٩-٥ الباب الثانى فى النوافل المقرونة بالأسبابوفيه أربعة فصول: الفصل الأول فى صلاته ص الكسوفالكسوف لغة التغير إلى السواد، يقال: كسفت الشمس: إذا اسودت وذهب شعاعها. عن قبيصة بن المخارق قال: كسفت الشمس على عهد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فخرج فزعا يجر ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة، فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام، ثم انصرف وانجلت، ثم قال: (إنما هذه الآية يخوف اللّه بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا) (١) . رواه أبو داود والنسائى. __________ (١) أخرجه أبو داود (١١٨٥) فى الصلاة، عن قبيصة الهلالى وأصله فى الصحيح من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما- . وفى قوله: - صلى اللّه عليه وسلم- (يخوف اللّه بها عباده) رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادى لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن فى ذلك تخويف. وقد رد عليهم ابن العربى وغيره، بما فى حديث أبى موسى عند البخارى، حيث قال فيه: (فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة) قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة معنى، يعنى كما فى حديث أسماء عند البخارى (لقد أمر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بالعتاقة فى كسوف الشمس) (١) وكما عنده أيضا من حديث عائشة مرفوعا: (فإذا رأيتم ذلك فادعوا اللّه وكبروا وصلوا وتصدقوا) (٢) فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كلما ذكر من أنواع الطاعات يرجى أن يندفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف. ومما نقض به ابن العربى وغيره أنهم يزعمون: أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة وإنما يحول القمر بينها وبين أهل الأرض عند اجتماعهما فى العقدتين. ف قال: (هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر فى الجرم فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله؟ أم كيف يظلم الكثير بالقليل لا سيما وهو من جنسه؟ وكيف تحجب الأرض نور الشمس. وقد وقع فى حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعم أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائى وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم، بلفظ: (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات اللّه، وإن اللّه إذا تجلى بشئ من خلقه خشع له) (٣) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٥٤) فى الجمعة، باب: من أحب العتاقة فى كسوف الشمس، من حديث أسماء- رضى اللّه عنها-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٤٤) فى الجمعة، باب: الصدقة فى الكسوف. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٦٣) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف القمر، من حديث أبى بكرة- رضى اللّه عنه-، ومسلم (٩٠١) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-، وليس فيها وأن اللّه إذا تجلى لشىء من خلقه خشع له. وقد استشكل الغزالى هذه الزيادة، و قال: أنها لم تثبت، فيجب تكذيب ناقلها، قال: ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة. وقال ابن بزبزة: وهذا عجب منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة، مع أنها مبنية على أن العالم كرى الشكل، وظاهر الشرع يعطى خلاف ذلك والثابت من قواعد الشرع أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق فى هذين الجرمين النور متى شاء والظلمة متى شاء من غير توقيف على سبب أو ربط باقتران، والحديث الذى رده الغزالى قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضا، لأن النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسى، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيده قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا (١) ، انتهى. ويؤيد هذا الحديث ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى حتى كاد أن يموت، و قال: هى أخوف للّه منا. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذى يذكره أهل الحساب ينافى قوله: (يخوف اللّه به عباده) ، وليس بشئ، لأن للّه تعالى أفعالا على حسب العادة، وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء باللّه لقوة اعتقادهم فى عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شئ غريب، حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجرى عليها العادة إلى أن يشاء اللّه خرقها. وحاصله: أن الذى يذكره أهل الحساب إن كان حقّا فى نفس الأمر لا ينافى كون ذلك مخوفّا لعباد اللّه تعالى. قاله فى فتح البارى. وعن ابن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- __________ (١) سورة الأعراف: ١٤٣. فقام قياما طويلا، نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون قيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم انصرف وقد انجلت الشمس، ف قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا اللّه) ، فقالوا: يا رسول اللّه رأيناك تناولت شيئا فى مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت؟ قال: (إنى رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء) ، قالوا: بم يا رسول اللّه؟ قال: (بكفرهن) ، قيل: أيكفرن باللّه؟ قال: (يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط) (١) . رواه البخارى ومسلم. وقوله: (ورأيت الجنة والنار) قال القاضى عياض: يحتمل أنه رآهما رؤية عين، كشف اللّه له عنهما، وأزال الحجاب بينه وبينهما، كما فرج له عن المسجد الأقصى حين وصفه، ويكون قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (فى عرض هذا الحائط) - كما فى رواية-: فى جهته وناحيته، ويحتمل أن تكون رؤية علم وعرض وحى باطلاعه وتعريفه من أمورهما مفصلا ما لم يعرفه قبل ذلك اليوم. قال القاضى: والأول أولى وأشبه بألفاظ الحديث، لما فيه من الأمور الدالة على رؤية العين، كتناوله العنقود، وتأخره مخافة أن يصيبه لفح النار. انتهى. واستشكل قوله: (ولو أصبته) مع قوله: (تناولت) . و أجيب: بحمل (التناول) على تكلف الأخذ، لا حقيقة الأخذ، وقيل: المراد تناولته لنفسى ولو أخذته لكم، حكاه الكرمانى، قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، وقيل: المراد بقوله تناولت: وضعت يدى عليه، بحيث كنت قادرا على __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٥٢) فى الجمعة، باب: صلاة الكسوف جماعة، ومسلم (٩٠٧) فى الكسوف، باب: ما عرض على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى صلاة الكسوف. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. تحويله، لكن لم يقدر لى قطفه، ولو أصبته، أى لو تمكنت من قطفه، ويدل عليه من قوله فى حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة (أهوى بيده ليتناول شيئا) وفى حديث أسماء عند البخارى (حتى لو اجترأت عليه) وكأنه لم يؤذن له فى ذلك فلم يجترئ عليه. قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفنى والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. انتهى. وفى حديث أسماء بنت أبى بكر، عند البخارى ومسلم ومالك والنسائى قال: ما من شئ كنت لم أره إلا رأيته فى مقامى هذا حتى الجنة والنار، ولقد أوحى إلىّ أنكم تفتنون فى قبوركم، مثل أو قريبا- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- من فتنة المسيح الدجال. يؤتى أحدكم فى قبره في قال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- فيقول: هو محمد رسول اللّه جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثا، في قال: نم صالحا، قد علمنا إن كنت لموقنا، وأما المنافق أو المرتاب- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- فيقول: لا أدرى، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. وفى رواية: فرأى امرأة تخدشها هرة، ربطتها حتى ماتت جوعا وعطشا. وفى رواية: فرأى عمرو بن مالك يجر قصبه فى النار، وكان أول من غير دين إبراهيم، ورأى فيها سارق الحاج يعذب (١) . قوله: (قصبه) بضم القاف وسكون الصاد، أى أمعاءه. وفى رواية عائشة: ثم قال: (يا أمة محمد، واللّه ما من أحد أغير من اللّه أن يزنى عبده أو تزنى أمته، واللّه لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ألا هل بلغت) (٢) . أى لو تعلمون من عظم انتقام اللّه من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٥٣) فى الجمعة، باب: صلاة النساء مع الرجال فى الكسوف، من حديث أسماء بنت أبى بكر، - رضى اللّه عنهما-. (٢) صحيح: وقد تقدم. القيامة ما أعلم، وما بعدها. كما علمت وترون النار كما رأيت فى مقامى هذا وفى غيره لبكيتم كثيرا، ولقلّ ضحككم لتفكركم فيما علمتوه. وفى حديث عائشة عند البخارى. فخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، فكبرنا فاقترأ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعا طويلا، ثم قال: (سمع اللّه لمن حمده) فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة، وهى أدنى من القراءة الأولى، وزاد فى رواية: (ربنا ولك الحمد) (١) . واستدل به على استحباب الذكر المشروع فى الاعتدال فى أول القيام الثانى من الركعة الأولى. واستشكله بعض متأخرى الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال، بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع فى كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكى خالف فيه. والجواب: إن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- فعله فيها كان مشروعا، لأنها أصل برأسها. وبهذا المعنى ردالجمهور على من قاسها على صلاة النافلة، حتى منع من زيادة الركوع فيها، فصلاة الكسوف أشبه شئ بصلاة العيد ونحوها، مما يجمع فيه من مطلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيد بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة، فكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالآخذ به جامع بين العملين بالنص والقياس بخلاف من لم يعمل به. وقد تبين أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة فى القيام وغيره، ومن زيادة ركوع فى كل ركعة، وقد وردت زيادة فى ذلك من طرق أخر، فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر أن فى كل ركعة ثلاث ركوعات (٢) ، وعنده من وجه آخر عن ابن عباس: أن فى كل ركعة أربع ركوعات، ولأبى داود من حديث أبى بن كعب، والبزار من __________ (١) صحيح: وقد تقدم. (٢) أخرجه مسلم (٩٠١) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، و (٩٠٤) باب: ما عرض على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى صلاة الكسوف من أمر الجنة. حديث على: أن فى كل ركعة خمس ركوعات ولا يخلو إسناد منها من علة (١) . ونقل ابن القيم فى (الهدى) عن الشافعى وأحمد والبخارى: أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين فى كل ركعة غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم- عليه السّلام- وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح. وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابى وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك. وهو من الاختلاف المباح، وقواه النووى فى شرح مسلم. وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة فى الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء فى أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد فى الإبطاء زاد ثالثا، وهكذا إلى غاية ما ورد فى ذلك. وتعقبه النووى وغيره: بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم فى أول الحال، ولا فى الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع فى الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود فى نفسه، منوى من أول الحال. انتهى ملخصا من فتح البارى. وعند الإمام أحمد: أنه لما سلم حمد اللّه وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا اللّه، وشهد أنه عبد اللّه ورسوله، ثم قال: (يا أيها الناس، أنشدكم باللّه إن كنتم تعلمون أنى قصرت عن شئ من تبليغ رسالات ربى لما أخبرتمونى ذلك) فقام رجل فقال: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذى عليك، ثم قال: (وايم اللّه لقد رأيت منذ قمت أصلى ما أنتم لاقون من أمر دنياكم وآخرتكم، وإنه واللّه لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، آخرهم الأعور الدجال، من تبعه لم ينفعه صالح من عمله)(٢) . __________ (١) انظره فى (فتح البارى) (٢/ ٥٣٢) . (٢) أخرجه أحمد (٥/ ١٩) قال: حدثنا أبو كامل حدثنا زهير حدثنا الأسود بن قيس حدثنا ثعلبة بن عباد العبدى من أهل البصرة قال: شهدت يوما خطبة لسمرة بن جندب فذكر فى خطبته حديثا عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: بينا أنا وغلام من الأنصار نرمى فى غرضين وفى البخارى: وقالت عائشة وأسماء: خطب النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وقد اختلف فى الخطبة فيه، فاستحبها الشافعى وإسحاق وأكثر أهل الحديث. وقال ابن قدامة لم يبلغنا عن أحمد ذلك. وقال صاحب الهداية من الحنفية ليس فى الكسوف خطبة لأنه لم ينقل. وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه، وهى ذات كثرة. والمشهور عند المالكية أنه لا خطبة لها، مع أن مالكا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة، وأجاب بعضهم: بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يقصد بها الخطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس. وتعقب: بما فى الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة، وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل، انتهى. وعن المغيرة بن شعبة عند البخارى: كسفت الشمس على عهد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا اللّه) (١) . وإبراهيم هو ابن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٤٣) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف الشمس، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى اللّه عنه-. فى السنة العاشرة من الهجرة، فقيل فى ربيع الأول، وقيل فى رمضان، وقيل فى ذى الحجة، والأكثر على أنها وقعت فى عاشر الشهر، وقيل فى رابعه وقيل فى رابع عشره، ولا يصح شئ منها على قول ذى الحجة، لأن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذ ذاك بمكة فى الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته، وكانت بالمدينة بلا خلاف. نعم قيل إنه مات سنة تسع، فإن ثبت فيصح، وجزم النووى بأنها كانت سنة الحديبية فلعل ذلك كان فى آخر ذى القعدة حين رجع منها. وفى هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب فى الأرض. قال الخطابى: كانوا فى الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير فى الأرض، من موت أو ضرر، فأعلم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران للّه، ليس لهما سلطان فى غيرهما، ولا قدرة للدفع عن أنفسهما. وعن عبد اللّه بن عمرو قال: لما كسفت الشمس على عهد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- نودى: أن الصلاة جامعة (١) . رواه البخارى: وقوله: (أن) بفتح الهمزة وتخفيف النون، وهى المفسرة. وفى رواية له ولمسلم، من حديث عائشة: بعث النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مناديا فنادى: الصلاة جامعة (٢) . قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك. وقد أجمعوا على أنه لا يؤذن له ولا يقام. وروى ابن حبان أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى فى كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم (٣) ، وأخرجه الدار قطنى أيضا. وفيه: رد __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٤٥) فى الجمعة، باب: النداء بالصلاة جامعة فى الكسوف، ومسلم (٩١٠) فى الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص- رضى اللّه عنهما-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٦٦) فى الجمعة، باب: الجهر بالقراءة فى الكسوف، ومسلم (٩٠١) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) صحيح: أخرجه النسائى (٣/ ١٤٦) فى الكسوف، من حديث أبى بكرة- رضى اللّه عنه-، . على من أطلق- كابن رشيد- أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يصل فى كسوف القمر، ومنهم من أول قوله: (صلى) أى أمر بالصلاة، جمعا بين الروايتين. وقال ابن القيم فى (الهدى) : لم ينقل أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى فى كسوف القمر فى جماعة، لكن حكى ابن حبان فى السيرة له: أن القمر خسف فى السنة الخامسة، فصلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بأصحابه صلاة الكسوف، فكانت أول صلاة كسوف فى الإسلام، وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور. وقد جزم به مغلطاى فى سيرته المختصرة، وتبعه الحافظ زين الدين العراقى فى نظمها. وفى البخارى من حديث عائشة: جهر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى صلاة الخسوف بقراءته. فإذا فرغ من قراءته كبر فركع، فإذا فرغ من الركعة قال: (سمع اللّه لمن حمده ربنا ولك الحمد) ثم يعاود القراءة فى صلاة الكسوف، أربع ركعات وأربع سجدات (١) . واستدل به على الجهر فيها بالنهار، وحمله جماعة ممن لم ير ذلك على كسوف القمر. قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، لأن الإسماعيلى روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد بلفظ كسفت الشمس فى عهد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وفى مسند أبى داود الطيالسى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- جهر بالقراءة فى صلاة الكسوف (٢) . وقد ورد فيها عن على مرفوعا وموقوفا. أخرجه ابن خزيمة وغيره. وقال به صاحبا أبى حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثى الشافعية وابن العربى من المالكية. وقال الطبرى: يخير بين الجهر والإسرار. وقال الأئمة الثلاثة: يسر فى الشمس ويجهر فى القمر. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٤٧) فى الجمعة، باب: هل يقول كسفت الشمس أو خسفت، وأبو داود (١١٨٠) فى الصلاة، باب: من قال أربع ركعات. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) أخرجه أبو داود الطيالسى (١٤٦٦) من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. واحتج الشافعى بقول ابن عباس: (قرأ نحوا من سورة البقرة) (١) لأنه لو جهر لم يحتج إلى التقدير. وقد روى الشافعى تعليقا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى الكسوف فلم يسمع منه حرفا (٢) ، ووصله البيهقى من ثلاثة طرق أسانيدها واهية. وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد فالأخذ به أولى. قال ابن العربى: الجهر عندى أولى، لأنها صلاة جماعة ينادى لها ويخطب فأشبهت العيد والاستسقاء. انتهى ملخصا واللّه أعلم. الفصل الثانى فى صلاته ص صلاة الاستسقاءاعلم أن الاستسقاء طلب السقيا من اللّه تعالى عند الحاجة إليها، كما تقول: استعطى: أى طلب العطاء. ولم يخالف أحد من العلماء فى سنية الصلاة فى الاستسقاء إلا أبو حنيفة محتجا بأحاديث الاستسقاء التى ليس فيها صلاة. واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة فى الصحيحين وغيرهما: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى الاستسقاء ركعتين (٣) . وأما الأحاديث التى ليس فيها الصلاة، فبعضها محمول على نسيان الراوى، وبعضها كان فى الخطبة للجمعة، وتعقبه صلاة الجمعة فاكتفى بها، ولو لم تصل أصلا كان بيانا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة، ولا خلاف فى جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة لأن فيها زيادة علم، ولا معارضة بينهما، والاستسقاء أنواع: الأول: الاستسقاء بصلاة ركعتين وخطبتين، ويتأهب قبله بصدقة وصيام __________ (١) تقدم. (٢) أخرجه أحمد (١/ ٢٩٣) من حديث ابن عباس ولفظه قال صليت مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الكسوف فلم أسمع منه فيها حرفا من القرآن. (٣) تقدم. وتوبة، وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة اللّه تعالى. قال ابن عباس: خرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا حتى أتى المصلى، فرقى المنبر، فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل فى الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما صلى فى العيد (١) . رواه الترمذى وغيره. وفى حديث عبد اللّه بن زيد المازنى، قال: خرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى هذا المصلى ليستسقى، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه، ثم صلى (٢) . رواه البخارى ومسلم. وفى رواية: خرج بالناس إلى المصلى ليستسقى فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة واستقبل يدعو، ورفع يديه وحول رداءه حين استقبل القبلة (٣) . وفى رواية؛ قال: وحول رداءه وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا اللّه (٤) . __________ (١) حسن: أخرجه أبو داود (١١٦٥) فى الصلاة من حديث ابن عباس ولفظه خرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى زاد عثمان فرقى على المنبر ثم اتفقا ولم يخطب خطبكم هذه ولكن لم يزل فى الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين كما يصلى فى العيد. والترمذى (٥٥٨) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء، عن ابن عباس أيضا، وابن ماجه (١٢٦٦) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء عن ابن عباس أيضا. واللفظ للترمذى. . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٤٣) فى الدعوات، باب: الدعاء مستقبل القبلة، ومسلم (٨٩٤) فى صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء فى الاستسقاء. من حديث عبد اللّه بن زيد- رضى اللّه عنه- واللفظ للبخارى. (٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٥٥٦) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء من حديث عبد اللّه بن زيد- رضى اللّه عنه-. (٤) حسن: أخرجه الترمذى (١١٦٥) فى الصلاة، فى جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها. عن محمد بن مسلم بإسناده. قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف فى شئ من طرق حديث عبد اللّه بن زيد على سبب ذلك ولا على صفته- صلى اللّه عليه وسلم- حال الذهاب إلى المصلى، ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك فى حديث عائشة عند أبى داود وابن حبان قالت: شكا الناس إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قحط المطر، فأمر بمنبر فوضع له فى المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر وحمد اللّه، ثم قال: (إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم اللّه أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (١) ، الذى لا إله إلا هو، يفعل ما يريد، اللّهم أنت اللّه الذى لا إله إلا أنت الغنى ونحن الفقراء، اللّهم أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين) ، ثم رفع يديه حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب- أو حول- رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ اللّه سحابا، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن اللّه، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، ف قال: (أشهد أن اللّه على كل شئ قدير، وأنى عبد اللّه ورسوله) (٢) . وقد حكى ابن المنذر الاختلاف فى وقتها، والراجح أنه لا وقت لها معين، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين، وهل تصنع بالليل؟ استنبط بعضهم من كونه-صلى اللّه عليه وسلم- جهر بالقراءة فيها بالنهار، أنها نهارية كالعيد، وإلا فلو كانت تصلى بالليل لأسر فيها بالنهار وجهر بالليل كمطلق النوافل. ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى فى وقت الكراهة. وأفاد ابن حبان أن خروجه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى المصلى للاستسقاء كان فى شهر رمضان سنة __________ (١) سورة الفاتحة: ١- ٥. (٢) حسن: أخرجه أبو داود (١١٧٣) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. ست من الهجرة. وذكر الواقدى: أن طول ردائه- صلى اللّه عليه وسلم- كان ستة أذرع فى ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين فى ذراعين وشبر، كان يلبسهما فى الجمعة والعيدين. وقد روى أبو داود عن عباد: استسقى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه (١) . وقد استحبالشافعى فى الجديد فعل ما همّ به- صلى اللّه عليه وسلم- من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف. وزعم القرطبى تبعا لغيره أن الشافعى اختار فى الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذى فى الأم ما ذكرته. والجمهور على استحباب التحويل فقط. ولا ريب أن الذى استحبه الشافعى أحوط. وعن أبى حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب شئ من ذلك. واستحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق أخرى عن عباد فى هذا الحديث بلفظ: (وحول الناس معه) (٢) . وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام وحده. واستثنى ابن الماجشون النساء فقال: لا يستحب فى حقهن. واختلف فى حكمة هذا التحويل فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هى عليه. وتعقبه ابن العربى بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له حول رداءك ليتحول حالك. وتعقب بأن الذى جزم به يحتاج إلى نقل، والذى رده ورد فيه حديث رجاله ثقات، أخرجه الدار قطنى والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن على عن أبيه عن جابر. ورجح الدار قطنى إرساله. وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن. __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (١١٦٤) فى الصلاة، فى جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، والنسائى (١٥٠٧) فى الاستسقاء، باب: الحال التى يستحب للإمام أن يكون عليها إذا خرج. من حديث عبد اللّه بن زيد- رضى اللّه عنه-. (٢) أخرجه أحمد (٤/ ٣٩ و ٤١) . واستدل بقوله فى حديث عائشة: (ثم صلى ركعتين) بعد قوله: (فقعد على المنبر) على أن الخطبة فى الاستسقاء قبل الصلاة، وهى مقتضى حديث ابن عباس، لكن وقع عند أحمد فى حديث عبد اللّه بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكذا فى حديث أبى هريرة عند ابن ماجه، حيث قال: فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة (١) ، والمرجح عند الشافعية والمالكية الثانى. ولم يقع فى شئ من طرق حديث عبد اللّه بن زيد صفة الصلاة المذكورة ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدار قطنى من حديث ابن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد، وأنه يقرأ فيهما ب سَبِّحِ(٢) وهَلْ أَتاكَ (٣) (٤) . وفى إسناده مقال. لكن أصله فى السنن بلفظ: ثم صلى ركعتين كما يصلى فى العيدين. فأخذ بظاهره الشافعى فقال يكبر فيهما. الثانى: استسقاؤه- صلى اللّه عليه وسلم- فى خطبة الجمعة. عن أنس: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قائما، ثم قال: يا رسول اللّه، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع اللّه يغيثنا، قال: فرفع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يديه ثم قال: (اللّهم أغثنا، اللّهم أغثنا، اللّهم أغثنا) ، قال أنس: ولا واللّه ما نرى فى السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين (سلع) من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: فلا واللّه ما رأينا الشمس سبتا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب فى الجمعة المقبلة، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبله قائما، ف قال: يا رسول اللّه هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع __________ (١) صحيح: أخرجه ابن ماجه (١٢٧٤) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة العيدين، من حديث ابن عباس وليس أبى هريرة. (٢) سورة الأعلى: ١. (٣) سورة الغاشية: ١. (٤) أخرجه الدار قطنى فى (سننه) (٢/ ٦٦) . اللّه يمسكها عنا، قال: فرفع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يديه ثم قال: (اللّهم حوالينا ولا علينا، اللّهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) ، قال: فانقطعت وخرجنا نمشى فى الشمس. قال شريك: فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدرى (١) . رواه مسلم. وفى رواية قال: فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت، حتى رأيت المدينة مثل الجوبة، وسال وادى قناة شهرا. ولم يجئ أحدا من ناحية إلا أخبر بجود (٢) . وقوله: (يغيثنا) بفتح أوله، يقال: غاث اللّه البلاد يغيثها، إذا أرسل عليها المطر. وقوله: (من باب كان نحو دار القضاء) هى دار عمر بن الخطاب وسميت بذلك لأنها بيعت فى قضاء دينه. وقوله: (هلكت الأموال) ، وفى رواية كريمة وأبى ذر عند الكشميهنى: هلكت المواشى، وهى المراد بالأموال هنا: وفى رواية البخارى: هلك الكراع- بضم الكاف- وهو يطلق على الخيل وغيرها، وفىالبخارى أيضا: هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، وهو من ذكر العام بعد الخاص. والمراد بهلاكهم: عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر. وانقطعت السبل: لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لكونها لا تجد فى طريقها من الكلأ ما يقيم أودها. و (الآكام) بكسر الهمزة، وقد تفتح وتمد: جمع (أكمة) - بفتحات-: التراب المجتمع، وقيل: الجبل الصغير، وقيل؛ ما ارتفع من الأرض. و (الظراب) بكسر المعجمة، جمع (ظرب) - بكسر الراء-: الجبل المنبسط العالى. وقوله: (مثل الجوبة) بفتح الجيم، وسكون الواو، وفتح الموحدة، هى الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا: الفرجة فى السحاب. و (الجود) : المطر الغزير. وقوله: (قناة شهرا) : أى جرى فيه المطر من الماء شهرا. وفى هذا دليل على عظم معجزته- صلى اللّه عليه وسلم-، وهو أن سخرت السحاب __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٩٣٣) فى الجمعة، باب: الاستسقاء فى الخطبة يوم الجمعة، ومسلم (٨٩٧) فى الاستسقاء، باب: الدعاء فى الاستسقاء، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. (٢) تقدم فى الذى قبله. له كلما أشار إليها امتثلت أمره بالإشارة دون كلام، لأن كلامه- صلى اللّه عليه وسلم- مناجاة للحق تعالى، وأما السحاب فبالإشارة، فلولا الأمر لها بالطاعة له- صلى اللّه عليه وسلم- لما كان ذلك، لأنها أيضا- كما جاء- مأمورة حيث تسير، وقدر ما تقيم، وأين تقيم. ورحم اللّه الشقراطيسى فلقد أحسن حيث قال: دعوت للخلق عام المحل مبتهلا ... أفديك بالخلق من داع ومبتهل صعّدت كفيك إذ كفّ الغمام فما ... صوبت إلا بصوب الواكف الهطل أراق بالأرض ثجا صوب ريقه ... فحل بالروض نسجا رائق الحلل زهر من النور حلت روض أرضهم ... زهرا من النّور صافى النبت مكتمل من كل غصن نضير مورق خضر ... وكل نور نضيد مونق خضل تحية أحيت الأحياء من مضر ... بعد المضرة تروى السبل بالسبل دامت على الأرض سبعا غير مقلعة ... لولا دعاؤك بالإقلاع لم تزل وقوله فى الحديث (سبتا) : أى من السبت إلى السبت. وقوله: (ثم دخل رجل) الظاهر أنه غير الأول، لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، وفى رواية ابن إسحاق: فقام الرجل أو غيره، وفى رواية لمسلم: فتقشعت عن المدينة فجعلت تمطر حواليها وما تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفى مثل الإكليل- وهو بكسر الهمزة وسكون الكاف: كل شئ دار من جوانبه، واشتهر لما يوضع على الرأس فيحيط به، وهو من ملابس الملوك كالتاج-. وفى رواية له أيضا: فألف اللّه بين السحاب ومكثت حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتى أهله، وفى رواية له أيضا: فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى. والملاء: بضم الميم والقصر وقد تمد، جمع ملاءة وهى ثوب معروف. واستدل بهذا الحديث على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء ليس فيه صلاة. فأما الأول فقال به الشافعى، وأما الثانى فقال به أبو حنيفة، وتعقب: بأن الذى وقع فى هذه القصة مجرد دعاء، لا ينافى مشروعية الصلاة لها، وقد ثبت فى واقعة أخرى كما تقدم، واللّه أعلم. الثالث: استسقاؤه- صلى اللّه عليه وسلم- على منبر المدينة. روى البيهقى فى الدلائل من طريق يزيد بن عبيد السلمى قال: لما قفل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من غزوة تبوك أتاه وفد من بنى فزارة، بضعة عشر رجلا، وفيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس، وهو أصغرهم، فنزلوا فى دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل عجاف مسنتون، فأتوا مقرين بالإسلام، فسألهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن بلادهم فقالوا: يا رسول اللّه أسنتت بلادنا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا وهلكت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا، وتشفع لنا إلى ربك، ويشفع ربك إليك، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (سبحان اللّه!! ويلك، أنا شفعت إلى ربى، فمن ذا الذى يشفع ربنا إليه، لا إله إلا هو العلى العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله كما يئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد) فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن اللّه ليضحك من شفقكم وقرب غياثكم) ، فقال أعرابى: أو يضحك ربنا يا رسول اللّه؟ قال: (نعم) ، فقال الأعرابى: لن نعدم يا رسول اللّه من رب يضحك خيرا. فضحك- صلى اللّه عليه وسلم- من قوله، فقام- صلى اللّه عليه وسلم- فصعد المنبر وتكلم بكلمات ورفع يديه، وكان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يرفع يديه فى شئ من الدعاء إلا فى الاستسقاء، فرفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعاءه: (اللّهم اسق بلدك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحى بلدك الميت، اللّهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مربعا طبقا واسعا، عاجلا غير آجل نافعا غير ضار، اللّهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللّهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء) . فقام أبو لبابة بن عبد المنذر فقال: يا رسول اللّه إن التمر فى المربد، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (اللّهم اسقنا) ، فقال أبو لبابة: إن التمر فى المرابد، ثلاث مرات، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (اللّهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره) . قال: فلا واللّه ما فى السماء من قزعة ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، وهم ينظرون، ثم أمطرت، فو اللّه ما رأوا الشمس سبتا، وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه. فقال الرجل: يا رسول اللّه- يعنى الذى سأله أن يستسقى له-: هلكت الأموال، وانقطعت السبل. فصعد- صلى اللّه عليه وسلم- المنبر فدعا ورفع يديه مدّا، حتى رؤى بياض إبطيه ثم قال: (اللّهم حوالينا ولا علينا، اللّهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) فانجابت السحابة عن المدينة كانجياب الثوب (١) . و (الأطيط) صوت الأقتاب، يعنى: أن الكرسى ليعجز عن حمله وعظمته، إذ كان معلوما أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه، وعجزه عن احتماله. وهذا مثل لعظمته تعالى وجلاله، ولم يكن أطيط وإنما هو كلام تقريب، أريد به تقرير عظمة اللّه تعالى. وقوله: (طبقا) بفتح الطاء والموحدة، أى مالئا للأرض مغطيا لها، ي قال: غيث طبق أى عام واسع. و (المربد) : موضع يجفف فيه التمر. و (ثعلبه) ثقبه الذى يسيل منه ماء المطر. وعن أنس بن مالك قال: جاء أعرابى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: يا رسول اللّه أتيناك وما لنا صبى يغط، ولا بعير يئط- أى ما لنا بعير أصلا لأن البعير لا بد أن يئط- وأنشد: أتيناك والعذراء يدمى لبانها ... وقد شغلت أم الصبى عن الطفل وألقى بكفيه الفتى لاستكانة ... من الجوع ضعفا ما يمر ولا يحلى __________ (١) تقدم فى الذى قبله. ولا شئ مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامى والعلهز الغسل وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل فقام- صلى اللّه عليه وسلم- يجر رداءه، حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء ثم قال: (اللّهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا غدقا طبقا نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث، تملأ به الضرع وتنبت به الزرع، وتحيى به الأرض بعد موتها) قال: فما رد- صلى اللّه عليه وسلم- يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأبراقها، وجاء أهل البطانة يضجون: الغرق الغرق، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (حوالينا ولا علينا) فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل. وضحك- صلى اللّه عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: (للّه در أبى طالب، لو كان حيّا لقرت عيناه. من ينشدنا قوله؟) فقال على: يا رسول اللّه كأنك تريد قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل تطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده فى نعمة وفواضل كذبتم وبيت اللّه نبزى محمدا ... ولما نطاعن حوله ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل فقال: (أجل) رواه البيهقى. وقوله: (يدمى لبانها) أى يدمى صدرها لامتهانها نفسها فى الخدمة حيث لا تجد ما تعطيه من يخدمها من الجدب وشدة الزمان، وأصل اللبان من الفرس موضع اللبب ثم استعير للناس. وقوله: (ما يمر وما يحلى) أى ما ينطق بخير ولا بشر من الجوع والضعف. وقوله: (سوى الحنظل العامى) نسبة إلى العام، لأنه يتخذ فى عام الجدب، كما قالوا للجدب: السنة. (والعلهز) بالكسر، طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير فى سنى المجاعة. قاله الجوهرى. و (الغسل) الرذل، قال السهيلى: فإن قلت: كيف قال أبو طالب (وأبيض يستسقى الغمام بوجهه) ولم يره قط يستسقى، وإنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟ وأجاب بما حاصله: أن أبو طالب أشار إلى ما وقع فى زمن عبد المطلب، حيث استسقى لقريش والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- معه وهو غلام. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه، وإن لم يشاهد ذلك فيه. انتهى. قلت: وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة، وهم فى قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادى وأجدب العيال وأنت فيهم أما تستسقى؟ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه وما فى السماء قزعة، فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا، وأغدق واغدودق وانفجر له الوادى وأخصب النادى والبادى، وفى ذلك يقول أبو طالب (وأبيض يستسقى الغمام بوجهه) انتهى. الرابع: استسقاؤه- صلى اللّه عليه وسلم- بالدعاء من غير صلاة. عن ابن مسعود أن قريشا أبطؤوا عن الإسلام، فدعا عليهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا، فادع اللّه، فقرأ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١) ، ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى (٢) ، يوم بدر. زاد أسباط عن منصور: فدعا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا، وشكا الناس كثرة المطر ف قال: (اللّهم حوالينا ولا علينا) فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم (٣) . رواه البخارى. وأفاد الدمياطى أن ابتداء الدعاء على قريش كان عقب طرحهم على ظهره سلا الجزور، وكان ذلك بمكة قبل الهجرة، وقد دعا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- __________ (١) سورة الدخان: ١٠. (٢) سورة الدخان: ١٦. (٣) صحيح: أخرجه أبو داود (١١٦٩) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء، من حديث جابر بن عبد اللّه- رضى اللّه عنهما- . بذلك بالمدينة فى القنوت كما فى حديث أبى هريرة عند البخارى، ولا يلزم من ذلك اتحاد هذه القصص، إذ لا مانع أن يدعو عليهم مرارا. والظاهر أن مجئ أبى سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود: (ثم عادوا، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى (١) يوم بدر) ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر. وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك، فلذلك قال: (وأبيض يستسقى الغمام بوجهه) لكن ورد ما يدل على أن القصة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل. وفى الدلائل للبيهقى عن كعب بن مرة أو مرة بن كعب قال: دعا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على مضر، فأتاه أبو سفيان فقال: ادع اللّه لقومك قد هلكوا. وقد رواه أحمد وابن ماجه عن كعب بن مرة، ولم يشك، وأبهم أبا سفيان فقال: جاءه رجل فقال: استسق اللّه لمضر، قال: يا رسول اللّه استنصرت اللّه فنصرك ودعوت اللّه فأجابك، فرفع يديه فقال: (اللّهم اسقنا غيثا مغيثا) الحديث فظهر أن هذا الرجل المبهم المقول له: (إنك لجرئ) هو أبو سفيان. لكن يظهر أن فاعل (قال يا رسول اللّه استنصرت اللّه إلخ) هو كعب بن مرة راوى هذا الحديث، فما أخرجه أحمد والحاكم عن كعب بن مرة المذكور قال: (دعا رسول اللّه على مضر، فأتيته فقلت: يا رسول اللّه إن اللّه قد نصرك وأعطاك واستجاب لك، وإن قومك قد هلكوا) . وعلى هذا: فكأن أبا سفيان وكعبا حضرا جميعا، فكلمه أبو سفيان بشئ، فدل ذلك على اتحاد قصتهما، وقد ثبت فى هذه ما ثبت فى تلك من قوله (إنك لجرئ) ومن قوله: (اللّهم حوالينا ولا علينا) . وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع بالمدينة لقوله (استنصرت اللّه فنصرك) . ولا يلزم من هذا اتحاد هذه القصة مع قصة أنس السابقة، فهى واقعة أخرى، لأن فى رواية أنس (فلم ينزل عن المنبر حتى مطروا) وفى هذه (فما كان إلا جمعة أو نحوها حتى مطروا) ، والسائل فى هذه القصة غير السائل فى تلك، فهما قصتان، وقع فى كل منهما طلب الدعاء بالاستسقاء، ثم __________ (١) سورة الدخان: ١٦. طلب الدعاء بالاستصحاء. وإن ثبت أن كعب بن مرة أسلم قبل الهجرة حمل قوله: (استنصرت اللّه فنصرك) على النصر بإجابة دعائه عليهم، وزال الإشكال المتقدم واللّه أعلم. انتهى ملخصا من فتح البارى. الخامس: استسقاؤه- صلى اللّه عليه وسلم- عند أحجار الزيت، قريبا من الزوراء، وهى خارج باب المسجد الذى يدعى باب السلام نحو قذفة بحجر، ينعطف على يمين الخارج من المسجد. عن عمير، مولى أبى اللحم، أنه رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يستسقى رافعا يديه قبل وجهه، لا يجاوزهما رأسه (١) ، رواه أبو داود والترمذى. السادس: استسقاؤه- صلى اللّه عليه وسلم- فى بعض غزواته، لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وقال بعض المنافقين: لو كان نبيّا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: (أو قد قالوها، عسى ربكم أن يسقيكم) ، ثم بسط يديه ودعا، فما رد يديه من دعائه حتى أظلم السحاب وأمطروا إلى أن سال الوادى، فشرب الناس وارتووا. الفصل الثالثعن سالم بن عبد اللّه عن أبيه مرفوعا: أنه كان إذا استسقى قال: اللّهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللّهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللّهم أنبت لنا الزرع، وأدرّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللّهم ارفع عنا الجهد والجوع والعرى، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللّهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا. رواه الشافعى. __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (١١٦٨) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء. من حديث عمير الغفارى مولى أبى اللحم- رضى اللّه عنه- . الفصل الرابعروى أبو الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمى عام الفتق. وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح من رواية أبى صالح السمان، عن مالك الدار قال: أصاب الناس قحط فى زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل إلى قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: يا رسول اللّه، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل فى المنام فقيل له: أئت عمر. وفى رواية عبد الرزاق: أن عمرا استسقى بالمصلى، فقال للعباس: قم فاستسق. وذكر الزبير بن بكار أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس عام الرمادة، بفتح الراء وتخفيف الميم- وسمى به لما حصل من شدة الجدب، فأغبرت الأرض جدّا لعدم المطر. وذكر ابن عساكر فى كتاب الاستسقاء أن العباس لما استسقى ذلك اليوم قال: اللّهم إن عندك سحابا وعندك ماء، فانشر السحاب ثم أنزل منه الماء ثم أنزله علينا، واشدد به الأصل وأطل به الفرع وأدرّ به الضرع. اللّهم تشفعنا إليك بمن لا منطق له من بهائمنا وأنعامنا، اللّهم اسقنا سقيا وادعة بالغة طبقا، اللّهم لا نرغب إلا إليك وحدك، لا شريك لك، اللّهم نشكو إليك سغب كل ساغب، وعدم كل عادم، وجوع كل جائع، وعرى كل عار، وخوف كل خائف. وفى رواية الزبير بن بكار: أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللّهم أنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بى القوم إليك لمكانى من نبيك. وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث. فأرخت السماء مثل الحبال، حتى أخصبت الأرض وعاش الناس. وعنده أيضا: قحط الناس فقال عمر أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا يا أيها الناس برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى عمه العباس، فاتخذوه وسيلة إلى اللّه. وفيه فما برحوا حتى سقوا، وفى ذلك يقول العباس بن عتبة بن أبى لهب: بعمى سقى اللّه الحجاز وأهله ... عشية يستسقى بشيبته عمر توجه بالعباس فى الجدب راغبا ... إليه فما إن رام حتى أتى المطر ومنا رسول اللّه فينا تراثه ... فهل فوق هذه للمفاخر مفتخر |