٧-٣ الفصل الثانى فى حكم الصلاة عليه والتسليم فريضة وسنة وفضيلة وصفة ومحلّاقال اللّه تعالى: إِنَّ اللّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٢) . قال أبو العالية: معنى صلاة اللّه على نبيه ثناؤه عليه عند الملائكة، ومعنى صلاة الملائكة عليه الدعاء. قال فى فتح البارى: وهذا أولى الأقوال، فيكون معنى صلاة اللّه تعالى عليه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم طلب ذلك له من اللّه تعالى، والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة. وعن ابن عباس: أن معنى صلاة الملائكة الدعاء بالبركة. وروى ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حيان قال: صلاة اللّه مغفرته وصلاة الملائكة الاستغفار. __________ (١) سورة البقرة: ٢٢٢. (٢) سورة الأحزاب: ٥٦. وقال الضحاك بن مزاحم: صلاة اللّه رحمته، وفى رواية عنه: مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء. أخرجهما إسماعيل القاضى عنه، وكأنه يريد الدعاء بالمغفرة ونحوها. وقال المبرد: الصلاة من اللّه الرحمة ومن الملائكة رقة تبعث على استدعاء الرحمة. وتعقب: بأنه اللّه غاير بين الصلاة والرحمة فى قوله سبحانه وتعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ (١) ، ولذلك فهم الصحابة المغايرة من قوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٢) حتى سألوه عن كيفية الصلاة مع تقدم ذكر (الرحمة) فى تعليم السلام، حيث جاء بلفظ: السلام عليك أيها النبى ورحمة اللّه وبركاته، وأقرهم النبى-صلى اللّه عليه وسلم-، فلو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقال لهم، قد علمتم ذلك فى السلام. وجوز الحليمى أن تكون الصلاة بمعنى السلام عليه، وفيه نظر. وقيل: صلاة اللّه على خلقه تكون خاصة وتكون عامة، فصلاته على أنبيائه هى ما تقدم من الثناء والتعظيم، وصلاته على غيرهم الرحمة، فهى التى وسعت كل شىء. وحكى القاضى عياض: عن بكر القشيرى أنه قال: الصلاة على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من اللّه تشريف وزيادة تكرمة، وعلى من دون النبى رحمة. وبهذا يظهر الفرق بين النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وبين سائر المؤمنين حيث قال اللّه تعالى فى سورة الأحزاب: إِنَّ اللّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (٣) ، وقال قبل ذلك فى السورة المذكورة: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ (٤) ، ومن المعلوم أن القدر الذى يليق بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- من ذلك أرفع مما يليق بغيره. والإجماع منعقد على أن فى هذه الآية من تعظيم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- والتنويه به ما ليس فى غيرها. وقال الحليمى فى (الشعب) ، معنى الصلاة على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- تعظيمه، فمعنى قولنا: اللّهم صل على محمد، عظم محمدا، والمراد تعظيمه فى الدنيا __________ (١) سورة البقرة: ١٥٧. (٢) سورة الأحزاب: ٥٦. (٣) سورة الأحزاب: ٥٦. (٤) سورة الأحزاب: ٤٣. بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفى الآخرة بإجزال مثوبته، وتشفيعه فى أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ (١) ادعوا ربكم بالصلاة عليه. انتهى. ولا يعكر عليه عطف آله وأزواجه وذريته عليه، فإنه لا يمتنع أن يدعى لهم بالتعظيم إذ تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به. وما تقدم عن أبى العالية أظهر، فإنه يحصل به استعمال لفظ الصلاة بالنسبة إلى اللّه تعالى، وإلى ملائكته وإلى المؤمنين المأمورين بذلك بمعنى واحد، ويؤيده أنه لا خلاف فى جواز الترحم على غير الأنبياء: واختلف فى جواز الصلاة على غير الأنبياء، ولو كان معنى قولنا: اللّهم صل على محمد: ارحم محمدا، أو ترحم على محمد، جاز لغير الأنبياء، وكذا لو كان بمعنى البركة، وكذلك الرحمة، لسقط الوجوب فى التشهد عند من يوجبه بقول المصلى فى التشهد: السلام عليك أيها النبى ورحمة اللّه وبركاته. ويمكن الانفصال عنه بأن ذلك وقع بطريق التعبد فلابد من الإتيان به، ولو سبق الإتيان بما يدل عليه. [سؤال]فإن قلت: فى أى وقت وقع الأمر بالصلاة عليه- صلى اللّه عليه وسلم-؟ فالجوابكما قال أبو ذر الهروى-: أنه وقع فى السنة الثانية من الهجرة، وقيل ليلة الإسراء، وقيل: إن شهر شعبان شهر الصلاة على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، لأن آية الصلاة- يعنى إِنَّ اللّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (٢) نزلت فيه. واللّه أعلم. قال الحليمى: والمقصود بالصلاة عليه- صلى اللّه عليه وسلم- التقرب إلى اللّه تعالى بامتثال أمره تعالى، وقضاء حق النبى- صلى اللّه عليه وسلم- علينا. وتبعه ابن عبد السلام، فقال فى الباب الثامن من كتابه المسمى (بشجرة المعارف) : ليست صلاتنا على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- شفاعة له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن اللّه أمرنا بمكافأة من __________ (١) سورة الأحزاب: ٥٦. (٢) سورة الأحزاب: ٥٦. أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا اللّه- لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا- إلى الصلاة عليه. وذكر نحوه عن الشيخ أبى محمد المرجانى. وقال ابن العربى: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذى يصلى عليه، لدلالة ذلك على نصوح العقيدة وخلوص النية، وإظهار المحبة، والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة- صلى اللّه عليه وسلم-. [حكم الصلاة على النبي ص]واختلف فى حكم الصلاة عليه- صلوات اللّه وسلامه عليه- على أقوال: أحدها: أنها تجب فى الجملةبغير حصر، لكن أقل ما يحصل به الإجزاء مرة. الثانى: يجب الإكثار منها، من غير تقييد بعدد،قاله القاضى أبو بكر ابن بكير من المالكية، وعبارته- كما قاله القاضى عياض-: افترض اللّه تعالى على خلقه أن يصلوا على نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- ويسلموا تسليما، ولم يجعل ذلك لوقت معلوم، فالواجب أن يكثر المرء منها ولا يغافل عنها. الثالث: تجب كل ما ذكر،قاله الطحاوى وجماعة من الحنفية، والحليمى، وجماعة من الشافعية، وقال ابن العربى: إنه الأحوط، وكذا قاله الزمخشرى. واستدلوا لذلك بحديث: (من ذكرت عنده فلم يصل على فمات فدخل النار فأبعده اللّه) (١) أخرجه ابن حبان من حديث أبى هريرة. وحديث: (رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل على) (٢) رواه الترمذى من حديث أبى هريرة، وصححه الحاكم. وحديث: (شقى عبد ذكرت عنده فلم يصل على) (٣) أخرجه الطبرانى من حديث جابر: لأن الدعاء: ب (الرغم __________ (١) صحيح: أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٤٠٩) من حديث مالك بن الحويرث- رضى اللّه عنه-، و (٩٠٧) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره. (٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٥٤٥) فى الدعوات، باب: قول رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (رغم أنف رجل) ، وأحمد فى (المسند) (٢/ ٢٥٤) . (٣) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (٢/ ٢٤٦) . والإبعاد والشقاء) يقتضى الوعيد، والوعيد على الترك من علامات الوجوب. ومن حيث المعنى: إن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه، وإحسانه مستمر، فتتأكد إذا ذكر. واستدلوا أيضا: بقوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً (١) فلو كان إذا ذكر لا يصلى عليه كان كاحاد الناس وأجاب من لم يوجب ذلك بأجوبة، منها: أنه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين، فهو مخترع. ولو كان ذلك على عمومه للزم المؤذن إذا أذن أن يصلى عليه، وكذا سامعه، وللزم القارئ إذا مر باية فيها ذكره- صلى اللّه عليه وسلم- فى القرآن، وللزم الداخل فى الإسلام إذا تلفظ بالشهادتين ولكان فى ذلك من المشقة والحرج ما جاءت الشريعة السمحة المطهرة بخلافه، ولكان الثناء على اللّه تعالى كلما ذكر أحق بالوجوب، ولم يقولوا به. وقد أطلق القدورى وغيره من الحنفية: أن القول بوجوب الصلاة كلما ذكر مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله، لأنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه خاطب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: يا رسول اللّه صلى اللّه عليك، ولأنه لو كان كذلك لما تفرغ لعبادة أخرى. وأجابوا عن الأحاديث: بأنها خرجت مخرج المبالغة فى تأكيد ذلك وطلبه، وفى حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنا. وبالجملة: فلا دلالة على تكرر وجوب ذلك بتكرر ذكره- صلى اللّه عليه وسلم- فى المجلس الواحد، انتهى ملخصا، واللّه أعلم. الرابع: فى كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مرارا.حكاه الزمخشرى. الخامس: فى كل دعاء،حكاه أيضا. السادس: أنها من المستحبات،وهو قول ابن جرير الطبرى، وادعى __________ (١) سورة النور: ٦٣. الإجماع على ذلك، واحتج على ذلك مع ورود صيغة الأمر بذلك، بالاتفاق من جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة، أن ذلك غير مستلزم فرضيتها حتى يكون تارك ذلك عاصيا، فدل على أن الأمر فيه للندب، ويحصل الامتثال لمن قاله ولو كان خارج الصلاة. قال فى فتح البارى: وما ادعاه من الإجماع معارض بدعوى غيره الإجماع على مشروعية ذلك فى الصلاة، إما بطريق الوجوب، وإما بطريق الندب، ولا يعرف عن- السلف لذلك مخالف، إلا ما أخرجه ابن أبى شيبة والطبرانى عن إبراهيم النخعى أنه كان يرى أن قول المصلى فى التشهد: السلام عليك أيها النبى ورحمة اللّه وبركاته مجزئ عن الصلاة، ومع ذلك: إنما ادعى إجزاء السلام عن الصلاة. السابع: تجب فى العمر مرةفى الصلاة أو غيرها، ككلمة التوحيد، قاله أبو بكر الرازى من الحنفية. الثامن: تجب فى الصلاة من غير تعيين المحل،ونقل ذلك عن أبى جعفر الباقر. التاسع: تجب فى التشهد،وهو قول الشعبى وإسحاق بن راهواه. العاشر: تجب فى القعود آخر الصلاة، بين قول التشهد وسلام التحلل،قاله الشافعى ومن تبعه. واستدل لذلك بما رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذى وابن خزيمة والحاكم عن أبى مسعود البدرى: أنهم قالوا يا رسول اللّه: أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلى عليك إذا نحن صلينا عليك فى صلاتنا ف قال: (قولوا اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد) الحديث (١) . ومعنى قولهم: أما السلام عليك فقد عرفنا، هو الذى فى __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٤٠٥) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعد التشهد، وأبو داود (٩٨٠) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعد التشهد، والترمذى (٣٢٢٠) فى التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، والنسائى (٣/ ٤٥) فى السهو، باب: الأمر بالصلاة على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأحمد فى (المسند) (٤/ ١١٨ و ٢٧٣ و ٢٧٤) . التشهد، الذى كان قد علمهم إياه كما يعلمهم السورة من القرآن. وفيه: السلام عليك أيها النبى ورحمة اللّه وبركاته، ورواه الشافعى فى مسنده عن أبى هريرة بمثله. وقد احتج بهذه الزيادة جماعة من الشافعية، منهم ابن خزيمة، والبيهقى، لإيجاب الصلاة عليه- صلى اللّه عليه وسلم- بعد التشهد وقبل السلام. |