٤-٢ [وجوه إعجاز القرآن الكريم]واعلم أن وجوه إعجاز القرآن لا تنحصر، لكن قال بعضهم: قد اختلف العلماء فى إعجازه على ستة أوجه: * أحدها: أن وجه إعجازه هو الإيجاز والبلاغة، مثل قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (١) فجمع فى كلمتين عدد حروفهما عشرة أحرف معانى كلام كثير. وحكى أبو عبيد: أن أعرابيّا سمع رجلا يقرأ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ (٢) فسجد و قال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. وسمع آخر رجلا يقرأ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (٣) قال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وحكى الأصمعى: أنه رأى جارية خماسية أو سداسية وهى تقول: أستغفر اللّه من ذنوبى كلها، فقلت لها: مم تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت: أستغفر اللّه لذنبى كله ... قتلت إنسانا بغير حله مثل غزال ناعم فى دله ... انتصف الليل ولم أصله فقلت لها: قاتلك اللّه ما أفصحك، فقالت: أو تعد هذا فصاحة بعد قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٤) فجمع فى آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. وحكى أن عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- كان يوما نائما فى المسجد، فإذا هو برجل قائم على رأسه، يتشهد شهادة الحق، فأعلمه أنه من بطارقة الروم، ممن __________ (١) سورة البقرة: ١٧٩. (٢) سورة الحجر: ٩٤. (٣) سورة يوسف: ٨٠. (٤) سورة القصص: ٧. يحسن كلام العرب وغيرها، وأنه سمع رجلا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم فتأملتها فإذا قد جمع اللّه فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة. وهى قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّه وَيَتَّقْهِ (١) الآية. وقد رام قوم من أهل الزيغ والإلحاد، أوتوا طرفا من البلاغة، وحظّا من البيان، أن يضعوا شيئا يلبسون به، فلما وجدوه مكان النجم من يد المتناول، مالوا إلى السور القصار، كسورة الكوثر والنصر وأشباههما، لوقوع الشبهة على الجهال فيما قل عدد حروفه، لأن العجز إنما يقع فى التأليف والاتصال. وممن رام ذلك من العرب فى التشبث بالسور القصار، مسيلمة الكذاب فقال: يا ضفدع نقى كم تنقين، أعلاك فى الماء وأسفلك فى الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين. فلما سمع أبو بكر- رضى اللّه عنه- هذا قال: إنه كلام لم يخرج من إل. قال ابن الأثير: أى من ربوبية، و (الإل) بالكسر هو اللّه تعالى. وقيل: الإل الأصل الجيد، أى لم يجئ من الأصل الذى جاء منه القرآن. ولما سمع مسيلمة الكذاب- لعنه اللّه- و (النازعات) قال: والزارعات زرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والحافرات حفرا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، لقد فضلتم على أهل الوبر وما سبقكم أهل المدر. إلى غير ذلك من الهذيان، مما ذكرت فى الوفود من المقصد الثانى بعضه واللّه أعلم. وقال آخر: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى، من بين شراسيف (٢) وأحشى وقال آخر: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، ومشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل. __________ (١) سورة النور: ٥٢. (٢) الشرسوف: غضروف على طرف كل ضلع. ففى هذا الكلام مع قلة حروفه من السخافة ما لا خفاء به على من لا يعلم، فضلا عمن يعلم. والثانى: أن إعجازه هو الوصف الذى صار به خارجا عن جنس كلام العربمن النظم والنثر والخطب والشعر والرجز والسجع، فلا يدخل فى شىء منها ولا يختلط بها مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة فى نظمهم ونثرهم، ولذلك تحيرت عقولهم، وتدلهت (١) أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله فى حسن كلامهم، فلا ريب أنه فى فصاحته قد قرع القلوب ببديع نظمه، وفى بلاغته قد أصاب المعانى بصائب سهمه، فإنه حجة اللّه الواضحة، ومحجته اللائحة، ودليله القاهر، وبرهانه الباهر، ما رام معارضته شقى إلا تهافت تهافت الفراش فى الشهاب، وذل ذل النقد حول الليوث الغضاب. وقد حكى عن غير واحد ممن عارضه أنه اعترته روعة وهيبة كفته عن ذلك، كما حكى عن يحيى بن حكيم الغزال- بتخفيف الزاى وقد تشدد- وكان بليغ الأندلس فى زمانه أنه قد رام شيئا من هذا، فنظر فى سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج بزعمه على منوالها، فاعترته خشية ورقة، حملته على التوبة والإنابة. وحكى أيضا أن ابن المقفع- وكان أفصح أهل وقته- طلب ذلك ورامه، ونظم كلاما وجعله مفصلا، وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبى يقرأ فى مكتب قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ... (٢) الآية، فرجع ومحى ما عمل و قال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا، وما هو من كلام البشر. وللّه در العارف سيدى محمد وفا حيث قال، يعنى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- والقرآن المعظم: __________ (١) دله فلان: أى حيره وأدهشه. (٢) سورة هود: ٤٤. له آية الفرقان فى عين جمعه ... جوامع آيات بها اتضح الرشد حديث نزيه عن حدوث منزه ... قديم صفات الذات ليس له ضد بلاغ بليغ للبلاغة معجز ... له معجزات لا يعد لها عد تحلت بروح الوحى حلة نسجه ... عقود اعتقاد لا يحل لها عقد وغاية أرباب البلاغة عجزهم ... لديه وإن كانوا هم الألسن اللد فأفاكهم بالإفك أعياه غيه ... تصدى وللأسماع عن غيه صد قلى اللّه أقوالا يهاجر هجرها ... هوانا بها الورهاء والبهم البلد (١) تلاها فتلّ الفحش فى القبح وجهها ... وعن ريبها الألباب نزهها الزهد لقد فرق الفرقان شمل فريقه ... بجمع رسول اللّه واستعلن الرشد أتى بالهدى صلى عليه إلهه ... ولم يله بالأهواء إذ جاءه الجد والثالث: أن وجه إعجازه هو أن قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة وطلاوة، لا يزال غضّا طريّا، وغيره من الكلام ولو بلغ فى الحسن والبلاغة ما بلغ يمل مع الترديد، ويعادى إذا أعيد، وكتابنا يستلذ به فى الخلوات، ويؤنس بتلاوته فى الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث أصحابها لها لحونا وطرقا، يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف- صلى اللّه عليه وسلم- القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضى عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل، لا تشبع منه العلماء، ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، هو الذى لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فامنا به (٢) أشار إليه القاضى عياض. * والرابع: أن وجه إعجازه هو ما فيه من الإخبار بما كان ، مما علموه__________ (١) الورهاء: الحمقاء، والبهم: أولاد الضأن المعز والبقر، والبلد جمع بليد، وهو معروف. (٢) قلت: ورد بذلك فى حديث عند الترمذى (٢٩٠٦) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء فى فضل القرآن، والدارمى فى (سننه) (٣٣٣١) من حديث على- رضى اللّه عنه-، بسند فيه الحارث والأعور، وهو ...... وما لم يعلموه، فإذا سألوا عنه عرفوا صحته وتحققوا صدقه كالذى حكاه من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر- عليهما الصلاة والسلام-، وحال ذى القرنين، وقصص الأنبياء مع أممها، والقرون الماضية فى دهرها. * والخامس: أن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب،والإخبار بما يكون، فيوجد على صدقه وصحته، مثل قوله تعالى لليهود: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللّه خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ (١) فما تمناه أحد منهم. ومثل قوله تعالى لقريش: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (٢) فقطع بأنهم لا يفعلون فلم يفعلوا. وتعقب: بأن الغيوب التى اشتمل عليها القرآن وقع بعضها فى زمنه- صلى اللّه عليه وسلم-، كقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (٣) وبعضها بعد مدة كقوله تعالى: الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٤) فلو كان كما قالوا لنازعوا وقع المتوقع، وبأن الإخبار عن الغيب جاء فى بعض سور القرآن واكتفى منهم بمعارضة سورة غير معينة، فلو كان كذلك لعارضوه بقدر أقصر سورة لا غيب فيها. * السادس: أن وجه إعجازه هو كونه جامعا لعلوم كثيرة، لم تتعاط العرب فيها الكلام،ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد منهم، ولا يشتمل عليها كتاب، بين اللّه فيه خبر الأولين والآخرين وحكم المتخلفين وثواب المطيعين وعقاب العاصين. فهذه ستة أوجه، يصح أن يكون كل واحد منها إعجازا، فإذا جمعها القرآن فليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزا بأولى من غيره، فيكون الإعجاز بجميعها. وقد قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ (٥) فلم يقدر أحد أن يأتى بمثل هذا القرآن __________ (١) سورة البقرة: ٩٤، ٩٥. (٢) سورة البقرة: ٢٤. (٣) سورة الفتح: ١. (٤) سورة الروم: ١. (٥) سورة الإسراء: ٨٨. فى زمن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ولا بعده على نظمه وتأليفه وعذوبة منطقه وصحة معانيه، وما فيه من الأمثال والأشياء التى دلت على البعث وآياته، والإنباء بما كان وبما يكون، وبما فيه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والامتناع من إراقة الدماء، وصلة الأرحام، إلى غير ذلك، فكيف يقدر على ذلك أحد وقد عجزت عنه العرب الفصحاء والخطباء البلغاء، والشعراء الفهماء، من قريش وغيرها، وهو- صلى اللّه عليه وسلم- فى مدة ما عرفوه قبل نبوته وأداء رسالته أربعين سنة لا يحسن نظم كتاب، ولا عقد حساب، ولا يتعلم سحرا، ولا ينشد شعرا، ولا يحفظ خبرا، ولا يروى أثرا، حتى أكرمه اللّه بالوحى المنزل، والكتاب المفصل، فدعاهم إليه وحاجهم به، قال اللّه تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللّه ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١) ، وشهد له فى كتابه بذلك فقال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٢) . وأما ما عدا القرآن من معجزاته- صلى اللّه عليه وسلم-، كنبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام ببركته، وانشقاق القمر، ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدى به، ومنه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحد، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده- صلى اللّه عليه وسلم- من خوارق العادات شىء كثير- كما يقطع بجود حاتم، وشجاعة على- وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت موارد الآحاد مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر ورواه العدد الكثير، والجم الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة لعدم عنايتهم بذلك. فلو ادعى مدع أن غالب هذه الوقائع مفيد للقطع النظرى لما كان مستبعدا، وذلك أنه لا مرية أن رواة الأخبار فى كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار فى الجملة، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة مخالفة الراوى فيما حكاه من ذلك. ولا الإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم __________ (١) سورة يونس: ١٦. (٢) سورة العنكبوت: ٤٨. كالناطق، لأن مجموعهم محفوظ عن الإغضاء على الباطل، وعلى تقدير أن يوجد من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئا من ذلك فإنما هو من جهة توقف فى صدق الراوى أو تهمته بكذب، أو توقف فى ضبطه أو نسبته إلى سوء الحفظ، أو جواز الغلط، ولا يوجد أحد منهم طعن فى المروى، كما وجد منهم فى غير هذا الفن من الأحكام وحروف القرآن ونحو ذلك واللّه أعلم. وأنت إذا تأملت معجزاته وباهر آياته وكراماته- صلى اللّه عليه وسلم- وجدتها شاملة للعلوى والسفلى، والصامت والناطق، والساكن والمتحرك، والمائع والجامد، والسابق واللاحق، والغائب والحاضر، والباطن والظاهر، والعاجل والآجل، إلى غير ذلك، مما لو عد لطال، كالرمى بالشهب الثواقب، ومنع الشياطين من استراق السمع فى الغياهب، وتسليم الحجر والشجر عليه، وشهادتها له بالرسالة بين يديه، ومخاطبتها له بالسيادة، وحنين الجذع، ونبع الماء من كفه فى الميضأة والتور والمزادة، وانشقاق القمر، ورد العين من العور، ونطق البعير والذئب والجمل، وكالنور المتوارث من آدم إلى جبهة أبيه من الأزل، وما سوى ذلك من المعجزات التى تداولتها الحملة، ونقلتها عن الألسنة الأول النقلة، مما لو أعملنا أنفسنا فى حصرها لفنى المداد فى ذكرها. ولو بالغ الأولون والآخرون فى إحصاء مناقبه لعجزوا عن استقصاء ما حباه الكريم به من مواهبه، ولكن الملم بساحل بحرها مقصرا عن- حصر بعض فخرها، ولقد صح لبعض محبيه أن ينشدوا فيه: وعلى تفنن واصفيه لنعته ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف وأنه لخليق بمن ينشد: فما بلغت كف امرئ متناولا ... من المجد إلا والذى نال أطول ولا بلغ المهدون فى القول مدحه ... ولو حذقوا إلا الذى فيه أفضل وللّه در إمام العارفين سيدى محمد وفا فلقد كفى وشفى بقوله: ما شئت قل فيه فأنت مصدق ... فالحب يقضى والمحاسن تشهد ولقد أبدع الإمام الأديب شرف الدين الأبوصيرى حيث قال: دع ما ادعته النصارى فى نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلى قدره ما شئت من عظم فإن فضل رسول اللّه ليس له ... حد فيعرب عنه ناطق بفم يعنى أن المداح وإن انتهوا إلى أقصى الغايات والنهايات لا يصلون إلى شأوه، إذ لا حدّ له، ويحكى أنه رؤى الشيخ عمر بن الفارض السعدى فى النوم فقيل له: لم لا مدحت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: أرى كل مدح فى النبى مقصرا ... وإن بالغ المثنى عليه وأكثرا إذا اللّه أثنى بالذى هو أهله ... عليه فما مقدار ما يمدح الورى قال الشيخ بدر الدين الزركشى: ولهذا لم يتعاط فحول الشعراء المتقدمين- كأبى تمام والبحترى وابن الرومى- مدحه- صلى اللّه عليه وسلم-، وكان مدحه عندهم من أصعب ما يحاولونه، فإن المعانى دون مرتبته، والأوصاف دون وصفه، وكل غلو فى حقه تقصير، فيضيق على البليغ بحال النظم، وعند التحقيق إذا اعتبرت جميع الأمداح التى فيها غلو بالنسبة إلى من قرضت له وجدتها صادقة فى حق النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، حتى كأن الشعراء على صفاته كانوا يعتمدون وإلى أمداحه كانوا يقصدون، وقد أشار الأبوصيرى بقوله: (دع ما ادعته النصارى فى نبيهم) إلى ما أطرت النصارى به عيسى ابن مريم من اتخاذه إلها. قال النيسابورى: إنهم صحفوا فى الإنجيل (عيسى نبى وأنا ولدته) فحرفوا الأول بتقديم الباء الموحدة وخففوا اللام فى الثانى، فلعنة اللّه على الكافرين. فإن قلت: هل ادعى أحد فى نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- ما ادعى فى عيسى؟ أجيب: بأنهم قد كادوا أن يفعلوا نحو ذلك حين قالوا له- صلى اللّه عليه وسلم-: أفلا نسجد لك؟ قال: (لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) (١) فنهاهم عما عساه يبلغ بهم من العبادة. __________ (١) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (٢١٤٠) فى النكاح، باب: فى حق الزوج على- وقد جاء فى صفته فى حديث ابن أبى هالة: ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، أى: مقارب فى مدحه غير مفرط فيه. وقال ابن قتيبة معناه؛ إلا أن يكون ممن له عليه منة، فيكافئه الآخر، وغلطه ابن الأنبارى: بأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، لأن اللّه بعثه رحمة للعالمين، فالثناء عليه فرض عليهم، لا يتم الإسلام إلا به. قال: وإنما المعنى: لا يقبل الثناء إلا من رجل عرف حقيقة إسلامه. |