Geri

   

 

 

İleri

 

٥-٢

ووقع ذلك فى رواية بريدة عند البزار: لما كان ليلة أسرى به، فأتى جبريل الصخرة التى ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد بها البراق، ونحوه للترمذى. وفى حديث أبى سعيد عندالبيهقى: حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتى بالحلقة التى كانت الأنبياء تربطها فيه، فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كل واحد منا ركعتين.

وفى رواية ابن مسعود نحوه، وزاد: ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدى جبريل فقدمنى فصليت بهم. وفى حديث ابن مسعود أيضا- عند مسلم-: وحانت الصلاة فأممتهم (٢) . وفى حديث ابن عباس، عند أحمد: فلما أتى- صلى اللّه عليه وسلم- الأقصى قام يصلى، فإذا النبيون أجمعون يصلون معه (٣) . وفى حديث أبى سعيد: ثم سار حتى أتى بيت المقدس فنزل، فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا معك؟

قال: هذا محمد رسول اللّه خاتم النبيين، قالوا: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم، قالوا: حياه اللّه من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة. ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم. فقال إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: الحمد للّه الذى اتخذنى خليلا، وأعطانى ملكا عظيما، وجعلنى أمة قانتا يؤتم بى، وأنقذنى من النار، وجعلها على بردا وسلاما.

__________

(١) حسن: أخرج الحديث الترمذى (٣١٤٧) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وابن حبان فى (صحيحه) (٤٥).

(٢) صحيح: وقد تقدم قريبا.

(٣) أخرجه أحمد فى (المسند) (١/ ٢٥٧) .

ثم إن موسى- عليه الصلاة والسلام- أثنى على ربه

فقال: الحمد للّه الذى كلمنى تكليما، واصطفانى، وأنزل على التوراة، وجعل هلاك فرعون ونجاة بنى إسرائيل على يدى، وجعل من أمتى قوما يهدون بالحق وبه يعدلون.

ثم إن داود- عليه الصلاة والسلام- أثنى على ربه

فقال: الحمد للّه الذى جعل لى ملكا عظيما، وعلمنى الزبور، وألان لى الحديد، وسخر لى الجبار يسبحان معى والطير وآتانى الحكمة وفصل الخطاب.

ثم إن سليمان- عليه السّلام- أثنى على ربه

فقال: الحمد للّه الذى سخر لى الرياح، وسخر لى الشياطين، يعملون ما شئت من محاريب وتماثيل، وعلمنى منطق الطير وآتانى من كل شىء فضلا، وسخر لى جنود الشياطين والإنس والجن والطير، وآتانى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى، وجعل لى ملكا طيبا ليس على فيه حساب.

ثم إن عيسى- عليه السّلام- أثنى على ربه

فقال: الحمد للّه الذى جعلنى كلمته، وجعلنى بمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وعلمنى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلنى أخلق أى أسوى من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه، وجعلنى أبرئ الأكمه والأبرص، وأحيى الموتى بإذن اللّه، ورفعنى وطهرنى وأعاذنى وأمى من الشيطان الرجيم.

فلم يكن للشيطان علينا سبيل.

قال: وإن محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- أثنى على ربه

فقال: كلكم أثنى على ربه وأنا أثنى على ربى: الحمد للّه الذى أرسلنى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علىّ الفرقان، فيه تبيان كل شىء، وجعل أمتى خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتى أمة وسطا، وجعل أمتى هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لى صدرى، ووضع عنى وزرى، ورفع لى ذكرى، وجعلنى قائما وخاتما.

فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد. ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا، ومن سماء إلى سماء. ذكره القاضى عياض فى (الشفاء) (١) مختصرا من حديث أبى هريرة من غير عزو. ورواه البيهقى من حديث أبى سعيد الخدرى، وهذا لفظه.

وفى رواية ابن أبى حاتم فى تفسيره، عن أنس: فلما بلغ بيت المقدس، فبلغ المكان الذى يقال له: باب محمد، أتى إلى الحجر الذى به، فغمز جبريل بأصبعه فنقبه، ثم ربطها، ثم صعدا، فلما استويا فى سرحة المسجد قال جبريل: يا محمد، هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟

قال: نعم،

قال: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن،

قال: فسلمت عليهن فرددن على السلام، فقلت لمن أنتن؟ فقلن: خيرات حسان، نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا،

قال: ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيرا، حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة، قال فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدى جبريل- عليه السّلام- فقدمنى فصليت بهم، فلما انصرفت قال لى جبريل: أتدرى من صلى خلفك؟ قلت: لا،

قال: صلى خلفك كل نبى بعثه اللّه.

قال القاضى عياض: يحتمل أن يكون- صلى اللّه عليه وسلم- صلى بالأنبياء جميعا فى بيت المقدس، ثم صعد منهم من ذكر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- رآهم فى السماوات، ويحتمل أن يكون صلى بهم بعد أن هبط من السماء، فهبطوا أيضا، والأظهر أن صلاته بهم فى بيت المقدس كان قبل العروج. انتهى. وقال ابن كثير:

صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده، فإن فى الحديث ما يدل على ذلك، ولا مانع منه، انتهى.

وقد اختلف فى هذه الصلاة، هل هى فرض أو نفل؟ وإذا قلنا إنها فرض، فأى صلاة هى؟ قال بعضهم: الأقرب أنها الصبح، ويحتمل أن تكون

__________

(١) (١/ ١٨١) .

العشاء، وإنما يتأتى على قول من

قال: إنه صلى بهم قبل عروجه إلى السماء، وأما على قول من

قال: إنه صلى بهم بعد العروج فتكون الصبح.

قال ابن كثير: ومن الناس من يزعم أنه أمهم فى السماء، والذى تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه، لأنه لما مرّ بهم فى منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا، وهو يخبره بهم، ثم

قال: وهذا هو اللائق، لأنه أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوى، ليفرض اللّه عليه وعلى أمته ما يشاء، ثم لما فرغ مما أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين، ثم أظهر شرفه عليهم بتقديمه فى الإمامة.

وفى رواية ابن إسحاق: أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: لما فرغت مما كان فى بيت المقدس، أتى بالمعراج ولم أر قط شيئا أحسن منه، وهو الذى يمد إليه الميت عينيه إذا احتضر، فأصعدنى صاحبى فيه حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء. وفى رواية كعب: فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل. وفى (شرف المصطفى) أنه أتى بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه منضد عن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة. وفى رواية أبى سعيد- عند البيهقى- ثم أتيت بالمعراج الذى تعرج عليه أرواح بنى آدم، فلم ير الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء، فإن ذلك عجبه بالمعراج.

وقد تقدم فى حديث البخارى بالسابق، فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، قيل من هذا؟

قال: جبريل، قيل: ومن معك؟

قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه

قال: نعم. ولم يقل جبريل- عليه السّلام-: أنا، حيث قيل له: من هذا؟ إنما سمى نفسه

فقال: جبريل، لأن لفظ (أنا) فيه إشعار بالعظمة. وفى الكلام السائر: أول من قال (أنا) إبليس، فشقى، وأيضا فقوله (أنا) مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهى غير كافية فى البيان. وعلى هذا فينبغى للمستأذن إذا قيل له من أنت؟ أن لا يقول: (أنا) ، بل يقول: فلان.

وفى رواية للبخارى ومسلم: فعرج، وهو بفتح العين بمعنى صعد. وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى: حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحفظة، وعليه ملك يقال له إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك.

وفى رواية شريك- عند البخارى أيضا- ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء الدنيا: من هذا؟

قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟

قال: محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟

قال: نعم، قالوا:

مرحبا وأهلا، فيستبشر به أهل السماء (١) ، لا يعلم أهل السماء بما يريد اللّه به فى الأرض حتى يعلمهم، أى على لسان من شاء كجبريل.

ووقع فى هذه الرواية أنه رأى فى سماء الدنيا النيل والفرات عنصرهما.

وظاهره يخالف حديث مالك بن صعصعة فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى: فإذا فى أصلها أربعة أنهار. ويجمع بينهما: بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما فى السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض. ووقع فى هذه الرواية أيضا: ثم مضى به فى سماء الدنيا فإذا هو بنهر آخر، عليه قصور من لؤلؤ وزبرجد، وأنه الكوثر. وهو مما استشكل من رواية شريك، فإن الكوثر من الجنة، والجنة فوق السماء بالسابعة. ويحتمل أن يكون تقديره: ثم مضى فى السماء الدنيا إلى السابعة فإذا هو بنهر.

ثم إن فى قوله فى الحديث (افتح) دلالة على أنه صادف أبواب السماء مغلقة، والحكمة فى ذلك- واللّه أعلم- التنويه بقدره- صلى اللّه عليه وسلم-، وتحقيق أن السماوات لم تفتح أبوابها إلا من أجله، ولو وجدها مفتوحة لم يتحرر أنها فتحت لأجله، فلما فتحت له تحقق- صلى اللّه عليه وسلم- أن المحل مصون، وأن فتحه له كرامة وتبجيل.

وأما قوله فى الحديث: (أرسل إليه؟) وفى رواية (بعث إليه؟) فيحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعروج إلى السماء، وهو الأظهر لقوله:

(إليه) لأن أصل بعثته قد اشتهر فى الملكوت الأعلى.

__________

(١) تقدمت رواية شريك أكثر من مرة.

وقيل: سألوه تعجبا من نعمة اللّه عليه بذلك، واستبشارا به، وقد علموا أن بشرا لا يترقى هذا الترقى إلا بإذن من اللّه تعالى، وأن جبريل لا يصعد إلا بمن أرسل إليه.

وقد قيل: إن اللّه تعالى أراد إطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأعلى، لأنهم قالوا: أبعث إليه؟ أرسل إليه؟ فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له، وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد مثلا؟ ولذلك أجابوا بقولهم: مرحبا به ولنعم المجىء جاء، وكلامهم بهذه الصيغة أول دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالته وتحقيق رسالته، ولأن هذا أجل ما يكون من حسن الخطاب والترفيع، على المعروف من عادة العرب.

وأما قوله: (من معك؟) فيشعر بأنهم أحسوا به- صلى اللّه عليه وسلم-، وإلا لكان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟ وهذا الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما بأمر معنوى كزيادة أنوار ونحوها. قاله الحافظ ابن حجر. ولعله أخذه من كلام العارف ابن أبى جمرة، حيث قال فى (بهجته) : الثانى أن يكون سؤالهم له لما رأوا حين رأوا إقباله عليهم من زيادة الأنوار وغيرها من الماثر الحسان زيادة على ما يعهدونه منه.

قال: وهذا هو الأظهر، كأنهم قالوا: من الشخص الذى من أجله هذه الزيادة معك؟ فأخبرهم بما أرادوا وهو تعيين الشخص باسمه حتى عرفوه، انتهى.

وقد قال بعض العلماء: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١) أنه رأى صورة ذاته المباركة فى الملكوت فإذا هو عروس المملكة.

وأما قولهم له: (مرحبا به ولنعم المجىء جاء) فيحتمل أن يكونوا قالوه لما عاينوه من بركاته- صلى اللّه عليه وسلم- التى سبقته للسماء مبشرة بقدومه. وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: جاء فنعم المجىء مجيئه، وإنما لم يقل الخازن: مرحبا بك، بصيغة الخطاب، بل قال بصيغة الغيبة لأنه حياه قبل أن يفتح الباب، وقبل أن يصدر من النبى- صلى اللّه عليه وسلم- خطاب، ويحتمل أن يكون حياه بصيغة الغيبة تعظيما له، لأن (هاء) الغيبة ربما كانت أفخم من كاف الخطاب.

وأما قوله فى الحديث: (فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره

__________

(١) سورة النجم: ١٨.

أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى،

فقال: مرحبا بالنبى الصالح والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟

قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه. فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التى عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى) (١) .

فالأسودة: بوزن أزمنة، هى الأشخاص. والنسم: - بالنون والسين المهملة المفتوحتين- جمع نسمة، وهى الروح. وقد قال القاضى عياض: جاء أن أرواح الكفار فى سجين، وأن أرواح المؤمنين منعمة فى الجنة، يعنى:

فكيف تكون مجتمعة فى سماء الدنيا؟ وأجاب: بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتا، فوافق عرضها مرور النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ويدل على كونهم فى النار إنما هو فى أوقات دون أوقات،

قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا (٢) . واعترض: بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص القرآن (٣) .

والجواب: ما أبداه هو احتمال أن الجنة كانت فى جهة يمين آدم، والنار فى جهة شماله: وكان يكشف له عنهما، ولا يلزم من رؤية آدم لها- وهو فى السماء- أن تفتح لهم أبواب السماء ولا تلجها.

وفى حديث أبى هريرة عند البزار: فإذا عن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه استبشر، وإذا نظر عن شماله حزن. وهذا- لو صح- لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم (٤) ، ولكن سنده ...... قاله الحافظ ابن حجر.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤٩) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة، من حديث أبى ذر- رضى اللّه عنه-.

(٢) سورة غافر: ٤٦.

(٣) يشير إلى قول اللّه عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [سورة الأعراف: ٤٠] .

(٤) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١/ ٦٩) وقال: رواه البزار ورجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبى العالية أو غيره فتابعيه مجهول.

وأما قوله فى الحديث: (ثم صعد بى، حتى أتى السماء الثانية، فقيل من هذا؟

قال: جبريل، ومن معك؟

قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم

فقيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصنا إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة،

قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت عليهما فردا، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح. إلى قوله: ثم صعد بى إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟

قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟

قال: نعم،

قال: مرحبا به، فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم،

قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه،

قال: فسلمت عليه فرد السلام وقال مرحبا بالابن الصالح) (١) .

فهذه الرواية موافقة لرواية ثابت عن أنس عند مسلم: أن فى السماء الأولى؛ آدم، وفى الثانية يحيى وعيسى، وفى الثالثة يوسف، وفى الرابعة إدريس، وفى الخامسة هارون وفى السادسة موسى وفى السابعة إبراهيم (٢) .

وخالف فى ذلك ابن شهاب الزهرى فى روايته عن أنس عن أبى ذر- كما فى أول الصلاة من البخارى أيضا- أنه لم يثبت كيف منازلهم. وقال فيه: وإبراهيم فى السماء السادسة.

وفى رواية شريك عن أنس أن إدريس فى الثانية وهارون فى الرابعة، وآخر فى الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم فى السادسة وموسى فى السابعة، بتفضيل كلام اللّه (٣) . وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم كما صرح به الزهرى.

ورواية من ضبط أولى، ولا سيما فى اتفاق قتادة وثابت، وقد وافقهما يزيد بن أبى مالك عن أنس، إلا أنه خالف فى إدريس وهارون، ف

قال: هارون فى الرابعة، وإدريس فى الخامسة (٤) .

__________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) صحيح: وقد تقدم.

ووافقهم أبو سعيد إلا أن فى روايته: يوسف فى الثانية، وعيسى ويحيى فى الثالثة. والمشهور فى الروايات:

أن الذى فى السابعة هو إبراهيم، وأكد ذلك فى حديث مالك بن صعصعة (١) : بأنه كان مسندا ظهره إلى البيت المعمور. فمع التعدد: لا إشكال.

ومع الاتحاد فقد جمع: بأن موسى كان حالة العروج فى السادسة وإبراهيم فى السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة. وعند الهبوط:

كان موسى فى السابعة، لأنه لم يذكر فى القصة أن إبراهيم كلمه فى شىء مما يتعلق بما فرض على أمته من الصلاة، كما كلمه موسى- عليه السّلام-، والسماء السابعة هى أول شىء انتهى إليه حالة الهبوط، فناسب أن يكون موسى بها، لأنه هو الذى خاطبه فى ذلك، كما ثبت فى جمع الروايات.

ويحتمل أن يكون لقى موسى فى السادسة فأصعد معه إلى السابعة تفضيلا له على غيره من أجل كلام اللّه تعالى، وظهرت فائدة ذلك فى كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته فى الصلاة. قاله فى فتح البارى. و

قال: إن النووى أشار إلى شىء من ذلك.

وفى رواية شريك عن أنس فى قصة موسى: (لم أظن أن أحدا يرفع على) (٢) . قال ابن بطال: فهم موسى- عليه السّلام- من اختصاصه بكلام اللّه تعالى له فى الدنيا دون غيره من البشر: لقوله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي (٣) أن المراد بالناس هنا: البشر كلهم، وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحد، فلما فضل اللّه تعالى محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- بما أعطاه من المقام المحمود وغيره، ارتفع على موسى وغيره بذلك.

وفى حديث أبى سعيد قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أنى أكرم على اللّه، وهذا أكرم على اللّه منى. زاد الأموى فى روايته: ولو كان هذا وحده هان، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند اللّه.

__________

(١) صحيح: وقد تقدم.

(٢) صحيح: وقد تقدم.

(٣) سورة الأعراف: ١٤٦.

وفى حديث مالك بن صعصعة: (فلما جاوزته- يعنى موسى- بكى، فنودى: ما يبكيك؟

قال: رب، هذا غلام بعثته بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتى) (١) .

ولم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ اللّه، فإن الحسد فى ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه اللّه تعالى، بل كان آسفا على ما فاته من الأجر الذى يترتب عليه رفع الدرجات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزمة لتنقيص أجره، لأن لكل نبى بمثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه فى العدد دون من اتبع نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-، مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة.

وقال العارف ابن أبى جمرة: قد جعل اللّه تعالى فى قلوب أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- الرأفة والرحمة لأمتهم، وركبهم على ذلك، وقد بكى نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- فقيل له: ما يبكيك؟

قال: (هذه رحمة وإنما يرحم اللّه من عباده الرحماء) (٢) ، والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- قد أخذوا من رحمة اللّه أوفر نصيب، فكانت الرحمة فى قلوبهم لعباد اللّه أكثر من غيرهم، فلأجل ما كان لموسى- عليه السّلام- من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته، لأن هذا وقت إفضال وجود وكرم، فرجا لعل أن يكون وقت القبول والإفضال فيرحم اللّه أمته ببركة هذه الساعة.

فإن قال قائل: كيف يكون هذا، وأمته لا تخلو عن قسمين: قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر، فالذى مات على الإيمان لابد له من دخول الجنة، والذى مات على الكفر لا يدخل الجنة أبدا، فبكاؤه لأجل ما ذكر لا يسوغ، لأن الحكم فيهم قد مرّ ونفذ.

قيل: إن اللّه تعالى قدر قدره على قسمين، فقدر قدرا وقدر أن ينفذ

__________

(١) صحيح: وقد تقدم.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٨٤) فى الجنائز، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه) ، ومسلم (٩٢٣) فى الجنائز، باب: البكاء على الميت، من حديث أسامة بن زيد- رضى اللّه عنهما-.

على كل الأحوال، وقدر قدرا وقد أن لا ينفذ، ويكون رفعه بسبب دعاء أو صدقة أو غير ذلك، فلأجل ما ركب فى موسى- عليه السّلام- من اللطف والرحمة بالأمة طمع لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذى قدره اللّه تعالى وقدر ارتفاعه بسبب الدعاء والتضرع إليه، وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من اللّه تعالى، لأنه وقت أسرى فيه بالحبيب الكريم، ليخلع عليه خلع القرب والفضل الجسيم، فطمع الكليم لعل أن يلحق لأمته من هذا الخير العظيم نصيبا. وقد قال نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن للّه نفحات فتعرضوا لنفحات اللّه) (١) .

وهذه نفحة من النفحات فتعرض لها موسى، فكان أمرا قد قدر، والأسباب لا تؤثر إلا بما سبقت القدرة بأنها فيه تؤثر، وما كان قضاء نافذا لا تؤثر فيه ولا ترده الأسباب، حتم قد لزم.

وفى بكائه- عليه السّلام- وجه آخر، وهو البشارة لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- وإدخال السرور عليه، وذلك قول موسى- عليه السّلام- الذى هو أكثر الأنبياء أتباعا-: إن الذين يدخلون الجنة من أمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- أكثر مما يدخلها من أمتى.

وأما قول موسى- عليه السّلام-: (لأن غلاما) ولم يقل غير ذلك من الصيغ، فإشارة إلى صغر سنة بالنسبة إليه. وفى القاموس: الغلام: الطار الشارب، والكهل ضده. وقال الخطابى: العرب تسمى الرجل المستجمع السن غلاما، ما دامت فيه بقية من القوة.

قال فى فتح البارى: ويظهر لى أن موسى- عليه السّلام- أشار إلى ما أنعم اللّه به على نبينا من استمرار القوة فى الكهولة إلى أن دخل فى أول سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعتراه فى قوته نقص، حتى إن الناس فى قدومه المدينة لما رأوه مردفا أبا بكر، أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبى بكر اسم الشيخ، مع كونه فى العمر أسن من أبى بكر واللّه أعلم، وقد ذكر ذلك فى الهجرة من المقصد الأول.

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٢٣١) عن أنس وقال: رواه الطبرانى وإسناد رجاله رجال الصحيح، غير عيسى بن موسى بن أياس بن البكير، وهو ثقة.

وقد وقع فى حديث أبى هريرة عند الطبرانى فى ذكر إبراهيم: فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسى (١) . وفى رواية مسلم من حديث ثابت عن أنس: ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم- عليه السّلام- مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، وفيه: فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن (٢) .

وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى، وأبى هريرة عند الطبرانى: فإذا أنا برجل أحسن ما خلق اللّه: قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وهذا ظاهره أن يوسف- عليه السّلام- كان أحسن من جميع الناس، لكن روى الترمذى من حديث أنس: (ما بعث اللّه نبيّا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا) (٣) .

فعلى هذا يحمل حديث المعراج على أن المراد غير النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. ويؤيده قول من

قال: إن المتكلم لا يدخل فى عموم خطابه. وحمل ابن المنير حديث الباب على أن المراد: أن يوسف أعطى شطر الحسن الذى أوتيه نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-.

وأما قوله فى الحديث عن إدريس: ثم

قال: (مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح) فيحمل على أخوة النبوة والإسلام، لأنها تجمع الوالد والولد، وقال ابن المنير: وفى طريق شاذة: مرحبا بالابن الصالح، وهذه هى القياس، لأنه جده الأعلى.

وقيل: أن إدريس الذى لقيه ليس هو الجد المشهور، ولكنه إلياس، فإن كان كذلك ارتفع الإشكال.

فإن قلت: لم كان هؤلاء الأنبياء- عليهم السلام- فى السماوات دون غيرهم من الأنبياء؟ وما وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء تخصه؟ ولم كان فى السماء الثانية بخصوصها اثنان.

__________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه ابن مردويه وأبو سعيد الأعرابى فى معجمه والخرائطى فى اعتلال القلوب، من حديث على- رضى اللّه عنه-، كما فى (كنز العمال) (١٨٥٥٩) .

أجيب: عن الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، بأنهم أمروا بملاقات نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-، فمنهم من أدركه فى أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحقه، ومنهم من فاته.

وقيل: إشارة إلى ما سيقع له- صلى اللّه عليه وسلم- مع قومه، من نظير ما وقع لكل منهم:

فأما آدم- عليه السّلام- فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض، بما سيقع لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان عاقبة كل منهما أن يرجع إلى وطنه الذى خرج منه.

وبعيسى ويحيى- عليهما السلام- على ما وقع له أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم على البغى عليه، وإرادتهم السوء به.

وبيوسف، بما وقع له من إخوته على ما وقع لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- من قريش، من نصبهم الحرب له، وإرادتهم إهلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار- صلى اللّه عليه وسلم- إلى ذلك يوم الفتح بقوله لقريش: (أقول لكم كما قال يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء) (١) ، أى العتقاء.

وبإدريس على رفيع منزلته عند اللّه تعالى.

وبهارون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه.

وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك- صلى اللّه عليه وسلم-، بقوله: (لقد أوذى موسى بأكثر من هذا فصبر) (٢) .

وبإبراهيم فى استناده إلى البيت المعمور بما ختم له- صلى اللّه عليه وسلم- فى آخر عمره من إقامة مناسك الحج، وتعظيم البيت الحرام. وأجاب العارف ابن أبى

__________

(١) رواه ابن الجوزى فى الوفاء من طريق ابن أبى الدنيا وفيه ضعف، قاله العراقى فى (تخريج أحاديث الإحياء) (٣/ ١٧٩) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٥٠) فى الخمس، باب: ما كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (١٠٦٢) فى الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، من حديث عبد اللّه بن مسعود- رضى اللّه عنه-.

جمرة عن وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء: بأن الحكمة فى كون آدم فى السماء الدنيا لأنه أول الأنبياء وأول الآباء، وهو الأصل، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة. وأما عيسى فإنما كان فى السماء الثانية لأنه أقرب الأنبياء إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ولا انمحت شريعة عيسى- عليه السّلام- إلا بشريعة محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، ولأنه ينزل فى آخر الزمان لأمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- على شريعته ويحكم بها، ولهذا قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أولى الناس بعيسى) (١) فكان فى الثانية لأجل هذا المعنى.

وإنما كان يحيى- عليه السّلام- معه هناك لأنه ابن خالته، وهما كالشىء الواحد، فلأجل التزام أحدهما بالآخر كانا هناك معا.

وإنما كان يوسف- عليه السّلام- فى السماء الثالثة لأن على حسنه تدخل أمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- الجنة، فأرى له هناك لكى يكون ذلك بشارة له- صلى اللّه عليه وسلم- فيسر بذلك.

وإنما كان إدريس- عليه السّلام- فى السماء الرابعة لأنه هناك توفى ولم تكن له تربة فى الأرض على ما ذكر (٢) .

وإنما كان هارون- عليه السّلام- فى السماء الخامسة لأنه ملازم لموسى- عليه السّلام- لأجل أنه أخوه وخليفته فى قومه، فكان هناك لأجل هذا المعنى.

وإنما لم يكن مع موسى فى السماء السادسة لأن لموسى مزيه وحرمة وهى كونه كليما، واختص بأشياء لم تكن لهارون فلأجل هذا المعنى لم يكن معه فى السادسة. وإنما كان موسى- عليه السّلام- فى السماء السادسة لأجل ما اختص به من الفضائل، ولأنه الكليم، وهو أكثر الأنبياء أتباعا بعد نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-.

وإنما كان إبراهيم- عليه السّلام- فى السماء السابعة لأنه الخليل والأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- بلقياه أنس، لتوجهه بعده إلى عالم آخر،

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤٤٢) فى أحاديث الأنبياء، باب: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، ومسلم (٢٣٦٥) فى الفضائل، باب: فضائل عيسى- عليه السّلام-، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) قلت: وأين ذكر ذلك؟!.

وهو اختراق الحجب، وأيضا لأنه الخليل، ولا أحد أفضل من الخليل إلا الحبيب، والحبيب ها هو قد علا ذلك المقام فكان الخليل فوق الكل لأجل خلته وفضله، وارتفع الحبيب فوق الكل لأجل ما اختص به بما زاد به عليهم،

قال اللّه تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّه وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ (١) فحصل لهم الكمال والدرجة الرفيعة وهى درجة الرسالة والنبوة، ورفعوا بعضهم فوق بعض بمقتضى الحكمة ترفيعا للمرفوع دون تنقيص بالمنزول. انتهى فليتأمل.

وقد اختلف فى رؤية نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- لهؤلاء الأنبياء- عليهم السلام-، فحمله بعضهم على رؤية أرواحهم إلا عيسى، لما ثبت من رفع جسده. وقد قيل فى إدريس أيضا ذلك.

وأما الذين صلوا معه فى بيت المقدس، فيحتمل، الأرواح خاصة، ويحتمل: الأجساد بأرواحها.

وقيل: يحتمل أن يكون- صلى اللّه عليه وسلم- عاين كل واحد منهم فى قبره فى الأرض على الصورة التى أخبر بها من الموضع الذى ذكر أنه عاينه فيه، فيكون اللّه عز وجل قد أعطاه من القوة فى البصر والبصيرة ما أدرك به ذلك، ويشهد له رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- الجنة والنار فى عرض الحائط وهو محتمل لأن يكون- صلى اللّه عليه وسلم- رآهما فى ذلك الموضع أو مثل له صورتهما فى عرض الحائط، والقدرة الصالحة لكليهما.

وقيل: يحتمل أن يكون اللّه سبحانه وتعالى لما أراد بإسراء نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-، رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكراما لنبيه- صلى اللّه عليه وسلم- وتعظيما له حتى يحصل له من قبلهم ما أشرنا إليه من الأنس والبشارة، وغير ذلك مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن. وكل هذه الوجوه محتمل، ولا ترجيح لأحدها على الآخر إذ القدرة صالحة لكل ذلك. انتهى.

__________

(١) سورة البقرة: ٢٥٣.

وأما قوله فى الحديث: (ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل)

قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة،

قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: وما هذا يا جبريل،

قال: أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات (٢) . [ (٢) تقدم.]

وفى رواية عند البخارى أيضا: (فإذا فى أصلها- أى سدرة المنتهى- أربعة أنهار) (١) . وعند مسلم: (يخرج من أصلها) (٢) وعنده أيضا من حديث أبى هريرة: (أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان وجيحان) (٣) فيحتمل: أن تكون سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة، والأنهار تخرج من أصلها، فيصح أنها من الجنة. ووقع فى حديث شريك، كما عند البخارى فى التوحيد: أنه رأى فى السماء الدنيا نهرين يطردان، فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما.

والجمع بينهما: أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهرى الجنة، ورآهما فى السماء الدنيا دون نهرى الجنة، وأراد ب (العنصر) عنصر انتشارهما بسماء الدنيا، كذا قاله ابن دحية. ووقع فى حديث شريك أيضا:

(ومضى به إلى السماء، وإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر، ف

قال: ما هذا يا جبريل؟

قال: هذا الكوثر الذى خبأ لك ربك) (٤) .

وروى ابن أبى حاتم عن أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- بعد أن رأى إبراهيم

قال: ثم انطلق بى على ظهر السماء السابعة، حتى انتهى إلى نهر عليه جام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذى أعطاك ربك، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجرى على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضا من اللبن،

قال: فأخذت من آنيته فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك.

وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى: فإذا فيها عين تجرى يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة، وسيأتى مزيد لما ذكر هنا من الكوثر فى المقصد الأخير- إن شاء اللّه تعالى-.

__________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

وقد وقع فى حديث ثابت عن أنس عند مسلم: (ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كاذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال،

قال: فلما غشيها من أمر اللّه ما غشى تغيرت. فما أحد من خلق اللّه يستطيع أن ينعتها من حسنها) (١) .

وقد جاء فى حديث ابن مسعود عند مسلم أيضا بيان سبب تسميتها ب (سدرة المنتهى) ، ولفظه: (لما أسرى برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: انتهى بى إلى سدرة المنتهى، وهى فى السماء السادسة، وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض، فيقبض منها وإليها منتهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها) (٢) .

وهو معنى قول ابن أبى جمرة: لأن إليها تنتهى الأعمال، ومن هناك ينزل الأمر والنهى وتتلقى الأحكام، وعندها تقف الحفظة وغيرهم لا يتعدونها، فكانت منتهى، لأن إليها ينتهى ما يصعد من السفلى، وما ينزل من العالم العلوى من أمر العلى.

وقال النووى: لأن علم الملائكة ينتهى إليها. ولم يجاوزها أحد إلا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. ولا يعارض قوله فى حديث ابن مسعود هذا، أنها فى السادسة، ما دل عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل فى السماء السابعة، لأنه يحمل على أن أصلها فى السماء السادسة، وأغصانها وفروعها فى السابعة، وليس فى السادسة منها إلا أصل ساقها، قاله فى فتح البارى.

وجاء فى حديث أبى ذر عند البخارى فى الصلاة: (فغشيها ألوان لا أدرى ما هى) (٣) .

وفى حديث ابن مسعود المذكور عند مسلم، (

قال اللّه تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (٤)

قال: فراش من ذهب) (٥) . وفى حديث يزيد بن أبى مالك عن أنس (جراد من ذهب) . قال البيضاوى: وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب حقيقة، والقدرة صالحة لذلك.

__________

(١) صحيح: وقد تقدم.

(٢) صحيح: وقد تقدم.

(٣) صحيح: وقد تقدم.

(٤) سورة النجم: ١٦.

(٥) صحيح: وقد تقدم.

وفى حديث أبى سعيد وابن عباس (فغشيها الملائكة) . وفى حديث على (وعلى كل ورقة منها ملك) . وفى رواية ثابت عن أنس عند مسلم (فلما غشيها من أمر اللّه ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق اللّه يستطيع أن ينعتها) (١) . وفى رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه: نحوه لكن

قال: تحولت ياقوتا، ونحو ذلك.

قال ابن دحية: واختيرت السدرة دون غيرها لأن فيها ثلاثة أوصاف:

ظل مديد وطعم لذيذ، ورائحة زكية، فكانت بمنزلة الإيمان الذى يجمع القول والعمل والنية، فالظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول.

وقال العارف ابن أبى جمرة: وهل الشجرة مغروسة فى شىء أم لا؟

يحتمل الوجهين معا، لأن القدرة صالحة لكليهما. فكما جعل اللّه فى هذه الدار الأرض مقرا للشجر، كذلك يجعل الهواء لتلك مقرا، وكما رجع- صلى اللّه عليه وسلم- يمشى فى الهواء كما كان يمشى فى الأرض، ولأن بالقدرة استقرت الأرض مع أنها على الماء، فلا مانع من أن تكون الشجرة فى الهواء، ويحتمل أن تكون مغروسة بأرض، وأن تكون من تراب الجنة، واللّه قادر على ما يشاء.

وأما قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى الحديث: (ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، ف

قال: (هى الفطرة التى أتت عليها) .

فيدل على أنه عرض عليه الآنية مرتين، مرة ببيت المقدس، ومرة عند وصوله سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة.

وأما الاختلاف فى عدد الآنية وما فيها، فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة أوان، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التى رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى.

__________

(١) صحيح: وقد تقدم.

ووقع فى حديث أبى هريرة عند الطبرى: سدرة المنتهى يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى. فلعله عرض عليه من كل نهر إناء وجاء عن كعب: أن نهر العسل نهر النيل، ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات، ونهر الماء نهر سيحان. ولنهر النيل فضائل ولطائف أفردها بالتأليف غير واحد من الأئمة. ووقع فى بعض الطرق: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى بالأنبياء فى السماوات.

وأما قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى الحديث: (ثم رفع إلى البيت المعمور) . فمعناه أنه أرى له، وقد يحتمل أن يكون المراد الرفع والرؤية معا، لأنه قد يكون بينه وبين البيت المعمور عوالم حتى لا يقدر على إدراكه، فرفع إليه وأمد فى بصره وبصيرته حتى رآه.

وروى الطبرى من حديث ابن أبى عروبة عن قتادة

قال: ذكر لنا أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: البيت المعمور مسجد فى السماء بحذاء الكعبة لو خرّ لخرّ عليها، يدخله سبعون ألف ملك كل يوم، إذا خرجوا منه لم يعودوا.

وفى هذا دليل عظيم على قدرة اللّه تعالى، وأنه لا يعجزه شىء ممكن، لأن هذا البيت المعمور يصلى فيه كل يوم هذا العدد العظيم منذ خلق اللّه تعالى الخلق إلى الأبد، ثم طائفة هذا اليوم لا ترجع إليه أبدا. ومع أنه قد روى أنه ليس فى السماوات ولا فى الأرض موضع شبر إلا وملك واضع جبهته هناك ساجدا، ثم البحار ما من قطرة إلا وبها ملك موكل، فإذا كانت السماوات والأرض والبحار هكذا، فهؤلاء الملائكة الذين يدخلون أين يذهبون؟ هذا من عظيم القدرة التى لا يشبهها شىء. وفى هذا دليل على أن الملائكة أكثر المخلوقات، لأنه إذا كان سبعون ألف ملك كل يوم تصلى فى البيت المعمور على ما تقدم، ثم لا يعودون، مع أن الملائكة فى السماوات والأرض والبحار.

وفى حديث أبى هريرة عند ابن مردويه وابن أبى حاتم: أن فى السماء

نهرا يقال له: الحيوان، يدخل جبريل كل يوم فينغمس فيه، ثم يخرج فينتفض، فيخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق اللّه من كل قطرة ملكا، فهم الذين يصلون فيه، أى فى البيت المعمور، ثم لا يعودون إليه. وإسناد ......

وذكر الإمام فخر الدين الرازى عند تفسير

قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (١) أنه روى عن عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه

قال: إن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة، يدخل فيه جبريل- عليه السّلام- كل سحر ويغتسل فيه، فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله، ثم ينتفض فيخلق اللّه من كل نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا ثم لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. وقد روى أن ثم ملائكة يسبحون اللّه تعالى، فيخلق اللّه بكل تسبيحة ملكا.

هذا ما عدا الملائكة التى للتعبد، وما عدا الملائكة الموكلين بالنبات والأرزاق، والحفظة، والملك الموكل بتصوير ابن آدم، والملائكة الذين ينزلون فى السحاب، والملائكة الذين يكتبون الناس يوم الجمعة، وخزنة الجنة، والملائكة الذين يتعاقبون، والذين يؤمنون على قراءة المصلى، والذين يقولون:

ربنا ولك الحمد، والذين يدعون لمنتظر الصلاة، والذين يلعنون من هجرت فراش زوجها.

وروى أن فى السماء الدنيا- وهى من ماء ودخان- ملائكة خلقوا من ماء وريح عليهم ملك يقال له الرعد، وهو ملك موكل بالسحاب والمطر، يقولون: سبحان ذى الملك والملكوت.

وأن فى الثانية ملائكة على ألوان شتى، رافعين أصواتهم يقولون:

سبحان ذى العزة والجبروت، وأن فيها ملكا نصف جسده من نار ونصف

__________

(١) سورة النحل: ٨.

جسده من ثلج، فلا النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ النار، وهو يقول: يا من ألف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين.

وأن فى الثالثة- وهى من حديد- ملائكة ذوى أجنحة شتى ووجوه شتى وأصوات شتى، رافعى أصواتهم بالتسبيح يقولون: سبحانك أنت الحى الذى لا يموت، وهم صفوف قيام كأنهم بنيان مرصوص، لا يعرف أحدهم لون صاحبه من خشية اللّه.

وأن فى السماء الرابعة- وهى من نحاس- ملائكة يضعفون على ملائكة الثالثة، وكذلك كل سماء أكثر عددا من التى تليها، وأن ملائكة السماء الرابعة قيام وركوع وسجود على ألوان شتى من العبادة، يبعث اللّه الملك منهم إلى أمر من أموره، فينطلق الملك ثم ينصرف فلا يعرف صاحبه الذى إلى جنبه من شدة العبادة وهم يقولون: سبوح قدوس، ربنا الرحمن الذى لا إله إلا هو.

وأن فى الخامسة- وهى من فضة- ملائكة يزيدون على ملائكة الأربع سماوات، وهم سجود وركوع لم يرفعوا أبصارهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة قالوا: ربنا، لم نعبدك حق عبادتك.

وأن فى السماء السادسة- وهى من ذهب- جند اللّه الأعظم الكروبيون، لا يحصر عددهم إلا اللّه تعالى، وعليهم ملك له سبعون ألف ملك جنده، وكل ملك منهم جنوده سبعون ألف ملك، وهم الذين يبعثهم اللّه فى أموره إلى أهل الدنيا، رافعوا أصواتهم بالتسبيح والتهليل.

وأن فى السابعة- وهى ياقوتة حمراء- من الملائكة ما يزيدون على ما تقدم، وعليهم ملك مقدم على سبعمائة ألف ملك، منهم جنود مثل قطر السماء، وتراب الثرى والرمل والسهل، وعدد الحصى والورق، وعدد كل خلق فى السماوات والأرض، ويخلق اللّه تعالى فى كل يوم ما يشاء، وما يعلم جنود ربك إلا هو.

وأن حملة العرش ثمانية يتجاوبون، لكل ملك منهم وجوه شتى وأعين شتى فى جسده، لا يشبه بعضها بعضا، رافعة أصواتهم بالتهليل، ينظرون إلى العرش لا يفترون، لو أن الملك منهم نشر جناحيه لطبق الدنيا بريشة من جناحه، لا يعلم عددهم إلا اللّه.

وحملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت حسن رخيم، تقول أربعة منهم:

سبحانك

اللّهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، وتقول أربعة: سبحانك

اللّهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك (١) .

وقد روى الطبرانى من حديث ابن عباس

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لجبريل: (على أى شىء أنت؟)

قال: على الريح والجنود،

قال: (وعلى أى شىء ميكائيل؟)

قال: على النبات والقطر،

قال: (وعلى أى شىء ملك الموت؟)

قال: على قبض الأرواح، الحديث، وفى إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى، وقد ضعف لسوء حفظه ولم يترك.

وروى الترمذى من حديث أبى سعيد مرفوعا: (وزيراى من أهل السماء: جبريل وميكائيل) الحديث. وروى النقاش أن إسرافيل أول من سجد من الملائكة، وأنه جوزى بولاية اللوح المحفوظ. وفى كتاب (العظمة) لأبى الشيخ ابن حيّان من ذلك العجب العجاب، وعندى منه الجزء الثانى. وقد وقعت فى غير رواية البخارى هنا زيادات فمنها:

ما وقع فى رواية أبى سعيد الخدرى عند البيهقى فى دلائله: ثم صعدت إلى السماء السابعة فإذا إبراهيم الخليل ساند ظهره إلى البيت المعمور، كأحسن الرجال، ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلم على، وإذا بأمتى شطرين، شطر عليهم ثياب بيض كأنهم القراطيس، وشطر عليهم ثياب رمدة،

قال: فدخلت البيت المعمور ودخل معى الذين عليهم الثياب البيض، وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة، فصليت أنا ومن معى فى البيت المعمور.

__________

(١) لم أقف عليه.

وفى رواية الطبرانى: فإذا هو برجل أشمط جالس على باب الجنة على كرسى، وعنده قوم بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم فى ألوانهم شىء، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شىء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شىء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه وخرجوا وقد خلصت ألوانهم وصارت مثل ألوان البيض الوجوه، ف

قال: من هذا ومن هؤلاء الذين فى ألوانهم شىء، وما هذه الأنهار التى دخلوا فيها وقد صفت ألوانهم؟

قال: هذا أبوك إبراهيم أول من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء النفر الذين فى ألوانهم شىء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فتابوا فتاب اللّه عليهم،

وأما الأنهار، فأولها رحمة، والثانية نعمة اللّه، والثالث وسقاهم ربهم شرابا طهورا.

وفى رواية البخارى فى الصلاة (ثم عرج بى حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام) الحديث (١) . والمستوى: المصعد. وصريف الأقلام: - بفتح الصاد المهملة- تصويتها حالة الكتابة.

والمراد: ما تكتبه الملائكة من أقضية اللّه تعالى. والقدر المكتوب قديم، وإنما الكتابة حادثة، وظاهر الأخبار أن اللوح المحفوظ فرغ من كتابته، وجف القلم بما فيه قبل خلق السماوات والأرض، وإنما هذه الكتابة فى صحف الملائكة كالفروع المنتسخة من الأصل، وفيها الإثبات والمحو على ما ذكر فى الآية. وذكر ابن القيم: أن الأقلام اثنا عشر قلما، وأنها متفاوتة فى الرتب:

فأعلاها وأجلها قدرا، قلم القدر السابق، الذى كتب اللّه به مقادير الخلائق، كما فى سنن أبى داود، عن عبادة بن الصامت

قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (إن أول ما خلق اللّه تعالى القلم، قال له: اكتب،

قال: رب، وما أكتب؟

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤٩) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، من حديث أبى ذر- رضى اللّه عنه-.

قال: اكتب مقادير كل شىء حتى تقوم الساعة) (١) فهذا أول قلم وأجلها، وقد قال غير واحد من أهل التفسير: إنه القلم الذى أقسم اللّه به.

والقلم الثانى: قلم الوحى.

والقلم الثالث: قلم التوقيع عن اللّه ورسوله.

والرابع: قلم طب الأبدان الذى تحفظ به صحتها.

والخامس: قلم التوقيع عن الملوك ونوابهم وبه تساس الممالك.

والسادس: قلم الحساب، وهو الذى تضبط به الأموال، مستخرجها ومصرفها ومقاديرها، وهو قلم الأرزاق.

والسابع: قلم الحكم الذى تثبت به الحقوق وتنفذ به القضايا.

والثامن: قلم الشهادة التى تحفظ به الحقوق.

والتاسع: قلم التعبير، وهو كاتب وحى المنام وتفسيره وتعبيره.

والعاشر: قلم تواريخ العالم ووقائعه.

والحادى عشر: قلم اللغة وتفاصيلها.

والثانى عشر: القلم الجامع، وهو قلم الرد على المبطلين، ودفع شبه المحرفين (٢) .

فهذه الأقلام التى بها انتظام مصالح العالم.

قال: ويكفى فى جلالة القلم أنه لم تكتب كتب اللّه إلا به وأنه تعالى أقسم به فى كتابه. انتهى ملخصا من كتاب (أقسام القرآن) .

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٧٠٠) فى السنة، باب: فى القدر، والترمذى (٢١٥٥) ، فى القدر، باب: رقم (١٦) ، و (٣٣١٩) فى التفسير، باب: ومن سورة نون والقلم.

(٢) قلت: هذا التقسيم ليس عليه دليل صحيح إلا محض الرأى.

وقد وقع فى رواية أبى ذر عند مسلم وغيره من الزيادة أيضا: (ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك) الحديث (١) .

والجنابذ: - بالجيم ثم النون المفتوحتين ثم ألف ثم موحدة ثم ذال معجمة- هى القباب. ويؤيده ما فى (التفسير) من البخارى من حديث قتادة عن أنس: (لما عرج به- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ (٢) .

وأما ما فى (كتاب الصلاة) من البخارى (وإذا فيها حبائل اللؤلؤ) (٣) - بالمهملة والموحدة وآخره لام- فقال القاضى عياض وغيره: هو تصحيف. وفى حديث الإمام أحمد من رواية حذيفة:(فتحت لهما أبواب السماء،

قال: فرأيت الجنة والنار) (٤) . وفى حديث أبى سعيد: أنه عرضت عليه الجنة، وأن رمانها كأنه الدلاء، وإذا طيرها كأنه البخت، وأنه عرضت عليه النار، فإذا هى لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها. ووقع عند مسلم من طريق همام عن قتادة عن أنس: (بينا أنا أسير فى الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، وإذا طينه مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر) .

وفى رواية أبى عبيدة بن عبد اللّه بن مسعود عن أبيه: أن إبراهيم- عليه السّلام- قال للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- يا بنى، إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك فى أمتك فافعل.

ووقع فى حديث أبى سعيد الخدرى، عند البيهقى: ثم صعد بى إلى السماء السابعة،

قال: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا كل ورقة منها تغطى هذه الأمة، وإذا فيها عين تجرى يقال لها: السلسبيل، فيشق منها نهران، أحدهما الكوثر، والآخر يقال له: الرحمة، فاغتسلت فيه فغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر، ثم رفعت إلى الجنة، فاستقبلتنى جارية، فقلت: لمن أنت يا جارية؟

قالت: لزيد بن حارثة. وفيه: فإذا رمانها أنه الدلاء عظاما، ثم

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤٩) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، ومسلم (١٦٣) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى السماوات، من حديث أبى ذر- رضى اللّه عنه-.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

عرضت على النار، فإذا فيها غضب اللّه وزجره ونقمته، لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها، ثم أغلقت دونى.

وفى الطبرانى من حديث عائشة: لما كان ليلة أسرى بى إلى السماء، أدخلت الجنة، فوقفت على شجرة من أشجار الجنة لم أر فى الجنة أحسن منها، ولا أبيض منها، ولا أطيب منها ثمرة، فتناولت ثمرة من ثمارها فأكلتها فصارت نطفة فى صلبى، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة. وهو حديث ..... (١) . وفيه التصريح بأن الإسراء كان قبل ولادة فاطمة، وهى ولدت قبل النبوة بسبع سنين وشىء، ولا ريب أن الإسراء كان بعد النبوة.

وذكر أبو الحسن بن غالب، فيما تكلم فيه على أحاديث الحجب السبعين والسبعمائة والسبعين ألف حجاب وعزاها لأبى الربيع بن سبع فى شفاء الصدور من حديث ابن عباس: أن رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- قال بعد أن ذكر مبدأ حديث الإسراء، كما ورد فى الأمهات:

أتانى جبريل وكان السفير بى إلى ربى، إلى أن انتهى إلى مقام ثم وقف عند ذلك، فقلت: يا جبريل، فى مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟ ف

قال: إن تجاوزته احترقت بالنور، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: يا جبريل، هل لك من حاجة؟

قال: يا محمد، سل اللّه أن أبسط جناحى على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه، قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: ثم زج بى فى النور زجا، فخرق بى إلى السبعين ألف حجاب، ليس فيها حجاب يشبه حجابا، وانقطع عنى حس كل إنسى وملك، فلحقنى عند ذلك استيحاش، فعند ذلك نادانى مناد بلغة أبى بكر: قف إن ربك يصلى، فبينا أنا أتفكر فى ذلك فأقول: هل سبقنى أبو بكر؟ فإذا النداء من العلى الأعلى، ادن يا خير البرية، ادن يا محمد ادن يا محمد، ليدن الحبيب، فأدنانى ربى حتى كنت كما

قال تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٢) .

قال: وسألنى ربى فلم أستطع أن

__________

(١) قلت: بل ........

(٢) سورة النجم: ٨، ٩.

أجيبه، فوضع يده بين كتفى- بلا تكييف ولا تحديد- فوجدت بردها بين ثديى، فأورثنى علم الأولين والآخرين، وعلمنى علوما شتى، فعلم أخذ على كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيرى، وعلم خيرنى فيه، وعلمنى القرآن فكان جبريل- عليه السّلام- يذكرنى به، وعلم أمرنى بتبليغه إلى العام والخاص من أمتى. ولقد عاجلت جبريل- عليه السّلام- فى آية نزل بها على، فعاتبنى ربى وأنزل على وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١) ، ثم قلت:

اللّهم إنه لما لحقنى استيحاش قبل قدومى عليك سمعت مناديا ينادى بلغة تشبه لغة أبى بكر فقال لى: قف إن ربك يصلى (٢) ، فعجبت من هاتين، هل سبقنى أبو بكر إلى المقام؟ وإن ربى لغنى عن أن يصلى،

فقال تعالى: أنا الغنى عن أن أصلى لأحد، وإنما أقول:

سبحانى سبحانى، سبقت رحمتى غضبى، اقرأ يا محمد: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٣) ، فصلاتى رحمة لك ولأمتك، وأما أمر صاحبك يا محمد، فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا، فلما أردنا كلامه قلنا: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ (٤) ، وشغل بذكر العصا عن عظيم الهيبة. وكذلك أنت يا محمد، لما كان أنسك بصاحبك أبى بكر وأنك خلقت أنت وهو من طينة واحدة، وهو أنيسك فى الدنيا والآخرة، خلقنا ملكا على صورته يناديك بلغته ليزول عنك الاستيحاش، فلا يلحقك من عظيم الهيبة ما يقطعك عن فهم ما يراد منك. ثم

قال اللّه تعالى: وأين حاجة جبريل؟ فقلت:

اللّهم إنك أعلم، ف

قال: يا محمد، قد أجبته فيما سأل، ولكن فيمن أحبك وصحبك.

__________

(١) سورة طه: ١١٤.

(٢) حديث باطل مكذوب على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وكان أولى بالمؤلف أن يضرب عليه، ويكتفى بما ثبت فى ....... الإسراء عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ففيه الغنية عن كل ..... و........

(٣) سورة الأحزاب: ٤٣.

(٤) سورة طه: ١٧، ١٨.

وفى رواية: فتقدمت وجبريل على أثرى، حتى انتهى بى إلى حجاب فراش الذهب فحرك الحجاب، فقيل من هذا؟

قال: أنا جبريل ومعى محمد- صلى اللّه عليه وسلم- فقال الملك: اللّه أكبر، فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملنى فوضعنى بين يديه فى أسرع من طرفة عين، وغلظ الحجاب مسيرة خمسمائة عام، فقال لى: تقدم يا محمد، فمضيت فانطلق بى الملك فى أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ، فحرك الحجاب، فقال الملك من وراء الحجاب: من هذا؟ فقال أنا فلان صاحب حجاب الذهب، وهذا محمد- صلى اللّه عليه وسلم- رسول رب العزة معى، ف

قال: اللّه أكبر، فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملنى حتى وضعنى بين يديه، فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب، حتى جاوزت سبعين حجابا، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام، فقال لى: تقدم يا محمد، فمضيت فانطلق بى الملك، ثم دلى لى رفرف أخضر يغلب ضوؤه ضوء الشمس، فالتمع بصرى، ووضعت على ذلك الرفرف، ثم احتملت حتى وصلت إلى العرش، فأبصرت أمرا عظيما لا تناله الألسن، ثم دلى لى قطرة من العرش، فوقعت على لسانى، فما ذاق الذائقون شيئا قط أحلى منها، فأنبأنى اللّه بها نبأ الأولين والآخرين، ونور قلبى، وغشى نور عرشه بصرى فلم أر شيئا فجعلت أرى بقلبى ولا أرى بعينى، ورأيت من خلفى ومن بين كتفى، كما رأيت أمامى، الحديث. رواه والذى قبله فى كتاب (شفاء الصدور) كما ذكره ابن غالب والعهدة عليه فى ذلك.

وتكثير الحجب لم يرد فى طريق صحيح، ولم يصح فى ذلك غير ما فى مسلم: (حجابه النور) (١) . والرفرف: البساط، وقيل إنه فى الأصل ما كان من الديباج وغيره رقيقا حسن الصنعة ثم اتسع فيه.

واعلم أن ما ذكر فى هذا المحل الرفيع من الحجب فهو فى حق المخلوق، لا فى حق الخالق عز وجل، واللّه سبحانه وتعالى منزه عما

__________

(١) صحيح: وورد ذلك فى حديث أخرجه مسلم (١٧٩) فى الإيمان، باب: فى قوله- عليه السّلام-: (إن اللّه لا ينام) ، وفى قوله: (حجابه النور) ، من حديث أبى موسى- رضى اللّه عنه-.

يحجب، إذ الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس، فالخلق كلهم محجوبون عنه تعالى بمعانى الأسماء والصفات والأفعال، وسائر المخلوقات من معانى الأنوار والظلمات كل له مقام من الحجب معلوم، وحظ من الإدراك والمعرفة مقسوم، وأقرب الخلق إلى اللّه تعالى الملائكة الحافون والكروبيون، وهم محجوبون بنور المهابة والعظمة والكبرياء والجلال والقدس والقيومية، حجب الذات بالصفات. وهم فى الحجب عنه على طبقات مختلفات، كل على مقام معلوم ودرجات.

وبالجملة، فالمخلوقات كلها ما كانت حجابا عن الخالق؟ فقوم حجبوا برؤية النعم عن المنعم، وبرؤية الأحوال عن المحول، وبرؤية الأسباب عن المسبب، وقوم حجبوا بالعلم عن المعلم وبالفهم عن المفهم، وبالعقل عن المعقل، وذلك كله من معنى حجاب النعم عن المنعم، والمواهب عن الواهب.

وقوم حجبوا بالشهوات المباحة، وقوم بالشهوات المحرمات والمعاصى والسيئات، وقوم حجبوا بالمال والبنين وزينة الحياة الدنيا.

اللّهم لا تحجب قلوبنا عنك فى الدنيا ولا أبصارنا عنك فى الآخرة يا كريم.

وقد ورد فى الصحيح عن أنس

قال: (لما عرج بى جبريل إلى سدرة المنتهى. ودنا الجبار رب العزة جل جلاله فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى) (١) الحديث.

وهذا الدنو والتدلى المذكور فى هذا الحديث وغيره من أحاديث المعراج غير الدنو والتدلى المذكور فى قوله تعالى فى سورة النجم: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٢) . وإن اتفقا فى اللفظ. فإن الصحيح أن المراد فى الآية جبريل، لأنه الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله:

وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (٣) . هكذا فسره النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى الحديث الصحيح.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٧٥١٧) فى التوحيد، باب: قوله وَكَلَّمَ اللّه مُوسى تَكْلِيماً.

(٢) سورة النجم: ٨، ٩.

(٣) سورة النجم: ١٣، ١٤.

قالت عائشة- رضى اللّه عنها-: سألت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن هذه الآية

فقال: (ذاك جبريل لم أره فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين) (١) . ولفظ القرآن لا يدل على غير ذلك من وجوه.

أحدها: أنه

قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٢) . وهذا جبريل الذى وصفه بالقوة فى سورة التكوير.

الثانى: أنه

قال: ذُو مِرَّةٍ (٣) أى حسن الخلق وهو الكريم الذى فى سورة التكوير.

الثالث: أنه

قال: فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٤) وهو ناحية السماء العليا، وهذا استواء جبريل- عليه السّلام

وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه.

الرابع: أنه

قال: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٥) فهذا دنو جبريل وقد نزل إلى الأرض حيث كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بها. وأما الدنو والتدلى فى حديث المعراج فرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان فوق السماوات فهناك دنى الجبار جل جلاله منه وتدلى.

الخامس: أنه

قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (٦) والذى عند سدرة المنتهى قطعا هو جبريل، وبهذا فسره النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: ذاك جبريل.

السادس: أن نفس الضمير فى قوله: وَلَقَدْ رَآهُ (٧)

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٧٧) فى الإيمان، باب: معنى قول اللّه عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى.

(٢) سورة النجم: ٥.

(٣) سورة النجم: ٦.

(٤) سورة النجم: ٦، ٧.

(٥) سورة النجم: ٨، ٩.

(٦) سورة النجم: ١٣، ١٤.

(٧) سورة النجم: ١٣.

وقوله: دَنا فَتَدَلَّى (١)

وقوله: فَاسْتَوى (٢)

وقوله: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٣) واحد، فلا يجوز أن يخالف بين المفسرين من غير دليل.

السابع: أنه سبحانه وتعالى أخبر أن هذا الذى دنا فتدلى كان بالأفق الأعلى، وهو أفق السماء، بل تحتها فدنا من الأرض فتدلى من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ودنو الرب تبارك وتدليه- على ما فى حديث شريك- كان فوق العرش لا إلى الأرض.

ثم نفى سبحانه وتعالى عن نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (٤) ما يعرض للرائى الذى لا أدب له بين يدى الملوك والعظماء من التفاته يمينا وشمالا، ومجاوزة بصره لما بين يديه، وأخبر عنه بكمال الأدب فى ذلك المقام وفى تلك الحضرة إذ لم يلتفت جانبا ولم يمد بصره إلى غير ما أرى من الآيات، وما هناك من العجائب، بل قام مقام العبد الذى أوجب أدبه إطراقه وإقباله على ما أريه دون التفاته إلى غيره ودون تطلعه إلى ما لم يره مع ما فى ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته، وهذا غاية الكمال.

وقال فى (مدارج السالكين) : وفى هذه الآية أسرار عجيبة هى من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر، - صلوات اللّه وسلامه عليه-، تواطأ هناك بصره وبصيرته وتوافقا وتصادقا، فما شاهده بصره فالبصيرة مواطئة له، وما شاهدته بصيرته فهو أيضا حق مشهود بالبصر، فتواطأ فى حقه، أى: ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره، ولهذا قرأها هشام وأبو جعفر ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (٥) بتشديد الذال، أى لم يكذب القلب البصر بل صدقة وواطأه بصحة الفؤاد والبصر، وكون المرئى المشاهد بالبصر والبصيرة حقّا. وقرأ الجمهور ما كَذَبَ الْفُؤادُ (٦) بالتخفيف، وهو متعد، و (ما رأى) مفعوله، أى:أى ما كذب قلبه ما رأت عيناه بل واطأه ووافقه.

__________

(١) سورة النجم: ٨.

(٢) سورة النجم: ٦.

(٣) سورة النجم: ٧.

(٤) سورة النجم: ١٧.

(٥) سورة النجم: ١١.

(٦) سورة النجم: ١١.

فلمواطأة قلبه لقالبه، وظاهره لباطنه، وبصره لبصيرته، لم يكذب الفؤاد البصر، ولم يتجاوز البصر حده، ولم يمل عن المرئى فيزيغ، بل اعتدل البصر على المرئى لم يتجاوزه ولا مال عنه لما اعتدل القلب فى الإقبال على اللّه بكليته والإعراض عما سواه، فإنه أقبل على اللّه بكليته وأعرض عما سواه، بكليته.

وللقلب زيغ وطغيان، كما أن للبصر زيغا وطغيانا وكلاهما منتف عن قلبه وبصره، فلم يزغ قلبه التفاتا عن اللّه إلى غيره ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذى أقيم فيه، وهذا غاية الكمال والأدب مع اللّه تعالى الذى لا يلحقه فيه سواه، فإن عادة النفوس إذا أقيمت فى مقام عال رفيع أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه، ألا ترى إلى موسى- عليه السّلام-، لما أقيم مقام التكليم والمناجاة طلبت نفسه الرؤية، ونبينا- صلى اللّه عليه وسلم- لما أقيم فى ذلك المقام وفاه حقه، ولم يتلفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه البتة، ولأجل هذا ما عاقه عائق، ولا وقف به مراد، حتى جاوز السماوات السبع فلم تعقه إرادة منه لشىء، ولم تقف به دون كمال العبودية همة، ولهذا كان مركوبه فى مسراه يسبق خطوه الطرف، فيضع قدمه عند منتهى طرفه، مشاكلا لحال راكبه وبعد شأوه الذى يسبق به العالم أجمع فى سيره، فكان قدم البراق لا يتخلف عن موضع نظره، كما كان قدمه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يتخلف عن محل معرفته.

فلم يزل- صلى اللّه عليه وسلم- فى خفارة كمال أدبه مع اللّه سبحانه، وتكميل مرتبة عبوديته له، حتى خرق حجب السماوات، وجاوز السبع الطباق، وجاوز سدرة المنتهى، ووصل إلى محل من القرب سبق به الأولين والآخرين، فانصبت له هناك أقسام القرب انصبابا، وانقشعت سحائب الحجب ظاهرا وباطنا حجابا حجابا، وأقيم مقاما غبطه فيه الأنبياء والمرسلون.

فإذا كان فى المعاد أقيم مقاما من القرب تاما، يغبطه فيه الأولون والآخرون، واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع اللّه تعالى، ما زاغ البصر وما طغى، فأقامه فى هذا العالم على أقوم صراط على الحق

والهدى، وأقسم بكلامه القديم على ذلك فى الذكر الحكيم

فقال: يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١)

فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط، فيسأل السلامة لأتباعه وأهل سنته، حتى يجوزوا إلى جنات النعيم، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم.

ثم إن ما ذكر هنا من القرب والدنو، المراد به تأكيد المحبة والقربة، ورفع المنزلة والرتبة، قال جعفر الصادق: لما قرب الحبيب من الحبيب غاية القرب، نالته غاية الهيبة، فلاطفه الحق تعالى بغاية اللطف، وذلك قوله جل جلاله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (٢) أى كان ما كان وجرى ما جرى، وقال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب للحبيب: وألطف به إلطاف الحبيب بالحبيب، فخفى السر ولم يطلع عليه أحد، ما أوحى إلا الذى أوحى.

وقال غيره فى قوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (٣) أبهمه لعظمه، فإن الإبهام قد يقع للتعظيم، فهو مبهم لا يطلع عليه بل يتعبد بالإيمان به.

وقيل: بل هو مفسر بالأخبار الواردة، قال سعيد بن جبير: أوحى اللّه تعالى إليه- صلى اللّه عليه وسلم-، ألم أجدك يتيما فاويتك، ألم أجدك ضالا فهديتك، ألم أجدك عائلا فأغنيتك، أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) .

وقيل: أوحى اللّه إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.

ذكره الثعلبى والقشيرى.

وقيل: أوحى اللّه إليه: خصصتك بحوض الكوثر، فكل أهل الجنة أضيافك بالماء، ولهم الخمر واللبن والعسل. ذكره القشيرى.

وذكر أيضا: أنه أوحى إليه ما أوحى إلى الرسل لقوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ (٥) .

وقيل: أوحى إليه الصلوات الخمس.

__________

(١) سورة يس: ١- ٤.

(٢) سورة النجم: ١٠.

(٣) سورة النجم: ١٠.

(٤) سورة الشرح: ١- ٤.

(٥) سورة فصلت: ٤٣.

وفى رواية أبى سعيد الخدرى عند البيهقى: أن اللّه تعالى قال له- صلوات اللّه وسلامه عليه-: سل، ف

قال: إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكا عظيما، وكلمات موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الإنس والجن والشياطين، وسخرت له الرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغى لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذنك، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل. فقال له ربه تعالى: قد اتخذتك حبيبا، فهو مكتوب فى التوراة: حبيب الرحمن وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معى، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس، وجعلت أمتك أمة وسطا، وجعلت أمتك هم الأولون وهم الآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدى ورسولى، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا وأولهم يقضى له، وأعطيتك سبعا من المثانى لم أعطها نبيّا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشى لم أعطها نبيّا قبلك، وأعطيتك الكوثر وأعطيتك ثمانية أسهم: الإسلام والهجرة والجهاد والصلاة والصدقة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وجعلتك فاتحا وخاتما. وفى إسناده أبو جعفر الرازى ضعفه بعضهم، وقال أبو زرعة: إنه متهم، وقال ابن كثير: الأظهر أنه سىء الحفظ.

وذكر الفخر الرازى عن والده

قال: سمعت أبا القاسم سليمان الأنصارى يقول: لما وصل محمد- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة فى المعارج، أوحى اللّه تعالى إليه: يا محمد بم شرفك؟

قال: يا رب، بنسبتى إليك بالعبودية. فأنزل اللّه تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا (١) فسماه تعالى بهذا الاسم لتحققه- صلى اللّه عليه وسلم- بالاسم الأعظم واتصافه

__________

(١) سورة الإسراء: ١.

بجميع صفاته، فلا يصلح هذا الاسم بالحقيقة إلا له- صلى اللّه عليه وسلم- وللأقطاب من بعده بتبعيته لا بالحقيقة، وإن أطلق على غيره مجازا، ويرحم اللّه الأديب برهان الدين القيراطى فلقد أجاد حيث

قال: ودعتنى بالعبد يوما فقالوا ... قد دعته بأشرف الأسماء

ولبعض أهل الإشارات: كأن اللّه تعالى قال له: يا محمد، قد أعطيتك نورا تنظر به جمالى، وسمعا تسمع به كلامى، يا محمد، إنى أعرفك بلسان الحال معنى عروجك إلى، يا محمد، أرسلتك إلى الناس شاهدا ومبشرا ونذيرا، والشاهد مطالب بحقيقة ما يشهد به، فأريك جنتى لتشاهد ما أعددت فيها لأوليائى، وأريك نارى لتشاهد ما أعددت فيها لأعدائى، ثم أشهدك جلالى، وأكشف لك جمالى لتعلم أنى منزه فى كمالى عن الشبيه والنظير، والوزير والمشير، فرآه- صلى اللّه عليه وسلم- بالنور الذى قواه من غير إدراك ولا إحاطة فردا صمدا، لا فى شىء، ولا من شىء، ولا قائما بشىء، ولا على شىء، ولا مفتقرا إلى شىء، ليس كمثله شىء (١) ، فلما كلمه شفاها، وشاهده كفاحا، فقيل له: يا محمد لا بد لهذه الخلوة من سر لا يذاع ورمز لا يشاع، فأوحى إلى عبده ما أوحى، فكان سرّا من سر، لم يقف عليه ملك مقرب ولا نبى مرسل، وأنشد لسان الحال:

بين المحبين سر ليس يفشيه ... قول ولا قلم فى الكون يحكيه

سر يمازجه أنس يقابله ... نور تحير فى بحر من التيه

ولما انتهى إلى العرش تمسك العرش بأذياله، وناداه بلسان حاله: يا محمد، أنت فى صفاء وقتك من مقتك أشهدك جمال أحديته، وأطلعك على جلال صمديته، وأنا الظمان إليه اللّهفان عليه المتحير فيه لا أدرى من أى وجه آتيه، جعلنى أعظم خلقه، فكنت أعظمهم منه هيبة، وأكثرهم فيه حيرة، وأشدهم منه خوفا. يا محمد، خلقنى فكنت أرعد لهيبة جلاله، فكتب على قائمتى، لا إله إلا اللّه فازددت لهيبة اسمه ارتعادا وارتعاشا، فكتب محمد

__________

(١) هذا يتنافى مع خبر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه لم ير ربه فى الحياة الدنيا.

رسول اللّه، فسكن لذلك قلقى، وهدأ روعى، فكان اسمك لقاحا لقلبى، وطمأنينة لسرى، فهذه بركة كتابة اسمك على، فكيف إذا وقع جميل نظرك إلى، يا محمد أنت المرسل رحمة للعالمين، ولا بد لى من نصيب من هذه الرحمة، ونصيبى يا حبيبى أن تشهد لى بالبراءة مما نسبه أهل الزور إلى، وتقوله أهل الغرور على، زعموا: أنى أسع من لا مثيل له، وأحيط بمن لا كيفية له. يا محمد، من لا حدّ لذاته، ولا عدّ لصفاته كيف يكون مفتقرا إلى؟ أو محمولا على؟ إذا كان الرحمن اسمه، والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته فكيف يتصل بى أو ينفصل عنى؟ يا محمد، وعزته، لست بالقريب منه وصلا، ولا بالبعيد عنه فصلا، ولا بالمطيق له حملا، أو جدنى رحمة منه وفضلا، ولو محقنى لكان حقّا منه، وعدلا، يا محمد، أنا محمول قدرته، ومعمول حكمته.

فأجاب لسان حال سيدى، زاده اللّه فضلا وشرفا لديه، ووالى صلاته وسلامه عليه: أيها العرش إليك عنى، أنا مشغول عنك، فلا تكدر على صفوتى، ولا تشوش على خلوتى، فما أعاره- صلى اللّه عليه وسلم- منه طرفا، ولا أقرأه من مسطور ما أوحى إليه حرفا، ما زاغ البصر وما طغى.

وقد ورد فى بعض أخبار الإسراء مما ذكره العلامة ابن مرزوق فى شرحه لبردة المديح: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما كان من ربه تعالى قاب قوسين

قال: اللّهم إنك عذبت الأمم بعضهم بالحجارة وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالمسخ، فما أنت فاعل بأمتى؟

قال: أنزل عليهم الرحمة وأبدل سيئاتهم حسنات، ومن دعانى منهم لبيته، ومن سألنى أعطيته، ومن توكل على كفيته، وفى الدنيا أستر على العصاة، وفى الآخرة أشفعك فيهم، ولولا أن الحبيب يحب معاتبة حبيبه لما حاسبت أمتك. ولما أراد- صلى اللّه عليه وسلم- الانصراف

قال: يا رب، لكل قادم من سفره تحفة، فما تحفة أمتى؟

قال اللّه تعالى: أنا لهم ما عاشوا، وأنا لهم إذا ماتوا، وأنا لهم فى القبور، وأنا لهم فى النشور.

واعلم أنه قد اختلف العلماء قديما وحديثا فى رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- لربه ليلة

الإسراء. فروى البخارى من حديث مسروق

قال: (قلت لعائشة: يا أمتاه، هل رأى محمد ربه؟

فقالت: لقد قف شعرى مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدث لهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّه إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ (٢) ومن حدثك أنه يعلم ما فى غد فقد كذب، ثم قرأت وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً (٣) ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (٤) الآية، [ولكن] رأى جبريل فى صورته مرتين) .

وفى رواية مسلم (من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية) (٥) .

وقولها: (قف شعرى) أى قام من الفزع، لما حصل عندها من هيبة اللّه، واعتقدته من تنزيهه واستحالة وقوع ذلك. قال النووى- تبعا لغيره-: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابى إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا، انتهى.

قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى: جزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع، تبع فيه ابن خزيمة، وهو عجيب، فقد ثبت عنها فى صحيح مسلم- الذى شرحه الشيخ- فعنده من طريق داود بن أبى هند عن الشعبى عن مسروق، فى الطريق المذكورة، قال مسروق: وكنت متكئا فجلست، فقلت: ألم يقل اللّه: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (٦) .

__________

(١) سورة الأنعام: ١٠٣.

(٢) سورة الشورى: ٥١.

(٣) سورة لقمان: ٣٤.

(٤) سورة المائدة: ٦٧.

(٥) صحيح: وقد تقدم.

(٦) سورة النجم: ١٣.

فقالت: أنا أول هذه الأمة سألت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن هذا فقلت: يا رسول اللّه، هل رأيت ربك؟ ف

قال: لا، إنما رأيت جبريل منهبطا.

نعم، احتجاج عائشة- رضى اللّه عنها- بالآية، خالفها فيه ابن عباس. فأخرج الترمذى من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس

قال: (رأى محمد ربه، فقلت: أليس يقول اللّه: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (١)

قال: ويحك، ذاك إذا تجلى بنوره الذى هو نوره، وقد رأى ربه مرتين) (٢) . وقال القرطبى:

(الأبصار) فى الآية جمع محلى بالألف واللام، فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعا فى

قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (٣) فيكون المراد: الكفار، بدليل قوله فى الآية الآخرى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٤) ، وإذا جازت فى الآخرة جازت فى الدنيا لتساوى الوقتين بالنسبة إلى المرئى، انتهى وهو استدلال جيد.

وقال القاضى عياض: رؤية اللّه تعالى جائزة عقلا، وليس فى العقل ما يحيلها، والدليل على جوازها: سؤال موسى- عليه السّلام- لها، ثم

قال: وليس فى الشرع دليل قاطع على استحالتها ولا امتناعها، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة، ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (٥) لاختلاف التأويلات فى الآية (٦) ، انتهى.

وقد روى ابن أبى حاتم بسنده عن إسماعيل بن علية فى تأويل هذه الآية

قال: هذا فى الدنيا.

وقال آخرون: لا تدركه الأبصار، أى جميعها،

__________

(١) سورة الأنعام: ١٠٣.

(٢) أخرجه الترمذى (٣٢٧٩) فى التفسير، باب: ومن سورة النجم.

(٣) سورة المطففين: ١٥.

(٤) سورة القيامة: ٢٢، ٢٣.

(٥) سورة الأنعام: ١٠٣.

(٦) قلت: وأين دخل العقل فى هذا ال.......، ثم ثانيا: ما هو الدليل الذى اعتمد عليه فى هذا الفهم!.

وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له فى الدار الآخرة. وقال آخرون من المعتزلة، بمقتضى ما فهموا من هذه الآية: أنه لا يرى فى الدنيا ولا فى الآخرة، فخالفوا أهل السنة والجماعة فى ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب اللّه وسنة رسوله- صلى اللّه عليه وسلم-.

أما الكتاب: فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (١)

وقوله: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (٢) قال الإمام الشافعى- رحمه اللّه-: فدل هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى. وأما السنة: فقد تواترت الأخبار عن أبى سعيد، وأبى هريرة، وأنس وجرير، وصهيب، وبلال، وغير واحد من الصحابة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: أن المؤمنين يرون اللّه تبارك وتعالى فى الدار الآخرة فى العرصات، وفى روضات الجنات، جعلنا اللّه منهم.

وقيل: المنفى فى الآية، إدراك العقول: قال الحافظ ابن كثير: وهو غريب جدّا، وخلاف ظاهر الآية.

وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفى الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفى الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء فى الإدراك المنفى، ما هو؟

فقيل: معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو، وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى.

وقال آخرون: المراد بالإدراك الإحاطة، قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية: كما لا يلزم من عدم الرؤية عدم العلم. وفى صحيح مسلم (لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) (٣) ولا يلزم من هذا عدم الثناء فكذلك هذا.

وروى ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدرى عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) سورة القيامة: ٢٢، ٢٣.

(٢) سورة المطففين: ١٥.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٤٨٦) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

فى

قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (١)

فقال: لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا، صفوا صفا واحدا ما أحاطوا باللّه أبدا. قال ابن كثير: غريب، لا يعرف إلا من هذا الوجه ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة واللّه أعلم.

ومما نسب لإمام الحرمين فى (لمع الأدلة) أنه

قال: من أصحابنا من

قال: إن الرب تعالى يرى ولا يدرك، لأن الإدراك يا بنى عن الإحاطة، ودرك الغاية، والرب جل جلاله تقدس عن الغاية والنهاية، ثم

قال: فإن عارضوا بقوله تعالى فى جواب موسى- عليه السّلام-: لَنْ تَرانِي (٢) وزعموا: أن (لن) تفيد النفى على التأبيد، قلنا: هذه الآية أوضح الأدلة على جواز الرؤية، فإنها لو كانت مستحيلة لكان معتقد جواز الرؤية ضالا وكافرا، وكيف يعتقد ما لا يجوز على اللّه تعالى من اصطفاه لرسالته واختاره لنبوته، وخصه بكرامته، وشرفه بتكليمه، وجعله أفضل أهل زمانه، وأيده ببرهانه، وكيف يجوز على الأنبياء الريب فى أمر يتعلق بعلم الغيب. فيجب حمل الآية على أن ما اعتقد موسى- عليه السّلام- جوازه جائز، لكن ظن أن ما اعتقد جوازه ناجز، فرجع النفى فى الجواب إلى الإنجاز، وما سأل موسى- عليه السّلام- ربه رؤيته فى المال، فصرف النفى إليه، والجواب يدل على قضية الخطاب، انتهى.

وقال البيضاوى: فى هذه الآية دليل على أن رؤيته تعالى جائزة فى الجملة، لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصا ما يقتضى الجهل باللّه تعالى، ولذلك رده بقوله: لَنْ تَرانِي (٣) دون: لن أرى، انتهى.

ونقل القاضى عياض عن أبى بكر الهذلى، فى الآية، أن المراد: ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلىّ فى الدنيا، وأنه من نظر إلىّ مات.

قال: وقد رأيت لبعض السلف والمتأخرين ما معناه: أن رؤيته تبارك وتعالى فى الدنيا

__________

(١) سورة الأنعام: ١٠٣.

(٢) سورة الأعراف: ١٤٣.

(٣) سورة الأعراف: ١٤٣.

ممتنعة لضعف تركيب أهل الدنيا وقواهم، وكونها متغيرة، غرضا للآفات والفناء، فلم تكن لهم قوة على الرؤية، فإذا كان فى الآخرة وركبوا تركيبا آخر، ورزقوا قوى ثابتة باقية، وأتم أنوار أبصارهم وقلوبهم، قووا بها على الرؤية.

قال: وقد رأيت نحو هذا لمالك بن أنس- رحمه اللّه-

قال: لم ير فى الدنيا لأنه باق، ولا يرى الباقى بالفانى. فإذا كان فى الآخرة رزقوا أبصارا باقية، رؤى الباقى بالباقى، وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القوة، فإذا قوى اللّه تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم تمتنع فى حقه، انتهى.

والاستثناء فى قوله: (إلا من حيث ضعف القوة) ينبغى أن يكون منقطعا، على معنى: لكن من حيث ضعف القوة، وإلا فضعف القوة قصاراه أن يكون مانعا، أى امتنع من جهة ضعف القوة لا من جهة كونه مستحيلا، ويدل على هذا قوله: (فإذا قوى اللّه تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع فى حقه) . وقد وقع فى صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة فى حديث مرفوع فيه: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) (١) .

وأخرجه ابن خزيمة أيضا من حديث أبى أمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت.

فإن جازت الرؤية فى الدنيا عقلا فقد امتنعت شرعا، لكن من أثبتها للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل فى عموم كلامه. وفى كلام ابن كثير: أن فى بعض كتب اللّه المتقدمة أن اللّه تعالى قال لموسى لما سأله الرؤية، يا موسى، إنه لن يرانى حى إلا مات. وقد جزم القشيرى- فى الرسالة- بأنها لا تجوز فى الدنيا على جهة الكرامة، وادعى حصول الإجماع عليه. وحكىالقاضى عياض امتناعها فى الدنيا عن جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وقال القشيرى أيضا: سمعت الإمام أبا بكر بن فورك يحكى عن أبى الحسن الأشعرى فى ذلك قولين فى كتاب الرؤية الكبير:

انتهى.

__________

(١) صحيح: انظر (صحيح الجامع) (٢٣١٢ و ٢٤٥٩) .

وقد ذهبت عائشة وابن مسعود إلى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم ير ربه ليلة الإسراء.

واختلف عن أبى ذر. وذهب جماعة إلى إثباتها. وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: أنه حلف أن محمدا رأى ربه.

وأخرج ابن خزيمة عن عروة ابن الزبير إثباتها، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس. وجزم به كعب الأحبار والزهرى، وصاحبه معمر وآخرون وهو قول الأشعرى وغالب أتباعه. ثم اختلفوا: هل رآه بعينيه أو بقلبه؟ وجاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة، وأخرى مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها، فمن ذلك، ما أخرجه النسائى بإسناد صحيح، وصححه الحاكم أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس

قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد- صلى اللّه عليه وسلم- (١) .

ومنها: ما أخرجه مسلم من طريق أبى العالية عن ابن عباس فى

قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (٣)

قال: رآه بفؤاده مرتين (٤) وله: من طريق عطاء عن ابن عباس

قال: رآه بقلبه. وأصرح من ذلك: ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء عن ابن عباس

قال: لم يره رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بعينيه وإنما رآه بقلبه.

وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفى عائشة، بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب. لكن روى الطبرانى فى الأوسط بإسناد رجاله رجال الصحيح، خلا جهوّر بن منصور الكوفى، وجهور بن منصور قد ذكره ابن حبان فى الثقات، عن ابن عباس أنه كان يقول: إن محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- رأى ربه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده.

__________

(١) أخرجه النسائى فى (الكبير) (١١٥٣٩) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ١٣٣) و (٢/ ٣٠٩ و ٥٠٩) .

(٢) سورة النجم: ١١.

(٣) سورة النجم: ١٣.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (١٧٦) فى الإيمان، باب: معنى قول اللّه عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى.

ثم المراد (برؤية الفؤاد) رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان عالما باللّه على الدوام. بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التى حصلت له خلقت له فى قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شىء مخصوص عقلا، ولو جرت العادة بخلقها فى العين. وروى ابن خزيمة بإسناد قوى عن أنس

قال: (رأى محمد ربه) وفى مسلم من حديث أبى ذر أنه سأل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عن ذلك ف

قال: (نور أنى أراه) أى حجابه نور فكيف أراه، ومعناه: أن النور منعنى من الرؤية. وعند أحمد

قال: (رأيت نورا) ومن المستحيل أن تكون ذات اللّه تعالى نورا، إذ النور من جملة الأعراض، واللّه تعالى يتعالى عن ذلك.

وعند ابن خزيمة عنه،

قال: (رآه بقلبه ولم يره بعينه) . وبهذا يتبين مراده فى حديث أبى ذر بذكر النور، أى أن النور حال بينه وبين رؤيته له ببصره.

وجنح ابن خزيمة فى كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات، وأطنب فى الاستدلال بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤية وقعت مرتين: مرة بقلبه ومرة بعينه.

ومما يعزى للأستاذ عبد العزيز المهدوى: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما رجع من سفر الإسراء، أخبر العوالم من حيث فلكهم مراتبهم، وسقى كل واحد من كأسه، وعلى قدر عقله، فخاطب الكفار، وهم آخر العوالم بما رأى فى الطريق، وما كان فى المسجد الأقصى على العيان وبما يعرفون، لأنهم فى فلك الأجسام، حتى صدقوا بالإسراء، ثم ارتقى حتى حدث عن فلك السماء، وكذلك فى كل سماء، وأخبر عما شاهد ورأى فى كل فلك وما يليق أن يحدث به- أعنى الصحابة- كلا على قدر مرتبته بلا ضيق ولا مزاحم إلى السماء السابعة، ولما وصل مقام جبريل تحدث عن الأفق المبين، وعما فوق إلى الدنو وإلى التدلى إلى موضع الإيحاء عند حضرة إسقاط الصور والخلق، فأخبر بذلك أصحابه، فمنهم من

قال: رأى جبريل بالأفق المبين، وبالأفق الأعلى، وصدق، ومنهم من قال برؤية الفؤاد والبصيرة وصدق،

وهى عائشة ومن معها، ومنهم من

قال: بعينى رأسه رأى وصدق. فكل أخبر بما حدثه- صلى اللّه عليه وسلم- من مقامه وسقاه من كأسه وما يليق به، فإذا صح هذا المعراج عرفت الأمر، ومقامات الرؤية والقائلين بذلك وقولهم الجميع الحق انتهى.

وممن أثبت الرؤية لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- الإمام أحمد. فروى الخلال فى (كتاب السنن) عن المروزى: قلت لأحمد: إنهم يقولون إن عائشة

قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على اللّه الفرية، فبأى معنى يدفع قولها؟

قال: بقول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (رأيت ربى) فقول النبى أكبر من قولها.

وقد أنكر صاحب (الهدى) على من زعم أن أحمد

قال: رأى ربه بعينى رأسه.

قال: وإنما قال مرة: رأى محمد ربه، وقال مرة: بفؤاده. وحكى عن بعض المتأخرين: رأى بعينى رأسه. وهذا من تصرف الحاكى، فإن نصوصه موجودة انتهى.

وقد رجح القرطبى فى (المفهم) قول الوقف فى هذه المسألة، وعزاه لجماعة من المحققين، وقواه: بأنه ليس فى الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به الطائفتان ظواهر متعارضة، قابلة للتأويل.

قال: وليست المسألة من العمليات فيكتفى فيها بالأدلة الظنية، وإنما هى من المعتقدات فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعى. واللّه أعلم.

وأما قوله فى الحديث: (ثم فرضت على الصلاة خمسين صلاة فى كل يوم) . ففى رواية ثابت البنانى عن أنس عند مسلم (ففرض اللّه على خمسين صلاة فى كل يوم وليلة) (١) . ونحوه فى رواية مالك بن صعصعة عند البخارى أيضا. ويحتمل أن ي

قال: ذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على الأمة، وبالعكس، إلا ما استثنى من خصائصه.

وفى حديث ثابت عن أنس عند مسلم (فنزلت إلى موسى،

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٦٣) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلوات.

فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة،

قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإنى قد بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم.

قال: فرجعت إلى ربى فقلت: يا رب، خفف عن أمتى، فحط عنى خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عنى خمسا، ف

قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف.

قال: فلم أزل أرجع بين ربى وبين موسى، حتى

قال: يا محمد هن خمس صلوات فى اليوم والليلة، لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة. ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة.

قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته

فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقلت: لقد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه) (١) .

وفى رواية النسائى عن أنس: فقال لى: إنى يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك، وذكر مراجعته مع موسى، وفيه: فإنه فرض على بنى إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما. وقال فى آخره: فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك.

قال: فعرفت أنها عزمة من اللّه فرجعت إلى موسى

فقال: ارجع، فلم أرجع.

فإن قلت: لم قال موسى- عليه السّلام- لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم-: إن أمتك لا يطيقون ذلك، ولم يقل: أنت وأمتك لا تطيقون ذلك؟

أجيب: بأن العجز مقصور على الأمة لا يتعداهم إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فهو لما رزقه اللّه تعالى من الكمال يطيق ذلك وأكثر منه، وكيف لا وقد جعلت قرة عينه فى الصلاة. قال العارف ابن أبى جمرة: والحكمة فى تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما عرج به ورأى فى تلك الليلة تعبد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع اللّه تعالى له ولأمته تلك العبادات كلها فى ركعة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص.

__________

(١) هو ما قبله.

وقد وقع من موسى- عليه السّلام- من العناية بهذه الأمة فى أمر الصلاة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة لذلك فى حديث أبى هريرة عند الطبرانى والبزار، قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (كان موسى أشدهم على حين مررت، وخيرهم لى حين رجعت) . وفى حديث أبى سعيد: فأقبلت راجعا فمررت بموسى، ونعم الصاحب كان لكم، فسألنى كم فرض عليك ربك؟ الحديث.

قال السهيلى: وأما اعتناء موسى- عليه السّلام- بهذه الأمة، وإلحاحه على نبيها أن يشفع لها ويسأل التخفيف عنها، فكقوله- واللّه أعلم- حين قضى إليه الأمر بجانب الغربى، ورأى صفات أمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- فى الألواح، وجعل يقول: إنى أجد فى الألواح أمة صفتهم كذا،

اللّهم اجعلهم أمتى، فيقال له: تلك أمة أحمد، وهو حديث مشهور وقد تقدم ذكره فى خصائص هذه الأمة.

قال: فكان إشفاقه عليهم واعتناؤه بأمرهم كما يعتنى بالقوم من هو منهم لقوله

اللّهم اجعلنى منهم انتهى.

وقال القرطبى: الحكمة فى أمر موسى بمراجعة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى أمر الصلوات يحتمل أن تكون لكون أمة موسى- عليه السّلام- كلفت من الصلوات ما لم يكلف به غيرها من الأمم قبلها، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- مثل ذلك، ويشير إليه قوله: إنى جربت الناس قبلك.

انتهى.

ووقع فى كلام بعض أهل الإشارات: لما تمكنت نار المحبة من قلب موسى أضاءت له أنوار نور الطور، فأسرع إليها ليقتبس فاحتبس، فلما نودى من النادى، اشتاق إلى المنادى، فكان يطوف فى بنى إسرائيل: من يحملنى رسالة إلى ربى، ومراده أن تطول المناجاة مع الحبيب، فلما مر علينا نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- ليلة المعراج، ردده فى أمر الصلوات ليسعد برؤية حبيب الحبيب.

وقال آخر: لما سأل موسى- عليه السّلام- الرؤية، ولم تحصل له البغية، بقى الشوق يقلقه، والأمل يعللّه، فلما تحقق أن سيدنا محمدا الحبيب منح الرؤية، وفتح له باب المزية، أكثر السؤال ليسعد برؤية من قد رأى. كما قيل:

واستنشق الأرواح من نحو أرضكم ... لعلى أراكم أو أرى من يراكم

وأنشد من لاقيت عنكم عساكم ... تجودون لى بالعطف منكم عساكم

فأنتم حياتى إن حييت وإن أمت ... فيا حبذا إن مت عبد هواكم

وقال آخر:

وإنما السر فى موسى يردده ... ليجتلى حسن ليلى حين يشهده

يبدو سناها على وجه الرسول فيا ... للّه در رسول حين أشهده

وقال آخر: لما جلس الحبيب فى مقام القرب، دارت عليه كؤوس الحب، ثم عاد، وهلال ما كذب الفؤاد ما رأى بين عينيه، وسرّ فأوحى إلى عبده ملء قلبه وأذنيه، فلما اجتاز بموسى- عليه السّلام-، قال لسان حاله لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم-:

يا واردا من أهيل الحى يخبرنى ... عن جيرتى شنف الأسماع بالخبر

ناشدتك اللّه يا راوى حديثهم ... حدث فقد ناب سمعى اليوم عن بصر

فأجاب لسان حال نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- يقول:

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ... سر أرق من النسيم إذا سرى

وأباح طرفى نظرة أملتها ... فغدوت معروفا وكنت منكرا

فكل قوم يلحظون مذهبهم، وقد علم كل أناس مشربهم، واللّه بفضله وإحسانه يوالى انسجام سحائب عفوه ورضوانه على العارف الربانى أبى عبد الرحمن السلمى، فلقد أجاد إذ أفاد بما أفرد من لطائف المعراج حسبما جمعه من كلام أهل الإشارات، بأقوم منهاج.

وقد استدل العلماء بقوله فى الحديث (فهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر فتلك خمسون) : على عدم فرضية ما زاد على الصلوات الخمس، كالوتر. وعلى دخول النسخ قبل الفعل. قال ابن بطال وغيره: ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلى؟ ثم تفضل عليهم بأن أكمل لهم الثواب.

وتعقبه ابن المنير ف

قال: هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشراح وغيرهم، وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالأشاعرة، أو منعه كالمعتزلة. لكونهم اتفقوا جميعا على أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ.

وحديث الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ، فهو مشكل عليهم جميعا. اه.

فإن أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع، وإن أراد قبل البلاغ إلى بعض الأمة فمسلّم، لكن قد ي

قال: ليس هو بالنسبة إليهم نسخا، لكن هو نسخ بالنسبة إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لأنه كلف بذلك قطعا، ثم نسخ بعد أن بلغه وقبل أن يفعله، فالمسألة صحيحة التصوير فى حقه-صلى اللّه عليه وسلم-.

ولما رجع- صلى اللّه عليه وسلم- من سفر الإسراء، مر فى طريقه بعير لقريش تحمل طعاما، فيها جمل يحمل غرارتين: غرارة سوداء وغرارة بيضاء، فلما حاذى العير نفرت منه واستدارت وانصرع ذلك البعير.

وفى رواية: مر بعير قد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان. قال- صلى اللّه عليه وسلم-:

فسلمت عليهم

فقال بعضهم: هذا صوت محمد. ثم أتى مكة قبل الصبح وأخبر قومه بما رأى، وقال لهم: إن من آية ما أقول لكم أنى مررت بعيركم فى مكان كذا وكذا، وقد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان، وأن مسيرهم ينزلون بمكان كذا وكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتى إذا كان قريب من نصف النهار أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذى وصفه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وفى رواية البيهقى: سألوه آية، أخبرهم بقدوم العير يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتى كادت الشمس أن تغرب، فدعا اللّه تعالى فحبس الشمس حتى قدموا كما وصف. وعن عائشة: لما أسرى بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك، فارتد ناس كانوا آمنوا، وسعى رجال من المشركين إلى أبى بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس،

قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم،

قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح

فقال: نعم، إنى لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه فى خبر السماء فى غدوة أو روحة، فلذلك سمى الصديق (١) . رواه الحاكم فى المستدرك، وابن إسحاق: وزاد:

ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: يا نبى اللّه، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس فى هذه الليلة؟

قال: نعم،

فقال: يا نبى اللّه صفه لى فإنى قد جئته، قال الحسن: فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: فرفع لى المسجد حتى نظرت إليه، فجعل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصفه لأبى بكر، فيقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنك رسول اللّه، كلما وصف له منه شيئا.

وقول أبى بكر: صفه لى، لم يكن عن شك، فإنه صدقه من أول وهلة، ولكنه أراد إظهار صدقه لقومه، فإنهم كانوا يثقون بأبى بكر، فإذا طابق خبره- صلى اللّه عليه وسلم- ما كان يعلم أبو بكر وصدقه كان حجة ظاهرة عليهم.

وفى رواية البخارى (فجلا اللّه لى بيت المقدس) أى كشف الحجب بينى وبينه حتى رأيته. وفى رواية مسلم: (فسألونى عن أشياء لم أثبتها، فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط، فرفعه اللّه لى أنظر إليه، ما يسألونى عن شىء إلا أنبأتهم به) .

فيحتمل أن يكون حمل إلى أن وضع بحيث يراه، ثم أعيد، ففى حديث ابن عباس عند أحمد والبزار: فجىء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع عند دار عقيل فنعته وأنا أنظر إليه.

وهذا أبلغ فى المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس فى طرفة عين.

وأما ما وقع فى حديث أم هانئ عند ابن سعد: فخيل إلى بيت المقدس، وطفقت أخبرهم عن آياته، فإن ثبت احتمل أن يكون مثل قريبا منه، كما قيل فى حديث: (رأيت الجنة والنار) ويؤولقوله: جىء بالمسجد، أى جىء بمثاله.

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٦٥ و ٨١) .

وفى حديث أم هانئ المذكور: أنهم قالوا له: كم للمسجد من باب،

قال: ولم أكن عددتها

قال: فجعلت أنظر إليه وأعدها بابا بابا.

وعند أبى يعلى: إن الذى سأله عن صفة بيت المقدس هو المطعم بن عدى، والد جبير بن مطعم.

وأشار ابن أبى جمرة: إلى أن الحكمة فى الإسراء إلى بيت المقدس إظهار الحق للمعاند، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح- حيث سألوه عن جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها، وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق أنه أسرى به إلى بيت المقدس. وإذا صح البعض لزم تصحيح الباقى، فكان ذلك سببا لقوة إيمان المؤمنين، وزيادة فى شقاء من عاند وجحد من الكافرين، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.