Geri

   

 

 

İleri

 

 ٥-١ * واحتج القائلون بأنه رؤيا منام أيضا بقول عائشة:

(ما فقدت جسده الشريف) (٢) .

وأجيب: بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة، لأنها لم تكن إذ ذاك زوجا، ولا فى سن من يضبط، أو لم تكن ولدت بعد على الخلاف فى الإسراء متى كان. وقال التفتازانى: أى ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه، وكان المعراج للجسد والروح جميعا. انتهى.

* واحتج القائلون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس،

وإلى السماء بالروح، بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى (٣) ، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذى وقع التعجب

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٣٨٨٨) فى فضائل الصحابة، باب: المعراج.

(٢) لم أقف عليه.

(٣) سورة الإسراء: ١.

به بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- به، وإظهار الكرامة له بالإسراء.

قالوا: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ بالمدح.

وأجيب: بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له عنه على سبيل الامتحان عما شاهدوه وعرفوه من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه، فيجيبهم بما عاين ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما رأى فى السماء، إذ لا عهد لهم بذلك.

وقال النووى فى فتاويه: وكان الإسراء به- صلى اللّه عليه وسلم- مرتين: مرة فى المنام، ومرة فى اليقظة.

وذكر السهيلى تصحيح هذا المذهب عن شيخه القاضى أبى بكر بن العربى، وأن مرة النوم توطئة له وتيسير عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الإسراء قد سهله اللّه عليه بالرؤيا، لأن هوله عظيم، فجاء فى اليقظة على توطئة وتقدمة، رفقا من اللّه بعبده وتسهيلا عليه.

وقد جوز بعض قائلى ذلك أن تكون قصة المنام قبل المبعث، لأجل قول شريك فى رواية: (وذلك قبل أن يوحى إليه) (١) . واستشهدوا له بقول عائشة- رضى اللّه عنها-: أول ما بدئ به رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلى جاءت كفلق الصبح (٢) وسيأتى البحث فى ذلك- إن شاء اللّه تعالى-.

* واحتج القائلون بأنه أربع إسراآت يقظة بتعدد الروايات فى الإسراء،

__________

(١) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث عند البخارى (٣٥٧٠) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومسلم (١٦٢) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلوات، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (١٦٠) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-.

واختلاف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئا ذكره الآخر.

وأجيب: بأنه لا يدل على التعدد، لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه. وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الآخرى مرة على حدة فأثبت إسراآت متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يحصل على مطلب. ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف.

ولو تعدد هذا التعدد لأخبر- صلى اللّه عليه وسلم- به أمته، ولنقله الناس على التعدد والتكرار. انتهى.

وقد وقع فى رواية عبثر بن القاسم- بموحدة ثم مثلاثة بوزن جعفر- فى رواية عن حصين بن عبد الرحمن، عند الترمذى والنسائى: لما أسرى برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- جعل يمر بالنبى ومعه الواحد، الحديث. فإن كان ذلك محفوظا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأن الذى وقع بالمدينة أيضا غير الذى وقع بمكة.

قال فى فتح البارى: والذى يتحرر فى هذه المسألة أن الإسراء الذى وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة، من استفتاح أبواب السماء بابا بابا، ومن التقاء الأنبياء كل واحد فى سماء، ولا المراجعة معهم، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلاة، ولا فى طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك. وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها- صلى اللّه عليه وسلم- فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها فى المنام واللّه أعلم. انتهى.

وقال بعض العارفين: إن له- صلى اللّه عليه وسلم- أربعة وثلاثين مرة، الذى أسرى به منها إسراء واحد بجسمه، والباقى بروحه رؤيا رآها. انتهى. فالحق: أنه إسراء واحد، بروحه وجسده يقظة، فى القصة كلها. إلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغى العدول عن ذلك، إذ ليس فى العقل ما يحيله. قال الرازى:

قال أهل التحقيق: الذى يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد- صلى اللّه عليه وسلم- وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى

القرآن والخبر:

أما القرآن فهو

قوله تعالى:

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا (١) ، وتقرير الدليل: أن (العبد) اسم للجسد والروح، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا بجميع الجسد والروح، ويدل عليه

قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (٢)

ولا شك أن المراد هنا مجموع الروح والجسد، وأيضا: قال سبحانه وتعالى فى سورة الجن: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللّه يَدْعُوهُ (٣) ، والمراد: مجموع الروح والجسد وكذا هاهنا، انتهى.

واحتجوا أيضا: بظاهر قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (أسرى بى) لأن الأصل فى الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى يدل دليل على خلافه. وبأن ذلك لو كان مناما لما كان فيه فتنة للضعفاء، ولا استبعده الأغبياء. وبأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار بأنه أسرى به على البراق.

فإن قلت: ما الحكمة فى كونه تعالى جعل الإسراء ليلا؟

أجيب: بأنه إنما جعله ليلا تمكينا للتخصيص بمقام المحبة، لأنه تعالى اتخذه- صلى اللّه عليه وسلم- حبيبا وخليلا، والليل أخص زمان للمحبين لجمعهما فيه، والخلوة بالحبيب متحققة بالليل (٤) .

قال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانا بالغيب وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم.

إذ الليل أخفى حالا من النهار،

قال: ولعله لو عرج به نهارا لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب، ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقى وجحد، انتهى.

وفى ذلك حكمة أخرى على طريقة أهل الإشارات، ذكرها العلامة ابن مرزوق، وهى: أنه قيل لأن اللّه تعالى لما محا آية الليل وجعل آية النهار

__________

(١) سورة الإسراء: ١.

(٢) سورة الجن: ٩، ١٠.

(٣) سورة الجن: ١٩.

(٤) قلت: أرى أن علة ابن المنير، أولى بالترجيح.

النهار على الليل بالشمس فقيل له: لا تفتخر، إن كانت شمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود فى الليل إلى السماء.

وقيل: لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- سراج، والسراج إنما يوقد بالليل، وأنشد:

قلت يا سيدى تؤثر اللي ... ل على بهجة النهار المنير

قال لا أستطيع تغيير رسمى ... هكذا الرسم فى طلوع البدور

إنما زرت فى الظلام لكيما ... يشرق الليل من أشعة نورى

فإن قلت: أيما أفضل، ليلة الإسراء أو ليلة القدر؟

فالجواب: - كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش- أن ليلة الإسراء أفضل فى حق النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وليلة القدر أفضل فى حق الأمة، لأنها لهم خير من عمل فى ثمانين سنة لمن قبلهم،

وأما ليلة الإسراء فلم يأت فى أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ...... ولذلك لم يعينها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لأصحابه، ولا عينها أحد من الصحابة بإسناد صحيح، ولا صح إلى الآن ولا إلى أن تقوم الساعة فيها شىء، ومن قال فيها شيئا فإنما قاله من كيسه لمرجح ظهر له استأنس به، ولهذا تصادمت الأقوال فيها وتباينت، ولم يثبت الأمر فيها على شىء، ولو تعلق بها نفع للأمة- ولو بذرة- لبينه لهم نبيهم- صلى اللّه عليه وسلم-، انتهى.

فإن قلت: هل وقع الإسراء لغيره- صلى اللّه عليه وسلم- من الأنبياء؟ أجاب العارف عبد العزيز المهدوى: بأن مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العلية لم تكن لأحد من الأنبياء، إلا لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم-. انتهى.

وإنما

قال تعالى: أَسْرى بِعَبْدِهِ (١) إشارة إلى أنه تعالى هو المسافر به، ليعلم أن الإسراء من عنده عز وجل هبة إلهية، وعناية ربانية، سبقت له- صلى اللّه عليه وسلم- مما لم يخطر بسره، ولا اختلج فى ضميره.

وأدخل (باء) المصاحبة فى

قوله تعالى: بِعَبْدِهِ (٢) ليفيد أنه تعالى

__________

(١) سورة الإسراء: ١.

(٢) سورة الإسراء: ١.

صحبه فى مسراه، صحبة بالألطاف والعناية والإسعاف والرعاية، ويشهد له قوله- صلى اللّه عليه وسلم-:

(اللّهم أنت الصاحب فى السفر) (١) .

وتأمل

قوله تعالى: يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (٢) ، وقوله أَسْرى بِعَبْدِهِ (٣) يلح لك خصوصية مصاحبة الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- للحق دون عموم الخلق.

وقرن سبحانه وتعالى (التسبيح) بهذا المسرى، لينفى بذلك عن قلب صاحب الوهم ومن يحكم عليه خياله من أهل التشبيه والتجسيم ما يتخيله فى حق الحق تعالى من الجهة والحد والمكان، ولذا

قال: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا (٤) يعنى ما رأى فى تلك الليلة من عجائب الآيات، كأنه تعالى يقول: ما أسريت به إلا لنريه الآيات، لا (إلى) فإنه لا يحدنى مكان، ونسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة، فكيف أسرى به إلى، وأنا عنده، وأنا معه أينما كان. وللّه در القائل:

سبحان من أسرى إليه بعبده ... ليرى الذى أخفاه من آياته

كحضوره فى غيبه وكسكره ... فى صحوه والمحو فى إثباته

ويرى الذى عنه تكون سره ... فى صنعه إن شاءه وهباته

ويريه ما أبدى له من جوده ... بوجوده والفقد من هيئاته

سبحانه من سيد ومهيمن ... فى ذاته وسماته وصفاته

وأكده تعالى بقوله: لَيْلًا (٥) مع أن الإسراء لا يكون فى اللسان العربى إلا ليلا، لا نهارا، ليرتفع الإشكال حتى لا يتخيل أنه أسرى بروحه فقط، ويزيل من خاطر من يعتقد أن الإسراء ربما يكون نهارا، فإن القرآن

__________

(١) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه مسلم (١٣٤٢) فى الحج، باب: ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره.

(٢) سورة يونس: ٢٢.

(٣) سورة الإسراء: ١.

(٤) سورة الإسراء: ١.

(٥) سورة الإسراء: ١.

- وإن كان نزل بلغة العرب- فإنه خاطب به الناس أجمعين، أصحاب اللسان وغيرهم.

وقال البيضاوى تبعا لصاحب الكشاف: وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء، ولذلك قرئ (من الليل) أى بعضه: كقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ (١) وتعقبه القطب فى حاشيته على الكشاف كما نبهت عليه فى حاشية الشفاء.

والمعاريج ليلة الإسراء عشرة، سبع إلى السماوات، والثامن إلى سدرة المنتهى. والتاسع إلى المستوى الذى سمع فيه صريف الأقلام فى تصاريف الأقدار، والعاشر إلى العرش والرفرف والرؤية وسماع الخطاب بالمكافحة والكشف الحقيقى.

وقد وقع له- صلى اللّه عليه وسلم- فى سنى الهجرة العشرة ما كان فيه مناسبات لطيفة لهذه المعاريج العشرة، ولهذا ختمت سنى الهجرة بالوفاة، وهى لقاء الحق جل جلاله، والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، والعروج بالروح الكريمة إلى المقعد الصدق، وإلى الموعد الحق وإلى الوسيلة، وهى المنزلة الرفيعة. كما ختمت معاريج الإسراء باللقاء والحضور بحظيرة القدس.

وقد أفاد الإمام الذهبى أن الحافظ عبد الغنى جمع أحاديث الإسراء فى جزأين، ولم يتيسر لى الوقوف عليهما بعد الفحص. وقد صنف الشيخ أبو إسحاق النعمانى- رحمه اللّه- فى الإسراء والمعراج كتابا جامعا للأطناب بزيادة الرقائق والإشحان بفواضل الحقائق، ولم أقف عليه حالة كتابتى هذا المقصد الشريف.

ويرحم اللّه تعالى شيخ الإسلام والحافظ الشهاب ابن حجر العسقلانى، فإنه قد جمع فى كتابه (الفتح) كثيرا مما تشتت من طرق حديث الإسراء وغيره من الأحاديث، مع تدقيق مباحث فقهية، والكشف عن أسرار معانى كلمه وبدائع ألفاظه وحكمه. وكل من صنف فى شىء من المنح النبوية، والمناقب

__________

(١) سورة الإسراء: ٧٩.

المحمدية لا يستغنى عن استجناء معارف اللطائف من رياض (عياض) (١) والاستشفاء من أدواء المشكلات بدواء (شفائه) المبرئ لمعضل الأمراض. فاللّه تعالى يفيض عليه وعلى سائر علماء هذه الأمة سجال رحمته ورضوانه ويسكننا معهم فى بحبوحة جناته.

وقد وردت أحاديث الإسراء من حديث أنس، وأبى بن كعب، وجابر ابن عبد اللّه، وبريدة، وسمرة بن جندب، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عمرو، وحذيفة بن اليمان، وشداد بن أوس، وصهيب، وعلى ابن أبى طالب، وعمر بن الخطاب، ومالك بن صعصعة، وأبى أمامة، وأبى أيوب، وأبى حبة، وأبى ذر، وأبى سعيد الخدرى، وأبى سفيان بن حرب، وأبى هريرة، وعائشة، وأسماء بنت أبى بكر، وأم هانئ، وأم سلمة، وغيرهم- رضى اللّه تعالى عنهم أجمعين-.

وفى تفسير الحافظ ابن كثير من ذلك ما يكفى ويشفى. وبالجملة:

فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة الملحدون، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّه بِأَفْواهِهِمْ وَاللّه مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٢) .

وقد روى البخارى، عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبى اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حدثهم عن ليلة أسرى به [قال] :

(بينما أنا نائم فى الحطيم- وربما

قال: فى الحجر- مضطجعا، إذ أتانى آت فقدّ-

قال: سمعته يقول: فشق- ما بين هذه إلى هذه.

قال: فقلت للجارود وهو إلى جنبى: ما يعنى به؟

قال: من ثغرة نحره إلى شعرته.

فاستخرج قلبى، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبى، ثم حشى ثم أعيد.

ثم أتيت بدابة، دون البغل وفوق الحمار أبيض- فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم- يضع خطوه عند أقصى طرفه،

__________

(١) يقصد القاضى عياض، صاحب كتاب (الشفا فى حقوق المصطفى) .

(٢) سورة الصف: ٨.

فحملت عليه، فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح،

قيل: من هذا؟

قال: جبريل،

قال: ومن معك؟

قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم، قيل: مرحبا بك فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم،

فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم

قال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح

فقيل: من هذا؟

قال: جبريل، قيل: ومن معك؟

قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء ففتح لنا، فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة،

قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى إلى السماء الثالثة، فاستفتح

فقيل: من هذا؟

قال: جبريل، قيل: ومن معك؟

قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف،

قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم

قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟

قال: جبريل، قيل: ومن معك؟

قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت إذا إدريس،

قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم

قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟

قال: جبريل، قيل: ومن معك؟

قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا هارون،

قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم

قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟

قال: جبريل، قيل: ومن معك؟

قال: محمد، قيل وقد أرسل إليه؟

قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا موسى،

قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم

قال: مرحبا بالأخ والنبى الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟

قال: أبكى لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتى.

ثم صعد بى إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟

قال: جبريل، قيل: ومن معك؟

قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟

قال: نعم،

قال: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم،

قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه،

قال: فسلمت عليه، فرد السلام، ف

قال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح.

ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة،

قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟

قال: أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات.

ثم رفع إلى البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فاخترت اللبن، ف

قال: هى الفطرة التى أنت عليها وأمتك.

ثم فرضت على الصلاة، خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى،

فقال: بم أمرت؟

قال: فقلت أمرت بخمسين صلاة كل يوم،

قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإنى واللّه قد جربت الناس قبلك، وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عنى عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عنى عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى

فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم،

قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإنى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك.

قال: سألت ربى حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم.

قال: فلما جاوزت نادانى مناد: أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى) (١) .

وفى رواية له: (ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه فى صدرى ثم أطبقه) (٢) .

وفى رواية شريك: (فحشا به صدره ولغاديده) (٣) وهى بلام مفتوحة وغين معجمة، أى عروق حلقه، وفى النهاية: جمع لغدوده: وهى لحمة مشرفة عند اللّهاة.

والشك فى قوله: (ربما قال فى الحجر) من قتادة، كما بينه أحمد عن عفان، ولفظه: (بينما أنا فى الحطيم، وربما قال قتادة: فى الحجر) . والمراد بالحطيم هنا: الحجر.

ووقع عند البخارى فى أول بدء الخلق بلفظ (بينما أنا عند البيت) (٤) وهو أعم. وفى رواية الزهرى عن أنس عن أبى ذر (فرج سقف بيتى وأنا بمكة) (٥) .

وفى رواية الواقدى بأسانيده: أنه أسرى به من شعب أبى طالب.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٨٨٧) فى المناقب، باب: المعراج، ومسلم (١٦٤) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلاة.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤٩) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، ومسلم (١٦٣) فيما سبق، من حديث أبى ذر- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٧٥١٧) فى التوحيد، باب: قوله وَكَلَّمَ اللّه مُوسى تَكْلِيماً من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٣٢٠٧) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، من حديث مالك ابن صعصعة- رضى اللّه عنه-.

(٥) صحيح: وهى رواية أبى ذر المتقدمة قبل حديثين.

وفى حديث أم هانئ- عند الطبرانى- أنه بات فى بيتها،

قالت: ففقدته من الليل،

فقال: (إن جبريل أتانى) (١) .

والجمع بين هذه الأقوال- كما فى فتح البارى (٢) - أنه بات فى بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبى طالب، ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه، فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخذه الملك فأخرجه من المسجد، فأركبه البراق.

قال: وقد وقع فى مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع.

فإن قيل: لم فرج سقف بيته- صلى اللّه عليه وسلم- ونزل منه الملك، ولم لم يدخل عليه من الباب، مع

قوله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها (٣) .

أجيب: بأن الحكمة من ذلك أن الملك انصب من السماء انصبابة واحدة، ولم يعرج على شىء سواه، مبالغة فى المفاجأة، وتنبيها له على أن الطالب وقع على غير ميعاد، كرامة له- صلى اللّه عليه وسلم-.

وهذا بخلاف موسى- عليه الصلاة والسلام-، فكانت كرامته بالمناجاة عن ميعاد واستعداد بخلاف نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- فإنه حمل عنه ألم الانتظار، كما حمل عنه ألم الاعتذار. ويؤخذ من هذا: أن مقام نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- بالنسبة إلى مقام موسى- عليه السّلام- مقام المراد بالنسبة إلى مقام المريد. ويحتمل أن يكون توطئة وتمهيدا لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف ثم التأم السقف على الفور كيفية ما يصنع به، وقرب له الأمر فى نفسه بالمثال المشاهد فى بيته، لطفا فى حقه- صلى اللّه عليه وسلم- وتثبيتا لصبره، واللّه أعلم.

وقوله: (مضطجعا) زاد فى بدء الخلق (بين النائم واليقظان) وهو

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١/ ٧٥، ٧٦) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، وفيه عبد الأعلى بن أبى المساور، متروك كذاب.

(٢) (٧/ ٢٠٤) .

(٣) سورة البقرة: ١٨٩.

محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق، استمر فى يقظته.

* وأما ما وقع فى رواية شريك عنده أيضا (فلما استيقظت) فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أن المراد استيقظت: أفقت، يعنى أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوى، فالمراد: الإفاقة البشرية من الغمرة الملكية.

*

وقوله: (إذ أتانى آت) هو جبريل- عليه السّلام-، وفى رواية شريك (أنه جاءه ثلاثة نفر، قبل أن يوحى إليه، وهو نائم فى المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ قال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم وكانت تلك الليلة- أى كانت القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر هنا- فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه ... ) (١) .

وقد أنكر الخطابى قوله: (قبل أن يوحى إليه) وكذا القاضى عياض والنووى، وعبارة النووى: وقع فى رواية شريك- يعنى هذه- أوهام أنكرها العلماء، أحدها قوله: (قبل أن يوحى إليه) وهو غلط فلم يوافق عليه.

وأجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون قبل الوحى. انتهى. فقد صرح هؤلاء بأن شريكا تفرد بذلك.

لكن قال الحافظ ابن حجر: فى دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير بن خنيس- بالمعجمة ونون مصغرا- عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموى فى كتاب المغازى له من طريقه.

قال: ولم يقع التعيين بين المجيئين، فيحمل على أن المجىء الثانى كان بعد الوحى، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج. وإذا كان بين المجيئين مدة فلا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة أو ليالى أوعدد سنين وبهذا يرتفع الإشكال من رواية شريك، ويحصل به الوفاق أن الإسراء كان فى اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة وسقط

__________

(١) صحيح: وقد تقدمت رواية شريك أكثر من مرة.

تشنيع الخطابى وغيره بأن شريكا خالف الإجماع فى دعواه أن المعراج كان قبل البعثة، وأقوى ما يستدل به على أن المعراج كان بعد البعثة، قوله فى هذا الحديث نفسه: أن جبريل قال لبواب السماء إذ قال له: أبعث؟

قال: نعم، فإنه ظاهر فى أن المعراج كان بعد البعثة.

* ووقع فى رواية ميمون بن سياه- عند الطبرانى-: فأتاه جبريل وميكائيل، فقالا: أيهم؟ وكانت قريش تنام حول الكعبة،

فقال: أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا، ثم جاؤوه وهم ثلاثة. وفى رواية مسلم: سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بى. والمراد بالرجلين: حمزة وجعفر وكان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- نائما بينهما.

* وقوله: (فقد) بالقاف والدال المهملة الثقيلة. (من ثغره) بضم المثلاثة وسكون الغين المعجمة، وهو الموضع المنخفض الذى بين الترقوتين. (إلى شعرته) بكسر الشين المعجمة، أى شعر العانة الشريفة. وفى رواية مسلم: إلى أسفل بطنه. وفى رواية البخارى: إلى مراق البطن. وفى رواية شريك- عنده-: فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته- بفتح اللام وتشديد الموحدة- وهو موضع القلادة من الصدر.

وقد أنكر القاضى عياض فى (الشفاء) وقوع شق صدره الشريف ليلة الإسراء، و

قال: إنما كان وهو صبى قبل الوحى فى بنى سعد. ولا إنكار فى ذلك- كما قاله الحافظ أبو الفضل العسقلانى- رحمه اللّه- فقد تواترت الروايات به، وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم فى الدلائل، ولكل منها حكمة:

فالأول: وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس: فأخرج علقة ف

قال: هذا حظ الشيطان منك (١) . وكان هذا فى زمن الطفولية، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان. ولعل هذا الشق كان سببا فى

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (١٦١) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وفرض الصلوات، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

إسلام قرينه المروى عند البزار من حديث ابن عباس (١) . ويحتمل أن يكون إشارة إلى حظ الشيطان المباين كالعفريت الذى أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه اللّه منه.

وأما شق الصدر عند المبعث، فلزيادة الكرامة، وليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوى على أكمل الأحوال من التطهير.

وأما شقه عند إرادة العروج إلى السماء، فللتهيؤ للترقى إلى الملأ الأعلى، والثبوت فى المقام الأسنى، والتقوى لاستجلاء الأسماء الحسنى، ولهذا لما لم يتفق لموسى- عليه الصلاة والسلام- مثل هذا التهيؤ لم تتفق له الرؤية، وكيف يثبت الرجل لما لا يثبت له الجبل؟! ويحتمل أن تكون الحكمة فى هذا الغسل، لتقع المبالغة فى الإسباغ بحصول المرة الثالثة، كما تقرر فى شرعه- صلى اللّه عليه وسلم-. ثم إن جميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شىء من ذلك.

قال العارف ابن أبى جمرة: فيه دليل على أن قدره اللّه عز وجل لا يعجزها ممكن، ولا تتوقف لعدم شىء ولا لوجوده، وليست مربوطة بالعادة إلا حيث شاءته القدرة، لأنه ما يعهد ويعرف أن البشر مهما شق بطنه كله وانجرح القلب مات ولم يعش، وهذا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قد شق بطنه المكرمة، حتى أخرج القلب فغسل، وقد شق بطنه كذلك أيضا وهو صغير وشق قلبه

وأخرجت منه نزغة الشيطان. ومعلوم أن القلب هما وصل له الجرح مات صاحبه، وهذا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- شق بطنه فى هاتين المرتين، ولم يتألم بذلك، ولم يمت لما أن أراد اللّه تعالى أن لا يؤثر ما أجرى به العادة، أن يؤثر موت صاحبها، فأبطل تلك العادة. وقد رمى إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- فى النار فلم تحرقه، وكانت عليه بردا وسلاما. انتهى.

__________

(١) تقدم.

وقد حصل من شق صدره الكريم إكرامه- صلى اللّه عليه وسلم- بتحقيق ما أوتى من الصبر، فهو من جنس ما أكرم به إسماعيل الذبيح بتحقيق صبره على مقدمات الذبح شدّا وكتفا وتلّا للجبين، وإهواء بالمدية إلى المنحر

فقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّه مِنَ الصَّابِرِينَ (١) ، ووفى بما وعد اللّه، فأكرمه اللّه بالثناء على صبره إلى الأبد.

ولا مرية أن الذى حصل من صبر نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- على شق الصدر أشق وأجل، لأن تلك مقدمات وهذه نتيجة، وتلك معاريض وهذه حقيقة، والمنحر مقتل وما أصابه من إسماعيل إلا صورة القتل لا فعله، وشق صدر نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- واستخراج قلبه ثم شقه ثم كذا ثم كذا مقاتل عديدة وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر.

فإن قلت: إنما يتحقق الصبر لو كان هناك مشقة، فلعل العادة لما انخرقت فى إبقاء الحياة انخرقت فى رفع المشاق وحمل الآلام.

أجيب: بأنه ورد فى حديث شق صدره: فأقبل وهو منتقع اللون أو ممتقع اللون، بالميم بدل النون، وهو يدل على أن الصبر على مشقة المعاجلة المذكورة محقق.

قال القاضى عياض: وأصل (انتقع) صار كلون النقع، والنقع الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، وهذا يدل على غاية المشقة.

وأما قول ابن الجوزى: فشقه وما شق عليه، فيحمل على أنه صبر صبر من لا يشق عليه. انتهى.

وكذلك الابتلاء أيضا من حيث السن، فإن ذلك وقع لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- بعيد ما فطم، وأيضا: فإنه كان منفردا عن أمه ويتيما من أبيه، واختطف من بين الأطفال، وفعل به ما فعل من الأفعال تسهيلا لما يلقاه فى المال، وتعظيما لما يناله على الصبر من الثواب والثناء، ولهذا لما شج وجرح وكسرت رباعيته

__________

(١) سورة الصافات: ١٠٢.

قال: (اللّهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون) (١) ، زاده اللّه شرفا.

وقوله: (ثم أتيت بطست من ذهب) إنما أتى بالطست لأنه أشهر آلات الغسل عرفا.

فإن قلت: إن استعمال الذهب حرام فى شرعه- صلى اللّه عليه وسلم- فكيف استعمل الطست الذهب هنا؟

أجاب العارف ابن أبى جمرة: بأن تحريم الذهب إنما هو لأجل الاستمتاع به فى هذه الدار، وأما فى الآخرة فهو للمؤمنين خالصا، لقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (هو لهم فى الدنيا وهو لنا فى الآخرة) (٢)

قال: ثم إن الاستمتاع بهذا الطست لم يحصل منه- صلى اللّه عليه وسلم- وإنما كان غيره هو السائق له والمتناول لما كان فيه حتى وضعه فى القلب المبارك. فسوقان الطست المبارك من هناك، وكونه كان من ذهب دال على ترفيع المقام فانتفى التعارض بدليل ما قررناه.

انتهى.

وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه لا يكفى أن يقال: إن المستعمل له ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة، لأنه لو كان قد حرم عليه استعماله لنزه أن يستعمله غيره فى أمر يتعلق ببدنه المكرم. ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع فى تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب، فيلحق بأحوال الآخرة، أو لعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب فى هذه الشريعة. ويظهر هاهنا مناسبات: منها أنه من أوانى الجنة، ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب، وأنه لا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب قلبه- صلى اللّه عليه وسلم- لأنه من أوانى أحوال الجنة، ولا تأكله النار ولا التراب، وإن اللّه حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولا يلحقه الصدأ، وأنه أثقل من كل قلب عدل به، وفيه مناسبة أخرى وهى ثقل الوحى فيه. انتهى.

__________

(١) قلت: هو عند البخارى (٣٤٧٧) فى أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (١٧٩٢) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-

قال: كأنى أنظر إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يحكى نبيّا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (رب اغفر لقومى، فإنهم لا يعلمون) .

(٢) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه البخارى (٥٤٢٦) فى الأطعمة، باب: الأكل فى إناء مفضض، ومسلم (٢٠٦٧) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة، من حديث حذيفة- رضى اللّه عنه-.

قلت: قوله: (ولعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب فى هذه الشريعة) . قد جزم هو فى أول الصلاة من كتابه فتح البارى: بأن تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة.

وقال السهيلى وابن دحية: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه ولكونه عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه، فلوضاءته ونقائه وصفائه. انتهى.

والمراد بقوله: (ملئ حكمة وإيمانا) أن الطست جعل فيها شىء يحصل به كمال الإيمان والحكمة فسمى حكمة وإيمانا مجازا. ويحتمل أن يكون على حقيقته، وتجسد المعانى جائز، كما أن سورة البقرة تجىء يوم القيامة كأنها ظلة، والموت فى صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك. وقال البيضاوى: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعانى قد وقع كثيرا، كما مثلت له- صلى اللّه عليه وسلم- الجنة والنار فى عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوى بالمحسوس.

وقال العارف ابن أبى جمرة: فيه دليل على أن الإيمان والحكمة جواهر محسوسات لا معانى، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال عن الطست: إنه أتى به مملوآ إيمانا وحكمة، ولا يقع الخطاب إلا على ما يفهم ويعرف، والمعانى ليس لها أجسام حتى تملأ، وإنما يمتلئ الإناء بالأجسام والجواهر، وهذا نص من الشارع- صلى اللّه عليه وسلم- بضد ما ذهب إليه المتكلمون فى قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض.

والجمع بين الحديث وما ذهبوا إليه، هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التى ليس للحواس فيها إدراك، ولا من النبوة إخبار عن حقيقتها غير محققة، وإنما هى غلبة ظن، لأن للعقل- بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق- حدّا يقف عنده، ولا يتسلط فيما عدا ذلك، ولا يقدر أن يصل إليه، فهذا وما أشبهه منها، لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التى ذكرها الشارع- صلى اللّه عليه وسلم- فى الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل إلى هذه الحقيقة التى أخبر بها- صلى اللّه عليه وسلم-. فيكون الجمع بينهما أن يقال:

ما قاله المتكلمون حق لأنه الصادر عن الجواهر وهو الذى يدرك بالعقل.

والحقيقة ما ذكره- صلى اللّه عليه وسلم- فى الحديث.

ولهذا نظائر كثيرة بين المتكلمين وآثار النبوة، ويقع الجمع بينهما على الأسلوب الذى قررناه وما أشبهه. ثم مثل بمجىء الموت فى هيئة كبش أملح، ثم بالأذكار والتلاوة، ثم

قال: لأن ما ظهر منها هنا معان، وتوجد يوم القيامة جواهر محسوسات لأنها توزن، ولا يوزن فى الميزان إلا الجواهر.

قال: وفى ذلك دليل لأهل الصوفية وأصحاب المعاملات والتحقيق القائلين بأنهم يرون قلوبهم وقلوب إخوانهم، وإيمانهم وإيمان إخوانهم بأعين بصائرهم جواهر محسوسات، فمنهم من يعاين إيمانه مثل المصباح، ومنهم من يعاينه مثل الشمعة، ومنهم من يعاينه مثل المشعل وهو أقواها. ويقولون: بأنه لا يكون المحقق محققا حتى يعاين قلبه بعين بصيرته، كما يعاين كفه بعين بصره فيعرف الزيادة فيه من النقصان (١) .

فإن قيل: ما الحكمة فى شق صدره الشريف ثم ملئ إيمانا وحكمة، ولم لم يوجد اللّه تعالى ذلك فيه من غير أن يفعل فيه ما فعل؟

أجاب العارف ابن أبى جمرة: بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما أعطى كثرة الإيمان والحكمة وقوى التصديق إذ ذاك، أعطى برؤية شق البطن والقلب عدم الخوف من جميع العادات الجارية بالهلاك، فحصلت له- صلى اللّه عليه وسلم- قوة الإيمان من ثلاثة أوجه: بقوة التصديق، والمشاهدة، وعدم الخوف من العادات المهلكات فكمل له- صلى اللّه عليه وسلم- بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان باللّه عز وجل، وعدم الخوف مما سواه. ولأجل ما أعطيه مما أشرنا إليه كان- صلى اللّه عليه وسلم- فى العالمين أشجعهم وأثبتهم وأعلاهم حالا ومقالا.

ففى العلوى: كان- كما أخبر- صلى اللّه عليه وسلم- أن جبريل لما وصل معه إلى مقامه

قال: ها أنت وربك، وهذا مقامى لا أتعداه، فزج فيه- أى فى النور- زجة ولم يتوان ولم يتلفت، فكان هناك فى الحضرة كما أخبر عنه ربه عز وجل بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (٢) . وأماحاله- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذا العالم:

__________

(١) قلت: الإيمان عند أهل السنة والجماعة، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ويستشعر بذلك المؤمن مع نفسه.

(٢) سورة النجم: ١٧.

فكان إذا حمى الوطيس فى الحرب ركض بغلته فى نحر العدو، وهم شاكون فى سلاحهم، ويقول: أنا ابن عبد المطلب، أنا النبى لا كذب (١) . ثم إن العناية بتطهير قلبه المقدس، وإفراغ الإيمان والحكمة، فيه إشارة إلى مذهب أهل السنة فى أن محل العقل ونحوه من أسباب الإدراكات كالنظر والفكر إنما هو القلب لا الدماغ، خلافا للمعتزلة والفلاسفة.

وأما الحكمة فى غسل قلبه المقدس بماء زمزم، فقيل لأن ماء زمزم يقوى القلب ويسكن الروع. قال الحافظ الزين العراقى: ولذلك غسل به قلبه- صلى اللّه عليه وسلم- ليلة الإسراء ليقوى على رؤية الملكوت. واستدل شيخ الإسلام البلقينى، بغسل قلبه الشريف به على أنه أفضل من ماء الكوثر،

قال: لأنه لم يكن يغسل قلبه المكرم إلا بأفضل المياه، وإليه يومئ قول العارف ابن أبى جمرة فى كتابه (بهجة النفوس) .

وأما قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (فغسل صدرى) فالظاهر أن المراد به القلب، كما فى الرواية الآخرى، وقد يحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع الجمع بأن ي

قال: أخبر- صلى اللّه عليه وسلم- مرة بغسل صدره الشريف ولم يتعرض لذكر قلبه، وأخبر مرة بغسل قلبه ولم يتعرض لذكر صدره، فيكون الغسل قد حصل فيهما معا مبالغة فى تنظيف المحل المقدس. ولا شك أن المحل الشريف كان طاهرا مطهرا وقابلا لجميع ما يلقى إليه من الخير، وقد غسل أولا وهو- صلى اللّه عليه وسلم- طفل،

وأخرجت من قلبه نزعة الشيطان، وإنما كان ذلك إعظاما وتأهبا لما يلقى هناك، وقد جرت الحكمة بذلك فى غير ما موضع مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفا، لأن الوضوء فى حقه إنما هو إعظام وتأهب للوقوف بين يدى اللّه تعالى ومناجاته، فلذلك غسل جوفه الشريف هنا، وقد

قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّه فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٢) فكان الغسل له

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٢٨٦٤) فى الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره فى الحرب، ومسلم (١٧٧٦) فى الجهاد والسير، باب: فى غزوة حنين، من حديث البراء ابن عازب- رضى اللّه عنه-.

(٢) سورة الحج: ٣٢.

- صلى اللّه عليه وسلم- من تعظيم شعائر اللّه، وإشارة لأمته بالفعل بتعظيم شعائر اللّه، كما نص لهم عليه بالقول.

وأما قوله: (ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا) وفى رواية عنده فى الصلاة (ثم أخذ بيدى فعرج بى إلى السماء) . فظاهره:

أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء.

قال العارف ابن أبى جمرة: أفاد ذلك أنهم كانوا يمشون فى الهواء، وقد جرت العادة بأن البشر لا يمشى فى الهواء، سيما وقد كان راكبا على دابة من ذوات الأربع، لكن لما أن شاءت القدرة ذلك كان، فكما بسط اللّه تعالى لهم الأرض يمشون عليها، كذلك يمشون فى الهواء، كل ذلك بيد قدرته، لا ترتبط قدرته تعالى بعادة جارية. وقد سئل- صلى اللّه عليه وسلم- حين أخبر عن الأشقياء الذين يمشون على وجوههم يوم القيامة فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (الذى أمشاهم فى الدنيا على أقدامهم قادر أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم) (١) . انتهى.

وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على أن المعراج كان فى ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، لكون الإسراء إليهم لم يذكر هنا. فأما المعراج ففى غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق، بل رقى فى المعراج وهو السلم، كما وقع التصريح به فى حديث عند ابن إسحاق والبيهقى فى الدلائل كما سيأتى- إن شاء اللّه تعالى-.

ويمكن أن يقال: ما وقع هنا اختصار من الراوى، والإتيان ب (ثم) المقتضية للتراخى لا ينافى وقوع الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما:

الانطلاق والعروج. وحاصله: أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، وثابت البنانى قد حفظ الحديث. ففى روايته عند مسلم: أنه أتى بيت المقدس فصلى فيه ثم عرج إلى السماء كما سيأتى- إن شاء اللّه تعالى-. وقد قيل:

إن الحكمة فى الإسراء به راكبا، مع القدرة على طى الأرض له، إشارة إلى

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (٢٨٠٦) فى صفة القيامة، باب يحشر الكافر على وجهه، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة، فى مقام خرق العادة، لأن العادة جرت أن الملك إذا استدعى من يختص به بعث إليه بمركوب سنى يحمله عليه فى وفادته إليه.

وفى كلام بعض أهل الإشارات: لما كان- صلى اللّه عليه وسلم- ثمرة شجرة الكون ودرة صدفة الوجود، وسرّ معنى كلمة (كن) ولم يكن بد من عرض هذه الثمرة بين يدى مثمرها رفعها إلى حضرة قربه، والطواف بها على ندمان حضرته، أرسل إليه أعز خدام الملك عليه، فلما ورد عليه قادما، وافاه على فراشه نائما، فقال له قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم.

قال: يا جبريل إلى أين؟

قال: يا محمد ارفع (الأين) من البين، إنما أنا رسول القدم أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة، الكل مراد لأجلك، وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة، أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعارف، أنت بدر اللطائف، ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمى ذلك الحمى إلا لوصلك، وما روّق كأس المحبة إلا لشربك. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: يا جبريل فالكريم يدعونى إليه، فما الذى يفعل بى؟

قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر،

قال: يا جبريل هذا لى، فما لعيالى وأطفالى؟

قال: ولسوف يعطيك ربك فترضى،

قال: يا جبريل الآن طاب قلبى ها أنا ذاهب إلى ربى، ثم قال جبريل: يا محمد إنما جىء بى إليك الليلة لأكون خادم دولتك، وحاجب حاشيتك، وحامل غاشيتك، وجىء بالمركوب إليك لإظهار كرامتك، لأن من عادة الملوك إذا استزاروا حبيبا أو استودعوا قريبا وأرادوا ظهور إكرامه واحترامه أرسلوا أخص خدامهم وأعز نوابهم لنقل أقدامهم، فجئناك على رسم عادة الملوك وآداب السلوك، ومن اعتقد أنه وصل إليه بالخطا فقد وقع بالخطأ، ومن ظن أنه محجوب بالغطا فقد حرم العطا.

انتهى (١) .

والحكمة فى كون البراق دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، ولم يكن على شكل الفرس، إشارة إلى أن الركوب كان فى سلم وأمن لا فى حرب

__________

(١) قلت: ومنذ متى نأخذ ديننا من أهل الإشارات، أجهل الأمة بهذا الدين، والأولى العمل بأهل التصريحات الذين هم سلف هذه الأمة الصحابة والتابعون على هداهم إلى يوم الدين.

وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك فى العادة. وذكره بقوله: أبيض، باعتبار كونه مركوبا، أو عطفا على لفظ البراق. واختلف فى تسميته بذلك،

فقيل: من البريق، وقال القاضى عياض:

لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء، إذا كان فى خلال صوفها الأبيض طاقات سود،

وقيل: من البرق، لأنه وصف بسرعة السير، ويحتمل أن لا يكون مشتقا.

ووصفه بأنه يضع خطوه عند أقصى طرفه- بسكون الراء وبالفاء- أى يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره. وقال ابن المنير: يقطع ما انتهى إليه بصره فى خطوة واحدة،

قال: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء فى خطوة واحدة، لأن بصر الذى فى الأرض يقع على السماء، فبلغ أعلى السماوات فى سبع خطوات. انتهى.

وفى حديث ابن مسعود عند أبى يعلى والبزار- كما أفاده فى الفتح-:

إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه وإذا هبط ارتفعت يداه. وفى رواية لابن سعد عن الواقدى بأسانيده: له جناحان. قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها لغيره.

وعند الثعلبى- بسند .....- عن ابن عباس، فى صفة البراق: له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء. وفى رواية أبى سعد فى (شرف المصطفى) فكان الذى أمسك بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل.

وفى رواية معمر عن قتادة عن أنس: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أتى بالبراق ليلة أسرى به مسرجا ملجما، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا، ما ركبك خلق قط أكرم على اللّه منه،

قال: فارفض عرقا (١) .

أخرجه الترمذى و قال: حسن غريب وصححه ابن حبان.

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣١٣١) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وأحمد فى (المسند) (٣/ ١٦٤) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٤٦) .

وذكر ابن إسحاق عن قتادة: أنه لما شمس (١) وضع جبريل- عليه السّلام- يده على معرفته و

قال: أما تستحى وذكر نحوه، لكنه مرسل لأنه لم يذكر أنسا.

وفى رواية وثيمة عند ابن إسحاق: نعست حتى لصقت بالأرض فاستويت عليها. وفى رواية للنسائى وابن مردويه من طريق يزيد بن أبى مالك عن أنس نحوه موصولا، وزاد: وكانت تسخر للأنبياء قبله، ونحوه من حديث أبى سعيد عند ابن إسحاق.

وفيه دلالة على أن البراق كان معدّا لركوب الأنبياء، خلافا لمن نفى ذلك، كابن دحية، وأوّل قول جبريل: (فما ركبك أكرم على اللّه منه) أى: ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه؟ فيكون مثل قول امرىء القيس:

على لاحب لا يهتدى لمناره فيفهم أن له منارا لا يهتدى له، وليس المراد: إلا أنه لا منار له البتة فكيف يهتدى به، فتأمله: وقد جزم السهيلى بأن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهد ركوب الأنبياء قبله. وقال النووى: قال صاحب مختصر العين، وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء يركبون البراق.

قال: وهذا يحتاج إلى نقل صحيح، انتهى وقد تقدم النقل بذلك.

قال فى الفتح: ويؤيده ظاهر قوله: (فربطته بالحلقة التى كانت تربط بها الأنبياء) انتهى. فليتأمل فإنه ليس فيه فربطته بالحلقة التى كانت تربطه بها الأنبياء، وإنما

قال: تربط بها الأنبياء وسكت عن ذكر المربوط ما هو؟ فيحتمل- كما قال ابن المنير- أن يكون غير البراق، ويحتمل أن يكون ارتباط الأنبياء أنفسهم بتلك الحلقة، أى تمسكهم بها، ويكون من جنس العروة الوثقى، انتهى.

ولكن وقع التصريح بذلك فى حديث أبى سعيد عند البيهقى ولفظه:

(فأوثقت دابتى بالحلقة التى كانت الأنبياء تربطها فيها) وقد وقع عند ابن إسحاق من رواية وثيمة فى ذكر الإسراء: فاستصعب البراق وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن ركبت فى الفترة.

__________

(١) شمس الفرس: منع ظهره، فهو شامس وشموس، من شمس وشمس.

وفى مغازى ابن عائذ، من طريق الزهرى عن سعيد بن المسيب

قال: البراق هى الدابة التى كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل. وعلى هذا فلا يكون ركوب البراق من خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم-. نعم

قيل: ركوبه مسرجا ملجما لم يرد لغيره من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-.

فإن قلت: ما وجه استصعاب البراق عليه؟

أجيب: بأنه تنبيه على أنه لم يذلل قبل ذلك، إن قلنا إنه لم يركبه أحد قبله، أو لبعد العهد بركوبه إن قلنا إنه ركب قبله. ويحتمل أن يكون استصعابه تيها وزهوا بركوبه- صلى اللّه عليه وسلم

وأراد جبريل (أبمحمد تستصعب) استنطاقه بلسان الحال أنه لم يقصد الصعوبة وإنما تاه زهوا لمكان الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- منه، ولهذا

قال: فارفض عرقا، فكأنه أجاب بلسان الحال متبرئا من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب، ومثل هذا رجفة الجبل به حتى

قال: (اثبت فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان) (١) فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب. وكذلك البراق لما قال له جبريل: اسكن فما ركبك أحد أكرم على اللّه منه استقر وخجل من ظاهر الاستصعاب وتوجه الخطاب فعرق حتى غرق.

ووقع فى حديث حذيفة عند الإمام أحمد

قال: أتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالبراق فلم يزل على ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس. وهذا لم يسنده حذيفة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فيحتمل أنه قاله عن اجتهاد، ويحتمل أن يكون قوله: (هو وجبريل) متعلقا بمرافقته فى السير، لا فى الركوب. وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق أو دليل،

قال: وإنما جزمنا بذلك لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فلا مدخل لغيره فيها.

وقد تعقب الحافظ ابن حجر التأويل المذكور: بأن فى صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود: أن جبريل حمله على البراق رديفا له، وفى رواية الحارث فى مسنده: أتى بالبراق فركبه خلف جبريلفسار بهما. فهذا صريح فى ركوبه معه، واللّه أعلم، انتهى.

__________

(١) صحيح: وقد تقدم.

وقد وقع فى غير هذه الرواية بيان ما رآه فى ليلة الإسراء، فمن ذلك:

ما وقع فى حديث شداد بن أوس- عند البزار والطبرانى، وصححه البيهقى فى الدلائل- أنه أول ما أسرى به مرّ بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزل فصل، فصلى، ف

قال: صليت بيثرب، ثم مر بأرض بيضاء ف

قال: انزل فصل، فصلى، ف

قال: صليت بمدين، ثم مر ببيت لحم ف

قال: انزل فصل، فنزل فصلى، فقال صليت حيث ولد عيسى (١) .

وفى حديث أنس عند البيهقى فى الدلائل (٢) : لما جاء جبريل بالبراق إليه- صلى اللّه عليه وسلم- فكأنها أصرت أذنيها، فقال لها جبريل: مه يا براق، فو اللّه ما ركبك مثله، فسار رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- فإذا هو بعجوز على جنب الطريق،

فقال: (ما هذا يا جبريل؟)

قال: سر يا محمد، فسار ما شاء اللّه أن يسير، فإذا هو بشيخ يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، فقال له جبريل: سر، وأنه مرّ بجماعة فسلموا عليه فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: اردد عليهم السلام، فرد، الحديث. وفى آخره فقال له جبريل: أما العجوز التى رأيت على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا ما بقى من عمر تلك العجوز، والذى دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، أما لو أجبتهما لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام-، قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: فى ألفاظه نكارة وغرابة.

وفى حديث: أنه مر بموسى- عليه السّلام-، وهو يصلى فى قبره (٣) . قال أنس: ذكر كلمة ف

قال: أشهد أنك رسول اللّه. ولا مانع أن الأنبياء- عليهم السلام- يصلون فى قبورهم لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فهم يتعبدون بما يجدون من دواعى أنفسهم، لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر.

وستأتى الإشارة إليه فى حجة الوداع- إن شاء اللّه تعالى-.

__________

(١) أخرجه الطبرانى فى الكبير (٧/ ٣٣٩) ، والبيهقى فى (دلائل النبوة) (٢/ ٣٥٥) .

(٢) (٢/ ٣٦٢) .

(٣) صحيح: وقد تقدم قريبا.

وفى حديث أبى هريرة عند الطبرانى والبزار: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- مرّ على قوم يزرعون ويحصدون فى كل يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل- عليه السّلام-: ما هذا؟ ف

قال: هؤلاء المجاهدون فى سبيل اللّه تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شىء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين، ثم مرّ على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شىء، ف

قال: ما هذا يا جبريل؟

قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة، ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، يأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم، ف

قال: ما هؤلاء يا جبريل؟

قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم اللّه وما ربك بظلام للعبيد. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج فى قدر، ولحم آخر نىء فى قدر خبيث، فجعلوا يأكلون النىء الخبيث، ويدعون النضيج، ف

قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال جبريل: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتى امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتى رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، ف

قال: ما هذا يا جبريل؟

قال: هذا الرجل من أمتك تكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يريد أن يحمل عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شىء،

قال: ما هذا يا جبريل؟

قال: هؤلاء خطباء الفتنة،

قال: ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، ف

قال: ما هذا يا جبريل؟

قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها، ثم أتى على واد فوجد فيه ريحا طيبة باردة، وريح مسك، وسمع صوتا، ف

قال: ما هذا يا جبريل؟

قال: هذا صوت الجنة، تقول: رب آتنى بما وعدتنى. فقد كثرت غرفى وإستبرقى وحريرى وسندسى وعبقريى ولؤلؤى ومرجانى وفضى وذهبى، وأكوابى وصحافى وأباريقى، ومراكبى، وعسلى ومائى ولبنى وخمرى، فائتنى بما وعدتنى،

فقال: لك كل مسلم

ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بى وبرسلى وعمل صالحا، ولم يشرك بى شيئا، ولم يتخذ من دونى أندادا، ومن خشينى فهو آمن، ومن سألنى أعطيته، ومن أقرضنى أجزيته، ومن توكل على كفيته، إننى أنا اللّه، لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، قد أفلح المؤمنون، وتبارك اللّه أحسن الخالقين،

قالت: رضيت، ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا، ووجد ريحا منتنة

فقال: ما هذا يا جبريل؟

قال: هذا صوت جهنم، تقول: رب آتنى ما وعدتنى، فقد كثرت سلاسلى وأغلالى وسعيرى وحميمى وفساقى وعذابى، وقد بعد قعرى واشتد حرى، فائتنى بما وعدتنى،

قال: لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة، وكل جبار عنيد لا يؤمن بيوم الحساب،

قالت: رضيت.

قال: فسار حتى أتى بيت المقدس.

وفى رواية أبى سعيد عند البيهقى: دعانى داع عن يمينى: انظرنى أسألك، فلم أجبه، ثم دعانى آخر عن يسارى كذلك فلم أجبه، وفيه: إذا امرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها اللّه تعالى

فقالت: يا محمد انظرنى أسألك، فلم ألتفت إليها، وفيه أن جبريل قال له: أما الداعى الأول فهو داعى اليهود، ولو أجبته لتهودت أمتك. وأما الثانى فداعى النصارى، ولو أجبته لتنصرت أمتك،وأما المرأة فالدنيا. وفيه: أنه صعد إلى السماء الدنيا ورأى فيها آدم، وأنه رأى أخونه عليها لحم طيب ليس عليها أحد. وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون، قال جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام، وفيه: أنه مرّ بقوم بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خرّ، وأن جبريل قال له: هم أكلة الربا، وأنه مرّ بقوم مشافرهم كالإبل، يلتقمون حجرا، فيخرج من أسافلهم، وأن جبريل

قال: إن هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، وأنه مرّ بنساء تعلقن بثديهن وأنهن الزوانى، وأنه مرّ بقوم يقطع من جنوبهم اللحم فيطعمون وأنهم الغمازون (١) اللمازون (٢) .

__________

(١) الغمز: الإشارة بالعين والحاجب والجفن.

(٢) اللمز: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها.

وفى حديث أبى هريرة- عند البزار والحاكم- أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنه أتى هناك بأرواح الأنبياء فأثنوا على اللّه. وفيه قول إبراهيم: لقد فضلكم محمد.

وفى رواية عبد الرحمن بن هشام عن أنس: ثم بعث له آدم فمن دونه فأمهم تلك الليلة. وفى حديث أم هانئ عند أبى يعلى: ونشر لى رهط من الأنبياء، منهم إبراهيم وموسى وعيسى. وفى رواية أبى سلمة ثم حانت الصلاة فأممتهم (١) . أخرجه مسلم. وفى حديث أبى أمامة عند الطبرانى فى الأوسط: ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدا- صلى اللّه عليه وسلم-.

* وفى رواية ثابت البنانى عن أنس عند مسلم

قال: فربطته، يعنى البراق، بالحلقة- وهى بإسكان اللام على الأشهر- التى تربط به الأنبياء- بضمير المذكر، إعادة على معنى الحلقة وهو الشىء، والمراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، قاله صاحب التحرير- قال- صلى اللّه عليه وسلم-: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءنى جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة (٢) . أىاخترت اللبن الذى عليه بنيت الخلقة، وبه نبت اللحم ونشز العظم، أو اخترته لأنه الحلال الدائم فى دين الإسلام بخلاف الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر.

وقال النووى: المراد بالفطرة هنا، الإسلام والاستقامة،

قال: ومعناه- واللّه أعلم-: اخترت علامة الإسلام والاستقامة،

قال: وجعل اللبن علامة لكونه سهلا طيبا طاهرا سائغا للشاربين، سليم العاقبة، أما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة لأنواع الشر فى الحال والمال، انتهى. وقال القرطبى: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لكونه أول شىء يدخل جوف المولود، ويشق أمعاءه، والسر فى ميل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إليه دون غيره لكونه مألوفا له أولا،

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٧٢) فى الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٦٢) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى السماوات، وفرض الصلوات.

انتهى. وإذا كانت الخمر مباحة- لأنها إنما حرمت بالمدينة والإسراء كان بمكة- فما وجه تعيينه- صلى اللّه عليه وسلم- لأحد المباحين، وما وجه عد ذلك صوابا، وعد الآخر خطأ، وهما سواء فى الإباحة؟

فيحتمل أن يكون توقاها تورعا وتعريضا بأنها ستحرم، وأنه لما وافق الصواب فى علم اللّه تعالى قال له جبريل، أصبت الفطرة، أو أصبت أصاب اللّه بك، كما روى. وإذا قلنا: بأنها كانت من خمر الجنة فيكون سبب تجنبها صورتها ومضاهاة الخمر المحرمة، أى فى علم اللّه تعالى، وذلك أبلغ فى الورع. ويستفاد منه: أن من اتخذ من ماء الرمان أو غيره، ولو ماء قراحا، وضاهى به الخمر فى الصورة وهيأه بالهيئة التى يتعاطاها أهل الشهوات من الاجتماعات والآلات فقد أتى منكرا، وإن كان لا يحد عليها. قاله ابن المنير.

وينظر فيما يعمله كثير من فقراء اليمن وغيرهم بمكة المشرفة وجدة وغيرهما من ماء قشر البن ويسمونه بالقهوة، وهى اسم من أسماء الخمر.

وفى حديث ابن عباس- عند أحمد-: فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلى، فلما انصرف جىء بقدحين فى أحدهما لبن، وفى الآخر عسل، فأخذ اللبن. وفى رواية البزار: بثلاثة أوانى، وأن الثالث كان خمرا، وأن ذلك وقع ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل. وفى حديث شداد بن أوس: فصليت من المسجد حيث شاء اللّه، وأخذنى من العطش أشد ما أخذنى، فأتيت بإناءينأحدهما لبن والآخر عسل، ثم هدانى اللّه تعالى فأخذت اللبن. فقال شيخ بين يدى- يعنى لجبريل-: أخذ صاحبك الفطرة.

وقد كان إتيانه بالأوانى مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. وممن صرح بأنه كان مرتين الحافظ عماد الدين بن كثير، وعلى هذا فيكون تكرار جبريل- عليه السّلام- للتصويب حيث اختار اللبن تأكيدا للتحذير مما سواه.

وقد أنكر حذيفة ربط البراق بالحلقة، فروى أحمد والترمذى من حديث حذيفة

قال: يحدثون أنه ربطه، أخاف أن يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة؟ وكذا أنكر حذيفة أيضا صلاته- صلى اللّه عليه وسلم- ببيت المقدس (١) .

وتعقبه البيهقى وابن كثير: بأن المثبت مقدم على النافى، يعنى من أثبت ربط البراق والصلاة فى بيت المقدس معه زيادة علم على من نفى، فهو أولى بالقبول.