، مكان عمرته التي صدوه عنها.

قال ابن هشام : واستعمل على المدينة عُوَيْف بن الأضْبط الدِّيلي.

تسميتها بعمرة القصاص : ويقال لها عمرة القِصاص ، لأنهم صدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ستِ ، فاقتص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهم ، فدخل مكة في ذي القعدة، في الشهر الحرام الذي صدوه فيه ، من سنة سبع.

وبلغنا عن ابن عباس أنه

قال : فأنزل اللّه في ذلك : { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [البقرة:١٩٤].

قال ابن إسحاق : وخرج معه المسلمون ممن كان صُدَّ معه في عمرته تلك ، وهي سنة سبع ، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه ، وتحدثت قريش بينَها أن محمداً وأصحابَه في عُسرة وجَهْد وشدة.

 قال ابن إسحاق : فحدثني من لا أتهم ، عن ابن عباس ،

قال : صَفُّوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه فلما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمَ المسجد اضطبع (١٥) بردائه ،. وأخرِج عَضُدَه اليمنى،

ثم قال : رحم اللّه امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوةَ، ثم استلم الركنَ ، وخرج يهرول ويهرول أصحابُه معه ، حتى إذا واراه البيتُ منهم ، واستلم الركن اليماني، مشى حتى يستلم الركنَ الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف. ومشى سائرها. فكان ابن عباس يقول : كان الناس يظنون أنها ليست عليهم. وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمّ إنما صنعها لهذا الحيِّ من قريش الذي بلغه عنهم ، حتى إذا حج حجة الوداع فلزمها، فمضت السنة بها.

قال ابن إسحاق : وحدثني عبد اللّه بن أبي بكر : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين دخل مكة في تلك العمرة دخلها وعبدُ اللّه بن رواحة اخذ بخطام (١٧) ناقته يقول :

خَلُّوا بني الكفارِ عن سبيله  خَلُّوا فكلُّ الخيرِ في رسولِه

يا ربِّ إني مؤمنٌ بقِيله  أعْرفُ حقَّ اللّه في قبولِه

نحن قتلناكم على تأويله  كما قتلناكم على تنزيله

ضَرْباً يُزيل الهامَ عن مقيله  ويُذْهِلُ الخليلَ عن خليله

قال ابن هشام : " نحن قتلناكم على تأويله " إلى آخر الأبيات ، لعمار ابن ياسر في غير هذا اليوم (٢٠) والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين ، والمشركون لم يقروا بالتنزيل ، وإنما يقتل على التأويل من أقر بالتنزيل.

زواج الرسول بميمونة  

قال ابن إسحاق : وحدثني أبانُ بن صالح وعبد اللّه بن أبي نَجيح ، عن عطاء بن أبي رَباح ومجاهد أبي الحجاج ، عن ابن عباس : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث (٢١) في سفره ذلك وهو حَرَامٌ ، وكان الذي زوجه إياها العباسُ بن عبد المطلب.

قال ابن هشام : وكانت جَعلَتْ أمرَها إلى أختها أمِّ الفضل ، وكانت أمُّ الفضل تحتَ العباس فجعلت أمُّ الفضل أمرَها إلى العباس ، فزوجها رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة، وأصدقها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم.

قال ابن إسحاق : فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ثلاثاً، فأتاه حُوَيْطب ابن عبد العُزَّى بن أبي قيس بن عبد وُدِّ بن نصر بن مالك بن حِسْل ، في نفر من قريش ، في اليوم الثالث ، وكانت قريش قد وكَّلته بإخراج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة فقالوا له : إنه قد انقضى أجلُك ، فاخرجْ عنا، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلمّ : وما عليكم لو تركتموني فأعرست بينَ أظهرِكم ، وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه ، قالوا : لا حاجةَ لنا في طعامك ، فاخرجْ عنا. فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وخلَّف أبا رافع مولاه على ميمونة، حتى أتاه بها بسَرِف فبنى بها رسولُ اللّه ّصلى اللّه عليه وسلم هنالك ، ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمّ إلى المدينة في ذي الحجة.

ما جاء من القران في عمرة القضية

قال ابن هشام :

فأنزل اللّه عز وجل عليه ، فيما حدثني أبو عُبَيدة : { لَقَدْ صَدَقَ اللّه رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّه آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: يعني خيبر].

ذكر غزوة مؤتة

في جُمادى الأولى سنة ثمان ، ومقتل جعفر وزيد وعبد اللّه بن رواحة

قال ابن إسحاق : فأقام بها بقية ذي الحجة، ووَلِىَ تلك الحجَّة. المشركون ، والمحرَّم وصفراً وشهريْ ربيع ، وبعث في جُمادى الأولى بعْثَه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤْتة.

أمراء غزوة مؤتة  

قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير،

قال : بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثَه إلى مُؤْتَة في جُمادى الأولى سنة ثمانٍ ، واستعمل عليهم زيد بن حارثة

وقال : إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس ، فإن أصيب جعفر فعبد اللّه ابن رواحة على الناس.

فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج ، وهم ثلاثةُ آلافٍ ، فلما حضر خروجهم ودع الناسُ أمراءَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسلَّموا عليهم. فلما ودع عبد اللّه بن رواحة من ودع من أمراء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛ بكى

فقالوا : ما يبكيك يابنَ رواحة ؟

فقال : أما واللّه ما بى حُب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكني سمعتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ اية من كتاب اللّه عزّ وجلّ ، يذكر فيها النار { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا } [مريم: ٧١] فلست أدري كيف لي بالصَّدَر بعد الوُرود ؛ فقال المسلمون : صحبكم اللّه ودفع عنكم ، وردكم إلينا صالحين ؛ فقال عبد اللّه بن رواحة :

ما قاله عبد اللّه بن رواحة قبل ذهابه أميراً إلى مؤتة :

لكنى أسأل الرحمنَ مغفرةً    وضربةً ذات فَرْغٍ تقذفُ الزَّبَدَا  

أو طعنةً بيدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً    بَحَرْبةٍ تُنْفِذُ الأحشاءَ والكَبِدا

حتى يُقالَ إذا مَرُّوا على جَدَثي  أرشدَه اللّه من غازٍ وقد رشدا 

قال ابن إسحاق : ثم إن القوم تهيئوا للخروج ، فأتى عبد اللّه ابن رواحة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فودعه ،

ثم قال :

فثبَّتَ اللّه ما آتاك من حَسَن    تثبيتَ موسى ونصرا ًكالذي نُصِرُوا

إنى تفرست فيك الخير َ  نافلةَ اللّه يعلمُ أني ثابتُ البصر

أنتَ الرسولُ فمنْ يُحرَم نوافلَه   والوجْهَ منه فقد أزْرَى به القَدَرُ  

قال ابن هشام : أنشدني بعض أهل العلم بالشعر هذه الأبيات :

أنت الرسولُ فمن يُحرَم نوافلَه    والوجْهَ منه فقد أزْرى به القدرُ

فثبَّت اللّه ما آتاك من حَسَن    في المرسَلين ونصراً كالذي نُصِرُوا

إني تفرستُ فيك الخيرَ نافلة    فراسةً خالفتْ فيك الذي نظروا

يعنى المشركين وهذه الأبيات في قصيدة له. !

قال ابن إسحاق : ثم خرج القوم ، وخرج رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم ، قال عبد اللّه بن رواحة :

خَلَف السلامُ على امرئ ودعْتُه  في النخلِ خيرَ مُشَيعٍ وخليلِ

 تخوف الناس من لقاء هرقل : ثم مضوا حتى نزلوا مَعَان ، في أرض الشام ، فبلغ الناسَ أن هرقل قد نزل مآب ، من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم ، وانضم إليهم من لَخم وجُذَام والقَيْن وبَهْراء وبَلِىّ مائة ألف منهم ، عليهم رجل من بَلِىّ ثم أحد إرَاشة يقال له : مالك بن زَافِلة. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معانٍ ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا : نكتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال ،

وإما أن يأمرنا بأمره ، فنمضي له.

تشجيع ابن رواحة لهم وما قاله في ذلك من الشعر :

قال : فشجع الناسَ عبدُ اللّه بن رواحة،

وقال : يا قوم ، واللّه إن التي تكرهون ، للتي خرجتم تطلبون الشهادةَ، وما نُقاتل الناس بعَدد ولا قُوة ولا كَثْرَة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا اللّه به ، فانطلقوا فإنما هي إحْدَى الْحُسنَيين :إما ظهورٌ

وإما شهادة"

قال : فقال الناس : قَدْ واللّه صدق ابنُ رواحة. فمضى الناس ؛ فقال عبد اللّه بن رواحة في محبسهم ذلك :

جَلَبْنا الخيلَ من أجإٍ وفرع  ثُغَرُّ من الحشيش لها العُكُومُ  

حَذَوْناها من الصُّوَّان سِبْتا   أزَلَّ كأن صفحتَه أديمُ

أقامت ليلتين على مَعانٍ    فأعقبَ بعدَ فتْرتِها جُمومُ

فرُحْنا والجيادُ مُسَوَّمات    تَنَفَّسُ في مناخِرِها السَّمومُ

فلا وأبي مآبَ لنأتينْها     وإن كانت بها عَربٌ ورومُ

فعبَّأنا أعنَّتها فجاءتْ     عَوَابسَ والغبارُ لها بَرِيمُ

بذي لَجَبٍ كأن البيضَ فيه    إذا برزتْ قوانسُها النجومُ

فراضية المَعيشة طَلَّقَتْها     أسنتها فتَنْكِحُ أو تَئِيمُ .

قال ابن هشام : ويروى : " جلبنا الخيل من آجام قُرح "، وقوله : " فعبأنا أعنتها " عن غير ابن إسحاق.

قال ابن إسحاق : ثم مضى الناس فحدثني عبد اللّه بن أبي بكر أنه حُدث عن زيد بن أرقم ،

قال : كنتُ يتيماً لعبد اللّه بن رواحة في حجره ، فخرج بي في سفره ذلك مُرْدِفي على حقيبة رحْله فواللّه إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه :

إذا أدَّيْتنِي وحَمَلْتِ رحْلي  مسيرةَ أربعٍ بعد الحِساءِ

فشأنُك انعمٌ وخَلاكِ ذم  ولا أرجعْ إلى أهلي ورائي

وجاء المسلمون وغادَروني  بأرضِ الشامِ مُشْتَهِيَ الثَّوَاءِ

وردك كل ذي نسبٍ قريبٍ   إلى الرحمنِ منقطعَ الإخاءِ

هنالك لا أبالي طَلْعَ بَعْلٍ  ولا نَخْلٍ أسافلُها رِوَاء

فلما سمعتهنَّ منه بكيت.

قال : فخفقني بالدَّرة،

وقال : ما عليك يا لُكَع  أن يرزقني اللّه شهادةً وترجع بين شُعْبتي الرحْل !

قال : ثم قال عبد اللّه بن رواحة في بعض سفره ذلك وهو يرتجز :

يا زيدُ زيدَ اليعملات الذُّبِّلِ    تطاول الليلُ هُدِيتَ فانزِلِ  

لقاء الروم وحلفائِهم

قال ابن إسحاق : فمضى الناس ، حتى إذا كانوا بتُخوم البَلْقاء لقيتهم جموعُ هرقل ، من الروم والعرب ، بقرية من قُرى البَلْقاء يقال لها مَشَارِف ، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مُؤْتة، فالتقى الناس عندَها، فتعبأ لها المسلمون ، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عُذْرَة، يقال له قُطْبة بن قَتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عُبَاية بن مالك.

قال ابن هشام : ويقال عُبادة بن مالك.

مقتل زيد بن حارثة   

قال ابن إسحاق : ثم التقى الناسُ واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى شَاطَ  في رماحِ القومَ.

مقتل جعفر وما قاله من الشعر قبل موته : ثم أخذها جعفرُ فقاتل بها، حتى إذا ألْحمه  القتال اقتحم  عن فرس له شقراءَ، فعقرها ، ثم قاتل القومَ حتى قُتل. فكان جعفرُ أول رجل من المسلمين عقر في الإِسلام.

وحدثني يحيى بن عَبَّاد بن عبد اللّه بن الزبير، عن أبيه عَبَّاد،

قال : حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف ، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة

قال : واللّه لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها ثم قاتل حتى قُتل وهو يقول :

يا حبَّذا الجنةُ واقترابُها   طيَبةً وبارداً شرابُها

والرومُ قد دنا عذابُها     كافرة بعيدة أنسابُها

عليَّ إذا لاقيتُها ضِرَابُها

من شجاعة جعفر :

قال ابن هشام : وحدثني من أثق به من أهل العلم : أن جعفَر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقُطعت ، فأخذه بشماله فقُطعت ، فاحتضنه بعَضُدَيْه حتى قتُل رضى اللّه عنه ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه اللّه بذلك جَنَاحَيْن في الجنة يطير بهما حيث شاء.

ويقال : إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربةً، فقطعه بنصْفَين.

مقتل عبد اللّه بن رواحة   

قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عَبَّاد بن عبد اللّه بن الزبير : عن أبيه عباد

قال : حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مُرة بن عوف ،

قال : فلما قُتل جعفر أخذ عبد اللّه بن رَوَاحة الرايةَ، ثم تقدم بها، وهو على فرسه ، فجعل يستنزل نفسَه ، ويتردد بعضَ التردد،

ثم قال :

أقسمْتُ يا نفسُ لَتَنْزِلِنَّه ،    لتَنْزِلِنَّ أو لتكْرَهِنَّهْ

إن أجْلَبَ الناسُ وشَدُّوا الرَّنَّهْ   ما لي أراكِ تكرهينَ الجنَّهْ

قد طالَ ما قد كنتِ مُطمئنه   هل أنتِ إلا نُطْفةٌ في شَنَّهْ

وقال أيضاً :

يا نفسُ إلا تُقْتَلِي تموتى    هذا حِمامُ الموْتِ قد صَليتِ

وما تمنَّيتِ فقد أعْطِيتِ     إن تفعلى فعلَهما هُدِيتِ

يريد صاحبيه : زيدا وجعفرا ؟ ثم نزل. فلما نزل أتاه ابن عم له  بعَرْق  من لحم

فقال : شُد بهذا صلبَك ، فإنك قد لَقيتَ في أيامِك هذه ما لقيتَ ، فأخذه من يده ثم انتهَسَ منه نَهْسةً، ثم سمع الحَطْمَة فيِ ناحيةِ الناس ، فقال وأنتَ في الدنيا ؟! ثم ألقاه من يده ، ثم أخذ سيفه فتقدم ، فقاتل حتى قُتل.

إمارة خالد وحُسن تصرفه : ثم أخذ الراية ثابتُ بنُ أقْرَم أخو بني العَجْلان ،

فقال : يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم ، قالوا : أنت ،

قال : ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فلما أخذ الراية دافع القوم ، وخاشى بهم ، ثم انحاز وانحيز عنه ، حتى انصرف. بالناس. الرسول يتنبأ بما حدث :

قال ابن إسحاق : ولما أصيب القوم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيما بلغني : أخذ الرايةَ زيدُ بن حارثة فقاتل بها حتى قُتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قُتل شهيداً

قال : ثم صمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد اللّه بن رَوَاحة بعضُ ما يكرهون ،

ثم قال : ثم أخذها عبد اللّه بن رواحة فقاتل بها حتى قُتل شهيداً،

ثم قال : لقد رُفعوا إلىَّ في الجنة، فيما يرى النائم ، على سُررٍ من ذَهب ، فرأيت في سرير عبد اللّه بن رواحة ازْوِرَاراً  عن سريرَيْ صاحبيه ،

فقلت : عَمَّ هذا ؟ فقيل لي : مَضيا وتردد عبدُ اللّه بعضَ التردد، ثم مضى.

حزن الرسول على جعفر ووصيته بآله  

قال ابن إسحاق : فحدثني عبد اللّه بن أبي بكر، عن أم عيسى الخزاعية، عن أم جعفر بن محمد بن جعفر بن أبي طالب ، عن جدتها أسماء بنت عُمَيْس ،

قالت : لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علىَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد دَبَغت أربعين مَنًّا -

قال ابن هشام : ويروى أربعين منيئة - وعجنت عجيني ، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم

قالت : فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ائتينى ببنى جعفر؛

قالت : فأتيته بهم ، فتشممهم وذرفت عيناه ،

فقلت : يا رسول اللّه ، بأبي أنت وأمى، ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شىء ؟

قال : نعم أصيبوا هذا اليوم.

قالت : فقمتُ أصيح ، واجتمعت إلىَّ النساء، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أهله ،

فقال : لا تغفلوا ال جعفر من أن تصنعوا لهم طهاما، فإنهم قد شُغلوا بأمرِ صاحبِهم .

وحدثني عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قالت ، لما أتى نعىُ جعفر عرفنا في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحزن.

قالت : فدخل عليه رجل

فقال : يا رسول اللّه ، إن النساء عثَيننا وفتَنَّنا ؛

قال : فارجعْ إليهن فأسكتهن.

قالت : فذهب ثم رجع ، فقال له مثل ذلك -

قال : تقول وربما ضَرَّ التكلفُ أهلَه -

قالت : قال : فاذهب فأسكتهن ،،فإن أبَيْنَ فاحثِ في أفواهِهن الترابَ ،

قالت : وقلتُ في نفس : أبعدَك اللّه فواللّه ما تركتَ نفسَك وما أنت بمطيع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

قالت : وعَرَفتُ أنه لا يقدرُ على أن يحْثِى في أفواهِهن الترابَ. شعر قطبة في قتله ابن زافلة في غزوة مؤتة :

قال ابن إسحاق :

وقد كان قُطبْةُ بن قَتادة العُذْرِيُّ : الذي كان على مَيمنة المسلمين ، قد حمل على مالك بن زافلة فقتله ، فقال قُطبة بن قَتادة :

طعنت ابنَ زافلة، بن الإِرا  شِ برُمْحٍ مضى فيه ثم انحَطَمْ

ضربتُ على جِيدِه ضَرْبةً  فمالَ كما مالَ غُصْنُ السّلَمْ

وسُقنا نساءَ بني عمِّه   غداةَ رَقُوقَيْن سَوْقَ النَّعَمْ

قال ابن هشام : قوله : " ابن الإِراش " عن غير ابن إسحاق. والبيت الثالث عن خَلَّاد بن قرة

ويقال : مالك م بن رافلة.. ما قالته كاهنة حدس :

قال ابن إسحاق : وقد كانت كاهنةٌ من حَدَس حين سمعت بجيش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مُقبلاً، قد قالت لقومها من حَدَس - وقومها بطن يقال لهم بنو غَنْم -: أنذركم -قَوْماً خذراً ، ينظرون شَزْراً  ، ويقودون الخيل تَتْرَى، ويُهريقون دَماً عَكْراً، فأخذوا بقولها ،.. واعتزلوا من بين لخم ؛ فلم تزل بعدُ أثرى حدَس : وكان الذين صَلُوا الحرب يومئذ بنو ثَعْلبة، بطن من حَدس، فلم يزالوا قليلاً بعدُ. فلما انصرف خالد بالناس أقبل بهم قافلا.

الرسول يلتقي بالأبطال   

قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير،

قال : لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون.

قال : ولقيهم الصبيانُ يشتدون ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مُقبل مع القوم على دابة،

فقال : خذوا الصبيان فاحملوهم ، وأعطونى ابن جعفر، فاتى بعبد اللّه فأخذه فحمله بين يديه.

قال : وجعل الناس يَحْثُون على الجيش الترابَ ، ويقولون : يا فُرار، فررتم في سبيل اللّه !

قال : فيقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ليسوا بالفُرَّار، ولكنهم الكُرَّار - إن شاء اللّه تعالى  .

قال ابن إسحاق : وحدّثني عبد اللّه بن أبي بكر، عن عامر بن عبد اللّه بن الزبير عن بعض آل الحارث بن هشام : وهم أخواله ، عن أم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم ،

قال : قالت أم سلمة لامرأة سَلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة : ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومع المسلمين ؟

قالت : واللّه ما يستطيع أن يخرج ، كلما خرج صاح به الناس يا فرار، فررتم في سبيل اللّه ، حتى قعد في بيته فما يخرج.

ما قيل من الشعر في غزوة مؤتة : ما قاله ابن المسحَّر

قال ابن إسحاق : وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد ومخاشاته بالناس وانصرافه بهم ، قيس بن المسَّحَر اليَعْمري ، يعتذر مما صنج يومئذ وصنع الناس :

فواللّه لا تنفَكُّ نفسي تلومُنيِ   على موقفي والخيلُ قابعةٌ قُبْلُ

وقَفتُ بها لا مُستجيراً فنافِذاَ    ولا مانعاً من كان حُمَّ له القَتلُ

على أننى آسيتُ نفسي بخالدٍ   ألا خالدٌ في القومِ ليس له مِثْلُ

وجاشت إليَّ النفسُ من نَحْوِ جعفر بمؤتة إذ لا ينفعُ النابلَ النَّبلُ

وضَمَّ إلينا حَجْزَتَيْهم كِلَيْهِما   مهاجرةٌ لا مشركون ولا عُزْل

 فتبيَّن قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره ، أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت ، وحقَّق انحياز خالد بمن معه.

قال ابن هشام : فأما الزهري فقال فيما بلغنا عنه : أمَّر المسلمون عليهم خالد بن الوليد، ففتح اللّه عليهم ، وكان عليهم حتى قفل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم حسان بن ثابت يبكى شهداء مؤتة :

قال ابن إسحاق : وكان مما بُكى به أصحابُ مؤتة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قول حسان ابن ثابت :

تأوَّبنى ليلٌ بيثربَ أعسرُ وهَمٌّ إذا ما نَوَّمَ الناسُ مُسْهِرُ  

لذكرى حبيب هيَّجت لي عَبرةَ سَفوحاً وأسبابُ البكاءِ التذكرُ

بَلى إن فُقْدانَ الحبيبِ بليةٌ  وكم من كريم يُبْتَلَى ثم يَصْبِرُ

رأيتُ خيارَ المؤمنين تواردوا   شَعوبَ وخَلْفاً بعدَهم يتأخرُ

فلا يُبعدَنَّ اللّه قتلَى تتابعوا  بمؤتةَ منهمُ ذو الجناحين جَعفرُ

وزيدٌ وعبدُ اللّه حين تتابعوا   جميعاً وأسبابُ المنيةِ تَخْطِرُ

غداةَ مَضَوْا بالمؤمنين يقودُهم إلى الموتِ ميمونُ النقيبةِ أزهَرُ

أغرُّ كضوءِ البدرِ من ال هاشمٍ ألِىّ إذا سِيمَ الظَّلامةَ مِجْسَرُ

فطاعَن حتى مالَ غيرَ مُوَسَّدٍ   لمعتركٍ فيه قَنا مُتَكَسر

فصار مع المستشهِدين ثوابُهُ  جِنان ومُلتفُّ الحدائقِ أخضَرُ

وكنا نرى في جعفر من محمد  وفاءً وأمراً حازماً حين يَأمُرُ

فما زال في الإِسلام من آلِ هاشم  دعائمُ عزّ لا يُزَلْنَ ومَفخرُ

هُمُ جبلُ الإِسلامِ والناسُ حولَهم رِضامٌ إلى طَوْدٍ يَروقُ ويَقْهَرُ

بهاليلُ منهمْ جعفرٌ وابنُ أمِّه  علىّ ومنهم أحمدُ المتخيَّرُ

وحمزةُ والعباسُ منهمْ ومنهمُ عَقيلٌ وماءُ العودِ من حيثُ يُعْصَرُ

بهم تُفْرَجُ اللَّأوَاءُ في كلِّ مَأزِق عَماس إذا ما ضاقَ بالناس مصدر

همُ أولياءُ اللّه انزل حكمُه عليهم ، وفيهم ذا الكتابِ المطهَّرُ

شعر كعب بن مالك في غزوة مؤْتة : وقال كعب بن مالك :

نام العيونُ ودمع عينِك يَهْمِلُ  سَحّاً وَكَفَ الطَّبابُ المخضَّلُ

في ليلةٍ وردت علىَّ همومُها   طَوْراً أخِنُّ وتارة أتململ

واعتادني حُزنٌ فبتُّ كأننى   ببناتِ نَعْشٍ والسّماكِ مُوَكَّلُ

وكأنما بينَ الجوانحِ والحَشَى   مما تأوَّبَني شهاب مُدْخَلُ

وَجداً على النفرِ الذين تتابعوا   يوماً بمؤتَةَ أسندوا لم يُنْقَلُوا

صلَّى الإِلهُ عليهمُ من فتية   وَسَقَى عظامَهمُ الغَمامُ المُسْبِلُ

صبروا بمؤتةَ للإِلهِ نفوسَهم  حَذَرَ الرَّدَى ومخافةً أن يَنْكُلوا

فمضوا أمامَ المسلمين كأنهم   فُنُقٌ عليهنَّ الحديدُ المُرْفلُ  

إذ يهتدون بجعفر ولوائه   قُدَّام أولِهم فنعْمَ الأوَّلُ

حتى تفرجتِ الصفوفُ وجعفر   حيثُ التقى وعْثُ الصفوفِ مُجَدَّلُ  

فتغير القمر المنيرُ لفقدِه   والشمسُ قد كَسَفَتْ وكادت تَأفِلُ

قَرْمٌ علا بنيانُه من هاشم   فَرْعاً اشَمَّ وسُؤْدُداً ما يُنْقَل

قومٌ بهم عصم الإِلهُ عبادَه   وعليهمُ نزل الكتابُ المنْزَلُ

فَضلوا المعاشرَ عزةً وتكرُّماً   وتغمدَتْ أحلامَهم مَن يَجْهَلُ

لا يُطلقونَ إلى السَّفاهِ حُباهُمُ  ويُرَى خطيبُهم بحقّ يفْصِلُ

بيضُ الوجوه ترى بطونَ أكفِّهم   تندَى إذا اعتذر الزمانُ الممْحِلُ

وبهدْيهم رضِىَ الإِلهُ لخلقِه  وبجَدِّهم نُصر النبي المرْسَلُ

حسان يبكي جعفراً بعد غزوة مؤتة : وقال حسان بن ثابت يبكى جعفر بن أبي طالب رضى اللّه عنه :

ولقد بكيتُ وعَزَّ مهْلَكُ جعفر  حِبِّ النبي على البريةِ كُلِّها

ولقد جَزِعتُ وقلتُ حين نُعيتَ لي  مَنْ للجِلادِ لَدَى العُقابِ وظِلِّها  

بالبيضِ حين تُسَلُّ من أغمادِها  ضَرْباً وإنهالِ الرماحِ وعَلِّها  

بعدَ ابنِ فاطمةَ المباركِ جعفر  خيرِ البريةِ كلِّها وأجلِّها  

رَزْءاً وأكْرَمها جميعاً مَحتداً  وأعَزّها مُتَظلِّما وأذلِّها  

للحقِّ حين ينوبُ غير تنحُّلٍ  كَذِباً، وأنداها يداً، وأقلِّها  

فُحشاً، وأكثرِها إذا ما يُجْتَدَى   فضلاً، وأبذلها نَدًى، وأبلِّها  

بالعُرفِ غيرَ محمدٍ لا مثلُه  حي مِنَ احياءِ البريِّةِ كُلِّها

حسان يبكي زيد بن حارثة وعبد اللّه بن رواحة بعد مُؤْتة : وقال حسان بن ثابت في يوم مؤتة يبكى زيد بن حارثة وعبد اللّه بن رواحة :

عَيْنِ جودي بدمعكِ المنزورِ  واذكري في الرخاءِ أهلَ القبورِ  

واذكري مُؤْتَةَ وما كان فيها يوم راحوا في وقْعةِ التغوير

حين راحوا وغادروا ثَمَّ زيداً نعْمَ مأوَى الضَّرِيك والمأسورِ

حِبَّ خيرِ الأنامِ طُرّاً جَميعاً  سَيِّدَ الناسِ حُبُّه في الصدورِ

ذاكُمُ أحمدُ الذي لا سواه   ذاك حُزني له معاً وسروري

إن زيداً قد كان منا بأمر  ليس أمْرَ المكذَبِ المغرورِ

ثم جودي للخزرَجِىِّ بدمعٍ  سيداً كان ثَمَّ غير نَزُور  

قد أتانا من قتلهم ما كفانا  فبحُزنٍ نبيت غير سُرورِ

قول أحد الشعراء بعد رجوعه من مؤْتة :

وقال شاعر من المسلمين ممن رجع من غزوة مؤتة :

كفى حزناً أني رجَعتُ وجعفرٌ  وزيدٌ وعبدُ اللّه في رَمْسِ أَقْبُرِ

قَضَوْا نحبَهم لما مَضَوْا لسبيلهم  وخُلِّفْتُ للبلوَى مع المُتغَبِّرِ

ثلاثةُ رهطٍ قُدِّموا فتقدَّمواإلى  وِرْدِ مكروه من الموتِ أحمر

تسمية شهداء مؤتة : وهذه تسمية من استشهد يوم مؤتة :

من قريش ، ثم من بني هاشم : جعفرُ بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، وزيدُ بن حارثة رضي اللّه عنه.

ومن بني عَدِيِّ بنِ كعب : مسعودُ بن الأسود بن حارثة بن نَضْلة. ومن بني مالك بن حِسْل : وهب بن سعد بن أبي سَرْح.

ومن الأنصار ثم من بني الحارث بن الخزرج : عبد اللّه بن رَوَاحة، وعَبَّاد بن قَيْس.

ومن بني غَنْم بن مالك بن النجار : الحارث بن النعمان بن أساف بن نَضْلة بن عبد بن عَوْف بن غَنْم.

ومن بني مازن بن النجار: سُراقة بن عَمرو بن عطية بن خَنْساء.

قال ابن هشام : وممن استُشهد يوم مؤتة، فيما ذكر ابن شهاب.

من في مازن بن النجار : أبو كُلَيب وجابر، ابنا عمرو بن زيد بن عَوْف بن مَبْذول وهما لأب وأم.

ومن بني مالك بن أفْصَى : عَمرو وعامر، ابنا سعد بن الحارث بن عَبَّاد بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفْصَى.

قال ابن هشام : ويقال أبو كلاب وجابر، ابنا عمرو.

ذكر الأسباب الموجبة للسير إلى مكة،

وذكر فتح مكة

في شهر رمضان سنة ثمان

قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعدَ بعثِه إلى مؤتة جُمادَى الآخرة ورجباً.

ما وقع بين بني بكر وخزاعة

ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كِنَانة عدت على خزاعة، وهم على ماءٍ لهم بأسفل مكة يقال له : الوَتير، وكان الذي هَاجَ ما بين بني بكرٍ وخُزاعة أن رجلا من بني الحَضْرمي ، واسمه مالك بن عَبَّاد - وحِلف الحضرمى يومئذ إلى الأسْود بن رَزْنٍ خرج تاجراً، فلما توسط أرضَ خُزاعة، عَدَوْا عليه فقتلوه ، وأخذوا مالَه ، فعدت بنو بكر على رجل من خُزاعة فقتلوه ، فعدت خُزاعة قُبيل الإسلام عليّ بني الأسود بن رَزْنٍ الدِّيلى - وهم مَنْخَرُ بني كنانة وأشرافُهم - سلمى وكلثوم وذؤيب - فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم  .

قال ابن إسحاق : وحدثني رجل من بني الديل ،

قال : كان بنو الأسود بن رَزْن يُودَوْن في الجاهلية دِيتين ديتين ، ونُودَي دية دية، لفضلهم فينا.

قال ابن إسحاق : فبينا بنو بكر وخُزاعة على ذلك حَجز بينَهم الإسلامُ ، وتشاغل الناس به ، فلما كان صلح الحُديبية بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين قريش ،كان فيما شرطوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشرط لهم ، كما حدثني الزهري ، عن عروة بن الزبير، عن المِسْور بن مخرمة ومَرْوان بن الحكم ، وغيرهم من علمائِنا : أنه من أحب أن يدخل في عَقد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعهده فليدخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عَقْد قريش وعهدهم فليدخل فيه ؛ فدخلت بنو بكر في عَقْد قريش وعهدهم ، ودخلت خُزاعة في عَقْد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شذ وعهده.

قال ابن إسحاق : فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خُزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رَزْن ، فخرج نَوْفل بن معاوية الديلي في بني الديل ، وهو يومئذ قائدهم ، وليس كل بني بكر تابَعَهُ حتى بَيَّت خُزاعة وهم على الوَتير، ماءٍ لهم ، فأصابوا منهم رجلاً، وتحاوزوا واقتتلوا، ورَفَدَتْ بني بكر قريشٌ بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مُسْتَخفيا، حتى حازواخُزاعة إلى الحرم ، فلما إنتهوا إليه ، قالت بنو بكر : يا نَوْفل ، إنا قد دخلنا الحرم ، إلهكَ إلهكَ ، فقال كلمة عظيمة : لا إلهَ له اليوم ، يا بني بكر أصيبوا ثأرَكم ، فلعمري إنكم لتَسْرقون في الحرم ، أفلا تصيبون ثأرَكم فيه ؟ وقد أصابوا منهم ليلةَ بيتوهم بالوَتير رجلاً يقال له مُنبِّه وكان منبه رجلا مفئوداخرج هو ورجل من قومه يقال له تميم بن أسد، لا وقال له منبه : يا تميم ، انج بنفسك فأما أنا فواللّه إنى لميت ، قتلونى أو تركونى ، لقد انبَتَّ فؤادي ، وانطلق تميم فأفلت ، وأدركوا مُنَبها فقتلوه ، فلما دخلت خزاعة مكة، لجئوا إلى دار بُدَيْل بن ورقاء، ودار مولى لهم يقال له رافع ؛ فقال تميم بن أسد يعتذر من فراره من منبه : شعر تميم يعتذر من فراره عن منبه :

لما رأيتُ بني نُفـاثَة أقبـلوا  يَغْشَوْنَ كُلَّ وتيرةٍ وحِجابِ

صَخْراً ورَزْناً لا عَرِيبَ سِوَاهُمُ يُزْجُونَ كلَّ مُقَلَّصٍ خَنَّابِ

وذكرْتُ ذَحْلاً عندَنا مُتَقادِمًا فيما مضى من سالفِ الأحْقابِ

ونَشَيْتُ رِيحَ الموتِ مِن تِلْقَائِهم  ورَهِبْتُ وقعَ مُهَنَّدٍ قَضَّابِ

وعَرَفْتُ أنْ مَنْ يَثْقفوه يَتركوا  لحماً لِمُجْرِيَةٍ وشِلْو غُرابِ

قَوَّمتُ رِجْلاً لا أخافُ عِثَارَها  وطرحْتُ بالمتْن العَراءِ ثياي

ونجوْتُ لا ينجو نجائي أحْقبٌ  عِلْجٌ أقَبُّ مُشمَرُ الأقرابِ

تَلْحَى ولو شَهِدَتْ لكان نكيرُها  بَوْلاَ يَبُلُّ مشافــِرَ القَبْقَابِ

القومُ أعلمُ ما تركتُ مُنَبِّهــاً  عن طِيبِ نفسٍ فاسألي أصحابي

قال ابن هشام : وتروى لحبيب بن عبد اللّه الأعلم الهُذَلي. وبيته : " وذكرت ذَحْلا عندنا متقادما " عن أبي عبيدة، وقوله " خَناب " و" عَلج أقب مشمِّر الأقراب " عنه أيضا. شعر الأخزر فيما وقع بين خزاعة وبكر :

قال ابن إسحاق : وقال الأخزر بن لُعط الديلي ، فيما كان بين كنانة وخُزاعة في تلك الحرب :

ألا هل أتى قُصْوَى الأحابيش أننا ردَدْنا بني كعب بأفْوَق ناصِلِ

حَبَسْناهُم في دارةِ العبدِ رافــع وعندَ بُدَيْلٍ مَحْبِساً غيرَ طائل

بدارِ الذليلِ الآخذِ الضَيمِ بعدَما  شَفَيْنا النفوسَ منهمُ بالمنَاصِلِ

حَبَسناهمُ حتى إذا طال يومُهم   نفحْنا لهم من كلِّ شِعْبٍ بوابلِ

نذبِّحهم ذَبْـحَ التُّيوسِ كأننــا  أسـُود تَبارَى فيهمُ بالقَواصِلِهمُ

ظلمونا واعتدوا في مسيرِهم  وكانوا لدَى الأنصابِ أولَ قاتِل

كأنهم بالجِزْعِ إذ يَطرُدونهم   قفاثَوْر خُفَّان النعامِ الجَوافلِ

بديل بن عبد مناة يردُّ على الأخزر

فأجابه بديل بن عبد مناة ابن سلمة بن عمرو بن الأجب ، وكان يقال له : بديل بن أم أصرم ،

فقال :

تفاقدَ قوم يفخَرون ولم نَدَعْ  لهم سَيداً يَنْدُوهُمُ غيرَ نافلِ

أمِنْ خِيفةِ القومِ الالى تزدَرِيهِمُ تُجيز الوَتيرَ خائفاً غير آئِلِ

وفي كلِّ يومٍ نحن نحبو حِباءَنا  لعَقْل ولايُحْبَى لنافى المعَاقِلِ

ونحن صبَحْنا بالتَّلاعةِ دارَكم  بأسيافِنا يَسْبِقنَ لوْمَ العَـواذِل

ونحن منعنا بينَ بَيْضٍ وعَتْوَد إلى  خَيْفِ رَضْوَى مِن مَجَرِّ القنابلِ

ويومَ الغَميم قد تكفَّتَ ساعياً   عُبَيْسٌ فجَعْناه بِجَلْدٍ حُلاحِلِ

أإن أجْمَرَتْ في بيتها أمُّ بعضِكم  بجُعْموسِها تَنزونَ أن لم نُقاتِلِ

كذبْتُم وبيتِ اللّه ما إن قَتلتُمُ   ولكن تَرَكْنا أمرَكم في بَلابِلِ
 

قال ابن هشام : قوله " غير نافل "، وقوله " إلى خَيْف رَضوى " عن غير ابن إسحاق.

ما قاله حسان في ذلك

قال ابن هشام : وقال حسان بن ثابت في ذلك :

لحا اللّه قوماً لم نَدَعْ من سَراتِهمٍ  لَهم أحداً يَنْدُوهُمُ غيرَ ناقبِ

أخُصْيَيْ حمارٍ مات بالأمس نَوْفلا  متى كُنتَ مِفْلاحاً عدوَّ الحقائبِ

خُزاعة تستنجد بالرسول   

قال ابن إسحاق : فلما تظاهرت بنو بكر وقُريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينَهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خُزاعة، وكانوا في عَقده وعَهْده ، خرج عَمْرو بن سالم الخُزاعى، ثم أحدُ بنيِ كعب ، حتى قَدِم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، وكان ذلك مما هاج فتْحَ مكة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظَهْراني الناس ،

فقال :

يا ربِّ إني ناشدٌ محمدَا    حلفَ أبينا وأبيه الاتْلَدَا

قد كنتُم وُلْداً وكنا وَالدَا    ثُمَّتَ أسْلمنا فلم ننزعْ يدَا

فانصرْ هَداك اللّه نصراً اعتدَا  وادْعُ عبادَ اللّه يأتوا مدَدَا

فيهم رسولُ اللّه قد تجرَّدَا   إن سِيمَ خَسْفاً وجهُه تربَّدَا

في فَيْلَقٍ كالبحرِ يجري مُزْبِدَا  إن قُريشا أخلفُوك الموْعِدَا 

ونَقَضُوا ميثاقَك الموَكَّدَا   وجعلوا لي في كَدَاءٍ رُصَّدَا

وزعموا أن لَست أدْعُو   أحدَا وهُمْ أذَلُّ وأقَلُّ عَدَدَا

هُم بَيَّتونا بالوَتِيرِ هُجَّدَا    وقتلونا رُكَّعاً وسُجَّدَا

يقول : قُتِلنا وقد أسلمنا.

قال ابن هشام : ويُروى أيضا :

فانصرْ هداك اللّه نصراً أيدا

قال ابن هشام : ويُروى أيضا :

نحن ولدناك فكنْتَ وَلَدا

لتمال ابن إسحاق : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نُصرْتَ يا عمرُو بن سالم ،ثم عرض لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عَنان من السماء،

فقال : إن هذه السحابة لتستهلّ بنصر بني كعب.

ابن ورقاء يذهب إليه صلى اللّه عليه وسلم شاكيا : ثم خرج بُدَيْل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للناس : كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة. ومضى بُدَيْل بن ورقاء وأصحابه حتى لَقُوا أبا سفيان بن حرب بعُسفان ، قد بعثته قريش إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ليشد العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذين صنعوا.

فلما لقى أبو سفيان بُدَيْل بن ورقاء،

قال : من أين أقبلت يا بُدَيْل ؟ وظن أنه قد أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

قال : تسيرت في خزاعة في هذا الساحل ، وفى بطن هذا الوادي ؛

قال : أو ما جئتَ محمداً ؟

قال : لا ؛ فلما راح بُدَيْل إلى مكة ؛ قال أبو سفيان : لئن جاء بديل المدينة لقد عَلف بها النَّوَى، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ففتَّه ، فرأى فيه النوى،

فقال : أحلف باللّه لقد جاء بديل محمداً.

أبو سفيان يحاول الصلح

ثم خرج أبو سفيان حتى قَدِم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان ؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طَوَتْه عنه ،

فقال : يا بُنيَّةُ، ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبتِ به عنى ؟

قالت : بل هو فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

قال : واللّه لقد أصابك يا بُنية بعدي شرٌّ.

ثم خرج حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلمه ، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فقال : ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمرَ بن الخطاب فكلَّمه ،

فقال : أنا أشفع لكم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟! فواللّه لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به . ثم خرج فدخل على عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه ، وعنده فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورضي عنها، وعندها حَسَنُ بن علىٍّ ، غلام يدبُّ بين يديها،

فقال : يا علي ، إنك أمَسُّ القوم بى رحما، وإني قد جئتُ في حاجة، فلا أرجعن كما جئتُ خائبا، فاشفعْ لي إلى رسول اللّه ،

فقال : ويحك يا أبا سفيان ! واللّه لقد عَزَمَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلَّمه فيه. فالتفت إلى فاطمة

فقال : يابْنَةَ محمد، هل لك أن تأمري بُنَيَّك هذا فيجير بين الناس ، فيكون سيدَ العرب إلى آخر الدهر ؟

قالت : واللّه ما بلغ بني ذلك أن يجيرَ بين الناس وما يُجير أحدٌ على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  

قال : يا أبا الحسن ، إنى أرى الأمور قد اشتدت علىَّ، فانصحنى،

قال : واللّه ما أعلم لك شيئا، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجِرْ بين الناس ، ثم الحقْ بأرضِك ،

قال : أو ترى ذلك مُغنياً عني شيئاً ؟

قال : لا واللّه ، ما أظنه ، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد،

فقال : أيها الناس ، إنى أجرتُ بينَ الناس. ثم ركب بعيرَه فانطلق ، فلما قدم على قريش، قالوا : ما وراءك ؟

قال : جئت محمدا فكلمته ، فواللّه ما ردَّ علىَّ شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد فيه خيرا، ثم جئتُ ابن الخطاب ، فوجدته أدْنَى العدوِّ.

قال ابن هشام : أعدى العدو.

قال ابن إسحاق : ثم جئتُ عليا فوجدته ألين القوم ، وقد أشار عليَّ بشيء صنعتُه ، فواللّه ما أدري هل يُغْنى ذلك شيئاً أم لا ؟ قالوا : وبم أمرك ؟ قال أمرني أن أجير بين الناس ، ففعلت ، قالوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال لا، قالوا. ويلك ! واللّه إن زاد الرجل على أن لعب بك فما يُغْنى عنك ما قلت :

قال : لا واللّه ، ما وجدت غير ذلك.

الاستعداد لفتح مكة

وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهلَه أن يُجَهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضى اللّه عنها، وهي تحرك بعضَ جهاز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛

فقال : أي بُنَية : أأمركم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تجهزوه ؟

قالت : نعم ، فتجهزْ ؟

قال : فأين ترينه يريد ؟

قالت : لا واللّه ما أدري. ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعلمَ الناسَ أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجِدِّ والتهيُّؤ،

وقال : اللّهم خذِ العيونَ والأخبارَ عن قريش حتى نبغَتها في بلادِها. فتجهز الناس.

حسان يحث الناس على فتح مكة

فقال حسان بن ثابت يحرض الناس ، ويذكر مصاب رجال خزاعة :

عَنَاني ولم أشهدْ ببطحاءِ    مكةٍ رجال بني كَعْب تُحَزُّ رقابُها

بأيدي رجاليِ لم يَسُلُّوا سيوفَهم    وقتلَى كثيرٌ لم تُجَنَّ ثيابُها

ألا ليتَ شِعري هل تنالنَّ نُصرتي   سُهَيلَ بنَ عمرو وخْزُها وعقابُها

وصفوانُ عَوْدٌ حَنَّ من شُفْرِ استهِ   فهذا أوانُ الحربِ شُدَّ عصابُها فلا

تأمننا يابنَ أمِّ مجالدٍ     إذا احتُلبتْ صِرْفاً وأعْصَلَ نابُها

ولا تجزَعوا منا فإن سيوفَنا    لها وقْعةٌ بالموتِ يُفتَح بابُها

قال ابن هشام : قول حسان : " بأيدي رجال لم يَسُلُّوا سيوفَهم " يعني قريشا، " وابن أم مجالد " يعنى عِكرمة بن أبي جهل.

كتاب حاطب يحذر أهل مكة   

قال ابن إسحاق. وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عُروة بن الزبير وغيره من علمائنا، قالوا : لمما أجمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعةكتابا إلى قرش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأمرِ في السيرِ إليهم ، ثم أعطاه امرأةً، زعم محمدُ بن جعفر أنها من مُزَيْنة، وزعم لي غيره أنها سَارَة، مولاة لبعض بني عبد المطلب ، وجعل لها جُعلاً على أن تبلِّغه قريشا، فجعلته في رأسها، ثم فَتلت عليه قرونَها، ثم خرجت به.

الخبر من السماء بما فعل حاطب

 وأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبرُ من السماء بما صنع حاطب ، فبعث عليّ بن أبي طالب ، والزبير بن العوام رضى اللّه عنهما،

فقال : أدركا امرأةً قد كتب معها حاطبٌ بن أبي بَلْتَعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم ، فخرجا حتى أدركاها بالخليقة، خليقة بني أبي أحمد، فاستنزلاها، فالتمساه في رحلها، فلم يجدا شيئاً، فقال لها عليّ بن أبي طالب : إني أحلف باللّه ما كُذِبَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا كُذِبْنا، ولتُخْرِجِنَّ لنا هذا الكتاب أو لنكشِفَنَّكِ ، فلما رأت الجِدَّ منه ،

قالت : أعرض ، فأعرض ، فحلت قرونَ رأسِها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه ، فأتَى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حاطبا،

فقال : يا حاطب ، ما حملك على هذا ؟

فقال : يا رسول اللّه ، أما واللّه إني لمؤمن باللّه ورسوله ، ما غيرت ولا بدَّلت ولكني كنت امْرَءاً ليس لي في القوم من أصلٍ ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم.

فضل أهل بدر

فقال عمر بن الخطاب ، يا رسول اللّه ، دعنى فلأضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق ؟ فقال رسول صلى اللّه عليه وسلم : وما يدريك يا عمر، لعل اللّه قد اطَّلع إلى أصحاب بدر،

فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم.

فأنزل اللّه تعالى في حاطب : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } [الممتحنة: ١] . إلى قوله : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللّه وَحْدَهُ } [الممتحنة:٤] إلى آخر القصة.

 خروج الرسول إلى مكة  

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد ابن مسلم بن شهاب الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عُتبة بن مسعود، عن عبد اللّه بن عباس ، قال. ثم مضى رسول صلى اللّه عليه وسلم ، واستخلف على المدينة أبا رُهْم ، كُلثوم بن حُصَيْن بن عُتبة بن خلف الغِفاري وخرج لعشر مضيْنَ من رمضان ، فصام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وصام الناسُ معه ، حتى إذا كان بالكُدَيْد، بين عُسْفان وأمَج أفطر.

تلمُّس قريش أخباره عليه السلام  

قال ابن إسحاق : ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين ، فسَبَّعت سُلَيم وبعضهم يقول ألَّفت سُلَيم ، وألَّفت مُزَيْنة، وفى كل القبائل عَدَدٌ وإسلام ، وأوعب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد، فلما نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه سلم مَرَّ الظهران ، وقد عُمِّيَت الأخبارُ عن قريش ، فلم يأتِهم خبرٌ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يدرون ما هو فاعل ، وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بنُ حرب وحَكيم بن حِزام ، وبُدَيْل بن ورقاء، يتحسَّسُون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به.

إسلام العباس رضي اللّه عنه : وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببعض الطريق.

قال ابن هشام : لقيه بالجحفة مهاجرا بعياله ، وقد كان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته ، ورسول صلى اللّه عليه وسلم عنه راضٍ ، فيما ذكر ابن شهاب الزهري.

إسلام أبي سفيان بن الحارث وعبد اللّه بن أبي أمية

قال ابن إسحاق : وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد اللّه ابن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيضاً بِنِيقِ العقاب ، فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه ، فكلمته أم سَلَمة فيهما،

فقالت : يا رسول اللّه ، ابن عمك وابن عمتك وصِهرك ،

قال : لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عِرضي ،

وأما ابن عمتي وصِهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال .

قال : فلما خرج الخبر إليهما بذلك ، ومع أبي سفيان بُنَيٌ له .

فقال : واللّه ليأذننَّ لي أو لآخذنَّ بيدي بُنَي هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموتَ عطشاً وجوعاً، فلما بلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رق لهما، ثم أذِن لهما ؛ فدخلا عليه ، فأسلما.

ما أنشده أبو سفيان في إسلامه

وأنشد أبو سفيان بن الحارث قوله في إسلامه ، واعتذر إليه مما كان مضى منه ،

فقال :

لعَمْرُك إني يوم أحملُ رايةً  لتَغْلِبَ خيلُ اللاتِ خيلَ محمدِ

لكالمُدلج الحيران أظلم ليلُه  فهذا أواني حين أهدى وأهتدي

هدانيَ هادٍ غيرُ نفسي ونالني  مع اللّه من طردتُ كُلَّ مُطَرَّدِ

أصدُّ وأنأى جاهداً عن محمَدٍ   وأدعى وإن لم أنتسب من محمدِ

هُمُ ما هُمُ مَن لم يقلْ بهواهِمُ   وإن كان ذا رأيٍ يُلَمْ ويُفَنَّدِ 

أريد لأرضيَهم ولستُ بلائطٍ   مع القوم ما لم أهْدَ في كل مَقْعَدِ

فقلْ لثقيفٍ لا أريد ققالها  وقل لثقيف تلك : غيرِيَ أوعِدي

فما كنتُ في الجيشِ الذي نال عامراً  وما كان عن جرَّا لسانى ولا يدي

قبائل جاءتْ من بلادٍ بعيدةٍ  نزائع جاءت من سَهامً وسُرْدَدِ

قال ابن هشام : ويروى ودَلنى على الحقِّ من طردت كلّ مطرد

قال ابن إسحاق : فزعموا أنه حين أنشد رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم قوله:

ونالني مع اللّه من طردت كل مطرد ضرب رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم في صدره ،

وقال : أنت طردتنى كل مطرد. إسلام أبي سفيان على يَدَيِ العباس بن عبد المطلب : فلما نزل رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم مَرَّ الظَّهْران ، قال العباس بن عبد المطلب :

فقلت : واصباح قريش ، واللّه لئن دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة عَنْوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه ، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.

قال : فجلست على بغلة رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها.

قال : حتى جئت الأراك ،

فقلت : لعلى أجدُ بعضَ الحطابة أو صاحبَ لبن أو ذا حاجة يأتي مكة، فيخبرهم بمكان رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عَنْوة.

قال : فواللّه إني لأسير عليها، وألتمس ما خرجت له ، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبُدَيل بن ورقاء، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا،

قال : يقول بُدَيل : هذه واللّه خُزَاعة حَمشتها (٢) الحرب.

قال : يقول أبو سفيان : خزاعة أذلُّ وأقلُّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

قال : فعرفت صوتَه ؛

فقلت : يا أبا حَنْظلة، فعرف صوتى،

فقال : أبو الفضل ؟

قال : قلت : نعم ؛

قال : ما لك ؟ فداك أبي وأمى ؛

قال : قلت : ويحك يا أبا سفيان ، هذا رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم في الناس ، واصباحَ قريش واللّه.

قال : فما الحيلة ؟ فداك أبي وأمى ؛

قال : قلت : واللّه لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم فاستأمنه لك ؛

قال : فركب خلفى ورجع صاحباه.

قال : فجئت به كلما مررت بنارٍ من نيران المسلمين قالوا : من هذا ؟ فإذا رأوا بغلة رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم وأنا عليها، قالوا : عم رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم على بغلته ، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ،

فقال : من هذا ؟ وقام إلىَّ ! فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة،

قال : أبو سفيان عدوُّ اللّه ! الحمد للّه الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، وركضت البغلة، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطىء.

قال : فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، ودخل عليه عمر،

فقال : يا رسول اللّه ، هذا أبو سفيان أمكن اللّه منه بغير عقد ولا عهد، فدعْنى فلأضربْ عنقه ،

قال : قلت : يا رسول اللّه، إنى قد أجرته ، ثم جلست إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخذت برأسه ،

فقلت : واللّه لا يناجيه الليلة دونى رجل ؛ فلما أكثر عمر من شأنه ،

قال : قلت : مهلا يا عمر، فواللّه أن لو كان من بني عَدِيِّ بن كَعْب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف ،

فقال : مهلا يا عباس ، فواللّه لا سلامك يوم أسلمت كان أحب إلىَّ من إسلام الخطاب لو أسلم ، وما بى إلا أنى قد عرفت أن إسلامك كان أحبَّ إلى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم : اذهب به يا عباس إلى رَحْلك ، فإذا أصبحت فأتني به ،

قال : فذهبت به إلى رحلى فبات عندي فلما أصبح غدوتُ به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلما رآه رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم،

قال : ويْحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا اللّه ؟

قال : بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ، واللّه قد ظننت أن لو كان مع اللّه إله غيره لقد أغنى عنى شيئا بعدُ،

قال : ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم ، أنى رسول اللّه ؟

قال : بأبى أنت وأمى، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! أما هذه واللّه فإن في النفس منها حتى الان شيئاً.

فقال له العباس : ويحك ! أسلم واشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه قبل أن تُضرب عنقُك.

قال : فشهد شهادة الحق ، فأسلم.

قال العباس : قلتُ : يا رسول اللّه ، إن أبا سفيان رجلٌ يحب الفخر،. فاجعل له شيئا.

قال : نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابَه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فلما ذهب لينصرف قال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم: يا عباس ، أحبسه بمضِيق الوادي عند خَطْم الجبل، حتى تمر به جنود اللّه فيراها

قال : فخرجت حتى حبسته بمضِيق الوادي ، أمرنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن أحبسه .

عرض الجيش على أبي سفيان

قال : ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة

قال : يا عباس، من هذه ؟ فأقول : سُليم ، فيقول : ما لي ولسُلَيم ، ثم تمر القبيلة فيقول يا عباس ، من هؤلاء؟ فأقول : مُزَيْنة، فيقول : ما لي ولمزينة، حتى نفدت القبائلُ ، ما تمر به قبيلة إلا يسألنى عنها ؛ فإذا أخبرته بهم ،

قال : ما لي ولبنى فلان ؛ حتى مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في كتيبته الخضراء.

كتيبته صلى اللّه عليه وسلم في فتح مكة

قال ابن هشام : وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها.

قال الحارثُ بن حِلِّزة اليَشْكُري :

ثم حُجْراً أعنى ابنَ أمِّ قَطَام    وله فارِسيَّةٌ خضراءُ  يعنى الكتيبة، وهذا البيت في قصيدة له ، وقال حسان بن ثابت الأنصار ي :

لما رأى بدراً تسيل جلاهه  بكتيبة خضراء من بلخزرج

وهذا البيت في أبيات له قد كتبناها في أشعار يوم بدر.

قال ابن إسحاق : فيها المهاجرون والأنصار، رضي اللّه عنهم ، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد،

فقال : سبحان اللّه ، يا عباسُ ، من هؤلاء ؟

قال : قلت : هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المهاجرين والأنصار،

قال : ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة، واللّه يا أبا الفضل ، لقد أصبح مُلك ابن أخيك الغداةَ عظيما،

قال : قلت : يا أبا سفيان ، إنها النبوة (ا)

قال : فنعم إذن.

أبو سفيان يحذر أهل مكة

قال :قلت : النجاء إلى قومك ، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به ، فمن دخل دار أي سفيان فهو آمن ، فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه ، فقالت : اقتلوا الحَميتَ اللّهسِم الأحْمَس

قُبِّحَ من طليعة قوم 

قال : ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قِبَل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، قالوا : قاتلك اللّه ! وما تُغنى عنا دارُك ،

قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجدَ فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.

وصوله عليه السلام إلى ذي طوى  

قال ابن إسحاق : فحدثني عبد اللّه بن أبي بكر : أن رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طُوَى وقف على راحلته مُعْتَجِراً بشُقَّةِ بُرْد حَبْرة حمراء، وإن رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً للّه حين رأى ما اكرمه اللّه به من الفتح ، حتى إن عُثْنُونَه ليكاد يمس واسطة الرَّحْل.

إسلام أبي قحافة  

قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير، عن أبيه ، عن جَدَّته أسماء بنت أبي بكر،

قالت : لما وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذي طُوَى قال أبو قحافة لابنة  من أصغر ولده : أي بُنَية، أظْهَرِي بي على أبي قَبيس  ، قالت وقد كُفَّ بصره ،

قالت : فأشرفت به عليه ، فقال أي بُنَية، ماذا ترين ؟

قالت : أرى سواداً مجتمعاً،

قال : تلك الخيل ،

قالت : وأرى رجلا يسعى بين يديْ ذلك مُقبلا ومدبراً،

قال : أي بُنية، ذلك الوازع يعني الذي يأمر الخيل ، ويتقدم إليها،

ثم قالت : قد واللّه انتشر السواد،

قالت : فقال : قد واللّه إذن دُفعت الخيل ، فأسرعى بى إلى بيتى، فانحطت به ، وتلقاه الخيلُ قبل أن يصل إلى بيته ،

قالت : وفى عُنق الجارية طَوْقٌ من وَرِق فتلقاها رجل فيقتطعه من عنقها.

قالت : فلما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة، ودخل المسجد أتى أبو بكر بأبيه يقودُه ، فلما رآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال : هلا تركتَ الشيخَ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ؟ قال أبو بكر، يا رسول اللّه، هو أحق أن يمشى إليك من أن تمشى إليه أنت.

قال : قالت : فأجلسه بين يديه ، ثم مسح صدرَه ،

ثم قال له : أسْلمْ ، فأسْلَمَ ،

قالت : فدخل به أبو بكر وكأن رأسَه ثَغامة ، فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم: غيروا هذا من شعره .

ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته ،

وقال : أنشد اللّه والاسلام طوقَ أختى، فلم يجبه أحد،

قالت : فقال : أي أخية، احتسبي طوقك فواللّه إن الأمانةَ في الناسَ اليوم لقليلٌ.

دخول مكة

قال ابن إسحاق : وحدثني عبدُ اللّه بن أبي نجيح أن رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كُدًى، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعدَ بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كَدَاء.

المهاجرون يخشون من شدة سعد بن عبادة على قريش  

قال ابن إسحاق : فزعم بعض أهل العلم أن سعداً حين وُجّه داخلاً،

قال : اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحل الحرمةُ، فسمعها رجل من المهاجرين  

قال ابن هشام : هو عمر بن الخطاب -

فقال : يا رسول اللّه ، اسمع ما قال سعد بن عبادة، ما نأمن أن يكون له في قريش صَوْلة.

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : أدركْه ، فخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها  .

طريق الفتح  

قال ابن إسحاق : وقد حدثني عبدُ اللّه بن أبي نَجيح في حديثه : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر خالد بن الوليد، فدخل من اللِّيط ، أسفل مكة، في بعض الناس ، وكان خالد على المُجَنَّبة اليمنى، وفيها أسلم وسُلَيم وغِفَار ومُزَيْنة وجُهَيْنة وقبائل من قبائل العرب. وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين يَنصبُّ لمكة بين يديْ رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، ودخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أذاخِر، حتى نزل بأعلى مكة، ضُربت له هنالك قبتُه.

من تعرض للمسلمين من أهل مكة

قال ابن إسحاق : ، وحدثني عبد اللّه بن أبي نَجيح وعبد اللّه بن أبي بكر : أن صفوانَ بن أمية.وعِكرمة بن أي جهل وسهُيل بن عَمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخَنْدمة.

ليقاتلوا، وقد كان حِماس بن قَيْس بن خالد أخو بني بكر، يُعِدُّ سلاحا قبل دخول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ويصلح منه ، فقالت له امرأته : لماذا تُعد ما أرى؟

قال : لمحمد وأصحابه ،

قالت : واللّه ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شىء،

قال : واللّه إنى لأرجو أن أخدمك بعضَهم ،

ثم قال : إن يُقبِلوا اليومَ فما لي عِلَّهْ    هذا سلاحٌ كامل وألَهْ

وذو غِراريْن سريعُ السَّلَّهْ

من قتل في فتح مكة

ثم شهد الخَندمة مع صفوان وسُهَيل وعِكْرمة، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئا من ققال ، فقُتل كرز بن جابر، أحد بني محارب بن فهر، وخنيس ابن خالد بن ربيعة بن أصرم ، حليف بني مُنْقَذ، وكانا في خيل خالد ابن الوليد فشذا عنه فسلكا طريقا غير طريقه فقُتلا جميعا، قُتل خنيس بن خالد قبل كُرز بن جابر، فجعله كرز بن جابر بين رجليه ، ثم قاتل عنه حتى قُتل ، وهو يرتجز ويقول :

قد علمت صفراءمن بني فِهْر  نقيَّة الوجه نقية الصدر

لأضربن اليومَ عن أبي صخرْ

قال ابن هشام : وكان خنيس يكنى أبا صخر،

قال ابن هشام : خنيس بن خالد، من خزاعة.

ما قاله حِماس من الشعر يوم الفتح

قال ابن إسحاق : حدثني عبداللّه بن أبي نَجيح وعبد اللّه بن أبي بكر، قالا: وأصيب من جُهينة سلمة ابن الميْلاء، من خيل خالد بن الوليد، وأصيب من المشركين ناس قريب من اثني عشر رجلا، أو ثلاثة عشر رجلا، ثم انهزموا، فخرج  حِماسٌ منهزما حتى دخل بيته ،

ثم قال لامرأته : أغلقى عليَّ بابي ، قالت فأين ما كنت تقول :

فقال :

إنكِ لو شَهدْتِ يومَ الخَنْدَمَهْ  إذ فر صفوانُ وفرَّ عِكْرمهْ

وابو يزيدَ قائمٌ كالمُوتَمهْ  واستقبلهُم بالسيوفِ المسْلمَهْ

يقطعْنَ كلَّ ساعدٍ وجُمْجمهْ  ضربا ًفلايُسْمع إلاغَمغَمهْ

لهم نَهِيتٌ خَلفَنا وهَمْهمه   لم تنطِقى في اللَّومِ أدنَى كَلِمهْ

قال ابن هشام : أنشدنى بعض أهل العلم بالشعر قوله " كالموتمه " وتروى للرعاش الهذلي.

شعار المسلمين يوم فتح مكة

 وكان شعار أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة وحُنين والطائف ، شعار المهاجرين : يا بني عبد الرحمن ، وشعار الخزرج : يا بني عبد اللّه ، وشعار الأوس : يا بني عُبيد اللّه.

من أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بقتلهم

قال ابن إسحاق : وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد عَهِد إلى أمرائه من المسلمين ، حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، إلا أنه قد عَهِد في - نفر سمَّاهم أمر بقتلهم وإن وُجدوا تحت أستار الكعبة، منهم عبد اللّه بن سعد (ا) ، أخو بني عامر بن لؤي.

 وإنما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتله لأنه قد كان أسلم ، وكان يكتب - لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الوحى، فارتدَّ مُشركا راجعاً إلى قريش ، ففر إلى عثمان ابن عفان ، وكان أخاه للرضاعة، فغيَّبه حتى أتى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة، فاستأمن له. فزعموا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صمت طويلا،

ثم قال : نعم ،فلما انصرف عنه عثمان ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمن حوله من أصحابه ؛ لقد صمت ليقوم إليه بعضُكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار : فهلا أومأتَ إلىَّ يا رسول اللّه ؟

قال : إن النبي لا يقتل بالإشارة.

قال ابن هشام : ثم أسلم بعدُ، فولاه عمر بن الخطاب ، بعضَ أعماله ، ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر.

قال ابن إسحاق : وعبد اللّه بن خطل ، رجل من بني تَيْم بن غالب : إنما أمر بقتله أنه كان مسلما فبعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مُصدِّقا، وبعث معه لا رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه ، وكان مسلماً، فنزل منزلا، ، وأمر المولى أن يذبح له تَيْساً، فيصنع له طعاما، فنام ، فاستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركا. (ا) ؟ وكانت له قَيْنتان : فَرْتَنى وصاحبتُها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتلهما معه.

والحُوَيْرث بن نُقَيْذ بن وهب بن عَبد بن قُصىَ ، وكان ممن يؤذيه بمكة.

قال ابن هشام : وكان العباس بن عبد المطلب حمل فاطمة وأم. كلثوم ، ابنتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة، فنخس بهما الحُوَيْرث بن نُقَيْذ، فرمَى بهما إلى الأرض.

قال ابن إسحاق : ومِقْيَس بن حُبَابة : وإنما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتله ، لقتْل الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مشركا.

وسارة، مولاة لبعض بني عبد المطلب. وعكرمة بن أبي جهل.

وكانت سارة ممن يؤذيه بمكة، فأما عِكْرمة فهرب إلى اليمن وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، فاستأمنت له من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأمنه ، فخرجت في طلبه إلى اليمن ، حتى أتت به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلم.

وأما عبد اللّه بن خَطَل ، فقتله سعيد بن حُرَيث المخزومي وأبو برزة الأسلمي ، اشتركا في دمه.

وأما مِقْيس بن حُبابة فقتله نُمَيلة بن عبد اللّه ، رجل من قومه ، فقالت أخت مِقْيس في قتله :

لعَمري لقد أخزى نُمَيلةَ رهطُه  وفجَّع أضيافَ الشتاء بمقْيَس ، فللّه عينا من رأى مثلَ مِقْيَس  إذا النُّفَساء أصبحت لم تُخَرَّسِ

وأما قينتا ابن خَطَل فَقُتِلت إحداهما، وهربت الأخرى، حتى استؤمن لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعدُ، فأمَّنها.

وأما سارة فاستُؤمن لها فأمَّنها، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرساً في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها.

 وأما الحُوَيْرث بن نُقَيذ فقتله علي بن أبي طالب.

 قصة الرجلين اللذين أمنتهما أم هانيء وصلاة الفتح في بيتها   

قال ابن إسحاق : وحدثني سعيد بن أبي هِند، عن أبي مُرَّة، مولى عقيل ابن أي طالب ، أن أم هانئ  بنت أبي طالب

قالت : لما نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأعلى مكة، فر إلىَّ رجلان من أحمائى، من بني مخزوم ، وكانت عند هُبَيْرة بن أبي وهب المخزومي،

قالت : فدخل علىَّ على بن أبي طالب أخى،

فقال : واللّه لأقتلنَّهما، فأغلَقْتُ عليهما باب بيتى، ثم جئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جَفْنَة إن فيها لأثر العجين ، وفاطمة ابنته تستره بثوبه ، فلما اغتسل أخذ ثوبَه فتوشِّح به ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف إلي

فقال : مرحباَ وأهلا يا أم هانئ، مما جاء بك ؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علىٍّ ؛

فقال : قد. أجرنا من أجرتِ ،وأمنَّا من أمَّنت ،فلا يقتلهما .

قال ابن هشام : هما الحارث بن هشام ، وزُهير بن أبي أمية بن المغيرة.

الرسول يدخل البيت الحرام

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي ثَوْر، عن صفية بنت شَيْبة، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما نزل مكة،.واطمأن الناس ، خرج حتى جاء البيت ، فطاف به سبعاً على راحلته ، يستلم الركن بِمِحْجَن في يده ، فلما قضى طوافَه ، دعا عثمانَ بنَ طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له فدخلها فوجد فيها حَمامة من عِيدان ، فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكفَّ له الناس في المسجد. ما قاله عليه السلام على باب الكعبة :

قال ابن إسحاق.: فحدثني بعضُ أهل العلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قام على باب الكعبة،

فقال : " لا إله إلا اللّه وحده ، لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قدمَيّ هاتين إلا سَدَانة  البيت وسِقاية الحاج ؛ ألا وقتيلُ الخطأ شِبْهِ العَمْد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها.

يا معشر قريش إن اللّه قد أذهب عنكم نَخْوَةَ الجاهلية، وتعظُّمَها بالآباء. الناسُ من آدم ، وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية : (يا أيها الناسُ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا، إن أكرمَكم عندَ اللّه أتقاكم) الآية كلها.

ثم قال يا معشر قريش ، ما ترون أنى فاعل فيَكم ؟ قالوا : خيراً أخ كريم وابنُ أخ كريم ؛

قال : اذهبو فأنتم الطلقاء" . إقرار أمر السدانة لعثمان بن طلحة : ثم جلس رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم في المسجد ؛ فقام إليه على بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده ؛.

فقال : يا رسول اللّه ؛ اجمعْ لنا الحِجابةَ مع السِّقاية صلى اللّه عليك ؛ فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدُعِىَ له ،

فقال : هاك مفتاحَك يا عثمان ؛ اليومُ يومُ بِرٍّ ووفاء.

قال ابن هشام : وذكر سفيان بن عيينة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعلى : إنما أعطيكم ما ترُزَءون لا ما تَرْزَءون
 

طمسه صلي اللّه عليه وسلم ما كان في الكعبة من الصور

قال ابن هشام : وحدثني بعضُ أهل العلم ؛ أن رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح ؛ فرأى فيه صورَ الملائكة وغيرهم ؛ فرأى إبراهيم عليه السلام مصوَّراً في يده الأزلام  يسْتَقسِمُ بها،

فقال : قاتلهم اللّه ، جعلوا شيخَنا يستقسمِ بالأزلام ، ما شأن إبراهيم والأزلام ، { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِين } [آل عمران: ٦٧]. ثم أمر بتلك الصور كلها فطُمست.

مكان صلاته عليه السلام من البيت

قال ابن هشام : وحدثني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل الكعبة ومعه بلال ، ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتخلف بلال ، فدخل عبدُ اللّه بن عمر على بلال ، فسأله : أين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ ولم يسأله كم صلَّى ؛ فكان ابن عمر إذا دخل البيت مشى قِبَلَ وجهه ، وجعل الباب قِبَل ظهره ، حتى يكون بينه وبين الجدار قدر ثلاث أذرع ثم يصلى، يتوخَّى بذلك الموضع الذي قال له بلال

إسلام عتاب والحارث بن هشام وسببه

قال ابن هشام :

وحدثني : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛ دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال ، فأمره أن يؤذن ، وأبو سفيان بن حرب وعَتَّاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عَتَّاب بن أسِيد لقد أكرم اللّه أسيدا ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث بن هشام : أما واللّه لو أعلم أنه محق لاتبعته ، فقال أبو سفيان : لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخْبَرَتْ عنى هذه الحصَى، فخرج عليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ،

فقال : قد علمتُ الذي قلتم ، ثم ذكر ذلك لهم ؛ فقال الحارث – وعَتَّاب : نشهد أنك رسول اللّه ، واللّه ما اطَّلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك (١) . خراش يقتل ابن الأثوع :

قال ابن إسحاق : حدثني سعيد بن أبي سَنْدَر الأسلمى، عن رجل من قومه ،

قال : كان معنا رجل يقال له أحفر بأسا، وكان رجلا شجاعا، وكان إذا نام غط غطيطا مُنْكرا لا يخفى مكانه ، فكان إذا بات في حيه بات معتنزاً  ، فإذا بُيِّت الحمى  صرخوا يا أحمر، فيثور مثل الأسد، لا يقوم لسبيله شىء. فأقبل غَزِيٌّ من هُذَيل يريدون حاضرَه  ؛ حتى إذا دنوا من الحاضر قال ابن الأثوع الهذلي : لا تعجلوا علىَّ حتى أنظر، فإن كان في الحاضر أحمر فلا سبيل إليهم ، فإن له غطيطا لا يخفى،

قال : فاستمع ، فلما سمع غطيطه ، مشى إليه حتى وضع السيف في صدره ، ثم تحامل عليه حتى قتله ، ثم أغاروا على الحاضر، فصرخوا يا أحمر ولا أحمر لهم.

فلما كان عام الفتح ، وكان الغد من يوم الفتح ، أتى ابن الأثوع الهذلى حتى دخل مكة ينظر ويسأل عن أمر الناس ، وهو على شركه ، فرأته خزاعة، فعرفوه ، فأحاطوا به وهو إلى جنب جدار من جدار مكة، يقولون : أأنت قاتل أحمر؟

قال : نعم ، أنا قاتل أحمر فَمَهْ ؟

قال : إذ أقبل خراش بن أمية مشتملا على السيف ، فقال هكذا عن الرجل ، وواللّه ما نظن إلا أنه يريد أن يُفرِج الناس عنه. فلما انفرجنا عنه حمل عليه ، فطعنه بالسيف في بطنه ، فواللّه لكأني أنظر إليه وحِشْوته تسيل من بطنه ، وإن عينيه لَتُرَنِّقان  في رأسه ، وهو يقول : أقد فعلتموها يا معشر خزاعة؟ حتى انجعف  فوقع. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل إن نفع ، لقد قتلتم قتيلا لأدِيَنَّه.

قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الرحمن بن حَرْملة الأسْلَمي، عن سعيد بن المسيَّب ،

قال : لما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما صنع خراش بن أمية،

قال : إن خراشا لقتّال ؛ يعيبه بذلك.

أبو شريح يذكر عمرو بن الزبير بحرمة مكة

قال ابن إسحاق : وحدثني سعيد بن أبي سعيد المقْبُري ، عن أبي شُرَيح الخزاعي،

قال : لما قدم عَمرو بن الزبير  مكة لقتال أخيه عبد اللّه بن الزبير، جئته ، فقلت له : يا هذا، إنا كنا مع رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك ، فقام رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم فينا خطيبا،

فقال : يا أيها الناس إن اللّه حَرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهى حرام من حرام إلى يوم القيامة ؛ فلا يحل لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر ؛ أن يَسْفِك فيها دماً ولا يَعْضِدَ  فيها شجراً لم تَحْلِلْ لأحد قبلى، ولا تَحِل لأحد يكون بعدي ، ولم تَحْلِلْ لي إلا هذه الساعة، غضبا على أهلها ألا، ثم قد رجَعَت كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، فمن قال لكم : إن رسول اللّه قاتل فيها، فقولوا : إن اللّه قد أحلها لرسوله ، ولم يحللّها لكم ، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل ، فلقد كثر القتل إن نفع. لقد قتلتم قتيلا لأدِيَنَّه ، فمن قُتل بعد مقامى هذا فأهله بخير النظرين. إن شاءوا فدم قاتله ، وإن شاءوا فعقله . ثم ودى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة.

فقال عمرو لأبي شريح : انصرف أيها الشيخ ، فنحن أعلم بحرمتها منك ، إنها لا تمنع سافك دَم ، ولا خالع طاعة، ولا مانع جزية، فقال أبو شريح : إنى كنتُ شاهدا وكنتَ غائبا، ولقد أمرنا رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك ، فأنت وشأنك .

أول قتيل وداه عليه السلام يوم الفتح

قال ابن هشام : وبلغنى أن أول قتيل وداه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتح جُنَيْدب بن الأكوع ، قتلته بنو كعب ، فوداه بمائة ناقة.

تخوف الأنصار من بقاء الرسول بمكة

قال ابن هشام : وبلغنى عن يحيى بن سعيد : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حين فتح مكة ودخلها، قام على الصَّفَا يدعو اللّه ، وقد أحدقت به الأنصارُ، فقالوا فيما بينهم : أترون : رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، إذ فتح اللّه عليه أرضَه وبلده يقيم بها ؟ فلما فرغ من دعائه

قال : ماذا قلتم ؟ قالوا : لا شىء يا رسول اللّه ؛ فلم يزل بهم حتى أخبروه ،فقال النبي صلي اللّه عليه وسلم: معاذ اللّه ! المحيا محياكم ، والممات مماتكم.

 كسر الأصنام  

قال ابن هشام : وحدثني من أثق به من أهل الرواية، في إسناد له عن ابن شهاب الزُّهري ، عن عُبَيْد اللّه بن عبد اللّه ،. عن ابن عباس ،

قال : دخل رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم مكة يومَ الفتح على راحلته ، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص ؛ فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يشير بقضيب في يدِه إلى الأصنامِ ويقول : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإسراء :٨١] فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه ، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه ، حتى ما بقى منها صنم إلا وقع ،فقال تميم بن أسد الخزاعي في ذلك :

وفي الأصنامِ مُعْتَبَرٌ وعلم      لمن يرجو الثوابَ أو العقابا

إسلام فضالة

قال ابن هشام : وحدثني : أن فُضَالة بن عُمَير بن المُلَوح الليثي أراد قتل النبي صلي اللّه عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح ، فلما دنا منه ، قال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم: أفضالةُ ؟

قال : نعم فضالةُ يا رسول اللّه ،

قال : ماذا كنت تحدِّث به نفسَك ؟

قال : لا شىء، كنت أذكر اللّه ،

قال : فضحك النبي صلي اللّه عليه وسلم،

ثم قال : استغفرْ اللّه ثم وضع يدَه على صدره ، فسكن قلبه ، فكان فضالة يقول : واللّه ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق اللّه شيءٌ أحبُّ إليَّ منه. قال فضالة : فرجعت إلى أهلي ، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت : هلم إلى الحديث ،

فقلت : لا. وانبعث فضالة يقول :

قالت هلم إلى الحديثِ فقلتُ لا    يأبَى عليكِ اللّه والإسلامُ

لَوْما رأيتِ محمداَّ وَقبيلَه    بالفتحِ يومَ تَكَسَرّ اَلأصنامُ

لرأيت دينَ اللّه أضحَى بَيِّناً   والشرك يغشَى وجهَه الإظلامُ

الأمان لصفوان بن أمية

قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر، عن عُروة بن الزبير

قال : خرج صفوان بن أمية يريد جدَّة ليركب منها إلى اليمن ، فقال عُمَيْر بن وهب : يا نبى اللّه إن صفوان بن أمية سيد قومه ، وقد خرج هارباً منك ، ليقذف نفسه في البحر، فأمِّنه صلَّى اللّه عليك ،

قال : هو آمن ،

قال : يا رسول اللّه فأعطني آيةً يعرف بها أمانَك ، فأعطاه رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم عمامته التى دخل فيها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه ، وهو يريد أن يركب في البحر،

فقال : يا صفوان فداك أبي وأمى، اللّه ، اللّه في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد جئتك به ،

قال : ويحك ، أغرُبْ عنى فلا تكلمْنى،

قال : أي صفوان ، فداك أبي وأمي ، أفضلُ الناسِ ، وأبرُّ الناس ، وأحلمُ الناس ، وخيرُ الناس ، ابن عمك ، عزه عزك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك ،

قال : إنى أخافه على نفسي ،

قال : هو أحلم من ذاك وأكرم. فرجع معه ، حتى وقف به على رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك قد أمنتني

قال : صدق ؛

قال : فاجعلني فيه بالخيار شهرين ،

قال : أنت بالخيار فيه أربعة أشهر.

قال ابن هشام : وحدثني رجل من قريش من أهل العلم أن صفوان

قال لعُمَير : ويْحك ! أغرُب عنى، فلا تكلمني ، فإنك كذاب ، لما كان صنع به ؛ وقد ذكرناه في آخر حديث يوم بدر.

إسلام رءوس أهل مكة  

قال ابن إسحاق : وحدثني الزهري : أن أم حَكيم بنت الحارث بن هشام وفاخِتة بنت الوليد - وكانت فأختة عند صفوان بن أمية، وأم حكيم عند عكرمة بن أبي جهل - أسلمتا، فأما أم حكيم فاستأمنت رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم لِعِكْرِمة، فأمَّنه فلحقت به باليمن ، فجاءت به ، فلما أسلم عِكْرِمة وصفوان أقرهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عندهما على النكاح الأول.

قال ابن إسحاق : وحدثني سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن

ثابت ؛ قال ؛ رَمَى حسانُ ابنَ الزِّبَعْرَى وهو بنجران ببيت واحد ما زاده عليه :

لا تَعْدَمَنَّ رجُلاً أحلَّك بُغْضُه   نجرانَ في عَيْشٍ أحَذَّ لئيمِ

شعر ابن الزبعرى بعد إسلامه: فلما بلغ ذلك ابن الزِّبعرَى خرج إلى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم فأسلم ، فقال حين أسلم :.

يا رسولَ المليكِ إذْ لساني  راتقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بورُ

إذ أباري الشيطانَ في سَنَنِ الغَىّ ومَنْ مال ميلَه مثْبورُ 

آمَنَ اللَّحْمَ والعظامَ لربِّى   ثم قلبى الشهيدُ أنت النذير

إنني عنك زاجرٌ ثَمَّ حَيَّا    مِنْ لُؤَي وكلُّهم مَغْرورُ

قال ابن إسحاق : وقال عبد اللّه بن الزِّبَعْرَى أيضا حين أسلم :

منع الرقادَ بلابلٌ وهمومُ    والليلُ معتَلِجُ الرواقِ بَهيمُ

مما أتاني أن أحمَد لامنى   فيه فَبِتُّ كأننى محمومُ

يا خيرَ مَن حملَت على أوصالِهَا   عَيْرانةٌ سُرُحُ اليدين غَشومُ 

إنى لمُعتذرٌ إليكَ من الذي أسْديتُ   إذ أنا في الضَلال أهيمُ

أيامَ تأمرُنى - بأغْوَى خُطة سَهْمٌ   وتأمرني بها مخزومُ 

وأمُد أسبابَ الرَّدَى ويقودنى   أمرُ الغُواةِ وأمرُهم مشئومُ

فاليومَ آمنَ بالنبيِّ محمدٍ     قلبي ومُخطىءُ هذه محرومُ

مضت العداوةُ وانقضتْ أسبابُها   ودعت أواصرُ بينَنا وحُلومُ

فاغفرْ - فِدًى لك والدايَ كِلاهما  زَلَلى، فإنك راحمٌ مرحومُ

وعليك من عِلمِ المليكِ علامةٌ  نورٌ أغَرُّ وخاتَمٌ مختومُ

أعطاك بعدَ محبتة بُرهانَه  شرفاً وبرهانُ الإله عظيمُ

ولقد شَهِدتُ بأن دينَك صادقٌ  حق وأنك في العبادِ جسيمُ

واللّه يشهدُ أن أحمدَ مصطفىً مستقبلٌ في الصالحين كريمُ

قَوْم علا بنيانُه من هاشم   فرعٌ تمكَّن في الذُّرا وأرُومُ  

قال ابن هشام : وبعضُ أهل العلم بالشعر ينكرها له.

هبيرة يبقى على كفره وما قاله من الشعر في إسلام زوجته :

قال ابن إسحاق :

وأما هُبَيْرة بن أبي وَهْب المخزومي فأقام بها حتى مات كافراً، كانت عندَه أمُّ هانئ بنت أبي طالب ، واسمها هندٌ ، وقد قال حين بلغه إسلام أم هانئ :

أشاقتك هند أم أتاك سؤالُها  كذاك النَّوَى أسبابُها وانفتالها

وقد أرَّقَتْ في رأسِ حِصنٍ مُمنَّع    بنجرانَ يسرِي بعدَ ليلٍ خيالُها

وعاذلةٍ هبت بليل تلومنى    وتعذِلُنى بالليلِ ضلَّ ضلالُها

وتزعُم أني إن أطعتُ عشيرتى   سأرْدَى وهل يُرْدِين إلا زِيالُها

فإني لمن قوم إذا جَدَّ جِدُّهم على  أيِّ حالٍ أصبح اليومَ حالُها

وإنى لحامٍ من وراءِ عشيرتي   إذا كان من تحتِ العوالي مجالُها

وصارت بأيديها السيوفُ كأنها  مخاريقُ وِلْدانٍ ومنها ظلالُها  

وإنى لأقْلَى الحاسدين وفعلَهم   على اللّه رزقى نفسُها وعيالُها

وإن كلامَ المرءِ في غيرِ كُنهِه   لكالنَّبْل تهوِي ليس فيها نصالها  

فإن كنتِ قد تابعتِ دينَ محمدٍ   وعطَّفَتِ الأرحامَ منك حبالُها

فكوني على أعلَى سَحيقٍ بهَضْبَة   مُلَمْلَمَةٍ غَبراءَ يَبْس بِلالها

قال ابن إسحاق : ويروى : " وقطعت الأرحامَ منك حبالُها ".

عدة من فتح مكة  

قال ابن إسحاق : وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف. من بني سُلَيم سبعمائة. ويقول بعضهم : ألف ، ومن بني غِفار أربعمائة، ومن أسْلَم أربعمائة ؛ ومن مُزَيْنة ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قُريش والأنصار وحلفائهم ، وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد.

شعر حسان في فتح مكة

وكان مما قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسان بن ثابت الأنصاري :

عَفَتْ ذاتُ الأصابعِ فالجِواءُ إلى عَذْراءَ منزلُها خلاءُ

ديارٌ من بني الحِسْحاسِ قَفْرٌ  تُعَفِّيها الروامسُ والسماءُ

وكانت لا يزال بها أنيسٌ  خلال مُروجِها نَعَمٌ وشَاءُ

فدَعْ هذا، ولكن مَنْ لِطَيْفٍ    يُؤَرِّقُني إذا ذهبَ العِشاءُ  

لشَعْثاءَ التى قد تَيَّمَتْه       فليـس لقـلبه منها شِفاءُ 

كأن خبيئةً من بيتِ رأسٍ     يكون مزاجَها عسلٌ وماءُ

إذا ما الأشْرِباتُ ذُكرنَ يوماً      فهـــنَّ لطيِّبِ الرَّاحِ الفِداءُ

نُوَلِّيها الملامةَ إن ألَمْنا      إذا ما كان مَغْثٌ أو لِحَاءُ

ونشربُها فتتركُنا ملوكاً       وأسْدأ ما يُنَهْنِهُنَا اللقاءُ

عَدِمنا خيلنَا إن لم تَرَوْها      تُثير النقعَ موعدُها كَدَاءُ 

يُنَازعْنَ الأعنَّةَ مُصغياتٌ      على أكتافِها الأسَلُ الظِّماءُ 

تَظلُّ جيادُنا متمطِّراتٍ      يُلطمُهنَّ بالخُمُر النساءُ

فإمَّا تُعرضوا عنا اعتمرْنا     وكان الفتجُ وانكشفَ الغِطاءُ

وإلا فاصبروا لجِلاد يومٍ     يُعينُ اللّه فيه مَنْ يَشاءُ

وجبريلٌ رسولُ اللّه فينا     وروحُ القُدْسِ ليس له كِفاءُ 

وقال اللّه قد أرسلت عبداً  يقول الحق إن نفع البلاء  

شَهِدْتُ به فقوموا صَدِّقوه فقلتم لا نقومُ ولا نَشاءُ

وقال اللّه قد سَيَّرْتُ جُنداً همُ الأنصارُ عُرْضَتُها اللِّقاءُ

لنا في كلِّ يوم من مَعَدٍّ   سِبابٌ أو قتال أو هَجاءُ

فنحكمُ بالقوافي من هَجَانا ونَضْربُ حين تختلِطُ الدماءُ

ألا أبلغْ أبا سُفيانَ عني   مُغَلْغَلَةً فقد بَرِحَ الخَفاءُ  

بأن سيوفَنا تركتْكَ عبداً  وعبدُ الدارِ سادتُها الإماءُ  

هجَوْتَ محمداً وأجبتُ عنه  وعندَ اللّه في ذاكَ الجزاءُ

أتهجُوَه ولستَ له بكُفْءٍ   فشرُّكما لخيرِكما الفداءُ  

هجوْتَ مُباركاً بَرًّا حنيفاً    أمينَ اللّه شيعتُه الوفاءُ

أمن يهجو رسولَ اللّه منكم  ويمدحُه وينصرُه سواءُ؟!

فإنَّ أبي ووالدَه وعِرْضى   لعِرضِ محمدٍ منكـم وِقاءُ

لساني صَارمٌ لا عيبَ فيه  وبَحْرِي لا تُكَدِّره الدلاءُ

قال ابن هشام : قالها حسان يوم الفتح ويُرْوى : " لسانى صارم لا

عتب فيه ".

وبلغنى عن الزهري أنه

قال : لما رأى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم النساءَ يَلْطِمْنَ الخيلَ بالخُمُرِ تبسم إلى أبي بكر الصديق رضى اللّه عنه.

أنس بن زنيم يعتذر مما قاله ابن سالم  

قال ابن إسحاق : وقال أنس بن زُنَيْم الدّيلى يعتذر إلى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم مما كان قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعي :

أأنت الذي تُهْدَى مَعَدٌّ بأمرِه   بل اللّه يَهديهم وقالَ لك اشْهَدِ

وما حَمَلَتْ من ناقةٍ فوقَ رحلِها   أبرَّ وأوْفى ذِمةً من محمد

أحثَّ على خير وأسبغَ نائلاً   إذا راحَ كالسيفِ الصقيل المهنَّدِ

وأكسى لبُرْدِ الخِالِ قبلَ ابتذالِه  وأعطى لرأسِ السَّابق المتجرّدِ

تعلَّمْ رسولَ اللّه أنك مُدْرِكى   وأن وعيداً منك كالأَخْذِ باليدِ

تعَلَّم رسولَ اللّه أنك قادرٌ   على كلِّ صِرْمٍ مُتْهِمين ومُنْجِدِ

تَعَلَّمْ بأن الرَّكبَ ركْب عوَيْمر  همُ الكاذبون المخلِفُو كُلَّ مَوْعِدِ

ونَبَّوْا رسولَ اللّه أني هجوْته  فلا حملَتْ سُوْطِي إليّ إذن يَدِي

سِوى أننى قد قلتُ ويْلُ امِّ فِتيةٍ  أصيبوا بنحسٍ لا بطلْق وأسْعًدِ

أصابهمُ مَن لم يكن لدمائِهم   كِفاءً فعزَّتْ عبرتى وتَبَلّدِي

فإنك قد أخفرْتَ إن كنتَ ساعياً  بعبدِ بنِ عبدِ اللّه وابنة مَهود

ذُوَيْب وكلثومٌ وسَلْمَى تتابعوا  جميعاً فإلا تدمَع العينِ أكَمد

وسَلْمى، وسلْمى ليس حَيٌّ كمثلِه  وإخوتِه وهل مُلوك كأعْبدِ؟!

فإني لا دِيناً فتقت ولا دَماً   هَرقتُ تَبَيَّنْ عالم الحقِّ واقصِدِ

ما قاله بديل في الرد على ابن زنيم : فأجابه بُدَيْل بن عبد مناف ابن أم أصْرَم ،

فقال :

بكى أنسٌ رَزْناً فأعوَلَه البُكا    فَألا عَديِّا إذ تُطَلُّ وتُبْعَدُ

بكيت أبا عَبْس لقُربِ دمائِها    فتُعذِرَ إذ لا يُوقدُ الحربَ موقد

أصابهمُ يومَ الخَنادِمِ فِتْية     كِرام فَسَلْ ، مِنهمْ نُفيلٌ معْبَدُ  

هنالك إن تُسفَحْ دموعك لا تُلَمْ   عليهم وإن لم تدْمع العينُ فاكمدوا

قال ابن هشام : وهذه الأبيات في قصيده له. شعر بجير بن زهير في يوم الفتح :

قال ابن إسحاق : وقال بُجَيْر بن زُهير بن أبي سُلمَى في يوم الفتح :

نَفى أهلَ الحَبَلَّقِ كُلَّ فَج     مُزَيْنةُ غُدْوَةً وبنو خُفافِ  

ضربناهم بمكةَ يومَ فتح النبي    الخير بالبِيضِ الخِفافِ

صَبَحْناهم بسبعٍ مِنْ سُلَيْمٍ     وألفٍ من بني عثمانَ وافِ

نَطَا أكتافَهم ضرباً       ورَشْقا بالمريِّشةِ اللِّطافِ

ترى بينَ الصفوف لها حفيفا   كما انصاعَ الفُواقُ من الرّصافِ  

فَرُحْنَا والجِيادُ تجولُ فيهم     بأرماحٍ مُقَوَّمةِ الثِّقافِ  

فأبْنا غانِمينَ بما اشتهَينا     وآبوا نادمينَ على الخلافِ

وأعطينا رسولَ اللّه منا      مَواثِقَنا على حُسْنِ التَّصافى

وقد سمعوا مقالَتنا فهمّوا     غَداةَ الروْعِ مِنا بانصرافِ

شعر عباس بن مرداس في فتح مكة :

قال ابن هشام : وقال عباس ابن مرداس السُّلَمى في فتح مكة :

منا بمكةَ يومَ فتحِ محمدٍ   ألف تسيلُ به البطاحُ مُسَوَّمُ

نصروا الرسولَ وشاهَدوا   أيَّامَه وشعارُهُمْ يومَ اللقاءِ مُقَدَّمُ

في منزِل ثبتَتْ به أقدامُهم ضَنْكٍ كأن الهامَ فيه الحَنْتَمُ

جرَّتْ سنابِكَها بنجدٍ قبلَها  حتى استقاد لها الحجازُ الأدْهَمُ

اللّه مَكَّنَهُ له وأذلَّه   حُكمُ السيوفِ لنا وجَدٌّ مِزْحَمُ 

عَوْد الرياسة شامخٌ عِرْنينُه متطلِّعٌ ثُغَرُ المكارمِ خِضْرِمُ  

إسلام عباس بن مرداس  

قال ابن هشام : وكان إسلام عباس بن مرداس ، فيما حدثني بعض أهل العلم بالشعر، وحديثه : أنه كان لأبيه مِرْداس وثَن يعبده ، وهو حَجر كان يُقال له ضَمار،فلما حضر مرداس قال لعباس : أي بني، اعبد ضَمار فإنه ينفعك ويضرك ، فبينا عباس يوما عند ضَمار، إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول :

قلْ للقبائلِ من سُلَيْم كلِّها    أوْدَى ضَمار وعاشَ أهلُ المسجدِ

إن الذي وَرِث النبوةَ والهُدَى   بعد ابنِ مريمَ من قُريش مُهتدِيٍ

أوْدَى ضَمار وكان يُعبد مرةً    قبلَ الكتابِ إلى النبي محمدِ

 فحرق عباس ضمار، ولحق بالنبي صلى اللّه عليه وسلم فأسلم

 قال ابن هشام : وقال جَعْدة بن عبد اللّه الخُزاعي يوم فتح مكة :

أكعْبَ بنَ عمرو دعوةً غيرَ باطِل   لحيْنٍ له يومَ الحديدِ مُتاحِ  

أتيحت له من أرضِه وسمائِه    لتقـتله ليلا ًبغيـــرِ سلاحِ

ونحن الألى سَدَّتْ غزال خيولِنا  ولِفْتاً سَددناه وفَجّ طِلاحِ 

خطرنا وراءَ المسلمين بجَحْفَل ذوِي عَضُدٍ من خيلنَا ورِماحِ

وهذه الأبيات في أبيات له.

شعر بجيد في فتح مكة   

وقال بُجَيْد بن عمران الخزاعي :

وقد أنشأ اللّه السحابَ بنصرِنا رُكام صحَابِ الهَيْدَبِ المتراكِبِ 

وهِجْرتُنا في أرضِنا عندنا بها كتابٌ أتى من خيرِ مُمْلٍ وكاتبِ

ومن أجْلنا حَلَّتْ بمكةَ حُرمةٌ لندرِكَ ثأراً بالسيوفِ القواضِبِ

مسير خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة من كنانة

ومسير علي لتلافي خطأ خالد

 قال ابن إسحاق : وقد بَعث رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم فيما حول مكة السَرّاَيا تدعو إلى اللّه عز وجل ، ولم يأمرهم بقتال ، وكان ممن بُعث خالدُ بنُ الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تِهامة داعياً، ولم يبعثه مُقاتلا، فوطِىء بني جَذِيمة، فأصاب منهم.

قال ابن هشام : وقال عباس بن مرداس السلمي في ذلك :

فإن تكُ قد أمَّرتَ في القوم خالداً  وقَدَّمته فإنه قد تَقدَّما

بجندٍ هَداهُ اللّه أنت أميرُه  نُصِيبُ به في الحقِّ من كان أظْلمَا

قال ابن هشام : وهذان البيتان في قصيدة له في حديث يوم حُنَين ، : سأذكرها إن شاء اللّه في موضعها.

قال ابن إسحاق : فحدثني حَكيم بن حَكيم بن عباد بن حُنَيْف ، عن أبي جعفر محمد بن على،

قال : بعث رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعياً، ولم يبعثْه مقاتلاً، ومعه قبائلُ من العرب : سُلَيم بن منصور، ومُدْلج بن مُرة، فوطئوا بني جَذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح ، فقال خالد : ضعوا السلاح ، فإن الناس قد أسلموا.

قال ابن إسحاق : فحدثني بعضُ أصحابنا من أهل العلم من بني جَذيمة،

قال : لما أمرنا خالد أن نضع السلاحَ قال رجل منا يقال له جَحْدَم : ويلكم يا بني جَذيمة ! إنه خالد واللّه ما بَعْدَ وَضْعِ السلاح إلا الإسار (ا) ، وما بَعْدَ الإسارِ إلا ضَرْبُ الأعناق ، واللّه لا أضع سلاحي أبداً.

قال : فأخذه رجال من قومه ،

فقالوا : يا جَحْدَم ، أتريد أن تسفك دماءَنا ؟ إن الناس أسلموا ووضعوا السلاحَ ، ووُضعت الحربُ ، وأمن الناس. فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحَه ، ووضع القومُ السلاحَ لقول خالد،

قال ابن إسحاق : فحدثني حكيم بن حكيم ، عن أبي جعفر محمد ابن على،

قال : فلما وضعوا السلاحَ أمر بهم خالد عند ذلك ، فكُتفوا، ثم عرضهم على السيف ، فقَتل من قَتل منهم ؛ فلما انتهى الخبر إلى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، رفع يديه إلى السماء،

ثم قال : اللّهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالدُ بن الوليد.

الرسول يتبرأ من فعل خالد   

قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم ، أنه حُدث عن إبراهيم بن جعفر المحمودي ،

قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : رأيت كأني لَقِمْت  لُقْمة من حَيْس فالتذذْتُ طعمَها، فاعترض في حلقي منها شيءٌ حين ابتلعتها، فأدخل علىّ يده فنزعه فقال أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه : يا رسول اللّه، هذه سَرِيَّة من سَراياك تبعثها، فيأتيك منها بعضُ ما تحب ، ويكون في بعضِها اعتراض ، فتبعثُ عليّا فيسهله.

قال ابن هشام: وحدثني أنه انفلت رجل من القوم فأتى رسول اللّه

صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبره الخبر، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هل أنكر عليه أحدٌ ؟

فقال :  نعم ، قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة  ، فنهمه خالد، فسكت عنه ، وأنكر عليه رجل آخر طويل مُضْطًرب ، فراجعه ، فاشتدت مراجعتهما،فقال عمر بن الخطاب : أمَّا الأول يا رسول اللّه فابني عبد اللّه ،

وأما الآخر فسالم ، مولى أبي حذيفة.

إرساله صلي اللّه عليه وسلم عليًّا بدية بني جذيمة  

قال ابن إسحاق : فحدثني حَكيم بن حكيم ، عن أبي جعفر محمد بن علي

قال : ثم دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه ،

فقال : يا عليّ ، اخرج إلى هؤلاء القوم ، فانظر في أمرهم ، واجعل ، أمر الجاهلية تحتَ قدَميْك. فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، فوَدَى لهم الدماءَ وما أصيب لهم من الأموال ، حتى

إنه ليَدِي لهم ميلَغَةَ الكَلْب ، حتى إذا لم يَبقَ شىءٌ من دم ولا مال إلا ودَاه ، بقيت معه بقيةٌ من المال ، فقال لهم عليٌّ رضوان اللّه عليه حين فرغ منهم : هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يُودَ لكم ؟ قالوا : لا.

قال : فإنى أعطيكم هذه البقية من هذا المال ، احتياطا لرسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، مما يعلم ولا تعلمون ، ففعل. ثم رجع إلى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم فأخبره الخبر:

فقال : أصبْتَ وأحسنت !

قال : ثم قام رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم فاستقبل القبلة قائما شاهراً يديه ، حتى إنه ليُرى مما تحت مَنْكِبيه ، يقول : اللّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدُ بنً الوليد، ثلاثَ مَرَّات.

قال ابن إسحاق : وقد قال بعضُ من يَعذر خالداً إنه

قال : ما قاتلت

حتى أمرنى بذلك عبدُ اللّه بن حُذافة السَّهْمي ،

وقال : إن رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم من الِإسلام.

قال ابن هشام : قال أبو عَمرو المدني : لما أتاهم خالد، قالوا : صَبَأنا صَبَأنا   

ما وقع بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد   

قال ابن إسحاق : وقد كان حَجْدَم قال لهم حين وضعوا السلاح ورأى ما يصنع خالد ببني جَذِيمة : يا بني جَذيمة، ضاع الضربُ ، قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه. قد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عَوْف ، فيما بلغني ، كلام في ذلك ، فقال له عبد الرحمن بن عَوْف : عملت بأمر الجاهلية في الِإسلام.

فقال : إنما ثارت بأبيك فقال عبد الرحمن : كذبت ، قد قتلتُ قاتل أبي ، ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة، حتى كان بينهما شر. فبلغ ذلك رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم،

فقال : مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي ، فواللّه لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل اللّه ما أدركت غَدْوَةَ رجل من أصحابي ولا رَوْحَته.  

ما كان بين قريش بين جذيمة في الجاهلية : وكان الفاكه بن المغيرة بن عبد اللّه بن عُمر بن مخزوم ، وعوف بن عبد مناف بن عبد الحارث بن زُهرة، وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس قد خرجوا تجاراً إلى اليمن ، ومع عفان ابنه عثمان ، ومع عوف ابنه عبد الرحمن.فلما أقبلوا حملوا مال رجل من بني جَذِيمة ابن عامر، كان هلك باليمن ، إلى ورثته ، فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام ، ولقيهم بأرض بني جَذِيمة قبل أن يصلوا إلى أهلِ الميت ، فأبوا عليه ، فقاتلهم بمن معه من قومه على المال ليأخذوه ، وقاتلوه ، فقُتل عوف ، والفاكه بن المغيرة، ونجا عفان بن أبي العاص وابنه عثمان ، وأصابوا مالَ الفاكه بن المغيرة، ومال عوف بن عبد عوف ، فانطلقوا به ، وقَتل عبدُ الرحمن بن عوف خالدَ بن هشام قاتل أبيه ، فهمت قريش بغزو بني جَذِيمة، فقالت بنو جذيمة : ما كان مُصاب أصحابكم عن ملا منا، إنما عدا عليهم قوم بجهالة، فأصابوهم ولم نعلمْ ، فنحن نَعْقِل لكم ما كان لكم قِبَلنا من دم أو مال ، فقبلت قريش ،ذلك ، ووضعوا الحرب.

ما قيل من الشعر فيما كان بين خالد وجذيمة : وقد قال قائل من بني جذيمة، وبعضهم يقول : امرأة يقال لها سلمى :

ولولا مقالُ القومِ للقومِ أسْلِموا   للاقتْ سُلَيْمٌ يومَ ذلك ناطحَا

لماصَعَهمْ بُسْرٌ وأصحابُ جَحْدَم   مُرَّةَ حتى يتركوا البَرْك ضَابحَا

فكائن تَرى يوم الغُميْصاء من فَتًى أصيب ولم يجرح وقد كان جَارِحا

ألَظَّت بِخُطّابِ الأيامَى وطَلَّقت  غَداتئذٍ منهنَّ من كانَ ناكحَا

قال ابن هشام : قوله " بسر "، " وألظت بخطاب " عن غير ابن إسحاق.

ما قاله عباس بن مرداس في الردّ على ما قيل   

قال ابن إسحاق :فإجابه عباس بن مرداس ، ويقال بل الجحاف بن حكيم السلمى:

دعى عنك تَقْوَال الضلالِ كَفَى بنا لكبشِ الوغَى في اليومِ والأمسِ ناطحَا

فخالدُ أولى بالتعذُّرِ منكمُ  غداةَ عَلا نَهجاً من الأمرِ واضِحَا

مُعاناً بأمرِ اللّه يُزْجِى إليكمُ  سوانحَ لا تكبو له وبوَارِحَا

نَعَوْا مالكاً بالسَّهلِ لما هَبَطنَه   عوابسَ في كابي الغبارِ كوالحَا 

فإن نكُ أثكلناك سَلْمَى فمالكٌ  تركتم عليه نائحاتٍ ونائحَا

ما قاله الجحاف ردا على ما قيل أيضا : وقال الجحاف بن حكيم السلمي :

شَهِدْنَ مع النبي مُسَوَّماتٍ حُنَيْنا وهى داميةُ الكِلامِ

وغزوة خالد شهدت وجرَّتْ  سنابِكُهنَّ بالبلدِ الحرَامِ

نعرض للطِّعان إذا التقينا   وجوهاً لا تُعَرَّضُ لِلِّطامِ

ولستُ بخالعٍ عني ثيابى   إذا هَزَّ الكماةُ ولا أرامي

ولكني يجولُ المهرُ تحتي   إلى العَلواتِ بالعضْبِ الحسامِ

خبر ابن أبي حدرد مع بني جَذِيمة  

قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ، عن الزهري ، عن ابن أبي حَدْرد الأسلمي،

قال : كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد، فقال لي فتى من بني جَذيمة، وهو في سني، وقد جُمعت يداه إلى عنقه برُمَّة  ونسوة مجتمعات غير بعيد منه : يا فتى؛

فقلت : ما تشاء؟  

قال : هل أنت اخذ بهذه الرُّمَّة، فقائدي إلى هؤلاء النسوةِ حتى أقضى إليهن حاجةً، ثم تردنى بعدُ، فتصنعوا بي ما بدا لكم ؟

قال : قلت : واللّه لَيَسِير ما طلبت. فأخذت برُمته فقدته بها، حتى وقف عليهن ،

فقال : اسلمى حُبَيْش ، على نَفَدٍ من العيْشِ

أريتُكِ إذ طالبتُكم فوجدْتُكم   بحَلْيَة أو ألْفَيْتُكم بالخوانِقِ

ألم يكُ أهلاً أن يُنَوَّلَ عاشق   تكلف إدلاجَ السُرّىَ والودائقَ  

فلا ذنبَ لي قد قلتُ إذ أهلُنا معاً  أثيبى بِوُدّ قبلَ إحدى الصفائقِ

أثيبى بودّ قبلَ أن تَشْحَطَ النَّوَى   وينأى الأميرُ بالحبيبِ المفارق

فإني لا ضيعتُ سِرَّ أمانةٍ   ولا راقَ عيني عنكِ بَعدَكِ رائق

سوى أنَّ ما نال العشيرةَ شاغل عن الوُدِّ إلا أن يكونَ التَّوامُقِ

قال ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر البيتين الأخيريْن منها له.

قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عُتبة بن المغيرة بن الأخْنَس ، عن الزُّهْري عن ابن أبي حَدْرد الأسلمى قال.

قالت : وأنت فحُييتَ سبعاً وعشراً، وِتْراً وثمانيا تَتْرَى. قال. ثم انصرفتُ به. فضُربت عنقه.

قال ابن إسحاق : فحدثني أبو فِراس بن أبي سُنبلة الأسلمي ، عن أشياخ منهم ، عمن كان حضرها منهم ،

قالوا: فقامت إليه حين ضُربت عنقه ، فأكبَتْ عليه ، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده.

شعر رجل من بني جذيمة  

قال ابن إسحاق : وقال رجل من بني جَذِيمة :

جزى اللّه عنا مُدْلجاً حيثُ أصبحتْ جزاءة بُؤْسَى حيثُ سارتْ وحلَّتِ

أقاموا على أقضاضِنا يَقْسمُونَها   وقد نَهَلَتْ فينا الرماحُ وعَلَّتِ

فواللّه لولا دينُ آلِ محمدٍ  لقد هَربت منهم خيولٌ فشلَّتِ

وما ضرَّهم أن لا يُعينوا كتيبةً   كرِجْلِ جرادٍ أرسلت فاشْمَعَلَّتِ

فإما ينيبوا أو يَثُوبوا لأمرِهم   فلا نحنُ نجزيهم بما قد أضَلَّتِ

ما أجابه به وهب الليثي : فأجابه وهب ، رجل من بني ليث ، فقال:

دَعَوْنا إلى الإسلامِ والحقّ عامراً   فما ذنبُنا في عامر إذ تَوَلَّتِ

وما ذنبُنا في عامر لا أبا لهم   لأنْ سَفِهَتْ أحلامُهم ثم ضَلَّتِ

شعر رجل من بني جذيمة : وقال رجل من بني جَذيمة :

ليهنئ بني كعبٍ مُقَدَّم خالدٍ   وأصحابِه إذ صَبَّحتنا الكتائبُ

فلا تِرةٌ يسعَى بها ابن خُوَيْلدٍ وقد كنتُ مكفيًّا لو انك غائبُ

فلا قومُنا ينهونَ عنا غُواتَهم   ولا الداءُ من يومِ الغُمَيصاءِ ذاهبُ

 ما قاله الغلام الجذامي الهارب : وقال غلام من بني جَذيمة، وهو يسوق بأمه وأختين له وهو هارب بهن من جيش خالد:

رَخِّينَ أذيالَ المروطِ وأرْبَعَنْ   مَشْىَ حَيِيَّاتٍ كأنْ لم يُفْزَعَنْ

إن تُمنَعِ اليومَ نساءٌ تُمْنَعَنْ

ما ارتجز به غلمة من جذيمة

وقال غلمة من بني جذيمة، يقال لهم بنو مُسَاحِق ،يرتجزون حين سمعوا بخالد فقال أحدهم :

قد علمَتْ صفراءُ بيضاءُ الِإطَلْ يحوزها ذو ثَلَّةٍ وذو إِبِلْ

لأغْنينَّ اليومَ ما أغنى رجلْ

وقال الآخر:

قد علمت صفراءُ تُلبى العِرْسا   لا تملأ الحَيزُومَ منها نَهْسَا 

لأضربنَّ اليومَ ضرباً وَعْسَا  ضَرْبَ المجلِّين مخاضاً قُعْسَا  

وقال الآخر :

أقسمتُ ما إنْ خَادِرٌ ذو لِبْدَهْ شَثُنُ البَنانِ في غَدَاةٍ بَرْدَهْ

جَهْمُ المحيَّا ذو سِبالٍ وَرْدَهْ  يُرْزِمُ بينَ أيكَةٍ وجَحْدَهْ

ضارٍ بتَأكالِ الرجالِ وحْدَهْ  بأصدقَ الغَداةِ منى نَجْدَهْ

خالد يهدم العزَّى

ثم بعث رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم خالدَ بنَ الوليد إلى العُزَّى وكانت بنَخْلَة، وكانت بيتاً يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومُضر كلها، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من بني سُلَيم حلفاء بني هاشم ، فلما سمع صاحبها السلمي بمسير خالد إليها، علق عليها سيفه ، وأسْنَد في الجبل الذي هى فيه وهو يقول :

أيا عُزُّ شُدِّي لا شَوَى لها    على خالدٍ ألقى القِناعَ وشمِّري 

يا عُزُّ إن لم تَقتُلي المرءَ خالداً   فبوئى بإثمٍ عاجلٍ أو تنصَّري

فلما انتهى إليها خالد هدمها، ثم رجع إلى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم.

ما أقامه رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم في مكة بعد الفتح وتاريخ الغزوة :

قال ابن إسحاق : وحدثني ابنُ شهاب الزُّهري ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ابن عُتبة بن مسعود

قال : أقام رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة.

قال ابن إسحاق : وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان.

غزوة حُنَيْن

في سنة ثمان - بعد الفتح.

قال ابن إسحاق : ولما سمعت هَوازنُ برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما فتح اللّه عليه من مكة، جمعها مالكُ بن عَوْف النَّصْري ، فاجتمع إليه مع هوازن ثَقيف كلّها، واجتمعت نَصْر وجُشَم كلُّها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال ، وهم قليل ، ولم يشهدها من قيس عَيْلان إلا هؤلاء،. وغاب عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب ، ولم يشهدها منهم أحد له اسم ،وفى بني جُشَم دُرَيْد بن الصِّمة شيخ كبير  ، ليس فيه شىء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب وكان شيخا مُجرِّبا، وفي ثقيف سَيِّدَان لهم ، في الأحلاف : قارب بن الأسود بن مسعود بن مُعَتِّب ، وفى بني مالك :

ذو الخمار سُبَيْع بن الحارث بن مالك ، وأخوه أحمر بن الحارث ، وجِماعُ أمر الناس إلى مالك بن عَوْف النصري ، فلما أجمع السير إلى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم حط مع الناس أموالَهم ونساءَهم وأبناءهم ، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس ، وفيهم دُرَيد بن الصّمة في شجار  له يُقاد به

ما أشار به دريد بن الصمة : فلما نزل

قال : بأي واد أنتم ؟  قالوا : بأوطاس

قال : نِعْم مجالُ الخيلِ ، لا حَزْنٌ ضِرْس ؛ ولا سَهْلٌ دَهْس  ، ما لي أسمع رُغاء البعير، ونُهاق الحمير، وبُكاء الصغير، ويُعار الشاء ؟ قالوا : ساق مالكُ بنُ عَوْف  مع الناس أموالَهم ونساءَهم وأبناءهم.

قال : أين مالك ؟ قيل هذا مالك ودُعي له

فقال : يا مالك ، إنك قد أصبحت رئيسَ قومِك ، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام. ما لي أسمع رُغاء البعير، ونُهاق الحمير، وبُكاء الصغير، ويُعار الشاء ؟

قال : سُقْتُ مع الناس أموالَهم وأبناءهم ونساءَهم ،

قال : ولم ذاك ؟

قال : أردت أن أجعل خلفَ كل رجل منهم أهلَه ومالَه ، ليقاتل عنهم ،

قال : فأنْقَضَ به .

ثم قال : راعِيَ ضأنٍ  ، واللّه ! وهل يَرُدُّ المنهزمَ شىء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورُمحه ، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك.

ثم قال :ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا : لم يشهدها منهم أحدٌ ،

قال : غاب الحَدُّ والجِدُّ، ولو كان يومَ علاء ورفعة. لم تغب عنه كعب ولا كلاب ، ولوَدِدْت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب ، فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عمرو بن عامر، وعَوْف بن عامر،

قال : ذانك الجَذَعان  من عامر، لا ينفعان ولا يضران ؟ يا مالك ، إنك لم تصنع بتقديم البَيْضة بَيْضة  هوازن إلى نحورِ الخيل شيئاً، ارفعهم إلى مُتَمنَّع بلادِهم وعُلْيا قومِهم ثم الق الصُبَّاء  على متون الخيل ، فإن كانت لك لحق بك مَنْ وراءك ، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك :

قال : واللّه لا أفعل ذلك ، إنك قد كَبِرْت وكبر عقلك. واللّه لَتُطِيعُنَّنى يا معشرَ هوازن أو لأتكئنَّ على. هذا السيف حتى يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدُرَيْد بن الصمة فيها ذكر أو رأي ،

فقالوا : أطعناك ؛ فقال دريد بن الصمة : هذا يوم لم أشهده ولم يفتنى :

يا ليتنى فيها جَذَعْ    أخُبُّ فيها وأضَعْ

أقودُ وطْفَاء الزَّمَعْ   وكأنها شاةٌ صَدَعْ

قال ابن هشام : أنشدني غير واحد من أهل العلم بالشعر قوله :

"يا ليتني فيها جَذَعْ "

قال ابن إسحاق :

ثم قال مالك للناس : إذا رأيتموهم فاكسروا جفونَ سيوفِكم ، ثم شُدوا شَدَّة رجل واحد.

عيون مالك بن عَوف ونزول الملائكة

قال : وحدثني أمية ابن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان أنه حُدث : أن مالك بن عوف بعث عيونا من رجالِه ، فأتوه وقد تفرقت أوصالُهم ،

فقال : ويلكم! ما شأنكم ؟

فقالوا : رأينا رِجالا بيضاً على خَيْل بُلْق ، فواللّه ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فواللّه ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.

بعث عبد اللّه بن أبي حدرد عينا على خزاعة  

قال ابن إسحاق : ولما سمع بهم نبيُّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث إليهم عبدَ اللّه بن أبي حَدْرَد الأسلمي  ، وأمره أن يدخل في الناس ، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ، ثم يأتيه بخبرهم. فانطلق ابن أبي حَدْرَد، فدخل فيهم ، فأقام فيهم ، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وسمع من مالك وأمْر هَوازن ما هم عليه ، ثم أقبل حتى أتى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، فأخبره الخبر، فدعا رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم عمر بن الخطاب ، فأخبره الخبر فقال عمر : كذب ابن أبي حَدْرد. فقال ابن أبي حدرد : إن كذَّبتنى فربما كذَّبْتَ بالحق يا عمر فقد كذَّبْتَ من هو خير منى. فقال عمر : يا رسول اللّه، ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد ؟ فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم:قد كنت ضَالا" فهداك اللّه يا عمر. استعارة الرسول أدراع صفوان : فلما أجمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السير إلى هوازن ليلقاهم ذُكر له أن عند صفوان بن أمية أدْراعا له وسلاحا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك

فقال : يا أبا أمية، أعِرْنا سلاحك هذا نلق فيه عدوَّنا غدا، فقال صفوان : أغصْباً يا محمد ؟

قال : بل ، عاريةٌ ومضمونة حتى نؤدِّيَها إليك ،

قال : ليس بهذا بأس ، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح ، فزعموا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأله أن يكفيهم ؟ حملها،ففعل.

من أمَّرَهُ عليه السلام على مكة :

قال : ثم خرج رسول اللّه ،صلي اللّه عليه وسلم معه ألفان من أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ، ففتح اللّه بهم مكة، فكانوا اثني عشر ألفا، واستعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عَتَّاب بن أسِيد بن أبي العِيص بن أمية بن عبد شمس على مكة،أميراً على من تخلف عنه من الناس ، ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على وجهه يريد لقاء هوازن.

قصيدة ابن مرداس : فقال عباس بن مِرْداس السُّلَمي :

أصابت العامَ رِعْلاً غولُ قومِهم وَسْطَ البيوتِ ولَوْنُ الغولِ ألوانُ

يا لهفَ أمِّ كلابٍ إذ تُبَيتهم   خيلُ ابنِ هَوْذَةَ لاتُنْهَى وإنسانُ 

لا تَلْفظوها وشُدُّوا عَقْدَ ذِمَّتِكم   أن ابنَ عمِّكمُ سعدٌ ودُهمانُ  

لن تَرجعوها وإن كانتْ مُجَلَّلَةً   ما دام في النَّعَمِ المأخوذِ ألبانُ

شَنْعاء جُلل مِنْ سوآتها حَضَنٌ   وسال ذو شَوْغَرٍ منها وسُلوانُ

ليست بأطْيَبَ مما يَشْتَوِي حَذَف   إذ قال : كُلُّ شواءِ العيرِ جُوْفانُ  

وفى هَوازِنَ قومٌ غيرَ أنَّ بهم   داءَ اليمانى فإن لم يغدِروا خانُوا

فيهم أخٌ لو وَفَوْا أو بَرّ عَهْدُهمُ ولو نَهكْناهُمُ بالطعِن قد لانُوا

أبلغْ هوازنَ أعلاها وأسفلَها  مِنِّى رسالة نصحٍ فيه تبيان

أني أظنُّ رسولَ اللّه صابحكمُ   جيشاً له في فضاءِ الأرضِ أركانُ

فيهم أخوكم سُلَيم غيرَ تاركِكم   والمسلمون عبادَ اللّه غسانُ

وفى عُضادته اليمنى بنو أسل   والأجربانِ بنو عَبْس وذُبيانُ

تكاد ترجُفُ منه الأرض رَهبتَهُ   وفى مُقَدَّمِه أوسٌ وعثمانُ

 قال ابن إسحاق :أوس وعثمان :قبيلا مُزَيْنة.

قال ابن هشام : من قوله " أبلغ هوازن أعلاها وأسفلها " إلى آخرها، في هذا اليوم ، وما قبل ذلك في غير هذا اليوم ، وهما مفصولتان ، ولكن ابن إسحاق جعلهما واحدةً.

قصة ذات أنواط

قال ابن إسحاق : وحدثني ابنُ شهاب الزهري ، عن سنان بن أي سنان الدؤلى، عن أبي واقد الليثي، أن الحارثَ بنَ مالك ، قال: خرجنا مع رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم إلى حُنَيْن ونحن حديثو عهد ، بالجاهلية،.

قال : فسرنا معه إلى حُنين ،

قال : وكانت كفار قريش ومن في سواهم من العرب لهم شجرة عظيمة خضراء، يقال لها ذات انْواط ، يأتونها كلِ سنة، فيعلقون أسلحتَهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكُفون عليها يوماَ. قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم سِدرة خضراء عظيمة،

قال : فتنادينا من جنبات الطريق : يا رسول اللّه ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. قال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم : اللّه أكبر، قلتم ، والذي نفس محمد بيده ، كما قال قوم موسى لموسى : { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [الأعراف: ١٣٨] أنها السنن ، لتركَبُنَّ سنن من كان قبلكم ثبات الرسول وبعض الصحابة في لقاء هوازن :

قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عُمر بن قَتادة، عن عبد الرحمن بن جابر،عن أبيه جابر بن عبد اللّه ،

قال : لما استقبلنا وادي حُنَين انحدرنا في وادٍ من أودية تِهامة أجْوَف حَطُوط ، إنما ننحدر فيه انحداراً،

قال : وفى عَمايةِ الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي ، فكَمنُوا لنا في شِعابِه ، وأحنائِه ومضايقه ، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فواللّه ما راعنا ونحن ، مُنحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شَدَّةَ رجل واحد، وانشمَرَ الناس راجعين ، لا يَلْوِي أحدٌ على أحد.

وانحاز رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم ذات اليمين ،

ثم قال : أين أيها الناس ؟ هلُمُّوا إلىَّ، أنا رسولُ اللّه ، أنا محمدُ بنُ عبد اللّه ،

قال : فلا شىء، حَملَت الإبلُ بعضُها على بعض ، فانطلق الناس إلا أنه قد بقى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نفرٌ من المهاجرين والأنصار وأهل بيته.

من ثبت معه صلى اللّه عليه وسلم : وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث ، وابنه ، والفضل بن العباس ، وربيعة بن الحارث ، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عُبَيد، قُتل يومئذ  .

قال ابن هشام : اسم ابن أبي سفيان بن الحارث جعفر، واسم أبي سفيان المغيرة، وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس ، ولا يعد ابن أبي سفيان.

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عُمر بن قتادة، عن عبد    الرحمن ابن جابر، عن أبيه جابر بن عبد اللّه ،

قال : ورجل من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء، في رأس رمح له طويل ، أمام هوازن ، وهوازن خلفه ، إذا أدرك طعن برمحه ، وإذا فاته الناس رفع رمحَه لمن وراءَه فاتبعوه.

أبو سفيان بن حرب يشمت بالمسلمين   

قال ابن إسحاق : فلما انهزم الناس ، ورأى من كان مع رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم من جُفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضَّغْن ،فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتُهم دونَ البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرخ جَبَلة بن الحنبل -قال. ابن هشام ،كَلَدَة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مُشرك في المدة التي جعل له رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم: ألا بطل السحرُ اليومَ ، فقال له صفوان : اسكت فضَّ اللّه فاك ، فواللّه لأن يربَّنى رجل من قريش أحبُّ إلى من أن يَرُبَّني رجل من هَوَازن حسان يهجو كلدة :

قال ابن هشام : وقال حسان بن ثابت يهجو كَلَدَة :

رأيت سواداً من بعيدٍ فراعني   أبو حنبلٍ ينزو على أمِّ حنبلِ

كأن الذي ينزو به فوْقَ بطنِها  ذراعُ قَلُوص من نِتاج ابن عِزْهِلِ

 أنشدنا أبو زيد هذين البيتين ، وذكر لنا أنه هجا بهما صفوان بن أمية، وكان أخا كَلَدة لأمه.

شيبة بن طلحة يحاول قتل الرسول صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : وقال شَيْبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخو بني عبد الدار : قلت : اليومَ أدرك ثأري ، وكان أبوه قُتل يوم أحد، اليومَ أقتلُ محمداً.

قال : فأدرتُ برسول اللّه لأقتله ، فأقبل شىء حتى تغشى فؤادي ، فلم أطق ذاك ، وعلمت أنه ممنوع منى.   

قال ابن إسحاق : وحدثني. بعضُ أهل مكة، أنَّ رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم قال حين فَصَل من مكة إلى حُنين ، ورأى كثرة من معه من جنود اللّه : لن نُغلَبَ اليومَ من قِلَّة.

قال ابن إسحاق : وزعم بعض الناس أن رجلا من بني بكر قالها.

النصر للمسلمين  

قال ابن إسحاق : وحدثني الزهري ، عن كثير ابن العباس ، عن أبيه العباس بن عبد المطلب ، قال. إنى لمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آخذ بحكمةِ بغلته البيضاء قد شَجَرْتُها بها،

قال : وكنت امرءاً جسيماً شديدَ الصوت ،

قال : ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس : أين أيها الناس ؟ فلم أرَ الناسَ يَلْوُون على شىء،

فقال : يا عباسُ اصرخْ ، يا معشَر الأنصار، يا معشر أصحابِ السَّمُرَة،

قال : فأجابوا: لَبَّيك ، لَبيك ،

قال : فيذهب الرجل ليثنى بعيرَه ، فلا يقدر على ذلك ، فيأخذ دِرْعَه ، فيقذفها في عنقه ، ويأخذ سيفه وترسَه ويقتحم عن بعيره ، ويخلي سبيلَه ، فيؤم الصوْتَ ، حتى ينتهيَ إلى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم. حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة، استقبلوا الناسَ ، فاقتتلوا، وكانت الدعْوَى أول ما كانت : يا لَلأنصار. ثم خلصت أخيرا: يا للخزرج. وكانوا صُبْراً عندَ الحرب ، فأشرف رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم في ركائبه. فنظر إلى مُجْتَلَد القوم وهم يجتلدون ،

فقال : الآن حَمِىَ الوَطيسُ.

قتل علي صاحب راية هوازن  

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصمُ بن عُمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبداللّه

قال : بَيْنا ذلك الرجل من هوزان صاحب الراية على جمله يصنع ما يصنع إذ هَوَى له على بن أي طالب رضوان اللّه عليه ، ورجل من الأنصار يريدانه ،

قال : فيأتيه على بن أبي طالب من خلفه ، فضرب عُرْقُوبَي  الجمل ، فوقع على عَجِزِه ، ووثب الأنصاري على الرجل ، فضربه ضربة أطَنَّ قدمَه بنصف ساقه ، فانجعف عن رَحْله ،

قال : واجتلد الناسُ ، فواللّه ما رَجَعَتْ راجعةُ الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارَى مكتَّفين عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

قال : والتفت رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وكان ممن صبر يومئذ مع رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم، وكان حَسَنَ الإسلام حين أسلم ، وهو آخذ بثَفَر بغلته ،

فقال : مَنْ هذا ؟

قال : أنا ابن أمَك يا رسول اللّه.

أم سُليم في المعركة

قال ابن إسحاق : وحدثني عبدُ اللّه بن أبي بكر : أن رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم التفت فرأى أم سُلَيْم بنت مِلْحان  وكانت مع زوجها أبي طلحة  وهى حازمة وسطها ببُرْد لها، وإنها لحامل بعبد اللّه بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة، وقد خَشِيت أن يَعُزَّها الجمل ، فأدنت رأسَه منها، فأدخلت يدَها في خِزَامتِه مع الخطام، فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أم سُلَيم ؟

قالت : نعم ، بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ، اقْتلْ هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك ، فإنهم لذلك أهل ، فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم: أو يكفي اللّه يا أم سُلَيْم ؟

قال : ومعها خنجر. فقال لها أبو طلحة : ما هذا الخنجر معك يا أم سُلَيم ؟

قالت : خنجر أخذته ، إن دنا مني أحد من المشركين بعَجْتُه به

قال : يقول أبو طلحة: ألا تسمع يا رسولَ اللّه ما تقول أم سُلَيم الرَّمَيْصاء.

شعر مالك بن عوف يوم حنين

قال ابن إسحاق : وقدكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حين وَجَّه إلى حُنَيْن ، قد ضم بني سُلَيم الضحاك بن سفيان الكلابي، فكانوا إليه ومعه ، ولما انهزم الناس قال مالك بن عوف يرتجز بفرسه :

أقْدِمْ مُحاجُ إنه يَوْمٌ نُكُرْ   مِثلى على مثلِك يحمي ويَكُرْ

 إذا أضيع الصفُّ يوما والدبُرْ   ثم احزألَّتْ زُمَرٌ بعدَ زُمَرْ  

كتائبٌ يكلُّ فيهنَّ البصرْ   قد أطْعُن الطعنةَ تَقْذِي بالسُّبُرْ

حين يُذَمُّ المستكينُ المنجَحِرْ   وأطعنُ النَّجلاءَ تَعْوِي وَتَهِرْ

لها من الجوفِ رَشاشٌ مُنهمرْ   تَفْهَقُ تاراتٍ وحينا تَنفجِرْ

وثعلبُ العاملِ فيها مُنْكَسِرْ    يا زيدُ يابن هَمْهَمٍ أينَ تَفرْ

 قد نَفَدَ الضرسُ وقد طال العُمُرْ   قد علم البيضُ الطويلاتُ الخُمرْ

أنى في أمثالِهَا غيرُ غُمِرْ  إذ تُخرَج الحاصنُ من تحتِ السثُرْ  

وقال مالك بن عَوْف أيضاً:

أقِدمْ مُحاجُ إنها الأسَاورهْ    ولا تغرنَّك رِجْلٌ نادرهْ  

قال ابن هشام : وهذان البيتان لغير مالك بن عوف في غير هذا اليوم .

 من قتل قتيلا فله سلبه

قال ابن إسحاق : وحدثني عبدُ اللّه بن أبي بكر، أنه حُدث عن أبي قَتادة الأنصاري

قال : وحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن نافع مولى بني غفار عن أبي محمد عن أبي قتادة، ، قالا : قال أبو قتادة : رأيت يوم حنين رجلين يقتتلان : مسلما ومشركا،

قال : وإذا رجل من المشركين يريد أن يعين صاحبه المشرك على المسلم ،

قال : فأتيته ، فضربت يده فقطعتها. واعتنقنى بيده الأخرى، فواللّه ما أرسلني حتى وجدت ريح الدم - ويروى : ريح الموت ، فيما

قال ابن هشام - وكاد يقتلني، فلولا أن الدم نزفه لقتلني، فسقط ؛فضربته فقتلته.

وأجهضني عنه القتال ، ومر به رجل من أهل مكة فسلبه.

 فلما وضعت الحرب أوزارها وفرغنا من القوم ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :من قتل قتيلا فله سَلبُه ،

فقلت : يا رسول اللّه ، واللّه لقد قتلت قتيلا ذا سَلَب ، فأجهضني عنه القتال ، فما أدري من استلبه ؟ فقال رجل من أهل مكة : صدق يا رسول اللّه ، وسَلَب ذلك القتيل عندي ، فأرْضه عني من سَلَبه.

فقال أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه : لا واللّه ، لا يرضيه منه ، تَعْمِد إلى أسد من أسْد اللّه ، يقاتل عن دين اللّه ، تقاسمه سَلَبه ؟! اردد عليه سلب قتيله ، فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم : صدق فاردد عليه سَلَبه  . فقال أبو قَتادة : فأخذته منه ، فبعته ، فاشتريت بثمنه مَخْرَفاً  فإنه لأولُ مال اعتقدْتُه  .

قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم ، عن أبي سلمة، عن إسحاق ابن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك ،

قال : لقد استلب أبو طلحة يوم حُنين وحده عشرين رجلا.

الملائكة تحضر القتال

قال ابن إسحاق : وحدثني أبي : إسحاقُ بن يسار، أنه حُدث عن جُبير بن مُطْعِم ،

قال : لقد رأيت - قبلَ هزيمة القوم والناس يقتتلون - مثل البجاد  الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم ، فنظرتُ ، فإذا نمل أسود مبثوث ، قد ملأ الوادي لم أشك أنها الملائكة، ثم لم يكن إلا هزيمة القوم.

هزيمة هوازن  

قال ابن إسحاق : ولما هزم اللّه المشركين من أهلِ حُنَين ، وأمْكن رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم منهم ، قالت امرأة من المسلمين :

 قد غلبت خيلُ اللّه خيلَ اللات     واللّه أحــقُّ بالثبات

قال ابن هشام : أنشدني بعض أهل العلم بالرواية للشعر :

غلبت خيلُ اللّه خيلَ اللاتِ    وخيلُه أحقُّ بالثباتِ

قال ابن إسحاق : فلما انهزمت هوازن استحر القتلُ من ثقيف في بني مالك ، فقُتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم ، فيهم عثمان بن عبد اللّه بن ربيعة بن الحارث بن حبيب ، وكانت رايتهم مع ذي الخمار ، لم فلما قتل أخذها عثمان بن عبد اللّه ، فقاتل بها حتى قُتل.

قال ابن إسحاق : وأخبرني عامر بن وهب بن الأسود،

قال : لما بلغ - رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتلُه ،

قال : أبعده اللّه ، فإنه كان يبغض قريشاً.

قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس : أنه قُتل مع عثمان بن عبد اللّه غلام له نصراني أغْرَل ،

قال : فبينا رجل من الأنصار يسلب قتلى ثقيف ، إذ كشف العبدَ يسلبه ، فوجده أغْرل.

قال : فصاح بأعلى صوته : يا معشر العرب ، يعلم اللّه أن ثقيفا غُرْل. قال المغيرة بن شعبة : فأخذت بيده ، وخشيت أن تذهب عنا في العرب ،

فقلت : لا تقل ذاك ، فداك أبي وأمي، إنما هو غلام لنا نصراني.

قال : ثم جعلت أكشف له عن القتلى، وأقول له : ألا تراهم مختتنين كما ترى.

هروب قارب بن الأسود مع قومه يوم حنين  

قال ابن إسحاق : وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود، فلما انهزم الناس أسند رايته إلى شجرة، وهرب هو وبنو عمه وقومه من الأحلاف ، فلم يُقتل من الأحلاف غير رجلين : رجل من غِيَرَة، يقال له وهب ، وآخر من بني كُبَّة، يقال له الجُلاح. فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم حين بلغه قتل الجُلاح : قُتل اليوم سيد شباب ثقيف ، إلا ما كان من ابن هُنَيْدة، يعني بابن هُنَيدة الحارث بن أوَيْس.

شعر عباس بن مرداس في هجاء قارب وقومه : فقال ،عباس ابن مرداس السلَمي يذكر قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه ، وذا الخمار وحبسه قومه للموت :

ألا مَنْ مُبْلِغٌ غَيْلانَ عني وسوف -إخَالُ -يأتيه الخبيرُ

 وعُروةَ إنما أهدَى جواباً    وقولاً غيرَ قولِكما يسيرُ

بأن محمداً عبد رسول     لرب لا يَضلُّ ولا يَجورُ

وجدناه نبيًّا مثلَ موسى    فكلُّ فتىً يخايره مَخِيرُ

وبئسَ الأمرُ أمرُ بني قَسِيٍّ    بِوَجٍّ إذ تُقُسِّمت الأمورُ

أضاعوا أمرَهم ولكل قومٍ    أمير والدوائرُ قد تدورُ

فجئنا أسْدَ غاباتٍ إليهم    جنودُ اللّه ضاحية تسيرُ

يوم الجمعَ جمعَ بني قَسِىٍّ    على حَنَقٍ نكادُ له نطيرُ

وأقسم لو هُمُ مكثوا لسرْنا    إليهم بالجنودِ ولم يَغُوروا 

فكنا أسدَ لِيَّةَ ثَمَّ حتى   أبحناها وأسْلمت النُّصورُ

ويومٌ كان قبلُ لَدَى حُنَين   فأقلعَ والدماءُ به تمورُ

من الأيامِ لم تَسمعْ كيومٍ   ولم يَسمعْ به قومٌ ذُكورُ

قتلنا في الغبار بني حُطيطٍ   على راياتِها والخيلُ زورُ

ولم يك ذو الخِمارِ رئيسَ قومٍ  لهم عقلٌ يعاقبُ أو مَكيرُ

أقام بهم على سَنَنِ المنايا   وقد بانت لمُبصِرها الأمورُ

فأفلت من نجا منهم جَريضاً   وقتلَ منهمُ بشر كثيرُ

ولا يُغنى الأمورَ أخو التواني  ولا الغَلِقُ الصُريِّرةُ الحَصورُ

أحانهمُ وحان ومَلَّكُوه    أمورَهُمُ وأفلتتِ الصُّقورُ

بنو عَوْفٍ تَميح بهم جِياد    أهينَ لها الفَصافِصُ والشعيرُ

فلولا قاربٌ وبنو أبيه   تقسمت المزارعُ والقصورُ

ولكن الرياسةَ عمَّمُوها   على يُمْنٍ أشار به المشيرُ

أطاعوا قارباً ولهم جدود   وأحلام إلى عزّ تصيرُ

فإن يُهْدَوْا إلى الِإسلامِ يُلْفُوا   أنوفَ الناسِ ما سَمَرَ السَّميرُ 

وإن لم يُسلموا فهُمُ أذَان    بحربِ اللّه ليس لهم نصيرُ

كما حَكَّتْ بني سعدٍ وحربٍ   برَهْطِ بني غَزِيَّةَ عَنْقَفيرُ 

كأنَّ بني معاويةَ بن بكرِ    إلى الإسلامِ ضائنة تخورُ

فقلنا أسلِموا إنا أَخوكم    وقد برأت من الإحَنِ الصدورُ  

كأن القومَ إذ جاءوا إلينا   من البغضاءِ بعدَ السِّلْمِ عُورُ

قال ابن هشام : غيلان : غَيلان بن سلمة الثقفي ، وعروة : عروة بن مسعود الثقفي.

مقتل دُرَيْد

قال ابن إسحاق : ولما انهزم المشركون ، أتوا الطائف ومعهم مالك بن عَوْف ، وعسكر بعضهم بأوطاس ، وتوجه بعضهم نحوَ نَخْلة، ولم يكن فيمن توجَّه نحو نخلة إلا بنو غِيرَة من ثقيف ، وتبعت خيلُ رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم من سلك في نخلة من الناس ، ولم تتبع من سلك الثنايا.

فأدرك ربيعة بن رُفَيْع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة بن يربوع بن سَمَّال ابن عَوْف بن امرئ القيس ، وكان يقال له ابن الدّغُنَّة وهى أمه ، فغلبت على اسمه ،

ويقال : ابن لذْعَة فيما

قال ابن هشام - دُرَيْد بنَ الضمة، فأخذ بخطام جمله وهو يظّن أنه امرأة، وذلك أنه في شجار له ، فإذا برجل ، فأناخ به ، فإذا شيخ كبير. وإذا هو دُرَيْد بن الصمَّة ولا يعرفه الغلام ، فقال له دُرَيْد : ماذا تريد بي ؟

قال : أقتلك

قال : ومن أنت ؟

قال : أنا ربيعة بن رُفَيْع السُّلَمى، ثم ضربه بسيفه ؛ فلم يُغْن شيئا،

فقال : بئس ما سلَّحتك أمك ! خذ سيفي هذا من مؤخر الرَّحْل ، وكان الرَّحْل في الشِّجار، ثم اضربْ به ، وارفع عن العِظام ، واخفضْ عن الدماغ ، فإني كنت كذلك أضرب الرجال ، ثم إذا أتيتَ أمَّك فأخبرها أنك قتلت دُرَيْد بن الصمة،فرُبَّ واللّه يوم قد منعتُ فيه نساءَك. فزعم بنو سُلَيم أن ربيعة لما ضربه فوقع تكشَّفَ ، فإذا عِجانُه (ا) وبطون فَخِذَيه مثل القِرْطاس ، من ركوب الخيل أعراء ؛فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه ، فقالت : ، أما واللّه لقد أعتق أمهاتٍ لك ثلاثاً.

شعر عمرة بنت دريد في مقتل أبيها : فقالت عمرة بنت دُرَيْد في قتل ربيعة دريدا :

لعَمْرُك ما خَشيتُ على دُرَيْدٍ  ببطنِ سُمَيْرةٍ جيشَ العناقِ  

جزى عنه الالهُ بني سُلَيْمٍ   وعقتْهمْ بما فعلوا عَقاقِ

وأسْقانا إذا قُدْنا إليهم دماءَ    خيارِهم عندَ التلاقي

فرُبَّ عظيمةٍ دافعتَ عنهم   وقد بلغتْ نفوسُهم التراقي

وربَّ كريمةٍ أعتقت منهم   وأخرى قد فككْتَ من الوَثاقِ

وربَّ مُنَوَّهٍ بك من سُلَيْم   أجبتَ وقد دعاك بلا رَماقِ

فكان جزاؤنا منهم عُقوقا   وهَمًّا ماع منه مُخُّ ساقي

عَفَتْ اثارُ خيلِك بعدَ أيْنٍ   بذي بَقَر إلى فَيْفِ النُّهاقِ

وقالت عمرة بنت دُرَيْد أيضاً :

قالوا قتلنا دُرَيْداً قلت قد صَدَقوا فظلَّ دمعي على السِّربال ينحدرُ

لولا الذي قهر الأقوامَ كلَّهمٍ  رأت سُلَيْمٌ وكعبٌ كيف تأتمرُ

إذن لصبَّحهم غِبّا وظاهرة  حيثُ استقرت نواهُمْ جَحْفَلٌ ذَفِرُ   

 

قال ابن هشام : ويقال اسم الذي قتل ، دُرَيدا : عبد اللّه بن قُنَيْع بن أهْبان بن ثعلبة بن ربيعة.

استشهاد أبي عامر الأشعري

قال ابن إسحاق : وبعث رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم في آثار من توجَّه قِبل أوطاسِ أبا عامر الأشعري ، فأدرك من الناس بعضَ من انهزم ، فناوشوه القتال فرُمي أبو عامر بسهم فقُتل ؛ فأخذ الراية أبو موسى الأشعري ، وهو ابن عمه فقاتلهم ، ففتح اللّه على يديه وهزمهم. فيزعُمون أن سلمة بن دُرَيد هو الذي رمى أبا عامر الأشعري - بسهم : فأصاب ركبته ، فقتله ،

فقال :

إن تسألوا عني فإني سَلَمهْ   ابنُ سَماديرَ لمن تَوَسَّمَهْ

أضربُ بالسَّيفِ رءوسَ المُسْلِمَهْ

وسمادير : أمه.

 دعاؤه عليه السلام لبني رئاب : واستحر القتلُ من بني نَصْر في بني رِئاب ، فزعموا أن عبد اللّه بن قيس - وهو الذي يقال له ابن العوراء، وهو أحد بني وهب بن رِئاب -

قال : يا رسول اللّه هلكت بنو رِئاب فزعموا أن رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم

قال : اللّهم اجبُرْ مصيبتهم. شعر لمالك بن عوف يوم حنين : وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة، فوقف في فوارس من قومه ، على ثَنيَّة من الطريق ، وقال لأصحابه : قفوا حتى تمضى ضعفاؤكم ، وتلحق أخراكم. فوقف هناك حتى مضى من كان لحق بهم من مهزمة الناس ؛فقال مالك بن عوف في ذلك :

ولولا كَرَّتان علىِ مُحَاجٍ  لضاق على العَضاريطِ الطريقُ

ولولا كَرُّ دُهْمان بنِ نصر  لدى النخلاتِ مُندَفَع الشَّديق

لآبتْ جعفر وبنو هلالٍ   خَزَايا مُحْقِبين على شُقُوق

قال ابن هشام : هذه الأبيات لمالك بن عَوْف في غير هذا اليوم. وما يدلك على ذلك قول دُريد بن الصمة في صدر هذا الحديث : ما فعلت كعب وكلاب ؟ فقالوا له : لم يشهدها منهم أحد. وجعفرٌ : بن كلاب. وقال مالك بن عوف في هذه الأبيات : " لآبت جعفر وبنو هلال ".

لقاء الزبير بعض المنهزمين   

قال ابن هشام : وبلغني أن خيلا طلعت ومالك وأصحابه على الثنية، فقال لأصحابه : ماذا تَرَوْن ؟

فقالوا : نرى قوماً واضعي رماحَهم بين آذان خيلهم ، طويلة بوادُّهم  ؛

فقال : هؤلاء بنو سُلَيم ، ولا بأس عليكم منهم ؛ فلما أقبلوا سلكوا في الوادي ثم طلعت خيل أخرى تتبعها ؛ فقال لأصحابه :. ماذا تَرون ؟ قالوا : نرى قوما عارضي رماحَهم ، أغْفالا  على خيلهم

فقال : هؤلاء الأوْس والخزرج ، ولا بأس عليكم منهم. فلما انتهوا إلى الثنيَّة سلكوا طريق بني سُلَيم. ثم طلع فارس ؛ فقال لأصحابه : ماذا ترون ؟ قالوا : نرى فارسا طويل البادِّ، واضعاً رمحه على عاتقه ، عاصباً رأسه بملاءة حمراء

فقال :هذا الزبير بن العوام وأحلف باللات ليخالطنَّكم ، فاثبتوا له. فلما انتهى الزُّبير إلى أصل الثنية أبصر القوم ، فصمد لهم ، فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها.

شعر سلمة بن دريد في فراره يوم حنين   

قال ابن إسحاق : وقال سَلَمة بن دُرَيْد وهو يسوق بامرأته حتى أعجزهم :

نسَّيتنى ما كنتِ غيرَ مُصابة  ولقد عرفْتِ غداةَ نعْفِ الأظْرُبِ

أني منعتُك والرُّكوبُ مُحبب  ومَشيت خلفَك مثلَ مشْىِ الأنْكَبِ  

إذ فرَّ كُلُّ مُهَذَّبٍ ذِي لِم    عن أمِّه وخليله لم يَعْقبِ

من حديث أبي عامر الأشعري ومقتله يوم حنين  

قال ابن هشام :ٍ وحدثني من أثق به من أهل العلم بالشعر، وحديثه : أن أبا عامر  الأشعري لقي يوم أوطاس عشرةَ إخوة من المشركين ، فحمل عليه أحدُهم ، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول : اللّهم اشهدْ عليه ، فقتله أبو عامر؛ ثم حمل عليه آخر، فحمل عليه أبو عامر، وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول : اللّهم اشهدْ عليه ، فقتله أبو عامر. ثم جعلوا يحملون عليه رجلاً رجلاً، ويحمل أبو عامر وهو يقول ذلك ، حتى قتل تسعة، وبقى العاشر؛ فحمل على أبي عامر، وحمل عليه أبو عامر، وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول : اللّهم اشهد عليه ؛ فقال الرجل : اللّهم لا تشهد علىَّ فكف عنه أبو عامر، فأفلت ؛ ثم أسلم بعدُ فحسن إسلامه. فكان رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم إذ رآه

قال : هذا شريدُ أبي عامر. ورمى أبا عامر أخوان : العلاءُ وأوفى ابنا الحارث ،من بني جُشَم بن معاوية، فأصاب أحدُهما قلبَه ، والآخر ركبتَه ، فقتلاه.

ووَلِيَ الناسَ أبو موسى الأشعري فحمل عليهما فقتلهما، فقال رجل من بني جُشَم بن معاوية يرثيهما:

إن الرزيةَ قَتْلُ العلاءِ   وأوْفَى جميعاً ولم يُسندَا

هما القاتلان أبا عامر   وقد كان ذا هَبَّةٍ أرْبَدَا

هما تركاه لدَى مَعْرَكٍ   كأن على عِطْفِه مُجْسَدَا 

فلم ترَ في الناسِ مِثْلَيْهما   أقلَّ عِثاراً وأرْمَى يدَا

نهيه عليه السلام عن قتل الضفاء  

قال ابن إسحاق : وحدثني بعضُ أصحابنا : أن رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم مر يومئذ بامرأةٍ وقد قتلها خالدُ بن الوليد والناس متقصِّفون عليها،

فقال : ما هذا؟

فقالوا: امرأة قتلها خالد بن الوليد: فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم لبعضِ من معه: أدركْ خالداً، فقل له : إن رسول اللّه ينهاك أن تقتل وليداً أو امرأة أو عَسيفاً .

الشيماء أخت الرسول  

قال ابن إسحاق : وحدثني بعض بني سَعْد بن بكر : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يومئذ : إن قدرتم على بِجاد، رجل من بني سعد بن بكر، فلا يفلتنَّكم ، وكان قد أحدث حدثاً، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله ، وساقوا معه الشيماء، بنت الحارث بن عبد العُزَّى أخت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الرضاعة، فعَنُفُوا عليها في السياق ؛فقالت للمسلمين : تَعلَّموا واللّه أنى لأخت صاحبِكم من الرضاعة ؛ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

إكرامه عليه السلام أخته الشيماء  

قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن عُبيد السَّعدي ،

قال : فلما انتهى بها إلى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم،

قالت : يا رسول اللّه ، إني أختك من الرضاعة،

قال : وما علامة ذلك ؟قالت عَضَّة عَضضْتنيها في ظهري وأنا مُتَورِّ كَتُك

قال : فعرف رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه ، فأجلسها عليه ، وخيرها،

وقال : إن أحببت فعندي مُحبةً مُكْرَمة، وإن أحببت أن أمَتِّعك (ا) وترجعي إلى قومك فعلتُ ، فقالت : بل تُمتعنى وتردني إلى قومي، فمتعها رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم،وردها إلى قومها ؛ فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما له يقال له. مكحول وجارية، فزوجت أحدهما الأخرى، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية.

ما أنزل اللّه في حُنين  

قال ابن هشام : وأنزل اللّه عز وجل في يوم حنين : {لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللّه فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ { إلى قوله : { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } [التوبة: ٢٥،٢٦].

شهداء حنين  

قال ابن إسحاق : وهذه تسمية من استُشهد يوم حنين من المسلمين : من قريش ثم من بني هاشم : أيمن بن عُبيد.

ومن بني أسد بن عبد العُزَّى : يزيد بن زَمَعَة بن الأسود بن المطلب ابن أسد، جَمح به فرس له يقال له الجناح ، فقُتل.

ومن الأنصار : سُراقة بن الحارث بن عدي ،من بني العَجْلان.

ومن الأشعريين : أبو عامر الأشعري.

 سبايا حنين وأموالها: ثم جُمعت إلى رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم سبايا حنين وأموالها، وكان على المغانم مسعود بن عَمرو الغِفاريُّ ، وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالسبايا والأموال إلى الجعْرَانة، فحُبست بها (١) .

شعر بجير يوم حنين :وقال بُجَيْر بن زُهَير بن أبي سُلمَى في يوم حُنين.

لولا الإلهُ وعبدُه وَلَّيتُمُ    حين استخَفَّ الرعبُ كلَّ جبانِ

بالجُزْع يومَ حَبَا لنا أقرانُنا   وسوابح يَكْبُون للأذْقان  

مِن بين ساع ثوبُه في كفِّه   ومُقطَّرٍ بسنابكٍ ولَبانِ  

واللّه أكرمنا وأظهرَ ديننَا    وأعزَّنا بعبادةِ الرحمنِ

واللّه أهلكَهم وفرَّقَ جمعَهم   وأذلَّهم بعبادةِ الشيطانِ

قال ابن هشام : ويَروي فيها بعض الرواة :

إذ قام عَمُّ نبيِّكم ووليُّه    يدعُون : يا لَكتيبةِ الإيمانِ

أين الذين هُمُ أجابوا ربَّهم   يومَ العُرَيضِ وَبيْعةِ الرِّضوانِ

شعر لعباس بن مرداس يوم حنين  

قال ابن إسحاق : وقال. عباس بن مِرْداس في يوم حُنَين :

إنى والسوابحُ يومَ جَمْعٍ   وما يتلو الرسولُ من الكتابِ

لقد أحببتُ ما لَقِيَتْ ثَقيفٌ   بجنْبِ الشِّعْب أمس من العذابِ

هُمُ رأسُ العدوِّ منَ اهْل نجد   فقتلهُمُ أَلَذُّ من الشرابِ

هزمنا الجمعَ جَمْعَ بني قَسِىٍّ   وحَكَّتْ بَرْكَها ببنى رِئابِ

وصِرْماً من هِلالي غادرتْهم   بأوْطاسٍ تُعَفَّرُ بالترابِ

ولو لاقَيْنَ جَمْعَ بني كلابٍ    لقام نساؤهم والنَّقْعُ كابي

رَكَضْنا الخيلَ فيهم بَيْنَ بُس   إلى الأوْرالِ تَنْحِطُ بالنِّهابِ  

بذي لَجَبٍ ، رسولُ اللّه فيهم   كتيبته تَعَرَّضُ للضِّرابِ

قال ابن هشام : قوله " تعفر بالتراب " : عن غير ابن إسحاق.

 عطية بن عفيف النصري يرد على شعر عباس بن مرداس : فأجابه عطية ابن عفيف النصري ، فيما حدثنا ابن هشام ،

فقال :

أفاخِرَةٌ رفاعةُ في حُنَين  وعباسُ ابنُ راضعةِ الّلجابِ

                #      فإنكَ والفِجارَ كذاتِ مِرْطٍ  لرَبَّتِها وتَرْفُلُ في الإهابِ

قال ابن إسحاق : قال عطية بن عفيف هذين البيتين لما اكثر عباس على هوازن في يوم حُنين. ورفاعة من جُهينة.

شعر آخر لابن مرداس في يوم حنين :

قال ابن إسحاق : وقال عباس بن مرداس أيضا :

يا خاتمَ النُبَاءِ إنك مُرْسَلٌ   بالحقِّ كلُّ هُدَى السبيلِ هُدَاكَا

إن الإلهَ بني عليك محبة   في خلقِه ومُحمداً سماكا

ثم الذين وِفُوا بما عاهَدْتَهمْ   جُند بعَثْتَ عليهمُ الضحَّاكَا

رجُلاً به ذرَبُ السلاحِ كأنه   لما تكنَّفه العدوُّ يَراكا

يغشَى ذوي النَّسبِ القريبِ وإنما يبغى رِضَا الرحمنِ ثم رِضَاكَا

أنْبيك أنى قد رأيتُ مَكَرَّهُ   تحتَ العَجاجةِ يَدْمَغُ الإشراكا

                #  طَوْرا يعانقُ باليدين وتارةً يَفْري الجماجمَ صارماً بَتَّاكَا

يغشى به هامَ الكماةِ ولو ترى  منه الذي عاينْت كان شِفَاكَا

وبنو سُلَيم مُعْنِقون أمامَه  ضرباً وطعناً في العدوِّ دِرَاكَا

يمشون تحتَ لوائِه وكأنهمِ  أسْدُ العرينِ أرَدْنَ ثَمَّ عِراكَا

ما يَرْتَجونَ من القريبِ قرابةَ  إلا لطاعةِ رَبِّهم وهَوَاكَا

هَذِي مشاهدُنا التى كانت لنا   معروفةً وَوَلِيُنّاَ مَولاكا

 وقال عباس بن مرداس أيضا :

إِمَّا تَرَىْ يا أمَّ فروةَ خَيْلَنا   منها مُعَطَّلةٌ تُقادُ وظُلَّعُ

أوْهَى مُقَارَعةُ الأعادِي دَمَّها  فيها نوافذُ مِن جِراحٍ تَنْبَعُ

فلَرُبَّ قائلةٍ كفاها وقعُنا   أزْمَ الحروبِ فسِرْبُها لا يُفزَعُ

لا وفد َكالوفدِ الألى عقدوا لنا  سبباً بحبلِ محمدٍ لا يُقطعُ

وفد أبو قطَنٍ : حُزابةُ منهمُ  وأبو الغُيوثِ وواسعٌ والمِقْنَعُ

والقائد المائةَ التى وفَّى بها  تسْعَ المئين فتمَّ ألفٌ أقْرعُ

جمعت بنو عَوْفِ ورهط مُخاشِن ستًّا وأجلبَ من خُفاف أربع

فهناك إذ نُصر النبي بألفِنا   عقدَ النبيُّ لنا لواءً يلمعُ

فُزْنَا برايته وأوْرثَ عَقدُه   مجدَ الحياةِ وسُودَداً لا يُنزعُ

وغداة نحنُ مع النبيِّ جناحُه  ببِطاحِ مكةَ والقَنا يَتَهزَّعُ

كانت إجابتُنا لداعِى رَبِّنا  بالحقِّ منا حاسرٌ ومُقَنَّعُ

في كلِّ سابغةٍ تَخَيَّر سَرْدَها   داودُ إذ نسج الحديدَ وتُبَّعُ  

 ولنا على بِئْري حُنَيْنٍ موكبٌ  دمغَ النفاقَ وهَضْبةٌ ما تُقلَعُ

نُصر النبي بنا وكنا معشراً   في كلِّ نائبةٍ نَضُرُّ وننفعُ

ذُدْنَا غَدَاتَئِذٍ هوازنَ بالقَنا  والخيلُ يغمرُها عَجاجٌ يَسْطعُ

إذ خاف حدَّهم النبيُّ وأسندوا  جمعاً تكاد الشمسُ منه تَخشعُ

تُدْعَى بنو جُشَم وتُدْعَى وَسْطه  أفناءُ نصر والأسنةُ شُرَّعُ  

حتى إذا قال الرسولُ محمدٌ   أبنى سُلَيْمٍ قد وفيتمْ فارفعوا

رُحنا ولولا نحنُ أجْحَفَ بأسُهم  بالمؤمنين وأحْرزوا ما جَمَّعوا  

قال عباس بن مرداس أيضا في يوم حُنين :

عَفا مِجْدَلٌ من أهلِه فَمُتالعُ  فَمِطْلا أرِيكٍ قد خلا فالمصَانعُ 

ديارٌ لنا يا جُمْلُ إذ جُلُّ عيشِنا  رَخِىٌّ وصرف الدارللحىِّ جامعُ  

حُبَيَبةٌ ألْوَتْ بها غُربةُ النَّوَى لِبَيْن فهل ماضٍ من العيشِ راجعُ

فإن تبتغى الكفار غير  ملومة فإنى وزير للنبى وتابع

دعاني إليهم خيرُ وفدٍ علمتُهم  خُزَيمةُ والمَرَّارُ منهم وواسعُ  

فجئنا بألفٍ من سُلَيْمٍ عليهمُ  لَبُوس لهم من نَسْجِ داودَ رائعُ

نبايعه بالأخْشَبَيْنِ وإنما   يَد اللّه بينَ الأخشَبين نُبايعُ

فجُسنا مع المهديِّ مكةَ عَنوةً   بأسيافِنا والنقعُ كابٍ وساطعُ 

عَدَنِية والخيلُ يغشَى متونَها   حميمٌ وآنٍ من دمِ الجوْفِ ناقعُ  

ويوم حُنين حين سارت هَوازنٌ   إلينا وضاقت بالنفوسِ الأضالعُ

صَبَرنا مع الضحَّاكِ لا يستفِزُّنا   قِرَاعُ الأعادِي منهمُ والوقائعُ

أمامَ رسولِ اللّه يخفِقُ فوقَنا   لواء كخُذْروفِ السحابةِ لامعُ  

عشيةَ ضحاكُ بنُ سُفيان مُعْتَصٍ بسيفِ رسولِ اللّه والموتُ كانعُ  

نَذُود أخانا عن أخينا ولو نرى  مَصَالاً لكنا الأقربين نُتابعُ

ولكنَّ دينَ اللّه دينُ محمدٍ   رضينا به ، فيه الهدى والشرائعُ

أقام به بعدَ الضلالةِ أمرَنا  وليس لأمر حَمَّهُ اللّه دافعُ

وقال عباس بن مرداس أيضا في يوم حُنين :

تَقَطَّع باقي وَصْل أم مُؤَمَّل   بعاقبةٍ واستبدَلَت نيةً خُلْفَا 

وقد حَلَفتْ باللّه لا تقطَعُ القُوَى  فما صدقتْ فيه ولا بَرَّتِ الحَلْفَا

خُفَافِيَّة بطنُ العقيق مَصيفُها  وتحتلُّ في البادينَ وجْرَةَ فالعُرْفَا

فإن تتبعِ الكفارَ أَمُ مُؤَمَّلٍ   فقد زَوَّدتْ قلبى على نأيها شَغْفَا

وسوف يُنْبيها الخبيرُ بأننا  أبيْنا ولم نطلبْ سوى ربِّنا حِلْفاِ

وأنّا مع الهادي النبي محمدٍ  وفيْنا ولم يستوْفِها مَعشرٌ الفا

بفتيانِ صِدْقٍ من سُلَيمٍ أعزةٍ  أطاعوا فما يَعْصون من أمرِه حَرْفَا

خُفافٌ وذَكوانٌ وعَوْف تخالهم  مَصَاعِبَ زافَتْ في طَروقَتِها كُلْفا

كأن النسيجَ الشُّهْبَ والبيضَ مُلْبَسٌ أسُوداً تلاقتْ في مَراصدِها غُضْفَا

بنا عَزَّ دينُ اللّه غيرَ تنحُّلٍ  وزدناعلى الحيِّ الذي معه ضِعْفَا

بمكةَ إذ جِئنا كأن لواءَنا   عقابٌ أرادت بعد تحليقِها خَطْفَا

على شُخَّص الأبصارِ تحسب بينَها إذا هى جَالت في مراودِها عَزْفَا  

غداةَ وَطِئنا المشركين ولم نَجدْ  لأمرِ رسولِ اللّه عَدْلاً ولا صَرْفَا

بمعْتَرِكٍ لا يسمع القومُ وَسْطَه  لنا زَجْمة إلا التذامُرَ والنَّقْفَا

ببيضٍ تطيرُ الهامَ عن مستقرِّها  ونقطفُ أعناقَ الكُماةِ بها قَطْفَا

فكائنٌ تركنا من قتيلٍ مُلَحَّبٍ  وأرملةٍ تدعو على بعلِها لَهْفَا

رِضا اللّه ننوي لارضا الناسِ نبتغى وللّه ما يبدُو جميعاً وما يَخْفَى

 وقال عباس بن مرداس أيضا :

ما بالُ عَينِك فيها عائرٌ سَهِرُ مِثلَ الحَماطَةِ أغْضَى فوقها الشُّفُرُ .

عَينٌ تأوَّبها من شَجْوِها أرقٌ  فالماءُ يغمرُها طَوْراً وينحَدر

كأنه نَظْمُ دُرٍّ عَند نَاظِمةٍ   تَقَطّعُ السِّلكُ منه فهو مُئْنَثِرُ

يا بُعدَ منزلِ مَن ترجو مودَّتَه  ومن أتى دونَه الصَّمانُ فالحَفَرُ،

 دَعْ ما تقدَّم من عهدِ الشبابِ فقد

ولَّى الشبابُ وزار الشَّيبُ والزَّعرُ

واذكرْ بلاءَ سُلَيْم في مواطِنها

وفي سُلَيْمٍ لأهل الفخر مُفتخَرُ

قومٌ هُمُ نصروا الرحمنَ واتَّبعو

 دينَ الرسولِ وأمرُ الناس مُشْتَجِرُ  

 لا يَغْرسونَ فَسِيلَ النخلِ وَسْطَهمُ

لا تُخاوَرُ في مَشْتاهُمُ البقرُ 

إلا سوابحَ كالعِقبانِ مُقْرَبةٌ

في دارةٍ حولَها الأخطارُ والعَكرُ

 تُدْعَى خُفافٌ وعَوفٌ في جوانِبها

 وحَيُّ ذكوانَ لاميلٌ ولاضُجُرُ

 الضاربون جنودَ الشركِ ضاحيةً

ببطنِ مكةَ والأرواحُ تَبتدرُ

حتى دفعنا وقتلاهُم كأنهُمُ

نخل بظاهرةِ البطحاءِ مُنْقَعِرُ

ونحن يومَ حُنينٍ كان مشهدُنا

 للدِّينِ عِزّاً وعندَ اللّه مُدَّخَرُ.

إذ نركبُ الموتَ مُخْضَرّاً بطائنُه

والخيلُ ينجابُ عنها ساطعٌ كَدِرُ

تحتَ اللواءِ مع الضحَّاكِ يَقدُمُنا

كما مَشى الليثُ في غاباتِه الخَدِرُ

في مأزقٍ من مَجَرِّ الحربِ كَلْكَلُها

تكادُ تأفِل منه الشمسُ والقمرُ 

وقد صَبَرنا بأوطاسٍ أسِنَتّنَا

للّه ننصرُمن شِئناوننتصرُ

حتى تأوَّبَ أقوام منازلَهم

لولا المليكُ ولولا نحن ما صَدَرُوا لا

فما ترى مَعشراً قَلّوا ولا كَثُروا في

إلا قد اصْبحَ منا فيهمُ أثرُ

وقال عباس بن مرداس أيضاً :

يأيها الرجلُ الذي تَهْوِي به   وَجْناءُ مُجْمَرَةُ المناسم عِرْمِسُ  ،

إمَّا أتيتَ على النبي فقلْ له   حقا عليك إذا اطمأنًّ المجلس

يا خيرَ من رَكِبَ المِطيَّ ومشى  فوقَ الترابِ إذا تُعَدُّ الأنفُسُ

إنا وَفَيْنا بالذي عاهدْتَنا والخيلُ  تُقْدَعُ بالكُماةِ وتُضْرَسُ

إذ سال من أفناءِ بُهْثةَ كُلِّها جمغ  تَظَلُّ به المخارِمُ تَرْجُسُ 

حتى صَبَحْنا أهلَ مكةَ فَيْلقاً  شَهباءَ يقدُمُها الهُمامُ الأشْوَسُ

مِن كل أغنَبَ من سُلَيْم فوِقَه  بيضاءُمُحْكَمةُ الدخالِ وقَوْنَسُ

يروِي القناةَ إذا تجاسرَ في الوغى وتَخالُه أسَداً إذا ما يَعْبِسُ

يغشَى الكتيبةَ مُعلِماً وبكفِّه  عَضْبٌ يَقُدُّبه ولَدْنٌ مِدْعَسُ

وعلى حُنَينٍ قد وفَى من جَمعِنا ألفٌ أمِدَّ به الرسولُ عَرَنْدَسُ 

كانوا أمامَ المؤمنين دَريئةً   والشمسُ يومئذ عليهمْ أشمسُ

نمضي ويحرسنُا الإلهُ بحفظِه   واللّه ليسَ بضائع من يَحْرسُ

ولقد حُبسنا بالمناقِبِ مَحْبِساً  رَضِىَ الِإلهُ به فنعمَ المحبِسُ

وغَداةَ أوطاس شَدَدْنا شَدةً كفَتِ  العدوَّ وقيل منها: يا احبسوا

تدعو هوازنُ بالِإخاوةِ بينَنا   ثَدْيٌ تمُد به هوازنُ أيبسُ

حتى تركنا جمعَهم وكأنه   عَيْرٌ تعاقبه السباعُ مُفَرَّسُ

قال ابن هشام : أنشدني خلف الأحمر قوله : " وقيل منها يا احبسوا ".

قال ابن إسحاق : وقال عباس بن مرداس أيضا :

نَصَرْنا رسولَ اللّه من غَضَب له  بألفِ كَمِيٍّ لا تُعَدُّ حواسِرُهْ

حَمَلنا له في عاملَ الرّمحَ رايةً  يذودُ بها في حَوْمَةِ الموتِ ناصرُهْ 

ونحن خَضَبْناها دَماً فهْوَ لونُها   غَداةَ حُنين يومَ صفوان شاجِرُهْ

وكنا على الِإسلام مَيْمنةً له   وكان لنا عَقدُ اللواءِ وشاهِرُهْ

وكنا له دونَ الجنودِ بطانةً  يشاورنا في أمرِه ونشاورُهْ

دعانا فسَمَّانا الشِّعَارَ مُقدَّماً   وكنا له عَوْناً على من يناكرهْ .

جزى اللّه خيراً من نبىٍّ محمداً   وأيده بالنصرِ واللّه ناصرُهْ

قال ابن هشام : أنشدني من قوله : " وكنا على الِإسلام " إلى آخرها، بعضُ أهل العلم بالشعر، ولم يعرف البيت الذي أوله : " حملنا

 له في عامل الرمح راية " وأنشدني بعد قوله : " وكان لنا عقد اللواء وشاهره "، " ونحن خضبناه دما فهو لونه ".

قال ابن إسحاق : وقال عباس بن مرداس أيضاً :

مَنْ مُبلِغ الأقوامَ أن محمداً   رسولُ الِإلهِ راشدٌ حيثُ يَمَّمَا

دعا ربَه واستنصر اللّه  وحدَه فأصبح قد وفَّى إليه وأنْعَمَا

سَرَيْنا وواعدْنا قديداً محمداً   يَؤُمُّ بنا أمراً من اللّه مُحْكَمَا

تمارَوْا بنا في الفجرِ حتى تبينوا مع الفجرِ فِتيانا وغاباَ مُقَوَّمَا

على الخيلِ مشدوداً علينا دُروعُنا ورَجْلاً كدُفَّاع الآتىِّ عَرَمْرَمَا  

فإن سَراةَ الحىِّ إن كنتَ سائلاً  سُلَيْم وفيهم منهمُ من تَسَلَّما

وجندٌ من الأنصارِ لا يخذلونه  أطاعوا فما يعصونَه ما تَنهَلَّمَا

فإن تكُ قد أمَّرت في القوم   خالداً وقدَّمتَه فإنه قد تَقَدَّما

بجُنْدٍ هَداه اللّه أنت أميرُه  تُصيبُ به فيِ الحقِّ من كان أظلمَا

حَلَفتُ يميناً بَرَّةً لمحمدٍ  فأكملتُها ألفاَمن الخيلِ مُلْجَمَا

وقال نبيُّ المؤمنين تقدَّموا   وحُبَّ إلينا أن نَكونَ المُقَدَّمَا

وبتنا بنَهْى المستديرِ ولم يكن  بنا الخوفُ إلا رَغبةً وتحَزُّمَا

أطعناك حتى أسلم الناسُ كلُّهم وحتى صَبحْنا الجمعَ أهلَ يَلَمْلَمَا

يَضِلُّ الحصانُ الأبلقُ الوَرْدُ وَسْطَه ولا يطمئنُّ الشيخُ حتى يُسَوَّما  

سَمونا لهم وِرْدَ القَطا زَفَّهُ ضُحىٍ وكل تراه عن أخيه قد احْجَما  

لَدُنْ غُدْوَة حتى تركنا عَشية حُنَينا وقد سالت دوافعُه دَمَا

إذا شئتَ مِن كل رأيتَ طِمِرَّةً وفارسَها يهوي ورُمحاً مُحَطَّمَا

وقد أحرزَتْ منا هَوازنُ سَرْبَها وحُبَّ إليها أن نَخيبَ ونُحرَمَا  

شعر ضمضم بن الحارث في يوم حنين :

قال ابن إسحاق : وقال ضمضم  ببن الحارث بن جُشَم بن عبْد بن حبيب بن مالك بن عَوْف بن يَقَظة بن عُصَيَّة السُّلَمى في يوم حنين : وكانت ثقيف أصبابت كِنانة بن الحكم بن خالد بن الشَّريد، فقتل به مِحْجناً وابنَ عم له ، وهما من ثقيف :

نحن جلبنا الخيلَ من غير مَجْلَبٍ إلى جُرش من أهلِ زيَّانَ

والفَمِ نُقتِّلُ أشبالَ الأسودِ ونبتغى طواغِىَ كانت قبلَنا لم تُهدَّمِ

فإن تفخَروا بابنِ الشريدِ فإننى  تركتُ بِوَجٍّ مأتماً بعدَ مأتم

أبأتُهما بابنِ الشريدِ وغَرَّه جُواركمُ وكان غيرَ مُذَمَّم

 تُصيب رجالا من ثقيفٍ رماحُنا وأسيافُنا يَكْلِمْنَهُمْ كلَّ مَكْلَم

وقال ضَمْضم بن الحارث أيضا :

أبلغْ لديْكَ ذَوِي الحلائِل ايةً  لا تأمنَنَّ الدهرَ ذاتَ خِمارِ

بعدَ التى قالت لجارةِ بيتهَا  قد كنتُ لو لَبِثَ الغَزِيُّ بدارِ

لما رأت رجُلاً تسَفَّعَ لونُه  وغْرُ المَصِيفةِ والعظامُ عواري

مُشُطَ العظام تراه اخرَ ليلِه   مُتسربلاً في دِرعه لِغوارِ

إذ لا أزال على رحالةِ نَهدَةٍ  جَرداءَ تُلحِقُ بالنجادِ إزارِي  

يوماً على أثرِ النِّهابِ وتارة  كُتبتْ مُجاهدةً مع الأنصارِ

وزُهاءَ كل خميلةٍ أزهَقْتُها  مَهَلاً تَمهَّلَهُ وكلِّ خَبارِ

كَيْما أغَير ما بها من حَاجةٍ  وتَودُّ أنى لا أؤوب فَجَارِ

شعر أبي خراش يرثى ابني  عمه زهير بن العجوة :

قال ابن هشام : حدثني أبو عُبيدة،

قال : اسر زهير بن العجوة الهُذلى يوم حُنين ،فكُتف فراه جميل بن مَعْمر الجُمَحي ،

فقال له : أأنت الماشى لنا بالمغايظ ؟ فضرب عنقه ؟ فقال أبو خِراش الهذَلى يرثيه ، وكان ابن عمه.

 عَجَّف أضيافى جميلُ بنُ مَعْمَير بذي فَجَرِ تأوِي إليه الأراملُ

 طويل نِجاد السيفِ اليس بجَيْدَرٍ.إذا اهتزَّ واسترختْ عليه الحمائلُ

تكاد يداه تُسلمان إزارَه من   الجودِ بما أذْلقته الشَّمائلُ

إلى بببه يأوي الضَّريكُ إذا شتا ومُسْتنبِح بالى الدريسين عائلُ 

تروَّح مقروراً وهبت عشية   لها حدب تَحْتَثُّهُ فيُوَائلُ

لا فما بالُ أهلِ الدارِ بم يتصدَّعوا وقد بان منها اللوْذَعيُّ الحُلاحِلُ

فأقسمُ لو لاقيته غيرَ مُوثَقٍ  لابك بالنَّعفِ الضّباعُ الجيائلُ

وإنك لو واجهتَه إذ لَقيتَه   فنازلتَه أو كنتَ ممن يُنازلُ

لظل جميلٌ أفحشَ القوم صِرْعَةً ولكنَّ قِرْنَ الظهرِ للمرءِ شاغلُ

فليس كعهدِ الدارِ يا أَمَّ ثابتٍ   ولكن أحاطت بالرِّقابِ السلاسلُ

وعاد الفتى كالشيْخِ ليس بفاعلٍ  سوى الحق شيئاً واستراح العواذلُ

وأصبح إخوانُ الصفاءِ كأنما   أهالَ عليهم جانبُ الترْبِ هائلُ

فلا تحسبي أنى نسيتُ ليالياً بمكةَ إذا لم نَعْدُ عما نحاول

إذ الناسُ ناس والبلادُ بغرَّةٍ وإذ نحن لا تُثْنَى علينا المداخلُ

شعر مالك بن عوف يعتذر عن فراره يوم حنين :

قال ابن إسحاق : وقال مالك بن عوف وهو يعتذر يومئذ من فراره :

منعَ الرقادَ فما أغمِّض ساعةً نِعَمٌ بأجزاعِ الطريقِ مُخَضرَمُ

سائلْ هوازنَ هل أضُرُّ عدوَّها وأعين غارمَها إذا ما يَغْرَمُ

وكتيبة لَبَّسْتُها بكتيبةٍ فِئَتيْن منها حاسرٌ ومُلأمُ

ومُقدَّم تعيا النفوسُ لِضيقِه قدمتُه وِشهودُ قوِمى أعلمُ

فورَدْته وتركتُ إخواناً له يَرِدُونَ غمْرته وغمْرته الدمُ

فإذا انجلت غمَراتُه أورثْننى مجدَ الحياةِ ومجدَ غُنْم يُقْسَمُ

كلفتمونى ذنبَ الِ محمدٍ واللّه أعلم مَنْ أعَقُّ وأَظْلمُ

وخذلتمونى إذ أقاتل واحداً وخذلتموني إذ تقاتلُ خَثْعَمُ

وإذا بنيتُ المجدَ يهدمُ بعضُكم لا يستوي بانٍ واخَرُ يهدِمُ

وأقَبَّ مِخْماصِ الشتاء مُسارع في المجدِ يَنْمَى

للعُلَى متكَرِّمُاكرهتُ فيه ألَّةً يَزَنية سَمْحَاءَ يقدُمهاسِنانٌ سَلْجَمُ

وتركت حَنَّتهُ تَرُدَّ وليَّه وتقولُ ليسَ عَلى فُلانة مَقْدمُ

ونصبتُ نفسي للرماحِ مُدَجَّجاً مِثلَ الدريةِ تُستحل وتُشْرَمُ

شعر لرجل من هوازن يذكر سلام قومه بعد الهزيمة :

قال ابن إسحاق : وقال قائل في هوازن أيضا، يذكر مسيرهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع ممالك بن عوف بعد إسلامه :

أذكرْ مسيرَهم للناسِ إذ جَمعوا  ومالكٌ فوقَه الراياتُ تَخْتفِقُ

ومالكٌ مالكٌ ما فوقَه أحدٌ   يومَ حُنَين عليه التاج يأتلِقُ

حتى لقُوا الناسَ حين البأس يَقْدُمُهمِ عليهمُ البيضُ والأبدانُ والدرَق

فضارَبوا الناسَ حتى لم يَرَوْا أحداَ  حولَ النبي وحتى جَنَّه الغَسقُ

ثُمَّتَ أنزل جبريلٌ بنصرِهمُ من  السماءِ فمهزومٌ ومُعتَنقُ  

منا ولو غيرُ جبريلٍ يقاتلنا لمنَّعَتْنا  إذنْ أسيافُنا العُتُقُ

وفاتنا عمرُ الفاروقُ إذ هزُموا بطعنةٍ بلَّ منها سَرْجَه العَلقُ   

 شعر امرأة من جشم ترثي أخوين لها أصيبا يوم حنين : وقالت لا امرأة من بني جشم ترثى أخوَيْن لها أصيبا يوم حنين :

أعينَىَّ جُودَا على مالكء معاً  والعلاءِ ولا تَجْمُدَا.ً

هما القاتلان أبا عامر وقد   كان ذا هَبَّةٍ أربدَا

هما تركاه لدى مُجْسَدٍ ينوءُ   نزيفاً وما وُسِّدا 

شعر زيد بن صحار في هجاء قريش : وقال أب وثواب زيدُ بن صُحار؛أحد بني سعد بن بكر:

ألا هل أتاك أن غَلَبَتْ قريشٌ هوازنَ والخُطُوبُ لها شروطُ

وكنا يا قريشُ إذا غَضبنا يجىءُ من الغِضابِ دَمٌ عبيطُ 

وكنا يا قريشُ إذا غَضبنا   كأن أنوفَنا فيها سَعوطُ

فأصبحنا تُسَوِّقنا قريشٌ   سياقَ العيرِ يحدوها النَّبيطُ   

فلا أنا إن سُئلتُ الخسف آبٍ  ولا أنا إن ألينَ لهم نَشيطُ

 سَيُنقلُ لحمُها في كلِّ فَجٍّ   وتُكتَب في مسامِعها القُطوطُ  

ويُروى " الخطوط "، وهذا البيت في رواية أي سعد.

قال ابن هشام :

ويقال : أبو ثواب زياد بن ثواب. وأنشدنى خلف الأحمر قوله : " يجيء من الغضابِ دمٌ عبيط "، واخرها بيتا عن غير ابن إسحاق.

عبد اللّه بن وهب يرد على شعر زيد بن صحار :

قال ابن إسحاق : فأجابه عبد اللّه بنوهب ، رجل من بني تميم ، ثم من بني أسيد ،

فقال :

بشَرْطِ اللّه نضرِبُ من لَقينا كأفْضلِ ما رأيتَ من الشروطِ

وكنا يا هوازنُ حين نَلقَى نَبَلُّ الهامَ من عَلَقٍ عبيطِ

بجمْعِكمُ وجمعِ بني قَسِىٍّ نَحُكُّ البَرْكَ كالورقِ الخبيطِ   

أصبنا من سراتِكُمُ ومِلنا   بقتل في المُباينِ والخليطِ  

به المُلتاثُ مُفترِلقٌ يديه   يَمُجُّ الموتَ كالبَكرِ النَّحيطِ  

فإن تك قَيْسُ عَيْلانٍ    غِضابأ فلا ينفَكُّ يُرغمهمْ سُعوطِى

 شعر خديج بن العوجاء في يوم حنين :

وقال خديج بن العَوْجاء النَّصْري

لما دَنَوْنا من حُنَيْنٍ ومائِه  رأينا سَواداً مُنكَرَ اللونِ أخْصَفَا

بملمومَة شَهْباءَ لو قَذفوا بها شماريخَ من عُزْوَى إذنْ عاد صَفْصَفَا

ولو أن قومى طاوعتني سَرَاتُهم إذن لما لَقينا المعارضَ المتكشِّفَا

إذنْ مالقَيناجنْدَالِ محمدٍ   ثمانين ألفاً واستمدوا بخندفا

ذكر غزوة الطائف

بعد حنين في سنة ثمان

 فلول ثقيف ‏

ولما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها ، وصنعوا الصنائع للقتال ‏.‏

 المتخلفون عن حنين والطائف ‏:‏

و لم يشهد حنينا ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ، ولا غيدن بن سلمة ، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور ‏.‏

 شعر كعب بن مالك في غزوة الطائف

ثم سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف حين فرغ من حنين ؛ فقال كعب بن مالك ، حين أجمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السير إلى الطائف ‏:‏

قضينا من تهامة كل ريب * وخيبر ثم أجممنا السيوفا

نخيرها ولو نطقت لقالت * قواطعهن ‏:‏ دوسا أو ثقيفا

فلست لحاضن إن لم تروها * بساحة داركم منا ألوفا

وننتزع العروش ببطن وج * وتصبح دوركم منكم خلوفا

ويأتيكم لنا سرعان خيل * يغادر خلفه جمعا كثيفا

إذا نزلوا بساحتكم سمعتم * لها مما أناخ بها رجيفا

بأيديهم قواضب مرهفات * يزرن المصطلين بها الحتوفا

كأمثال العقائق أخلصتها * قيون الهند لم تضرب كتيفا

تخال جدية الأبطال فيهم * غداة الزحف جادياً مدوفا

أجدهم أليس لهم نصيح * من الأقوام كان بنا عريفا

يخبرهم بأنا قد جمعنا * عناق الخيل والنجب الطروفا

وأنا قد أتيناهم بزحف * يحيط بسور حصنهم صفوفا

رئيسهم النبي وكان صلبا * نقي القلب مصطبرا عزوفا

رشيد الأمر ذو حكم وعلم * وحلم لم يكن نزقا خفيفا

نطيع نبينا ونطيع رباً * هو الرحمن كان بنا رءوفا

فإن تلقوا إلينا السلم نقبل * ونجعلكم لنا عضدا وريفا

وإن تأبوا نجاهدكم ونصبر * ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا

نجالد ما بقينا أو تنيبوا * إلى الإسلام إذعانا مضيفا

نجاهد لا نبالي من لقينا * أأهلكنا التلاد أم الطريفا

وكم من معشر ألبوا علينا * صميم الجذم منهم والحليفا

أتونا لا يرون لهم كفاء * فجدعنا المسامع والأنوفا

بكل مهند لين صقيل * يسوقهم بها سوقا عنيفا

لأمر اللّه والإسلام حتى * يقوم الدين معتدلا حنفيا

وتنسى اللات والعزى وود * ونسلبها القلائد والشنوفا

فأمسوا قد أقروا واطمأنوا * ومن لا يمتنع يقبل خشوفا

كنانة بن عبد ياليل يرد على كعب بن مالك ‏:‏

فأجابه كنانة ابن عبد ياليل بن عمرو بن عمير ، فقال ‏:‏

من كان يبغينا يريد قتالنا * فإنا بدار معلم لانريمها

وجدنا بها الأباء من قبل ما ترى * وكانت لنا أطواؤها وكرومها

وقد جربتنا قبل عمرو بن عامر * فأخبرها ذو رأيها وحليمها

وقد علمت إن قالت الحق أننا * إذا ما أبت صعر الخدود نقيمها

نقومها حتى يلين شريسها * ويعرف للحق المبين ظلومها

علينا دلاص من تراث محرق * كلون السماء زينتها نجومها

نرفهها عنا ببيض صوارم * إذا جردت في غمرة لا نشيمها

 شعر شداد بن عارض في المسير إلى الطائف  

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال شداد بن عارض الجشمي في مسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف ‏:‏

لا تنصروا اللات إن اللّه مهلكها * وكيف ينصر من هو ليس ينتصر

إن التي حرقت بالسد فاشتعلت * ولم يقاتل لدى أحجارها هدر

إن الرسول متى ينزل بلادكم * يظعن وليس بها من أهلها بشر

 الطريق إلى الطائف  

قال ابن إسحاق ‏:‏ فسلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على نخلة اليمانية ، ثم على قرن ، ثم على المليح ، ثم على بحرة الرغاء من لية ، فابتنى بها مسجداً فصلى فيه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عمرو بن شعيب ‏:‏ أنه أقاد يومئذ ببحرة الرغاء ، حين نزلها ، بدم ، وهو أول دم أقيد به في الإسلام ، رجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل ، فقتلته به ‏.‏

وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو بلية ، بحصن مالك بن عوف فهدم ، ثم سلك في طريق يقال لها الضيقة ، فلما توجه فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأل عن اسمها ، فقال ‏:‏ ما اسم هذه الطريق ‏؟‏

فقيل له ‏:‏ الضيقة ، فقال ‏:‏ بل هي اليسرى ، ثم خرج منها على نخب ، حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة ‏:‏ قريباً من مال رجل من ثقيف ، فأرسل إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ إما أن تخرج ،

وإما أن نخرب عليك حائطك ؛ فأبى أن يخرج ، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأخرابه ‏.‏

ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نزل قريباً من الطائف ، فضرب به عسكره ، فقتل به ناس من أصحابه بالنبل ، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف ، وكانت النبل تنالهم ، ولم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطهم ، أغلقوه دونهم ؛ فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل وضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم ، فحصرهم بضعاً وعشرين ليلة ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ ويقال ‏:‏ سبع عشرة ليلة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ومعه امرأتان من نسائه ، إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية ، فضرب لهما قبتين ، ثم صلى بين القبتين ‏.‏

ثم أقام ، فلما أسلمت ثقيف بني على مصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمرو بن أمية بن وهب بن معتب ابن مالك مسجداً ، وكانت في ذلك المسجد سارية ، في ما يزعمون ، لا تطلع الشمس عليها يوماً من الدهر إلا سمع لها نقيض ، فحاصرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقاتلهم قتالاً شديداً وتراموا بالنبل ‏.‏

 أول من رمى بالمنجنيق في الإسلام

قال ابن هشام ‏:‏ ورماهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمنجنيق ‏.‏

حدثني من أثق به ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق ، رمى أهل الطائف ‏.‏

 يوم الشدخة

قال ابن إسحاق ‏:‏ حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف ، دخل نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحت دبابة ، ثم زحفوا إلى جدار الطائف ليخرقوه ، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار ، فخرجوا من تحتها ، فرمتهم ثقيف بالنبل ، فقتلوا منهم رجالاً ، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف ، فوقع الناس فيها يقطعون ‏.‏

 أبو سفيان بن حرب والمغيرة يتفاوضان مع ثقيف

وتقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة إلى الطائف ، فناد يا ثقيفاً ‏:‏ أن أمنونا حتى نكلمكم فأمنوهما ، فدعوا نساء من نساء من قريش وبني كنانة ليخرجن إليهما ، وهما يخافان عليهن السباء ، فأبين ، منهن آمنة بنت أبي سفيان ، كانت عند عروة بن مسعود ، له منها داود بن عروة ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ ويقال إن أم داود ميمونة بنت أبي سفيان ، كانت عند أبي مرة بن عروة بن مسعود ، فولدت له داود بن مرة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ والفراسية بنت سويد بن عمرو بن ثعلبة ، لها عبدالرحمن بن قارب ، والفقيمية أميمة بنت الناسي أمية بن قلع ؛ فلما أبين عليهما ، قال لهما ابن الأسود بن مسعود ‏:‏ يا أبا سفيان ويا مغيرة ، ألا أدلكما على خير مما جئتما له ، إن مال بني الأسود بن مسعود حيث قد علمتما ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينه وبين الطائف ، نازلا بواد يقال له العقيق ، ليس بالطائف مال أبعد رشاء ، ولا أشد مؤنة ، ولا أبعد عمارة من مال بني الأسود ، وإن محمداً إن قطعه لم يعمر أبداً ، فكلماه فليأخذ لنفسه ، أو ليدعه للّه والرحم ، فإن بيننا وبينه من القرابة ما لا يجهل ؛ فزعموا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تركه لهم ‏.‏

 أبو بكر يفسر رؤيا الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

وقد بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق ‏:‏ وهو محاصر ثقيفاً ‏:‏ يا أبا بكر ، إني رأيت أني أهديت لي قعبة مملوءة زبداً ، فنقرها ديك ، فهراق ما فيها ‏.‏ فقال أبو بكر ‏:‏ ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد ‏.‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ وأنا لا أرى ذلك ‏.‏

 ارتحال المسلمين عن الطائف

ثم إن خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية ، وهي امرأة عثمان ،

قالت ‏:‏ يا رسول اللّه ، أعطني إن فتح اللّه عليك الطائف حلي بادية بنت غيلان بن مظعون بن سلمة ، أو حلي الفارعة بنت عقيل ، وكانتا من أحلى نساء ثقيف ‏.‏

فذكر لي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لها ‏:‏ وإن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة ‏؟‏ فخرجت خويلة ، فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب ، فدخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال يا رسول اللّه ‏:‏ ما حديث حدثتنيه خويلة ، زعمت أنك قتله ‏؟‏

قال ‏:‏ قد قلته ؛

قال ‏:‏ أو ما أذن لك فيهم يا رسول اللّه ‏؟‏

قال ‏:‏ لا ‏.‏

قال ‏:‏ أفلا أؤذن بالرحيل ‏؟‏

قال ‏:‏ بلى ‏.‏

قال ‏:‏ فأذن عمر بالرحيل ‏.‏

 عيينة بن حصن وما كان يرغب فيه من نساء ثقيف

فلما استقام الناس نادى سعيد بن عبيد بن أسيد بن أبي عمرو بن علاج ‏:‏ ألا إن الحي مقيم ‏.‏

قال ‏:‏ يقول عيينة بن حصن ‏:‏ أجل ، واللّه مجدة كراماً ؛ فقال له رجل من المسلمين ‏:‏ قاتلك اللّه يا عيينة ، أتمدح المشركين بالامتناع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقد جئت تنصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏!‏

فقال ‏:‏ إني واللّه ما جئت لأقاتل ثقيفاً معكم ، ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف ، فأصيب من ثقيف جارية أتطئها ، لعلها تلد لي رجلاً فإن ثقيفاً قوم مناكير ‏.‏

 عبيد الطائف ينزلون إلى المسلمين

ونزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في إقامته ممن كان محاصراً بالطائف عبيد ، فأسلموا ، فأعتقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

 عتقاء ثقيف  

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني من لا أتهم ، عن عبداللّه بن مكدم ، عن رجال من ثقيف ، قالوا ‏:‏ لما أسلم أهل الطائف تكلم نفر منهم في أولئك العبيد ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ لا ، أولئك عتقاء اللّه ؛ وكان ممن تكلم فيهم الحارث بن كلدة ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ وقد سمى ابن إسحاق من نزل من أولئك العبيد ‏.‏

 شعر للضحاك بن سفيان وسببه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كانت ثقيف أصابت أهلا لمروان بن قيس الدوسي ، وكان قد أسلم ، وظاهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ثقيف ، فزعمت ثقيف ، وهو الذي تزعم به ثقيف أنها من قيس ‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لمروان بن قيس ‏:‏ خذ يا مروان بأهلك أول رجل من قيس تلقاه ، فلقي أبي بن مالك القشيري ، فأخذه حتى يؤدوا إليه أهله ، فقام في ذلك الضحاك بن سفيان الكلابي ، فكلم ثقيفاً حتى أرسلوا أهل مروان ، وأطلق لهم أبي بن مالك ، فقال الضحاك بن سفيان في شيء كان بينه وبين أبي بن مالك ‏:‏

أتنسى بلائي يا أبي بن مالك * غداة الرسول معرض عنك أشوس

يقودك مروان بن قيس بحبله * ذليلا كما قيد الذلول المخيس

فعادت عليك من ثقيف عصابة * متى يأتهم مستقبس الشر يقبسوا

فكانوا هم المولى فعادت حلومهم * عليك وقد كادت بك النفس تيأس

قال ابن هشام ‏:‏ يقبسوا عن غير ابن إسحاق ‏.‏

 الشهداء يوم الطائف  

قال ابن إسحاق ‏:‏ وهذه تسمية من استشهد من المسلمين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الطائف ‏.‏

من قريش ‏

من قريش ، ثم من بني أمية بن عبد شمس ‏:‏ سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية ، وعرفطة بن جناب ، حليف لهم ، من الأسد بن الغوث ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ ويقال ‏:‏ ابن حباب ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ومن بني تيم بن مرة ‏:‏ عبداللّه بن أبي بكر الصديق ، رمى بسهم ، فمات منه بالمدينة بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

ومن بنى مخزوم ‏:‏ عبداللّه بن أبي أمية بن المغيرة ، من رمية رميها يومئذ ‏.‏

ومن بني عدي بن كعب ‏:‏ عبداللّه بن عامر بن ربيعة ، حليف لهم ‏.‏

ومن بني سهم بن عمرو ‏:‏ السائب بن الحارث بن قيس بن عدي ، وأخوه عبداللّه بن الحارث ‏.‏

ومن بني سعد بن ليث ‏:‏ جليحة بن عبداللّه ‏.‏

واستشهد من الأنصار ‏:‏ من بني سلمة ‏:‏ ثابت بن الجذع ‏.‏

ومن بني مازن بن النجار ‏:‏ الحارث بن سهل بن أبي صعصعة ‏.‏

ومن بني ساعدة ‏:‏ المنذر بن عبداللّه ‏.‏

ومن الأوس ‏:‏ رقيم بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان بن معاوية ‏.‏

فجميع من استشهد بالطائف من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اثنا عشر رجلاً ، سبعة من قريش ، وأربعة من الأنصار ، ورجل من بني ليث ‏.‏

 قصيدة بجير بن زهير في حنين والطائف

فلما انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الطائف بعد القتال والحصار ، قال بجير بن زهير بن أبي سلمى يذكر حنيناً والطائف ‏:‏

كانت علالة يوم بطن حنين * وغداة أوطاس ويوم الأبرق

جمعت بإغواء هوازن جمعها * فتبددوا كالطائر المتمزق

لم يمنعوا منا مقاما واحداً * إلا جدارهم وبطن الخندق

ولقد تعرضنا لكيما يخرجوا * فتحصنوا منا بباب مغلق

ترتد حسرانا إلى رجراجة * شهباء تلمع بالمنايا فيلق

ملمومة خضراء لو قذفوا بها * حضنا لظل كأنه لم يخلق

مشى الضراء على الهراس كأننا * قدر تفرق في القياد وتلتقى

في كل سابغة إذا ما استحصنت * كالنهي هبت ريحه المترقرق

جدل تمس فضولهن نعالنا * من نسج داود وآل محرق

 أبو سفيان بن حرب والمغيرة يتفاوضان مع ثقيف ‏:‏

أمر أموال هوازن وسباياها وعطايا المؤلفة قلوبهم منها وإنعام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيها ‏:‏

ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين انصرف عن الطائف على دحنا حتى نزل الجعرانة فيمن معه من الناس ، ومعه من هوازن سبي كثير ، وقد قال له رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف ‏:‏ يا رسول اللّه ادع عليهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ اللّهم اهد ثقيفا وأت بهم ‏.‏

 وفد هوازن إلى الرسول ومفاوضته

ثم أتاه وفد هوازن بالجعرانة ، وكان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء ، ومن الإبل والشاء ما لا يدري ما عدته ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبداللّه بن عمرو ‏:‏ أن وفد هوازن أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد أسلموا ، فقالوا ‏:‏ يا رسول اللّه إنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك ‏.‏ فامنن علينا ، من اللّه عليك ،

قال ‏:‏ وقام رجل من هوازن ، ثم أحد بني سعد بن بكر ، يقال له زهير ، يكنى أبا صرد ، فقال ‏:‏ يا رسول اللّه إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك ، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر ، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به ، رجونا عطفه وعائدته علينا ، وأنت خير المكفولين ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ويروى ولو أنا مالحنا الحارث بن أبي شمر ، أو النعمان بن المنذر ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده عبداللّه بن عمرو ،

قال ‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم ‏؟‏ ‏.‏

فقالوا ‏:‏ يا رسول اللّه خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا ، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا ، فهو أحب إلينا ، فقال لهم ‏:‏ أما ما كان ولبني عبدالمطلب فهو لكم ، وإذا ما أنا صليت الظهر ، بالناس فقوموا ‏:‏ فقولوا إنا نستشفع برسول اللّه إلى المسلمين ، وبالمسلمين إلى رسول اللّه في أبنائنا ونسائنا ، فسأعطيكم عند ذلك ، وأسأل لكم ‏.‏

فلما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالناس الظهر ، قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

وأما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم ‏.‏

فقال المهاجرون ‏:‏ وما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

وقالت الأنصار ‏:‏ وما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى اللّه عليه فقال الأقرع بن حابس ‏:‏ أما أنا وبنو تميم فلا ‏.‏ وقال عيينة بن حصن ‏:‏ أما أنا وبنو فزارة فلا ‏.‏ وقال عباس بن مرداس ‏:‏ أما أنا وبنو سليم فلا ‏.‏

فقالت بنو سليم ‏:‏ بلى ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

قال ‏:‏ يقول ‏:‏ عباس بن مرداس لبني سليم وهنتموني ‏.‏

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي ، فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه ، فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني أبو وجزة يزيد بن عبيد السعدي ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه جارية يقال لها ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة بن هلال بن ناصرة بن قصية بن نصر ابن سعد بن بكر ، وأعطى عثمان بن عفان جارية ، يقال لها زينب بنت حيان بن عمرو بن حيان ، وأعطى عمر بن الخطاب جارية فوهبها لعبداللّه بن عمر ابنه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني نافع مولى عبداللّه بن عمر ، عن عبداللّه بن عمر ،

قال ‏:‏ بعثت بها إلى أخوالي من بني جمح ، ليصلحوا لي منها ويهيئوها ، حتى أطوف بالبيت ، ثم آتيهم وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها ‏.‏

قال ‏:‏ فخرجت من المسجد حين فرغت ، فإذا الناس يشتدون ، فقلت ‏:‏ ما شأنكم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ رد علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءنا وأبناءنا ، فقلت ‏:‏ تلكم صاحبتكم في بني جمح ، فاذهبوا فخذوها ، فذهبوا إليها فأخذوها ‏.‏

 عيينة والعجوز التي أخذها

قال ابن إسحاق ‏:‏

وأما عيينة بن حصن فأخذ عجوزا من عجائز هوازن ، وقال حين أخذها ‏:‏ أرى عجوزا إني لأحسب لها في الحي نسبا ، وعسى أن يعظم فداؤها ‏.‏

فلما رد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السبايا بست فرائض ، أبى أن يردها ، فقال له زهير أبو صرد ‏:‏ خذها عنك فواللّه ما فوها ببارد ، ولا ثديها بناهد ، ولا بطنها بوالد ، ولا زوجها بواجد ، ولا درها بماكد ، فردها بست فرائض حين قال له زهير ما قال ؛ فزعموا أن عيينة لقي الأقرع بن حابس ، فشكا إليه ذلك ، فقال ‏:‏ إنك واللّه ما أخذتها بيضاء غزيرة ولا نصفا وثيرة

أمر مالك بن عوف وإسلامه وشعره في ذلك

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لوفد هوازن ، وسألهم عن مالك بن عوف ما فعل ‏؟‏ فقالوا ‏:‏ هو بالطائف مع ثقيف ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أخبروا مالكا أنه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله ‏.‏ وأعطيته مائة من الإبل ‏.‏

فأتى مالك بذلك فخرج إليه من الطائف وقد كان مالك خاف ثقيفا على نفسه أن يعلموا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له ما قال ، فيحبسوه ، فأمر براحلته فهيئت له ، وأمر بفرس له ، فأتى به إلى الطائف ، فخرج ليلاً ، فجلس على فرسه ، فركضه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس ، فركبها فلحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأدركه بالجعرانة أو بمكة ، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل ، وأسلم فحسن إسلامه ؛ فقال مالك بن عوف حين أسلم ‏:‏

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى * ومتى تشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عردت أنيابها * بالسمهري وضرب كل مهند

فكأنه ليث على أشباله * وسط الهباءة خادر في مرصد

فاستعمله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على من أسلم من قومه ، وتلك القبائل ‏:‏ ثمالة ، وسلمة ، وفهم ، فكان يقاتل بهم ثقيفا ، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه ، حتى ضيق عليهم ؛ فقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي ‏:‏

هابت الأعداء جانبنا * ثم تغزونا بنو سلمة

وأتانا مالك بهم * ناقضا للعهد والحرمة

وأتونا في منازلنا * ولقد كنا أولى نقمه

 تقسيم الفيء

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من رد سبايا حنين إلى أهلها ، ركب واتبعه الناس يقولون ‏:‏ يا رسول اللّه ، اقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم ، حتى ألجئوه إلى شجرة ، فاختطفت عنه رداءه ؛ فقال ‏:‏ أدوا علي ردائي أيها الناس ، فواللّه أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً ، ثم قام إلى جنب بعير ، فأخذ وبرة من سنامه ، فجعلها بين إصبعيه ، ثم رفعها

ثم قال ‏:‏ أيها الناس ، واللّه مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخياط والمخيط ، فإن الغلول يكون على أهله عاراً وناراً وشناراً يوم القيامة ‏.‏

قال ‏:‏ فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيط شعر ، فقال ‏:‏ يا رسول اللّه أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لي دبر ، فقال ‏:‏أما نصيبي منها فلك

قال ‏:‏ أما إذا بلغت هذا فلا حاجة لي بها ، ثم طرحها من يده ‏.‏

 لا غلول في المغنم

قال ابن هشام ‏:‏وذكر زيد بن أسلم عن أبيه ‏:‏

أن عقيل بن أبي طالب دخل يوم حنين على امرأته فاطمة بنت شيبة بن ربيعة ، وسيفه متلطخ دماً ، فقالت ‏:‏ إني قد عرفت أنك قد قاتلت ، فماذا أصبت من غنائم المشركين ‏؟‏ فقال ‏:‏ دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك ، فدفعها إليها ، فسمع منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ‏:‏ من أخذ شيئا فليرده ، حتى الخياط والمخيط ‏.‏

فرجع عقيل ، فقال ‏:‏ ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت ، فأخذها فألقاها في الغنائم ‏.‏

 إعطاء النبي المؤلفة قلوبهم من الغنائم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وأعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤلفة قلوبهم ، وكانوا أشرافاً من أشراف الناس ، يتألفهم ويتألف بهم قومهم ، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير ، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير ، وأعطى الحارث بن الحارث بن كلدة أخا بني عبدالدار مائة بعير ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏نصير بن الحارث بن كلدة ويجوز أن يكون اسمه الحارث أيضاً ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وأعطى الحارث بن هشام مائة بعير ، وأعطى سهيل ابن عمرو مائة بعير ، وأعطى حويطب بن عبدالعزى بن أبي قيس مائة بعير ، وأعطى العلاء بن جارية الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير ، وأعطى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر مائة بعير ،وأعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة بعير ،وأعطى مالك بن عوف النصري مائة بعير ، وأعطى صفوان بن أمية مائة بعير ، فهؤلاء أصحاب المئين ‏.‏

وأعطى دون المائة رجالا من قريش ، منهم مخرمة بن نوفل الزهري ، وعمير بن وهب الجمحي ، وهشام بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي ، لا أحفظ ما أعطاهم ، وقد عرفت أنها دون المائة ، وأعطى سعيد بن يربوع ابن عنكشة بن عامر بن مخزوم خمسين من الإبل ، وأعطى السهمي خمسين من الإبل ،

قال ابن هشام ‏:‏واسمه عدي بن قيس ‏.‏

 شعر عباس بن مرداس يستصغر ما أعطى

قال ابن هشام ‏:‏وأعطى عباس بن مرداس أباعر ، فسخطها فعاتب فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال عباس بن مرداس يعاتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

كانت نهابا تلافيتها * بكري على المهر في الأجرع

وإيقاظي القوم أن يرقدوا * إذا هجع الناس لم أهجع

فأصبح نهبي ونهب العبيد * بين عيينة والأقرع

وقد كنت في الحرب ذا تدْرَإ * فلم أعط شيا ولم أمنع

إلا أفائل أعكيتها * عديد قوائمها الأربع

وما كان حصن ولا حابس * يفوقان شيخي في المجتمع

وما كنت دون امرئ منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني يونس النحوي ‏.‏

فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في المجتمع

 إرضاء الرسول له

قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ اذهبوا به فاقطعوا عني لسانه ، فأعطوه حتى رضي ‏.‏ فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وحدثني بعض أهل العلم ‏:‏

أن عباس بن مرداس أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أنت القائل ‏:‏

فأصبح نهبي ونهب العبيـ * ـد بين الأقرع وعيينة

فقال أبو بكر الصديق ‏:‏ بين عيينة والأقرع ؛ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ هما واحد ، فقال أبو بكر ‏:‏ أشهد أنك كما قال اللّه‏:‏ ‏(‏ وما علمناه الشعر وما ينبغي له ‏)‏ ‏.‏

 توزيع غنائم حنين على المبايعين من قريش  

قال ابن هشام ‏:‏وحدثني من أثق به من أهل العلم في استشهاد له عن ابن شهاب الزهري ، عن عبيد اللّه بن عبداللّه بن عتبة ، عن ابن عباس ،

قال ‏:‏ بايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قريش وغيرهم ، فأعطاهم يوم الجعرانة من غنائم حنين ‏.‏

من بني أمية بن عبد شمس ‏:‏ أبو سفيان بن حرب بن أمية ، وطليق بن سفيان بن أمية ، وخالد بن أسد بن أبي العيص بن أمية ‏.‏

ومن بني عبدالدار بن قصي ‏:‏ شيبة بن عثمان بن أبي طلح بن عبد أتعزى بن عثمان بن عبدالدار ، وأبو السنابل بن أعكك بن الحارث بن عميلة بن السباق ، بن عبدالدار وعكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف ابن عبدالدار ‏.‏

ومن بني مخزوم بن يقظة ‏:‏ زهير بن أبي أمية بن المغيرة ، والحارث بن هشام بن المغيرة ، وخالد بن هشام بن المغيرة ، وهشام بن الوليد بن المغيرة ، وسفيان بن الأسد بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم ، والسائب بن أبي السائب بن عائذ بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم ‏.‏

ومن بني عدي بن كعب ‏:‏ مطيع بن الأسود بن حارثة بن نضلة ، وأبو جهم بن حذيفة بن غانم ‏.‏

ومن بني جمح بن عمرو ‏:‏ صفوان بن أمية بن خلف ، وأحيحة بن أمية ابن خلف ، وعمير بن وهب بن خلف ‏.‏

ومن بني سهم ‏:‏ عدي بن قيس بن حذافة ‏.‏

ومن بني عمر بن لؤي ‏:‏ حويطب بن عبدالعزى بن أبي قيس بن عبد ود ، وهشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب ‏.‏

 ما أعطاه لرجال من أفناء القبائل  

ومن أفناء القبائل ‏:‏ من بني بكر بن مناة بن كنانة ‏:‏ نوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن رزن بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل ‏.‏

ومن بني قيس ، ثم من بني عامر بن صعصعة ، ثم من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ‏:‏ علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب ، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب ‏.‏

ومن بني عامر بن ربيعة ‏:‏ خالد بن هوذة بن ربيعة بن عمرو بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة ، وحرملة بن هوذة بن ربيعة بن عمرو ‏.‏

ومن بني نصر بن معاوية مالك بن عوف بن سعيد بن يربوع

ومن بني سليم بن منصور ‏:‏ عباس بن مرداس بن أبي عامر ، أخو بني الحارث بن بهثة بن سليم ‏.‏

ومن بني غطفان ، ثم من بني فزارة ‏:‏ عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ‏.‏

ومن بني تميم ثم من بني حنظلة ‏:‏ الأقرع بن حابس بن عقال ، من بني مجاشع بن دارم ‏.‏

لماذا لم يعط جعيل بن سراقة

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ‏:‏

أن قائلاً قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أصحابه ‏:‏ يا رسول اللّه ، أعطيت عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس مائة مائة ، وتركت جعيل بن سراقة الضمري ‏!‏

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض ، كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، ولكني تألفتهما ، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه ‏.‏

 اعتراض ذي الخويصرة المنافق على قسمته صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، عن مقسم أبي القاسم ، مولى عبداللّه بن الحارث بن نوفل ،

قال ‏:‏

خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي ، حتى أتينا عبداللّه بن عمرو بن العاص وهو يطوف بالبيت معلقا نعله بيده ، فقلنا له هل حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين كلمه التميمي يوم حنين ‏؟‏

قال ‏:‏ نعم ، جاء رجل من بني تميم ، يقال له ذو الخويصرة ، فوقف عليه وهو يعطي الناس ، فقال ‏:‏ يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم ؛ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أجل فكيف رأيت ‏؟‏ فقال ‏:‏ لم أرك عدلت ، فغضب النبي صلى اللّه عليه وسلم

ثم قال ‏:‏ ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ‏!‏

فقال عمر بن الخطاب ‏:‏ يا رسول اللّه ألا أقتله ‏؟‏ فقال ‏:‏ لا دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين ، حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ينظر في النصل ، فلا يوجد شيء ، ثم في القدح ، فلا يوجد شيء ،ثم في القدح ، فلا يوجد شيء ثم في الفوق ، فلا يوجد شيء سبق الفرث والدم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن علي بن الحسين أبو جعفر بمثل حديث أبي عبيدة ، وسماه ذا الخويصرة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبداللّه بن أبي نجيح عن أبيه ، بمثل ذلك ‏.‏

 شعر حسان بن ثابت في حرمان الأنصار  

قال ابن هشام ‏:‏ولما أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أعطى في قريش وقبائل العرب ، ولم يعط الأنصار شيئاً ، قال حسان بن ثابت يعاتبه في ذلك ‏:‏

زادت هموم فماء العين منحدر * سحا إذا حفلته عبرة درر

وجداً بشماء إذ شماء بهكنة * هيفاء لا دنس فيها ولا خور

دع عنك شماء إذ كانت مودتها * نزرا وشر وصال الواصل النزر

وأت الرسول فقل يا خير مؤتمن * للمؤمنين إذا ما عدد البشر

علام تدعى سليم وهي نازحة * قدام قوم هم آووا وهم نصروا

سماهم اللّه أنصارا بنصرهم * دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل اللّه اعترفوا * للنائبات وما خاموا وما ضجروا

والناس ألب علينا فيك ليس لنا * إلا السيوف أطراف القنا وزر

نخالد الناس لا نبقي على أحد * ولا نضيع من توحي به السور

ولا تهمر جناة الحرب نادينا * ونحن حين تلظى نارها سعر

كما رددنا ببدر دون ما طلبوا * أهل النفاق وفينا ينل الظفر

ونحن جندك يوم النعف من أحد * إذ حربت بطرا أحزابها مضر

فما ونينا وما خمنا وما خبروا * منا عثارا وكل الناس قد عثروا

 وجد الأنصار من حرمانهم واسترضاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

قال ابن هشام ‏:‏حدثني زياد بن عبداللّه ،

قال ‏:‏ حدثنا ابن إسحاق

قال ‏:‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن أبي سعيد الخدري

قال ‏:‏

لما أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا ، في قريش وفي قبائل العرب ، ولم يكن في الأنصار منها شيء ، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم ، حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم ‏:‏ لقي واللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قومه ‏.‏

 عتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم للأنصار ‏

فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال ‏:‏ يا رسول اللّه ، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء ‏.‏

قال ‏:‏ فأين أنت من ذلك يا سعد ‏؟‏

قال ‏:‏ يا رسول اللّه ، ما أنا إلا من قومي ‏.‏

قال ‏:‏ فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ‏.‏

قال ‏:‏ فخرج سعد ، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة ‏.‏ فجاء رجال من المهاجرين فتركهم ، فدخلوا ، وجاء آخرون فردهم ‏.‏

فلما اجتمعوا له أتاه سعد ، فقال ‏:‏ قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله ،

ثم قال ‏:‏ يا معشر الأنصار ، ما قاله بلغني عنكم ، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ‏؟‏ ألم آتكم ضلالاً فهداكم اللّه ، وعالة فأغناكم اللّه ، وأعداء فألف اللّه بين قلوبكم ‏!‏

قالوا ‏:‏ بلى ، اللّه ورسوله أمن وأفضل ‏.‏

ثم قال ‏:‏ ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ‏؟‏

قالوا ‏:‏ بماذا نجيبك يا رسول اللّه ‏؟‏ اللّه ولرسوله المن والفضل ‏.‏

قال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أما واللّه لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم ولصدقتم ‏:‏ أتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ‏.‏

ألا ترضون يا معشر الأنصار ، أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم ‏؟‏ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعبا ، لسلكت شعب الأنصار ‏.‏ اللّهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار ‏.‏

قال ‏:‏ فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا رضينا برسول اللّه قسماً وحظاً ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتفرقوا ‏.‏

عمرة الرسول من الجعرانة

واستخلافه عتاب بن أسيد على مكة وحج عتاب بالمسلمين سنة ثماني

 اعتمار الرسول واستخلافه ابن أسيد على مكة

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الجعرانة معتمراً ، وأمر ببقايا الفيء فحبس بمجنة ، بناحية مر الظهران ، فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة ، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة ، وخلف معه معاذ بن جبل ، يفقه الناس في الدين ، ويعلمهم القرآن ، واتبع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببقايا الفيء ‏.‏

 رزق عتاب بن أسيد والي مكة

قال ابن هشام ‏:‏وبلغني عن زيد بن أسلم أنه

قال ‏:‏

لما استعمل النبي صلى اللّه عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة رزقه كل يوم درهماً ، فقام فخطب الناس ، فقال ‏:‏

أيها الناس أجاع اللّه كبد من جاع على درهم ، فقد رزقني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم درهماً كل يوم فليست بي حاجة إلى أحد ‏.‏

 زمان هذه العمرة

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكانت عمرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذي القعدة ، فقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة في بقية ذي القعدة أو ذي الحجة ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة لست ليال بقين من ذي القعدة فيما زعم أبو عمرو المدني ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه ، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد ، وهي سنة ثمان ، وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم ، ما بين ذي القعدة إذ انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى شهر رمضان من سنة تسع ‏.‏

 أمر كعب بن زهير بعد الانصراف عن الطائف

 تخويف بجير على أخيه كعب ونصيحته له ‏:‏

ولما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من منصرفه عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه بن زهير يخبره أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتل رجالا بمكة ، ممن كان يهجوه ويؤذيه ، وأن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب ، قد هربوا في كل وجه ، فإن كانت لك في نفسك حاجة ، فطر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً ، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض ؛ وكان كعب بن زهير قد

قال ‏:‏

ألا أبلغا عني بجيرا رسالة * فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا

فبين لنا إن كنت لست بفاعل * على أي شيء غير ذلك دلكا

على خلق لم ألف يوما أبا له * عليه وما تلفي عليه أبا لكا

فإن أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل إما عثرت لعالكا

سقاك بها المأمون كأسا روية * فأنهلك المأمون منها وعلكا

قال ابن هشام ‏:‏ويروي ‏(‏ المأمور ‏)‏ ‏.‏ وقوله ‏(‏ فبين لنا ‏)‏ عن غير ابن إسحاق ‏.‏

و أنشدني بعض أهل العلم بالشعر وحديثه ‏:‏

من مبلغ عني بجيرا رسالة * فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا

شربت مع المأمون كأسا روية * فأنهلك المأمون منها وعلكا

وخالفت أسباب الهدى واتبعته * على أي شيء ويب غيرك دلكا

على خلق لم تلف أما ولا أبا * عليه ولم تدرك عليه أخا لكا

فإن أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل إما عثرت لعا لكا

قال ‏:‏ وبعث بها إلى بجير ، فلما أتت يجيرا كره أن يكتمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأنشده إياها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ لما سمع ‏(‏ سقاك بها المأمون ‏)‏ صدق وإنه لكذوب ، أنا المأمون ‏.‏ ولما سمع ‏(‏ على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه ‏)

قال ‏:‏ أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه ‏.‏

ثم قال بجير لكعب ‏:‏

من مبلغ كعبا فهل لك في التي * تلوم عليها باطلا وهي أحزم

إلى اللّه لا العزى ولا اللات وحده * فتنجوا إذا كان النجاء وتسلم

لدى يوم ينجو وليس بمفلت * من الناس إلا طاهر القلب مسلم

فدين زهير وهو لا شيء دينه * ودين أبي سلمى علي محرم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وإنما يقول كعب ‏:‏ ‏(‏ المأمون ‏)‏ ويقال ‏:‏ ‏(‏ المأمور ‏)‏ في قول ابن هشام ، لقول قريش الذي كانت تقول لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

 كعب بن زهير وقصيدته الشهيرة بانت سعاد

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض ، وأشفق على نفسه ، وأرجف به من كان في حاضره من عدوه ، فقالوا ‏:‏ هو مقتول فلما لم يجد من شيء بداً ، قال قصيدته التي يمدح بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

وذكر فيها خوفه ، وإرجاف الوشاة به من عدوه ، ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة ، كما ذكر لي ، فغدا به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين صلى الصبح ، فصلى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم أشار له إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال ‏:‏ هذا رسول اللّه فقم إليه فاستأمنه ‏.‏

فذكر لي أنه قام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى جلس إليه ، فوضع يده في يده ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يعرفه ، فقال ‏:‏ يا رسول اللّه ، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً ، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به ‏؟‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ نعم ‏.‏

قال ‏:‏ أنا يا رسول اللّه كعب بن زهير ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ‏:‏

أنه وثب عليه رجل من الأنصار ، فقال ‏:‏ يا رسول اللّه ، دعني وعدو اللّه أضرب عنقه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ دعه عنك ، فإنه قد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه

قال ‏:‏ فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار ، لما صنع به صاحبهم ، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير ، فقال في قصيدته التي قال حين قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا * إلا أغن غضيض الطرف مكحول

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة * لا يشتكي قصر منها ولا طول

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت * كأنه منهل بالراح معلول

شجت بذي شبم من ماء محنية * صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه * من صوب غادية بيض يعاليل

فيا لها خلة لو أنها صدقت * بوعدها أو لو أن النصح مقبول

لكنها خلة قد سيط من دمها * فجع وولع وأخلاف وتبديل

فما تدوم على حال تكون بها * كما تلون في أثوابها الغول

وما تمسك بالعهد الذي زعمت * إلا كما يمسك الماء الغرابيل

فلا يغرنك ما منت وما وعدت * إن الأماني والأحلام تضليل

كانت مواعيد عرقوب لها مثلا * وما مواعيدها إلا الأباطيل

أرجو وآمل أن تدنو مودتها * وما إخال لدينا منك تنويل

أمست سعاد بأرض لا يبلغها * إلا العتاق النجيبات المراسيل

ولن يبلغها إلا عذافرة * لها على الأين إرقال وتبغيل

من كل نضاخة الذفري إذا عرقت * عرضتها طامس الأعلام مجهول

ترمي النجاد بعيني مفرد لهق * إذا توقدت الحزان والميل

ضخم مقلدها فعم مقيدها * في خلقها عن بنات الفحل تفضيل

غلباء وجناء علكوم مذكرة * في دفها سعة قدامها ميل

وجلدها من أطوم ما يؤيسه * طلح بضاحية المتنين مهزول

حرف أخوها أبوها من مهجنة * وعمها خالها قوداء شمليل

يمشي القزاد عليها ثم يزلقه * منها لبان وأقراب زهاليل

عيرانة قذفت بالنحض عن عرض * مرفقها عن بنات الزور مفتول

كأنما فات عينيها ومذبحها * من خطمها ومن اللحيين برطيل

تمر مثل عسيب النخل ذا خصل * في غارز لم تخونه الأحاليل

قنواء في حرتيها للبصير بها * عتق مبين وفي الخدين تسهيل

تخدي على يسرات وهي لاحقة * ذوابل مسهن الأرض تحليل

سمر العجايات يتركن الحصى زيما * لم يقهن رءوس الأكم تنعيل

كأن أوب ذراعيها وقد عرقت * وقد تلفع بالقور العساقيل

يوما يظل به الحرباء مصطخدا * كأن ضاحيه بالشمس مملول

وقال للقوم حاديهم وقد جعلت * ورق الجنادب يركضن الحصا قيلوا

شد النهار ذراعا عيطل نصف * قامت فجاوبها نكد مثاكيل

نواحة رخوة الضبعين ليس لها * لما نعى بكرها الناعون معقول

تفري اللبان بكفيها ومدرعها * مشقق عن تراقيها رعابيل

تسعى الغواة جنابيها وقولهم * إنك يا بن أبي سلمى لمقتول

وقال كل صديق كنت آمله * لا ألهينك إني عنك مشغول

فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم * فكل ما قدر الرحمن مفعول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته * يوما على آلة حدباء محمول

نبئت أن رسول اللّه أوعدني * والعفو عند رسول اللّه مأمول

مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن * فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم * أذنب ولو كثرت في الأقاويل

لقد أقوم مقاما لو يقوم به * أرى واسمع ما لو يسمع الفيل

لظل يرعد إلا أن يكون له * من الرسول بإذن اللّه تنويل

حتى وضعت يميني ما أنازعه * في كف ذي نقمات قيله القيل

فلهو أخوف عندي إذ أكلمه * وقيل إنك منسوب ومسئول

من ضيغم بضراء الأرض مخدره * في بطن عثر غيل دونه غيل

يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما * لحم من الناس معفور خراديل

إذا يساور قرنا لا يحل له * أن يترك القرن إلا وهو مفلول

منه تظل سباع الجو نافرة * ولا تمشي بواديه الأراجيل

ولا يزال بواديه أخو ثقة * مضرج البز والدرسان مأكول

إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف اللّه مسلول

في عصبة من قريش قال قائلهم * ببطن مكة لما أسلموا زولوا

زالوا فما زال أنكاس ولا كشف * عند اللقاء ولا ميل معازيل

شم العرانين أبطال لبوسهم * من نسج داود في الهيجا سرابيل

بيض سوابغ قد شكت لها حلق * كأنها حلق القفعاء مجدول

ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم * قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا

يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم * حزب إذا عرد السود التنابيل

لا يقع الطعن إلا في نحورهم * وما لهم عن حياض الموت تهليل

قال ابن هشام ‏:‏قال كعب هذه القصيدة بعد قدومه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، وبيته ‏(‏ حرف أخوها أبوها ‏)‏ وبيته ‏(‏ يمشي القراد ‏)‏ وبيته ‏(‏ عيرانة قذفت ‏)‏ وبيته ‏(‏ تمر مثل عسيب النخل ‏)‏ وبيته ‏(‏ تفري اللبان ‏)‏ وبيته ‏(‏ إذا يساور قرنا ‏)‏ وبيته ‏(‏ ولا يزال بواديه ‏)‏ ‏:‏ عن غير ابن إسحاق

 كعب يسترضي الأنصار بمدحهم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال عاصم بن عمر بن قتادة ‏:‏

فلما قال كعب ‏(‏ إذا عرد السود التنابيل ‏)‏ وإنما يريدنا معشر الأنصار ، لما كان صاحبنا صنع به ما صنع ، وخص المهاجرين من قريش من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمدحته ، غضبت عليه الأنصار ، فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار ، ويذكر بلاءهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وموضعهم من اليمن ‏:‏

من سره كرم الحياة فلا يزل * في مقنب من صالحي الأنصار

ورثوا المكارم كابرا عن كابر * إن الخيار هم بنو الأخيار

المكرهين السمهري بأذرع * كسوالف الهندي غير قصار

والناظرين بأعين محمرة * كالجمر غير كليلة الأبصار

والبائعين نفوسهم لنبيهم * للموت يوم تعانق وكرار

والذائدين الناس عن أديانهم * بالمشرفي وبالقنا الخطار

يتطهرون يرونه نسكا لهم * بدماء من علقوا من الكفار

دربوا كما دربت ببطن خفية * غلب الرقاب من الأسود ضواري

وإذا حللت ليمنعوك إليهم * أصبحت عند معاقل الأعفار

ضربوا عليا يوم بدر ضربة * دانت لوقعتها جميع نزار

لو يعلم الأقوام علمي كله * فيهم لصدقني الذين أماري

قوم إذا حوت النجوم فإنهم * للطارقين النازلين مقاري

في الغر من غسان من جرثومة * أعيت محافرها على المنقار

قال ابن هشام ‏:‏ويقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له حين أنشده بانت سعاد ‏(‏ فقلبي اليوم متبول ‏)‏ لولا ذكرت الأنصار بخير ، فإنهم لذلك أهل ، فقال كعب هذه الأبيات ، وهي في قصيدة له ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وذكر لي عن علي بن زيد بن جدعان أنه

قال ‏:‏

أنشد كعب بن زهير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد ‏:‏

(‏ بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ‏)

غزوة تبوك

في رجب سنة تسع

 التهيؤ للغزو ‏ ‏

قال ‏:‏ حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام قال زياد بن عبداللّه البكائي ، عن محمد بن إسحاق المطلبي ،

قال ‏:‏

ثم أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم ‏.‏ وقد ذكر لنا الزهري ويزيد بن رومان وعبداللّه بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم من علمائنا ، كل حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها ، وبعض القوم يحدث ما لا يحدث ‏:‏ بعض أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم ، وذلك في زمان من عسرة الناس ، وشدة من الحر ، وجدب من البلاد ، وحين طابت الثمار ، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه ؛ وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلاكنى عنها ، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له ، إلا ما كان من غزوة تبوك ، فإنه بينها للناس ، لبعد الشقة ، وشدة الزمان ، وكثرة العدو الذي يصمد له ، ليتأهب الناس لذلك أهبته ، فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم ‏.‏

 ائذن لي ولا تفتني

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بني سلمة ‏:‏ يا جد ، هل لك العام في جلاد بني الأصفر ‏؟‏ فقال ‏:‏ يا رسول اللّه ، أو تأذن لي ولا تفتني فواللّه لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر ، فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال ‏:‏ قد أذنت لك ‏.‏

ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية‏:‏ ‏(‏ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ‏)‏‏.‏ أي ‏:‏ إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر ، وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر ، بتخلفه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والرغبة بنفسه عن نفسه ، يقول تعالى ‏:‏ وإن جهنم لمن ورائه ‏.‏

 شأن المنافقين  

وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض ‏:‏ لا تنفروا في الحر ، زهادة في الجهاد ، وشكا في الحق ، وإرجافا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فأنزل اللّه تبارك وتعالى فيهم ‏:‏ ‏(‏ وقالوا لا تنفروا في الحر ، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ‏.‏ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون ‏)‏ ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وحدثني الثقة عمن حدثه عن محمد بن طلحة بن عبدالرحمن ، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبداللّه بن حارثة عن ، أبيه عن جده ،

قال ‏:‏

بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي ، وكان بيته عند جاسوم ، يثبطون الناس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك ، فبعث إليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم طلحة بن عبيد اللّه في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خلفة من ظهر البيت ، فانكسرت رجله ، واقتحم أصحابه فافلتوا ‏.‏ فقال الضحاك في ذلك ‏:‏

كادت وبيت اللّه نار محمد * يشيط بها الضحاك وابن أبيرق

وظلت وقد طبقت كبس سويلم * أنوء على رجلي كسيرا ومرفقي

سلام عليكم لا أعود لمثلها * أخاف ومن تشمل به النار يحرق

 حض الأغنياء على النفقة

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جد في سفره ، وأمر الناس بالجهاز والانكماش ، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل اللّه ، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا ، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة ، لم ينفق أحد مثلها ‏.‏

 ما أنفقه عثمان

قال ابن هشام ‏:‏حدثني من أثق به ‏:‏

أن عثمان ابن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار ،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ اللّهم أرض عن عثمان فإني عنه راض ‏.‏

 البكاءون والمعذرون والمخلفون

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهم البكاءون ، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف ‏:‏ سالم بن عمير ، وعلبة بن زيد أخو بن حارثة ، وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب ، وأخو بني مازن بن النجار ، وعمرو بن حمام بن الجموح ، أخو بني سلمة ، عبداللّه بن المغفل المزني ، - وبعض الناس يقول ‏:‏ بل هو عبداللّه بن عمرو المزني - وهرمي بن عبداللّه أخو بني واقف ، وعرباض بن سارية الفزاري ، فاستحملوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكانوا أهل حاجة ، فقال ‏:‏ لا أجد ما أحملكم عليه ‏.‏ فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏

فبلغني أن ابن يامين بن عمر بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبدالرحمن بن كعب وعبداللّه بن مغفل وهما يبكيان ، فقال ‏:‏ ما يبكيكما ‏؟‏ قالا ‏:‏ جئنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه ، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه ؛ فأعطاهما ناضجا له فارتحلاه ، وزودهما شيئا من تمر ، فخرجا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وجاءه المعذرون من الأعراب ، فاعتذروا إليه فلم يعذرهم اللّه تعالى ، وقد ذكر لي أنهم نفر من بني غفار ‏.‏

ثم استتب برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سفره ، وأجمع السير وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى تخلفوا عنه عن غير شك ولا ارتياب ؛ منهم كعب بن مالك بن أبي كعب ، أخو بني سلمة ، ومرارة بن الربيع ، أخو بني عمرو بن عوف ، وهلال بن أمية ، أخو بن واقف ، وأبو خيثمة ، أخو بني سالم بن عوف ، وكانوا نفر صدق ، لا يتهمون في إسلامهم ‏.‏

فلما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري ‏.‏

وذكر عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن أبيه ‏:‏

أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استعمل على المدينة ، مخرجه إلى تبوك ، سباع بن عرفطة ‏.‏

 تخلف المنافقين عن تبوك  

قال ابن إسحاق ‏:‏ وضرب عبداللّه ابن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب ، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين ‏.‏

فلما سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تخلف عنه عبداللّه بن أبي ‏.‏ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب ‏.‏

 المنافقون يرجفون بعلي

وخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه ، إلى أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون ،

وقالوا ‏:‏ ما خلفه إلا استثقالا له ، وتخففا منه ، فلما قال ذلك المنافقون ‏:‏ أخذ علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه سلاحه ، ثم خرج حتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو نازل بالجرف ، فقال ‏:‏ يا نبي اللّه زعم المنافقون انك إنما خلفتني أنك استثقلتني ، وتخففت مني ؛ فقال ‏:‏ كذبوا ‏.‏ ولكني خلفتك لما تركت ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ، فرجع علي إلى المدينة ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على سفره ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد ‏:‏

أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لعلي هذه المقالة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم رجع المدينة ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على سفره ‏.‏

 أبو خيثمة وعمير بن وهب يلحقان بالرسول

ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أياماً إلى أهله في يوم حار ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه ، قد رشت كل واحدة منهما عريشها ، وبردت له فيه ماء ، وهيأت له فيه طعاما ، فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له ، فقال ‏:‏ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الضح والريح والحر ، وأبو خيثمة في ظل بارد ، وطعام مهيأ ، وامرأة حسناء ، في ماله مقيم ، ما هذا بالنصف ‏.‏

ثم قال واللّه لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فهيئا لي زادا ، ففعلتا ‏.‏ ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى أدركه حين نزل بتبوك ، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق ، يطلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فترافقا ، حتى إذا دنوا من تبوك ، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب ‏:‏ إن لي ذنباً ، فلا عليك أن تخلف عني حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ففعل ، حتى إذا دنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو نازل بتبوك ، قال الناس ‏:‏ هذا راكب على الطريق مقبل ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ كن أبا خيثمة ؛ فقالوا ‏:‏ يا رسول اللّه ، هو واللّه أبو خيثمة ، فلما أناخ أقبل فسلم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أولى لك يا أبا خيثمة ‏.‏ ثم أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر ‏.‏ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وقال أبو خيثمة في ذلك شعراً ، واسمه مالك بن قيس ‏:‏

لما رأيت الناس في الدين نافقوا * أتيت التي كانت أعف وأكرما

وبايعت باليمنى يدي لمحمد * فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما

تركت خضيبا في العريش وصرمة * صفايا كراما بسرها قد تحمما

وكنت إذا شك المنافق أسمحت * إلى الدين نفسي شطره حيث يمما

 ما حدث بالحجر

قال ابن إسحاق ‏:‏

وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين مر بالحجر نزلها ، واستقى الناس من بئرها ‏.‏ فلما راحوا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ لا تشربوا من مائها شيئا ، ولا تتوضئوا منه للصلاة ، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ، ولا تأكلوا منه شيئا ، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له ‏.‏

ففعل الناس ما أمرهم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته ، وخرج الآخر في طلب بعير له ، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه ؛

وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيئ ‏.‏فأخبر بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ‏:‏

ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه ، ثم دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للذي أصيب على مذهبه فشفي ،

وأما الآخر الذي وقع بجبلي طيئ ، فإن طيئا أهدته لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قدم المدينة ‏.‏

والحديث عن الرجلين عن عبداللّه بن أبي بكر ، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي ، وقد حدثني عبداللّه بن أبي بكر أن قد سمى له العباس الرجلين ، ولكنه استودعه إياهما ،فأبى عبداللّه أن يسميهما لي ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏بلغني عن الزهري أنه

قال ‏:‏

لما مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه ، واستحث راحلته ،

ثم قال ‏:‏ لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون ، خوفاً أن يصيبكم مثل ما أصابهم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏

فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأرسل اللّه سبحانه سحابة ، فأمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا حاجتهم من الماء ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رجال من بني عبدالأشهل ،

قال ‏:‏ قلت لمحمود ‏:‏

هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم ‏؟‏

قال ‏:‏ نعم ، واللّه إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفي عشيرته ، ثم يلبس بعضهم بعضا على ذلك ، ثم قال محمود ‏:‏ لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه ، كان يسير مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث سار ، فلما كان من أمر الناس بالحجر ما كان ، ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين دعا ، فأرسل اللّه السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس ، قالوا ‏:‏ أقبلنا عليه نقول ‏:‏ ويحك ‏.‏ هل بعد هذا شيء ‏!‏

قال ‏:‏ سحابة مارة ‏.‏

تقول ابن اللصيت

قال ابن إسحاق ‏:‏

ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته ، فخرج أصحابه في طلبها ، وعند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجل من أصحابه ، يقال له عمارة بن حزم ، وكان عقبياً بدرياً ، وهو عم بني عمرو بن حزم وكان في رحله زيد بن اللصيت القينقاعي ، وكان منافقا ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ويقال ابن لصيب بالباء ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رجال من بني عبدالأشهل قالوا ‏:‏

فقال زيد بن اللصيت ، وهو في رحل عمارة ، وعمارة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته ‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعمارة عنده ‏:‏ إن رجلا

قال ‏:‏

هذا محمد يخبركم أنه نبي ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته ، وإني واللّه ما أعلم إلا ما علمني اللّه ، وقد دلني اللّه عليها ، وهي في الوادي ، في شعب كذا وكذا ، وقد حبستها شجرة بزمامها ، فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فجاءوا بها ، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله ، فقال ‏:‏ واللّه لعجب من شيء حدثناه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آنفا ، عن مقالة قائل أخبره اللّه عنه بكذا وكذا ، للذي قال زيد بن اللصيت ، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيد واللّه قال هذه المقالة قبل أن تأتي ‏.‏

فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه ويقول ‏:‏ إلي عباد اللّه ، إن في رحلي لداهية وما أشعر ، أخرج أي عدو اللّه من رحلي ، فلا تصحبني ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فزعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك ، وقال بعض الناس لم يزل متهما بشر حتى هلك ‏.‏

 خبر أبي ذر في غزوة تبوك

ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سائرا ، فجعل يتخلف عنه الرجل ، فيقولون ‏:‏ يا رسول اللّه ، تخلف فلان ، فيقول ‏:‏ دعوه ، فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه تعالى بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه ، حتى قيل ‏:‏ يا رسول اللّه ، قد تخلف أبو ذر ، وأبطأ به بعيره ؛ فقال ‏:‏ فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه ، وتلوم أبو ذر على بعيره ، فلما أبطأ عليه ، أخذ متاعه فحمله على ظهره ‏.‏

ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ماشياً ، ونزل رسول اللّه في بعض منازله ، فنظر ناظر من المسلمين فقال‏:‏ يا رسول اللّه إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده ؛ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ كن أبا ذر ‏.‏ فلما تأمله القوم قالوا ‏:‏ يا رسول اللّه ، هو واللّه أبو ذر ‏.‏

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ رحم اللّه أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ‏.‏

 موت أبي ذر ودفنه في الربذة ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبداللّه بن مسعود ،

قال ‏:‏

لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة ، وأصابه بها قدره ، لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه ، فأوصاهما أن اغسلاني وكفناني ، ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأعينونا على دفنه فلما مات فعلا ذلك به ثم وضعاه على قارعة الطريق ‏.‏

وأقبل عبداللّه بن مسعود في رهط من أهل العراق عمار فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها ، وقام إليهم الغلام ، فقال ‏:‏ هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأعينونا على دفنه ‏.‏

قال ‏:‏ فاستهل عبداللّه بن مسعود يبكي ويقول ‏:‏ صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ‏.‏

ثم نزل هو أصحابه فواروه ، ثم حدثهم عبداللّه بن مسعود حديثه ، وما قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مسيره إلى تبوك ‏.‏

 تخويف المنافقين المسلمين  ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ قد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ، أخو بني عمرو بن عوف ، ومنهم رجل من أشجع ، حليف لبني سلمة ، يقال له ‏:‏ مخشن بن حمير ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ويقال مخشي - يشيرون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض ‏:‏ أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ‏!‏ واللّه لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال ، إرجافا وترهيبا للمؤمنين ، فقال مخشن بن حمير ‏:‏

واللّه لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه ‏.‏

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر ‏:‏ أدرك القوم ، فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل ‏:‏ بلى ، قلتم كذا وكذا ‏.‏ فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واقف على ناقته ، فجعل يقول وهو أخذ بحقبها ‏:‏ يا رسول اللّه ، إنما كنا نخوض ونلعب ؛

فأنزل اللّه عز وجل ‏:‏ ‏(‏ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ‏)‏ ‏.‏

وقال مخشن بن حمير ‏:‏ يا رسول اللّه ، قعد بي اسمي واسم أبي ، وكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشن بن حمير ، فتسمى عبدالرحمن ، وسأل اللّه تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر ‏.‏

 الصلح مع صاحب أيلة

ولما انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة ، صاحب أيلة ، فصالح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأعطاه الجزية ، وأتاه أهل جرباء وأذرح ، فأعطوه الجزية ، فكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهم كتابا فهو عندهم ‏.‏

 كتابه لصاحب أيلة

فكتب ليحنة بن رؤبة

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ هذه أمنة من اللّه ومحمد النبي رسول اللّه ، ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة ، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر ‏:‏ لهم ذمة اللّه ، وذمة محمد النبي ، ومن كان معهم من أهل الشام ، وأهل اليمن ، وأهل البحر ، فمن أحدث منهم حدثا ، فإنه لا يحول ماله دون نفسه ، وإنه طيب لمن أخذه من الناس ، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ، ولا طريقا يريدونه ، من بر أو بحر ‏.‏

 خالد يأسر أكيدر دومة

ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا خالد بن الوليد ، فبعثه إلى أكيدر دومة ، وهو ‏:‏ أكيدر بن عبدالملك رجل من كندة كان ملكا عليها ، وكان نصرانيا ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لخالد ‏:‏

إنك ستجده يصيد البقر

فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين ، وفي ليلة مقمرة صائفة ، وهو على سطح له ، ومعه امرأته ، فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر ، فقالت له امرأته ‏:‏ هل رأيت مثل هذا قط ‏؟‏

قال ‏:‏ لا واللّه ‏!‏

قالت ‏:‏ فمن يترك هذه ‏؟‏

قال ‏:‏ لا أحد ‏.‏

فنزل فأمر بفرسه ، فأسرج له ، وركب معه نفر من أهل بيته ، فيهم أخ يقال له حسان ، فركب وخرجوا معه بمطاردهم ‏.‏

فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخذته ، وقتلوا أخاه ، وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب ، فاستلبه خالد ، فبعث به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل قدومه به عليه ‏.‏

من نعيم الجنة ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أنس بن مالك ،

قال ‏:‏

رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فجعل المسلمون يلمسونه ، بأيديهم ويتعجبون منه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أتعجبون من هذا ‏؟‏ فوالذي نفسي بيده ، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم إن خالداً قدم بأكيدر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فحقن له دمه ، وصالحه على الجزية ، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته ، فقال رجل من طيئ ‏:‏ يقال له بجير بن بجرة ، يذكر قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لخالد ‏:‏ إنك ستجده يصيد البقر ، وما صنعت البقر تلك الليلة حتى استخرجته ، لتصديق قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

تبارك سائق البقرات إني * رأيت اللّه يهدي كل هادى

فمن يك حائدا عن ذي تبوك * فإنا قد أمرنا بالجهاد

فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ، لم يجاوزها ، ثم انصرف قافلاً إلى المدينة ‏.‏

 وادي المشقق وماؤه

وكان في الطريق ماء يخرج من وشل ، ما يروي الراكب والركبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشقق ؛ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

من سبقنا إلى ذلك الوادي فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه ،

قال ‏:‏ فسبقه إليه نفر من المنافقين ، فاستقوا ما فيه ، فلما أتاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقف عليه فلم ير فيه شيئا ‏.‏

فقال ‏:‏ من سبقنا إلى هذا الماء ، فقيل له ‏:‏ يا رسول اللّه فلان وفلان ، فقال ‏:‏ ألم أنههم أن يستقوا منه شيئا حتى آتيه ‏!‏ ثم لعنهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ودعا عليهم ، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل ، فجعل يصب في يده ما شاء اللّه أن يصب ، ثم نضحه به ، ومسحه بيده ، ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما شاء اللّه أن يدعو به ، فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما إن له حسا كحس الصواعق ‏.‏

فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ لئن بقيتم أو من بقي منكم ، لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه ‏.‏

 ذو البجادين ودفنه وتسميته ‏

قال ‏:‏ وحدثني محمد بن إبراهيم ابن الحارث التيمي ، أن عبداللّه بن مسعود كان يحدث ،

قال ‏:‏

قمت من جوف الليل ، وأنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك ،

قال ‏:‏ فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر ،

قال ‏:‏ فاتبعتها أنظر إليها ، فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وإذا عبداللّه ذو البجادين المزني قد مات ، وإذا هم قد حفروا له ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حفرته ، وأبو بكر وعمر يدنيانه إليه ، وهو يقول ‏:‏ أدنيا إلى أخاكما ، فدلياه إليه فلما هيأه لشقه

قال ‏:‏

اللّهم إني أمسيت راضيا عنه فارض عنه ‏.‏

قال ‏:‏ يقول عبداللّه بن مسعود ‏:‏ يا ليتني كنت صاحب الحفرة ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وإنما سمي ذا البجادين لأنه كان ينازع إلى الإسلام ، فيمنعه قومه من ذلك ، ويضيقون عليه ، حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره ، والبجاد ‏:‏ الكساء الغليظ الجافي ‏.‏

فهرب منهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلما كان قريبا منه شق بجاده باثنين فاتزر بواحد ، واشتمل بالآخر ، ثم أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقيل له ‏:‏ ذو البجادين لذلك ، والبجاد أيضا ‏:‏ المسح ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏قال امرؤ القيس ‏:‏

كأن أبانا في عرانين ودقة * كبير أناس في بجاد مزمل

 حديث أبي رهم في تبوك

قال ابن إسحاق ‏:‏ وذكر ابن شهاب الزهري ، عن ابن أكيمة الليثي ، عن ابن أخي أبي رهم الغفاري ، أنه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين ، وكان من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذين بايعوا تحت الشجرة ، يقول ‏:‏

غزوت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غزوة تبوك ، فسرت ذات ليلة معه ، ونحن بالأخضر قريباً من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وألقى اللّه علينا النعاس ، فطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فيفزعني دنوها منه ، مخافة أن أصيب رجله في الغرز ، فطفقت أحوز راحلتي عنه ، حتى غلبتني عيني في بعض الطريق ونحن في بعض الليل فزاحمت راحلتي راحلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ورجله في الغرز ، فما استيقظت إلا بقوله ‏:‏ حس ، فقلت ‏:‏ يا رسول اللّه استغفر لي ‏.‏

فقال ‏:‏ سر ، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسألني عمن تخلف من بني غفار ، فأخبره به ، فقال وهو يسألني ‏:‏ ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط ‏.‏ فحدثته بتخلفهم ‏.‏

قال ‏:‏ فما فعل النفر السود الجعاد القصار ‏؟‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ واللّه ما أعرف هؤلاء منا ‏.‏

قال ‏:‏ بلى الذين لهم نعم بشبكة شدخ ، فتذكرتهم في بني غفار ولم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا ، فقلت ‏:‏ يا رسول اللّه ، أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل علي بعير من إبله امرأ نشيطا في سبيل اللّه ، إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم ‏.‏

 أمر مسجد الضرار عند القفول من غزوة تبوك  

قال ابن إسحاق ‏:‏

ثم أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نزل بذي أوان ، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا ‏:‏ يا رسول اللّه ، إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا ، فتصلي لنا فيه ؛ فقال إني على جناح سفر ، وحال شغل ، أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم ، ولو قد قدمنا إن شاء اللّه لأتيناكم ، فصلينا لكم فيه ‏.‏

فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مالك ابن الدخشم ، أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي ، أو أخاه عاصم بن عدي ، أخا بني العجلان ، فقال ‏:‏ انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فأهدماه وحرقاه ، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن ‏:‏ أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ‏.‏ فدخل إلى أهله ، فأخذ سعفا من النخل ، فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه ، وتفرقوا عنه ، ونزل فيهم من القرآن ما نزل ‏:‏‏(‏ والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين ‏)‏ إلى آخر القصة ‏.‏

وكان الذين بنوه أثنى عشر رجلا ‏:‏ خزام بن خالد ، من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق ، وثعلبة ابن حاطب من بني أمية بن زيد ، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، من بني ضبيعة بن زيد ، وعباد بن حنيف ، أخو سهل بن حنيف ، من بني عمرو بن عوف ، وجارية بن عامر ، وابناه مجمع بن جارية ، وزيد بن جارية ، ونبتل بن الحارث ، من بني ضبيعة ، وبحزج ، من بني ضبيعة ، وبجاد بن عثمان ، من بني ضبيعة ، ووديعة بن ثابت ، وهو من بني أمية بن زيد رهط أبي لبابة بن عبدالمنذر ‏.‏

 مساجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم ‏

وكانت مساجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما بين المدينة إلى تبوك معلومة مسماة ‏:‏ مسجد بتبوك ، ومسجد بثينة مدران ، ومسجد بذات الزراب ، ومسجد بالأخضر ، ومسجد بذات الخطمي ، ومسجد بألاء ، ومسجد بطرف البتراء ،من ذنب كواكب ، ومسجد بالشق ، شق تارا ، ومسجد بذي الجيفة ، ومسجد بصدر حوضى ، ومسجد بالحجر ، ومسجد بالصعيد ، ومسجد بالوادي ، اليوم ، وادي القرى ، ومسجد بالرقعة من الشقة ، شقة بني عذرة ، ومسجد بذي المروة ، ومسجد بالفيفاء ، ومسجد بذي خشب‏.‏

أمر الثلاثة الذين خلفوا وأمر المعذرين في غزوة تبوك

 نهي الرسول عن كلام الثلاثة المتخلفين

وقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، وقد كان تخلف عنه رهط من المنافقين ، وتخلف أولئك الرهط الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق ، كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ‏.‏

فقال رسول اللّه صلى اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه ‏:‏ لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة ، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون ، فصفح عنهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يعذرهم اللّه ولا رسوله ، واعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة ‏.‏

 حديث كعب بن مالك عن تخلفه وصاحبيه

قال ابن إسحاق ‏:‏ فذكر الزهري محمد بن مسلم بن شهاب ، عن عبدالرحمن بن عبداللّه بن كعب بن مالك ‏:‏ أن أباه عبداللّه وكان قائد أبيه حين أصيب بصره ،

قال ‏:‏ سمعت أبي كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك وحديث صاحبيه

قال ‏:‏

ما تخلفت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة غزاها قط ، غير أني كنت قد تخلفت عنه في غزوة بدر ، وكانت غزوة لم يعاتب اللّه ولا رسوله أحدا تخلف عنها ، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما خرج يريد عير قريش ، حتى جمع اللّه بينه وبين عدوه على غير ميعاد ‏.‏

ولقد شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العقبة ، وحين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها ‏.‏

قال ‏:‏ كان من خبري حين تخلفت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، وواللّه ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ، واستقبل غزوة عدو كثير ، فجلى للناس أمرهم ، ليتأهبوا لذلك أهبته ، وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد ، والمسلمون من تبع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ ، يعني بذلك الديوان ، يقول ‏:‏ لا يجمعهم ديوان مكتوب ‏.‏

قال كعب‏:‏ فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفي له ذلك ما لم ، ينزل فيه وحي من اللّه ، وغزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك الغزوة ، حين طابت الثمار ، وأحبت الظلال ، فالناس إليها صعر ، فتجهز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتجهز المسلمون معه ، وجعلت أغدو لأتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض حاجة ، فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر الناس بالجد ، فأصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غاديا ، والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئاً ، فقلت ‏:‏

أتجهز بعده بيوم أو يومين ، ثم ألحق بهم ، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا ، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا ، وتفرط الغزو ، فهممت أن أرتحل ، فأدركهم ، وليتني فعلت ، فلم أفعل ، وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فطفت فيهم ، فيحزنني أني لا أرى رجلاً مغموصا عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذر اللّه من الضعفاء ،

ولم يذكرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك ‏:‏

ما فعل كعب بن مالك ‏؟‏ فقال رجل من بني سلمة ‏:‏ يا رسول اللّه ، حبسه برداه ، والنظر في عطفيه ‏.‏

فقال له معاذ بن جبل ‏:‏ بئس ما قلت ‏!‏ واللّه يا رسول اللّه ، ما علمنا منه إلا خيراً ، فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

فلما بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك ، حضرن بثي ، فجعلت أتذكر الكذب ، وأقول ‏:‏

بماذا أخرج من سخطة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غداً ، وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل ، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق ، فأجمعت أن أصدقه ‏.‏

وصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، وكان إذا قدم من سفر ، بدأ بالمسجد ، فركع فيه ركعتين ، ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون ، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فيقبل منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علانيتهم وإيمانهم ، ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى اللّه تعالى ‏.‏

حتى جئت فسلمت عليه ؛ فتبسم ، تبسم المغضب ، ثم قال لي ‏:‏ تعاله ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي ‏:‏ ما خلفك ، ألم تكن ابتعت ظهرك ،

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ إني يا رسول اللّه ، واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا ، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلاً ، لكن واللّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذباً لترضين عني ، وليوشكن اللّه أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك حديثاً صدقاً تجد علي فيه ، إني لأرجو عقباي من اللّه فيه ، ولا واللّه ما كان لي عذر ، واللّه ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ‏.‏

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أما هذا فقد صدقت فيه ، فقم حتى يقضي اللّه فيك ‏.‏

فقمت ، وثار معي رجال من بني سلمة ، فاتبعوني ، فقالوا لي ‏:‏واللّه ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون ، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لك ، فواللّه ما زالوا بي حتى أردت أن أرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأكذب نفسي ، ثم قلت لهم ‏:‏

هل لقي هذا أحد غيري ‏؟‏ قالوا ‏:‏ نعم ، رجلان قالا مثل مقالتك ، وقيل لهما مثل ما قيل لك ، قلت ‏:‏ من هما ‏؟‏ قالوا ‏:‏ مرارة بن الربيع العمري ، من بني عمرو بن عوف ، وهلال بن أبي أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين ، فيهما أسوة فصمت حين ذكروهما لي ‏.‏

ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة ، من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس ، وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي نفسي والأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ‏.‏

فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما ،

وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين ، وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد ، وآتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي ‏:‏ هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ‏؟‏ ثم أصلي قريباً منه ، فأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، وإذا التفت نحوه أعرض عني ‏.‏

حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين ، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ‏.‏ وهو ابن عمي ، وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه ، فواللّه ما رد علي السلام ‏.‏

فقلت ‏:‏ يا أبا قتادة ‏:‏ أنشدك باللّه ، هل تعلم أني أحب اللّه ورسوله ‏؟‏ فسكت ، فعدت فناشدته ، فسكت عني ، فعدت فناشدته ، فسكت عني ، فعدت فناشدته ، فقال ‏:‏ اللّه ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي ووثبت فتسورت الحائط ، ثم غدوت إلى السوق ، فبينا أنا أمشي بالسوق إذا نبطي يسأل عني من نبط الشام ، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة ، يقول ‏:‏ من يدل على كعب بن مالك ‏؟‏

قال ‏:‏ فجعل الناس يشيرون له إلي ، حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك غسان ، وكتب كتاباً في سرقة من حرير فإذا فيه ‏:‏

(‏ أما بعد ‏:‏ فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك اللّه بدار هوان ، ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك ‏)‏‏.‏

قال ‏:‏ قلت حين قرأتها ، وهذا من البلاء أيضا ، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك ،

قال ‏:‏ فعمدت بها إلى تنور فسجرته بها ‏.‏

فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين ، إذا رسول رسول اللّه يأتيني ، فقال ‏:‏

إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ،

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ أطلقها أم ماذا ‏؟‏

قال ‏:‏ لا ، بل اعتزلها ولا تقربها ، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك ، فقلت لامرأتي ‏:‏ الحقي بأهلك ، فكوني عندهم حتى يقضي اللّه في هذا الأمر ما هو قاض ‏.‏

قال ‏:‏ وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت ‏:‏ يا رسول اللّه ، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع ، لا خادم له ، أفتكره أن أخدمه ‏؟‏

قال ‏:‏

لا ، ولكن لا يقربنك ؛

قالت ‏:‏ واللّه يا رسول اللّه ، ما به من حركة إلي ، واللّه ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ، ولقد تخوفت على بصره ‏.‏

قال ‏:‏ فقال لي بعض أهلي ‏:‏ لو استأذنت رسول اللّه لامرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه ،

قال ‏:‏ فقلت ‏:‏ واللّه لا أستأذنه فيها ، ما أدري ما يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لي في ذلك إذا استأذنته فيها ، وأنا رجل شاب ‏.‏

قال ‏:‏ فلبثنا بعد ذلك عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلة ، من حين نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسلمين عن كلامنا ، ثم صليت الصبح ، صبح خمسين ليلة ، وعلى ظهر بيت من بيوتنا ، على الحال التي ذكر اللّه منا ، قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت ، وضاقت علي نفسي ، وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع ، فكنت أكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أوفى على ظهر سلع ، يقول بأعلى صوته ‏:‏ يا كعب بن مالك ، أبشر ،

قال ‏:‏ فخررت ساجداً ، وعرفت أن قد جاء الفرج ‏.‏

 توبة اللّه على المخلفين ‏

قال ‏:‏ وآذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس بتوبة اللّه علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب نحو صاحبي مبشرون ، وركض رجل إلى فرساً ، وسعى ساع من أسلم ، حتى أوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس ‏.‏

فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني ، نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ، بشارة ، واللّه ما أملك يومئذ غيرهما ، واستعرت ثوبين فلبستهما ، ثم انطلقت أتيمم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتلقاني الناس يبشرونني بالتوبة ، يقولون ‏:‏

ليهنك توبة اللّه عليك ، حتى دخلت المسجد ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس حوله الناس ، فقام إلي طلحة بن عبيد اللّه ، فحياني وهنأني ، وواللّه ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ‏.‏

قال ‏:‏ فكان كعب بن مالك لا ينساها لطلحة ‏.‏

قال كعب ‏:‏ فلما سلمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال لي ووجهه يبرق من السرور ‏:‏ أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ،

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ أمن عندك يا رسول اللّه ، أم من عند اللّه ‏؟‏

قال ‏:‏ بل من عند اللّه ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر ،

قال ‏:‏ وكنا نعرف ذلك منه ‏.‏

قال ‏:‏ فلما جلست بين يديه ، قلت ‏:‏ يا رسول اللّه ، إن من توبتي إلى اللّه عز وجل ، أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه ، وإلى رسوله ‏.‏

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أمسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك ،

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ إني ممسك سهمي الذي بخيبر ‏.‏

وقلت يا رسول اللّه ، إن اللّه قد نجاني بالصدق ، وإن من توبتي إلى اللّه ، أن لا أحدث إلا صدقاً ما حييت ، واللّه ما أعلم أحدا من الناس أبلاه اللّه في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك أفضل مما أبلاني اللّه ، واللّه ما تعمدت من كذبة منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى يومي هذا ،وإني لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي ‏.‏

 ما نزل في ساعة العسرة والمخلفين

وأنزل اللّه تعالى ‏:‏ ‏(‏ لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا ‏)‏ إلى قوله ‏:‏ ‏(‏ وكونوا مع الصادقين ‏)‏ ‏.‏

 ما نزل في المعذرين

قال كعب ‏:‏ فواللّه ما أنعم اللّه علي نعمة قط بعد أن هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ ، أن لا أكون كذبته ، فأهلك كما هلك الذين كذبوا ، فإن اللّه تبارك وتعالى قال في الذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ‏:‏ قال ‏(‏ سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين ‏)‏ ‏.‏

قال ‏:‏ وكان خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حين حلفوا له ليعذرهم واستغفر لهم وأرجأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرنا ، حتى قضى اللّه فيه ما قضى فبذلك قال اللّه تعالى ‏:‏ ‏(‏ وعلى الثلاثة الذين خلفوا ‏)

وليس الذي ذكر اللّه من تخليفنا لتخلفنا عن الغزوة ، ولكن لتخليفه إيانا ، وإرجائه أمرنا عمن حلف له ، واعتذر إليه فقبل منه ‏.‏

 أمر وفد ثقيف وإسلامها

في شهر رمضان سنة تسع

 قدوم عروة بن مسعود عليه صلى اللّه عليه وسلم مسلما

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة من تبوك ، في رمضان وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف ‏.‏

وكان من حديثهم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما انصرف عنهم ، اتبع أثره عروة بن مسعود الثقفي ، حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة ، فأسلم ، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، كما يتحدث قومه ‏:‏ إنهم قاتلوك ، وعرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع الذي كان منهم ، فقال عروة ‏:‏ يا رسول اللّه ، أنا أحب إليهم من أبكارهم ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ويقال من أبصارهم ‏.‏

 دعوة قومه إلى الإسلام وقتلهم إياه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان فيهم كذلك محبباً مطاعاً ، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه ، لمنزلته فيهم ، فلما أشرف لهم على علية له ، وقد دعاهم إلى الإسلام ، وأظهر لهم دينه ، رموه بالنبل من كل وجه ، فأصابه سهم فقتله ، فتزعم بنو مالك أنه قتله رجل منهم ، يقال له أوس بن عوف أخو بني سالم بن مالك ، وتزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم ، من بني عتاب بن مالك ، يقال له ، وهب بن جابر ، فقيل لعروة ‏:‏ ما ترى في دمك

قال ‏:‏

كرامة أكرمني اللّه بها ، وشهادة ساقها اللّه إلي ، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم ، فادفنوني معهم ، فزعموا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فيه ‏:‏ إن مثله في قومه لكمثل صاحب ياسين في قومه ‏.‏

 إرسال ثقيف وفدا إليه صلى اللّه عليه وسلم

ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً ، ثم إنهم ائتمروا بينهم ، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب ، وقد بايعوا وأسلموا ‏.‏

حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ‏:‏

أن عمرو بن أمية ، أخا بني علاج ، كان مهاجراً لعبد ياليل بن عمرو ، الذي بينهما شيء ، وكان عمرو بن أمية من أدهى العرب ، فمشى إلى عبد ياليل بن عمرو ، حتى دخل داره ‏.‏

ثم أرسل إليه أن عمرو بن أمية يقول لك ‏:‏ أخرج إلي ،

قال ‏:‏ فقال عبد ياليل للرسول ‏:‏ ويلك أعمرو أرسلك إلي ‏؟‏

قال ‏:‏ نعم ، وها هو ذا واقفا في دارك ، فقال إن هذا الشيء ما كنت أظنه ، لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك ، فخرج إليه فلما رآه رحب به ، فقال له عمرو ‏:‏ إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة ، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت ، قد أسلمت العرب كلها ، وليست لكم بحربهم طاقة ، فانظروا في أمركم ‏.‏

فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينها ، وقال بعضهم لبعض ‏:‏ أفلا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ، ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع ، فأتمروا بينهم ، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً ، كما أرسلوا عروة ، فكلموا عبد ياليل بن عمرو بن عمير ، وكان سن عروة بن مسعود ، وعرضوا ذلك عليه فأبى أن يفعل ، وخشي أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة ‏.‏

فقال ‏:‏ لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف ، وثلاثة من بني مالك ، فيكونوا ستة ، فبعثوا مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب وشرحبيل ابن غيلان بن سلمة بن معتب ، ومن بني مالك عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان ، أخا بني يسار ، وأوس بن عوف ، أخا بني سالم بن عوف ، ونمير بن خرشة بن ربيعة أخا بني الحارث ‏.‏

فخرج بهم عبد ياليل ، وهو ناب القوم وصاحب أمرهم ، ولم يخرج بهم إلا خشية من مثل ما صنع بعروة بن مسعود ، لكي يشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه ‏.‏

 طلبهم من الرسول أمورا فرفضها

فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة ، ألفوا بها المغيرة بن شعبة ، يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكانت رعيتها نوبا على أصحابه صلى اللّه عليه وسلم ، فلما رآهم ترك الركاب عند الثقفيين ، وضبر يشتد ، ليبشر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبره عن ركب ثقيف أن قد قدموا يريدون البيعة والإسلام ، بأن يشرط لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شروطاً ، ويكتتبوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتاباً في قومهم وبلادهم وأموالهم ‏.‏

فقال أبو بكر للمغيرة ‏:‏ أقسمت عليك باللّه ، لا تسبقني إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه ، ففعل المغيرة ، فدخل أبو بكر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبره بقدومهم عليه ، ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم ، وعلمهم كيف يحيون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية ‏.‏

ولما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده ، كما يزعمون فكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى اكتتبوا كتابهم ، وكان خالد هو الذي كتب كتابهم بيده ، وكانوا لا يطعمون طعاماً ، يأتيهم من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى يأكل منه خالد ، حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم ‏.‏

وقد كان فيما سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية ، وهي اللات ، لا يهدمها ثلاث سنين ، فأبى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك عليهم ، فما برحوا يسألونه سنة سنة ، ويأبى عليهم حتى سألوا شهرا واحدا بعد مقدمهم ، فأبي عليهم أن يدعها شيئا مسمى ، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يتسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام ، فأبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب ، والمغيرة بن شعبة فيهدماها ‏.‏

وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة ، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

أما كسر أوثانكم بأيديكم ، فسنعفيكم منه ،

وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه ، فقالوا ‏:‏ يا محمد ، فسنؤتيكها وإن كانت دناءة ‏.‏

 تأمير عثمان بن أبي العاص على ثقيف

فلما أسلموا وكتب لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتابهم ، أمر عليهم عثمان بن أبي العاص ، وكان من أحدثهم سنا ، وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام ، وتعلم القرآن ‏.‏

 صوم وفد ثقيف ما تبقى من رمضان وخدمة بلال إياهم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عيسى بن عبداللّه بن عطية بن سفيان بن ربيعة الثقفي عن بعض وفدهم

قال ‏:‏

كان بلال يأتينا حين أسلمنا وصمنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما بقي من رمضان بفطرنا ، وسحورنا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فيأتينا بالسحور ، وإنا لنقول ‏:‏ إن لنرى الفجر قد طلع ، فيقول ‏:‏ قد تركت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتسحر ، لتأخير السحور ‏:‏ يأتينا بفطرنا ، وإنا لنقول ‏:‏ ما نرى الشمس كلها ذهبت بعد ‏:‏ فيقول ‏:‏ ما جئتكم حتى أكل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم يضع يده في الجفنة ، فيلتقم منها ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏بفطورنا وسحورنا ‏.‏

 عهده صلى اللّه عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص حين تأميره على ثقيف

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني سعيد بن أبي هند عن مطرف بن عبداللّه بن الشخير ، عن عثمان بن أبي العاص ،

قال ‏:‏

كان من أخر ما عهد إلي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين بعثني على ثقيف أن

قال ‏:‏ يا عثمان تجاوز في الصلاة ، واقدر الناس بأضعفهم ، فإن فيهم الكبير ، والصغير ، والضعيف ، وذا الحاجة ‏.‏

 هدم اللات

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما فرغوا من أمرهم ، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين ، بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة ، في هدم الطاغية ‏.‏ فخرجا مع القوم ، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة بن شعبة أن يقدم أبا سفيان ، فأبى ذلك أبو سفيان عليه ، وقال ‏:‏ ادخل أنت على قومك ؛ وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم ، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول ، وقام قومه دونه بنو معتب خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة ، وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها ويقلن ‏:‏

لتبكين دفاع * أسلمها الرضاع

لم يحسنوا المصاع

قال ابن هشام ‏:‏لتبكين عن غير ابن إسحاق ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ يقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس ‏:‏ واها لك ‏!‏ آها لك ‏!‏ فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع ، وما لها من الذهب والجزع ‏.‏

 من أول من أسلم من ثقيف

وكان أبو مليح بن عروة وقارب ابن الأسود قدما على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل وفد ثقيف ، حين قتل عروة ، يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شيء أبداً ، فأسلما فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ وخالكما أبا سفيان بن حرب ؛ فقالا ‏:‏وخالنا أبا سفيان ابن حرب ‏.‏

 سؤال أبي المليح وقارب بن الأسود قضاء دينهما من مال اللات

فلما أسلم أهل الطائف ووجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا سفيان والمغيرة إلى هدم الطاغية ، سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبو مليح بن عروة أن يقضي عن أبيه عروة ديناً كان عليه من مال الطاغية ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ نعم ، فقال له ، قارب بن الأسود ، وعن الأسود يا رسول اللّه فاقضه ، وعروة والأسود أخوان لأب وأم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

إن الأسود مات مشركا ‏.‏ فقال قارب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ يا رسول اللّه ، لكن تصل مسلما ذا قرابة ، يعني نفسه ، إنما الدين علي ، وإنما أنا الذي أطلب به ، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية ؛ فلما جمع المغيرة مالها قال لأبي سفيان ‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أمرك أن تقضي عن عروة والأسود دينهما ، فقضى عنهما ‏.‏

 كتابه عليه السلام لثقيف

وكان كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي كتب لهم ‏:‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ من محمد النبي رسول اللّه ، إلى المؤمنين ‏:‏ إن عضاه وج وصيده ، لا يعضد من وجد يفعل شيئاً من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه ، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به إلى النبي محمد ، وإن هذا أمر النبي محمد رسول اللّه ‏.‏

وكتب خالد بن سعد بأمر الرسول محمد بن عبداللّه ، فلايتعده أحد ، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

حج أبي بكر بالناس

سنة تسع

واختصاص النبي صلى اللّه عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه بتأدية أول براءة عنه

 تأمير أبي بكر على الحج

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقية شهر رمضان وشوالا وذا القعدة ، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج من سنة تسع ، ليقيم للمسلمين حجهم ، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم ‏.‏ فخرج أبو بكر رضى اللّه عنه ومن معه من المسلمين ‏.‏

 نزول سورة براءة في نقض ما بين المسلمين والمشركين

ونزلت براءة في نقض ما بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين المشركين من العهد ، الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم ‏:‏ أن لا يصد عن البيت أحد جاءه ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام ‏.‏

وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك ، وكانت بين ذلك عهود بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين قبائل العرب خصائص ، إلى آجال مسماة ، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك ، وفي قول من قال منهم ، فكشف اللّه تعالى فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون ، منهم من سمى لنا ومنهم من لم يسم لنا فقال عز وجل‏:‏

(‏ براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ‏)أي ‏:‏ لأهل العهد العام من أهل الشرك

 ‏(‏ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي اللّه وأن اللّه مخزي الكافرين وأذان من اللّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن اللّه بريء من المشركين ورسوله ‏)أي ‏:‏ بعد هذه الحجة

 ‏(‏ فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي اللّه وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ‏)أي ‏:‏

العهد الخاص إلى الأجل المسمى ‏(‏ ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن اللّه يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم ‏)‏ يعني الأربعة التي ضرب لهم أجلا

 (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تأبوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن اللّه غفور رحيم وإن أحد من المشركين ‏)أي ‏:‏ من هؤلاء الذين أمرتك بقتلهم

 ‏(‏ استجارك فأجره حتى يسمع كلام اللّه ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ‏)‏ ‏.‏

ثم قال ‏:‏(‏ كيف يكون للمشركين ‏)‏ الذين كانوا هم وأنتم على العهد العام ، أن لا يخيفوكم ولا يخيفوهم في الحرمة ، ولا في الشهر الحرام ‏(‏ عهد عند اللّه وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ‏)‏ وهي قبائل من بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم يوم الحديبية ، إلى المدة التي كانت بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين قريش ، فلم يكن نقضها إلا هذا الحي من قريش ، وهي الديل من بني بكر بن وائل الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم ‏.‏

فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض من بني بكر إلى مدته ‏(‏ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن اللّه يحب المتقين ‏)‏ ‏.‏

ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ كيف وإن يظهروا عليكم ‏)أي ‏:‏ المشركين الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل الشرك العام ‏(‏ لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ‏)‏ ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏الإل ‏:‏ الحلف ‏.‏ قال أوس بن حجر ، أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم ‏:‏

لولا بنو مالك والإل مرقبة * ومالك فيهم الآلاء والشرف

وهذا البيت في قصيدة له ، وجمعه آلال قال الشاعر ‏:‏

فلا إل من الآلال بيني * وبينكم فلا تألن جهدا

والذمة ‏:‏ العهد ، قال الأجدع بن مالك الهمداني ، وهو أبو مسروق الأجدع الفقيه ‏.‏

وكان علينا ذمة أن تجاوزوا * من الأرض معروفا إلينا ومنكرا

وهذا البيت في ثلاثة أبيات له ‏.‏ وجمعها ذمم ‏.‏

(‏ يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ، اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون ‏.‏ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ‏)أي ‏:‏ قد اعتدوا عليكم ‏(‏ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون ‏)‏ ‏.‏

 اختصاص علي بتأدية براءة ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف ، عن أبي جعفر محمد بن علي رضوان اللّه عليه ، أنه

قال ‏:‏

لما نزلت براءة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقد كان بعث أبا بكر الصديق ليقيم للناس الحج ، قيل له ‏:‏ يا رسول اللّه لو بعثت بها إلى أبي بكر ، فقال ‏:‏ لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ‏.‏ ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه ، فقال له ‏:‏ اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته ‏.‏

فخرج علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه على ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العضباء ، حتى أدرك أبا بكر بالطريق ، فلما رآه أبو بكر بالطريق

قال ‏:‏ أأمير أم مأمور ‏؟‏ فقال بل ‏:‏ مأمور ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج ، التي كانوا عليها في الجاهلية ‏.‏

حتى إذا كان يوم النحر ، قام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال أيها الناس ، إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ؛ وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم أو بلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته ‏.‏ فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان ‏.‏

ثم قدما على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى ‏.‏

 الأمر بجهاد المشركين ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم أمر اللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بجهاد أهل الشرك ، ممن نقض من أهل العهد الخاص ، ومن كان من أهل العهد العام ، بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلا إلا أن يعدو فيها عاد منهم ، فيقتل بعدائه ، فقال ‏:‏

(‏ ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فاللّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب اللّه ‏)أي ‏:‏ بعد ذلك ‏(‏ على من يشاء واللّه عليم حكيم أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة واللّه خبير بما تعملون ‏)‏ ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وليجة ‏:‏ دخيل ، وجمعها ولائج وهو من ولج يلج ، أي ‏:‏ دخل يدخل ، وفي كتاب اللّه عز وجل ‏:‏ ‏(‏ حتى يلج الجمل في سم الخياط ‏)أي ، يدخل يقول لم يتخذوا دخيلا من دونه يسرون إليه غير ما يظهرون ، نحو ما يصنع المنافقون ، يظهرون الإيمان للذين آمنوا ‏(‏ وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ‏)‏ قال الشاعر ‏:‏

وأعلم بأنك قد جعلت وليجة * ساقوا إليك الحتف غير مشوب

 القرآن يرد على قريش ادعاءهم عمارة البيت

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم ذكر قول قريش ‏:‏ إنا أهل الحرم ، وسقاة الحاج ، وعمارة هذا البيت ، فلا أحد أفضل منا ؛ فقال ‏:‏ ‏(‏ إنما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر ‏)أي ‏:‏ أن عمارتكم ليست على ذلك ، وإنما يعمر مساجد اللّه ، أي ‏:‏ من يعمرها بحقها ‏(‏ من آمن باللّه واليوم الآخر وأقام الصلاة وأتى الزكاة ولم يخش إلا اللّه ‏) أي ‏:‏ فأولئك عمارها ‏(‏ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ‏)‏ وعسى من اللّه ‏:‏ حق ‏.‏

قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللّه لا يستوون عند اللّه ‏)‏ ‏.‏

ثم القصة عن عدوهم ، وما أنزل اللّه تعالى من نصره بعد تخاذلهم ، ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة ‏)‏ وذلك أن الناس قالوا ‏:‏ لتنقطعن عنا الأسواق ، فلتهلكن التجارة ، وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فقال اللّه عز وجل ‏:‏ ‏(‏ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم اللّه من فضله ‏)أي ‏:‏ من وجه غير ذلك ‏(‏ إن شاء إن اللّه عليم حكيم قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ‏)أي ‏:‏ ففي هذا عوض مما تخوفتم من قطع الأسواق ، فعوضهم اللّه بما قطع عنهم بأمر الشرك ، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب ، من الجزية ‏.‏

 ما نزل في أهل الكتابين  

ثم ذكر أهل الكتابين بما فيهم من الشر والفرية عليه ، حتى انتهي إلى قوله تعالى ‏:‏ ‏(‏ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم ‏)‏ ‏.‏

 ما نزل في النسيء ‏

ثم ذكر النسيء وما كانت العرب أحدثت فيه ‏.‏ والنسيء ‏:‏ ما كان يحل مما حرم اللّه تعالى من الشهور ، ويحرم مما أحل اللّه منها ، فقال ‏:‏ إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ‏)‏ أي ‏:‏ لا تجعلوا حرامها حلالاً ، ولا حلالها حراماً ، أي كما فعل أهل الشرك ‏(‏إنما النسيء ‏)‏ الذي كانوا يصنعون ‏(‏ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم اللّه فيحلوا ما حرم اللّه زين لهم سوء أعمالهم واللّه لا يهدي القوم الكافرين ‏)‏ ‏.‏

 ما نزل في تبوك ‏

ثم ذكر تبوك وما كان فيها من تثاقل المسلمين عنها ، وما أعظموا من غزو الروم حين دعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى جهادهم ، ونفاق من نافق من المنافقين ، حين دعوا إلى ما دعوا إليه من الجهاد ، ثم ما نعى عليهم من إحداثهم في الإسلام ، فقال تعالى ‏:‏

(‏ يا أيها الذين أمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثاقلتم إلى الأرض ‏)‏ ، ثم القصة إلى قوله تعالى ‏:‏ ‏(‏ يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ‏)‏ إلى قوله تعالى ‏:‏ ‏(‏ إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار ‏)‏ ‏.‏

 ما نزل في أهل النفاق ‏

ثم قال تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم ، يذكر أهل النفاق ‏:‏ ‏(‏ لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون باللّه لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم واللّه يعلم إنهم لكاذبون ‏)أي ‏:‏ إنهم يستطيعون ‏(‏ عفا اللّه عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ‏)‏ إلى قوله ‏(‏ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم) ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏أوضعوا خلالكم ‏:‏ ساروا بين أضعافكم ، فالأيضاع ‏:‏ ضرب من السير أسرع من المشي ، قال الأجدع بن مالك الهمداني ‏:‏

يصطادك الوحد المدل بشأوه * بشريج بين الشد والأيضاع

وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان الذين استأذنوه من ذوي الشرف ، فيما بلغني ، منهم عبداللّه بن أبي ابن سلول ، والجد بن قيس ، وكانوا أشرافاً في قومهم ، فثبطهم اللّه لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده ، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم ، وطاعة فيما يدعونهم إليه ، لشرفهم فيهم ‏.‏ فقال تعالى ‏:‏ ‏(‏ وفيكم سماعون لهم واللّه عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل ‏)أي ‏:‏ من قبل أن يستأذنوك ، ‏(‏ وقلبوا لك الأمور ‏)أي ‏:‏ ليخذلوا عنك أصحابك ، ويردوا عليك أمرك ‏(‏ حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا ‏)‏ وكان الذي قال ذلك ، فيما سمي لنا الجد بن قيس ، أخو بني سلمة ، حين دعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى جهاد الروم ‏.‏ ثم كانت القصة إلى قوله تعالى ‏:‏ ‏(‏ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ‏) أي ‏:‏ إنما نيتهم ورضاهم وسخطهم لدنياهم ‏.‏

 ما نزل في أصحاب الصدقات ‏

ثم بين الصدقات لمن هي ، وسمي أهلها فقال ‏:‏ ‏(‏ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل اللّه وابن السبيل فريضة من اللّه واللّه عليم حكيم ‏)‏ ‏.‏

 ما نزل فيمن آذوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم

ثم ذكر غشهم وأذاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ‏:‏ ‏(‏ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول اللّه لهم عذاب أليم ‏)‏ ‏.‏ وكان الذي يقول تلك المقالة ، فيما بلغني ، نبتل بن الحارث ، أخو بني عمرو بن عوف ، وفيه نزلت هذه الآية ، وذلك أنه كان يقول ‏:‏ إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه ، يقول اللّه تعالى ‏:‏ ‏(‏ قل أذن خير لكم ‏)أي ‏:‏ يسمع الخير ويصدق به ‏.‏

ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ يحلفون باللّه لكم ليرضوكم واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ‏)

ثم قال ‏:‏(‏ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزءون ‏)‏ إلى قوله تعالى ‏:‏ ‏(‏ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ‏)‏ وكان الذي قال هذه المقالة وديعة بن ثابت ، أخو بني أمية بن زيد من بني عمرو بن عوف ، وكان الذي عفي عنه ، فيما بلغني ، مخشن بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة ، وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع ‏.‏

ثم القصة من صفتهم حتى انتهى إلى قوله تعالى ‏:‏ ‏(‏ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون باللّه ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله ‏)‏ إلى قوله ‏(‏ من ولي ولا نصير ‏)‏ وكان الذي قال تلك المقالة الجلاس بن سويد بن صامت ، فرفعها عليه رجل كان في حجره ، يقال له ‏:‏ عمير بن سعد فأنكرها وحلف باللّه ما قالها ، فلما نزل فيهم القرآن تاب ونزع ، وحسنت حاله وتوبته ، فيما بلغني ‏.‏

ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ‏)‏ وكان الذي عاهد اللّه منهم ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، وهما من بني عمرو بن عوف ‏.‏

ثم قال ‏:‏(‏ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر اللّه منهم ولهم عذاب أليم ‏)‏ وكان المطوعون من المؤمنين في الصدقات عبدالرحمن بن عوف ، وعاصم بن عدي ، أخا بني العجلان ، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رغب في الصدقة ، وحض عليها ، فقام عبدالرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف درهم ، وقام عاصم بن عدي فتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما ،

وقالوا ‏:‏ ما هذا إلا رياء ، وكان الذي تصدق بجهده أبو عقيل ، أخو بني أنيف ، أتى بصاع من تمر ، فأفرغها في الصدقة ، فتضاحكوا به ،

وقالوا ‏:‏ إن اللّه لغني عن صاع أبي عقيل ‏.‏

ثم ذكر قول بعضهم لبعض ، حين أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالجهاد ، وأمر بالسير إلى تبوك ، على شدة الحر ، وجدب البلاد ، فقال تعالى ‏:‏ ‏(‏ وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ‏)‏ إلى قوله ‏:‏ ‏(‏ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم ‏)‏ ‏.‏

 ما نزل بسبب الصلاة على ابن أبي

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني الزهري عن عبيد اللّه بن عبداللّه بن عتبة عن ابن عباس

قال ‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب ، يقول ‏:‏ لما توفي عبداللّه بن أبي دعي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للصلاة عليه ، فقام إليه ، فلما وقف عليه يريد الصلاة ، تحولت حتى قمت في صدره ، فقلت ‏:‏ يا رسول اللّه ، أتصلى على عدو اللّه عبداللّه بن أبي بن سلول ‏؟‏ القائل كذا يوم كذا ، والقائل كذا يوم كذا ‏؟‏ أعدد أيامه ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبتسم حتى إذا أكثرت

قال ‏:‏ يا عمر ، أخر عني إني قد خيرت فاخترت ، قد قيل لي ‏:‏ ‏(‏ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم ‏)‏ فلو أعلم إني إن زدت على السبعين غفر له لزدت ‏.‏

قال ‏:‏ ثم صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومشى معه حتى قام على قبره ، حتى فرغ منه ،

قال ‏:‏ فعجبت لي ولجرأتي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه ورسوله أعلم ‏.‏ فواللّه ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان ‏:‏ ‏(‏ ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون ‏)‏ فما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعده على منافق ، حتى قبضة اللّه تعالى ‏.‏

 ما نزل في المستأذنين والمعذرين والبكائين ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا باللّه وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم ‏)‏ وكان ابن أبي من أولئك ، فنعى اللّه ذلك عليه ، وذكره منه ، ثم قال تعالى ‏:‏

(‏ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد اللّه لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله ‏)‏ إلى أخر القصة ‏.‏

وكان المعذرون - فيما بلغني - نفرا من بني غفار منهم خفاف بن أيماء بن رحضة ، ثم كانت القصة لأهل العذر ، حتى انتهى إلى قوله ‏:‏ ‏(‏ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ‏)‏ وهم البكاءون ‏.‏

ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يعلمون ‏)‏ الخوالف ‏:‏ النساء ‏.‏

ثم ذكر حلفهم للمسلمين واعتذراهم فقال ‏:‏ ‏(‏ فأعرضوا عنهم ‏)‏ إلى قوله تعالى ‏:‏ ‏(‏ فإن ترضوا عنهم فإن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين ‏)‏ ‏.‏

 ما نزل في منافقي الأعراب ‏

ثم ذكر الأعراب ومن نافق منهم وتربصهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبالمؤمنين ، فقال ‏:‏ ‏(‏ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق ‏)أي ‏:‏ من صدقة أو نفقة في سبيل اللّه ‏(‏ مغرماً ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء واللّه سميع عليم ‏.)

 ما نزل في المخلصين من الأعراب  

ثم ذكر الأعراب أهل الإخلاص والإيمان منهم ، فقال ‏:‏ ‏(‏ ومن الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم ‏)‏ ‏.‏

 ما نزل في السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان

ثم ذكر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، وفضلهم ، وما وعدهم اللّه من حسن ثوابه إياهم ، ثم ألحق بهم التابعين لهم بإحسان ، فقال ‏:‏ ‏(‏ رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ‏)ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ‏)أي ‏:‏ لجوا فيه وأبوا غيره ‏(‏ سنعذبهم مرتين ‏)‏ والعذاب الذي أوعده اللّه تعالى مرتين ، فيما بلغني ، غمهم بما هم فيه من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذين يردون إليه ، عذاب النار والخلد فيه ‏.‏ ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى اللّه أن يتوب عليهم إن اللّه غفور رحيم ‏)‏ ‏.‏

ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ‏)‏ إلى أخر القصة ، ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ وآخرون مرجون لأمر اللّه إما يعذبهم

وإما يتوب عليهم ‏)‏ وهم الثلاثة الذين خلفوا ، وأرجأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرهم حتى أتت من اللّه توبتهم ، ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ والذين اتخذوا مسجداً ضراراً ‏)‏ إلى أخر القصة ، ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ‏)‏ ثم كان قصة الخبر عن تبوك ، وما كان فيها إلى أخر السورة ‏.‏

وكانت براءة تسمى في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم وبعده المبعثرة ، لما كشفت من سرائر الناس ‏.‏ وكانت تبوك أخر غزوة غزاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

 حسان يعدد مغازيه صلى اللّه عليه وسلم شعرا ‏:‏

وقال حسان بن ثابت يعدد مغازي الأنصار مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ويذكر مواطنهم معه في أيام غزوه ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وتروى لابنه عبدالرحمن بن حسان ‏.‏

ألست خير معد كلها نفرا * ومعشرا إن هم عموا وإن حصلوا

قوم هم شهدوا بدرا بأجمعهم * مع الرسول فما ألوا وما خذلوا

وبايعوه فلم ينكث به أحد * منهم ولم يك في إيمانهم دخل

ويوم صبحهم في الشعب من أحد * ضرب رصين كحر النار مشتعل

ويوم ذي قرد يوم استثار بهم * على الجياد فما خاموا وما نكلوا

وذا العشيرة جاسوها بخيلهم * مع الرسول عليها البيض والأسل

ويوم ودان أجلوا أهله رقصا * بالخيل حتى نهانا الحزن والجبل

وليلة طلبوا فيها عدوهم * للّه واللّه يجزيهم بما عملوا

وغزوة يوم نجد ثم كان لهم * مع الرسول بها الأسلاب والنفل

وليلة بحنين جالدوا معه * فيها يلعهم بالحرب إذ نهلوا

وغزوة القاع فرقنا العدو به * كما تفرق دون المشرب الرسل

ويوم بويع كانوا أهل بيعته * على الجلاد فآسوه وما عدلوا

وغزوة الفتح كانوا في سريته * مرابطين فما طاشوا وما عجلوا

ويوم خيبر كانوا في كتيبته * يمشون كلهم مستبسل بطل

بالبيض ترعش في الأيمان عارية * تعوج في الضرب أحيانا وتعتدل

ويوم سار رسول اللّه محتسبا * إلى تبوك وهم راياته الأول

وساسة الحرب إن حرب بدت لهم * حتى بدا لهم الإقبال والقفل

أولئك القوم أنصار النبي وهم * قومي أصير إليهم حين أتصل

ماتوا كراما ولم تنكث عهودهم * وقتلهم في سبيل اللّه إذ قتلوا

قال ابن هشام ‏:‏عجز أخرها بيتا عن غير ابن إسحاق ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال حسان بن ثابت أيضا ‏:‏

كنا ملوك الناس قبل محمد * فلما أتى الإسلام كان لنا الفضل

وأكرمنا اللّه الذي ليس غيره * إله بأيام مضت ما لها شكل

بنصر الإله والرسول ودينه * وألبسناه اسما مضى ما له مثل

أولئك قومي خير قوم بأسرهم * فما عد من خير فقومي له أهل

يربون بالمعروف معروف من مضى * وليس عليهم دون معروفهم قفل

إذا اختبطوا لم يفحشوا في نديهم * وليس على سؤالهم عندهم بخل

وإن حاربوا أو سالموا لم يشبهوا * فحربهم حتف وسلمهم سهل

وجارهم موف بعلياء بيته * له ما ثوى فينا الكرامة والبذل

وحاملهم موف بكل حمالة * تحمل لا غرم عليها ولا خذل

وقائلهم بالحق إن قال قائل * وحلمهم عود وحكمهم عدل

ومنا أمير المسلمين حياته * ومن غسلته من جنابته الرسل

قال ابن هشام ‏:‏وقوله ‏(‏ وألبسناه اسماً ‏)‏ عن غير ابن إسحاق ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال حسان بن ثابت أيضا ‏:‏

قومي أولئك إن تسألي * كرام إذا الضيف يوما ألم

عظام القدور لأيسارهم * يكبون فيها المسن السنم

يؤاسون جارهم في الغنى * ويحمون مولاهم إن ظلم

فكانوا ملوكا بأرضيهم * ينادون عضبا بأمر غشم

ملوكا على الناس لم يملكوا * من الدهر يوما كحل القسم

فأنبوا بعاد وأشياعها * ثمود وبعض بقايا إرم

بيثرب قد شيدوا في النخيل * حصونا ودجن فيها النعم

نواضح قد علمتها اليهو * د عل إليك وقولا هلم

وفما اشتهوا من عصير القطاف * والعيش رخوا على غيرهم

فسرنا إليهم بأثقالنا * على كل فحل هجان قطم

جنبنا بهن جياد الخيول * قد جللوها جلال الأدم

فلما أناخوا بجنبي صرار * وشدوا السروج بلي الحزم

فما راعهم غير معج الخيول * والزحف من خلفهم قددهم

فطاروا سراعا وقد أفزعوا * وجئنا إليهم كأسد الأجم

على كل سلهبة في الصيان * لا يشتكين نحول السأم

وكل كميت مطار الفؤاد * أمين الفصوص كمثل الزلم

عليها فوارس قد عودوا * قراع الكماة وضرب البهم

ملوك إذا غشموا في البلا * د لا ينكلون ولكن قدم

فأبنا بساداتهم والنساء * وأولادهم فيهم تقتسم

ورثنا مساكنهم بعدهم * وكنا ملوكا بها لم نرم

فلما أتانا الرسول الرشيد * بالحق والنور بعد الظلم

قلنا صدقت رسول المليك * هلم إلينا وفينا أقم

فنشهد أنك عبد الإله * أرسلت نورا بدين قيم

فإنا وأولادنا جنة * نقيك وفي مالنا فاحتكم

فنحن أولئك إن كذبوك * فناد نداء ولا تحتشم

وناد بما كنت أخفيته * نداء جهارا ولا تكتتم

فطار الغواة بأسيافهم * إليه يظنون أن يخترم

فقمنا إليهم بأسيافنا * نجالد عنه بغاة الأمم

بكل صقيل له ميعة * رقيق الذباب عضوض خذم

إذا ما يصادف صم العظا * م لم ينب عنها ولم ينثلم

فذلك ما ورثتنا القروم * مجدا تليدا وعزا أشم

إذا مر نسل كفى نسله * وغادر نسلا إذا ما انفصم

فما إن من الناس إلا لنا * عليه وإن خاس فضل النعم

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني أبو زيد الأنصاري بيته ‏:‏

فكانوا ملوكا بأرضيهم * ينادون غضبا بأمر غشم

وأنشدني ‏:‏

بيثرب قد شيدوا في النخيل * حصونا ودجن فيها النعم

وبيته ‏(‏ وكل كميت مطار الفؤاد ‏)‏ عنه ‏.‏

ذكر سنة تسع وتسميتها سنة الوفود ونزول سورة الفتح

 انقياد العرب وإسلامهم

قال ابن إسحاق ‏:‏ لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف ، وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏حدثني أبو عبيدة ‏:‏ أن ذلك في سنة تسع ، وأنها كانت تسمى سنة الوفود ‏.‏

 إذا جاء نصر اللّه والفتح

قال ابن إسحاق ‏:‏ وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش ، وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم ، وأهل البيت الحرام ، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وقادة العرب لا ينكرون ذلك ‏.‏ وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخلافه ، فلما افتتحت مكة ، ودانت له قريش ، ودوخها الإسلام ، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولا عداوته ، فدخلوا في دين اللّه كما قال عز وجل أفواجا يضربون إليه من كل وجه يقول اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ إذا جاء نصر اللّه والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ‏)أي ‏:‏ فاحمد اللّه علي ما أظهر من دينك واستغفره إنه كان توابا ‏.‏

 قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات ‏:‏

 رجال الوفد

فقدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفود العرب ، فقدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي ، في أشراف بني تميم ، منهم الأقرع بن حابس التميمي ، والزبرقان بن بدر التميمي ، أحد بني سعد ، وعمرو بن الأهتم ، والحبحاب بن يزيد ‏.‏

 الحتات وما أخذه معاوية من ميراثه  

قال ابن هشام ‏:‏الحتات وهو الذي آخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد آخى بين نفر من أصحابه من المهاجرين ، بين أبي بكر وعمر ، وبين عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف ، وبين طلحة بن عبيد اللّه والزبير بن العوام ، وبين أبي ذر الغفاري والمقداد بن عمرو البهراني ، وبين معاوية بن أبي سفيان والحتات بن يزيد المجاشعي ، فمات الحتات عند معاوية في خلافته ، فأخذ معاوية ما ترك وراثة بهذه الأخوة ، فقال الفرزدق لمعاوية ‏:‏

أبوك وعمي يا معاوية أورثا * تراثا فيحتاز التراث أقاربه

فما بال ميراث الحتات أكلته * وميراث حرب جامد لك ذائبه

وهذان البيتان في أبيات له ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏

وفي وفد بني تميم نعيم بن يزيد ،وقيس بن الحارث ، وقيس بن عاصم ، أخو بني سعد ، في وفد عظيم من بني تميم ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وعطارد بن حاجب ، أحد بني دارم بن مالك بن حنظلة ابن زيد مناة بن تميم ، والأقرع بن حابس ، أحد بني دارم بن مالك ، والحتات بن يزيد ، أحد بني دارم بن مالك ، والزبرقان بن بدر ، أحد بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، وعمرو بن الأهتم ، أحد بني منقر بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، وقيس بن عاصم أحد بني منقر بن عبيد بن الحارث ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ومعهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ، وقد كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن شهدا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتح مكة وحنيناً والطائف ‏.‏

 أصحاب الحجرات وطلبهم المفاخرة ‏

فلما قدم وفد بني تميم كانا معهم ، فلما دخل وفد بني تميم المسجد نادوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من وراء حجراته ‏:‏ أن اخرج إلينا يا محمد ، فآذى ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صياحهم ، فخرج إليهم ، فقالوا ‏:‏ يا محمد جئناك نفاخرك ، فأذن لشاعرنا وخطيبنا ؛

قال ‏:‏ قد أذنت لخطيبكم فليقل ‏:‏

 كلمة عطارد يفتخر قومه

فقام عطارد بن حاجب فقال ‏:‏

الحمد للّه الذي له علينا الفضل المن ،وهو أهله الذي جعلنا ملوكاً ، ووهب لنا أموالاً عظاما ، نفعل فيها المعروف ، وجعلنا أعز أهل المشرق ، وأكثره عدداً ، وأيسره عدة ، فمن مثلنا في الناس وأولي فضلهم ‏؟‏ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا ، ولو نشاء لأكثرنا الكلام ،ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا ، وإنا نعرف بذلك ‏.‏

أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا ، وأمر أفضل من أمرنا ‏.‏ ثم جلس ‏.‏

 ثابت بن قيس يرد على عطارد

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس ، أخي بني الحارث بن الخزرج ‏:‏ قم فأجب الرجل في خطبته ، فقام ثابت ، فقال ‏:‏

الحمد للّه الذي السماوات والأرض خلقه ، قضى فيهن أمره ، ووسع كرسيه علمه ، ولم يك شيء قط إلا من فضله ، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً ، واصطفى من خير خلقه رسولا ، أكرمه نسبا ، وأصدقه حديثاً ، وأفضله حسباً ، فأنزل عليه كتابه ، وائتمنه على خلقه ، فكان خيرة اللّه من العالمين ، ثم دعا الناس إلى الإيمان به ، فآمن برسول اللّه المهاجرون من قومه وذوو رحمه ، أكرم الناس حسباً وأحسن الناس وجوها ، وخير الناس فعالا ‏.‏

ثم كان أول الخلق إجابة ، واستجاب للّه حين دعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحن ، فنحن أنصار اللّه ووزراء رسوله ، نقاتل الناس حتى يؤمنوا باللّه ، فمن آمن باللّه ورسوله منع منا ماله ودمه ، ومن كفر جاهدناه في اللّه أبداً ، وكان قتله علينا يسيراً ‏.‏ أقول قولي هذا واستغفر اللّه لي وللمؤمنين والمؤمنات ، والسلام عليكم ‏.‏

 شعر الزبرقان يفتخر بقومه

فقام الزبرقان بن بدر فقال ‏:‏

نحن الكرام فلا حي يعادلنا * منا الملوك وفينا تنصب البيع

وكم قسرنا من الأحياء كلهم * عند النهاب وفضل العز يتبع

ونحن نطعم عند القحط مطعمنا * من الشواء إذا لم يؤنس القزع

بما ترى الناس تأتينا سراتهم * من كل أرض هويا ثم تصطنع

فننحر الكوم عبطا في أرومتنا * للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا

فلا ترانا إلى حي نفاخرهم * إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطع

فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه * فيرجع القوم والأخبار تستمع

إنا أبينا ولا يأبى لنا أحد * إنا كذلك عند الفخر نرتفع

قال ابن هشام ‏:‏

ويروى ‏:‏ منا الملوك وفينا تقسم الربع

ويروى ‏:‏ من كل أرض هوانا ثم نتبع

رواه لي بعض بن تميم ، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها للزبرقان ‏.‏

 حسان يرد على الزبرقان

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان حسان غائباً فبعث إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال حسان ‏:‏ جاءني رسوله ، فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم ، فخرجت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا أقول ‏:‏

منعنا رسول اللّه إذ حل وسطنا * على أنف راض من معد وراغم

منعناه لما حل بين بيوتنا * بأسيافنا من كل باغ وظالم

ببيت حريد عزه وثراؤه * بجابية الجولان وسط الأعاجم

هل المجد إلا السودد العود والندى * وجاه الملوك واحتمال العظائم

قال فلما انتهيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقام شاعر القوم ، فقال ما

قال ‏:‏ عرضت في قوله ، وقلت على نحو ما

قال ‏:‏

قال ‏:‏ فلما فرغ الزبرقان ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحسان بن ثابت ‏:‏ قم يا حسان ، فأجب الرجل فيما قال ‏.‏ فقام حسان ، فقال ‏:‏

إن الذوائب من فهر وأخوتهم * قد بينوا سنة للناس تتبع

يرضى بهم كل من كانت سريرته * تقوى الإله وكل الخير يصطنع

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم * أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غير محدثة * إن الخلائق فاعلم شرها البدع

إن كان في الناس سباقون بعدهم * فكل سبق لأدنى سبقهم تبع

لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم * عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا

إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم * أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا

أعفة ذكرت في الوحي عفتهم * لا يطبعون ولا يرديهم طمع

لا يبخلون على جار بفضلهم * ولا يمسهم من مطمع طبع

إذا نصبنا لحي لم ندب لهم * كما يدب إلى الوحشية الذرع

نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها * إذا الزعانف من أظفارها خشعوا

لا يفخرون إذا نالوا عدوهم * وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع

كأنهم في الوغى والموت مكتنع * أسد بحليه في أرساغها فدع

خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا * ولا يكن همك الأمر الذي منعوا

فإن في حربهم فاترك عداوتهم * شرا يخاض عليه السم والسلع

أكرم بقوم رسول اللّه شيعتهم * إذا تفاوتت الأهواء والشيع

أهدى لهم مدحتي قلب يؤازره * فيما أحب لسان حائك صنع

فإنهم أفضل الأحياء كلهم * إن جد بالناس جد القول أو شمعوا

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني أبو زيد ‏.‏

يرضى بها كل من كانت سريرته * تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا

 شعر أخر للزبرقان بن بدر

و قال ابن هشام ‏:‏ حدثني بعض أهل العلم بالشعر من بني تميم ، أن الزبرقان بن بدر ، لما قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في وفد تميم ، قام فقال ‏:‏

أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا * إذا احتفلوا عند احتضار المواسم

بأنا فروع الناس في كل موطن * وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا * ونضرب رأس الأصيد المتفاقم

وأن لنا المرباع في كل غارة * نغير بنجد أو بأرض الأعاجم

 شعر أخر لحسان في الرد على الزبرقان

فقام حسان بن ثابت ، فأجابه فقال ‏:‏

هل المجد إلا السودد العود والندى * وجاه الملوك واحتمال العظائم

نصرنا وآوينا النبي محمدا * على أنف راض من معد وراغم

بحي حريد أصله وثراؤه * بجابية الجولان وسط الأعاجم

نصرناه لما حل وسط ديارنا * بأسيافنا من كل باغ وظالم

جعلنا بنينا دونه وبناتنا * وطبنا له نفسا بفيء المغانم

ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا * على دينه بالمرهفات الصوارم

ونحن ولدنا من قريش عظيمها * ولدنا نبي الخير من آل هاشم

بني دارم لا تفخروا إن فخركم * يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم * لنا خول ما بين ظئر وخادم

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم * وأموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا للّه ندا وأسلموا * ولا تلبسوا زيا كزي الأعاجم

 إسلام الوفد‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله ، قال الأقرع بن حابس ‏:‏وأبى ، إن هذا الرجل لمؤتى له ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، ولشاعره أشعر من شاعرنا ، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا ، فلما فرغ القوم أسلموا ، وجوزهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأحسن جوائزهم ‏.‏

 شعر ابن الأهتم في هجاء قيس

وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم في ظهرهم ، وكان أصغرهم سناً ، فقال قيس بن عاصم ، وكان يبغض عمرو بن الأهتم ‏:‏ يا رسول اللّه ، إنه قد كان رجل منا في رحالنا ، وهو غلام حدث ، وأزرى به ، فأعطاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل ما أعطى القوم ، فقال عمرو بن الأهتم حين بلغه أن قيسا قال ذلك ، يهجوه ‏:‏

ظللت مفترش الهلباء تشتمني * عند الرسول فلم تصدق ولم تصب

سدناكم سوددا رهوا وسوددكم * باد نواجذه مقع على الذنب

قال ابن هشام ‏:‏ بقي بيت واحد تركناه ، لأنه أقذع فيه ‏.‏

ما نزل من القرآن في وفد بني تميم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وفيهم نزل من القرآن ‏:‏ ‏(‏ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ‏)‏ ‏.‏

قصة عامر بن الطفيل وأربد بن قيس في الوفادة عن بني عامر

 رؤساء الوفد ‏:‏

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد بني عامر ، فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر ، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر ، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم ‏.‏

 عامر يدبر الغدر بالرسول  

فقدم عامر بن الطفيل عدو اللّه ، على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يريد الغدر به ، وقد قال له قومه ‏:‏ يا عامر ، إن الناس قد أسلموا فأسلم ،

قال ‏:‏ واللّه لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي ، أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ‏!‏ ثم قال لأربد ‏:‏ إذا قدمنا على الرجل ، فإني سأشغل عنك وجهه ، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف ‏.‏

فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال عامر بن الطفيل ‏:‏ يا محمد ، خالني ،

قال ‏:‏ لا واللّه ، حتى تؤمن باللّه وحده ،

قال ‏:‏ يا محمد ، خالني ، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يخير شيئاً ،

قال ‏:‏ فلما رأى عامر ما يصنع أربد ،

قال ‏:‏ يا محمد خالني ،

قال ‏:‏ لا حتى تؤمن باللّه وحده لا شريك له ‏.‏

فلما أبي عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال ‏:‏ أما واللّه لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً ‏.‏

فلما ولي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ اللّهم اكفني عامر بن الطفيل ‏.‏

فلما خرجوا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عامر لأربد ‏:‏ ويلك يا أربد ‏!‏ أين ما كنت أمرتك به ‏؟‏ واللّه ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك ، وأيم اللّه لا أخافك بعد اليوم أبداً ،

قال ‏:‏ لا أبا لك ‏!‏ لا تعجل علي ، واللّه ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت بيني وبين الرجل ، حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف ‏؟‏ ‏.‏

 موت عامر بدعاء الرسول عليه  

وخرجوا راجعين إلى بلادهم ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث اللّه على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه ، فقتله اللّه في بيت امرأة من بني سلول ، فجعل يقول ‏:‏ يا بني عامر ، أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول ‏!‏ ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ويقال أغدة كغدة الإبل ، وموتا في بيت سلولية ‏!‏ ‏.‏

 موت أربد بصاعقة

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم خرج أصحابه حين واروه ، حين قدموا أرض بني عامر شاتين ، فلما قدموا أتاهم قومهم ، فقالوا ‏:‏ ما وراءك يا أربد ‏؟‏

قال ‏:‏ لا شيء واللّه ، لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن ، فأرميه بالنبل حتى أقتله ، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه ، فأرسل اللّه تعالى عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما ‏.‏وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه ‏.‏

 ما نزل في عامر وأربد

قال ابن هشام ‏:‏ وذكر زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس

قال ‏:‏ وأنزل اللّه عز وجل في عامر وأربد ‏(‏ اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ‏)‏ إلى قوله ‏:‏ ‏(‏ وما لهم من دونه من وال ‏)‏ ‏.‏

قال ‏:‏ المعقبات هي من أمر اللّه يحفظون محمداً ، ثم ذكر أربد وما قتله اللّه به فقال ‏:‏ ‏(‏ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ‏)‏ إلى قوله ‏:‏ ‏(‏ شديد المحال ‏)‏ ‏.‏

 شعر لبيد في بكاء أربد ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال لبيد يبكي أربد ‏:‏

ما إن تعدى المنون من أحد * لا والد مشفق ولا ولد

أخشى على أربد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والأسد

فعين هلا بكيت أربد إذ * قمنا وقام النساء في كبد

إن يشغبوا لا يبال شغبهم * أو يقصدوا في الحكوم يقتصد

حلو أريب وفي حلاوته * مر لطيف الأحشاء والكبد

وعين هلا بكيت أربد إذ * ألوت رياح الشتاء بالعضد

وأصبحت لاقحا مصرمة * حتى تجلت غوابر المدد

أشجع من ليث غابة لحم * ذو نهمة في العلا ومنتقد

لا تبلغ العين كل نهمتها * ليلة تمسي الجياد كالقدد

الباعث النوح في مآتمه * مثل الظباء الأبكار بالجرد

فجعني البرق والصواعق بالفارس * يوم الكريهة النجد

والحارب الجابر الحريب إذا * جاء نكيبا وإن يعد يعد

يعفو على الجهد والسؤال كما * ينبت غيث الربيع ذو الرصد

كل بني حرة مصيرهم * قل وإن أكثرت من العدد

إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا * يوما وإن فهم للّهلاك والنفد

قال ابن هشام ‏:‏بيته ‏(‏ والحارب الجابر الحريب ‏)‏ عن أبي عبيدة ، وبيته ‏(‏ يعفو على الجهد ‏)‏ عن غير ابن إسحاق ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال لبيد أيضا يبكي أربد ‏:‏

ألا ذهب المحافظ والمحامي * ومانع ضيمها يوم الخصام

وأيقنت التفرق يوم قالوا * تقسم مال أربد بالسهام

تطير عدائد الأشراك شفعا * ووترا والزعامة للغلام

فودع بالسلام أبا حريز * وقل وداع أربد بالسلام

وكنت إمامنا ولنا نظاما * وكان الجزع يحفظ بالنظام

وأربد فارس الهيجا إذ ما * تقعرت المشاجر بالفئام

إذا بكر النساء مردفات * حواسر لا يجئن على الخدام

فواءل يوم ذلك من أتاه * كما وأل المحل إلى الحرام

ويحمد قدر أربد من عراها * إذا ما ذم أرباب اللحام

وجارته إذا حلت لديه * لها نفل وحظ من سنام

فإن تقعد فمكرمة حصان * وإن تظعن فمحسنة الكلام

وهل حدثت عن أخوين داما * على الأيام إلا ابني شمام

وإلا الفرقدين وآل نعش * خوالد ما تحدث بانهدام

قال ابن هشام ‏:‏وهي في قصيدة له ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال لبيد أيضا يبكي أربد ‏:‏

انع الكريم للكريم أربدا * انع الرئيس واللطيف كبدا

يحذي ويعطي ماله ليحمدا * أدما يشبهن صوارا أبداً

السابل الفضل إذا ما عددا * ويملأ الجفنة ملئا مددا

رفها إذا يأتي ضريك وردا * مثل الذي في الغيل يقرو جمدا

يزداد قربا منهم أن يوعدا * أورثتنا تراث غير أنكدا

غبا ومالا طارفا وولدا * شرخا صقورا يافعا وأمردا

وقال لبيد أيضا ‏:‏

لن تفنيا خيرات أربد * فابكيا حتى يعودا

قولا هو البطل المحامي * حين يكسون الحديدا

ويصد عنا الظالمين * إذا لقينا القوم صيدا

فاعتاقه رب البرية * إذ رأى أن لا خلودا

فثوى ولم يوجع ولم * يوصب وكان هو الفقيد

وقال لبيد أيضا‏:‏

يذكرني بأربد كل خصم * ألد تخال خطته ضرارا

إذا اقتصدوا فمقتصد كريم * وإن جاروا سواء الحق جارا

ويهدي القوم مطلعا إذا ما * دليل القوم بالموماة حارا

قال ابن هشام ‏:‏أخرها بيتا عن غير ابن إسحاق ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال لبيد أيضا ‏:‏

أصبحت أمشي بعد سلمي بن مالك * وبعد أبي قيس وعروة كالأجب

إذا ما رأى ظل الغراب أضجه * حذارا على باقي السناسن والعصب

قال ابن هشام ‏:‏وهذان البيتان في أبيات له ‏.‏

 قدوم ضمام بن ثعلبة وافدا عن بني سعد بن بكر

قال ابن إسحاق ‏:‏ وبعث بنو سعد بن بكر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا منهم يقال له ضمام بن ثعلبة

 إسلامه ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب ، مولى عبداللّه بن عباس ، عن ابن عباس

قال ‏:‏

بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد ، ثم عقله ، ثم دخل إلى المسجد ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس في أصحابه ‏.‏

وكان ضمام رجلاً جلداً أشعر ذا غديرتين ، فأقبل حتى وقف على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أصحابه ، فقال ‏:‏ أيكم ابن عبدالمطلب

قال ‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أنا ابن عبدالمطلب ‏.‏

قال ‏:‏ أمحمد ‏؟‏

قال ‏:‏ نعم ‏.‏

قال ‏:‏ ياابن عبدالمطلب ، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة ، فلا تجدن في نفسك ،

قال ‏:‏ لا أجد في نفسي ، فسل عما بداً لك ‏.‏

قال ‏:‏ أنشدك اللّه ، إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من كائن بعدك ، آللّه بعثك إلينا رسولا ‏؟‏

قال ‏:‏ اللّهم نعم ‏.‏

قال ‏:‏ فأنشدك اللّه إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آللّه أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا ، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه ‏؟‏

قال ‏:‏ اللّهم نعم ‏.‏

قال ‏:‏ فأنشدك اللّه إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آللّه أمرك أن تصلى هذه الصلوات الخمس ‏؟‏

قال ‏:‏ اللّهم نعم ‏.‏

قال ‏:‏ ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة ‏:‏ الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها ، ينشده عند كل فريضة منها كما ينشده في التي قبلها ، حتى إذا فرغ ،

قال ‏:‏ فإني أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ، ثم لا أزيد ولا أنقص ، ثم انصرف إلى بعيره راجعاً ‏.‏

قال ‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة ‏.‏

 دعوة قومه للإسلام

قال فأتى بعيره فأطلق عقاله ، ثم خرج حتى قدم على قومه ، فاجتمعوا إليه ، فكان أول ما تكلم به أن

قال ‏:‏ بئست اللات والعزى ‏!‏ قالوا ‏:‏ مه ، يا ضمام اتق البرص ، اتق الجنون ،

قال ‏:‏ ويلكم إنهما واللّه لا يضران ولا ينفعان ، إن اللّه قد بعث رسولاً ، وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه ، وإني أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ، وما نهاكم عنه ،

قال ‏:‏ فواللّه ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً ‏.‏

قال ‏:‏ يقول عبداللّه بن عباس ‏:‏ فما سمعنا بوافد قدم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة ‏.‏

 قدوم الجارود في وفد عبدالقيس

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجارود بن عمرو بن خنش أخو عبدالقيس ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏الجارود بن بشر بن المعلى في وفد عبدالقيس وكان نصرانياً

 إسلامه

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني من لا أتهم عن الحسن

قال ‏:‏

لما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلمه ، فعرض عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإسلام ، ودعاه إليه ، ورغبه فيه ، فقال ‏:‏

يا محمد إني قد كنت على دين ، وإني تارك ديني لدينك ، أفتضمن لي ديني ‏؟‏

قال ‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ نعم ، أنا ضامن أن قد هداك اللّه إلى ما هو خير منه ‏.‏

قال ‏:‏ فأسلم وأسلم أصحابه ، ثم سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحملان ، فقال ‏:‏ واللّه ما عندي ما أحملكم عليه ،

قال ‏:‏ يا رسول اللّه ، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس ، أفنتبلغ عليها إلى بلادنا ‏؟‏

قال ‏:‏ لا ، إياك وإياها ‏.‏ فإنما تلك حرق النار ‏.‏

 موقفه من ردة قومه

فخرج من عنده الجارود راجعاً إلى قومه ، وكان حسن الإسلام ، صلباً على دينه ، حتى هلك وقد أدرك الردة ، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر ، قام الجارود فتكلم ، فتشهد شهادة الحق ، ودعا إلى الإسلام فقال ‏:‏ أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله ، وأكفر من لم يشهد ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ويروى ‏:‏ وأكفي من لم يشهد ‏.‏

 إسلام المنذر بن ساوى

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي ، فأسلم فحسن إسلامه ، ثم هلك بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل ردة أهل البحرين ، والعلاء عنده أميراً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على البحرين ‏.‏

 قدوم وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد بني حنيفة ، فيهم مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏مسيلمة بن ثمامة ، ويكنى أبا ثمامة ‏.‏

 ما طلبه مسيلمة الكذاب من الرسول صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار ، ثم من بني النجار ، فحدثني بعض علمائنا من المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تستره بالثياب ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس في أصحابه ، معه عسيب من سعف النخل ، في رأسه خوصات ، فلما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهم يسترونه بالثياب ، كلمه وسأله ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد حدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا ‏.‏

زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وخلفوا مسيلمة في رحالهم ، فلما أسلموا ذكروا مكانه ، فقالوا ‏:‏ يا رسول اللّه ، إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا ، وفي ركابنا يحفظها لنا ،

قال ‏:‏ فأمر له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم ؛ وقال ‏:‏

أما إنه ليس بشركم مكاناً أي ‏:‏ لحفظه ضيعة أصحابه ، وذلك الذي يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

 تنبؤ مسيلمة

قال ‏:‏ ثم انصرفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجاءوه بما أعطاه ، فلما انتهوا إلى اليمامة ، ارتد عدو اللّه وتنبأ وتكذب لهم ، وقال ‏:‏ إني قد أشركت في الأمر معه ‏.‏ وقال لوفده الذين كانوا معه ‏:‏ ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بشركم مكاناً ، ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه ، ثم جعل يسجع لهم الأساجيع ، ويقول لهم ‏:‏ فيما يقول مضاهاة للقرآن ‏:‏ ‏(‏ لقد أنعم اللّه على الحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى ‏)‏ وأحل لهم الخمر والزنا ، ووضع عنهم الصلاة ، وهو مع ذلك يشهد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنه نبي ، فأصفقت معه حنيفة على ذلك ، فاللّه اعلم أي ذلك كان ‏.‏

قدوم زيد الخيل في وفد طيئ

 إسلامه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد طيئ ، فيهم زيد الخيل ، وهو سيدهم ، فلما انتهوا إليه كلموه وعرض عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإسلام ، فأسلموا ، فحسن إسلامهم ؛ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما حدثني من لا أتهم من رجال طيئ ‏:‏

ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني ، إلا رأيته دون ما يقال فيه ، إلا زيد الخيل ، فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه ‏.‏ ثم سماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ زيد الخير ، وقطع له فيدا وأرضين معه ؛ وكتب له بذلك ‏.‏

 موت زيد الخير

فخرج من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راجعاً إلى قومه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه

قال ‏:‏ قد سماها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم باسم غير الحمى ، وغير أم ملدم ، فلم يثبته ، فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه ، يقال له فردة أصابته الحمى بها فمات ، ولما أحس زيد بالموت

قال ‏:‏

أمرتحل قوم المشارق غدوة * وأترك في بيت بفردة منجد

ألا رب يوم لو مرضت لعادني * عوائد من لم يبر منهن يجهد

فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان معه من كتبه ، التي قطع له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فحرقتها بالنار ‏.‏

 قدوم عدي بن حاتم

 هربه أولا إلى الشام فرارا من الإسلام

وأما عدي بن حاتم فكان يقول ، فيما بلغني ‏:‏ ما من رجل من العرب كان اشد كراهية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سمع به مني ، أما أنا فكنت امرأ شريفاً ، وكنت نصرانياً ، وكنت أسير في قومي بالمرباع ، فكنت في نفسي على دين ، وكنت ملكاً في قومي ، لما كان يصنع بي ‏.‏

فلما سمعت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كرهته ، فقلت لغلام كان لي عربي ، راعيا لإبلي ‏:‏ لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللاً سماناً ‏.‏ فاحتبسها قريباً مني ، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني ؛ ففعل ؛ ثم إنه أتاني ذات غداة ، فقال ‏:‏ يا عدي ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن ، فإني قد رأيت رايات ، فسألت عنها ، فقالوا ‏:‏ هذه جيوش محمد ،

قال ‏:‏ فقلت ‏:‏ فقرب إلي أجمالي ، فقربها فاحتملت بأهلي وولدي ، ثم قلت ‏:‏ ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام ، فسلكت الجوشية ، ويقال ‏:‏ الحوشية ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر ، فلما قدمت الشام أقمت بها ‏.‏

 أسر الرسول ابنة حاتم

وتخالفني خيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فتصيب ابنة حاتم ، فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سبايا من طيئ ، وقد بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هربي إلى الشام ،

قال ‏:‏ فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد ، كانت السبايا يحبسن فيها ، فمر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقامت إليه ، وكانت امرأة جزلة ، فقالت ‏:‏ يا رسول اللّه ، هلك الولد ، وغاب الوافد ، فامنن علي من اللّه عليك ‏.‏

قال ‏:‏ من وافدك ‏؟‏

قالت ‏:‏ عدي بن حاتم ‏.‏

قال ‏:‏ الفار من اللّه ورسوله ‏؟‏

 

قالت ‏:‏ ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتركني ، حتى إذا كان من الغد مر بي ، فقلت له مثل ذلك وقال لي مثل ما قال بالأمس ‏.‏

 

قالت ‏:‏ حتى إذا كان بعد الغد مر بي ، وقد يئست منه ، فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه ،

قالت ‏:‏ فقمت إليه ، فقلت ‏:‏

يا رسول اللّه ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علي من اللّه عليك ‏.‏ فقال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة ، حتى يبلغك إلى بلادك ، ثم آذنيني ‏.‏

فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن أكلمه ، فقيل ‏:‏ علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه ‏.‏

وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة ،

قالت ‏:‏ وإنما أريد أن آتي أخي بالشام ‏.‏ فجئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت ‏:‏ يا رسول اللّه ، قد قدم رهط من قومي ، لي فيهم ثقة وبلاغ ‏.‏

قالت ‏:‏ فكساني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وحملني ، وأعطاني نفقة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام ‏.‏

 نصيحة ابنة حاتم أخاها بالإسلام

قال عدي ‏:‏ فواللّه إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلي تَؤُمُّنا ،

قال ‏:‏ فقلت ابنة حاتم ‏.‏

قال ‏:‏ فإذا هي هي ، فلما وقفت علي انسحلت تقول ‏:‏ القاطع الظالم ، احتملت بأهلك وولدك ، وتركت بقية والدك عورتك ‏!‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ أي أخيه لا تقولي إلا خيرا ، فواللّه ما لي من عذر لقد صنعت ما ذكرت ‏.‏

قال ‏:‏ ثم نزلت فأقامت عندي ، فقلت لها ‏:‏ وكان امرأة حازمة ، ماذا ترين في أمر هذا الرجل ‏؟‏

قالت ‏:‏ أرى واللّه أن تلحق به سريعاً ، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله ، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عز اليمن ، وأنت أنت ‏.‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ واللّه إن هذا الرأي ‏.‏

 إسلام عدي بعد قدومه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال فخرجت حتى أقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فدخلت عليه وهو في مسجده ، فسلمت عليه ، فقال ‏:‏ من الرجل ‏؟‏ فقلت ‏:‏ عدي بن حاتم ، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فانطلق بي إلى بيته ، فواللّه إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها ‏.‏

قال ‏:‏ قلت في نفسي ‏:‏ واللّه ما هذا بملك ‏!‏

قال ‏:‏ ثم مضى بي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى إذا دخل في بيته ، تناول وسادة في أدم محشوة ليفا ، فقذفها إلي ، فقال ‏:‏ اجلس على هذه ،

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ بل أنت فاجلس عليها ، فقال ‏:‏ بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأرض ‏.‏

قال ‏:‏ قلت في نفسي ‏:‏ واللّه ما هذا بأمر ملك ‏.‏

ثم قال ‏:‏ إيه يا عدي بن حاتم ، ألم تك ركوسيا ‏؟‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ بلى ،

قال ‏:‏ أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع ‏؟‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ بلى ،

قال ‏:‏ فإن ذلك يكن يحل لك في دينك ،

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ أجل واللّه ‏.‏

وقال ‏:‏ وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل ‏.‏

ثم قال ‏:‏ لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، فواللّه ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ،

ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم ، وقلة

عددهم ، فواللّه ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف ‏.‏

ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم ، وأيم اللّه ، ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ،

قال ‏:‏ فأسلمت ‏.‏

وكان عدي يقول ‏:‏ قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة ، واللّه لتكونن ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها ، لا تخاف حتى تحج هذا البيت ، وأيم اللّه لتكون الثالثة ، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه ‏.‏

 قدوم فروة بن مسيك المرادي

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم فروة بن مسيك المرادي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة ، ومباعداً لهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

 يوم الردم بين همدان ومراد

وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة ، أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا ، حتى أثخنوهم في يوم كان يقال له ‏:‏ يوم الردم ، فكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك في ذلك اليوم ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏الذي قاد همدان في ذلك اليوم مالك بن حريم الهمداني ‏.‏

 شعر فروة بن مسيك في يوم الردم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وفي ذلك اليوم يقول فروة بن مسيك ‏:‏

مررنا على لفاة وهن خوص * ينازعن الأعنة ينتحينا

فإن نغلب فغلابون قدما * وإن نغلب فغير مغلبينا

وما إن طبنا جبن ولكن * منايانا وطعمة آخرينا

كذاك الدهر دولته سجال * تكر صروفه حينا فحينا

فبينا ما نسر به ونرضى * ولو لبست غضارته سنينا

إذ انقلبت به كرات دهر * فألفيت الألى غبطوا طحينا

فمن يغبط بريب الدهر منهم * يجد ريب الزمان له خؤونا

فلو خلد الملوك إذن خلدنا * ولو بقي الكرام إذن بقينا

فأفنى ذلكم سروات قومي * كما أفنى القرون الأولينا

قال ابن هشام ‏:‏أول بيت منها ، وقوله ‏:‏ ‏(‏ فإن نغلب ‏)‏ عن غير ابن إسحاق ‏.‏

قدوم فروة على الرسول صلى اللّه عليه وسلم وماقاله من الشعر ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة

قال ‏:‏

لما رأيت ملوك كندة أعرضت * كالرجل خان الرجل عرق نسائها

قربت راحلتي أؤم محمدا * أرجو فواضلها وحسن ثرائها

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني أبو عبيدة ‏:‏ ‏(‏ أرجو فواضله وحسن ثنائها ‏)‏ ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما بلغني - ‏:‏ يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم ‏؟‏

قال ‏:‏ يا رسول اللّه ، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك ‏!‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيراً ‏.‏

واستعمله النبي صلى اللّه عليه وسلم على مراد وزيد ومذحج كلها ‏.‏ وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة ، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

 قدوم عمرو بن معديكرب في أناس من بني زبيد

 إسلام عمرو ‏:‏

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمرو بن معديكرب في أناس من بني زبيد ، فأسلم ، وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادي ، حين انتهى إليهم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ يا قيس ، إنك سيد قومك ، وقد ذكر لنا أن رجلاً من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز ، يقول إنه نبي ، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه ، فإن كان نبياً كما يقول ، فإنه لن يخفي عليك ، وإذا لقيناه اتبعناه ، وإن كان غير ذلك علمنا علمه ، فأبي عليه قيس ذلك ، وسفه رأيه ، فركب عمرو بن معديكرب حتى قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأسلم ، وصدقه ، وآمن به ‏.‏

 ما قاله عمرو فيما أوعده به قيس بن مكشوح

فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح ، أوعد عمراً ، وتحطم عليه ، وقال ‏:‏ خالفني وترك رأيي ؛ فقال عمرو بن معديكرب في ذلك ‏:‏

أمرتك يوم ذي صنعاء * أمرا باديا رشده

أمرتك باتقاء اللّه * والمعروف تتعده

خرجت من المنى مثل * الحمير غره وتده

تمناني على فرس * عليه جالسا أسده

علي مفاضة كالنهي * أخلص ماءه جدده

ترد الرمح منثني السنان * عوائرا قصده

فلوا لاقيتني للقيت * ليثا فوقه لبدة

تلاقي شنبثا شثن البراثن * ناشزا كتده

يسامي القرن إن قرن * تيممه فيعتضده

فيأخذه فيرفعه * فيخفضه فيقتصده

فيدمغه فيحطمه * فيخضمه فيزدرده

ظلوم الشرك فيما أحرزت * أنيابه ويده

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني أبو عبيدة ‏:‏

أمرتك يوم ذي صنعاء * أمرا بينا رشده

أمرتك باتقاء اللّه * تأتيه وتتعده

فكنت كذي الحمير غرره * مما به وتده

 ارتداد عمرو بعد موت الرسول

قال ابن إسحاق ‏:‏ فأقام عمرو بن معديكرب في قومه من بني زبيد ‏.‏ وعليهم فروة بن مسيك ، فلما توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارتد عمرو بن معديكرب ، وقال حين ارتد ‏:‏

وجدنا ملك فروة شر ملك * حمارا ساف منخره بثفر

وكنت إذا رأيت أبا عمير * ترى الحولاء من خبث وغدر

قال ابن هشام ‏:‏قوله ‏:‏ ‏(‏ بشفر ‏)‏ عن أبي عبيدة ‏.‏

 قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة

 إسلامه ومن معه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأشعث بن قيس ، في وفد كندة فحدثني الزهري بن شهاب أنه قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ثمانين راكباً من كندة ، فدخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسجده ، وقد رجلوا جممهم وتكحلوا ، وعليهم جبب الحبرة ، وقد كففوها بالحرير ، فلما دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال ‏:‏ ألم تسلموا ‏؟‏ قالوا ‏:‏ بلى ،

قال ‏:‏ فما بال هذا الحرير في أعناقكم ‏؟‏

قال ‏:‏ فشقوه منها ، فألقوه ‏.‏

 انتسابهم إلى آكل المرار

ثم قال الأشعث بن قيس ‏:‏ يا رسول اللّه ، نحن بنو آكل المرار ، وأنت ابن آكل المرار ،

قال ‏:‏ فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال ‏:‏ ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبدالمطلب ، وربيعة بن الحارث ‏.‏

وكان العباس وربيعة رجلين تاجرين ، وكانا إذا شاعا في بعض العرب ، فسئلا ممن هما ‏.‏ قالا نحن بنو آكل المرار ، يتعززان بذلك ، وذلك أن كندة كانوا ملوكاً ، ثم قال لهم ‏:‏ لا بل نحن بنو النضر بن كنانة ، لا نقفوا أمنا ، ولا ننتفي من أبينا ، فقال الأشعث بن قيس ‏:‏

هل فرغتم يا معشر كندة ‏؟‏ واللّه لا اسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ الأشعث بن قيس من ولد آكل المرار من قبل النساء ، وآكل المرار ‏:‏ الحارث بن عمرو بن حجر بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندى ؛ ويقال ‏:‏ كندة ، وإنما سمي آكل المرار ، لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم ، وكان الحارث غائبا ، فغنم وسبى ، وكان فيمن سبى أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني ، امرأة الحارث بن عمرو ، فقالت لعمرو في مسيره ‏:‏ لكأني برجل أدلم أسود ، كأن مشافره مشافر بعير آكل مرار قد أخذ برقبتك ، تعني الحارث ، فسمى آكل المرار ‏.‏ والمرار ‏:‏ شجر ‏.‏

ثم تبعه الحارث في بني بكر بن وائل ، فلحقه فقتله ، واستنقذ امرأته ، وما كان أصاب ، فقال الحارث بن حلزة اليشكري لعمرو بن المنذر ، وهو عمرو بن هند اللخمي ‏:‏

وأقدناك رب غسان بالمنذر * كرها إذ لا تكال الدماء

لأن الحارث الأعرج الغساني قتل المنذر أباه ، وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏

وهذا الحديث أطول مما ذكرت ، وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت من القطع ‏.‏

ويقال ‏:‏ بل آكل المرار ‏:‏ حجر بن عمرو بن معاوية ، وهو صاحب هذا الحديث ، وإنما سمي آكل المرار ، لأنه أكل هو وأصحابه في تلك الغزوة شجرا يقال له المرار ‏.‏

 قدوم صرد بن عبداللّه الأزدي مسلما

 إسلامه

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صرد بن عبداللّه الأزدي ، فأسلم ، وحسن إسلامه ، في وفد من الأزد ، فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على من أسلم من قومه ، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك ، من قبل اليمن ‏.‏

 قتاله أهل جرش

فخرج صرد بن عبداللّه يسير بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى نزل بجرش ، وهي يومئذ مدينة مغلقة ، وبها قبائل من قبائل اليمن ، وقد ضوت إليهم خثعم ، فدخلوها معهم حين سمعوا بسير المسلمين إليهم ، فحاصروهم فيها قريباً من شهر ، وامتنعوا فيها منه ثم رجع عنهم قافلاً ، حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له شكر ، ظن أهل جرش أنه إنما ولي عنهم منهزما ، فخرجوا في طلبه ، حتى إذا أدركوه عطف عليهم ، فقتلهم قتلاً شديداً ‏.‏

 أخبار الرسول بما حدث

وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة يرتادان وينظران ، فبينا هما عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشية بعد صلاة العصر ، إذ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ بأي بلاد اللّه شكر ‏؟‏ فقام إليه الجرشيان ، فقالا ‏:‏ يا رسول اللّه ، ببلادنا جبلاً يقال له كشر ، وكذلك يسميه أهل جرش ، فقال ‏:‏ إنه ليس بكشر ، ولكنه شكر ، قالا ‏:‏ فما شأنه يا رسول اللّه ‏؟‏

قال ‏:‏ إن بدن اللّه لتنحر عنده الآن ‏.‏

قال ‏:‏ فجلس الرجلان إلى أبي بكر ، أو إلى عثمان ، فقال لهما ‏:‏ ويحكما إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لينعى لكما قومكما ، فقوما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فاسألاه أن يدعو اللّه أن يرفع عن قومكما ، فقاما إليه ، فسألاه ذلك ، فقال ‏:‏ اللّهم ارفع عنهم ‏.‏ فخرجا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راجعين إلى قومهما ، فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبداللّه ، في اليوم الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما قال ، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر ‏.‏

 إسلام أهل جرش

وخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلموا ، وحمى لهم حول قريتهم ، على أعلام معلومة ، للفرس والراحلة وللمثيرة ، وبقرة الحرث ، فمن رعاه من الناس فمالهم سحت ، فقال في تلك الغزوة رجل من الأزد ، وكانت خثعم تصيب من الأزد في الجاهلية ، وكانوا يعدون في الشهر الحرام ‏:‏

يا غزوة ما غزونا غير خائبة * فيها البغال وفيها الخيل والحمر

حتى أتينا حمرا في مصانعها * وجمع خثعم قد شاعت لها النذر

إذا وضعت غليلا كنت أحمله * فما أبالي أدانوا بعد أم كفروا

قدوم رسول اللّه ملوك حمير بكتابهم

 قدوم رسول ملوك حمير

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتاب ملوك حمير ، مقدمة من تبوك ، ورسولهم إليه بإسلامهم ، الحارث بن عبد كلال ، ونعيم بن عبد كلال ، والنعمان ، قيل ذي رعين ومعافر وهمدان ؛ وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم ، ومفارقتهم الشرك وأهله ‏.‏

 كتاب الرسول إليهم فكتب إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏

من محمد رسول اللّه النبي ، إلى الحارث بن عبد كلال ، وإلى نعيم بن عبد كلال ، وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان ‏.‏

أما بعد ذلكم ‏:‏ فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو ‏.‏

أما بعد ‏:‏ فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم ، فلقينا بالمدينة ، فبلغ ما أرسلتم به ، وخبرنا ما قبلكم ، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين ، وأن اللّه قد هداكم بهداه ، إن أصلحتم وأطعتم اللّه ورسوله ، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأعطيتم من المغانم خمس اللّه ، وسهم الرسول وصفيه ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار ، عشر ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر ‏.‏

وأن في الإبل الأربعين ابنة لبون ، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر ، وفي كل خمس من الإبل شاة ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ، جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها ، شاة ‏.‏

وأنها فريضة اللّه التي فرض على المؤمنين في الصدقة ، فمن زاد خيرا فهو خير له ، ومن أدى ذلك ، وأشهد على إسلامه ، وظاهر المؤمنين على المشركين ، فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، وله ذمة اللّه وذمة رسوله ‏.‏

وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني ، فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها ، وعليه الجزية ، على كل حال ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، دينار واف ، من قيمة المعافر ، أو عوضه ثيابا ‏.‏

فمن أدى ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإنه له ذمة اللّه وذمة رسوله ، ومن منعه فإنه عدو للّه ولرسوله ‏.‏

أما بعد ‏:‏ فإن رسول اللّه محمداً النبي ، أرسل إلى زرعة ذي يزن ، أن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيراً ، معاذ بن جبل ، وعبداللّه بن زيد ، ومالك بن عبادة ، وعقبة بن نمر ، ومالك بن مرة ، وأصحابهم ، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم ، وأبلغوها رسلي ، وأن أميرهم معاذ بن جبل ، فلا ينقلبن إلا راضيا ‏.‏

أما بعد ‏:‏ فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا اللّه وأنه عبده ورسوله ، ثم أن مالك بن مرة الرهاوي ، قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير ، وقتلت المشركين ، فأبشر بخير ، وآمرك بحمير خيراً ، ولا تخونوا ولا تخاذلوا ، فإن رسول اللّه هو ولي غنيكم وفقيركم ، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته ، إنما هي زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل ‏.‏

وأن مالكاً قد بلغ الخبر ، وحفظ الغيب ، وآمركم به خيراً ، وإني قد أرسلت إليهم من صالحي أهل وأولي دينهم وأولي علمهم ، وآمرك بهم خيراً ، فإنهم منظور إليهم ،والسلام عليكم ورحمه اللّه وبركاته ‏.‏

وصية الرسول معاذا حين بعثه إلى اليمن

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبداللّه بن أبي بكر أنه حدث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حين بعث معاذاً أوصاه ، وعهد إليه ، ثم قال له ‏:‏

يسر ولا تعسر ، وبشر ولا تنفر ، وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب ، يسألونك ما مفتاح الجنة ‏؟‏ فقل ‏:‏ شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، فخرج معاذ ، حتى إذا قدم اليمن قام بما أمره به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأتته امرأة من أهل اليمن ، فقالت ‏:‏ يا صاحب رسول اللّه ، ما حق زوج المرأة عليها ‏؟‏

قال ‏:‏ ويحك ‏!‏ إن المرأة لا تقدر على أن تؤدي حق زوجها ، فأجهدي نفسك في أداء حقه ما استطعت ،

قال ‏:‏ واللّه لئن كنت صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنك لتعلم ما حق الزوج على المرأة ‏.‏

قال ‏:‏ ويحك ‏!‏ لو رجعت إليه فوجدته تنثعب منخراه قيحاً ودماً فمصصت ذلك حتى تذهبيه ما أديت حقه ‏.‏

 إسلام فروة بن عمرو الجذامي

 إسلامه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وبعث فروة بن عمرو النافرة الجذامي ، ثم النفاثي ، إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رسولا بإسلامه ، وأهدى له بغلة بيضاء ، وكان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب ، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام ‏.‏

 حبس الروم له وشعره ومقتله

فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه ، طلبوه حتى أخذوه ، فحبسوه عندهم ، فقال في محبسه ذلك ‏:‏

طرقت سليمى موهنا أصحابي * والروم بين الباب والقروان

صد الخيال وساءه ما قد رأى * وهممت أن أغفى وقد أبكاني

لا تكحلن العين بعدي إثمدا * سلمى ولا تدين للإتيان

ولقد علمت أبا كبيشة أنني * وسط الأعزة لا يحص لساني

فلئن هلكت لتفقدن أخاكم * ولئن بقيت لتعرفن مكاني

ولقد جمعت أجل ما جمع الفتى * من جودة وشجاعة وبيان

فلما أجمعت الروم لصلبه على ماء لهم ، يقال له عفراء بفلسطين ، قال‏:‏

ألا هل أتى سلمى بأن حليلها * على ماء عفراء فوق إحدى الرواحل

على ناقة لم يضرب الفحل أمها * مشذبة أطرافها بالمناجل

فزعم الزهري بن شهاب أنهم لما قدموه ليقتلوه ،

قال ‏:‏

بلغ سراة المسلمين بأنني * سلم لربي أعظمي ومقامي

ثم ضربوا عنقه ، وصلبوه ، على ذلك الماء ، يرحمه اللّه تعالى ‏.‏

إسلام بني الحارث بن كعب على يدي خالد بن الوليد لما سار إليهم

 دعوة خالد الناس إلى الإسلام وإسلامهم

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد ، في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى ، سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران ، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ، قبل أن يقاتلهم ثلاثاً ، فإن استجابوا ، فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم ‏.‏

فخرج خالد حتى قدم عليهم ، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ، ويدعون إلى الإسلام ، ويقولون ‏:‏ أيها الناس ، أسلموا تسلموا ‏.‏

فأسلم الناس ، ودخلوا فيما دعوا إليه ، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب اللّه وسنة نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، وبذلك كان أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا ‏.‏

 كتاب خالد إلى الرسول يسأله أمره

ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ لمحمد النبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، من خالد بن الوليد ، السلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته ، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله هو ‏.‏

أما بعد ‏:‏ يا رسول اللّه صلى اللّه عليك ، فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب ، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام ، وأن أدعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا ، أقمت فيهم ، وقبلت منهم ، وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب اللّه وسنة نبيه ، وإن لم يسلموا قاتلتهم ، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام ، كما أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبعثت فيهم ركباناً قالوا ‏:‏

يا بني الحارث ، أسلموا تسلموا ، فأسلموا ولم يقاتلوا ، وأنا مقيم بين أظهرهم ، آمرهم بما أمرهم اللّه به ، وأنهاهم عما نهاهم اللّه عنه ، وأعلمهم معالم الإسلام ، وسنة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، حتى يكتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،والسلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته ‏.‏

 رد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على خالد

فكتب إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏

من محمد النبي رسول اللّه إلى خالد بن الوليد ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو ‏.‏

أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك تخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم ، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام ، وشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبداللّه ورسوله ، وأن قد هداهم اللّه بهداه ، فبشرهم وأنذرهم ، وليقبل معك وفدهم ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته ‏.‏

 قدوم خالد مع وفدهم على الرسول

فأقبل خالد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأقبل معه بني الحارث بن كعب ، منهم قيس بن الحصين ذي الغصة ، ويزيد بن عبدالمدان ، ويزيد بن المحجل ، وعبداللّه بن قراد الزيادي ، وشداد بن عبداللّه القناني ، وعمرو بن عبداللّه الضبابي ‏.‏

 حديث الرسول صلى اللّه عليه وسلم معهم

فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرآهم ،

قال ‏:‏ من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند ‏؟‏ قيل ‏:‏ يا رسول اللّه ، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب ، فلما وقفوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلموا عليه ،

وقالوا ‏:‏ نشهد أنك رسول اللّه وأنه لا إله إلا اللّه ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ وأنا اشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه ‏.‏

ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أنتم الذين إذا زجروا استقدموا ، فسكتوا ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثانية ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثالثة ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الرابعة ، فقال يزيد بن عبدالمدان ‏:‏ نعم ، يا رسول اللّه ، نحن الذين إذا زجروا استقدموا ، قالها أربع مرار ؛ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

لو أن خالداً لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا ، لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم ، فقال يزيد بن عبدالمدان ‏:‏ أما واللّه ما حمدناك ولا حمدنا خالداً ؛

قال ‏:‏ فمن حمدتم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ حمدنا اللّه عز وجل الذي هدانا بك يا رسول اللّه ،

قال ‏:‏ صدقتم ‏.‏

ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية ، قالوا ‏:‏ لم نكن نغلب أحداً ،

قال ‏:‏ بلى ، قد كنتم تغلبون من قاتلكم ، قالوا ‏:‏ كنا نغلب من قاتلنا يا رسول اللّه إنا كنا نجتمع ولا نفترق ، ولا نبدأ أحدا بظلم ،

قال ‏:‏ صدقتم وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بني الحارث بن كعب قيس بن الحصين ‏.‏

فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال، أو في صدر ذي القعدة ، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر ، حتى توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ورحم وبارك ، ورضي وأنعم ‏.‏

 الرسول يبعث عمرو بن حزم بعهده إليهم

وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ، ليفقههم في الدين ، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ، ويأخذ منهم صدقاتهم ،

وكتب له كتاباً عهد إليه فيه عهده ،

وأمره فيه بأمره ‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ هذا بيان من اللّه ورسوله ، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، عهد من محمد النبي رسول اللّه لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى اللّه في أمره كله ، فإن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره اللّه ، وأن يبشر الناس بالخير ، ويأمرهم به ، ويعلم الناس القرآن ، ويفقههم فيه ، وينهى الناس ‏.‏

فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم ، والذي عليهم ، ويلين للناس في الحق ، ويشتد عليهم في الظلم ، فإن اللّه كره الظلم ، ونهى الناس عنه ، فقال ‏:‏ ‏(‏ ألا لعنة اللّه على الظالمين ‏)‏ ويبشر الناس بالجنة وبعملها ، وينذر الناس النار وعملها ، ويستأنف الناس حتى يفقهوا في الدين ، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته ، وما أمر اللّه به ، والحج الأكبر ‏:‏ الحج الأكبر ، والحج الأصغر‏:‏ هو العمرة ‏.‏

وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير ، إلا أن يكون ثوبا يثنى طرفيه على عاتقيه ، وينهى الناس أن يحتبي أحد في ثوب واحد ، يفضي بفرجه إلى السماء ، وينهى أن يعقص أحد شعر رأسه في قفاه ، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر ، وليكن دعواهم إلى اللّه عز وجل وحده لا شريك له ، فمن لم يدع إلى اللّه ، ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف ، حتى تكون دعواهم إلى اللّه وحده لا شريك له ‏.‏

ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ، ويمسحون برؤوسهم كما أمرهم اللّه ‏.‏

وأمر بالصلاة لوقتها ، وإتمام الركوع والسجود والخشوع ، ويغلس بالصبح ، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس ، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة ، والمغرب حين يقبل الليل ، لا يؤخر حتى تبدو النجوم في السماء ، والعشاء أول الليل ‏.‏

وأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها ، والغسل عند الرواح إليها ‏.‏

وأمره أن يأخذ من المغانم خمس اللّه ، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل عشرين أربع شياه ، وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ، جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها ، شاة ، فإنها فريضة اللّه التي افترض على المؤمنين في الصدقة ، فمن زاد خيراً فهو خير له ‏.‏

وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاماً خالصاً من نفسه ، ودان بدين الإسلام ، فإنه من المؤمنين ، له مثل ما لهم ، وعليه مثل ما عليهم ، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها ، وعلى كل حالم ‏:‏ ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، دينار واف أو عوضه ثياباً ، فمن أدى ذلك فإن له ذمة اللّه وذمة رسوله ، ومن منع ذلك فإنه عدو للّه ولرسوله وللمؤمنين جميعا ، صلوات اللّه على محمد ، والسلام عليه ورحمة اللّه وبركاته ‏.‏

 قدوم رفاعة بن زيد الجذامي

 إسلامه وحمله كتاب الرسول إلى قومه ‏:‏

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هدنة الحديبية ، قبل خيبر ، رفاعة بن زيد الجذامي ، ثم الضبيبي ، فأهدى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غلاماً ، وأسلم فحسن إسلامه ، وكتب له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتاباً إلى قومه وفي كتابه ‏:‏

 كتاب الرسول إلى قوم رفاعة بن زيد ‏:‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ هذا كتاب من محمد رسول اللّه لرفاعة بن زيد ‏.‏

إني بعثته إلى قومه عامة ، ومن دخل فيهم ، يدعوهم إلى اللّه وإلى رسوله ، فمن أقبل منهم ففي حزب اللّه وحزب رسوله ، ومن أدبر فله أمان شهرين ‏.‏

فلما قدم رفاعة على قومه أجابوا وأسلموا ، ثم ساروا إلى الحرة ‏:‏ حرة الرجلاء ، ونزلوها ‏.‏

 قدوم وفد همدان

 من رجال الوفد ‏:‏

قال ابن هشام ‏:‏ وقدم وفد همدان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما حدثني من أثق به ، عن عمرو بن عبداللّه بن أذينة العبدي ، عن أبي إسحاق السبيعي ،

قال ‏:‏

قدم وفد همدان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، منهم مالك بن نمط ، وأبو ثور ، وهو ذو المشعار ، ومالك بن أيفع ، وضمام بن مالك السلماني ، وعميرة بن مالك الخارفي ، فلقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرجعه من تبوك ، وعليهم مقطعات الحبرات ، والعمائم العدنية ، برحال الميس على المهرية والأرحبية ، ومالك بن نمط ورجل أخر يرتجزان بالقوم ، يقول أحدهما ‏:‏

همدان خير سوقة وأقيال * ليس لها في العالمين أمثال

محلها الهضب ومنها الأبطال * لها إطابات بها وآكال

ويقول الآخر ‏:‏

إليك جاوزن سواد الريف * في هبوات الصيف والخريف

مخطمات بحبال الليف *

 خطبة مالك بن نمط بين يدي الرسول صلى اللّه عليه وسلم

فقام مالك بن نمط بين يديه ، فقال ‏:‏ يا رسول اللّه نصية من همدان ، من كل حاضر وباد ، أتوك على قلص نواج متصلى بحبائل الإسلام ، لا تأخذهم في اللّه لومة لائم ، من مخلاف خارف ويام وشاكر أهل السود والقود ، أجابوا دعوة الرسول ، وفارقوا الآلهات والأنصاب ، عهدهم لا ينقض ما أقامت لعلع ، وماجرى اليعفور بصلع ‏.‏

فكتب لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتابًا فيه ‏:‏

 كتابه صلى اللّه عليه وسلم لهم

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ هذا كتاب من رسول اللّه محمد ، لمخلاف خارف ، وأهل جناب الهضب ، وحقاف الرمل ، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ، ومن أسلم من قومه ، على أن لهم فراعها ووهاطها ، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، يأكلون علافها ، ويرعون عافيها ، لهم بذلك عهد اللّه وذمام رسوله ، وشاهدهم المهاجرون والأنصار ، فقال في ذلك مالك بن نمط ‏:‏

ذكرت رسول اللّه في فحمة الدجى * ونحن بأعلى رحرحان وصلدد

وهن بنا خوص طلائح تغتلي * بركبانها في لاحب متمدد

على كل فتلاء الذراعين جسرة * تمر بنا مر الهجيف الحفيدد

حلفت برب الراقصات إلى منى * صوادر بالركبان من هضب قردد

بأن رسول اللّه فينا مصدق * رسول أتى من عند ذي العرش مهتدي

فما حملت من ناقة فوق رحلها * أشد على أعدائه من محمد

وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه * وأمضى بحد المشرفي المهند

 ذكر الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان تكلم في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الكذابان ، مسيلمة بن حبيب باليمامة في بني حنيفة ، والأسود بن كعب العنسي بصنعاء ‏.‏

 تحقق رؤياه صلى اللّه عليه وسلم فيها

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني يزيد بن عبداللّه بن قسيط ، عن عطاء بن يسار ، أو أخيه سليمان بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ،

قال ‏:‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يخطب الناس على منبره ، وهو يقول ‏:‏

أيها الناس إني قد رأيت ليلة القدر ، ثم أنسيتها ، ورأيت في ذراعي سوارين من ذهب ، فكرهتهما فنفختهما فطار ، فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمن ، وصاحب اليمامة ‏.‏

 الرسول يتحدث عن الدجالين

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة ، أنه

قال ‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ‏:‏ لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً ، كلهم يدعي النبوة ‏.‏

 خروج الأمراء والعمال على الصدقات

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان ، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء ، فخرج عليه العنسي وهو بها ‏.‏

وبعث زيد بن لبيد ، أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت وعلى صدقاتها ،

وبعث عدي بن حاتم على طيئ ، وصدقاتها وعلى بني أسد ‏.‏

وبعث مالك بن نويرة -

قال ابن هشام ‏:‏ اليربوعي - على صدقات بني حنظلة ‏.‏

وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم ، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها ، وقيس بن عاصم على ناحية ، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين ، وبعث علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه إلى أهل نجران ، ليجمع صدقتهم ويقدم عليه بجزيتهم ‏.‏

 كتاب مسيلمة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

وقد كان مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه ، سلام عليك ؛ أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون ‏.‏

فقدم عليه رسولان له بهذا الكتاب ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني شيخ من أشجع ، عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي ، عن أبيه نعيم ،

قال ‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لهما حين قرأ كتابه ‏:‏

فما تقولان أنتما ، قالا ‏:‏ نقول كما

قال ‏:‏ فقال ‏:‏ أما واللّه لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ‏.‏

 جوابه صلى اللّه عليه وسلم على مسيلمة

ثم كتب إلى مسيلمة ‏:‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ من محمد رسول اللّه ، إلى مسيلمة الكذاب ، السلام على من ابتع الهدى ‏.‏ أما بعد فإن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ‏.‏

وذلك في أخر سنة عشر ‏.‏

تم بعون اللّه الجزء الخامس من سيرة ابن هشام ، ويليه إن شاء اللّه الجزء السادس ، وأوله حجة الوداع أعان اللّه على إتمامه ‏.‏