٩-٧ القسم الرابع فى ذكر صلاته ص صلاة الخوفعن جابر قال: أقبلنا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى إذا كنا بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- معلق بالشجرة، فاخترطه ف قال: تخافنى؟ فقال: لا، فقال: من يمنعك منى؟ قال: اللّه، فتهدده أصحاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فغمد السيف وعلقه، فأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الآخرى ركعتين، فكان للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- أربع ركعات، وللقوم ركعتان (١) . رواه البخارى ومسلم. ولمسلم: فصففنا صفين خلف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذى يليه، وقام الصف المؤخر فى نحر العدو، فلما قضى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- السجود وقام الصف الذى يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذى يليه- الذى كان مؤخرا فى الركعة الأولى- فقام الصف المؤخر فى نحر العدو، فلما قضى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- السجود والصف الذى يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود، فسجدوا ثم سلم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وسلمنا جميعا (٢). __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٣٧) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع، من حديث جابر بن عبد اللّه- رضى اللّه عنهما-. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٨٤٠) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، من حديث جابر بن عبد اللّه- رضى اللّه عنهما-. ولمسلم والبخارى أيضا من حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى معه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتى معه ركعة ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الآخرى فصلى بهم الركعة التى بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم (١) . قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت فى صلاة الخوف. وما ذهب إليه مالك من ترجيح هذه الكيفية وافقه الشافعى وأحمد على ترجيحها لسلامتها من كثرة المخالفة، ولكونها أحوط لأمر الحرب. وعن سالم بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه، قال: غزوت مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى بنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ومن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التى لم تصل، فجاؤا فركع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم يركع لنفسه ركعة ويسجد سجدتين (٢) . وفى حديث جابر: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يصلى بالناس صلاة الظهر فى الخوف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم، رواه البغوى فى شرح السنة. وعنه: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هى أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وأمهاتهم، وهى العصر، فأجمعوا أمركم فتميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبريل أتى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلى بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٣٠) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (٨٤٢) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف. من حديث صالح بن خوّات- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٩٤٢) فى الجمعة، باب: قول اللّه تعالى وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ... الآية، من حديث ابن عمر وليس عن عمر كما ذكر المصنف. حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة ولرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ركعتان (١) . رواه الترمذى والنسائى. قال ابن حزم: وقد صح فيها- يعنى صلاة الخوف- أربعة عشر وجها. وبينها فى جزء مفرد. وقال ابن العربى فى (القبس) : جاء فيها روايات كثيرة، أصحها ست عشرة رواية مختلفة، ولم يبينها. و قال النووى نحوه فى شرح مسلم ولم يبينها أيضا. وقد بينها الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى وزاد وجها آخر، فصارت سبعة عشر وجها، لكن يمكن أن تتداخل. وقال صاحب (الهدى) : أصولها ست صفات، وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة فى قصة جعلوا ذلك وجها من فعله- صلى اللّه عليه وسلم-، وإنما هو من اختلاف الرواة. انتهى. وهذا هو المعتمد، وإليه أشار الحافظ العراقى بقوله: يمكن تداخلها. وقد حكى ابن القصار المالكى: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- صلاها عشر مرات، وقال ابن العربى: أربعا وعشرين، وقال الخطابى: صلاها- صلى اللّه عليه وسلم- فى أيام مختلفة بأشكال متباينة، يتحرى فيها ما هو الأحوط للصلاة، والأبلغ للحراسة، فهى على اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى. وفى كتب الفقه تفاصيل لها كثيرة، وفروع يطول ذكرها. حكاها فى فتح البارى. __________ (١) صحيح: أخرجه النسائى (٣/ ١٧٤) فى صلاة الخوف، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، . القسم الخامس فى ذكر صلاته ص على الجنازةوفيه فروع أربعة: الفرع الأول فى عدد التكبيراتعن أبى هريرة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- نعى النجاشى فى اليوم الذى مات فيه. وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات (١) . رواه البخارى ومسلم. وعند الترمذى من حديث أبى هريرة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كبر على جنازة فرفع يديه مع أول تكبيرة، ووضع اليمنى على اليسرى (٢) . الفرع الثانى فى القراءة والدعاءنقل ابن المنذر عن ابن مسعود، والحسن بن على، وابن الزبير، والمسور ابن مخرمة، مشروعية قراءة الفاتحة فى صلاة الجنازة. وبه قال الشافعى وأحمد وإسحاق. ونقل عن أبى هريرة وابن عمر: ليس فيها قراءة، وهو قول ابن مالك والكوفيين. وروى عبد الرزاق والنسائى بإسناد صحيح عن أبى __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٤٥) فى الجنائز، باب: الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، ومسلم (٩٥١) فى الجنائز، باب: التكبير على الجنازة. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٢) حسن: أخرجه الترمذى (١٠٧٧) فى الجنائز، باب: ما جاء فى رفع اليدين على الجنازة. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. أمامة بن سهل بن حنيف قال: السنة فى الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلى على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا فى الأولى (١) . وفى البخارى عن سعد عن طلحة قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب و قال: لتعلموا أنها سنة (٢) ، وليس فيه بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح بذلك فى حديث جابر عند الشافعى بلفظ: وقرأ بأم الكتاب بعد التكبيرة الأولى (٣) ، كما ذكره الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى. وعن ابن عباس قال: صلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب (٤) . رواه الترمذى و قال: لا يصح هذا. والصحيح عن ابن عباس قوله: (من السنة) وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين. ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال. وعن عوف بن مالك: صلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على جنازة فحفظنا من دعائه: (اللّهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار) (٥) . قال عوف: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. رواه مسلم. __________ (١) أخرجه ابن عساكر كما فى (كنز العمال) (٤٢٨٦١) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٣٣٥) فى الجنائز، باب: قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة. (٣) أخرجه الشافعى فى (الأم) (١/ ٢٧٠) ، وذكره الحافظ ابن حجر فى (الفتح) (٣/ ٢٠٤) . (٤) صحيح: أخرجه الترمذى (١٠٢٦) فى الجنازة، باب: ما جاء فى القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- . (٥) صحيح: أخرجه مسلم (٩٦٣) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت فى الصلاة، من حديث عوف بن مالك الأشجعى- رضى اللّه عنه-. وعن واثلة بن الأسقع قال: صلى بنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على رجل من المسلمين فسمعته يقول: (اللّهم إن فلان بن فلان فى ذمتك، وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللّهم اغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم) (١) . رواه الترمذى. وعن أبى هريرة قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا صلى على الجنازة قال: (اللّهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا. اللّهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان. اللّهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده) (٢) . رواه أحمد وأبو داود والترمذى. وعنه: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (اللّهم أنت ربها وأنت خالقها، هديتها إلى الإسلام، قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر لها) (٣) . رواه أبو داود. الفرع الثالث فى صلاته ص على القبر عن أبى هريرة أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، ففقدها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فسأل عنها فقالوا: ماتت، قال: (أفلا آذنتمونى؟) قال: فكأنهم __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٢٠٢) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت، من حديث واثلة ابن الأسقع- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٢٠١) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت، والترمذى (١٠٢٤) فى الجنائز، باب: ما يقول فى الصلاة على الميت، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. ولفظ أبى داود اللّهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا، اللّهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللّهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده. (٣) الإسناد: أخرجه أبو داود (٣٢٠٠) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. ولفظه: اللّهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئناك شفعاء فاغفر لها. صغروا أمرها، فقال: (دلونى على قبرها) ، فدلوه فصلى عليها (١) . رواه البخارى ومسلم. زاد ابن حبان فقال فى رواية حماد بن سلمة عن ثابت: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن اللّه ينورها بصلاتى عليهم) (٢) . وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة، على أن ذلك من خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم-. ثم ساق من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد بن ثابت نحو هذه القصة، وفيها: ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا (٣) . قال ابن حبان: فى ترك إنكاره- صلى اللّه عليه وسلم- على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذى يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة. وعن عقبة بن عامر: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف (٤) ، وفى رواية: صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات(٥) . رواه أبو داود والنسائى. ورواه الشيخان أيضا بلفظ: خرج يوما فصلى على أهل أحد كصلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال فرط لكم (٦) . الحديث. وفيه: الصلاة على الشهداء فى حرب الكفار. وقد اختلف العلماء فى __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٥٨) فى الصلاة، باب: كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان، ومسلم (٩٥٦) فى الجنائز، باب: الصلاة على القبر من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٢) تقدم وهو عند مسلم فى الذى قبله. (٣) صحيح: أخرجه ابن ماجه (١٥٢٨) فى ما جاء فى الجنائز، باب: ما جاء فى الصلاة على القبر، من حديث يزيد بن ثابت- رضى اللّه عنه- . (٤) صحيح: أخرجه البخارى (١٣٤٤) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، من حديث عقبة بن عامر- رضى اللّه عنه-. (٥) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٢٢٣) فى الجنائز، باب: الميت يصلى على قبره بعد حين، من حديث عقبة بن عامر- رضى اللّه عنه-. (٦) تقدم. هذه المسألة: فذهب مالك والشافعى وأحمد وإسحاق والجمهور: إلى أن لا يصلى عليهم. وذهب أبو حنيفة إلى الصلاة عليهم كغيرهم، وبه قال المزنى، وهى رواية عن أحمد اختارها الخلال. وحجة الجمهور: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يصل على قتلى أحد- كما رواه البخارى فى صحيحه عن جابر- وأما هذه الصلاة فالمراد بها الدعاء، وليس المراد بها صلاة الجنازة المعهودة. قال النووى: أى دعا لهم بدعاء صلاة الميت، وأن هذه الصلاة مخصوصة بشهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم قبل دفنهم كما هو المعهود من صلاة الجنازة، وإنما صلى عليهم فى القبور بعد ثمان سنين، والحنفية يمنعون الصلاة على القبر مطلقا، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة لما تركها فى الأول. ثم إن الشافعية اختلفوا فى معنى قولهم: لا يصلى على الشهيد، فقال أكثرهم: معناه: تحريم الصلاة عليه، وهو الصحيح عندهم. وقال آخرون: معناه: لا تجب الصلاة عليه. لكن تجوز. وذكر ابن قدامة: أن كلام أحمد فى الرواية التى قال فيها يصلى عليهم: يشير إلى أنها مستحبة غير واجبة. قال ابن القاسم صاحب مالك: إنه لا يصلى على الشهيد فيما إذا كان المسلمون هم الذين غزوا الكفار، فإن كان الكفار هم الذين غزوا المسلمين فيصلى عليهم. الفرع الرابع فى صلاته ص على الغائبعن جابر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (قد توفى اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه) ، قال: فصففنا فصلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ونحن وراءه (١) . رواه __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٣٢٠) فى الجنائز، باب: الصفوف على الجنائز، من حديث جابر بن عبد اللّه. البخارى ومسلم. وعن أبى هريرة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- نعى النجاشى فى اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات (١) . رواه الشيخان أيضا. وعندالبخارى من طريق ابن عيينة عن ابن جريج: (فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة) (٢) . وبهذا الحديث استدل من منع الصلاة على الميت فى المسجد، وهو قول الحنفية والمالكية، لكن قال أبو يوسف: إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن فى الصلاة فيه عليهم بأس. قال النووى: ولا حجة فيه، لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد، لا مجرد الصلاة عليه، حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله. وقال ابن بزبزة وغيره: استدل به بعض المالكية، وهو باطل، لأنه ليس فيه صيغة نهى، ولا احتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمر غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى على سهيل بن بيضاء فى المسجد، فكيف يترك هذا التصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدركونه أسلم، فقد روى ابن أبى حاتم فى التفسير، والدار قطنى فى الأفراد، والبزار، كلاهما عن أنس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لما صلى على النجاشى قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة؟ فنزلت وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ (٣) ، الآية، وله شاهد من حديث أبى سعيد عند الطبرانى فى معجمه الكبير، وزاد فيه: إن الذى طعن بذلك كان منافقا. وقد قال البخارى: (باب الصلاة على الجنازة بالمصلى والمسجد) وروى حديثا عن ابن عمر أن اليهود جاؤا إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- برجل منهم وامرأة زنيا __________ (١) تقدم. (٢) تقدم. (٣) سورة آل عمران: ١٩٩. فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد (١) . وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بالمسجد النبوى من ناحية المشرق، انتهى. فإن ثبت ما قال وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء، لأنه لم يكن عند المسجد النبوى مكان مهيأ للرجم. ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز فى المسجد كان لأمر عارض، أو لبيان الجواز، واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز فى المسجد، ويقويه حديث عائشة (ما صلى- صلى اللّه عليه وسلم- على سهيل بن بيضاء إلا فى المسجد) (٢) أخرجه مسلم، وبه قال الجمهور. وحمل المانعون الصلاة على سهيل: بأنه كان خارج المسجد، والمصلون داخله، وذلك جائز اتفاقا. وفيه نظر: لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلى عليه. وقد سلم لها الصحابة ذلك، فيدل على أنها حفظت ما نسوه. وقد روى ابن أبى شيبة وغيره أن عمر صلى على أبى بكر فى المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر فى المسجد، زاد فى رواية: ووضعت الجنازة فى المسجد تجاه المنبر، وهذا يقتضى الإجماع على جواز ذلك. وقد استدل أيضا بحديث قصة النجاشى على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعى وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك. وعن بعض __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٣٢٩) فى الجنائز، باب: الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، ومسلم (١٦٩٩) فى الحدود، باب: رجم اليهود وأهل الذمة فى الزنا. من حديث ابن عمر واللفظ للبخارى. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٩٧٣) فى الجنائز، باب: الصلاة على الجنائز فى المسجد. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. أهل العلم: إنما يجوز ذلك فى اليوم الذى يموت فيه الميت أو ما قرب، لا ما إذا ما طالت المدة، حكاه ابن عبد البر. وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن فى جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم يجز. قال المحب الطبرى: لم أر ذلك لغيره. وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشى بأمور: منها: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد، فتعينت الصلاة عليه لذلك؛ ومن ثم قال الخطابى: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلى عليه، واستحسنه الرويانى منالشافعية. ومنها: قول بعضهم: إنه كشف له- صلى اللّه عليه وسلم- عنه حتى رآه، وعبر عنه القاضى عياض فى (الشفاء) بقوله: ورفع له النجاشى حتى صلى عليه، فتكون صلاته كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون، ولا خلاف فى جوازها. قال ابن دقيق العيد: وهذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال. وتعقبه بعض الحنفية: بأن الاحتمال كاف فى مثل هذا، وكأن مستند هذا القائل ما ذكره الواحدى فى أسباب النزول بغير إسناد عن ابن عباس: كشف للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- عن سرير النجاشى حتى رآه وصلى عليه. ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن الجنازة بين يديه. ومن الاعتذارات أيضا: أن ذلك خاص بالنجاشى، لأنه لم يثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى على ميت غائب غيره. قاله المهلب، وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثى. واستند من قال بتخصيص النجاشى بذلك إلى ما تقدم من إشاعة أنه مات مسلما أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا فى حياته. قال النووى: لو فتح هذا الباب لانسد كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شئ مما ذكروه لتوفرت الدواعى على نقله. وقال ابن العربى: قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد- صلى اللّه عليه وسلم-، قلنا: وما عمل به محمد- صلى اللّه عليه وسلم- تعمل به أمته، يعنى لأن الأصل عدم الخصوصية، قالوا طويت له الأرض، وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربنا لقادر، وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم، ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل إلى إتلاف ما ليس له تلاف. وقال الكرمانى: قولهم (رفع الحجاب عنه) ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا عن الصحابة الذين صلوا مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، انتهى ملخصا من فتح البارى. النوع الثالث فى ذكر سيرته ص فى الزكاةوهى فى اللغة: النماء والتطهير. والمال ينمى بها من حيث لا يرى، وهى مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمى أجرها عند اللّه تعالى. وسميت فى الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوى فيها. وقيل: لأنها تزكى صاحبها وتشهد بصحة إيمانه، وهى قيد النعمة، وسميت الصدقة صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه. وقد فهم من شرعه- صلى اللّه عليه وسلم- أن الزكاة وجبت للمواساة، وأن المواساة لا تكون إلا فى مال له بال، وهو النصاب. ثم جعلها- صلى اللّه عليه وسلم- فى الأموال النامية، وهى أربعة أصناف: الأول: الذهب والفضة اللذان بهما قوام العالم. والثانى: الزروع والثمار. والثالث: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم. والرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها. وحدد- صلى اللّه عليه وسلم- نصاب كل صنف بما يحتمل المواساة: فنصاب الفضة خمس أواق، وهى مائتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب فعشرون مثقالا، وأما الزروع والثمار فخمسة أوسق، وأما الغنم فأربعون شاة، والبقر ثلاثون بقرة، والإبل خمس. ورتب- صلى اللّه عليه وسلم- مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب فى المال. فأعلاها وأقلها تعبا الركاز، وفيه الخمس لعدم التعب فيه، ولم يعتبر له حولا بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به. ويليه الزروع والثمار، فإن سقى بماء السماء ونحوه ففيه العشر، وإلا فنصفه. ويليه الذهب والفضة والتجارة، وفيها ربع العشر، لأنه يحتاج إلى العمل فيه جميع السنة. ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنوع السابقة. ولما كان نصاب الإبل لا يحتمل المواساة من جنسه أوجب فيها شاة، فإذا صارت الخمس خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا، فكان هو الواجب. ثم إنه قد سنّ هذا الواجب فى الزيادة والنقصان بحسب كثرة الإبل وقلتها. وفى كتابه- صلى اللّه عليه وسلم- الذى كتبه فى الصدقة ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض: فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمسة عشر ثلاث شياه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين فإذا زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففى كل خمسين حقة، وفى كل أربعين ابنة لبون، وفى الغنم فى كل أربعين شاة شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة فشاتان إلى المائتين، فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففى كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شئ حتى تبلغ المائة (١) . رواه أبو داود والترمذى من حديث سالم بن عبد اللّه بن عمر. وفرض- صلى اللّه عليه وسلم- زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (٦٢١) فى الزكاة، باب: ما جاء فى زكاة الإبل والغنم، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما- . العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة (١) ، رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عمر. وفى رواية أبى داود من حديث ابن عباس، فرض- صلى اللّه عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين (٢) . وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن اللّه لم يرض بحكم نبى ولا غيره فى الصدقات حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء) (٣) . رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائى. وهذه الثمانية الأجزاء يجمعها صنفان من الناس: أحدهما: من يأخذ لحاجته، فيأخذ بحسب شدة الحاجة وضعفها، وكثرتها وقلتها، وهم الفقراء والمساكين وفى الرقاب وابن السبيل. والثانى: من يأخذ لمنفعته، وهم العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون لإصلاح ذات البين، والغزاة فى سبيل اللّه، فإن لم يكن الآخذ محتاجا، ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له فى الزكاة. واعلم أن الأنبياء لا تجب عليهم الزكاة، لأنهم لا ملك لهم مع اللّه حتى تجب عليهم الزكاة فيه، وإنما تجب عليك زكاة ما أنت له مالك، إنما كانوا يشهدون ما فى أيديهم من ودائع اللّه لهم يبذلونه فى أوان بذله، ويمنعونه فى غير محله، ولأن الزكاة إنما هى طهرة لما عساه أن يكون ممن وجبت عليه لقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها (٤) ، والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- مبرؤون من الدنس، لوجوب العصمة __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٠٣) فى الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر، ومسلم (٩٨٤) فى الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير. (٢) حسن: أخرجه أبو داود (١٦٠٩) فى الزكاة، باب: زكاة الفطر. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، . (٣) أخرجه أبو داود (١٦٣٠) فى الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى، من حديث زياد بن الحارث الصدائى- رضى اللّه عنه- . (٤) سورة التوبة: ١٠٣. لهم، ولهذا لم يوجب أبو حنيفة على الصبيان زكاة لعدم دنس المخالفة، والمخالفة لا تكون إلا بعد جريان التكليف، وذلك بعد البلوغ. وإذا كان أهل المعرفة باللّه المشاهدون لأحديته لا يشهدون لهم مع اللّه ملكا كما هو مشهور من حكاياتهم، فما ظنك بالأنبياء والرسل، وأهل التوحيد والمعرفة إنما غرفوا من بحارهم واقتبسوا من أنوارهم. انتهى ملخصا من كتاب (التنوير) للعارف الكبير أبى الفضل بن عطاء اللّه الشاذلى، أذاقنا اللّه حلاوة مشربه. تنبيه: ما حكى إن الإمام الشافعى وأحمد بن حنبل كانا جالسين، إذ أقبل شيبان الراعى، فقال أحمد بن حنبل للشافعى: أريد أن أسأل هذا المشار إليه فى هذا الزمن، فقال الشافعى: لا تفعل، ف قال: لا بد من ذلك، ف قال: يا شيبان ما تقول فيمن نسى أربع سجدات من أربع ركعات؟ ف قال: يا أحمد، هذا قلب غافل عن اللّه، يجب أن يؤدب حتى لا يعود إلى مثل ذلك. قال: فخر أحمد مغشيّا عليه، ثم أفاق فقال: ما تقول فيمن له أربعون شاة، ما زكاتها؟ فقال: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ فقال: أو هما مذهبان؟ فقال: نعم، أما على مذهبكم ففى الأربعين شاة شاة، وأما على مذهبنا فالعبد لا يملك مع سيده شيئا. فقد نقل شيخنا فى (المقاصد) عن ابن تيمية أن ذلك باطل باتفاق أهل المعرفة، لأنالشافعى وأحمد لم يدركا شيبان الراعى واللّه أعلم. انتهى. وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقة قال: (اللّهم صل على آل فلان) ، فأتاه أبو أوفى بصدقة فقال: (اللّهم صل على آل أبى أوفى) (١) . رواه البخارى ومسلم. واختلف فى أول وقت فرض الزكاة. فذهب الأكثرون إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان فى السنة الثانية قبل فرض رمضان أشار إليه النووى فى باب السير من الروضة. وجزم ابن الأثير فى التاريخ بأن ذلك كان فى التاسعة، وفيه نظر: لما __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٩٨) فى الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، ومسلم (١٠٧٨) فى الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقة، من حديث عبد اللّه ابن أبى أوفى- رضى اللّه عنه-. فى حديث ضمام بن ثعلبة، وحديث وفد عبد القيس، ومخاطبة أبى سفيان مع هرقل وكان فى أول السابعة، وقال فيها: يأمرنا بالزكاة. وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع فى قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها: لما أنزلت آية الصدقة بعث النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عاملا: ف قال: ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية، والجزية إنما وجبت فى التاسعة، فتكون الزكاة فى التاسعة. لكنه حديث ..... لا يحتج بمثله. وادعى ابن خزيمة فى صحيحه أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة فى قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها: أن جعفر بن أبى طالب قال للنجاشى فى جملة ما أخبره به عن الرجل: الذى يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. انتهى. وفى الاستدلال بذلك نظر، لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن فى أول ما قدم على النجاشى، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من فريضة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا ف قال: يأمرنا، يعنى أمته، وهو بعيد جدّا. وأولى ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا- إن سلم من قدح فى إسناده- أن المراد بقول جعفر (يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام) أى فى الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام شهر رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول. ومما يدل على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس فى قصة ضمام بن ثعلبة. وقوله: (أنشدك اللّه، آللّه أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟) (١) وكان قدوم ضمام سنة خمس، وإنما الذى وقع فى التاسعة بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعى تقدم فريضة الزكاة قبل ذلك. ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣) فى العلم، باب: ما جاء فى العلم وقوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. رمضان إنما فرض بعد الهجرة، لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خوف. وثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائى وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت فريضة الزكاة، فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله (١) . إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا عمار، الراوى عن قيس بن سعد، وقد وثقه أحمد وابن معين. وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضى وقوعه بعد فرض رمضان. قاله الحافظ أبو الفضل بن حجر- رحمه اللّه-. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يقبل الهدية ويثيب عليها (٢) . رواه البخارى من حديث عائشة. وإذا أتى بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة، فإن قيل صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإن قيل هدية ضرب بيده فأكل معهم (٣) . رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة. وقال- صلى اللّه عليه وسلم- لعائشة: (هل عندكم شئ) فقالت: لا، إلا شئ بعثت به إلينا نسيبة من الشاة التى بعثت بها إليها من الصدقة، قال: (إنها بلغت محلها) (٤) . رواه البخارى ومسلم. وقوله: (محلها) بكسر الحاء، أى زال عنها حكم الصدقة وصارت حلّا لنا. وأتى بلحم قد تصدق به على بريرة ف قال: (هو عليها صدقة، ولنا هدية) (٥) . رواه __________ (١) صحيح: أخرجه النسائى (٥/ ٤٩) فى الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة، من حديث قيس بن سعد- رضى اللّه عنه-، . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٥٨٥) فى الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: المكافأة فى الهبة. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٥٧٦) فى الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: قبول الهدية، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٩٤) فى الزكاة، باب: إذا تحولت الصدقة، ومسلم (١٠٧٦) فى الزكاة، باب: إباحة الهدية للنبى ولبنى هاشم وبنى المطلب. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٥) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٩٣) فى الزكاة، باب: الصدقة على موالى أزواج النبى، ومسلم (١٥٠٤) فى العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى. وفى حديث عائشة عند البخارى ومسلم: دخل- صلى اللّه عليه وسلم- وعلى النار برمة تفور، فدعا بالغداء، فأتى بخبز وأدم من أدم البيت، فقال: (ألم أر برمة على النار تفور؟) قالوا: بلى يا رسول اللّه، لكنه لحم تصدق به على بريرة، وأهدت إلينا منه، وأنت لا تأكل الصدقة، ف قال: (هو صدقة عليها، وهدية لنا) (١) . |