Geri

   

 

 

İleri

 

٣-٣  الفصل الثالث فيما تدعو ضرورته إليه صلى اللّه عليه وسلم من غذائه وملبسه ومنكحه وما يلحق بذلك

وفيه أربعة أنواع:

النوع الأول فى عيشه صلى اللّه عليه وسلم فى المأكل والمشرب

اعلم أن تناول الطعام أصل كبير، يحتاج إلى علوم كثيرة، لاشتماله على المصالح الدينية والدنيوية، وتعلق أثره بالقلب والقالب، وبه قوام البدن بإجراء سنة اللّه تعالى بذلك، والقالب مركب القلب، وبهما عمارة الدنيا والآخرة، والقالب بمفرده على طبيعة الحيوان يستعان به على عمارة الدنيا، والروح والقلب على طبيعة الملائكة يستعان بهما على عمارة الآخرة، وباجتماعهما يصلحان لعمارة الدارين.

قال الغزالى: ولا طريق إلى الوصول إلى اللقاء إلا بالعلم والعمل، ولا يمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن، ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات، والتناول منها بقدر الحاجات، على تكرار الأوقات. فمن هذا الوجه، قال بعض السلف الصالحين: إن الأكل من الدين، وعليه نبه رب العالمين بقوله، وهو أصدق القائلين: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً (١) ، فمن تناول الأكل ليستعين به على العلم والعمل، ويقوى به على التقوى فلا ينبغى أن يترك نفسه سدى يسترسل فى الأكل استرسال البهائم فى المرعى، فإنما هو ذريعة إلى الدين ووسيلة إليه، ينبغى أن تظهر أنوار الدين عليه، وإنما

__________

(١) سورة المؤمنون: ٥١.

نور الدين وآدابه وسننه، التى يزم العبد بزمامها، ويلجم المتقى بلجامها، حتى يزن بميزان الشرع، شهوة الطعام فى إقدامها وإحجامها، فيصير بسببها مدفعة للوزر ومجلبة للأجر.

واعلم أن الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأول، وقد روى النسائى وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث المقدام بن معدى كرب أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه، حسب الآدمى لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمى نفسه فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس) (١) .

قال القرطبى فى شرح (الأسماء) كما نقله شيخ الإسلام والحافظ ابن حجر: لو سمع بقراط بهذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. وقال غيره: إنما خص الثلاثة بالذكر لأنها أسباب حياة الحيوان، ولأنه لا يدخل البطن سواها.

وهل المراد بالثلث التساوى على ظاهر الخبر، أو التقسيم على ثلاثة أقسام متقاربة؟ محل احتمال. وقد صح، (المؤمن يأكل فى معى واحد- وهى بكسر الميم مقصور: المصارين- والكافر يأكل فى سبعة أمعاء) (٢) وليست حقيقة العدد مرادة، وتخصيص السبعة للمبالغة فى التكثير، والمعنى: أن المؤمن من شأنه التقلل من الأكل لاشتغاله بأسباب العبادة ولعلمه بأن مقصود الشرع من الأكل ما سد الجوع، ويعين على العبادة، ولخشيته أيضا من حساب من زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك.

وعند أهل التشريح أن أمعاء الإنسان سبعة؛ المعدة ثم ثلاثة أمعاء بعدها

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٣٨٠) فى الزهد، باب: ما جاء فى كراهية كثرة الأكل، وابن ماجه (٣٣٤٩) فى الأطعمة، باب: الاقتصاد فى الأكل وكراهة الشبع، وأحمد فى (المسند) (٤/ ١٣٢) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٥٢٣٦) ، والحاكم فى (مستدركه) (٤/ ٣٦٧).

(٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٥٣٩٣- ٥٣٩٥) فى الأطعمة، باب: المؤمن يأكل فى معى واحد، ومسلم (٢٠٦٠ و ٢٠٦١) فى الأشربة، باب: المؤمن يأكل فى معى واحد، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

متصلة بها: البواب ثم الصائم ثم الرقيق، والثلاثة رقاق. ثم الأعور والقولون والمستقيم وطرفه الدبر، وكلها غلاظ، وقد نظمها زين الدين العراقى فى قوله:

سبعة أمعاء لكل آدمى ... معدة بوابها مع صائم

ثم الرقيق أعور قولون مع ... المستقيم مسلك المطاعم

فيكون المعنى: أن الكافر لكونه يأكل بشراهة لا يشبعه إلا ملء أمعائه السبعة، والمؤمن يشبعه ملء معى واحد.

ولا يلزم من هذا الحديث اطراده فى حق كل مؤمن وكافر، فقد يكون فى المؤمنين من يأكل كثيرا، إما بحسب العادة أو لعارض له من مرض باطن أو لغير ذلك. ويكون فى الكفار من يأكل قليلا إما لمراعاة الصحة على رأى الأطباء، وإنما للرياضة على رأى الرهبان، وإما لعارض كضعف المعدة.

ومحصل القول إن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة والاقتناع بالبلغة، بخلاف الكافر.

وقيل: المراد أن المؤمن يسمى اللّه عند طعامه وشرابه فلا يشركه الشيطان فيكفيه القليل بخلاف الكافر.

وقيل: المراد بالمؤمن- فى هذا الحديث- التام الإيمان، لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده، فيمنعه شدة الخوف وكثرة الفكر والإشفاق على نفسه من استيفاء شهوته كما ورد فى حديث لأبى أمامة رفعه: (من كثر تفكره قل مطعمه، ومن قل تفكره كثر مطعمه، وقسا قلبه) وقالوا: لا تدخل الحكمة معدة ملئت طعاما، ومن قل طعامه قل شربه وخف منامه، ومن خف منامه ظهرت بركة عمره، ومن امتلأ بطنه كثر شربه، ومن كثر شربه ثقل نومه، ومن ثقل نومه محقت بركة عمره، فإذا اكتفى بدون الشبع حسن اغتذاء بدنه، وصلح حال نفسه وقلبه، ومن تملأ من الطعام ساء غذاء بدنه وأشرت نفسه وقسا قلبه.

وعن ابن عباس قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن أهل الشبع فى الدنيا هم أهل الجوع غدا فى الآخرة) (١) رواه الطبرانى.

وعن سلمان وأبى جحيفة أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إن أكثر الناس شبعا فى الدنيا أطولهم جوعا فى الآخرة) (٢) .

وقالت عائشة: لم يمتلئ جوف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- شبعا قط. وإنه كان فى أهله لا يسألهم طعاما ولا يتشهاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب.

وقولها: لم يمتلئ جوف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- شبعا قط، محمول على الشبع الذى يثقل المعدة ويثبط صاحبه عن القيام بالعبادة، ويفضى إلى البطر والأشر والنوم والكسل، وقد تنتهى كراهته إلى التحريم بحسب ما يترتب عليه من المفسدة، وليس المراد بالشبع النسبى المعتاد فى الجملة، ففى صحيح مسلم:

خروجه- صلى اللّه عليه وسلم- وصاحبيه من الجوع، وذهابهم إلى بيت الأنصارى، وذبحه الشاة (٣) . وفيه: فلما أن شبعوا ورووا. قال النووى: فيه جواز الشبع، وما جاء فى كراهته محمول على المداومة عليه.

وعن أبى هريرة

قال: ما شبع آل محمد- صلى اللّه عليه وسلم- من طعام ثلاثة أيام تباعا حتى قبض (٤) . رواه الشيخان.

__________

(١) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (١١/ ٢٦٧) وذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٢٥٠، ٢٥١) وقال: فيه يحيى بن سليمان الحفرى، وقد تقدم الكلام عليه، وبقية رجاله ثقات. اه. قلت: وقال فى (١٠/ ٢٤٩) : أما يحيى فقد ذكر الذهبى فى الميزان فى آخر ترجمة يحيى ابن سليمان الجعفى فقال: فأما سميه يحيى بن سليمان الحفرى فما علمت به بأسا، ثم ذكر بعده يحيى بن سليمان القرشى، قال أبو نعيم: فيه مقال، وذكره ابن الجوزى، فإن كانا اثنين فالحفرى ثقة.

(٢) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (٦/ ٢٣٦ و ٢٦٨) من حديث سلمان- رضى اللّه عنه- و (٢٢/ ١٢٦ و ١٣٢) من حديث أبى جحيفة- رضى اللّه عنه-، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ٣١) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بأسانيد وفى أحد أسانيد الكبير محمد بن خالد الكوفى ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

(٣) صحيح: وسيأتى بتمامه بعد قليل.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٥٣٧٤) فى الأطعمة، باب: قول اللّه تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، ومسلم (٢٩٧٦) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (١) .

وعن ابن عباس

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يبيت الليالى المتتابعة وأهله طاويا لا يجدون عشاء، وإنما كان خبزهم الشعير (١) . رواه الترمذى وصححه.

وفى حديث مسعر عند مسلم: (ما شبع آل محمد يومين من خبز البر، إلا وأحدهما تمر) (٢) .

وأخرج ابن سعد من طريق عمران بن زيد المدنى: حدثنى والدى

قال: دخلنا على عائشة

فقالت: خرج- تعنى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من الدنيا ولم يملأ بطنه فى يوم من طعامين، كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الشعير، وإذا شبع من الشعير لم يشبع من التمر (٣) .

وليس فى هذا ما يدل على ترك الجمع بين لونين، فقد جمع- صلى اللّه عليه وسلم- القثاء والرطب كما سيأتى- إن شاء اللّه تعالى-.

وعن الحسن

قال: خطب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: (واللّه ما أمسى فى آل محمد صاع من طعام، وإنها لتسعة أبيات) واللّه ما قالها استقلالا لرزق اللّه ولكن أراد أن تتأسى به أمته. رواه الدمياطى فى السيرة له.

وعن عائشة

قالت: كان يعجب نبى اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من الدنيا ثلاثة أشياء:

الطيب والنساء والطعام، فأصاب اثنتين ولم يصب واحدة، أصاب النساء والطيب، ولم يصب الطعام. ذكره الدمياطى أيضا.

وفى رواية مسلم: (يظل اليوم يلتوى ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه) (٤) .

__________

(١) حسن: أخرجه الترمذى (٢٣٦٠) فى الزهد، باب: ما جاء فى معيشة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأهله، وابن ماجه (٣٣٤٧) فى الأطعمة، باب: خبز الشعير، والطبرانى فى (الكبير) (١١/ ٣٢٨).

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٩٧١) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (١) ، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-، ومسعر هذا أحد رواته.

(٣) أخرجه ابن سعد فى (الطبقات) (١/ ٤٠٥) .

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٩٧٧) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (١) ، من حديث النعمان بن بشير- رضى اللّه عنه-.

وقالت عائشة: إن كنا آل محمد نمكث شهرا ما نستوقد بنار، إن هو إلا الماء والتمر (١) .

وقال عتبة بن غزوان: لقد رأيتنى- وإنى لسابع سبعة- مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما لنا طعام إلا ورق السمر حتى تقرحت أشداقنا (٢) .

وفى البخارى ومسلم: كانت عائشة تقول لعروة: واللّه يا ابن أختى، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة فى شهرين وما أوقد فى أبيات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- نار،

قال: قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟

قالت: الأسودان، التمر والماء، إلا أنه كان لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من ألبانها فيسقيناه (٣) .

ولمسلم أيضا:

قالت: لقد مات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وما شبع من خبز وزيت فى يوم واحد مرتين (٤) .

وقال أنس: ما أعلم أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- رأى رغيفا مرققا حتى لحق باللّه، ولا رأى شاة سميطا بعينه حتى لحق باللّه (٥) . رواه البخارى.

والمرقق: الملين المحسن كخبز الحوارى وشبهه، والترقيق: التليين، ولم يكن عندهم مناخل، وقد يكون المرقق: الرقيق الموسع، قاله القاضى عياض.

وجزم به ابن الأثير

فقال: وهو السميد وما يصنع من كعك وغيره، وقال ابن الجوزى: هو الخفيف. كأنه أخذه من الرقاق وهى الخشبة التى يرقق بها.

والحوارى: - بضم المهملة وتشديد الواو وفتح الراء- الخالص الذى ينخل مرة بعد أخرى.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٩٧٢) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (١) .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٩٦٧) فى كتاب الزهد والرقائق، باب: رقم (١) .

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٥٦٧) فى الهبة، باب: فضلها والتحريض عليها، ومسلم (٢٩٧٢) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (١) .

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٩٧٤) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (١) .

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٥٤٢١) فى الأطعمة، باب: شاة مسموطة.

وقوله: ولا شاة سميطا: هو الذى أزيل شعره بالماء السخن وشوى بجلده، وإنما يصنع ذلك فى الصغير السن، وهو من فعل المترفهين من وجهين: أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقى لازداد ثمنه، وثانيهما: أن المسلوخ ينتفع بجلده فى اللبس وغيره. والسمط يفسده، وقد جرى ابن بطال وابن الأثير على أن المسموط هو المشوى، لكن الثانى ذكر أن أصله نزع صوفه بالماء الحار كما تقدم،

قال: وإنما يفعل ذلك فى الغالب ليشوى.

ولعله يعنى: أنه لم يرد السميط فى مأكوله، وإلا فإن لم يكن معهودا فلا تمدح.

وعن أبى حازم أنه سأل سهلا: هل رأيتم فى زمان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- النقى؟

قال: لا، فقلت: كنتم تنخلون الشعير؟

قال: لا، ولكن كنا ننفخه (١) . رواه البخارى.

وفى رواية له: هل كانت لكم فى عهد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مناخل؟

فقال: ما رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- منخلا من حين ابتعثه اللّه حتى قبضه اللّه (٢) .

قال شيخ الإسلام ابن حجر: أظنه احترز عما قبل البعثة، لكونه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يسافر فى تلك المدة إلى الشام تاجرا، وكانت الشام إذ ذاك مع الروم، والخبز النقى عندهم كثير، وكذا المناخل وغيرها من آلات الترفه، ولا ريب أنه رأى ذلك عندهم، وأما بعد البعثة فلم يكن إلا بمكة والطائف والمدينة، ووصل إلى تبوك وهى من أطراف الشام لكن لم يفتحها ولا طالت إقامته بها. انتهى.

وقد تتبعت هل كانت أقراص خبزه صغارا أم كبارا؟ فلم أجد فى ذلك

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٤١٠) فى الأطعمة، باب: النفخ فى الشعير.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٤١٣) فى الأطعمة، باب: ما كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه يأكلون.

شيئا بعد التفتيش. نعم روى أمره بتصغيرها فى حديث عند الديلمى عن عائشة رفعته بلفظ: (صغروا الخبز وأكثروا عدده يبارك لكم فيه) (١) ، وهو واه، بحيث ذكره ابن الجوزى فى ال.......ات وقال: إن المتهم به جابر بن سليم. وروى عن ابن عمر مرفوعا: (البركة فى صغر القرص) (٢) ، ونقل عن النسائى أنه كذب. لكن روى البزار بسند ..... عن أبى الدرداء مرفوعا.

(قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه) (٣) قال فى النهاية: وحكى عن الأوزاعى أنه تصغير الأرغفة، كذا حكى البزار عن إبراهيم بن عبد اللّه بن الجنيد عن بعض أهل العلم: أنه تصغير الأرغفة. أشار إلى ذلك شيخنا فى المقاصد الحسنة.

ولعل هذا سند شيخى وقدوتى وإنسان عين بصيرتى العارف الربانى رهان العارفين أبى إسحاق إبراهيم المتبولى فى تصغير أرغفة سماطه كالشيخ أبى العباس أحمد البدوى (٤) والسادات إكسير معارف السعادات أولى المواهب

__________

(١) أخرجه الأزدى فى الضعفاء والإسماعيلى فى معجمه، كما فى (الجامع الصغير) (٤٩٩٨).

(٢) أخرجه أبو الشيخ ابن حبان فى الثواب عن ابن عباس، والسلفى فى الطوريات عن ابن عمر، كما فى (الجامع الصغير) (٣٢٠٣).

(٣) أخرجه الطبرانى عن أبى الدرداء، كما فى (..... الجامع) (٤١١٧) .

(٤) قلت: الثابت عنه من كتب السير أنه كان يأتى بأفعال المجاذيب، ومما يؤسف له أن كل من أتى بفعل من أفعال المجاذيب، اعتبره الناس وليّا، وأقاموا له ضريحا بعد وفاته، يطوفون به، وينذرون له، ويستغيثون به، وكلها أفعال شركية، لا يصح للمسلم الإتيان بها، ومن أراد معرفة الولاية الحقيقية فلينظر فى سيرة أنبياء اللّه، فى خلق اللّه، الذين أمرنا باتباعهم، والهدى على سيرهم، وكذلك صحابتهم الكرام والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، ويكفى أن يعرف عن هؤلاء المجاذيب أنه لم يعرف لهم صلاة ولا صيام ولا حج ولا درس علم ولا فقه عنهم منتشر كالأئمة الأربعة مثلا، ولا أعلم على أى شىء اعتبرهم الناس أولياء، أو عارفين باللّه، وهل العارف باللّه من يترك الصلاة، أو الصيام أو غيرها من العبادات، بل والنكاح الذى هو من سنن المرسلين، سبحانك ما هذا إلا بهتان عظيم، بل ومما يؤسف له أن بعضهم كأحمد البدوى مثلا ترك الجهاد فى سبيل-

العلية والحقائق المحمدية بنى الوفاء أعاد اللّه من بركاتهم وواصل إمداداتهم إلينا.

وعن عائشة

قالت: توفى- صلى اللّه عليه وسلم- وليس عندى شىء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير فى رف لى، فأكلت منه حتى طال على فكلته ففنى (١) رواه البخارى ومسلم.

وعندهما أيضا

قالت: توفى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودى فى ثلاثين صاعا من شعير (٢) .

وقال ابن عباس: ودرعه مرهونة بعشرين صاعا من طعام أخذه لأهله.

رواه الترمذى (٣) .

وعن أبى هريرة

قال: خرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ذات يوم فإذا هو بأبى بكر وعمر،

فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول اللّه،

قال: (وأنا والذى نفسى بيده لآخرجنى الذى أخرجكما) فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس فى بيته، فلما رأته المرأة

قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها- صلى اللّه عليه وسلم-: (أين فلان؟)

قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، إذ جاء الأنصارى، فنظر إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وصاحبيه

فقال: الحمد للّه ما أحد اليوم أكرم أضيافا منى.

قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر

__________

 (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٩٧) فى الخمس، باب: نفقة نساء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعد وفاته، ومسلم (٢٩٧٣) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (١) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٩١٦) فى الجهاد والسير، باب: ما قيل فى درع النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. ومسلم (١٦٠٣) فى الجهاد والسير.

(٣) أخرجه الترمذى (١٢١٤) فى البيوع، باب: ما جاء فى الرخصة فى الشراء إلى أجل.

ورطب، فقال: كلوا، وأخذ المدية فقال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إياك والحلوب) فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال- صلى اللّه عليه وسلم- لأبى بكر وعمر: (والذى نفسى بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم) (١) رواه مسلم وغيره.

وهذا السؤال سؤال تشريف وإنعام وتعديد فضل وإكرام.

وعن طلحة بن نافع أنه سمع جابر بن عبد اللّه يقول: أخذ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بيدى ذات يوم إلى منزله فأخرج إليه فلق من خبز، ف

قال: (ما من أدم؟) فقالوا: لا، إلا شىء من خل،

قال: (نعم الأدم الخل) . قال جابر:

فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبى اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وقال طلحة: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر (٢) . رواه مسلم.

وروى عن ابن بجير

قال: أصاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- جوع يوما، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ثم

قال: (ألا رب نفس الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم) (٣) رواه ابن أبى الدنيا.

وعن أنس عن أبى طلحة

قال: شكونا إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن بطنه عن حجرين (٤) ، قال الترمذى: هذا حديث غريب من حديث أبى طلحة لا نعرفه

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (٢٠٣٨) فى الأشربة، باب: جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٥٢) فى الأشربة، باب: فضيلة الخل.

(٣) جدّا: أخرجه ابن سعد والبيهقى فى شعب الإيمان، كما فى (..... الجامع) (٢١٨١) .

(٤) أخرجه الترمذى (٢٣٧١) فى الزهد، باب: ما جاء فى معيشة أصحاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

إلا من هذا الوجه. ومعنى قوله: ورفعنا عن بطوننا عن حجر.

قال: كان أحدهم يشد فى بطنه الحجر من الجهد والضعف الذى به من الجوع.

وقصة جابر- يوم الخندق- حين رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الخندق، وقد قام إلى الكدية وبطنه معصوب بحجر. وتقدمت، وما أحسن قول الأبوصيرى:

وشد من سغب أحشاءه وطوى ... تحت الحجارة كشحا مترف الأدم

والكشح: كما ذكرته فى شرح هذه القصيدة، ما بين خاصرته الشريفة وأقصر ضلع من جنبه الشريف، وإنما فعل هذا- صلى اللّه عليه وسلم- ليسكن بعض ألم الجوع، وإنما كان هذا الفعل مسكنا لأن كلب الجوع من شدة حرارة المعدة الغريزية، فهى إذا امتلأت من الطعام اشتغلت تلك الحرارة بالطعام، فإذا لم يكن فيها طعام طلبت رطوبات الجسم وجواهره، فيتألم الإنسان بتلك الحرارة فتتعلق بكثير من جواهر البدن، فإذا انضمت على المعدة الأحشاء والجلد خمدت نارها بعض الخمود فقل الألم.

وإنما تألمه بالجوع ليحصل به ت..... الأجر مع حفظ قوته ونضارة جسمه، حتى إن من رآه لا يظن أن به جوعا، لأن جسمه- صلى اللّه عليه وسلم- إنما كان يرى أشد نضارة من أجسام المترفين بالنعم فى الدنيا. وهذا المعنى هو الذى قصده الناظم بقوله (مترف الأدم) وهو من باب الاحتراس والتكميل، لأنه لما ذكر أنه شد من سغب. خاف أن يتوهم أن جسمه الشريف حينئذ يظهر فيه أثر الجوع فاحترس ورفع ذلك الإبهام بقوله: مترف الأدم.

وقد أنكر أبو حاتم بن حبان أحاديث وضع الحجر على بطنه الشريف من الجوع، و

قال: إنها باطلة، متمسكا بحديث الوصال (لست كأحدكم إنى

أطعم وأسقى) (١)

قال: وإنما معناه: الحجز، بالزاى وهو طرف الإزار، لأن اللّه تعالى قد كان يطعم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ويسقيه إذا واصل، فكيف يحتاج إلى شد الحجر على بطنه؟ وما يغنى الحجر عن الجوع. انتهى.

وقال بعضهم: يجوز أن يكون عصب الحجر لعادة العرب أو أهل المدينة أنهم يفعلون ذلك إذا خلت أجوافهم وغارت بطونهم يشدون عليها حجرا ففعل- صلى اللّه عليه وسلم- ذلك ليعلم أصحابه أنه ليس عنده ما يستأثر به عليهم.

والصواب: صحة الأحاديث، وأنه- صلى اللّه عليه وسلم- فعل ذلك اختيارا للثواب.

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (١٩٦١) فى الصوم، باب: الوصال، ومسلم (١١٠٤) فى الصيام، باب: النهى عن الوصال فى الصوم، وابن حبان فى (صحيحه) (٣٥٧٩) ، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، وقال ابن حبان هذا الكلام عقب الحديث السابق.

وقد استشكل كونه- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه كانوا يطوون الأيام جوعا، مع ما ثبت أنه كان يرفع لأهله قوت سنة، وأنه قسم بين أربعة أنفس من أصحابه ألف بعير مما أفاء اللّه عليه، وأنه ساق فى عمرته مائة بدنة فنحرها وأطعمها المساكين، وأنه أمر لأعرابى بقطيع من الغنم، وغير ذلك، مع من كان معه من أصحاب الأموال كأبى بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم، مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه. وقد أمر بالصدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله، وعمر بنصفه، وحث على تجهيز جيش العسرة فجهزهم عثمان بألف بعير إلى غير ذلك.

وأجاب عنه الطبرى- كما حكاه فى فتح البارى- أن ذلك كان منهم فى حالة دون حالة لا لعوز وضيق، بل تارة للإيثار وتارة لكراهة الشبع وكثرة الأكل، انتهى. وتعقب: بأن ما نفاه مطلقا فيه نظر لما تقدم من الأحاديث

وأخرج ابن حبان فى صحيحه عن عائشة: (من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم) (١) ، فلما افتتحت قريظة أصبنا شيئا من التمر والودك إلى غير ذلك.

قال الحافظ ابن حجر: والحق أن الكثير منهم كانوا فى حال ضيق قبل الهجرة، حيث كانوا بمكة ثم لما هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك، فواساهم الأنصار بالمنازل والمنائح، فلما فتحت لهم النضير وما بعدها ردوا عليهم منائحهم كما تقدم.

وقد قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لقد أخفت فى اللّه وما يخاف أحد، ولقد أوذيت فى اللّه وما يؤذى أحد، ولقد أتت على ثلاثون من يوم وليلة ما لى ولبلال طعام يأكله أحد إلا شىء يواريه إبط بلال) (٢) . رواه الترمذى وصححه.

__________

(١) إسناده قوى: أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٦٨٤) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى.

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٤٧٢) فى صفة القيامة والرقائق والورع، وابن ماجه (١٥١) فى المقدمة، باب: فى فضائل أصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى اللّه عنه- .

نعم كان- صلى اللّه عليه وسلم- يختار ذلك مع إمكان حصول التوسع والتبسط فى الدنيا له، كما أخرج الترمذى من حديث أبى أمامة، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (عرض على ربى ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا، يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك) (١) وحكمة هذا التفصيل الاستلذاذ بالخطاب، وإلا فاللّه تعالى عالم بالأشياء جملة وتفصيلا.

وعن ابن عباس

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ذات يوم وجبريل على الصفا، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (يا جبريل والذى بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفة من دقيق، ولا كف من سويق) ، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفزعته فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أمر اللّه القيامة أن تقوم؟

قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك، فأتاه إسرافيل ف

قال: إن اللّه سمع ما ذكرت فبعثنى إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرنى أن أعرض عليك أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة فإن رضيت فعلت، فإن شئت نبيّا ملكا، وإن شئت نبيّا عبدا، فأومأ إليه جبريل أن تواضع ف

قال: بل نبيّا عبدا ثلاثا) (٢) ، رواه الطبرانى بإسناد حسن.

فانظر إلى همته العلية كيف عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها، ومعلوم أنه لو أخذها لأنفقها فى طاعة ربه، فأبى ذلك واختار العبودية المحضة، فيا لها من همة شريفة رفيعة ما أسناها ونفس زكية كريمة ما أبهاها، وللّه در صاحب بردة المديح حيث

قال:

وراودته الجبال الشم من ذهب ... عن نفسه فأراه أيما شمم

وأكدت زهده فيها ضرورته ... إن الضرورة لا تعدو على العصم

وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم

__________

(١) أخرجه الترمذى (٢٣٤٧) فى الزهد، باب: ما جاء فى الكفاف والصبر عليه.

(٢) قلت: انظر (مجمع الزوائد) (٩/ ١٩، ٢٠) .

أى كيف تدعو ضرورة سيد المعصومين إلى زخرف الدنيا، وهى وما فيها إنما برزت لأجله، فكيف يضطر إليها. لكن فى كلامه شىء، فإنه فى مقام المديح فلا يليق منه الوصف بالزهد ولا بالضرورة.

قال الحليمى فى شعب الإيمان: من تعظيم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن لا يوصف بما هو عند الناس من أوصاف الضعة، فلا يقال كان فقيرا.

وأنكر بعضهم إطلاق الزهد فى حقه- صلى اللّه عليه وسلم-. وقد حكى صاحب (نثر الدر) عن محمد بن واسع أنه قيل له: فلان زاهد،

قال: وما قدر الدنيا حتى يزهد فيها. وقد ذكر القاضى عياض فى الشفاء، ونقله عنه الشيخ تقى الدين السبكى فى كتابه (السيف المسلول) أن فقهاء الأندلس أفتوا بقتل حاتم المتفقه الطليطلى وصلبه لاستخفافه بحق النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم، وزعمه أن زهده لم يكن قصدا، ولو قدر على الطيبات لأكلها.

انتهى.

وقد ذكر الشيخ بدر الدين الزركشى عن بعض الفقهاء المتأخرين أنه كان يقول: لم يكن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقيرا من المال قط، ولا حاله حال فقير، بل كان أغنى الناس باللّه، قد كفى أمر دنياه فى نفسه وعياله، وكان يقول فى قوله- صلى اللّه عليه وسلم-:

(اللّهم أحينى مسكينا) (١) إن المراد به استكانة القلب لا المسكنة التى هى أن لا يجد ما يقع موقعا من كفايته. وكان يشدد النكير على من يعتقد خلاف ذلك انتهى. وأما ما يروى أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (الفقر فخرى وبه أفتخر) (٢) فقال شيخ الإسلام والحافظ ابن حجر: هو باطل ........

واعلم أنه لم يكن من عادته الكريمة- صلى اللّه عليه وسلم- حبس نفسه الشريفة على نوع واحد من الأغذية لا يتعداه إلى سواه، فإن ذلك يضر بالطبيعة جدّا، ولو

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٣٥٢) فى الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-

وأخرجه ابن ماجه (٤١٢٦) فى الزهد، باب: مجالسة الفقراء، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

(٢) باطل قاله الحافظ ابن حجر كما فى (كشف الخفاء) (١٨٣٥) للعجلونى.

أنه أفضل الأغذية، بل كان- صلى اللّه عليه وسلم- يأكل مما جرت عادة أهل بلده بأكله من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره مما سيأتى، فأكل- صلى اللّه عليه وسلم- الحلوى والعسل وكان يحبهما (١) ، رواه البخارى والترمذى، والحلوى: بالقصر والمد، كل حلو، وقال الخطابى: اسم الحلوى لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة، وقال ابن سيدة: ما عولج من الطعام بحلو، وقد يطلق على الفاكهة.

قال الخطابى: ولم يكن حبه- صلى اللّه عليه وسلم- لها على معنى كثرة التشهى لها، وشدة نزاع النفس إليها، وإنما كان ينال منها إذا أحضرت إليه نيلا صالحا فيعلم بذلك أنها تعجبه، ووقع فى كتاب فقه اللغة للثعالبى: أن حلوى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- التى كان يحبها هى المجيع- بالميم والجيم، بوزن عظيم- وهو تمر يعجن بلبن، حكاه فى فتح البارى.

ولم يصح ورود أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يحب السكر ولا أنه تصدق به ولا أنه رآه. لكن أخرج أبو جعفر الطحاوى والبيهقى فى سننه من حديث لمازة عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حضر ملاك رجل من الأنصار، فجاءت الجوارى معهن الأطباق عليها اللوز والسكر فأمسك القوم أيديهم، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (ألا تنتهبون؟) قالوا: إنك نهيت عن النهبة،

قال: (أما العرسان فلا) (٢) ،

قال: فرأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يجاذبهم ويجاذبونه.

واحتج به الطحاوى على أن النثار غير مكروه، كما ذهب إليه أبو حنيفة، وقضى به على الأحاديث الصحيحة التى فيها النهى عن النهبة. لكن

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٥٩٩) فى الأشربة، باب: الباذق، والترمذى (١٨٣١) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى حب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الحلواء والعسل، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (٢٠/ ٩٧) ، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٤/ ٥٦، ٢٩٠) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، وفيه حازم مولى بنى هاشم عن لمازة، وليس ابن زبار، هذا متأخر، ولم أجد من ترجمها وبقية رجاله ثقات، ورواه الطبرانى فى الأوسط أتم من هذا، بإسناد فيه بشر بن إبراهيم وهو وضاع، وهو غير هذا الإسناد.

قال البيهقى بعد رواية الحديث: وهذا لا يثبت، ثم

قال: وروى من حديث عائشة عنه- صلى اللّه عليه وسلم-، ولا يثبت فى هذا المعنى شىء، وشنع على الطحاوى القول فى ذلك جدّا فى كتاب المعرفة و

قال: الحديث إنما يروى عن عون بن عمارة وعصمة بن سليمان وكلاهما لا يحتج به، وشيخهما لمازة بن المغيرة مجهول، فهاتان علتان كل منهما منفردة توجب ضعف الحديث فكيف بهما مجتمعتان؟! هذا وخالد بن معدان منقطع ولا حجة فى منقطع. فهذه علل ثلاث يضعف الحديث بدونها. وقد أفرد الكلام على ذلك ابن مفلح اليوسفى واللّه أعلم.

وعن ليث بن أبى سالم

قال: أول من خبص فى الإسلام عثمان بن عفان، قدمت عليه عير تحمل الدقيق والعسل فخلط بينهما وبعث به إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأكل فاستطابه. قال الطبرى فى الرياض: رواه خيثمة فى فضائل عثمان. وعن عبد اللّه بن سلام

قال: قدمت عير فيها جمل لعثمان بن عفان عليه دقيق حوارى وسمن وعسل، فأتى بها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فدعا فيها بالبركة ثم دعا ببرمة فنصبت على النار وجعل فيها من العسل والدقيق والسمن ثم عصد حتى نضج أو كاد ينضج ثم أنزل فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (كلوا هذا شىء تسميه فارس الخبيص) (١) قال الطبرى: خرجه تمام فى فوائده والطبرانى فى معجمه ورجاله ثقات. وأكل- صلى اللّه عليه وسلم- لحم الضأن. وهذه الثلاثة- أعنى:

الحلوى والعسل واللحم. من أفضل الأغذية وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء، ولا ينفر منها إلا من به علة وآفة.

(واللحم سيد طعام أهل الجنة) ، وفى رواية (هو سيد الطعام لأهل الدنيا والآخرة) (٢) ، رواه ابن ماجة وابن أبى الدنيا من حديث أبى الدرداء مرفوعا. وسنده ..... وله شواهد منها:

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ١١٢) ، والطبرانى فى (الصغير) (٨٣٣) ، من حديث عبد اللّه بن سلام- رضى اللّه عنه-، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ٣٧، ٣٨) و

قال: رواه الطبرانى فى الثلاثة، ورجال الصغير والأوسط ثقات.

(٢) جدّا: أخرجه ابن ماجه (٣٣٠٥) فى الأطعمة، باب: اللحم.

عن على رفعه: سيد طعام الدنيا اللحم ثم الأرز، أخرجه أبو نعيم فى الطب النبوى. وأكل اللحم يزيد سبعين قوة. قاله الزهرى.

وعن على: أنه يصفى اللون ويحسن الخلق ومن تركه أربعين ليلة ساء خلقه. ولأبى الشيخ ابن حيان من رواية ابن سمعان

قال: سمعت من علمائنا يقولون: كان أحب الطعام إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- اللحم، وهو يزيد فى السمع، وهو سيد الطعام فى الدنيا والآخرة، ولو سألت ربى أن يعطمنيه كل يوم لفعل.

وقال الإمام الشافعى: إن أكله يزيد فى العقل.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يعجبه الذراع ولذلك سم فيه، وعن أبى رافع أنه أهديت له شاة فجعلها فى قدر، فدخل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: (ما هذا يا أبا رافع؟)

فقال: شاة أهديت لنا يا رسول اللّه فطبختها فى القدر.

قال: (ناولنى الذراع يا أبا رافع) ، فناولته الذراع، ثم

قال: (ناولنى الذراع الآخر) ، فناولته الذراع الآخر،

فقال: (ناولنى الذراع الآخر)

فقال: يا رسول اللّه، إنما للشاة ذراعان فقال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أما إنك لو سكت لناولتنى ذراعا فذراعا ما سكت) ، ثم دعا بماء فمضمض فاه وغسل أطراف أصابعه ثم قام فصلى (١) . الحديث رواه أحمد.

ورواه الدارمى والترمذى عن أبى عبيد بلفظ: طبخت له- صلى اللّه عليه وسلم- قدرا، وكان يعجبه الذراع، فناولته الذراع، ثم

قال: (ناولنى الذراع) ، فقلت: يا رسول اللّه وكم للشاة من ذراع؟ ف

قال: (والذى نفسى بيده لو سكت لناولتنى الذراع ما دعوت) .

وقالت عائشة: وكان الذراع أحب إليه، وكان لا يأكل اللحم إلا غبّا، وكان يعجل إليها لأنه أعجل نضجا (٢) ، رواه الترمذى.

__________

(١) حسن: أخرجه أحمد فى (المسند) (٦/ ٨ و ٣٩٢) ، والطبرانى فى (الكبير) (١/ ٣٢٤ و ٣٢٥) والحديث ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٣١١) و

قال: رواه أحمد والطبرانى، ورواه فى الأوسط باختصار، وأحد إسنادى أحمد حسن.

(٢) ..: أخرجه الترمذى (١٨٣٨) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى أى اللحم كان أحب إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وكذلك كان يحب لحم الرقبة. فعن ضباعة بنت الزبير أنها ذبحت فى بيتها شاة، فأرسل إليها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أن أطعمينا من شاتكم) ،

فقالت: ما بقى عندنا إلا الرقبة، وإنى لأستحى أن أرسل بها إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. فرجع الرسول فأخبره، ف

قال: (ارجع إليها فقل لها: أرسلى بها فإنها هاربة الشاة وأقرب الشاة إلى الخير وأبعدها من الأذى) (١) .

ولا ريب أن أخف لحم الشاة لحم الرقبة ولحم الذراع والعضد، وهو أخف على المعدة وأسرع انهضاما، وفى هذا أنه ينبغى مراعاة الأغذية التى تجمع ثلاث خواص: أحدها: كثرة نفعها وتأثيرها فى القوى، الثانى: خفتها على المعدة وسرعة انحدارها عنها، الثالث: سرعة هضمها، وهذا أفضل ما يكون من الغذاء.

وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أطيب اللحم لحم الظهر) (٢) ، رواه الترمذى.

وأما الحديث أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يكره الكليتين لمكانهما من البول، فقال الحافظ العراقى رويناه فى جزء من حديث أبى بكر محمد بن عبد اللّه بن الشخير من حديث ابن عباس بإسناد فيه ضعف. انتهى.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- ينتهش اللحم، أى يقبض عليه بفمه ويزيله من العظم أو غيره، وينتشله أى يقتلعه من المرق. والنهش بعد الانتشال.

وفى البخارى: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- احتز من كتف شاة فى يده، فدعى إلى الصلاة، فألقاها والسكين التى يحتز بها، ثم قال إلى الصلاة، ولم يتوضأ (٣) .

__________

(١) أخرجه أحمد فى (المسند) (٦/ ٣٦٠) ، والنسائى فى (الكبرى) (٦٦٥٨) ، والطبرانى فى (الكبير) (٢٤/ ٣٣٧) .

(٢) أخرجه ابن ماجه (٣٣٠٨) فى الأطعمة، باب: أطايب اللحم، وأحمد فى (المسند) (١/ ٢٠٤) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤/ ١٢٤) .

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٧) فى الوضوء، باب: من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، ومسلم (٢٥٤) فى الحيض، باب: نسخ الوضوء مما مست النار، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

قال ابن بطال: هذا الحديث يرد حديث أبى معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رفعته: (لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم وانهشوا فإنه أهنأ وأمرأ) (١) قال أبو داود وهو حديث ليس بالقوى.

قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى- رحمه اللّه-، له شاهد من حديث صفوان بن أمية. أخرجه الترمذى بلفظ: (انهشوا اللحم نهشا، فإنه أهنأ وأمرأ) (٢)

وقال: لا نعرفه إلا من حديث عبد الكريم انتهى.

قال: وعبد الكريم هو أبو أمية بن أبى المخارق، .....، لكن أخرجه ابن أبى عاصم من وجه آخر عن صفوان بن أمية فهو حسن لكن ليس فيه ما زاده أبو معشر من التصريح بالنهى عن قطع اللحم بالسكين. وأكثر ما فى حديث صفوان أن النهش أولى. انتهى.

ويمكن الجمع: بأن النهش مما على العظم الصغير، والاحتزاز مما على الكبير. وأكل- صلى اللّه عليه وسلم- الشواء، فعن أم سلمة أنها قربت إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- جنبا مشويّا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة وما توضأ (٣) ، قال الترمذى: حسن صحيح. وأكل- صلى اللّه عليه وسلم- القديد، كما فى حديث فى السنن عن رجل

قال: ذبحت لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شاة ونحن مسافرون. ف

قال: (أصلح لحمها) ، فلم أزل أطعمه منه إلى المدينة (٤) وأكل- صلى اللّه عليه وسلم- من الكبد المشوية. وأكل لحم الدجاج (٥) رواه الشيخان والترمذى وغيرهم. وأكل لحم حمار

__________

(١) أخرجه أبو داود (٣٧٧٨) فى الأطعمة، باب: فى أكل اللحم، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-،

وأخرجه الترمذى (١٨٣٥) فى الأطعمة، باب: ما جاء أنه

قال: انهشوا اللحم نهشا، وأحمد فى (المسند) من حديث صفوان بن أمية- رضى اللّه عنه- .

(٢) وقد تقدم فيما قبله.

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (١٨٢٩) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى أكل الشواء، والنسائى فى (الكبرى) (١٨٩) .

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (١٩٧٥) فى الأضاحى، باب: بيان ما كان من النهى عن أكل لحوم الأضاحى بعد ثلاث فى أول الإسلام.

(٥) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (٥٥١٧) فى الذبائح والصيد، -

- باب: لحم الدجاج، ومسلم (١٦٤٩) فى الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتى الذى هو خير، ويكفر عن يمينه، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى اللّه عنه-.

الوحش (١) رواه الشيخان، وأكل لحم الجمل سفرا وحضرا. وأكل لحم الأرنب (٢) رواه الشيخان. وأكل من دواب البحر (٣) رواه مسلم.

وأكل الثريد- وهو بفتح المثلاثة- أن يثرد الخبز بمرق اللحم، وقد يكون معه اللحم. ومن أمثالهم: الثريد أحد اللحمين. وروى أبو داود من حديث ابن عباس

قال: أحب الطعام إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الثريد من الخبز والثريد من الحيس (٤) . وأكله- صلى اللّه عليه وسلم- بالسمن، وأكل الخبز بالزيت.

وعن حذيفة أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إن جبريل أطعمنى الهريسة، يشد بها ظهرى لقيام الليل) (٥) ، رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه محمد بن الحجاج اللخمى، وهو الذى وضع هذا الحديث.

وأكل- صلى اللّه عليه وسلم- الدباء وكانت تعجبه، وكان يتتبعها من حوالى القصعة، قال أنس فلم أزل أحب الدباء من يومئذ (٦) . رواه مسلم. وقال النووى: فيه

__________

 (١) قلت: الذى فى الصحيحين، أنه لم يأكل لأنه كان حرم، وهو يدل على إباحته، لأن رده- صلى اللّه عليه وسلم- لم يكن لحرمته، كما أنه قد أكل أمامه بأمره فى قصة أخرى، وكلتاهما فى الصحيحين، انظر صحيح البخارى (١٨٢١) ، ومسلم (١١٩٦) من حديث أبى قتادة- رضى اللّه عنه-، والبخارى (٢٥٩٦) ، ومسلم (١١٩٣) من حديث الصعب بن جثامة- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (٢٥٧٢) فى الهبة، باب: قبول هدية الصيد، ومسلم (١٩٥٣) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة الأرنب، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه مسلم (١٩٣٥) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-.

(٤) أخرجه أبو داود (٣٧٨٣) فى الأطعمة، باب: فى أكل الثريد.

(٥) ذكره الحافظ ابن حجر فى (اللسان) (٥/ ١١٦) فى ترجمة محمد بن الحجاج اللخمى، وحكم عليه بالوضع به.

(٦) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٩٢) فى البيوع، باب: السهولة والسماحة فى الشراء والبيع، ومسلم (٢٠٤١) فى الأشربة، باب: جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين.

أنه يستحب أن تحب الدباء وكذلك كل شىء كان يحبه- صلى اللّه عليه وسلم-. وكذلك أكل- صلى اللّه عليه وسلم- السلق مطبوخا بالشعير قال الترمذى: حديث حسن غريب.

وأتى الحسن بن على وابن عباس وابن جعفر إلى سلمى فقالوا: اصنعى لنا طعاما مما كان يعجب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ويحسن أكله:

فقالت: يا بنى لا تشتهيه اليوم

فقال: بلى اصنعيه لنا، فقامت فأخذت شيئا من الشعير فطحنته ثم جعلته فى قدر وصبت عليه شيئا من زيت ودقت الفلفل والتوابل فقربته إليهم

فقالت: هذا مما كان يعجبه- صلى اللّه عليه وسلم- ويحسن أكله. رواه الترمذى.

وأكل- صلى اللّه عليه وسلم- الخزيرة- وهى بخاء معجمة مفتوحة ثم زاى مكسورة، وبعد التحتانية الساكنة راء- ما يتخذ من الدقيق على هيئة العصيدة، لكن أرق منها، قاله الطبرى. وقال ابن فارس: دقيق يخلط بشحم، وقال القتبى وتبعه الجوهرى: أن يؤخذ اللحم فيقطع صغارا ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم فهى عصيدة.

وقيل: مرقة تصفى من بلالة النخالة ثم تطبخ،

وقيل: الخزيرة بالإعجام من النخالة، والحريرة- يعنى بالإهمال- من اللبن.

وقال عتبان: غدا على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأبو بكر حين ارتفع النهار، وحبسناه على خزير صنعناه (١) وأكل- صلى اللّه عليه وسلم- الأقط (٢) ، قاله ابن عباس فيما رواه وهو جبن اللبن المستخرج زبده، أكلته وهو كثير بمكة والمدينة زادهما اللّه شرفا، وهو أشبه شىء بالكشك. وأكل- صلى اللّه عليه وسلم- الرطب والتمر والبسر. رواه مسلم والترمذى وغيرهما.

وأكل الكباث (٣) . رواه مسلم، وهو بفتح الكاف وتخفيف الموحدة وبعد

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (١١٨٦) فى التطوع، باب: صلاة النوافل جماعة، ومسلم (٢٦٣) فى المساجد، باب: الرخصة فى التخلف عن الجماعة بعذر.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٥٧٥) فى الهبة، باب: قبول الهدية، ومسلم (١٩٤٧) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة العنب، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-:

(٣) قلت: هو فى الصحيحين الأمر بأكل الأسود منه لأنه أطيبه، والحديث أخرجه البخارى (٣٤٠٦) فى أحاديث الأنبياء، باب: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ، ومسلم (٢٠٥٠) فى الأشربة، باب: فضيلة الأسود من الكباث، من حديث جابر- رضى اللّه عنه- و (الكباث) شىء يشبه التين.

الألف مثلاثة، النضيج من تمر الأراك. وقيل ورق الأراك، وتعقبه الإسماعيلى ف

قال: إنما هو تمر الأراك وهو البرير- بموحدة بوزن الحرير- فإذا اسود فهو الكباث. وفى النهاية لابن الأثير؛ أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يحب الجذب- بالجيم والذال المعجمة المفتوحتين- أى الجمار، وهو شحم النخل واحدتها جذبة.

وأما الجبن، ففى السنن من حديث ابن عمر

قال: أتى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بجبنة فى تبوك فدعا بسكين فسمى وقطع (١) رواه أبو داود.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يراعى صفات الأطعمة وطبائعها واستعمالها على قاعدة الطب، فإذا كان فى أحد الطعامين ما يحتاج إلى كسر وتعديل كسره وعدله بضده إن أمكن، كتعديله حرارة الرطب بالبطيخ. وهذا أصل كبير فى المركبات من الأدوية، وإن لم يجد ذلك تناوله على حاجة وداعية من النفس من غير إسراف. وروى أبو داود من حديث أبى أسامة عن هشام أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يأكل البطيخ بالرطب، ويقول يكسر حر هذا ببرد هذا، وبرد هذا بحر هذا (٢) . ورواه يزيد بن رومان عن الزهرى عن عروة بتقديم (الطاء) كما للنوقانى، وبتأخيرها كما للنسائى فى الوليمة، فكأنه عند هشام باللفظين.

وكذا رواه ابن حبان فى صحيحه من حديث محمد بن عبد الرحمن عن الإمام أحمد بن حنبل عن وهب بن جرير بن حازم، حدثنا أبى، سمعت حميدا يحدث عن أنس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان يأكل الطبيخ أو البطيخ بالرطب، وقال عقبة: الشك من أحمد (٣) . وتقديم الطاء لغة حكاها صاحب المحكم.

وقد كان محمد بن أسلم لا يأكل البطيخ لأنه لم ينقل كيفية أكل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- له. وروى الطبرانى فى الأوسط من حديث عبد اللّه بن جعفر

__________

(١) حسن: أخرجه أبو داود (٣٨١٩) فى الأطعمة باب: أكل الجبن، .

(٢) حسن: أخرجه أبو داود (٣٨٣٦) فى الأطعمة، باب: فى الجمع بين لونين فى الأكل، والترمذى (١٨٤٣) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى أكل البطيخ بالرطب من حديث عائشة- رضى اللّه عنها- .

(٣) صحيح: وهو عند ابن حبان فى (صحيحه) (٥٢٤٨) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط، إسناده صحيح على شرط الشيخين.

قال: رأيت فى يمين النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قثاء وفى شماله رطبا وهو يأكل من ذا مرة، ومن ذا مرة (١) ، وفى سنده ضعف.

وأخرج فيه، وفى الطب لأبى نعيم من حديث أنس. كان يأخذ الرطب بيمينه والبطيخ بيساره، فيأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحب الفاكهة إليه. وسنده ..... أيضا.

وأخرج النسائى بسند صحيح عن حميد عن أنس: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يجمع بين الرطب والخربز- (٢) وهو بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها زاى- نوع من البطيخ الأصفر. وفى هذا تعقب على من زعم أن المراد بالبطيخ فى الحديث الأخضر، واعتلوا بأن الأصفر فيه حرارة كما فى الرطب، وقد ورد التعليل بأن أحدهما يطفئ الآخر. والجواب عن ذلك بأن فى الأصفر بالنسبة للرطب برودة، وإن كان فيه لحلاوته طرف حرارة، واللّه أعلم.

وفى رواية النسائى أيضا، بسند صحيح عن عائشة أن نبى اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أكل البطيخ والرطب جميعا (٣) .

وأخرج ابن ماجه عن عائشة: أرادت أمى معالجتى للسمنة لتدخلنى على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فما استقام لها ذلك حتى أكلت الرطب بالقثاء، فسمنت كأحسن سمنة (٤) . ورواه النسائى و

قال: بالتمر، مكان الرطب. وأما فضائل البطيخ فأحاديثه باطلة، وإن أفرده النوقاتى فى جزء كما قال الحافظ واللّه أعلم.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يأكل التمر بالزبد ويعجبه. فعن عبد اللّه وعطية ابنى بسر، قالا: دخل علينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقدمنا له زبدا وتمرا، وكان يحب الزبد والتمر.

__________

(١) جدّا: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٩/ ١٧٠) و

قال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه أصرم بن حوشب.

(٢) صحيح: أخرجه البغدادى فى (تاريخ بغداد) (٣/ ٤٠) وعزاه فيه لأحمد والترمذى فى الشمائل والنسائى.

(٣) حسن: وقد تقدم قريبا.

(٤) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (٣٩٠٣) فى الطب، باب: فى السمنة، والنسائى فى (الكبرى) (٦٧٢٥) ، وابن ماجه (٣٣٢٤) فى الأطعمة، باب: القثاء والرطب يجمعان.

رواه أبو داود وابن ماجه. وسمى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- اللبن والتمر الأطيبين (٢) . رواه أحمد. وكان يأكل الخبز مأدوما ما وجد له إداما، فتارة يأدمه باللحم ويقول: هو سيد الطعام لأهل الدنيا والآخرة، وتارة بالبطيخ، وتارة بالتمر، فإنه وضع تمرة على كسرة من خبز الشعير، و

قال: (هذه إدام هذه) (٣) ، رواه أبو داود والترمذى بسند حسن من حديث يوسف بن عبد اللّه ابن سلام

قال: رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أخذ ... فذكره. قال ابن القيم: وهذا من تدبير الغذاء، فإن الشعير بارد يابس، والتمر حار رطب- على أصح القولين- فإدام خبز الشعير به من أحسن التدبير. وتارة بالخل، ويقول: نعم الأدم الخل (٤) رواه مسلم، وتقدم.

قال الخطابى والقاضى عياض: معناه مدح الاقتصاد فى المأكل، ومنع النفس من ملاذ الأطعمة، تقديره: ائتدموا بالخل وما فى معناه مما تخفف مؤنته ولا يعز وجوده، ولا تنافسوا فى الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن.

وتعقبه النووى ف

قال: الذى ينبغى أن يجزم به، أنه مدح للخل نفسه، وأما الاقتصاد فى المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر. انتهى. وقال ابن القيم: هذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر، لا تفضيله على غيره كما ظنه بعضهم،

قال: وسبب الحديث أنه دخل على أهله يوما فقدموا له خبزا ف

قال: (ما من أدم؟) فقالوا: ما عندنا إلا الخل، ف

قال: (نعم الأدم الخل) والمقصود أن أكل الخبز مع الأدم من أسباب حفظ الصحة بخلاف الاقتصار على أحدهما، وسمى الأدم أدما لإصلاحه الخبز وجعله ملائما لحفظ الصحة،

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٨٣٧) فى الأطعمة، باب: فى الجمع بين لونين فى الأكل، وابن ماجه (٣٣٣٤) فى الأطعمة، باب: التمر بالزبد.

(٢) أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ٤٧٤) عن رجل من الصحابة.

(٣) أخرجه أبو داود (٣٢٥٩ و ٣٢٦٠) فى الأيمان والنذور، باب: الرجل يحلف أن لا يتأدم، و (٣٨٣٠) فى الأطعمة، باب: فى التمر .

(٤) صحيح: وقد تقدم.

وليس فى هذا تفضيل له على اللبن واللحم والعسل والمرق، ولو حضر لحم أو لبن لكان أولى بالمدح منه، فقال هذا جبرا وتطييبا لقلب من قدمه له، لا تفضيلا له على سائر أنواع الأدم.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها، ولا يحتمى عنها.

وهذا من أكبر أسباب الصحة، فإن اللّه سبحانه بحكمته جعل فى كل بلد من الفاكهة ما ينتفع به أهلها فى وقته، فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم، ويغنى عن كثير من الأدوية، وقل من احتمى عن فاكهة بلدة خشية السقم إلا وهو من أسقم الناس جسما وأبعدهم من الصحة والقوة، فمن أكل منها ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى، على الوجه الذى ينبغى كان له دواء نافعا.

وقد روى ابن عباس

قال: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يأكل العنب خرطا (١) . رويناه فى الغيلانيات. لكن قال أبو جعفر العقيلى- كما حكاه فى الهدى- .......ذا الحديث. قال ابن الأثير: يقال خرط العنقود واخترطه إذا وضعه فى فيه ثم يأخذ حبه ويخرج عرجونه عاريا منه.

قال: وجاء فى بعض الروايات خرصا- بالصاد بدل الطاء-.

وأما البصل فروى أبو داود فى سننه عن عائشة أنها سئلت عن البصل

فقالت: إن آخر طعام أكله رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فيه بصل (٢) . وثبت عنه فى الصحيحين أنه منع آكله من دخول المسجد (٣) . وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يترك الثوم دائما

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ٣٨) و

قال: رواه الطبرانى، وفيه زياد بن المنذر، وهو كذاب. اه. قلت: وانظر (..... الجامع) (٤٥٢٠) .

(٢) أخرجه أبو داود (٣٨٢٩) فى الأطعمة، باب: فى أكل الثوم، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٨٩) .

(٣) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (٨٥٤) فى الأذان، باب: ما جاء فى الثوم النىء والبصل والكراث، ومسلم (٥٦٤) فى المساجد، باب: نهى من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها مما له رائحة كريهة عن حضور المسجد حتى تذهب تلك الريح، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-، وفى الباب عن غيره من الصحابة.

لأنه يتوقع مجىء الملائكة والوحى كل ساعة. قال النووى: واختلف أصحابنا فى حكم الثوم فى حقه- صلى اللّه عليه وسلم- وكذلك البصل والكراث ونحوها، فقال بعض أصحابنا: هى محرمة عليه، والأصح عندهم أنها مكروهة كراهة تنزيه وليست محرمة لعموم قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا) فى جواب: أحرام هى؟ (١) ومن قال بالأول يقول: معنى الحديث: ليس بحرام فى حقكم. انتهى. فينبغى لمحبه موافقته- صلى اللّه عليه وسلم- فى ترك الثوم ونحوه، وكراهة ما كان يكرهه- صلى اللّه عليه وسلم-، فإن من أوصاف المحب الصادق أن يحب ما أحب محبوبه ويكره ما يكرهه.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يأكل بأصابعه الثلاث (٢) . رواه الترمذى فى الشمائل وهذا- كما فى الهدى- أنفع ما يكون من الأكلات، فإن الأكل بأصبع أكل المتكبر، ولا يستلذ به الآكل ولا يمريه ولا يشبعه إلا بعد طول، ولا يفرح آلات الطعام والمعدة بما ينالها فى كل أكلة فيأخذها على إغماض كما يأخذ الرجل حقه حبة حبة أو نحو ذلك، فلا يلتذ بأخذه، والأكل بالخمسة والراحة يوجب ازدحام الطعام على الآلة وعلى المعدة، وربما استدت الآلات فمات، وتغصب الآلات على دفعه، والمعدة على احتماله، ولا يجد له لذة ولا استمراء، فأنفع الأكل أكله- صلى اللّه عليه وسلم-، وأكل من اقتدى به بالأصابع الثلاثة.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يلعق أصابعه إذا فرغ ثلاثا: رواه الترمذى فى الشمائل.

وفى رواية مسلم ويلعق يده قبل أن يمسحها. وفى رواية أنه أمر بلعق الأصابع والصحفة (٣) . وقد روى الترمذى عن أم عاصم

قالت: دخل علينا نبيشة الخير، ونحن نأكل فى قصعة فحدثنا أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (من أكل

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (٥٦٥) فيما سبق، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (٢٠٣٢) فى الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة، وأبو داود (٣٨٤٨) فى الأطعمة، باب: فى المنديل، من حديث كعب بن مالك- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: وهو إحدى روايات حديث مسلم السابق.

فى قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة) (١) ، وكذا أخرجه ابن ماجه وأحمد وابن شاهين والدارمى وغيرهم. وقال الترمذى: إنه حديث غريب. وأورده بعضهم بلفظ: تستغفر الصحفة للاحسها. وفى حديث جابر مرفوعا عن أبى الشيخ فى الثواب: (من أكل ما يسقط من الخوان أو القصعة أمن من الفقر والبرص والجذام وصرف عن ولده الحمق) (٢) . وللديلمى من طريق الرشيد عن آبائه عن ابن عباس رفعه؛ (من أكل ما يسقط من المائدة خرج ولده صباح الوجوه، ونفى عنه الفقر) (٣) .

وأورده الغزالى فى الإحياء بلفظ: (عاش فى سعة وعوفى فى ولده) وكلها مناكير.

لكن فى مسلم عن جابر وأنس مرفوعا: (إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه لأنه لا يدرى فى أى طعامه البركة) (٤) . وفى حديث كعب بن عجرة عند الطبرانى فى الأوسط صفة لعق الأصابع، ولفظه:

رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يأكل بأصابعه الثلاث، بالإبهام والتى تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها، الوسطى ثم التى تليها ثم الإبهام (٥) . قال الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى: كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلويثا لأنها أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما ينزل الطعام. وقد وقع فى مرسل ابن شهاب

__________

(١) أخرجه الترمذى (١٨٠٤) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى اللقمة تسقط، وابن ماجه (٣٢٧١ و ٣٢٧٢) فى الأطعمة، باب: تنقية الصحفة، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٧٦).

(٢) أخرجه الحسن بن معروف فى فضائل بنى هاشم، والخطيب وابن النجار عن ابن عباس، كما فى (كنز العمال) (٤٠٨٢٣) ، وانظر (كشف الخفاء) (٢٣٩٣) .

(٣) تقدم فيما قبله.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٣٣) فى الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة من حديث جابر- رضى اللّه عنه-،

وأخرجه مسلم (٢٠٣٤) من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٥) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ٢٨) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه الحسن بن إبراهيم الأوبى، ومحمد بن كعب بن عجرة ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات.

عند سعيد بن منصور أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا أكل أكل بخمس. فيجمع بينه وبين ما تقدم باختلاف الحال. وقد جاءت علة اللعق مبينة- فى بعض الروايات- أنه لا يدرى أحدكم فى أى طعامه البركة. وفى الحديث رد على من كره لعق الأصابع استقذارا ممن ينسب للرياسة والإمرة فى الدنيا. نعم، يحصل ذلك لو فعله أثناء الأكل لأنه يعيد أصابعه فى الطعام، وعليها أثر ريقه.

قال الخطابى: عاب قوم أفسد عقلهم الترفه لعق الأصابع، وزعموا أنه مستقبح، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذى علق بالأصابع والصحفة جزء من أجزاء ما أكلوه، وإذا لم يكن سائر أجزائه مستقذرا لم يكن الجزء اليسير منه مستقذرا، وليس فى ذلك أكثر من مصه أصابعه بباطن شفتيه، ولا يشك عاقل أن لا بأس بذلك، فقد يتمضمض الإنسان فيدخل أصبعه فى فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه، ثم لم يقل أحد إن ذلك قذارة وسوء أدب، انتهى. ولا ريب أن من استقذر ما نسب إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سيىء الأدب، يخشى عليه أمر عظيم، فنسأل اللّه بوجاهة وجهه الكريم أن لا يسلك بنا غير حلاوة سبيل سنته وأن يديم لنا محبته. وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- لا يأكل متكئا، لما صح أنه قال (لا آكل متكئا) (١) . رواه البخارى. وقال: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد) (٢) . وروى ابن ماجه والطبرانى بإسناد حسن

قال: أهديت للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- شاة، فجثا على ركبتيه يأكل فقال له أعرابى: ما هذه الجلسة؟ ف

قال: (إن اللّه جعلنى كريما ولم يجعلنى جبارا عنيدا) (٣) .

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٣٩٨ و ٥٣٩٩) فى الأطعمة، باب: الأكل متكئا، من حديث أبى جحيفة- رضى اللّه عنه-.

(٢) تقدم.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٧٧٣) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الأكل من أعلى الصحفة، وابن ماجه (٣٢٦٣) فى الأطعمة، باب: الأكل متكئا، من حديث عبد اللّه بن بسر- رضى اللّه عنه-.

قال ابن بطال: إنما فعل ذلك النبى- صلى اللّه عليه وسلم- تواضعا للّه، ثم ذكر من طريق أيوب عن الزهرى

قال: أتى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ملك لم يأته قبلها ف

قال: إن ربك يخيرك بين أن تكون نبيّا ملكا أو نبيّا عبدا، فنظر إلى جبريل كالمستشير له، فأومأ إليه أن تواضع، ف

قال: (بل عبدا نبيّا) قال فما أكل متكئا (١) .

وهذا مرسل أو معضل، وقد وصله النسائى من طريق الزبيدى عن الزهرى عن محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن العاصى

قال: ما رؤى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يأكل متكئا قط

وأخرج ابن أبى شيبة عن مجاهد

قال: ما أكل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- متكئا إلا مرة واحدة. ويمكن الجمع بأن تلك المرة التى فى أثر مجاهد لم يطلع عليها عبد اللّه بن عمرو. فقد أخرج ابن شاهين (فى ناسخه) من مرسل عطاء بن يسار: أن جبريل رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يأكل متكئا فنهاه، وروى ابن ماجه أنه- صلى اللّه عليه وسلم- نهى أن يأكل الرجل وهو منبطح على وجهه (٢) . وقد فسر القاضى عياض فى الشفاء الاتكاء بالتمكن للأكل والتقعدد للجلوس له كالمتربع وشبهه من تمكن الجلسات التى يعتمد فيها الجالس على ما تحته.

قال: والجالس على هذه الهيئة يستدعى الأكل ويستكثر منه. والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- إنما كان جلوسه للأكل المستوفز مقعيا.

قال: وليس معنى الحديث فى الاتكاء الميل على شق عند المحققين انتهى. والإقعاء: أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويتساند إلى ظهره، وهو المنهى عنه فى الصلاة.

وتفسير القاضى عياض الاتكاء بما فسره به حكاه فى الإكمال عن الخطابى، و

قال: إن الخطابى خالف فى هذا التأويل أكثر الناس، وأنهم إنما حملوا الاتكاء على أنه الميل على أحد الجانبين. انتهى. والذى رأيته يعزى للخطابى: تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه وليس كذلك،

__________

(١) تقدم.

(٢) حسن: أخرجه أبو داود (٣٧٧٤) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الجلوس على مائدة عليها بعض ما يكره، وابن ماجه (٣٣٧٠) فى الأطعمة، باب: النهى عن الأكل منبطحا، من حديث عبد اللّه بن عمر- رضى اللّه عنهما-.

بل هو المعتمد على الوطاء الذى تحته. انتهى. وقد فسر أيضا بالميل على أحد الشقين، وبه فسر ابن الجوزى: وقيل هو الاعتماد على الشىء،

وقيل: أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض. وقد أخرج ابن عدى بسند ..... زجر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل. قال الإمام مالك: هو نوع من الاتكاء، قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى: وفى هذا إشارة من مالك إلى كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئا، ولا يختص بصفة بعينها، وحكى ابن الأثير فى النهاية أن من فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطب. وقال ابن القيم: إنه يضر بالآكل، فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعى عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ويضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء.

وأما الاعتماد على الشىء فهو جلوس الجبابرة المنافى للعبودية، ولهذا قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (آكل كما يأكل العبد) (١) . وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائل والوطاء الذى تحت الجالس- كما ذكرته عن الخطابى- فيكون المعنى: أنى إذا أكلت لم أقعد متكئا على الأوطئة والوسائد كفعل الجبابرة ومن يريد الإكثار من الطعام، لكنى آكل بلغة من الزاد، فلذلك أقعد مستوفزا.

وفى حديث أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أكل تمرا وهو مقع (٢) ، من الجوع. وفى رواية: وهو محتفز. والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن. واختلف السلف فى حكم الأكل متكئا، فزعم ابن القاص: أن ذلك من خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وتعقبه السهيلى ف

قال: قد يكره لغيره أيضا لأنه من فعل المتعظمين، وأصله مأخوذ من ملوك العجم،

قال: فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه من الأكل إلا متكئا لم يكن فى ذلك كراهة، ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك، وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة.

__________

(١) تقدم.

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٧٧١) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الأكل متكئا.

قال فى فتح البارى: وفى الحمل نظر، وقد أخرج ابن أبى شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار وغيرهم جواز ذلك مطلقا، وإذا ثبت كونه مكروها أو خلاف الأولى، فالمستحب فى صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثيا على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى. انتهى.

وقال ابن القيم: ويذكر عنه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه كان يجلس للأكل متوركا على ركبتيه ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر اليمنى تواضعا- صلى اللّه عليه وسلم- للّه عز وجل وأدبا بين يديه. قال وهذه الهيئة أنفع هيئات الأكل وأفضلها لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعى الذى خلقها اللّه تعالى عليه.

انتهى.

وأخرج ابن أبى شيبة من طريق إبراهيم النخعى

قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاة مخافة أن تعظم بطونهم.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا وضع يده فى الطعام يسمى اللّه تعالى (١) . وأما قول النووى فى آداب الأكل من الأذكار: والأفضل أن يقول: بسم اللّه الرحمن الرحيم، فإن

قال: بسم اللّه كفاه وحصلت السنة. فقال فى فتح البارى: لم أر لما أدعاه من الأفضلية دليلا خاصا. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يحمد فى آخره فيقول:

(الحمد للّه حمدا كثيرا مباركا فيه غير مودع ولا مستغنى عنه ربنا) (٢) رواه الترمذى.

وقوله: (غير مودع) بفتح الدال الثقيلة- أى غير متروك. ولا مستغنى: بفتح النون. وربنا: بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أى: هو ربنا؛ ويجوز النصب على المدح، أو الاختصاص، أو إضمار أعنى. وقال ابن الجوزى: بالنصب على النداء مع حذف أداة النداء.

وفى رواية: (الحمد للّه الذى أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين) (٣) .

__________

(١) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٤/ ٣٣٧) عن رجل خدم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ثمان سنين، وله شاهد صحيح من أمره لغلام وسيأتى.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٤٥٨ و ٥٤٥٩) فى الأطعمة، باب: ما يقول إذا فرغ من طعامه، من حديث أبى أمامة- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه أبو داود (٣٨٥٠) فى الأطعمة، باب: ما يقول الرجل إذا طعم، والترمذى (٣٤٥٧) فى الدعوات، باب: ما يقول إذا فرغ من الطعام، وابن ماجه (٣٢٨٣) فى-

وللنسائى من طريق عبد الرحمن بن جبير المصرى أنه حدثه رجل خدم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ثمان سنين له كان يسمع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إذا قرب إليه طعام يقول:

(بسم اللّه) ، فإذا فرغ

قال: (اللّهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت وأحييت فلك الحمد على ما أعطيت) (١) وسنده صحيح.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يحب التيامن من شأنه كله (٢) ، وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (يا غلام سم اللّه وكل بيمينك وكل مما يليك) (٣) . قال الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى: حمله أكثر الشافعية على الندب، وبه جزم الغزالى ثم النووى. لكن نص الشافعى فى الرسالة وفى موضع آخر من الأم على الوجوب، كذا ذكر عنه الصيرفى فى شرح الرسالة. ونقل البويطى فى مختصره: أن الأكل من رأس الثريد، والتعريس على الطريق، والقران فى التمر حرام. ومثل البيضاوى فى منهاجه للندب بقوله: (كل مما يليك) وتعقبه الشيخ تاج الدين بن السبكى فى شرحه: بأن الشافعى نص فى غير هذا الموضع على أن من أكل مما لا يليه عالما بالنهى كان عاصيا آثما،

قال: وقد جمع والدى نظائر هذه المسألة فى كتاب له سماه (كشف اللبس عن المسائل الخمس) ونصر القول بأن الأمر فيها للوجوب.

قال شيخ الإسلام ابن حجر: بعد أن ذكر ذلك: ويدل على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد فى الأكل بالشمال، ففى صحيح مسلم أن النبى

__________

- الأطعمة، باب: ما يقال إذا فرغ من الطعام، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٣٢ و ٩٨ و ٢٥٣) من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

(١) تقدم قريبا.

(٢) قلت: ورد ذلك فى حديث أخرجه البخارى (٤٢٦) فى الصلاة، باب: التيمن فى دخول المسجد وغيره، ومسلم (٢٦٨) فى الطهارة، باب: التيمن فى الطهور وغيره، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٣٧٦) فى الأطعمة، باب: التسمية على الطعام، والأكل باليمين، ومسلم (٢٠٢٢) فى الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، من حديث عمر بن أبى سلمة- رضى اللّه عنهما-.

- صلى اللّه عليه وسلم- رأى رجلا يأكل بشماله ف

قال: (كل بيمينك) ف

قال: لا أستطيع،

قال: (لا استطعت) (١) فما رفعها إلى فيه بعد

فإن قلت: إنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يتتبع الدباء من حوالى القصعة وهو يعارض الأكل مما يلى:

فالجواب: أنه يحمل الجواز على ما إذا علم رضى من يأكل معه، فإذا علم كراهة من يأكل معه لذلك لم يأكل إلا مما يليه. قال ابن بطال: وإنما جالت يد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الطعام، لأنه علم أن أحدا لا يتكره ذلك منه ولا يتقذره، بل كانوا يتبركون بريقه وبما مسه بيده، بل كانوا يتبادرون إلى نخامته فيتدلكون بها. وقال غيره: إنما فعل ذلك لأنه كان يأكل وحده. وهو غير مسلّم، لأن أنسا أكل معه- صلى اللّه عليه وسلم-. وحديث عكراش عند الترمذى: الذى فيه التفصيل بين ما إذا كان لونا واحدا فلا يتعدى ما يليه، أو أكثر من لون فيجوز، ..... واللّه أعلم.

وقرب إليه- صلى اللّه عليه وسلم- طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟

قال: (إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة) (٢) رواه الترمذى. وفى رواية له: أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده) (٣) . فيحمل الوضوء الأول على الشرعى والثانى على اللغوى. وروى أبو يعلى بإسناد ..... من حديث ابن عمر: من أكل من هذه اللحوم شيئا فليغسل يده من ريح وضره، ولا يؤذى من حذاءه.

ولم يكن- صلى اللّه عليه وسلم- يأكل طعاما حارا، فروى الطبرانى فى الصغير والأوسط من حديث بلال بن أبى هريرة عن أبيه أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أتى بصحفة تفور،

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٢١) فيما سبق، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٣٧٤) فى الحيض، باب: جواز أكل المحدث الطعام، وأنه لا كراهة فى ذلك، وأبو داود (٣٧٦٠) فى الأطعمة، باب: فى غسل اليدين عند الطعام، والترمذى (١٨٤٧) فى الأطعمة، باب: فى ترك الوضوء قبل الطعام، والنسائى (١/ ٨٥) فى الطهارة، باب: الوضوء لكل صلاة، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٣) أخرجه أبو داود (٣٧٦١) فى الأطعمة، باب: فى غسل اليد قبل الطعام، والترمذى (١٨٤٦) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الوضوء قبل الطعام وبعده، من حديث سلمان- رضى اللّه عنه-، وقال أبو داود عقبه: وهو ......

فقال: (إن اللّه لم يطعمنا نارا) (١)

قال: وبلال قليل الرواية عن أبيه. انتهى. وعند أبى نعيم فى الحلية، من حديث أنس مرفوعا: كان يكره الكى والطعام الحار ويقول: (عليكم بالبارد فإنه ذو بركة، ألا وإن الحار لا بركة له) (٢) الحديث. ولأحمد وأبى نعيم من حديث أسماء أنها كانت إذا ثردت غطته بشىء حتى يذهب فوره ثم تقول: إنى سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (هو أعظم بركة) (٣) . لكن عند البيهقى- بسند صحيح- عن أبى هريرة

قال: أتى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بطعام سخن ف

قال: (ما دخل بطنى طعام سخن منذ كذا وكذا قبل اليوم) (٤) .

وكان له- صلى اللّه عليه وسلم- قدح من خشب مضبب بحديد، قال أنس لقد سقيته- صلى اللّه عليه وسلم- بهذا القدح الشراب كله: الماء والنبيذ والعسل. وفى البخارى عن سهل بن سعد

قال: أقبل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- حتى جلس فى سقيفة بنى ساعدة هو وأصحابه، ثم قال (اسقنا يا سهل) فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه (٥) ، فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له. الحديث. وكان عمر بن عبد العزيز قد ولى حينئذ إمرة المدينة.

وعند البخارى من حديث عاصم الأحول

قال: رأيت قدح النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضة.

قال: وهو قدح جيد عريض من نضار، و

قال: قال أنس: لقد سقيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذا القدح أكثر من كذا وكذا (٦) ،

قال: وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ٢٠) و

قال: رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط، وفيه عبد اللّه بن يزيد البكرى، ضعفه أبو حاتم، وبقية رجاله ثقات.

(٢) جدّا: أخرجه أبو نعيم فى (الحلية) (٨/ ٢٥٢).

(٣) أخرجه أبو نعيم فى (الحلية) (٨/ ١٧٧) ، وانظر (كشف الخفاء) للعجلونى (٣٦) .

(٤) أخرجه البيهقى فى (السنن الكبرى) (٧/ ٢٨٠) .

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٣٧) فى الأشربة، باب: الشرب من قدح النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٠٠٧) فى الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذى لم يشتد ولم يصر مسكرا.

(٦) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٥٦٣٨) فى الأشربة، باب: الشرب من قدح النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وآنيته.

من حديث فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال أبو طلحة: لا تغيرن شيئا صنعه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وتركه.

وعنده: فى فرض الخمس من طريق أبى حمزة السكرى عن عاصم

قال: رأيت القدح وشربت منه.

وأخرجه أبو نعيم من طريق على بن الحسن ابن شقيق عن أبى حمزة، ثم

قال: قال على بن الحسن وأنا رأيت القدح وشربت منه. وذكر القرطبى فى مختصر البخارى أنه رأى فى بعض النسخ القديمة من البخارى: قال أبو عبد اللّه البخارى: - رأيت هذا القدح بالبصرة وشربت فيه، وكان اشترى من ميراث النضر بن أنس بثمانمائة ألف. ووقع عند أحمد من طريق شريك عن عاصم: رأيت عند أنس قدح النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فيه ضبة من فضة. وقوله من نضار- بضم النون وبالضاد المعجمة- الخالص من العود ومن كل شىء وي

قال: أصله من شجر النبع،

وقيل: من الأثل ولونه يميل إلى الصفرة. ولم يأكل- صلى اللّه عليه وسلم- على خوان ولا أكل خبزا مرققا (١) ، رواه الترمذى. والخوان- بكسر المعجمة ويجوز ضمها- المائدة ما لم يكن عليها طعام، وأما السفرة: فاشتهرت لما يوضع عليه الطعام. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- ينهى عن النوم على الأكل، ويذكر أنه يقسى القلب، ذكره أبو نعيم، ولذا قال الأطباء- كما فى الهدى (٢) - من أراد حفظ الصحة فليمش بعد العشاء ولو مائة خطوة ولا ينام عقبه فإنه يضر جدّا، والصلاة بعد الأكل تسهل هضمه.

وأما شربه- صلى اللّه عليه وسلم- فقد كان يستعذب له الماء، أى يطلب له الماء الحلو.

قالت عائشة: كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا (٣) . رواه أبو داود. وهى- بضم المهملة وبالقاف- وهى عين بينها وبين المدينة يومان.

__________

(١) صحيح: وقد تقدم.

(٢) هو كتاب (زاد المعاد فى هدى خير العباد) لابن القيم- رحمه اللّه-، وهو كتاب مشهور فى بابه.

(٣) حسن: أخرجه أبو داود (٣٧٣٥) فى الأشربة، باب: فى إسكاء الآنية، وأحمد فى (المسند) (٦/ ١٠٨) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٥٣٣٢) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى.

قال ابن بطال: واستعذاب الماء لا ينافى الزهد، ولا يدخل في الترفه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه، فقد كرهه مالك لما فيه من السرف. وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح قد فعله الصالحون. وليس فى شرب الماء المالح فضيلة. وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يشرب العسل الممزوج بالماء البارد.

قال ابن القيم: وفى هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدى إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء، فإن شرب العسل ولعقه على الريق يزيل البلغم ويغسل خمل المعدة، ويجلو لزوجتها ويدفع عنها الفضلات، ويسخنها باعتدال ويفتح سددها، والماء البارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ البدن. وقالت عائشة: كان أحب الشراب إليه- صلى اللّه عليه وسلم- الحلو البارد (١) . رواه الترمذى. ويحتمل أن تريد به الماء الممزوج بالعسل أو الذى نقع فيه التمر والزبيب. وكان ينبذ له أول الليل ويشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التى تجىء، والغد إلى العصر، فإن بقى شىء سقاه الخدام أو أمر به فصب (٢) . رواه مسلم.

وهذا النبيذ: هو ماء يطرح فيه تمر يحليه، وله نفع عظيم فى زيادة القوة، ولم يكن يشربه بعد ثلاث خوفا من تغيره إلى الإسكار. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يشرب اللبن خالصا تارة، وتارة مشوبا بالماء البارد، لأن اللبن عند الحلب يكون حارا، وتلك البلاد فى الغالب حارة، فكان يكسر حر اللبن بالماء البارد. وعن جابر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- دخل على رجل من الأنصار، ومعه صاحب له، فسلم فرد الرجل وهو يحول الماء فى حائطه، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن كان عندك ماء بات فى شنه وإلا كرعنا)

فقال: عندى ماء بات فى شن، فانطلق إلى العريش فسكب فى قدح ثم حلب عليه من لبن داجن، فشرب- صلى اللّه عليه وسلم- (٣) الحديث. رواه البخارى.

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (١٨٩٥) فى الأشربة، باب: ما جاء أى الشراب كان أحب إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٣٨ و ٤٠) ، والحديث أعله الترمذى بالإرسال.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٠٤) فى الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذى لم يشتد ولم يصر مسكرا، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦١٣) فى الأشربة، باب: شرب اللبن بالماء.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (ليس يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن) (١) قال الترمذى: حديث حسن.

وللترمذى أيضا: عن ابن عمر مرفوعا: (ثلاثة لا ترد: اللبن والوسادة والدهن) (٢) وأنشد بعضهم:

قد كان من سيرة خير الورى ... صلى عليه اللّه طول الزمن

أن لا يرد الطيب والمتكا ... واللحم أيضا يا أخى واللبن

قال ابن القيم: ولم يكن- صلى اللّه عليه وسلم- يشرب على طعامه لئلا يفسده، ولا سيما إن كان الماء حارا أو باردا إنه ردىء جدّا. انتهى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يشرب قاعدا وكان ذلك عادته. رواه مسلم. وفى رواية له أيضا: أنه نهى عن الشرب قائما (٣) وفى رواية له أيضا عن أبى هريرة: (لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسى فليستقىء) (٤) . وفى الصحيحين من حديث ابن عباس

قال: أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بدلو من ماء زمزم فشرب وهو قائم (٥) . وفى حديث على عند البخارى: أنه شرب وهو قائم، ثم

قال: (إن أناسا يكرهون الشرب قائما، وإن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- صنع مثل ما صنعت) (٦) .

وكل هذه الأحاديث صحيحة ولا إشكال فيها ولا تعارض، وغلط من

__________

(١) حسن: أخرجه أبو داود (٣٧٣٠) فى الأشربة، باب: ما يقول إذا شرب اللبن، والترمذى (٣٤٥٥) في الدعوات، باب: ما يقول إذا أكل طعاما، وأحمد فى (المسند) (١/ ٢٢٥) من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) حسن: أخرجه الترمذى (٢٧٩٠) فى الأدب، باب: ما جاء فى كراهية رد الطيب.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٢٥) فى الأشربة، باب: كراهية الشرب قائما، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٢٦) فيما سبق، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٣٧) فى الحج، باب: ما جاء فى زمزم، ومسلم (٢٠٢٧) فى الأشربة، باب: فى الشرب من زمزم قائما.

(٦) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦١٥ و ٥٦١٦) فى الأشربة، باب: الشرب قائما.

زعم أن فيها نسخا، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث، والصواب: أن النهى محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه- صلى اللّه عليه وسلم- قائما فلبيان الجواز.

فإن قلت: كيف يكون الشرب قائما مكروها، وقد فعله- صلى اللّه عليه وسلم

فالجواب: أن فعله- صلى اللّه عليه وسلم- إذا بيانا للجواز لا يكون مكروها، بل البيان واجب عليه- صلى اللّه عليه وسلم-. وأما قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (فمن نسى فليستقىء) فمحمول على الاستحباب والندب، فيستحب لمن شرب قائما أن يتقيأ لهذا الحديث الصحيح الصريح سواء كان ناسيا أو لا، قاله النووى.

وقال المالكية: لا بأس بالشرب قائما، واستدلوا لذلك بحديث جبير بن مطعم

قال: رأيت أبا بكر الصديق يشرب قائما. ويقول مالك إنه بلغه عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلى أنهم كانوا يشربون قياما. وأجابوا عن حديث أبى هريرة (لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسى فليستقىء) بأن عبد الحق

قال: فى إسناده عمر بن حمزة العمرى، وهو ...... انتهى. وقال المازرى: قال بعض شيوخنا لعل النهى ينصرف لمن أتى أصحابه بماء فبادر لشربه قائما قبلهم استبدادا به، وخروجا عن كون ساقى القوم آخرهم شربا.

وقال بعض الشيوخ: الأظهر أنه موقوف على أبى هريرة:

قال: والأظهر لى أن أحاديث شربه قائما تدل على الجواز، وأحاديث النهى تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل، لأن فى الشرب قائما ضرّا ما، فكره من أجله، وفعله هو لأمنه منه،

قال: وعلى هذا الثانى يحمل قوله: (فمن شرب فليستقىء) على أن ذلك يحرك خلطا يكون القىء دواءه، ويؤيده قول النخعى: إنما نهى عن ذلك لداء البطن. انتهى. وقال ابن القيم:

للشرب قائما آفات عديدة منها: أنه لا يحصل به الرى التام، ولا يستقر فى المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء وينزل بسرعة إلى المعدة فيخشى منه أن تبرد حرارتها، ويسرع النفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج، وكل هذا يضر بالشارب قائما، فإذا فعله نادرا لم يضره.

وعند أحمد عن أبى هريرة أنه رأى رجلا يشرب قائما، فقال له قئه،

فقال: لم؟

قال: أيسرك أن يشرب معك الهر

قال: لا،

قال: قد شرب معك من هو شر منه: الشيطان (١) . وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يتنفس فى الشراب ثلاثا ويقول:

(إنه أروى وأمرأ وأبرأ) (٢) رواه مسلم. ومعنى تنفسه: إبانة القدح عن فيه، وتنفسه خارجه، ثم يعود إلى الشرب.

وأخرج الطبرانى فى الأوسط بسند حسن عن أبى هريرة: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان يشرب فى ثلاثة أنفاس (٣) : إذا أدنى الإناء إلى فيه سمى اللّه، فإذا أخره حمد اللّه، يفعل ذلك ثلاثا.

وفى هذا الشرب حكم جمة وفوائد مهمة، نبه- صلى اللّه عليه وسلم- على مجامعها بقوله (إنه أروى وأمرأ وأبرأ) فأروى: من الرى- بكسر الراء من غير همز- أشد ريّا وأبلغه وأنفعه. وأبرأ، أفعل من البرء- بالهمز- وهو الشفاء، أى يبرئ من شدة العطش ودائه لتردده على المعدة الملتهبة دفعات، تسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه، والثالثة ما عجزت عنه الثانية. وأيضا:

فإنه أسلم لحرارة المعدة، وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة ونهلة واحدة، فإنه أسلم عاقبة وآمن غائلة من تناول جميع ما يروى دفعة واحدة، فإنه يخاف منه أن يطفئ الحرارة الغريزية لشدة برده وكثرة كميته، أو يضعفها فيؤدى ذلك إلى فساد المعدة والكبد، وإلى أمراض رديئة، خصوصا فى سكان البلاد الحارة، وفى الأزمنة الحارة، فإن الشرب فيهما وهلة واحدة مخوف عليهم جدّا.

وقوله: أمرأ: بالهمز، أفعل من مرؤ الطعام والشراب فى بدنه إذا داخله وخالطه بسهولة ولذة ونفع. انتهى.

وقال بعضهم: والمعنى أنه يصير هنيئا مريئا. أى: سالما أو مبرئا من مرض أو عطش أو أذى. ويؤخذ من ذلك:

أنه أقمع للعطش وأقوى على الهضم. ومن آفات الشرب نهلة واحدة، أنه

__________

(١) أخرجه أحمد فى (المسند) (٢/ ٣٠١) .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٢٨) فى الأشربة، باب: كراهة التنفس فى نفس الإناء، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) إسناده ..... ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ٨٢) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه اليمان بن المغيرة، وهو ......

يخاف منه الشرق، بأن ينسد مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه، فإذا تنفس رويدا ثم شرب أمن من ذلك. وقد روى عبد اللّه بن المبارك والبيهقى وغيرهما عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصّا، ولا يعب عبّا فإنه يورث الكباد (١) . والكباد: - بضم الكاف وتخفيف الباء- وجع الكبد.

ولا معارضة بين التنفس هنا وبين النهى عن التنفس فى الإناء الوارد فى الحديث، لأن المنهى عنه التنفس داخل الإناء، فإنه ربما حصل للماء تغير من النفس، إما لكون المتنفس كان متغير الفم لمأكول مثلا، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة، أو لأن النفس يصعد ببخار المعدة، وهاهنا التنفس خارج الإناء فلا تعارض، فلو لم يتنفس جاز الشرب بنفس واحد، وقيل يمنع مطلقا لأنه شرب الشيطان.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا دعى لطعام وتبعه أحد أعلم به رب المنزل، فيقول:

(إن هذا تبعنا فإن شئت رجع) (٢) . وكان يكرر على أضيافه ويعرض عليهم الأكل مرارا، وفى حديث أبى هريرة فى قصة شرب اللبن، وقوله مرارا:

(اشرب) فما زال يقول: اشرب حتى

قال: والذى بعثك بالحق لا أجد له مسلكا (٣) . رواه البخارى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا أكل مع قوم كان آخرهم أكلا.

رواه البيهقى فى الشعب عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا. وفى حديث ابن عمر مرفوعا عند ابن ماجه والبيهقى: (إذا وضعت المائدة فلا يقوم الرجل

__________

(١) أخرجه سعيد بن منصور فى سننه وابن السنى، وأبو نعيم فى الطب، والبيهقى فى شعب الإيمان عن ابن أبى حسين مرسلا، كما فى (..... الجامع) (٥٦١) .

(٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٢٠٨١) فى البيوع، باب: السهولة والسماحة فى الشراء والبيع، ومسلم (٢٠٣٦) فى الأشربة، باب: ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه، من حديث أبى مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه البخارى (٦٤٥٢) فى الرقاق، باب: كيف كان عيش النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه، وتخليهم من الدنيا.

وإن شبع حتى يفرغ القوم، فإن ذلك يخجل جليسه وعسى أن يكون له فى الطعام حاجة) (١) .

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم. فدعا فى منزل عبد اللّه بن بسر ف

قال: (اللّهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم) (٢) رواه مسلم، ودعا فى منزل سعد ف

قال: (أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة) (٣) رواه أبو داود، وسقاه آخر لبنا ف

قال: (اللّهم أمتعه بشبابه) (٤) فمرت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء، رواه ابن السنى.

     النوع الثانى فى لباسه صلى اللّه عليه وسلم وفراشه

قال البخارى: باب ما كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يتجوز من اللباس. يعنى يتوسع فلا يضيق بالاقتصار على صنف بعينه، أو لا يضيق بطلب النفيس الغالى، بل يستعمل ما تيسر.

وقال القاضى عياض: كان- صلى اللّه عليه وسلم- قد اقتصر منه على ما تدعوه ضرورته إليه، وزهد فيما سواه، فكان يلبس ما وجده، فيلبس- فى غالب أحواله- الشملة والكساء الخشن والأردية والأزر، ويقسم على من حضره أقبية

__________

(١) جدّا: أخرجه ابن ماجه (٣٢٩٥) فى الأطعمة، باب: النهى أن يقام عن الطعام حتى يرفع.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٤٢) فى الأشربة، باب: استحباب وضع النوى خارج التمر، واستحباب دعاء الضيف لأهل الطعام.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٨٥٤) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الدعاء لرب الطعام إذا أكل عنده، والدارمى فى (سننه) (١٧٧٢) ، وأحمد فى (المسند) (٣/ ١١٨ و ٢٠١) ، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٤) أخرجه ابن أبى شيبة فى (مصنفه) (٦/ ٣٢٢) من حديث عمرو بن الحمق- رضى اللّه عنه-.

الديباج المخوصة بالذهب، ويرفع لمن لم يحضر. إذ المباهاة فى الملابس والتزين بها ليست من خصال الشرف والجلالة، وهى من سمات النساء، والمحمود منها نقاوة الثوب، والتوسط فى جنسه، وكونه ليس مثله، غير مسقط لمروءة جنسه. انتهى.

وقد روى أبو نعيم فى الحلية عن ابن عمر مرفوعا: (أن من كرامة المؤمن على اللّه عز وجل نقاء ثوبه ورضاه باليسير) (١) .

وله أيضا من حديث جابر: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- رأى رجلا وسخة ثيابه ف

قال: (أما وجد هذا شيئا ينقى به ثيابه؟) (٢) .

فقد كانت سيرته- صلى اللّه عليه وسلم- فى ملبسه أتم وأنفع للبدن وأخفه عليه، فإنه لم تكن عمامته بالكبيرة التى يؤذى حملها ويضعفه ويجعله عرضة للآفات، كما يشاهد من حال أصحابها ولا بالصغيرة التى تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد بل وسطا بين ذلك، وكان يدخلها تحت حنكه، فإنها تقى العنق من الحر والبرد، وهو أثبت لها عند ركوب الخيل والإبل، والكر والفر، وكذلك الأردية والأزر أخف على البدن من غيرها.

وقد أطنب ابن الحاج فى المدخل فى الاستدلال لاستحباب التحنيك، ثم

قال: وإذا كانت العمامة من باب المباح فلابد فيها من فعل سنن تتعلق بها، من تناولها باليمين والتسمية والذكر الوارد، إن كانت مما ليس جديدا، وامتثال السنة فى صفة التعميم، من فعل التحنيك والعذبة. وتصغير العمامة يعنى سبعة أذرع أو نحوها، يخرجون منها التحنيك والعذبة، فإن زاد فى العمامة قليلا لأجل حر أو برد فيسامح فيه. ثم قال بعد أن ذكر قوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (٣) ، فعليك بأن تتسرول قاعدا وتتعمم قائما. انتهى.

__________

(١) جدّا: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ١٣٢) وقال: رواه الطبرانى، وفيه عباد بن كثير، وثقه ابن معين، وضعفه غيره، وحرول بن حنفل ثقة، وقال ابن المدينى: له مناكير، وبقية رجاله ثقات. اه.

(٢) رواه الطبرانى وأبو نعيم، كما فى (كشف الخفاء) للعجلونى (٩٢٢) .

(٣) سورة الحشر: ٧.

ولم يكن- صلى اللّه عليه وسلم- يطول أكمامه ويوسعها، بل كان كم قميصه إلى الرسغ، وهو منتهى الكف عند المفصل، لا يجاوز اليد فيشق على لابسه ويمنعه سرعة الحركة والبطش، ولا يقصره- صلى اللّه عليه وسلم- عن هذا فتبرز للحر والبرد، وقد روى عن أسماء بنت يزيد

قالت: كان كم قميص رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الرسغ. رواه الترمذى.

وكان ذيل قميصه وردائه إلى أنصاف الساقين، لم يتجاوز الكعبين، فيؤذى الماشى ويجعله كالمقيد، ولم يقصر عن عضلة ساقيه، فيتأذى بالحر والبرد. أشار إليه فى زاد المعاد.

وأخرج الترمذى عن الأشعث بن سليم

قال: سمعت عمتى تحدث عن عمها

قال: بينا أنا أمشى بالمدينة إذا إنسان خلفى يقول: (ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى) ، فإذا هو رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فقلت: يا رسول اللّه إنما هى بردة

قال: (أما لك فى أسوة؟) فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه (١) .

وأخرج الطبرانى من طريق عبد اللّه بن محمد بن عقيل عن ابن عمر

قال: رآنى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أسبلت إزارى، ف

قال: (يا ابن عمر كل شىء لمس الأرض من الثياب فهو فى النار) (٢) . وفى البخارى من حديث أبى هريرة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار فى النار) (٣) .

قال الخطابى: يريد أن الموضع الذى يناله الإزار من أسفل الكعبين فى النار، فكنى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه: أن الذى دون الكعبين من القدم يعذب بالنار عقوبة. وحاصله أنه من باب تسمية الشىء باسم ما جاوره أو حل فيه، وتكون (من) بيانية.

__________

(١) أخرجه النسائى فى (الكبرى) (٩٦٨٢ و ٩٦٨٣) ، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٣٦٤) .

(٢) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٢/ ٩٨) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٢/ ٣٨٧) ، وانظر ما بعده.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٧٨٧) فى اللباس، باب: ما أسفل من الكعبين فهو فى النار.

وللطبرانى من حديث عبد اللّه بن مغافل، رفعه: (إزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين وليس عليه حرج فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من ذلك ففى النار) (١) والإزرة: - بالكسر- الحالة وهيئة الائتزار مثل الركبة والجلسة.

واعلم طهر اللّه ثوبى وثوبك، ونزه سرى وسرك- أن هذا الإطلاق محمول على ما ورد من قيد الخيلاء، فهو الذى ورد فيه الوعيد بالاتفاق.

وقد أخرج أصحاب السنن إلا الترمذى- واستغربه- وابن أبى شيبة من طريق عبد العزيز بن أبى رواد عن سالم بن عبد اللّه بن عمر عن أبيه عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه

قال: (الإسبال فى الإزار والقميص والعمامة، من جر شيئا منها خيلاء) (٢) الحديث، فبين فى هذه الرواية أن الحكم ليس خاصّا بالإزار، وإن جاء فى أكثر طرق الأحاديث بلفظ الإزار. قال الطبرى: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار، لأن أكثر الناس فى عهده كانوا يلبسون الأزر والأردية، فلما لبس الناس القمص والدراريع كان حكمها حكم الإزار فى النهى.

قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب فإنه يشمل جميع ذلك، وفى تصوير جر العمامة نظر إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة فى ذلك كان من الإسبال.

وهل يدخل فى الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؟ محل نظر. والذى يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين دخل فى ذلك. قال ابن القيم: وأما هذه الأكمام الواسعة الطوال، التى هى كالآخراج، وعمائم كالأبراج، فلم يلبسها- صلى اللّه عليه وسلم- هو ولا أحد من أصحابه، وهى مخالفة لسنته، وفى جوازها نظر، فإنها من جنس الخيلاء، انتهى. وقال صاحب (المدخل) : ولا يخفى على ذى بصيرة أن كم بعض من

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ١٢٦) عن عبد اللّه بن مغافل و

قال: رواه الطبرانى وفيه الحكم بن عبد الملك القرشى، وهو ......

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٠٩٤) فى اللباس، باب: فى قدر موضع الإزار، والنسائى (٨/ ٢٠٨) فى الزينة، باب: إسبال الإزار، وابن ماجه (٣٥٧٦) فى اللباس، باب: طول القميص كم هو؟

ينسب إلى العلم اليوم فيه إضاعة المال المنهى عنها، لأنه قد يفضل من ذلك الكم ثوب لغيره. انتهى. لكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك فى تحريمه، وما كان على طريق العادة، فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع منه. ونقل القاضى عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد فى اللباس من الطول والسعة.

وفى حديث أبى هريرة عند البخارى مرفوعا (بينما رجل يمشى تعجبه [نفسه] مرجل جمته، إذ خسف اللّه به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة) (١) . وفى الطبرانى وأبى داود (إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردة فتبختر فيها، فنظر اللّه إليه فمقته، فأمر الأرض فأخذته) (٢) .

وهذا الوعيد المذكور يتناول الرجال والنساء على هذا الفعل المخصوص، وقد فهمت ذلك أم سلمة- رضى اللّه عنها-، فأخرج النسائى والترمذى- وصححه- من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر: فقالت أم سلمة فكيف تصنع النساء بذيولهن ف

قال: يرخين شبرا

فقالت: إذا تنكشف أقدامهن،

قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه (٣) . وحاصل ما ذكر فى ذلك: أن للرجال حالين، حال استحباب: وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق، وحال جواز: وهو إلى الكعبين، وكذلك للنساء حالان: حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع، وأن الإسبال يكون فى الإزار والقميص والعمامة، وأنه لا يجوز إسباله تحت الكعبين إن كان

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٧٨٩) فى اللباس، باب: من جر ثوبه من الخيلاء، ومسلم (٢٠٨٨) فى اللباس، باب: تحريم التبختر فى المشى مع إعجابه بثيابه.

(٢) أخرجه الطبرانى فى الكبير عن أبى جوى الجهنى، كما فى (كنز العمال) (٧٧٨٨) .

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٤١١٧) فى اللباس، باب: فى قدر الذيل، والترمذى (١٧٣١) فى اللباس، باب: ما جاء فى ذيول النساء، والنسائى (٨/ ٢٠٩) فى الزينة، باب: ذيول النساء، وأحمد فى (المسند) (٢/ ٥) و (٦/ ٢١٣ و ٣٠٩).

قال: وهذا نص الشافعى على الفرق كما ذكرنا انتهى.

تنبيه: قال العراقى فى شرح الترمذى: الذراع الذى رخص للنساء فيه، هل ابتداؤه من الحد الممنوع منه الرجال، وهو من الكعبين، أو من الحد المستحب وهو أنصاف الساقين، أو حده من أول ما يمس الأرض؟ الظاهر أن المراد الثالث: بدليل حديث أم سلمة الذى رواه أبو داود والنسائى- واللفظ له- وابن ماجه،

قالت: سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كم تجر المرأة من ذيلها؟ قال (شبرا)

قالت: إذا ينكشف عنها،

قال: (فذراع لا تزيد عليه) (١) فظاهره: أن لها أن تجر على الأرض منه ذراعا.

قال: والظاهر أن المراد بالذراع ذراع اليد وهو شبران، لما فى سنن ابن ماجه عن ابن عمر

قال: رخص رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لأمهات المؤمنين شبرا، ثم استزدنه فزادهن شبرا. فدل على أن الذراع المأذون فيه شبران وهو الذراع الذى يقاس به الحصر اليوم. وإنما جاز ذلك للنساء لأجل الستر لأن المرأة كلها عورة إلا ما استثنى.

وقد كان له- صلى اللّه عليه وسلم- عمامة تسمى السحاب، ويلبس تحتها القلانس اللاطئة. والقلانس: جمع قلنسوة- بفتح القاف وسكون النون وضم المهملة وفتح الواو، وقد تبدل ياء تحتية، وقد تبدل ألفا وتفتح السين،

يقال: قلنساة، وقد تحذف النون من هذه بعدها هاء تأنيث- غشاء مبطن يستر به الرأس، قاله الفراء فى شرح (الفصيح) . وقال ابن هشام: هى التى يقول لها العامة الشاشية، وفى (المحكم) : هى ملابس الرؤوس، معروفة، قال أبو هلال العسكرى: هى التى تغطى بها العمائم وتستر من الشمس والمطر، كأنها عنده رأس البرنس. انتهى.

وروى الترمذى عن جابر- رضى اللّه عنه-

قال: (دخل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مكة يوم

__________

(١) صحيح: وهو ما قبله.

الفتح وعليه عمامة سوداء) (١) ، وفى رواية لأنس عند البخارى (دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر) (٢) وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء، زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس. ويجمع بينهما: بأن العمامة السوداء كانت فوق المغفر.

وجمع بينهما القاضى عياض: بأن أول دخوله كان على رأسه المغفر، ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر، بدليل قوله فى حديث عمرو بن حريث عن أبيه (خطب الناس وعليه عمامة سوداء) (٣) لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة. قال الولى بن العراقى: وهو أولى وأظهر فى الجمع من الأول. وقد تقدم نحو ذلك فى غزوة فتح مكة.

وعن ابن عمر

قال: (كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إذا اعتم سدل) (٤) رواه الترمذى فى الشمائل، زاد مسلم (وقد أرخى طرفها بين كتفيه) . وقد روى أبو محمد ابن حيان (٥) فى كتاب (أخلاق النبى- صلى اللّه عليه وسلم-) من حديث ابن عمر: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يعتم

قال: يدير كور العمامة على رأسه ويغرسها من ورائه ويرخى لها ذؤابة بين كتفيه. وروى مسلم من حديث عمرو بن حريث

قال: (رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه) (٦) وعنده أيضا عن جابر، و

قال: (دخل مكة وعليه عمامة سوداء) (٧) ولم يذكر فيه ذؤابة، فدل على أنه لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه. لكن قد ي

قال: إن دخوله مكة كان وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه، فلبس فى كل موطن ما يناسبه.

وقال ابن القيم فى الهدى النبوى: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٥٨) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٥٩) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٤٦) فى الحج، باب: دخول الحرم ومكة بغير إحرام.

(٤) صحيح: أخرجه الترمذى (١٧٣٦) فى اللباس، باب: فى سدل العمامة بين الكتفين .

(٥) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٥٩) من حديث عمرو بن الحريث المتقدم قبل حديث.

(٦) قلت: هو الحديث السابق.

(٧) صحيح: وقد تقدم قريبا.

فى سبب الذؤابة شيئا بديعا: وهو أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إنما اتخذها صبيحة المنام الذى رآه بالمدينة لما رأى رب العزة ف

قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟

قلت: لا أدرى، فوضع يده بين كتفى فعلمت ما بين السماء والأرض (١) .

الحديث وهو فى الترمذى، وسئل عنه البخارى

فقال: صحيح.

قال: فمن تلك الغداة أرخى الذؤابة بين كتفيه.

قال: وهذا من العلم الذى تنكره ألسنة الجهال وقلوبهم،

قال: ولم أر هذه الفائدة فى شأن الذؤابة لغيره. انتهى.

وعبارة غير الهدى: وذكر ابن تيمية أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما رأى ربه واضعا يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة. انتهى لكن قال العراقى بعد أن ذكره:

لم نجد لذلك أصلا. انتهى. وروى ابن أبى شيبة عن على

قال: عممنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بعمامة سدل طرفها على منكبى و

قال: (إن اللّه أمدنى يوم بدر ويوم حنين بملائكة معممين هذه العمة) و

قال: (إن العمامة حاجز بين المسلمين وبين المشركين) (٢) .

قال عبد الحق الإشبيلى: وسنة العمامة- بعد فعلها- أن يرخى طرفها ويتحنك به، فإن كانت بغير طرف ولا تحنيك فذلك يكره عند العلماء، واختلف فى وجه الكراهة، فقيل لمخالفة السنة فيها،

وقيل: لأنها كذلك عمائم الشياطين. وجاءت الأحاديث فى إرسال طرفها على أنواع: منها ما تقدم أنه أرسل طرفها على منكب على،

ومنها: أن عبد الرحمن بن عوف

قال: عممنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فسدلها بين يدى ومن خلفى (٣) . ذكره أبو داود. وعن ابن عباس أنه رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وعليه عمامة دسماء أى سوداء. رواه الترمذى.

وفى حديث ركانة أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٢٣٣) فى التفسير، باب: ومن سورة ص، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- .

(٢) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (١٠/ ١٤) ، من حديث على- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه أبو داود (٤٠٧٩) فى اللباس، باب: فى العمائم .

قال: (إن فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس) (١) . رواه الترمذى أيضا. وعن أبى كبشة الأنمارى

قال: كانت كمام أصحاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بطحا. رواه الترمذى أيضا. وفى رواية أكمة، وهما جمع كثرة وقلة، الكمة: القلنسوة، يعنى أنها كانت منبطحة غير منتصبة، وعن عائشة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كانت له كمة بيضاء، رواه الدمياطى. وكان أحب الثياب إليه- صلى اللّه عليه وسلم- القميص، كما فى الشمائل للترمذى، من حديث أم سلمة

قالت: (كان أحب الثياب إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- القميص) (٢) . وعن معاوية بن قرة عن أبيه

قال: أتيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى رهط من مزينة لنبايعه وإن قميصه لمطلق الأزرار- أو

قال: زر قميصه مطلق-

قال: فأدخلت يدى فى جيب قميصه فمسست الخاتم (٣) . رواه الترمذى.

وعن أنس

قال: كان قميص رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قطنا قصير الطول والكمين، رواه الدمياطى. وعن أنس بن مالك

قال: كان أحب الثياب إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يلبسه الحبرة (٤) . رواه الترمذى. والحبرة: ضرب من البرود فيه حمرة. وعن أبى رمثة

قال: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعليه بردان أخضران (٥) رواه الترمذى. وعن عطاء عن أبى يعلى عن أبيه

قال: رأيت

__________

(١) أخرجه أبو داود (٤٠٧٨) فى اللباس، باب: العمائم، والترمذى (١٧٨٤) فى اللباس، باب: رقم (٤١) .

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٠٢٥) فى اللباس، باب: ما جاء فى القميص، والترمذى (١٧٦٢) فى اللباس، باب: ما جاء فى القميص.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٠٨٢) فى اللباس، باب: فى حل الأزرار، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٤٣٤) و (٤/ ١٩) و (٥/ ٣٥).

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨١٢ و ٥٨١٣) فى اللباس، باب: البرود والحبرة والشملة، ومسلم (٢٠٧٩) فى اللباس والزينة، باب: فضل لباس ثياب الحبرة.

(٥) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٢٠٦) فى الترجل، باب: فى الخضاب، والترمذى (٢٨١٢) فى الأدب، باب: ما جاء فى الثوب الأخضر، والنسائى (٣/ ١٨٥) فى صلاة العيدين، باب: الزينة للخطبة للعيدين.

رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يطوف بالبيت مضطبعا ببرد أخضر (١) . رواه أبو داود.

وعن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لبس جبة رومية ضيقة الكمين (٢) . رواه الترمذى. وعن أبى ذر: أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وعليه ثوب أبيض (٣) . رواه البخارى: وعن عائشة

قالت: خرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ذات غداة وعليه مرط شعر أسود (٤) . رواه الترمذى. وعن أنس قال كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يلبس الصوف، وكان له- صلى اللّه عليه وسلم- كساء ملبد يلبسه ويقول:

(إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد) (٥) رواه الشيخان.

فإن قلت قد علم من هذا، ومن سيرة السلف الصالح، بذاذة الهيئة ورثاثة الملابس، فما بال الشاذلية من الصوفية يجملون هياتهم وملابسهم، وطريقهم الاقتداء بالسنة الشريفة والسلف الصالح.

أجاب العارف الربانى على الوفائى، أذاقنا اللّه حلاوة مشربه، ومن خطه الكريم نقلت بما لفظه: ذلك لأنهم نظروا إلى المعانى والحكم. فوجدوا السلف الصالح لما وجدوا أهل الغافلة والشغل لدنياهم منهمكين على الزينة الظاهرة، تفاخرا بدنياهم واطمئنانا إليها وإشعارا بأنهم من أهلها، خالفوهم إظهارا لحقارة ما حقره الحق مما عظمه الغافلون بالغنى عما اطمأن إليه الغافلون؛ فكأن أطمارهم يومئذ تقول الحمد للّه الذى أغنانا به عما أفقر نفسه إليه من همه دنياه. فلما طال الأمد وقست القلوب بنسيان ذلك المعنى، واتخذ الغافلون رثاثة الأطمار وبذاذة الهيئة حيلة على جلب دنياهم انعكس

__________

(١) حسن: أخرجه أبو داود (١٨٨٣) فى المناسك، باب: الاضطباع فى الطواف، والبيهقى فى (السنن الكبرى) (٥/ ٧٩) .

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (١٧٦٨) فى اللباس، باب: ما جاء فى لبس الجبة والخفين، والنسائى (١/ ٨٣) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين فى السفر، وابن ماجه (٣٥٦٣) فى اللباس، باب: لبس الصوف، والحديث أصله عند مسلم (٢٧٤) .

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨٢٧) فى اللباس، باب: الثياب البيض، ومسلم (٩٤) فى الإيمان، باب: من مات لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنة.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٨١) فى اللباس والزينة، باب: التواضع فى اللباس.

(٥) قلت: هو ليس فيهما، ولم أجده.

الأمر، فصار مخالفة هؤلاء فى ذلك للّه هو قول السلف وطريقتهم كما تقدم.

قال وقد أرشد الأستاذ أبو الحسن الشاذلى. قدس اللّه سره العزيز، إلى ذلك بقوله لبعض من أنكر عليه جمال هيئته من أصحاب الرثاثة: يا هذا هيئتى هذه تقول: الحمد للّه، وهيئتك هذه تقول: أعطونى شيئا من دنياكم. والقوم أفعالهم دائرة مع الحكمة الربانية مرادهم مرضاة ربهم. انتهى ما قاله سيدى على وفا.

وقد ورد فى الحديث الصحيح عنه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن اللّه جميل يحب الجمال) (١) وفى الحديث الآخر (إن اللّه نظيف يحب النظافة) (٢) وفى السنن عن أبى الأحوص الجشمى عن أبيه

قال: رآنى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وعلى أطمار- وفى رواية النسائى: وعلى ثوب دون- ف

قال: (هل لك من مال؟) قلت: نعم،

قال: (من أى المال؟) قلت: من كل ما آتى اللّه من الإبل والشاء،

قال: (فكثر نعمته وكرامته عليك) (٣) ، وفى رواية النسائى

قال: (فإذا آتاك اللّه مالا فلير أثر نعمة اللّه عليك وكرامته) وفى حديث جابر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- رأى رجلا شعثا قد تفرق شعره ف

قال: (ما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه) ، ورأى رجلا عليه ثياب وسخة

فقال: (ما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه) (٤) رواه أحمد.

وفى السنن: (إن اللّه تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) (٥) .

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٩١) فى الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، من حديث عبد اللّه ابن مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٢) أخرجه الترمذى (٢٧٩٩) فى الأدب، باب: ما جاء فى النظافة، من حديث سعد- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٠٦٣) فى اللباس، باب: فى غسل الثوب، والنسائى (٨/ ١٨٠) فى الزينة، باب: الجلاجل، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٤٧٣) و (٤/ ١٣٧).

(٤) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٠٦٢) فى اللباس، باب: فى غسل الثوب، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٣٥٧) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٥٤٨٣).

(٥) صحيح: وقد تقدم قبل حديث.

فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده، فإنه من الجمال الذى يحبه، وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن، فيحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة والجمال الباطن بالشكر عليها، ولأجل محبته تعالى للجمال أنزل على عباده لباسا يجمل ظواهرهم، وتقوى تجمل بواطنهم

فقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ (١) . وقال فى أهل الجنة: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (٢) .

وهو سبحانه كما يحب الجمال فى الأقوال والأفعال واللباس والهيئة، يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والهيئة، فيبغض القبيح وأهله ويحب الجمال وأهله. ولكن ضل فى هذا الموضع فريقان:

فريق قالوا: كل ما خلق اللّه تعالى جميل، فهو يحب كل ما خلقه، ونحن نحب جميع ما خلقه فلا نبغض منه شيئا، قالوا: ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة، واحتجوا بقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (٣) . وهؤلاء قد عدموا الغيرة للّه من قلوبهم، والبغض فى اللّه، والمعاداة فيه، وإنكار المنكر وإقامة الحدود.

والفريق الثانى، قالوا: قد ذم اللّه جمال الصور، وتمام القامة والخلقة، فقال عن المنافقين وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ (٤) . وفى صحيح مسلم مرفوعا (إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) (٥) ، قالوا: وقد حرم اللّه علينا لباس الحرير والذهب، وآنية الذهب والفضة، وذلك من أعظم جمال الدنيا.

وقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَ

__________

(١) سورة الأعراف: ٢٦.

(٢) سورة الإنسان: ١١، ١٢.

(٣) سورة السجدة: ٧.

(٤) سورة المنافقون: ٤.

(٥) صحيح: أخرجه مسلم (٢٥٦٤) فى البر والصلة، باب: تحريم ظلم الإنسان وخذله واحتقاره، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ (١) . وفى الحديث (البذاذة من الإيمان) (٢) وقد ذم اللّه المسرفين، والسرف كما يكون فى الطعام والشراب يكون فى اللباس.

وفصل النزاع أن يقال: الجمال فى الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع:

منه ما يحمد، ومنه ما يذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم.

فالمحمود منه، ما كان للّه وأعان على طاعة اللّه، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له، كما كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال، ولباس الحرير فى الحرب والخيلاء فيه، فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة اللّه ونصر دينه وغيظ عدوه.

والمذموم منه: ما كان للدنيا والرياسة والفخر والخيلاء، وأن يكون من هو غاية العبد وأقصى مطلبه، فإن كثيرا من الناس ليس له همة فى سوى ذلك.

وأما ما لا يحمد ولا يذم فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرد عن الوصفين. والمقصود من هذا الحديث أن اللّه تعالى يحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه فى لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والشعور المكروهة، والختان وتقليم الأظافر وغير ذلك مما وردت به السنة، واللّه أعلم.

وعن جابر بن سمرة

قال: رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى ليلة مقمرة أضحيان، فجعلت أنظر إليه- صلى اللّه عليه وسلم- وإلى القمر، وعليه حلة حمراء، فإذا هو أحسن عندى من القمر (٣) . رواه الدارمى والترمذى: وعن عون بن أبى جحيفة عن أبيه

__________

(١) سورة طه: ١٣١.

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٤١٦١) فى الترجل، باب: رقم (١) ، وابن ماجه (٤١١٨) فى الزهد، باب: من لا يؤبه له، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٥١) ، من حديث أبى أمامة- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: وقد تقدم.

قال: رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وعليه حلة حمراء كأننى أنظر إلى بريق ساقيه (١) . قال سفيان: أراه حبرة. وعن البراء بن عازب

قال: ما رأيت أحدا من الناس أحسن فى حلة حمراء من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٢) . رواهما الترمذى.

وفى البخارى ومسلم: رأيته فى حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه.

وفى رواية لأبى داود ما رأيت من ذى لمة فى حلة حمراء أحسن من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٣) .

وقوله: من ذى لمة: - بكسر اللام- أى شعر الرأس، دون الجمة، سميت بذلك لأنها ألمت بالمنكبين، فإذا زادت فهى الجمة.

وفى النسائى: ما رأيت رجلا أحسن فى حلة حمراء من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. قال فى القاموس: الحلة- بالضم- إزار ورداء، برد أو غيره، ولا تكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة.

قال ابن القيم: وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتا، ولا يخالطها غيرها، وإنما الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود، كسائر البرود اليمانية، وهى معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط، وإلا فالأحمر البحت ينهى عنه أشد النهى، وفى صحيح البخارى: (أنه- صلى اللّه عليه وسلم- نهى عن المياثر الحمر) (٤) وفى صحيح مسلم عن ابن عمر

قال: (رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- على ثوبين معصفرين

فقال: (إن هذا لباس الكفار فلا تلبسهما) (٥) ومعلوم أن ذلك إنما يصبغ صباغا أحمر.

قال: وفى جواز لبس الأحمر من الثياب والجوخ وغيرهما نظر، وأما كراهته فشديدة، فكيف يظن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه لبس الأحمر القانى، كلا لقد أعاذه اللّه منه، وإنما وقعت الشبهة من لفظ الحلة الحمراء واللّه أعلم. انتهى.

__________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨٤٩) فى اللباس، باب: الميثرة الحمراء، من حديث البراء- رضى اللّه عنه-.

(٥) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٧٧) فى اللباس، باب: النهى عن لبس الرجل الثوب المعصفر.

وقال النووى: اختلف العلماء فى الثياب المعصفرة، وهى المصبوغة بعصفر فأباحها جميع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال الإمام الشافعى وأبو حنيفة ومالك، ولكنه

قال: غيرها أفضل منها. وفى رواية عنه أنه أجاز لبسها فى البيوت وأفنية الدور وكرهه فى المحافل والأسواق وغيرها.

وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، وحملوا النهى على هذا، لأنه ثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لبس حلة حمراء، وفى الصحيحين من حديث ابن عمر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صبغ بالصفرة، وحمل بعضهم النهى على المحرم بالحج أو العمرة.

وقد أتقن البيهقى المسألة فى (معرفة السنن)

فقال: نهى الشافعى الرجل عن المزعفر، وأباح له المعصفر، قال الشافعى: وإنما رخصت فى المعصفر لأنى لم أجد أحدا يحكى عنه- صلى اللّه عليه وسلم- النهى عنه، إلا ما قال على- رضى اللّه عنه- أنه- صلى اللّه عليه وسلم- نهانى ولا أقول نهاكم. قال البيهقى: وقد جاءت أحاديث تدل على أن النهى على العموم، ثم ذكر حديث مسلم (أن هذه من لباس الكفار) وأحاديث غيرها، ثم

قال: ولو بلغت هذه الأحاديث الشافعى لقال بها إن شاء اللّه تعالى، ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعى أنه

قال: إذا صح الحديث بخلاف قولى فاعملوا بالحديث ودعوا قولى. وفى رواية: مذهبى.

قال البيهقى: قال الشافعى: وأنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر وآمره إذا تزعفر أن يغسله، قال البيهقى: فتبع السنة فى المزعفر فمتابعتها فى المعصفر أولى به، انتهى.

ورأيت فى فتاوى شيخنا العلامة قاسم أحد أئمة الحنفية ومحققيها كراهته للتحريم مع صحة الصلاة فيه، واستدل له بما ذكرته، وبما فى حديث طاووس عند الحاكم وقال على شرطهما عن ابن عمرو بن العاص

قال: دخلت على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وعلى ثوب معصفر،

قال: (من أين لك هذا؟)

قال: صنعته لى أهلى فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (احرقه) (١) انتهى.

__________

(١) قلت: هو عند أبى داود (٤٠٦٨) فى اللباس، باب: فى الحمرة، ولكن الحرق من فعل عبد اللّه بن عمرو لا من قوله- صلى اللّه عليه وسلم-، بل قال له لما علم بفعله: (أفلا كسوته بعض أهلك) .

وعن جابر بن عبد اللّه

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يلبس برده الأحمر فى العيدين والجمعة (١) ، وعن يحيى بن عبد اللّه بن مالك

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصبغ ثيابه بالزعفران قميصه ورداءه وعمامته. رواهما الدمياطى.

وهو عند أبى داود بلفظ: يصبغ بالورس والزعفران ثيابه حتى عمامته (٢) ، وكذا رواه من حديث زيد بن أسلم وأم سلمة وابن عمر، لكن يعارضه ما فى الصحيح أنه- صلى اللّه عليه وسلم- نهى عن التزعفر واللّه أعلم.

وأما صفة إزاره- صلى اللّه عليه وسلم-، فعن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرى

قال: أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا

فقالت: قبض رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذين (٣) ، رواه البخارى، وفى رواية: إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من هذه التى تدعونها الملبدة، وفى رواية: كساء ملبدا. قال ابن الأثير: أى مرقعا، ي

قال: لبدت القميص ألبده، ولبدته، ويقال للخرقة التى يرقع بها صدر القميص. اللبدة: وقيل الملبد: الذى ثخن وسطه وصفق حتى صار يشبه اللبد.

وروى مسلم من حديث عائشة

قالت: خرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود (٤) والمرط: - بكسر الميم وإسكان الراء- كساء من صوف أو خز، يؤتزر به. والمرحل: بتشديد الحاء المهملة المفتوحة، كمعظم، هو الذى فيه صور الرحال، قال فى القاموس فى مادة ر ح ل: وك (معظم) : برد فيه تصاوير رحل،

قال: وتفسير الجوهرى إياه بإزار خز فيه علم، غير جيد، إنما ذلك تفسير المرجل- بالجيم-، وقال فى مادة ر ج ل- يعنى الجيم-: وبرد مرجل كمعظم، فيه صور الرجال، انتهى.

__________

(١) أخرجه البيهقى، كما فى (..... الجامع) (٤٦٢٠) .

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٠٦٤) فى اللباس، باب: فى المصبوغ بالصفرة، والنسائى (٨/ ١٤٠) فى الزينة، باب: الخضاب بالصفرة.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨١٨) فى اللباس، باب: الأكسية والخمائص، ومسلم (٢٠٨٠) فى اللباس والزينة، باب: التواضع فى اللباس.

(٤) صحيح: وقد تقدم.

وقال النووى: والصواب الذى رواه الجمهور، وضبطه المتقنون: بالحاء المهملة، أى عليه صور رحال الإبل، ولا بأس بهذه الصورة، وإنما يحرم تصوير الحيوان. وقال الخطابى، المرحل، الذى فيه خطوط واللّه أعلم.

وعن عروة: أن طول رداء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر وعن عروة أيضا: أن ثوب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الذى كان يخرج فيه إلى الوفد رداء أخضر فى طول أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر. وعن معن بن عيسى

قال: حدثنا محمد بن هلال

قال: رأيت على هشام بن عبد الملك برد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من حبرة له حاشيتان. وعن ابن عمر

قال: دخلت على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعليه إزار يتقعقع. وعن يزيد بن أبى حبيب أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يرخى الإزار بين يديه ويرفعه من ورائه. وعن ابن عباس

قال: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يأتزر تحت سرته وتبدو سرته، ورأيت عمر يأتزر فوق سرته، رواها كلها الدمياطى.

(فصل) وعن أسماء بنت أبى بكر، أنها أخرجت جبة طيالسة كسروانية، لها لبنة ديباج، وفرجاها مكفوفان بالديباج، و

قالت: هذه جبة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، كانت عند عائشة، فلما قبضت قبضتها، وكان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يلبسها فنحن نغسلها للمرضى نستشفى بها (١) . رواه مسلم.

وقوله: جبة طيالسة: بإضافة جبة إلى طيالسة. وكسروانية: بكسر الكاف وفتحها، والسين ساكنة والراء مفتوحة، نسبة إلى كسرى ملك الفرس. ولبنة: بكسر اللام وإسكان الباء، رقعة فى جيب القميص.

وفيه: جواز لبس ما له فرجان وأنه لا كراهة فيه، وأن المراد بالنهى عن الحرير المتحمض منه، أو ما أكثره منه، وأنه ليس المراد تحريم كل جزء منه، بخلاف الخمر والذهب فإنه يحرم كل جزء منهما، قاله النووى.

(لطيفة) قيل: لما كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يبدو منه إلا طيب، كان آية

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٦٩) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء.

ذلك فى بدنه الشريف أنه لا يتسخ له ثوب، فما اتسخ له ثوب قط، وقال ابن سبع فى (الشفاء) والسبتى فى (أعذب الموارد وأطيب الموالد) : لم يكن القمل يؤذيه تعظيما له وتكريما- صلى اللّه عليه وسلم- لكن يشكل عليه ما رواه أحمد والترمذى فى الشمائل عن عائشة- رضى اللّه عنها-: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يفلى ثوبه ويحلب شاته (١) ، ومن لازم التفلى وجود شىء يؤذى فى الجملة، إما قملا أو برغوثا أو نحو ذلك. ويمكن أن يجاب: بأن التفلى لاستقذار وجود ما علق بثوبه الشريف من غيره، ولو لم يحصل منه أذى فى حقه- صلى اللّه عليه وسلم-، وهذا فيه بحث، لأن أذى القمل هو غذاؤه من البدن على ما أجرى اللّه العادة، وإذا امتنع الغذاء لا يعيش الحيوان عادة. ونقل الفخر الرازى: أن الذباب لا يقع على ثيابه قط، وأنه لا يمتص دمه البعوض.

وأما الطيلسان- وهو بفتح اللام، واحدة الطيالسة، والهاء فى الجمع للعجمة لأنه فارسى معرب، وهو الساج أيضا، وقال ابن خالويه فى شرح (الفصيح) يقال للطيلسان الأخضر: الساج، وفى (المجمل) لابن فارس:

الطاق الطيلسان- فقال ابن القيم: لم ينقل عنه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه لبسه، ولا أحد من أصحابه، بل ثبت فى صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه ذكر الدجال

فقال: (يخرج معه سبعون ألفا من يهود أصبهان عليهم الطيالسة) (٢) ورأى أنس جماعة عليهم الطيالسة

فقال: ما أشبههم بيهود خيبر.

قال: ومن هاهنا كرهه جماعة من السلف والخلف، لما روى أبو داود والحاكم فى المستدرك أنه

قال: (من تشبه بقوم فهو منهم) (٣) وفى الترمذى:

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو نعيم فى الحلية، كما فى (صحيح الجامع) (٤٩٩٦) .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٩٤٤) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: فى بقية من أحاديث الدجال، من حديث أنس، وليس عن النواس بن سمعان- رضى اللّه عنهم-.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٠٣١) فى اللباس، باب: فى لبس الشهرة.

(ليس منا من تشبه بغيرنا) (١) وأما ما جاء فى حديث الهجرة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- جاء إلى أبى بكر- رضى اللّه عنه- متقنعا بالهاجرة، فإنما فعله- صلى اللّه عليه وسلم- تلك الساعة ليختفى بذلك للحاجة، ولم يكن عادته التقنع. وقد ذكر أنس عنه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه كان يكثر القناع (٢) . وهذا إنما كان يفعله للحاجة من الحر ونحوه. قال شيخ الإسلام الولى بن العراقى فى شرح تقريب [الأسانيد:] التقنع معروف وهو تغطية الرأس بطرف العمامة أو برداء أو نحو ذلك. انتهى. وقال ابن الحاج فى (المدخل) : وأما قناع الرجل فهو أن يغطى رأسه بردائه ويرد طرفه على أحد كتفيه. انتهى.

وأما قول ابن القيم: إنه- صلى اللّه عليه وسلم- إنما فعل ذلك للحاجة، فيرد عليه حديث سهل بن سعد أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يكثر القناع. رواه البيهقى فى الشعب والترمذى. وللبيهقى فى الشعب أيضا وابن سعد فى طبقاته من حديث أنس بلفظ: يكثر التقنع، فهذا وما أشبهه يرد قول ابن القيم: أنه لم ينقل عنه أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لبسه.

وأما قوله: ولا أحد من أصحابه، فيرده ما أخرجه الحاكم فى المستدرك، بسند على شرط الشيخين عن مرة بن كعب

قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يذكر فتنة فقربها، فمر رجل مقنع فى ثوب،

فقال: (هذا يومئذ على الهدى) ، فقمت فإذا هو عثمان بن عفان- رضى اللّه عنه- (٣) .

وأخرج سعيد بن منصور فى سننه عن أبى العلاء

قال: رأيت الحسن بن على يصلى وهو مقنع

__________

(١) حسن: أخرجه الترمذى (٢٦٩٥) فى الاستئذان، باب: فى كراهية إشارة اليد فى السلام، من حديث ابن عمرو- رضى اللّه عنهما-.

(٢) أخرجه الترمذى فى (الشمائل) (ص ٣٢).

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٧٠٤) فى المناقب، باب: فى مناقب عثمان بن عفان- رضى اللّه عنه-، وابن ماجه (١١١) فى المقدمة، باب: فضل عثمان- رضى اللّه عنه- .

رأسه،

وأخرج ابن سعد عن سليمان بن المغيرة

قال: رأيت الحسن يلبس الطيالسة،

وأخرج عن عمارة بن زاذان

قال: رأيت على الحسن طيلسانا أندقيّا.

وأما ما ذكره ابن القيم من قصة اليهود، فقال الحافظ ابن حجر: إنما يصلح الاستدلال به فى الوقت الذى تكون الطيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك فى هذه الأزمنة فصار ذلك داخلا فى عموم المباح، وقد ذكره ابن عبد السلام فى أمثلة البدعة المباحة. وقد يصير من شعار قوم فيكون تركه من الإخلال بالمروءة.

وقيل: إنما أنكر أنس ألوان الطيالسة لأنها كانت صفراء. واللّه أعلم.

وأما الخاتم ففى الصحيحين عن ابن عمر أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- اتخذ خاتما من ورق، فكان فى يده، ثم كان فى يد أبى بكر، ثم كان فى يد عمر، ثم كان فى يد عثمان حتى وقع فى بئر أريس (١) . وفيهما أيضا عن أنس بن مالك أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لبس خاتم فضة فيه فص حبشى، وكان يجعل فصه مما يلى كفه.

وأخرج أحمد والنسائى والترمذى والبزار فى مسنده عن بريدة أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- رأى فى يد رجل خاتما من حديد،

فقال: (ما لى أجد منك ريح الأصنام) ، ثم قال له: (اتخذه من فضة ولا تزد على مثقال) (٢) .

وقد اختلف العلماء فى لبسه فى الجملة، فأباحه كثير من أهل العلم من غير كراهة، ومنهم من كرهه إذا قصد به الزينة، ومنهم من كرهه إلا لذى سلطان، لحديث أبى داود والنسائى عن أبى ريحانة أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- نهى عن لبس الخاتم إلا لذى سلطان. ولأنه- صلى اللّه عليه وسلم- إنما اتخذه لحاجة ختم الكتب التى

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨٦٦) فى اللباس، باب: خاتم الفضة، ومسلم (٢٠٩١) فى اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال.

(٢) أخرجه أبو داود (٤٢٢٣) فى الخاتم، باب: ما جاء فى خاتم الحديد، والترمذى (١٧٨٥) فى اللباس، باب: ما جاء فى الخاتم الحديد، والنسائى (٨/ ١٧٢) فى الزينة، باب: مقدار ما يجعل فى الخاتم من الفضة .

يبعثها إلى الملوك، كما فى حديث أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشى فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا بختم فصاغ خاتما ونقش فيه:

محمد رسول اللّه، وإنما لبسه أبو بكر- رضى اللّه عنه- لأجل ولايته، فإنه كان يحتاج إليه كما كان- صلى اللّه عليه وسلم- يحتاج إليه وكذلك عمر وعثمان.

وحكى ابن عبد البر عن طائفة من العلماء كراهة لبسه مطلقا، احتجاجا بحديث أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- نبذه ولم يلبسه. وفى الشمائل للترمذى عن ابن عمر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- اتخذ خاتما من فضة فكان يختم به ولا يلبسه. وفى الصحيحين من حديث أنس أنه رأى فى يده- صلى اللّه عليه وسلم- خاتما من ورق يوما واحدا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خاتمه فطرح الناس خواتيمهم.

والصواب: القول الأول، فإن لبس النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الخاتم إنما كان فى الأصل لأجل المصلحة لختم الكتب التى يرسلها إلى الملوك، ثم استدام لبسه ولبسه أصحابه معه، ولم ينكره عليهم، بل أقرهم عليه، فدل ذلك على الإباحة المجردة. وأما حديث النهى عن الخاتم إلا لذى سلطان فقال ابن رجب: ذكر بعض أصحابنا أن أحمد ضعفه. وأما ما جاء فى حديث الزهرى عن أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لبسه يوما واحدا ثم ألقاه. فقد أجيب عنه بثلاثة أجوبة:

أحدها: أنه وهم من الزهرى، وسهو جرى على لسانه لفظ الورق، وإنما الذى لبسه يوما واحدا ثم ألقاه كان من ذهب، كما ثبت ذلك من غير وجه فى حديث ابن عمر وأنس أيضا.

الثانى: أن الخاتم الذى رمى به- صلى اللّه عليه وسلم- لم يكن كله فضة، وإنما كان حديدا عليه فضة، وروى أبو داود عن معيقيب الصحابى- وكان على خاتم النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: كان خاتم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من حديد ملوى عليه فضة.

فلعل هذا هو الذى لبسه يوما واحدا ثم طرحه، ولعله هو الذى كان يختم به ولا يلبسه.

الثالث: إن طرحه إنما كان لئلا يظن أنه سنة مسنونة، فإنهم اتخذوا الخواتيم لما رأوه قد لبسه فتبين بطرحه أنه ليس بمشروع ولا سنة.

ثم إن الخاتم قد يكون تارة من ذهب، وتارة من فضة، وتارة يكون من حديد، وتارة من صفر أو رصاص أو نحوها، وتارة من عقيق.

* فأما الذهب ففى الصحيحين عن البراء بن عازب

قال: (نهانا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن خاتم الذهب وآنية الفضة) (١) . وفيهما عن أبى هريرة عنه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنه نهى عن خاتم الذهب) (٢) ، وفيهما أيضا عن ابن عمر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- اتخذ خاتما من ذهب فجعله فى يمينه وجعل فصه مما يلى باطن كفه، فاتخذ الناس خواتيم الذهب.

قال: فصعد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- المنبر فألقاه ونهى عن التختم بالذهب) (٣) .

وهو مذهب الأئمة الأربعة: مالك والشافعى وأبى حنيفة وأحمد وأكثر العلماء.

ورخصت فيه طائفة منهم إسحاق بن راهواه و

قال: مات خمسة من أصحابه- صلى اللّه عليه وسلم- خواتيمهم من ذهب. قال مصعب بن سعد: رأيت على طلحة وسعد وصهيب خواتيم من ذهب. وعن حمزة بن أبى أسيد والزبير بن المنذر بن أبى أسيد أنهما نزعا من يد أبى أسيد خاتما من ذهب حين مات، وكان بدريّا، رواهما البخارى فى تاريخه. وروى النسائى عن سعيد بن المسيب

قال: قال عثمان لصهيب ما لى أرى عليك خاتم الذهب ف

قال: قد رآه من هو خير منك فلم يعبه،

قال: من هو؟

قال: رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥١٧٥) فى النكاح، باب: حق إجابة الوليمة، ومسلم (٢٠٦٦) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨٦٤) فى اللباس، باب: خواتيم الذهب، ومسلم (٢٠٨٩) فى اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨٦٦) فى اللباس، باب: خاتم الفضة، ومسلم (٢٠٩١) فى اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال.

* وأما خاتم الفضة، فأباحه كثير من العلماء، ولبسه- صلى اللّه عليه وسلم- وجماعة من أصحابه. قال الرافعى: يجوز للرجل التختم بالفضة، وكذا قال النووى فى الروضة وغيرها، وكتب أصحابنا طافحة بجوازه. وروى أبو داود وصححه ابن حبان، من حديث بريدة بن الحصيب أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال للابس خاتم الحديد: (ما لى أرى عليك حلية أهل النار) ، فطرحه و

قال: يا رسول اللّه، من أى شىء أتخذه؟

قال: (من ورق ولا تتمه مثقالا) (١) .

وأخرجه أيضا النسائى والترمذى وقال: غريب.

وأخرجه أحمد وأبو يعلى فى مسنديهما والضياء فى المختارة مما ليس فى الصحيحين ورجاله رجال الصحيحين إلا عبد اللّه بن مسلم المعروف بأبى طيبة، وهو محدث مشهور، وتصحيح ابن حبان لحديثه دال على قبوله، فأقل أحواله أن يكون من درجة الحسن.

والأصل فى النهى كونه للتحريم، ولأن الأصل فى استعمال الفضة للرجال التحريم إلا ما رخص فيه، فإذا حد فيه حد وجب الوقوف عنده، وبقى ما عداه على الأصل. وقد قال ابن الرفعة فى باب ما يكره لبسه فى (الكفاية) : وينبغى أن ينقص وزنه عن مثقال. لأن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- رأى رجلا، وساق الحديث. وقوله ينبغى، يصلح للوجوب وغيره، وحمله عليه أولى، لأنه ساق الحديث مساق الاحتجاج لهذا الحكم، فلا يصرف النهى عن حقيقته إلا بصارف.

وظاهر صنيع ابن الملقن فى شرح منهاج النووى يقتضيه، فإنه قال فى زكاة النقد: فرع فى أبى داود وصحيح ابن حبان من حديث بريدة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال لذلك الرجل: فذكر الحديث فساقه سوق الفروع التى لا خلاف فيها بين الأصحاب، وظاهر ذلك تحريم المثقال.

وفى (القوت) للأذرعى: لم يتعرض أصحابنا لمقدار الخاتم ولعلهم

__________

(١) وقد تقدم قريبا من حديث بريدة قبل حديثين.

اكتفوا بالعرف، فما خرج عنه كان إسرافا كما قالوا فى الخلخال للمرأة ونحوه، والصواب الضبط بما نص عليه فى الحديث وليس فى كلامهم ما يخالفه، هذا لفظه. وهو يشير إلى هذا الحديث.

وكذا مشى عليه ابن العماد فى التعقيبات وعبارته: وإذا جاز لبس الخاتم فشرطه أن لا يبلغ به مثقالا للحديث. انتهى. لكن قال الحافظ العراقى فى شرح الترمذى: إن النهى فى قوله: (ولا تتمه مثقالا) محمول على التنزيه، فيكره أن يبلغ به وزن مثقال.

قال: وفى رواية لأبى داود، فى رواية صاحب المعالم: (ولا تتمه مثقالا ولا قيمة مثقال) وليست هذه الزيادة فى رواية اللؤلؤى. ومعنى هذه الزيادة أنه ربما وصل الخاتم بالنفاسة فى صنعته إلى أن يكون قيمة مثقال فهو داخل فى النهى أيضا. انتهى. وقد أفتى العلامة السراج العبادى بأنه يجوز أن يبلغ به مثقالا وأن ما زاد عليه حرام.

* وأما خاتم الحديد، فأخرج أبو داود فى الخاتم من سننه، والبيهقى في شعب الإيمان والأدب وغيرهما من تصانيفه من طريقه، والنسائى فى الزينة من سننه، وابن حبان فى صحيحه: أن رجلا جاء إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وعليه خاتم من شبه- وهو بفتح المعجمة والموحدة، وبإسكانها وكسر المعجمة، نوع من النحاس كانت الأصنام تتخذ منه، وسمى بذلك لشبهه بالذهب لونا-

فقال: (ما لى أجد منك ريح الأصنام) ، فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد، ف

قال: (ما لى أرى عليك حلية أهل النار فطرحه) (١)

وأخرجه الترمذى لكنه

قال: من صفر بدل من شبه، وهما بمعنى. قال النووى فى شرح المهذب: قال صاحب الإبانة: يكره الخاتم من حديد أو شبه، وتابعه صاحب البيان

فقال: يكره الخاتم من حديد أو نحاس أو رصاص لحديث بريدة.

وقال صاحب التتمة: لا يكره الخاتم من حديد أو رصاص لحديث

__________

(١) وهو الحديث السابق.

الصحيحين: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال للذى خطب الواهبة نفسها: (اطلب ولو خاتما من حديد) (١)

قال: ولو كان فيه كراهة لم يأذن فيه.

وفى سنن أبى داود بإسناد جيد عن معيقيب الصحابى: كان خاتمه- صلى اللّه عليه وسلم- من حديد ملوى عليه فضة (٢) . والمختار: أنه لا يكره لهذين الحديثين. وقال فى شرح مسلم فى الكلام على حديث المرأة الواهبة نفسها:

وفى هذا الحديث جواز اتخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسلف حكاه القاضى، ولأصحابنا فى كراهته وجهان أصحهما لا يكره لأن الحديث فى النهى عنه ...... انتهى. ولعل ت..... النووى للحديث إنما هو بالنسبة إلى مقاومة حديث سهل بن سعد فى الصحيحين وغيرهما فى قصة الواهبة نفسها لا مطلقا، كيف وله فى ذلك شواهد عدة، إن لم ترقه إلى درجة الصحة لم تدعه ينزل عن درجة الحسن.

* وأما خاتم العقيق: فعن أنس أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (تختموا بالعقيق، واليمين أحق بالزينة) (٣) وفى سنده مجهول، وروى بلفظ تختموا بالعقيق فإنه ينفى الفقر. وروى يعقوب بن إبراهيم عن عائشة مرفوعا:

(تختموا بالعقيق فإنه مبارك) (٤) ويعقوب متروك. وروى أبو بكر بن شعيب عن فاطمة- رضى اللّه عنها- مرفوعا: (من تختم بالعقيق لم يزل يرى خيرا) (٥) وهذا أيضا لا يثبت.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٠٢٩) فى فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، ومسلم (١٤٢٥) فى النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-.

(٢) أخرجه أبو داود (٤٢٢٤) فى الخاتم، باب: ما جاء فى خاتم الحديد، والنسائى (٨/ ١٧٥) فى الزينة، باب: لبس خاتم حديد ملوى عليه بفضة.

(٣) أخرجه ابن عدى عن أنس، كما فى (..... الجامع) (٢٤١١) .

(٤) أخرجه العقيلى فى الضعفاء، وابن لال فى مكارم الأخلاق، والحاكم فى تاريخه، والبيهقى فى (شعب الإيمان) ، والخطيب فى التاريخ، وابن عساكر، والديلمى فى مسند الفردوس عن عائشة، كما فى (..... الجامع) (٢٤١٠) .

(٥) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ١٥٤) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وعمرو بن الشريد لم يسمع من فاطمة، وزهير بن عباد الرواسى وثقه أبو حاتم، وبقية رجاله رجال الصحيح.

وكذا ورد فيه أحاديث غير هذه، وكلها كما قال الحافظ ابن رجب لا تثبت، وقال العقيلى: لا يصح فى التختم بالعقيق عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- شىء.

وروى ابن فنجويه فى كتاب الخواتيم له بإسناد ..... عن على مرفوعا: (من تختم بالياقوت الأصفر منع الطاعون) (١) ، وإسناده ......

وأما فص خاتمه- صلى اللّه عليه وسلم-، فروى أنس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- اتخذ خاتما من فضة، فصه منه (٢) . أخرجه البخارى وغيره. وفى صحيح مسلم أن خاتمه- صلى اللّه عليه وسلم- كان فصه حبشيّا (٣) . قال النووى: قال العلماء: يعنى حجرا حبشيّا، أى فصا من جزع أو عقيق، فإن معدنهما بالحبشة واليمن. انتهى، فإن صح أنهم كانوا يعنون بالحبشى العقيق فيكون له خاتمان: أحدهما فصه عقيق، والآخر فصه فضة، وفى شرح مسلم للنووى حكاية أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان له فى وقت خاتم فصه منه،

قال: وفى حديث آخر فصه من عقيق، انتهى.

لكن لم يرو عنه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه لبس خاتما كله عقيقا.

وأما نقش خاتمه- صلى اللّه عليه وسلم-، ففى صحيح مسلم (عن أنس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- صنع خاتما من ورق نقش فيه: محمد رسول اللّه. وقال للناس: (إنى اتخذت خاتما من فضة ونقشت فيه: محمد رسول اللّه، فلا ينقش أحد على نقشه) (٤) .

قال الترمذى: معنى قوله: (لا تنقشوا عليه) نهى أن ينقش أحد على خاتمه: محمد رسول اللّه. وفى رواية للنسائى: (اتخذ خاتما من ورق فصه

__________

(١) أخرجه ابن زنجويه فى كتاب الخواتيم عن على وسنده .....، كما فى (كنز العمال) (١٧٢٩٨) .

(٢) لم أقف على رواية (فصه منه) وهى عند الترمذى (١٧٤٠) فى اللباس.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٩٤) فى اللباس والزينة، باب: فى خاتم الورق فصه حبشى.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨٧٧) فى اللباس، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا ينقش على نقش خاتمه) ، ومسلم (٢٠٩٢) فى اللباس والزينة، باب: لبس النبى- صلى اللّه عليه وسلم- خاتما من ورق نقشه محمد رسول اللّه.

حبشى، ونقش فيه: محمد رسول اللّه) (١) . وفى رواية البخارى والترمذى (وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، واللّه سطر) (٢) .

قال فى فتح البارى: ظاهره أنه لم يكن فيه زيادة على ذلك، وأنه كان على هذا الترتيب، لكن لم تكن كتابته على الترتيب العادى، فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به تقتضى أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا، وأما قول بعض الشيوخ أن كتابته كانت من فوق يعنى الجلالة أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد أسفلها، فلم أر التصريح بذلك فى شىء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلى يخالف ظاهرها ذلك، فإنه

قال: محمد سطر، والسطر الثانى رسول، والسطر الثالث: اللّه.

وعن ابن عمر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يلبس خاتمه فى يمينه، فلما قبض صار فى يد أبى بكر فى يمينه، فلما قبض صار فى يد عمر فى يمينه، ثم صار فى يد عثمان فى يمينه، ثم ذهب يوم الدار عليه: (لا إله إلا اللّه) . رواه بركة بن محمد الحلبى، كما حكاه ابن رجب فى كتاب الخواتيم، ثم

قال: وهى رواية ساقطة جدّا، فإن بركة مذكور بالكذب، وفى لفظه ما يدل على بطلانه، وهو قوله: ذهب يوم الدار عليه: لا إله إلا اللّه، فإنه إنما سقط فى بئر أريس قبل يوم الدار، وقد عاش عثمان بعده مدة واتخذ له خاتما عوضه، وإنما كان نقشه، محمد رسول اللّه لا كلمة الإخلاص. انتهى.

تنبيه: قال شيخ الإسلام الشرف المناوى: وتحصل السنة بلبس الخاتم مطلقا، ولو مستعارا أو مستأجرا، لكن الأوفق للسنة لبسه بالملك، والاستدامة على ذلك، ويجوز تعداد الخواتيم اتخاذا، وأما الاستعمال فمفهوم كلام الرافعى عدم الجواز، وبه صرح المحب الطبرى ف

قال: المتجه أنه لا يجوز

__________

(١) صحيح: أخرجه النسائى (٨/ ١٧٢) فى الزينة، باب: صفة خاتم النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٠٦) فى الخمس، باب: ما ذكر فى درع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وعصاه وقدحه وخاتمه، والترمذى (١٧٤٧ و ١٧٤٨) فى اللباس، باب: ما جاء فى نقش الخاتم.

للرجل أن يلبس خاتمين من فضة فى يديه أو فى إحداهما، لأن استعمال الفضة حرام إلا ما وردت به الرخصة، ولم ترد إلا فى خاتم واحد، لكن ذكر الخوارزمى فى الكافى أنه لا يجوز له أن يلبس زوجا فى يد وفرادى فى الآخرى، فإن لبس فى كل واحدة زوجا فقال الصيدلانى فى الفتاوى لا يجوز. وقال الدارمى فى الاستذكار يكره للرجل لبس فوق خاتمين، فاقتصاره على الكراهة يدل على عدم الحرمة، وإذا تقرر ذلك فالمسألة ذات خلاف، والذى يظهر كلام المحب الطبرى، فإن تسامحنا اعتمدنا على ما أفتى به الصيدلانى. انتهى.

ويجوز التختم فى اليمين واليسار، واختلف الناس فى أفضلهما، فقيل:

اليسار، وهو نص الإمام أحمد، فى رواية صالح

قال: التختم فى اليسار أحب إلى، وهو مذهب الإمام مالك، ويروى أنه كان يلبسه فى يساره، وكذلك الإمام الشافعى. وفى صحيح مسلم عن أنس

قال: (كان خاتم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذه وأشار إلى الخنصر فى يده اليسرى) (١) . وفى سنن أبو داود (عن ابن عمر أنه كان- صلى اللّه عليه وسلم- يتختم فى يساره) (٢) وروى إسماعيل بن مسلم عن السليطى

قال: أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى ليلة قمراء، وكأنى أنظر إلى عكن بطنه، وكأنها القباطى وإلى وبيص خاتمه فى يساره. وإسماعيل هذا قال البخارى: تركه ابن المبارك، وربما روى عنه. وقد ذكر بعض الحفاظ- كما أفاده الحافظ ابن رجب- أن التختم فى اليسار مروى عن عامة الصحابة والتابعين.

ورجحت طائفة التختم فى اليمين، وهو قول ابن عباس، وعبد اللّه بن جعفر، وروى حماد بن سلمة

قال: رأيت ابن أبى رافع يتختم فى يمينه فسألته عن ذلك

فقال: رأيت عبد اللّه بن جعفر يتختم فى يمينه، و

قال: كان- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٩٥) فى اللباس والزينة، باب: فى لبس الخاتم فى الخنصر من اليد.

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٢٢٧) فى الخاتم، باب: ما جاء فى التختم فى اليمين أو اليسار؟

يتختم فى يمينه (١) ، رواه أحمد والنسائى وابن ماجه والترمذى و قال: قال محمد- يعنى البخارى- هذا أصح شىء روى عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذا الباب.

وفى الشمائل للترمذى عن جابر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يتختم فى يمينه. وهذا فيه ضعف، لحال عبد اللّه بن ميمون. ويروى من حديث عباد بن صهيب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد اللّه

قال: قبض رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- والخاتم فى يمينه، وعباد بن صهيب متروك أيضا. وروى البزار فى مسنده من حديث عبيد بن القاسم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان يتختم فى يمينه، وقبض والخاتم فى يمينه. وعبيد هذا كذاب. قال الحافظ ابن رجب: وقد جاء التصريح بأن تختمه- صلى اللّه عليه وسلم- فى يساره كان آخر الأمرين فى حديث رواه سليمان بن محمد عن عبد اللّه بن عطاء عن نافع عن ابن عمر أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان يتختم فى يمينه ثم إنه حوله إلى يساره (٢) .

وقال وكيع: التختم فى اليمين ليس بسنة.

ونص أحمد: أنه يكره التختم فى السبابة والوسطى. وروى عن على أنه

قال: (نهانى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أن أتختم فى هذه أو هذه وأومأ إلى السبابة والوسطى) (٣) واللّه أعلم. وفى اللباب: وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يتختم، وربما خرج وفى خاتمه خيط مربوط يستذكر به الشىء، ورواه ابن عدى بسند ..... من حديث واثلة بلفظ: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا أراد حاجة أوثق فى خاتمه خيطا.

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (١٧٤٤) فى اللباس، باب: ما جاء فى لبس الخاتم فى اليمين، والنسائى (٨/ ١٧٥) ، فى الزينة، باب: موضع الخاتم من اليد، وابن ماجه (٣٦٤٧) فى اللباس، باب: التختم باليمين، وأحمد فى (المسند) (١/ ٢٠٥).

(٢) أخرجه ابن عدى فى الكامل عن ابن عمر، وابن عساكر عن عائشة، كما فى (..... الجامع) (٤٥٣٢) .

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٧٨) فى اللباس والزينة، باب: النهى عن لبس الرجل الثوب المعصفر.

وروى أبو يعلى عن ابن عمر أنه إذا أشفق من الحاجة أن ينساها ربط فى أصبعه خيطا ليذكرها. وكذا هو فى رابع الخلعيات. لكن فيه سالم بن عبد الأعلى أبو الفيض، رماه ابن حبان بالوضع بل اتهمه أبو حاتم بهذا الحديث.

وأما السراويل فاختلف هل لبسها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أم لا؟ فجزم بعض العلماء بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يلبسه، ويستأنس له بما جزم به النووى فى ترجمة عثمان بن عفان- رضى اللّه عنه- من كتاب تهذيب الأسماء واللغات: أنه- رضى اللّه عنه- لم يلبس السراويل فى جاهلية ولا إسلام إلا يوم قتله. فإنهم كانوا أحرص شىء على اتباعه- صلى اللّه عليه وسلم-.

لكن قد ورد فى حديث عند أبى يعلى الموصلى فى مسنده بسند ..... جدّا عن أبى هريرة

قال: دخلت السوق يوما مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فجلس إلى البزازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق وزان يزن فقال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (اتزن وأرجح) ، فقال الوزان إن هذه الكلمة ما سمعتها من أحد، فقال أبو هريرة فقلت له: كفى بك من الوهن والجفاء فى دينك ألا تعرف نبيك، فطرح الميزان، ووثب إلى يد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يريد أن يقبلها فجذب يده- صلى اللّه عليه وسلم- منه و

قال: (يا هذا إنما تفعل هذا الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنما أنا رجل منكم) ، فوزن فأرجح وأخذ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- السراويل. قال أبو هريرة: فذهبت لأحمله عنه ف

قال: (صاحب الشىء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون .....ا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم) ،

قال: قلت يا رسول اللّه، وإنك لتلبس السراويل؟

قال: (أجل، فى السفر والحضر، وبالليل والنهار، فإنى أمرت بالستر، فلم أجد شيئا أستر منه) (١) .

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٣٣٦) فى البيوع، باب: فى الرجحان فى الوزن والوزن بالأجر، والترمذى (١٣٠٥) فى البيوع، باب: ما جاء فى الرجحان فى الوزن، والنسائى (٧/ ٢٨٤) فى البيوع، باب: الرجحان فى الوزن، وابن ماجة (٢٢٢٠) فى التجارات، باب: الرجحان فى الوزن، والدارمى فى (سننه) (٢٥٨٥) ، وأحمد فى (المسند) -

وكذا أخرجه ابن حبان فى الضعفاء عن أبى يعلى، ورواه الطبرانى فى الأوسط، والدار قطنى فى الأفراد، والعقيلى فى الضعفاء، ومداره على يوسف ابن زياد الواسطى. لكن قد صح شراء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- له. وفى الهدى:

والظاهر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- إنما اشتراه ليلبسه. وقد روى أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسونه فى زمانه وبإذنه. قال أبو عبد اللّه الحجازى فى حاشيته على (الشفاء) : وما قاله فى الهدى من أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لبس السراويل، قالوا: سبق قلم واللّه أعلم. وقد أورد أبو سعيد النيسابورى ذكر الحديث فى تجارته- صلى اللّه عليه وسلم- من كتابه (شرف المصطفى) . وقد ترجم البخارى فى اللباس من صحيحه: باب السراويل، وأورد فيه حديث المحرم لكونه لم يرد فيه شىء على شرطه.

وأما الخف: فروى الترمذى عن بريدة أن النجاشى أهدى للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- خفين أسودين ساذجين، فلبسهما ثم توضأ ومسح عليهما (١) .

وعن المغيرة بن شعبة

قال: أهدى دحية للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- خفين فلبسهما.

وقال إسرائيل عن جابر عن عامر: وجبة فلبسهما حتى تخرقا، لا يدرى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أذكيان هما أم لا (٢) . رواه الطبرانى.

وأما نعله- صلى اللّه عليه وسلم-، والنعل- كما قال صاحب المحكم- ما وقيت به القدم، ففى البخارى عن قتادة عن أنس (أن نعل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان لها

__________

- (٤/ ٣٥٢) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٢١٤٧) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٣٥) و (٤/ ٢١٣) ، من حديث سويد بن قيس- رضى اللّه عنه-، مختصراوانظر (كشف الخفاء) (١٥٨٢) .

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٥٥) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين، والترمذى (٢٨٢٠) فى الأدب، باب: ما جاء فى الخف الأسود، وابن ماجه (٥٤٩) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على الخفين، و (٣٦٢٠) فى اللباس، باب: الخفاف السود .

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (١٧٦٩) فى اللباس، باب: ما جاء فى لبس الجبة والخفين .

قبالان) (١) . والقبالان: تثنية القبال، وهو زمام النعل، وهو السير الذى يكون بين الأصبعين. وعن ابن عباس

قال: كان لنعل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قبالان مثنى شراكهما، رواه الترمذى فى الشمائل، وفيها أيضا عن أبى هريرة

قال: كان لنعل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قبالان. وعن عيسى بن طهمان

قال: أخرج إلينا أنس ابن مالك نعلين جرداوين لهما قبالان، فحدثنى ثابت بعد عن أنس: أنهما كانتا نعلى النبى (٢) . وعن عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر: رأيتك تلبس النعال السبتية،

قال: إنى رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يلبس النعال التى ليس فيها شعر ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها (٣) . وعن عمرو بن حريث

قال: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى فى نعلين مخصوفتين (٤) . وعن عائشة كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يحب التيمن ما استطاع فى ترجله وتنعله وطهوره (٥) رواه الترمذى.

وعن أبى هريرة، قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إذا تنعل أحدكم فليبدأ باليمين، فإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمين أولهما تنعل وآخرهما تنزع) (٦) .

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- ينهى أن ينتعل الرجل قائما (٧) . رواه أبو داود والترمذى.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨٥٧ و ٥٨٥٨) فى اللباس، باب: قبالان في نعل.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٠٧) فى فرض الخمس، باب: ما ذكر من درع النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨٥١) فى اللباس، باب: النعال السبتية وغيرها، ومسلم (١١٨٧) فى الحج، باب: الإحلال من حيث تنبعث الراحلة.

(٤) أخرجه النسائى فى (الكبرى) (٩٨٠٣ و ٩٨٠٤) ، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٥٨) .

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٨) فى الوضوء، باب: التيمن فى الوضوء والغسل، ومسلم (٢٦٨) فى الطهارة، باب: التيمن فى الطهور وغيره.

(٦) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨٥٦) في اللباس، باب: ينزع نعله اليسرى، ومسلم (٢٠٩٧) فى اللباس والزينة، باب: استحباب لبس النعل فى اليمنى أولا.

(٧) صحيح: أخرجه أبو داود (٤١٣٥) في اللباس، باب: فى الانتعال، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-،

وأخرجه الترمذى (١٧٧٥) فى اللباس، باب ما جاء فى كراهية أن ينتعل الرجل وهو قائم، وابن ماجه (٣٦١٨) فى اللباس، باب: الانتعال قائما، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-،

وأخرجه الترمذى (١٧٧٦) من حديث أنس- رضى اللّه عنه-،

وأخرجه ابن ماجه (٣٦١٩) من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

وقد ذكر أبو اليمن بن عساكر تمثال نعله الكريمة- عليه أفضل الصلاة والسلام- فى جزء مفرد رويته قراءة وسماعا. وكذا أفرده بالتأليف أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن خلف السلمى المشهور بابن الحاج من أهل المرية بالأندلس وكذا غيرهما. ولم أثبتها هنا اتكالا على شهرتها وصعوبة ضبط تسطيرها إلا على حاذق.

ومن بعض ما ذكر من فضلها وجرب من نفعها وبركتها، ما ذكره أبو جعفر أحمد بن عبد المجيد، وكان شيخا صالحا

قال: حذوت هذا المثال لبعض الطلبة فجاءنى يوما فقال لى رأيت البارحة من بركة هذا النعل عجبا.

أصاب زوجى وجع شديد كاد يهلكها فجعلت النعل على موضع الوجع وقلت:

اللّهم أرنى بركة صاحب هذا النعل، فشفاها اللّه للحين.

وقال أبو إسحاق: قال أبو القاسم بن محمد: ومما جرب من بركته أن من أمسكه عنده متبركا به كان له أمانا من بغى البغاة وغلبة العداة وحرزا من كل شيطان مارد وعين كل حاسد، وإن أمسكته المرأة الحامل بيمينها وقد اشتد عليها الطلق تيسر أمرها بحول اللّه وقوته، وللّه در أبى اليمن بن عساكر حيث

قال:

يا منشدا فى رسم ربع خال ... ومناشدا لدوارس الأطلال

دع ندب آثار وذكر ماثر ... لأحبة بانوا وعصر خال

والثم ثرى الأثر الكريم فحبذا ... إن فزت منه بلثم ذا التمثال

أثر له بقلوبنا أثر لها ... شغل الخلى بحب ذات الخال

قبّل لك الإقبال نعلى أخمص ... حل الهلال بها محل قبال

ألصق بها قلبا يقلبه الهوى ... وجلا على الأوصاب والأوجال

صافح بها خدّا وعفر وجنة ... فى تربها وجدا وفرط فعال

سيبل حر جوى ثوى بجوانح ... فى الحب ما جنحت إلى الإبلال

يا شبه نعل المصطفى روحى الفدا ... لمحلك الأسمى الشريف العال

هملت لمرآك العيون وقد نأى ... مرمى العيان بغير ما إهمال

وتذكرت عهد العقيق فتأثرت ... شوقا عقيق المدمع الهطال

وصبت فواصلت الحنين إلى الذى ... ما زال بالى منه فى بلبال

أذكرتنى قدما لها قدم العلا ... والجود والمعروف والإفضال

أذكرتنى من لم يزل ذكرى له ... يعتاد فى الأبكار والآصال

ولها المفاخر والماثر فى الدنا ... والدين والأقوال والأفعال

لو أن خدى يحتذى نعلا لها ... لبلغت من نيل المنى آمال

أو أن أجفانى لوطء نعالها ... أرض سمت عزا بذا الإذلال

وما أحسن قول أبى الحكم بن المرحل فى قصيدة ذكرها أبو إسحاق بن الحاج:

بوصف حبيبى طرز الشعر ناظمه ... ونمنم خد الطرس بالنقش راقمه

رؤوف عطوف أوسع الناس رحمة ... وجادت عليهم بالنوال غمائمه

له الحسن والإحسان فى كل مذهب ... فاثاره محبوبة ومعالمه

به ختم اللّه النبيين كلهم ... وكل فعال صالح فهو خاتمه

أحب رسول اللّه حبّا لو أنه ... تقاسمه قومى كفتهم قسائمه

كأن فؤادى كلما مرّ ذكره ... من الورق خفاق أصيبت قوادمه

أهيم إذا هبت نواسم أرضه ... ومن لفؤادى أن تهب نواسمه

فأنشق مسكا طيبا فكأنما ... نوافجه جاءت به ولطائمه

ومما دعانى والدعاوى كثيرة ... إلى الشوق أن الشوق مما أكاتمه

مثال لنعلى من أحب هويته ... فها أنا فى يومى وليلى ألاثمه

أجر على رأسى ووجهى أديمه ... وألثمه طورا وطورا ألازمه

أمثله فى رجل أكرم من مشى ... فتبصره عينى وما أنا حالمه

أحرك خدى ثم أحسب وقعه ... على وجنتى خطوا هناك يداومه

ومن لى بوقع النعل فى حر وجنتى ... لماش علت فوق النجوم براجمه

سأجعله فوق الترائب عوذة ... لقلبى لعل القلب يبرد حاجمه

وأربطة فوق الشؤون تميمة ... لجفنى لعل الجفن يرقأ ساجمه

ألا بأبى تمثال نعل محمد ... لطاب لحاذيه وقدس خادمه

يود هلال الأفق لو أنه هوى ... يزاحمنا في لثمه ونزاحمه

وما ذاك إلا أن حب نبينا ... يقوم بأجسام الخليقة لازمه

سلام عليه كلما هبت الصبا ... وغنت بأغصان الأراك حمائمه

ولأبى بكر أحمد بن الإمام أبى محمد عبد اللّه بن الحسين القرطبى- رحمه اللّه-:

ونعل خضعنا هيبة لبهائها ... وإنا متى نخضع لها أبدا نعلو

فضعها على أعلى المفارق إنها ... حقيقتها تاج وصورتها نعل

بأخمص خير الخلق حازت مزية ... على التاج حتى باهت المفرق الرجل

طريق الهدى عنها استنارت لمبصر ... وإن بحار الجود من فيضها حلوا

سلونا ولكن عن سواها وإنما ... نهيم بمغناها الغريب وما نسلوا

فما شاقنا مذ راقنا رسم عزها ... حميم ولا مال كريم ولا نسل

شفاء لذى سقم رجاء لبائس ... أمان لذى خوف كذا يحسب الفضل

وأما فراشه- صلى اللّه عليه وسلم-، فقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- آخذا من ذلك بما تدعو ضرورته إليه، وترك ما سوى ذلك.

وفى صحيح مسلم قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (فراش للرجل وفراش لامرأته والثالث للضيف، والرابع للشيطان) (١) .

قال العلماء: معناه ما زاد على الحاجة فاتخاذه إنما هو للمباهاة والاختيال، والالتهاء بزينة الدنيا، وما كان بهذه الصفة فهو مذموم، وكل مذموم يضاف للشيطان لأنه يرتضيه ويوسوس به ويحسنه،

وقيل: إنه على ظاهره، وإنه إذا كان لغير حاجة كان للشيطان عليه مبيت ومقيل، وأما تعداد الفراش للزوج والزوجة فلا بأس به لأنه قد يحتاج كل واحد منهما إلى فراش عند المرض ونحوه.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٨٤) فى اللباس والزينة، باب: كراهة ما زاد على الحاجة من الفراش واللباس، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-.

وعن عائشة: (إنما كان فراش رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الذى ينام عليه أدما حشوه الليف) (١) رواه الشيخان.

وروى البيهقى من حديثها،

قالت: دخلت على امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قطيفة مثنية، فبعثت إلى بفراش حشوه الصوف، فدخل على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: (ما هذا يا عائشة؟) قلت: يا رسول اللّه، فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فبعثت إلى بهذا، ف

قال: (رديه يا عائشة فو اللّه لو شئت لأجرى اللّه معى جبال الذهب والفضة) (٢) .

وعند عبد اللّه بن مسعود: نام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على حصير، فقام وقد أثر فى جنبه (٣) . الحديث رواه ابن ماجه والترمذى و

قال: حسن صحيح.

والطبرانى ولفظه: دخلت على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو فى غرفة كأنها حمام. وهو نائم على حصير، وقد أثر فى جنبه فبكيت، ف

قال: (ما يبكيك يا عبد اللّه؟) قلت: يا رسول اللّه كسرى وقيصر يطؤون على الخز والديباج والحرير، وأنت نائم على هذا الحصير قد أثر بجنبك،

فقال: (فلا تبك يا عبد اللّه، فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة) (٤) .

وقوله: كأنها بيت حمام- بتشديد الميم- أى أن فيها من الحر والكرب كما فى بيت الحمام. وعن ابن عباس

قال: حدثنى عمر بن الخطاب

قال: دخلت على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو على حصير،

قال: فجلست، فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر فى جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وإذا إهاب معلق، فابتدرت عيناى، ف

قال: (ما يبكيك يا ابن الخطاب) ،

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٤٥٦) فى الرقاق، باب: كيف كان عيش النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه، ومسلم (٢٠٨٢) فى اللباس والزينة، باب: التواضع فى اللباس.

(٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ٣٤٥) .

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٣٧٧) فى الزهد، باب: رقم (٣١) ، وأبو يعلى فى (مسنده) (٢٢٩٢) .

(٤) حسن: أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (١٠/ ١٦٢) وذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٣٢٦) وقال: رواه الطبرانى، وفيه عبيد اللّه بن سعيد قائد الأعمش، وقد وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات.

فقال: يا نبى اللّه، وما لى لا أبكى وهذا الحصير قد أثر فى جنبك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر فى الثمار والأنهار، وأنت نبى اللّه وصفوته، وهذه خزائنك.

قال: (يا ابن الخطاب، أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا) (١) . رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. والحاكم و

قال: صحيح على شرط مسلم ولفظه.

قال عمر- رضى اللّه عنه-: استأذنت على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فدخلت عليه فى مشربة، وإنه لمضطجع على خصفة وإن بعضه لعلى التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا، وإن فوق رأسه لإهاب عطين، وفى ناحية المشربة قرظ، فسلمت عليه وجلست فقلت: أنت نبى اللّه وصفوته، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير، ف

قال: (أولئك عجلت لهم طيباتهم وهى وشيكة الانقطاع وإنا قوم أخرت لنا طيباتنا فى آخرتنا) (٢) .

وعن عائشة، كان لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سرير مرمّل بالبردى، عليه كساء أسود، وقد حشوناه بالبردى، فدخل أبو بكر وعمر عليه فإذا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- نائم عليه، فلما رآهما استوى جالسا، فنظرا فإذا أثر السرير فى جنب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقالا: يا رسول اللّه ما يؤذيك خشونة ما نرى من فراشك وسريرك، وهذا كسرى وقيصر على فرش الحرير والديباج فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تقولا هذا، فإن فراشى كسرى وقيصر فى النار، وإن فراشى وسريرى هذا عاقبته إلى الجنة) (٣) . رواه ابن حبان فى صحيحه. ويروى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- ما عاب مضجعا قط، إن فرش له اضطجع، وإلا اضطجع على الأرض. وتغطى- صلى اللّه عليه وسلم- باللحاف، قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما أتانى جبريل وأنا فى لحاف امرأة منكن غير عائشة) (٤) .

__________

(١) حسن: أخرجه ابن ماجه (٤١٥٣) فى الزهد، باب: ضجاع آل محمد- صلى اللّه عليه وسلم- .

(٢) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ١١٧) ، و

قال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

(٣) أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٧٠٤) .

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧٧٥) فى المناقب، باب: فضل عائشة- رضى اللّه عنها-، من حديث أم سلمة- رضى اللّه عنها-.