Geri

   

 

 

İleri

 

 ٤-٥ القسم الأول: ما اختص به- صلى اللّه عليه وسلم- من الواجبات والحكمة

فى ذلك زيادة الزلفى والدرجات، فإنه لن يتقرب المتقربون إلى اللّه تعالى بمثل أداء ما افترض عليهم. قال بعضهم: خص اللّه تعالى نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- بواجبات عليه لعلمه بأنه أقوم بها منهم، وقيل ليجعل أجره بها أعظم.

* فاختص- صلى اللّه عليه وسلم- بوجوب الضحى على المذهب

، لكن قول عائشة فى الصحيح: (ما رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يسبح سبحة الضحى) (١) يدل على ضعف أنها كانت واجبة عليه. قال الحافظ ابن حجر: ولم يثبت ذلك فى خبر صحيح. انتهى. وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء اللّه تعالى- فى ذكر صلاة الضحى فى مقصد عباداته- صلى اللّه عليه وسلم-. وهل كان الواجب عليه أقل الضحى أو أكثرها، أو أدنى الكمال؟ قال الحجازى: لا نقل فيه، لكن فى مسند أحمد: (أمرت بركعتى الضحى ولم تؤمروا بهما) (٢) .

* ومنها الوتر وركعتا الفجر

، كما رواه الحاكم فى المستدرك وغيره، ولفظ أحمد والطبرانى: (ثلاث على فريضة وهن لكم تطوع، الوتر وركعتا

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (١١٢٨) فى التهجد، باب: تحريض النبى- صلى اللّه عليه وسلم- على صلاة الليل والنوافل من غيره إيجاب، ومسلم (٧١٨) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى.

(٢) أخرجه أحمد فى (المسند) (١/ ٢٣٢ و ٣١٧) ، والبيهقى فى (السنن الكبرى) (٩/ ٢٦٤) ، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

الفجر وركعتا الضحى) (١) . قال بعضهم: وقد ثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى الوتر على الراحلة.

قال: ولو كان واجبا لما جاز فعله على الراحلة. وتعقب: بأن فعله على الراحلة من الخصائص أيضا كما سيأتى فيما اختص به- صلى اللّه عليه وسلم- من المباحات، - إن شاء اللّه تعالى-. وأجيب بأنه يحتاج إلى دليل. وهل كان الواجب عليه أقل الوتر أم أكثره؟ أم أدنى الكمال؟ قال الحجازى: لم أر فيه نقلا.

* ومنها صلاة الليل

قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ (٢) .

أى فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة، أو فضيلة لك لاختصاص وجوبه بك، وهذا ما صححه الرافعى ونقله النووى عن الجمهور، ثم

قال: وحكى الشيخ أبو حامد أن الشافعى نص على أنه نسخ وجوبه فى حقه، كما نسخ فى حق غيره.

* ومنها السواك

واستدلوا له بما رواه أبو داود من حديث عبد اللّه بن أبى حنظلة بن أبى عامر أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق عليه ذلك أمر بالسواك لكل صلاة (٣) . وفى إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس.

وحجة من لم يجعله واجبا عليه، ما رواه ابن ماجه فى سننه من حديث أبى أمامة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (ما جاءنى جبريل إلا أوصانى بالسواك

__________

(١) أخرجه أحمد فى (المسند) (١/ ٢٣١) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٤٤١) من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٦٤) وقال: رواه أحمد بأسانيد والبزار بنحوه والطبرانى فى الكبير والأوسط وفى إسناد أحمد أبو خباب الكلبى وهو مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح، وفى بقية أسانيدها جابر الجعفى، وهو ...... اه

(٢) سورة الإسراء: ٧٩.

(٣) حسن أخرجه أبو داود (٤٨) فى الطهارة، باب: السواك، والدارمى فى (سننه) (٦٥٨) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٢٥٨) ، والحديث أصله فى الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهنى.

حتى خشيت أن يفرض على وعلى أمتى) (١) ، وإسناده ...... وروى أحمد فى مسنده من حديث واثلة بن الأسقع

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب على) (٢) ، وإسناده حسن. والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح، قاله فى شرح تقريب الأسانيد.

* ومنها الأضحية

قال اللّه تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٣) ، وروى الدارقطنى والحاكم عن ابن عباس أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (ثلاث هن على فرائض، وهن لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر) (٤) .

* ومنها المشاورة

قال اللّه تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (٥) . فظاهره الإيجاب، ويقال إنه استحباب، استمالة للقلوب، ومعناه: استخراج آرائهم، ونقل البيهقى فى (معرفة السنن والآثار) عن النص: أن المشورة غير واجبة عليه، كما نبه عليه الحجازى وغيره.

واختلف فى المعنى الذى لأجله أمر اللّه تعالى نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه وتتابع الوحى عليه، ووجوب طاعته على أمته.

فقال بعضهم: هو خاص فى المعنى، وإن كان عاما فى اللفظ، أى: وشاورهم فيما ليس عندك من اللّه فيه عهد، يدل عليه قراءة ابن عباس: وشاورهم فى بعض الأمر. وقال الكلبى: يعنى ناظرهم فى لقاء العدو، ومكائد الحرب عند الغزو.

وقال قتادة ومقاتل: كانت سادات العرب إذا لم تشاور فى الأمر شق عليهم، فأمر اللّه تعالى نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- أن يشاورهم، فإن ذلك أعطف لهم

__________

(١) أخرجه ابن ماجه (٢٨٩) فى الطهارة، باب: السواك.

(٢) أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ٤٩٠) ، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٢/ ٦٨) و

قال: رواه أحمد والطبرانى فى الكبير، وفيه ليث بن أبى سليم، وهو ثقة وقد عنعنه.

(٣) سورة الكوثر: ٢.

(٤) وقد تقدم.

(٥) سورة آل عمران: ١٥٩.

وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم. وقال الحسن: قد علم اللّه أن ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده. وحكى القاضى أبو يعلى، فى الذى أمر بالمشاورة فيه قولين:

أحدهما: فى أمر الدنيا خاصة،

والثانى: فى الدين والدنيا وهو الأصح، قاله المعافى بن زكريا فى تفسيره.

والحكمة فى المشاورة فى الدين التنبيه لهم على علل الأحكام، وطريق الاجتهاد.

وأخرج ابن عدى والبيهقى فى الشعب عن ابن عباس

قال: لما نزلت وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أما إن اللّه ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها اللّه رحمة لأمتى) (١) .

وعند الترمذى الحكيم من حديث عائشة، رفعته: (إن اللّه أمرنى بمداراة الناس، كما أمرنى بإقامة الفرائض) (٢) .

* ومنها مصابرة العدو

وإن كثر عددهم.

* ومنها تغيير المنكر إذا رآه

لكن قد يقال: كل مكلف تمكن من تغييره يلزمه، في

قال: المراد أنه لا يسقط عنه- صلى اللّه عليه وسلم- بالخوف بخلاف غيره.

* ومنها قضاء دين من مات مسلما معسرا

روى مسلم حديث: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى وعليه دين فعلى قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته) (٣) .

قال النووى: كان هذا القضاء واجبا عليه- صلى اللّه عليه وسلم

وقيل: تبرع منه، والخلاف وجهان لأصحابنا وغيرهم،

قال: ومعنى الحديث: أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (أنا قائم بمصالحكم فى حياة أحدكم أو موته، أنا وليه فى الحالين، فإن كان

__________

(١) ذكره السيوطى فى (الدر المنثور) (٢/ ٣٥٩) وعزاه لابن عدى والبيهقى فى الشعب.

(٢) أخرجه الحكيم الترمذى وابن عدى بسند فيه متروك، قاله السيوطى فى (الدر المنثور) (٢/ ٣٥٨) .

(٣) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٢٢٩٧) فى الحوالة، باب: من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع، ومسلم (١٦١٩) فى الفرائض، باب: من ترك مالا فلورثته، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

عليه دين قضيته من عندى إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فلورثته، لا آخذ منه شيئا، وإن خلف عيالا محتاجين ضائعين فليأتوا إلى فعلى نفقتهم ومؤنتهم) . انتهى.

وفى وجوب قضائه على الإمام من مال المصالح وجهان، لكن قال الإمام: من استدان وبقى معسرا إلى أن مات لم يقض دينه من بيت المال، فإن كان ظلم بالمطل ففيه احتمال، والأولى: لا، واللّه أعلم.

* ومنها تخيير نسائه- صلى اللّه عليه وسلم- فى فراقه

وإمساكهن بعد أن اخترنه فى أحد الوجهين، وترك التزوج عليهن والتبدل بهن مكافأة لهن، ثم نسخ ذلك، لتكون المنة له- صلى اللّه عليه وسلم- عليهن،

قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها (١) . الآية.

واختلف فى تخييره لهن على قولين،

أحدهما: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن، واختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن فى الطلاق، وهذا هو قول الحسن وقتادة،

والثانى: أنه خيرهن بين الطلاق والمقام معه، وهذا قول عائشة ومجاهد والشعبى ومقاتل.

[سبب تخييره ص نساءه]

واختلفوا فى السبب الذى لأجله خير- صلى اللّه عليه وسلم- نساءه على أقوال.

أحدها: أن اللّه تعالى خيره بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة على الدنيا، فاختار الآخرة

و قال: ( اللّهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين) (٢) ، فلما اختار ذلك أمره اللّه تعالى بتخيير نسائه ليكن على مثل اختياره. حكاه أبو القاسم النميرى.

الثانى: لأنهن تغايرن عليه.

__________

(١) سورة الأحزاب: ٢٨.

(٢) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (٢٣٥٢) فى الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-،

وأخرجه ابن ماجه (٤١٢٦) فى الزهد، باب: مجالسة الفقراء، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

والثالث: لأن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع،

فكان أولهن أم سلمة سألته سترا معلما، وسألته ميمونة حلة يمانية، وسألته زينب ثوبا مخططا وهو البرد اليمانى، وسألته أم حبيبة ثوبا سحوليّا، وسألته كل واحدة شيئا إلا عائشة. حكاه النقاش.

والرابع: أن أزواجه- صلى اللّه عليه وسلم- اجتمعن يوما فقلن: نريد ما تريد النساء من الحلى

فأنزل اللّه تعالى آية التخيير، حكاه النقاش أيضا. وذلك أنه لما نصر اللّه تعالى رسوله وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود، وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول اللّه، بنات كسرى وقيصر فى الحلى والحلل، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق. وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره اللّه أن يتلو عليهن ما نزل فى أمرهن لئلا يكون لأحد منهن عليه منة فى الصبر على ما اختاره من خشونة العيش.

فلما اخترنه وصبرن معه عوضهن اللّه على صبرهن بأمرين:

أحدهما، أن جعلهن أمهات المؤمنين تعظيما لحقهن وتأكيدا لحرمتهن، وتفضيلهن على سائر النساء بقوله: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ (١) ،

والثانى: أن حرم اللّه عليه طلاقهن والاستبدال بهن

فقال تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ (٢) . الآية. فكان تحريم طلاقهن مستداما، وأما تحريم التزوج عليهن فنسخ، قالت عائشة: ما مات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى أحل اللّه له النساء، يعنى اللاتى حرمن عليه،

وقيل: الناسخ لتحريمهن

قوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ (٣) . الآية.

وقال النووى فى الروضة: لما خيرهن فاخترنه كافأهن على حسن صنيعهن بالجنة ف

قال: فَإِنَّ اللّه أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٤) .

انتهى.

__________

(١) سورة الأحزاب: ٣٢.

(٢) سورة الأحزاب: ٥٢.

(٣) سورة الأحزاب: ٥٠.

(٤) سورة الأحزاب: ٢٩.

وإنما اختص- صلى اللّه عليه وسلم- بوجوب التخيير لنسائه بين التسريح والإمساك، لأن الجمع بين عدد منهن يوغر صدورهن بالغيرة التى هى من أعظم الآلام، وهو إيذاء يكاد ينفر القلب ويوهن الاعتقاد، وكذا إلزامهن على الصبر والفقر يؤذيهن، ومهما ألقى زمام الأمر إليهن خرج عن أن يكون ضررا، فنزه عن ذلك منصبه العالى. وقيل له: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ (١) .

منها: إتمام كل تطوع شرع فيه

حكاه فى الروضة وأصلها، قال النووى: وهو ...... وفرعه بعض الأصحاب: على أنه كان يحرم عليه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يلقى العدو ويقاتل. ذكره فى تهذيب الأسماء واللغات.

منها: أنه كان يلزمه- صلى اللّه عليه وسلم- أداء فرض الصلاة بلا خلل

قاله الماوردى: قال العراقى فى شرح المهذب: إنه كان معصوما عن نقص الفرائض. انتهى، والمراد خلل لا يبطل الصلاة.

وقال بعضهم: كان يجب عليه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا رأى ما يعجبه أن يقول: (لبيك إن العيش عيش الآخرة) (٢) ثم

قال: هذه كلمة صدرت منه- صلى اللّه عليه وسلم- فى أنعم حالة، وهو يوم حجه بعرفة، وفى أشد حالة، وهو يوم الخندق، انتهى.

* ومنها: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يؤخذ عن الدنيا حالة الوحى

ولا يسقط عنه الصوم والصلاة وسائر الأحكام، كما ذكره فى زوائد الروضة عن ابن القاص والقفال، وكذا ذكره ابن سبع.

* ومنها: أنه كان- صلى اللّه عليه وسلم- يغان على قلبه فيستغفر اللّه سبعين مرة.

ذكره ابن القاص ونقله ابن الملقن فى الخصائص، ورواه مسلم وأبو داود من حديث الأغر المزنى بلفظ: (إنه ليغان على قلبى وإنّى لأستغفر اللّه فى اليوم

__________

(١) سورة الأحزاب: ٢٨.

(٢) أخرجه البيهقى فى (السنن الكبرى) (٧/ ٤٨) من مجاهد مرسلا.

مائة مرة) (١) هذا لفظ مسلم، وقال أبو داود (فى كل يوم) ، قال الشيخ ولى الدين بن العراقى: والظاهر أن الجملة الثانية مرتبة على الأولى، وأن سبب الاستغفار: الغين، ويدل لذلك قوله فى رواية النسائى فى عمل اليوم والليلة:

إنه ليغان على قلبى حتى أستغفر اللّه كل يوم مائة مرة، وفى رواية له أيضا:

فأستغفر اللّه. وألفاظ الحديث يفسر بعضها بعضا. ويحتمل من حيث اللفظ أن تكون الجملة الثانية كلاما برأسه غير متعلق بما قبله، فيكون- صلى اللّه عليه وسلم- أخبر بأنه يغان على قلبه، وبأنه يستغفر اللّه فى اليوم مائة مرة، انتهى.

وقال أبو عبيد: أصل الغين فى هذا، ما يغشى القلب ويغطيه، وأصله:

من غين السماء، وهو إطباق الغيم عليها. وقال غيره: الغين يغشى القلب ولا يغطيه كل التغطية، كالغيم الرقيق الذى يعرض فى الهواء فلا يمنع ضوء الشمس.

قال القاضى عياض- بعد حكايته ذلك-: فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه وفترات نفسه وسهوها عن مداومة الذكر ومشاهدة الحق بما كان- صلى اللّه عليه وسلم- دفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة ومعاناة الأهل، ومقاومة الولى والعدو، ومصلحة النفس، وما كلفه من أعباء أداء الرسالة وحمل الأمانة، وهو فى كل هذا فى طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لما كان- صلى اللّه عليه وسلم- أرفع الخلق عند اللّه مكانة وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حاله عند خلوص قلبه وخلو همته، وتفرده بربه وإقباله بكليته عليه، ومقامه هناك أرفع حاليه، رأى- صلى اللّه عليه وسلم- حال فترته عنها، وشغله بسواها غضا على حاله، وخفضا من رفيع مقامه، فاستغفر اللّه من ذلك،

قال: وهذا أولى وجوه الحديث وأشهرها، وإلى معنى ما أشرنا إليه مال كثير من الناس، وحام حوله فقارب ولم يرد، وقد قربنا غامض معناه، وكشفنا للمستفيد محياه، وهو مبنى على جواز الفترة والغفلات والسهو فى غير طريق البلاغ، انتهى.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧٠٢) فى الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه، وأبو داود (١٥١٥) فى الصلاة، باب: فى الاستغفار.

وتعقب: بأنه لا ترضى نسبته- صلى اللّه عليه وسلم- إلى ذلك، لما يلزم عليه من تفضيل الملائكة بعدم الفترة عن التسبيح والمشاهدة، ولقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لست أنسى ولكن أنسى لأسنّ) (١) فهذه ليست فترة وإنما هى لحكمة مقصودة يثبت بها حكم شرعى، فالأولى أن يحمل على ما جعله علة فيه، وهو ما دفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، وحمل كل أعباء النبوة وحمل أثقالها. انتهى.

وقيل: الغين شىء يعترى القلب مما يقع من حديث النفس، قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: وهذا أشار إليه الرافعى فى أماليه، و

قال: إن والده كان يقرره.

وقيل: كانت حالة يطلع فيها على أحوال أمته فيستغفر لهم.

وقيل: هو السكينة التى تغشى قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية للّه تعالى، والشكر لما أولاه.

وقال شيخ الإسلام ابن العراقى أيضا: هذه الجملة حالية، أخبر- صلى اللّه عليه وسلم- أنه يغان على قلبه مع أن حاله الاستغفار فى اليوم مائة مرة، وهى حال مقدرة، لأن الغين ليس موجودا فى حال الاستغفار، بل إذا جاء الاستغفار أذهب ذلك الغين.

قال: وعلى تقدير تعلق إحدى الجملتين بالآخرى، وأن الثانية مسببة عن الأولى، فيحتمل أن يكون هذا الغين تغطية للقلب عن أمور الدنيا، وحجابا بينه وبينها، فينجمع القلب حينئذ على اللّه تعالى ويتفرغ للاستغفار شكرا وملازمة للعبودية،

قال: وهذا معنى ما قاله القاضى عياض، انتهى ومراده قوله فى (الشفاء) : وقد يحتمل أن تكون هذه الإغانة حالة خشية وإعظام تغشى قلبه فيستغفر حينئذ شكرا للّه تعالى، وملازمة لعبوديته إلى آخر كلامه.

قال الشيخ ابن العراقى: وهو عندى كلام حسن جدّا، وتكون الجملة

__________

(١) أخرجه مالك فى (الموطأ) (١/ ١٠٠) بلاغا، وهو أحد الأحاديث الأربعة التى قال عنها ابن عبد البر فى (التمهيد) التى لا يوجد فى غيره مسندة ولا مرسلة، انظر (التمهيد) لابن عبد البر (٢٤/ ٣٧٥) .

الثانية مسببة عن الأولى، لا بمعنى أنه يسعى بالاستغفار فى إزالة الغين، بل بمعنى أن الغين أصل محمود، وهو الذى تسبب عنه الاستغفار، وترتب عليه، وهذا أنزه الأقوال وأحسنها لأن الغين حينئذ وصف محمود وهو الذى نشأ عنه الاستغفار، وعلى الأول يكون (الغين) مما يسعى فى إزالته بالاستغفار، وما ترتب الإشكال وجاء السؤال إلا على تفسير الغين بذلك، وأهل اللغة إنما فسروا الغين بالغشاء، فنحمله على غشاء يليق بحاله- صلى اللّه عليه وسلم-، وهو الغشاء الذى يصرف القلب ويحجبه عن أمور الدنيا، لا سيما وقد رتب على الغشاء أمرا محمودا وهو الاستغفار، فما نشأ هذا الأمر الحسن إلا عن أمر حسن، انتهى.

وذكر الشيخ تاج الدين بن عطاء اللّه فى كتابه (لطائف المنن) أن الشيخ أبا الحسن الشاذلى

قال: رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى النوم فسألته عن هذا الحديث (إنه ليغان على قلبى) فقال لى: (يا مبارك: ذلك غين الأنوار، لا غين الأغيار) (١) .