Geri

   

 

 

İleri

 

٣ الفصل الثانى فيما أكرمه اللّه تعالى به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية

اعلم أن الأخلاق جمع خلق. بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها. قال الراغب: الخلق- بالفتح وبالضم- فى الأصل بمعنى واحد، كالشرب والشرب لكن خص الخلق الذى بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذى بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة. انتهى. وقد اختلف: هل حسن الخلق غريزة أو مكتسب؟ وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ابن مسعود: (إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم) (١) الحديث رواه البخارى. وقد قال القرطبى: الخلق جبلة فى نوع الإنسان. وهم فى ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شىء منها كان محمودا وإلا فهو المأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان .....ا فيرتاض حتى يقوى.

وقد وقع فى حديث الأشج أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال له: (إن فيك لخصلتين يحبهما اللّه: الحلم والأناة) ،

قال: يا رسول اللّه قديما كانا أو حديثا؟

قال: (قديما) ،

قال: الحمد للّه الذى جبلنى على خلتين يحبهما اللّه (٢) . رواه أحمد والنسائى وصححه ابن حبان. فترديد السؤال وتقريره عليه بأن فى الخلق ما هو جبلى وما هو مكتسب. وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول:

__________

(١) صحيح موقوفا: أخرجه البخارى فى (التاريخ الكبير) (٤/ ٣١٣) ، وليس فى الصحيح كما يوهم صنيع المؤلف.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٨) فى الإيمان، باب: الأمر بالإيمان باللّه تعالى ورسوله- صلى اللّه عليه وسلم-، وابن ماجه (٤١٨٧) فى الزهد، باب: الحلم، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

(اللّهم كما حسنت خلقى فحسن خلقى) (١) . أخرجه أحمد وصححه ابن حبان، وعند مسلم فى حديث دعاء الافتتاح: (واهدنى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت) (٢) . ولما اجتمع فيه- صلى اللّه عليه وسلم- من خصال الكمال ما لا يحيط به حد، ولا يحصره عد، أثنى اللّه تعالى عليه فى كتابه الكريم

فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٣) ، وكلمة (على) للاستعلاء فدل اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاق ومستول عليها.

والخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة، وقد وصف اللّه تعالى نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم

فقال تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظِيماً (٤) ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم،

فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٥) . فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة. قال الحليمى: وإنما وصف خلقه بالعظم، مع أن الغالب وصف الخلق بالكرم لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة، ولم يكن خلقه- صلى اللّه عليه وسلم- مقصورا على ذلك، بل كان رحيما بالمؤمنين، رفيقا بهم، شديدا على الكفار، غليظا عليهم، مهيبا فى صدور الأعداء، منصورا بالرعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصف خلقه بالعظيم أولى ليشمل الإنعام والانتقام.

وقال الجنيد: وإنما كان خلقه- صلى اللّه عليه وسلم- عظيما لأنه لم يكن له همة سوى اللّه تعالى.

وقيل: لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- عاشر الخلق بخلقه، وباينهم بقلبه.

وقيل:

__________

(١) صحيح: أخرجه أحمد فى المسند عن ابن مسعود، كما فى (صحيح الجامع) (١٣٠٧) إلا أنى لم أقف عليه فى المسند.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٧٧١) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث على- رضى اللّه عنه-.

(٣) سورة القلم: ٤.

(٤) سورة النساء: ١١٣.

(٥) سورة القلم: ٤.

لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال- صلى اللّه عليه وسلم- فيما رواه الطبرانى فى الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسى وهو .....- عن جابر: (إن اللّه بعثنى بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال) (١) ، وفى رواية مالك فى الموطأ بلاغا: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (٢) . فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه- صلى اللّه عليه وسلم-، فإنه أدب بالقرآن، كما قالت عائشة- رضى اللّه عنها-: (كان خلقه القرآن) (٣) .

قال بعض العارفين: وقد علم أن القرآن فيه المتشابه الذى لا يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون فى العلم يقولون آمنا به، أى أقررناه فى نصابه، وأقررنا به من خلف حجابه، وتقلدنا سيف الحجة به ولكن فى قرابه.

وما كونه مما تحصل مقلة ... ولا حده مما تحس الأنامل

وقال صاحب عوارف المعارف: ولا يبعد أن قول عائشة- رضى اللّه عنها-: (كان خلقه القرآن) فيه رمز غامض، وإيماء خفى إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الإلهية أن تقول: كان متخلقا بأخلاق اللّه تعالى فعبرت عن المعنى بقولها: (كان خلقه القرآن) استحياء من سبحات الجلال وسترا للحال بلطف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها. انتهى.

فكما أن معانى القرآن لا تتناهى فكذلك أوصافه الجميلة الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى إذ فى كل حالة من أحواله يتجدد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وما يفيضه اللّه تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى. فإذا التعرض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة تعرض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته.

قال الحرالى- وهو كما فى القاموس: بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة

__________

(١) إسناده ..... ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ١٨٨) عن جابر و

قال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عمر بن إبراهيم القرشى، وهو ......

(٢) أخرجه مالك فى (الموطأ) (٢/ ٩٠٤) بلاغا.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٧٤٦) فى صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل.

بالبربر، واسمه: على بن أحمد بن الحسين، ذو التصانيف المشهورة-: ولما كان عرفان قلبه- صلى اللّه عليه وسلم- بربه عز وجل كما قال- عليه السّلام-: (بربى عرفت كل شىء) (١) كانت أخلاقه أعظم خلق، فلذلك بعثه إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الإنس حتى عمت الجن، ولم يقصرها على الثقلين حتى عمت جميع العالمين: فكل من كان اللّه ربه فمحمد رسوله، وكما أن الربوبية تعم العالمين فالخلق المحمدى يشمل جميع العالمين. انتهى. وهذا مصير منه إلى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قد أرسل إلى الملائكة أيضا، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوفى إن شاء اللّه تعالى وهو المستعان.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- مجبولا على الأخلاق الكريمة فى أصل خلقته الزكية النقية، لم يحصل له ذلك برياضة نفس، بل بجود إلهى، ولهذا لم تزل تشرق أنوار المعارف فى قلبه حتى وصل إلى الغاية العليا والمقام الأسنى.

وأصل هذه الخصال الحميدة، والمواهب المجيدة، كمال العقل، لأن به تقتبس الفضائل وتجتنب الرذائل، فالعقل لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان، قال بعضهم: لكل شىء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر. وأما ما روى (أن اللّه لما خلق العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر،

فقال: وعزتى وجلالى ما خلقت خلقا أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطى) . فقال ابن تيمية وتبعه غيره: إنه كذب ....... باتفاق. انتهى. وفى زوائد عبد اللّه ابن الإمام أحمد على (الزهد) لأبيه عن على بن مسلم عن سيار بن حاتم- وهو ممن ضعفه غير واحد وكان جماعا للرقائق، وقال القواريرى: إنه لم يكن له عقل-

قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعى، حدثنا مالك بن دينار عن الحسن البصرى، مرسلا: (لما خلق اللّه العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر،

فقال: ما خلقت خلقا أحب إلى منك، بك آخذ وبك أعطى) .

وأخرجه داود بن المحبر فى كتاب العقل له، وابن المحبر كذاب. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: والوارد فى أول ما خلق اللّه، حديث أول ما

__________

(١) لم أقف على هذه العبارة.

خلق اللّه القلم، وهو أثبت من حديث العقل. ولأبى الشيخ عن قرة بن إياس المزنى رفعه: (الناس يعملون الخير وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم) (١) .

وقد اختلف فى ماهية العقل اختلافا طويلا يطول استقصاؤه. وفى القاموس ومن خط مؤلفه نقلت: العقل العلم، أو بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشر الشرين، أو يطلق لأمور لقوة بها يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعان مجتمعة فى الذهن تكون بمقدمات يستثبت بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان فى حركاته وكلماته، والحق أنه روحانى به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ. انتهى.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- من كمال العقل فى الغاية القصوى التى لم يبلغها بشر سواه، ولهذا كانت معارفه عظيمة وخصائصه جسيمة، حارت العقول فى بعض فيض ما أفاضه من غيبه لديه، وكلّت الأفكار فى معرفة بعض ما أطلعه اللّه عليه، وكيف لا يعطى ذلك وقد امتلأ قلبه وباطنه وفاض على جسده المكرم ما وهبه من أسرار إلهيته ومعرفة ربوبيته وتحقق عبوديته. قال وهب بن منبه: قرأت فى أحد وسبعين كتابا، فوجدت فى جميعها أن اللّه تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل فى جنب عقله- صلى اللّه عليه وسلم- إلا كحبة رمل بين رمل من جميع رمال الدنيا، وإن محمدا أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا. رواه أبو نعيم فى الحلية وابن عساكر.

وعن بعضهم مما هو فى عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون فى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وجزء فى سائر المؤمنين، ومن تأمل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحش الشادر، والطبع المتنافر والمتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاءهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه،

__________

(١) أخرجه أبو الشيخ، كما فى (كنز العمال) (٧٠٥٢) .

وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروا على أنفسهم، وهجروا فى رضاه أوطانهم وأحباءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين، ولما كان عقله- صلى اللّه عليه وسلم- أوسع العقول لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعا لا يضيق عن شىء. فمن ذلك: اتساع خلقه العظيم فى الحلم والعفو مع القدرة وصبره- صلى اللّه عليه وسلم- على ما يكره، وحسبك صبره وعفوه- عليه السّلام- عن الكافرين به المقاتلين المحاربين له فى أشد ما نالوه به من الجراح بحيث كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد، حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، حتى شق ذلك على أصحابه شديدا، وقالوا: لو دعوت عليهم، ف

قال: (إنى لم أبعث لعانا، ولكنى بعثت داعيا ورحمة،

اللّهم اغفر لقومى، أو اهد قومى فإنهم لا يعلمون) (١) .

قال ابن حبان: أى اغفر لهم ذنبهم فى شج وجهى لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقا، إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلهم.

كذا قال- رحمه اللّه-. وقد روى عن عمر أنه قال فى بعض كلامه: بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه، لقد دعا نوح على قومه ف

قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢) الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت:

(اللّهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون) .

وهاهنا دقيقة؛ وهى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما شج عفا وقال

(اللّهم اهد قومى) ، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق

قال:

(اللّهم املأ بطونهم نارا) (٣) فتحمل الشجة الحاصلة فى وجه جسده الشريف، وما تحمل الشجة الحاصلة فى وجه دينه، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجح حتى خالقه على حقه.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٥٩٩) فى البر والصلة، باب: النهى عن لعن الدواب وغيرها، مقتصرا على طرفه الأول، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) سورة نوح: ٢٦.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٦٢٧) فى المساجد، باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هى صلاة العصر، من حديث على- رضى اللّه عنه-.

واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل اللّه تعالى النفس على التألم بما يفعل بها، ولهذا شق عليه- صلى اللّه عليه وسلم- نسبتهم له إلى الجور فى القسمة، لكنه- عليه السّلام- حلم على القائل وصبر، لما علم من جزيل ثواب الصابر وأن اللّه يأجره بغير حساب. وصبره- صلى اللّه عليه وسلم- على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأما إذا كان اللّه فإنه يمتثل فيه أمر اللّه تعالى من الشدة كما قال له تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (١) وقد وقع له- صلى اللّه عليه وسلم- أنه غضب لأسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كان فى أمر اللّه، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد فى الزجر. فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة- صلى اللّه عليه وسلم-.

وقد روى الطبرانى وابن حبان والحاكم والبيهقى عن زيد بن سعنة- بالمهملة والنون المفتوحتين، كما قيده به عبد الغنى وذكره الدار قطنى: وبالمثناة التحتية، ثبت فى الشفاء وصحح عليه مؤلفه بخطه، وهو الذى ذكره ابن إسحاق، وهو كما قاله النووى: أجل أحبار اليهود الذين أسلموا- أنه

قال: لم يبق من علامات النبوة شىء إلا وقد عرفته فى وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما. فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرا إلى أجل فأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت:

ألا تقضينى يا محمد حقى، فو اللّه إنكم يا بنى عبد المطلب مطل، فقال عمر:

أى عدو اللّه، أتقول لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما أسمع فو اللّه لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفى رأسك، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ينظر إلى عمر فى سكون وتؤدة وتبسم ثم

قال: (أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرنى بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا مكان ما رعته) ، ففعل، فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد

__________

(١) سورة التوبة: ٧٣.

عرفتها فى وجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما:

يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد اختبرتهما، فأشهدك أنى قد رضيت باللّه ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا (١) .

وعن أبى هريرة قال حدثنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يوما ثم قام، فقمنا حين قام فنظرنا إلى أعرابى قد أدركه فجبذه بردائه فحمر رقبته، وكان رداء خشنا، فالتفت إليه فقال له الأعرابى: احملنى على بعيرى هذين، فإنك لا تحملنى من مالك ولا من مال أبيك، فقال له- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا، وأستغفر اللّه، لا وأستغفر اللّه، لا وأستغفر اللّه، لا أحملك حتى تقيدنى من جبذتك التى جبذتنى) ، فكل ذلك يقول له الأعرابى: واللّه لا أقيدكها، فذكر الحديث،

قال: ثم دعا رجلا فقال له: (احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرا وعلى الآخر شعيرا) (٢) رواه أبو داود.

ورواه البخارى من حديث أنس بلفظ: كنت أمشى مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية فأدركه أعرابى فجبذ بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتقه وقد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جبذته، ثم

قال: يا محمد مر لى من مال اللّه الذى عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء (٣) .

وفى هذا بيان حلمه- صلى اللّه عليه وسلم- وصبره على الأذى فى النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وعن عائشة لم يكن النبى

__________

(١) أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٢٨٨) ، والحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٧٠٠) ، والطبرانى فى (الكبير) (٥/ ٢٢٢) .

(٢) أخرجه أبو داود (٤٧٧٥) فى الأدب، باب: فى الحلم وأخلاق النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والنسائى (٨/ ٣٣) فى القسامة، باب: القود من الجبذة .

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٤٩) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس وغيره، ومسلم (١٠٥٧) فى الزكاة، باب: إعطاء من سأل بفحش وغلظة.

- صلى اللّه عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح (١) . رواه الترمذى، أى لم يكن له الفحش خلقا ولا مكتسبا. وروى البخارى من حديث ابن عمرو: ولم يكن- صلى اللّه عليه وسلم- فاحشا ولا متفاحشا (٢) ، وفى روايته أيضا من حديث أنس بن مالك: لم يكن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- سبابا ولا فاحشا ولا لعانا (٣) . والفحش: كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل فى القول والفعل والصفة، لكن استعماله فى القول أكثر: والمتفحش:

بالتشديد، الذى يتعمد ذلك ويكثر منه ويتكلفه.

وعن عائشة أن رجلا استأذن على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فلما رآه

قال: بئس أخو العشيرة، أو بئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول اللّه، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت فى وجهه وانبسطت إليه. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (يا عائشة، متى عهدتينى فاحشا، إن شر الناس عند اللّه منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) (٤) ، رواه البخارى. قال ابن بطال: هذا الرجل هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارى، وكان يقال له الأحمق المطاع. وكذا فسره به القاضى عياض والقرطبى والنووى.

وأخرج عبد الغنى من طريق أبى عامر الخزاعى، عن عائشة

قالت: جاء مخرمة بن نوفل يستأذن، فلما سمع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- صوته

قال: (بئس أخو العشيرة) . الحديث. والمراد بالعشيرة: الجماعة أو القبيلة، وإنما تطلق- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٠١٦) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى خلق النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٢٣٦) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧٦٠) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب عبد اللّه بن مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٣١) فى الأدب، باب: لم يكن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٢٣) فى الأدب، باب: لم يكن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا، ومسلم (٢٥٩١) فى البر والآداب، باب: مداراة من يتقى فحشه.

فى وجهه تألفا له ليسلم قومه، لأنه كان رئيسهم. وقد جمع هذا الحديث كما قال الخطابى علما وأدبا، وليس قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى أمته بالأمور التى يسمهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم فى بعض، بل الواجب عليه- صلى اللّه عليه وسلم- أن يبن ذلك ويفصح به، ويعرف الناس أمرهم فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة. ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدى به أمته فى اتقاء شر من هذا سبيله وفى مداراته ليسلموا من شره وغائلته. وقال القرطبى: فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة فى دين اللّه.

ثم قال تبعا للقاضى حسين: والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهو مباحة وربما استحسنت، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق فى مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقدير الإشكال وللّه الحمد. وقال القاضى عياض: لم يكن عينية- واللّه أعلم- حينئذ أسلم، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا، فأراد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه فى حياة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به- صلى اللّه عليه وسلم- من علامات النبوة، وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الائتلاف وفى فتح البارى: أن عيينة ارتد فى زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح فى عهد عمر. انتهى.

(وما انتقم- صلى اللّه عليه وسلم- لنفسه) (١) . رواه البخارى.

فإن قلت: قد صح أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أمر بقتل عقبة بن أبى معيط وعبد اللّه بن خطل وغيرهما ممن كان يؤذيه- صلى اللّه عليه وسلم- وهذا ينافى قوله: (وما انتقم لنفسه) .

فالجواب: أنهم كانوا مع

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦٠) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٢٧) فى الفضائل، باب: مباعدته- صلى اللّه عليه وسلم- للآثام واختياره من المباح أسهله.

ذلك ينتهكون حرمات اللّه.

وقيل: أراد أنه لا ينتقم إذا أوذى فى غير السبب الذى يخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابى الذى جفا فى رفع صوته عليه، وعن الآخر الذى جبذ بردائه حتى أثر فى كتفه. وحمل الداودى عدم الانتقام على ما يختص بالمال، وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه.

وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهرى مطولا، وأوله: ما لعن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مسلما بذكر- أى بصريح اسمه- وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن يضرب فى سبيل اللّه، ولا سئل شيئا قط فمنعه إلا أن يسأل مأثما، ولا انتقم لنفسه من شىء إلا أن تنتهك حرمات اللّه فيكون للّه ينتقم (١) . الحديث. ومما روى من اتساع خلقه وحلمه- صلى اللّه عليه وسلم-، اتساع خلقه لطائفة المنافقين، الذين كانوا يؤذونه إذا غاب ويتملقون له إذا حضر، وذلك مما تنفر منه النفوس البشرية حتى تؤيدها العناية الربانية.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- كلما أذن له فى التشديد عليهم فتح لهم- صلى اللّه عليه وسلم- بابا من الرحمة، فكان يستغفر لهم ويدعو لهم، حتى أنزل اللّه عليه اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ (٢) ، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (خيرنى ربى فاخترت أن أستغفر لهم) ولما قال تعالى إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ (٣) ، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لأزيدن على السبعين) (٤) وأمر ولد الذى تولى كبر النفاق والأذى منهم ببر أبيه، ولما مات كفنه فى ثوبه خلعه عن بدنه وصلى عليه، هذا وعمر ابن الخطاب- رضى اللّه عنه- يجذبه بثوبه ويقول: يا رسول اللّه أتصلى على رأس المنافقين؟ فنتر ثوبه من عمر و

قال: (إليك عنى يا عمر) (٥) . فخالف مؤمنا وليّا فى حق منافق عدو، وكل ذلك رحمة منه لأمته، أشار إليه الحرالى.

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٦٧٠) ، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) سورة التوبة: ٨٠.

(٣) سورة التوبة: ٨٠.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٤٦٧٠) فى التفسير، باب: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، ومسلم (٢٤٠٠) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى اللّه عنه-، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما- بنحوه.

(٥) انظر ما قبله.

وقال النووى: قيل إنما أعطاه قميصه وكفنه فيه تطييبا لقلب ابنه، فإنه كان صحابيّا صالحا وقد سأل ذلك فأجابه إليه، وقيل مكافأة لعبد اللّه المنافق الميت، لأنه كان ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصا. وفى ذلك كله بيان عظيم مكارم أخلاق النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء، وقابله بالحسنى فألبسه قميصه كفنا وصلى عليه واستغفر له، قال اللّه تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (١) .

ومن ذلك أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره. وعفا عن اليهودية التى سمته فى الشاة على الصحيح من الرواية. واللّه تعالى يرحم القائل:

وما الفضل إلا خاتم أنت فصه ... وعفوك نقش الفص فاختم به عذرى

ومن ذلك إشفاقه- صلى اللّه عليه وسلم- على أهل الكبائر من أمته، وأمره إياهم بالستر، ف

قال: (من بلى بهذه القاذورات) يعنى المحرمات (فليستتر) (٢) .

وأمر أمته أن يستغفروا للمحدود ويترحموا عليه لما حنقوا عليه فسبوه ولعنوه، ف

قال: (قولوا اللّهم اغفر له، اللّهم ارحمه) (٣) وقال لهم فى رجل كان كثيرا ما يؤتى به سكران بعد تحريم الخمر، فلعنوه مرة ف

قال: (لا تلعنوه فإنه يحب اللّه ورسوله) (٤) . فأظهر لهم مكتوم قلبه لما رفضوه بظاهر فعله، وإنما ينظر اللّه إلى القلوب، طهر اللّه قلوبنا وغفر عظيم ذنوبنا. ومن ذلك ما رواه الدار قطنى من حديث عائشة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه كان يصغى إلى الهرة الإناء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلها (٥) .

__________

(١) سورة القلم: ٤.

(٢) أخرجه مالك فى (الموطأ) (٢/ ٨٢٥) عن زيد بن أسلم مرسلا.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٤٧٧) فى الحدود، باب: الحد فى الخمر، وأحمد فى (المسند) (٢/ ٢٩٩) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٦٧٨٠) فى الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج من الملة، من حديث عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه-.

(٥) إسناده ..... أخرجه الدار قطنى (١/ ٦٦) بسند فيه عبد اللّه بن سعيد المقبرى، ......

ومن ذلك اتساع خلقه فى شريف تواضعه وآدابه وحسن عشرته مع أهله وخدمه وأصحابه.

وقال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لمعان نور المشاهدة فى قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفى ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتلين وتنطبع للحق والخلق بمحو آثارها وسكون وهجها وغبارها. وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- فى أوطان القرب وحسبك من تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم- أن خيره ربه تعالى بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا، فاختار أن يكون نبيّا عبدا، فأعطاه اللّه تعالى بتواضعه أن جعله أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع، وأول مشفع، فلم يأكل متكئا بعد ذلك حتى فارق الدنيا. وقد قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد اللّه، فقولوا: عبد اللّه ورسوله) (١) رواه الترمذى.

ومن تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه لا ينهر خادما، روينا فى كتاب الترمذى عن أنس

قال: خدمت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لى أف قط ولا قال لشىء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشىء تركته لم تركته؟ (٢) وكذلك كان- صلى اللّه عليه وسلم- مع عبيده وإمائه، ما ضرب منهم أحدا قط، وهذا أمر لا تتسع له الطباع البشرية لولا التأييدات الربانية.

وفى رواية مسلم: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٣) . وقالت عائشة: ما ضرب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شيئا قط بيده، ولا

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤٤٥) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول اللّه وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، وأحمد فى (المسند) (١/ ٢٣ و ٢٤ و ٤٧) ، من حديث عمر- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٣٨) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء، ومسلم (٢٣٠٩) فى الفضائل، باب: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن الناس خلقا.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣١٦) فى الفضائل، باب: رحمته- صلى اللّه عليه وسلم- الصبيان والعيال، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد فى سبيل اللّه، وما نيل منه شىء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شىء من محارم اللّه فينتقم للّه (١) . رواه مسلم.

وسئلت عائشة: كيف كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا خلا فى بيته؟

قالت: ألين الناس، بساما ضحاكا (٢) ، لم ير قط مادّا رجليه بين أصحابه. وعنها: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما دعاه أحد من أصحابه إلا قال لبيك.

وعند أحمد وابن سعد وصححه ابن حبان عنها: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يخيط ثوبه ويخصف نعله (٣) ، وفى رواية لأحمد: ويرفع دلوه، وعنده أيضا: يفلى ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه. وهذا يتعين حمله على أوقات فإنه ثبت أنه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة. وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، وركب يوم بنى قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف (٤) رواه الترمذى.

وعن قيس بن سعد

قال: زارنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فلما أراد الانصراف قرب له سعد حمارا وطأ عليه بقطيفة، وركب- صلى اللّه عليه وسلم- ثم قال سعد: يا قيس، اصحب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، قال قيس: فقال لى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-:

(اركب) فأبيت،

فقال: (إما أن تركب وإما أن تنصرف) . وفى رواية أخرى:

(اركب أمامى فصاحب الدابة أولى بمقدمها) (٥) رواه أبو داود وغيره. وفى

__________

(١) صحيح: وقد تقدم قريبا.

(٢) إسناده ..... أخرجه ابن سعد وابن عساكر، كما فى (..... الجامع) (٤٣٨٦) .

(٣) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٦/ ١٢١ و ٢٥٦ و ٢٦٠) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٥٦٧٧ و ٦٤٤٠ و ٥٦٧٥).

(٤) أخرجه الترمذى (١٠١٧) فى الجنائز، باب: آخر، وقال الترمذى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مسلم عن أنس، ومسلم الأعور يضعف، هو مسلم بن كيسان الملائى.

(٥) الإسناد: أخرجه أبو داود (٥١٨٥) فى الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل فى الاستئذان، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٤٢١) .

البخارى من حديث أنس بن مالك: أقبلنا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من خيبر، وإنى لرديف أبى طلحة وهو يسير، وبعض نساء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- رديف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، إذ عثرت الناقة، فقلت: المرأة، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنها أمكم) ، فشددت الرحل، وركب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، الحديث (١) . والمرأة: صفية، والردف والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه.

وقال معاذ بن جبل: بينا أنا رديف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ليس بينى وبينه إلا آخرة الرحل. وقد ركب- صلى اللّه عليه وسلم- على حمار على إكاف عليه قطيفة فدكية أردف أسامة وراءه.

ولما قدم- صلى اللّه عليه وسلم- مكة استقبله أغيلمة بنى عبد المطلب، فحمل واحدا بين يديه، وآخر خلفه. وقال ابن عباس: أتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مكة وقد حمل قثم بين يديه والفضل خلفه، أو قثم خلفه والفضل بين يديه (٢) ، رواه البخارى. وذكر المحب الطبرى فى مختصر السيرة النبوية له، أنه- صلى اللّه عليه وسلم- ركب حمارا عريا إلى قباء وأبو هريرة معه،

قال: (يا أبا هريرة أأحملك)

فقال: ما شئت يا رسول اللّه،

فقال: (اركب) ، فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر فاستمسك رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فوقعا جميعا. ثم ركب- صلى اللّه عليه وسلم- ثم

قال:

(يا أبا هريرة أأحملك) ؟

فقال: ما شئت يا رسول اللّه

فقال: (اركب) فلم يقدر فتعلق برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فوقعا جميعا، ثم

قال: (يا أبا هريرة أأحملك)

فقال: لا والذى بعثك بالحق لا رميتك ثالثا (٣) .

وذكر المحب الطبرى أيضا: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان فى سفر، وأمر أصحابه بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول اللّه على ذبحها، وقال الآخر: يا رسول اللّه، على سلخها، وقال آخر: يا رسول اللّه، على طبخها فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (علىّ جمع الحطب) فقالوا: يا رسول اللّه نكفيك العمل، ف

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٩٦٨) فى اللباس، باب: إرداف المرأة خلف الرجل.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٩٦٦) فى اللباس، باب: حمل صاحب الدابة غيره بين يديه.

(٣) تقدم.

قال: (قد علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم، فإن اللّه يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه) انتهى. ولم أر هذا لغير الطبرى بعد التتبع نعم رأيت فى جزء تمثال النعل الشريف لأبى اليمن بن عساكر بعد أن روى حديث عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه

قال: كنت مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى الطواف فانقطعت شسعه فقلت: يا رسول اللّه ناولنى أصلحه،

فقال: (أثرة ولا أحب الأثرة) (١) والأثرة: بفتح الهمزة والثاء، الاسم من آثر يؤثر إذا أعطى، والأثرة: الاستئثار وهو الانفراد بالشىء.

قال: وكأنه كره- صلى اللّه عليه وسلم- أن ينفرد أحد بإصلاح نعله، فيحوز فضيلة الخدم فيكون له بمثابة الخادم ويكون له- صلى اللّه عليه وسلم- ترفع المخدوم على خادمه، كره ذلك- صلى اللّه عليه وسلم- لتواضعه وعدم ترفعه على من يصحبه.

ويؤيده ما روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أراد أن يمتهن نفسه فى شىء فقالوا: نحن نكفيك يا رسول اللّه،

قال: (قد علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم فإن اللّه يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه) انتهى. ثم رأيت شيخنا فى الأحاديث المشتهرة حكى ذلك واللّه الموفق.

وعن أبى قتادة: وقد وفد النجاشى، فقام النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك،

قال: (إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم) (٢) ذكره فى الشفاء.

وفى البخارى: عن أنس: كان الرجل يجعل للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- النخلات حتى افتتح قريظة والنضير، وإن أهلى أمرونى أن آتى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأسأله الذى كانوا أعطوه أو بعضه، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- قد أعطاه أم أيمن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب فى عنقى تقول: كلا والذى لا إله غيره لا نعطيكم وقد

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ٢٤٤) وقال: رواه أبو يعلى والطبرانى فى الكبير والأوسط، وفيه عاصم بن عبيد اللّه وهو .....، وفى (٩/ ٢١) و

قال: رواه البزار وفيه من لم أعرفه.

(٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٢/ ٣٠٧) .

أعطانيها- أو كما قال- والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (لك كذا) وتقول كلا واللّه، حتى أعطاها- حسبت أنه قال- عشرة أمثاله (١) أو كما قال.

وإنما فعلت هذا أم أيمن لأنها ظنت أنها كانت هبة مؤبدة وتمليكا لأصل الرقبة، وأراد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- استطابة قلبها فى استرداد ذلك فلاطفها وما زال يزيدها فى العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه- صلى اللّه عليه وسلم- وإكرام لها، لما لها من حق الحضانة والتربية، ولا يخفى ما فى هذا من فرط جوده وكثرة حلمه وبره- صلى اللّه عليه وسلم-.

وجاءته- صلى اللّه عليه وسلم- امرأة كان فى عقلها شىء،

فقالت: إن لى إليك حاجة، ف

قال: (اجلسى فى أى سكك المدينة شئت أجلس إليك) ، وفى رواية مسلم: (حتى أقضى حاجتك) ، فخلا معها فى بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها (٢) . ولا ريب أن هذا كله من كثرة تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وقال عبد اللّه بن أبى الحمساء- بالحاء المهملة المفتوحة والميم الساكنة والسين المهملة وفى آخره همزة ممدودة- بايعت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها فى مكانه، فنسيت فذكرت بعد ثلاث فإذا هو فى مكانه ف

قال: (لقد شققت على، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك) (٣) . رواه أبو داود.

وقال ابن أبى أوفى: كان- عليه السّلام- لا يأنف أن يمشى مع الأرملة والمسكين فيقضى له الحاجة (٤) . رواه النسائى. وفى رواية البخارى: إن كانت

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٢٠) فى المغازى، باب: مرجع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من الأحزاب، ومسلم (١٧٧١) فى الجهاد والسير، باب: رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٢٦) فى الفضائل، باب: قرب النبى- عليه السّلام- من الناس، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه أبو داود (٤٩٩٦) فى الأدب، باب: فى العدة، والبيهقى فى (الكبرى) (١٠/ ١٩٨) .

(٤) صحيح: أخرجه النسائى (٣/ ١٠٨) فى السهو، باب: ما يستحب من تقصير الخطبة، والدارمى فى (سننه) (٧٤).

الأمة لتأخذ بيد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت (١) ، وفى رواية أحمد: فتنطلق به فى حاجتها، وعنده أيضا إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجىء فتأخذ بيد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت.

والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الانقياد.

وقد اشتمل على أنواع من المبالغة فى التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ الإماء، أى: أى أمة كانت، وبقوله: حيث شاءت، أى من الأمكنة، والتعبير باليد إشارة إلى غاية التصرف، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها فى تلك الحالة لساعدها على ذلك. وهذا من مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر- صلى اللّه عليه وسلم-.

ودخل الحسن وهو يصلى قد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ فى سجوده حتى نزل الحسن، فلما فرغ قال له بعض أصحابه: يا رسول اللّه قد أطلت سجودك.

قال: (إن ابنى ارتحلنى فكرهت أن أعجله) (٢) . أى جعلنى كالراحلة فركب على ظهرى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يعود المرضى، ويشهد الجنازة.

أخرجه الترمذى فى الشمائل. وحج- صلى اللّه عليه وسلم- على رحل رث وعليه قطيفة لا تساوى أربعة دراهم. ف

قال: (اللّهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة) (٣) .

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بانيتهم فيها الماء، فما

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٧٢) فى الأدب، باب: الكبر، وابن ماجه (٤١٧٧) فى الزهد، باب: البراءة من الكبر والتواضع، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٩٨ و ١٧٤ و ٢١٥) ، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) أخرجه البيهقى فى (الكبرى) (٢/ ٢٦٣) ، وهو فى الصحيحين بنحوه، ولكن مع أمامة ابنة زينب- رضى اللّه عنها-.

(٣) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ٢٢١) عن ابن عباس و

قال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه أحمد بن محمد بن القاسم بن أبى بزة ولم أعرفه.

يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاؤوه فى الغداة الباردة فيغمس يده فيها (١) . رواه مسلم والترمذى.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- حسن العشرة مع أزواجه، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- ينام مع أزواجه. قال النووى: وهو ظاهر فعله الذى واظب عليه مع مواظبته- صلى اللّه عليه وسلم- على قيام الليل، فينام مع إحداهن، فإذا أراد القيام لوظيفته قام وتركها، فيجمع بين وظيفته وأداء حقها المندوب وعشرتها بالمعروف. وقد علم من هذا أن اجتماع الزوج مع زوجته فى فراش واحد أفضل، لا سيما إذا عرف من حالها حرصها على هذا، ولا يلزم من نومه معها الجماع واللّه أعلم.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها (٢) . رواه الشيخان. وإذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه على موضع فمها وشرب رواه مسلم. وإذا تعرقت عرقا- وهو العظم الذى عليه اللحم- أخذه فوضع فمه على موضع فمها (٣) . رواه مسلم أيضا. وكان يتكئ فى حجرها، ويقبلها وهو صائم (٤) . رواه الشيخان.

وكان يريها الحبشة وهم يلعبون فى المسجد وهى متكئة على منكبه (٥) .

رواه الشيخان. ورواه الترمذى بلفظ: قام- صلى اللّه عليه وسلم- فإذا حبشة تزفن والصبيان

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٢٤) فى الفضائل، باب: قرب النبى- عليه السّلام- من الناس، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦١٣٠) فى الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ومسلم (٢٤٤٠) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة- رضى اللّه تعالى عنها-.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٣٠٠) فى الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٠) فى الحيض، باب: النوم مع الحائض وهى فى ثيابها، ومسلم (١١٠٦) فى الصيام، باب: بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٤٥٥) فى المساجد، باب: أصحاب الحراب فى المسجد، ومسلم (٨٩٢) فى صلاة العيدين، باب: الرخصة فى اللعب الذى لا معصية فيه، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

حولها، فقال: (يا عائشة تعالى فانظرى) فجئت فوضعت لحيى على منكب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لى:

(أما شبعت أما شبعت) فجعلت أقول: لا، لا (١) .

وقال: حسن صحيح غريب.

وروى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- سابقها فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها،

قال: (هذه بتلك) (٢) . رواه أبو داود بلفظ: سابقته فى سفر فسبقته على رجلى، فلما حملت اللحم سابقته فسبقنى ف

قال: (هذه بتلك السبقة) .

وعن أنس بن مالك: أنهم كانوا يوما عند رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى بيت عائشة- رضى اللّه عنها-، إذ أتى بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة، فوضعت بين يدى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: (ضعوا أيديكم) فوضع نبى اللّه يده ووضعنا أيدينا فأكلنا، وعائشة تصنع طعاما عجلته قد رأت الصحفة التى أتى بها، فلما فرغت من طعامها جاءت به فوضعته ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (كلوا بسم اللّه، غارت أمكم) ثم أعطى صحفتها أم سلمة

فقال: (طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء) (٣) . رواه الطبرانى فى الصغير.

وهو عند البخارى بلفظ: كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التى النبى فى بيتها يد الخادم فسقطت

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦٩١) فى المناقب، باب: رقم (١٧) .

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٥٧٨) فى الجهاد، باب: فى السبق على الرجل، وابن ماجه (١٩٧٩) فى النكاح، باب: حسن معاشرة النساء، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٣٩ و ٢٦٤).

(٣) صحيح: وأصل الحديث عند البخارى (٢٤٨١) فى المظالم والغضب، باب: إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره، وأبو داود (٣٥٦٧) فى البيوع، باب: فيمن أفسد شيئا يغرم مثله، والترمذى (١٣٥٩) فى الأحكام، باب: ما جاء فيمن يكسر له الشىء ما يحكم له من مال الكاسر، والنسائى (٧/ ٧٠) فى عشرة النساء، باب: الغيرة، وابن ماجه (٢٣٣٤) فى الأحكام، باب: الحكم فيمن كسر شيئا، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

الصحفة وانفلقت، فجمع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذى كان فى الصحفة ويقول: (غارت أمكم) ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التى هو فى بيتها، فدفع الصحفة إلى التى كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة فى بيت التى كسرت.

وعند أحمد وأبى داود والنسائى، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، أهدت إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إناء من طعام، فما ملكت نفسى أن كسرته، فقلت: يا رسول اللّه ما كفارته؟

قال: (إناء كإناء وطعام كطعام) وعند غيرهم: فأخذت القصعة من بين يديه فضربت بها وكسرتها، فقام- صلى اللّه عليه وسلم- يلتقط اللحم والطعام وهو يقول: (غارت أمكم) فلم يثرب عليها.

فوسع خلقه الكريم آثار طفحات آثار غيرتها، ولم يتأثر، وقضى عليها بحكم اللّه فى القصاص. وهكذا كانت أحواله- صلى اللّه عليه وسلم- مع أزواجه، لا يأخذ عليهن ويعذرهن، وإن أقام عليهن قسطاس عدل أقامه بغير قلق ولا غضب، بل رؤوف رحيم، حريص عليهن وعلى غيرهن، عزيز عليه ما يعنتهم.

قيل: وفى هذا الحديث إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيرى فيما يصدر منها، لأنها فى تلك الحالة يكون عقلها محجوبا بشدة الغضب الذى أثارته الغيرة. وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعا، (إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادى من أعلاه) (١) انتهى.

وعن عائشة- رضى اللّه عنها-: أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بخزيرة طبختها له، وقلت لسودة- والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- بينى وبينها-: كلى، فأبت، فقلت لها: كلى، فأبت، فقلت لها: لتأكلين أو لألطخن بها وجهك، فأبت فوضعت يدى فى الخزيرة فلطخت بها وجهها فضحك النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فوضع فخذه لها وقال لسودة:

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٤/ ٣٢٢) وقال: رواه أبو يعلى وفيه محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وسلمة بن الفضل، وقد وثقه جماعة، ابن معين وابن حبان وأبو حاتم، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقد رواه أبو الشيخ فى كتاب الأمثال، وليس فيه غير أسامة بن زيد الليثى، وهو من رجال الصحيح وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.

(الطخى وجهها) فلطخت بها وجهى فضحك- صلى اللّه عليه وسلم- الحديث رواه ابن غيلان من حديث الهاشمى وخرجه الملاء فى سيرته. والخزيرة: لحم يقطع صغارا ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق.

وبالجملة؛ فمن تأمل سيرته- صلى اللّه عليه وسلم- مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء والأيتام والأرامل والأضياف والمساكين، علم أنه قد بلغ من رقة القلب ولينه الغاية التى لا مرمى وراءها لمخلوق. وإن كان يشتد فى حدود اللّه وحقوقه ودينه، حتى قطع يد السارق، إلى غير ذلك.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يباسط أصحابه بما يولج حبه فى القلوب، كان له رجل من البادية يسمى زهيرا، وكان يهادى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بموجود البادية بما يستطرف منها، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يهاديه ويكافئه بموجود الحاضرة وبما يستطرف منها، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (زهير باديتنا، ونحن حاضرته) وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يحبه، فمشى- صلى اللّه عليه وسلم- يوما إلى السوق فوجده قائما، فجاء من قبل ظهره وضمه بيده إلى صدره فأحس زهير أنه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم

قال: فجعلت أمسح ظهرى فى صدره رجاء بركته.

وفى رواية الترمذى فى الشمائل: فاحتضنه من خلفه ولا يبصره، فقال أرسلنى، من هذا؟ فالتفت فعرف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- حين عرفه، فجعل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (من يشترى العبد) فقال له زهير: يا رسول اللّه، إذن تجدنى كاسدا، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنت عند اللّه غال) ، وفى رواية للترمذى أيضا: (لكن عند اللّه لست بكاسد) ، أو

قال: (أنت عند اللّه غال) (١) .

وأخرج أبو يعلى عن زيد بن أسلم أن رجلا كان يهدى للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- العكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) أخرجه الترمذى فى (الشمائل) (١٢١) ، وأحمد فى (المسند) (٣/ ١٦١) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٥٧٩٠) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٦/ ١٦٩) ، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

فقال: أعط هذا حق متاعه، فما يزيد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يتبسم، ويأمر به فيعطى (١) .

ووقع فى حديث محمد بن عمرو بن حزم: وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء ف

قال: يا رسول اللّه، هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه جاء به

فقال: أعط هذا الثمن، فيقول: (ألم تهده لى) فيقول ليس عندى، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يمزح ولا يقول إلا حقّا، كما روى أبو هريرة، وقد قال له رجل كان فيه بله: يا رسول اللّه احملنى، فباسطه- صلى اللّه عليه وسلم- من القول بما عساه أن يكون شفاء لبلهه بعد ذلك، ف

قال: (أحملك على ابن الناقة) فسبق لخاطره استصغار ما تصدق عليه البنوة

فقال: يا رسول اللّه، ما عسى يغنى عنى ابن الناقة، فقال له- صلى اللّه عليه وسلم-: (ويحك وهل يلد الجمل إلا الناقة) (٢) روى حديثه الترمذى وأبو داود.

وباسط عمته صفية وهى عجوز فقال لها: (إن الجنة لا تدخلها عجوز) ، فلما جزعت قال لها: (إنك تعودين إلى صورة الشباب فى الجنة) وفى رواية الترمذى عن الحسن: أتته- صلى اللّه عليه وسلم- عجوز

فقالت: يا رسول اللّه، ادع اللّه لى أن يدخلنى الجنة،

فقال: (يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز) قال فولت تبكى

فقال: (أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز) إن اللّه تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣) (٤) وذكره رزين.

__________

(١) مرسل: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٤/ ١٤٨)

وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح.

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٩٩٨) فى الأدب، باب: ما جاء فى المزاح، والترمذى (١٩٩١) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى المزاح، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) سورة الواقعة: ٣٥، ٣٦.

(٤) أخرجه الترمذى فى (الشمائل) (١٢٢) ، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٤١٩)

وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ......

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويؤنسهم. ويأخذ معهم فى تدبير أمورهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم فى حجره، ومع ذلك سره فى الملكوت يجول حيث أراد اللّه به. والدعابة: - بضم الدال وتخفيف العين المهملتين وبعد الألف موحدة- هى الملاطفة فى القول بالمزاح وغيره.

وقد أخرج الترمذى وحسنه من حديث أبى هريرة؛ قالوا: يا رسول اللّه، إنك تداعبنا،

قال: (إنى لا أقول إلا حقّا) (١) .

وما ورد عنه- صلى اللّه عليه وسلم- فى النهى عن المداعبة محمول على الإفراط، لما فيه من الشغل عن ذكر اللّه والتفكر فى مهمات الدين وغير ذلك. والذى يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب- كما كان هو فعله- صلى اللّه عليه وسلم- فهو مستحب. وقال أنس: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن الناس خلقا، وكان لى أخ يقال له: أبو عمير، وكان له نغر يلعب به فمات، فدخل على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ذات يوم فرآه حزينا ف

قال: (ما شأنه) قالوا:

مات نغره، فقال: (يا أبا عمير ما فعل النغير) (٢) . رواه البخارى ومسلم.

وفى رواية الترمذى قال أنس: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخ لى صغير (يا أبا عمير ما فعل النغير) . قال الجوهرى: النغير: تصغير نغر، والنغر جمع النغرة وهو طائر صغير كالعصفور، والجمع نغران مثل صرد وصردان.

وكان قد ألقى عليه مع الدعابة المهابة، ولقد جاء إليه- صلى اللّه عليه وسلم- رجل فقام بين يديه فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال له: (هون عليك، فإنى لست بملك ولا جبار إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة) فنطق الرجل بحاجته، فقام- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: (يا أيها الناس إنى أوحى إلى أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتى لا يبغى أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد، وكونوا عباد اللّه إخوانا) (١) .

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (١٩٩٠) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى المزاح.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦١٢٩) فى الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ومسلم (٢١٥٠) فى الأداب، باب: استحباب تحنيك المولود عند ولادته، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

فسكن- صلى اللّه عليه وسلم- روعه شفقة، لأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وسلب عنه وصف الملوكية بقوله: (فإنى لست بملك) لما يلزمها من الجبروتية، و

قال: (إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد) (٢) تواضعا، لأن القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة. ولما رأته- صلى اللّه عليه وسلم- قيلة بنت مخرمة فى المسجد، وهو قاعد القرفصاء، ارتعدت من الفرق (٣) رواه أبو داود. وروى مسلم عن عمرو بن العاصى

قال: صحبت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ما ملأت عينى منه قط حياء منه وتعظيما له، ولو قيل لى صفه لما قدرت (٤) ، أو كما قال.

وإذا كان هذا قوله وهو من أجلة الصحابة، ولولا أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يباسطهم ويتواضع لهم ويؤنسهم لما قدر أحد منهم أن يقعد معه ولا أن يسمع كلامه- عليه الصلاة والسلام- لما رزقه اللّه تعالى من المهابة والجلالة. يبين ذلك ويوضحه ما روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا فرغ من ركوع الفجر حدث عائشة إن كانت مستيقظة، وإلا اضطجع بالأرض ثم خرج بعد ذلك إلى الصلاة، وما ذاك إلا أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لو خرج على تلك الحالة التى كان عليها، وما حصل له من القرب والتدانى فى مناجاته وسماع كلام ربه وغير ذلك من الأحوال التى يكل اللسان عن وصف بعضها، لما استطاع بشر أن يلقاه ولا يباشره، فكان- صلى اللّه عليه وسلم- يتحدث مع عائشة أو يضطجع بالأرض حتى يحصل التأنيس بجنسهم، وهو التأنيس مع عائشة، أو جنس أصل الخلقة التى هى الأرض.

ثم يخرج إليهم، وما ذاك إلا رفقا بهم، وكان بالمؤمنين رحيما. قاله ابن الحاج فى المدخل.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٨٦٥) فى الجنة وصفة نعيمها، باب: الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار، من حديث عياض بن حمار المجاشعى- رضى اللّه عنه-، بدون ذكر قصة الحديث.

(٢) صحيح: أخرجه ابن ماجة (٢٣١٢) فى الأطعمة، باب: القديد، من حديث أبى مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٣) حسن: أخرجه أبو داود (٤٨٤٧) فى الأدب، باب: فى جلوس الرجل، .

(٤) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (١٢١) فى الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج.

وقد جاء فى الحديث أنه لما خير بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا نظر- صلى اللّه عليه وسلم- إلى جبريل كالمستشير له، فنظر جبريل إلى الأرض يشير إلى التواضع، فاختار- صلى اللّه عليه وسلم- العبودية (١) ، فلما كان تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الأرض حيث أشار جبريل أورثه اللّه تعالى رفعته إلى السماء، ثم إلى الرفرف الأعلى، إلى حضرة قاب قوسين أو أدنى، ووقف بين يديه محمود بن الربيع، وهو صغير ابن خمس سنين، فمج- صلى اللّه عليه وسلم- فى وجهه مجة من ماء من دلو يمازحه بها، فكان فى ذلك من البركة أنه لما كبر لم يبق فى ذهنه من ذكر رؤية النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلا تلك المجة (٢) ، فعد بها من الصحابة وحديثه مذكور فى البخارى.

ودخلت عليه ربيبته زينب بنت أم سلمة وهو فى مغتسله، فنضح الماء فى وجهها، فكان فى ذلك من البركة فى وجهها أنه لم يتغير، فكان ماء الشباب ثابتا فى وجهها ظاهرا فى رونقها وهى عجوز كبيرة (٣) . وحديثها مذكور فى البخارى. فقد علمت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان مع أصحابه وأهله، ومع الغريب والقريب من سعة الصدر ودوام البشر وحسن الخلق والسلام على من لقيه، والوقوف مع من استوقفه والمزح بالحق مع الصغير والكبير أحيانا، وإجابة الداعى ولين الجانب حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه.

وهذا الميدان لا تجد فيه إلا واجبا أو مستحبا أو مباحا، فكان يباسط الخلق ويلابسهم ليستضيئوا بنور هدايته فى ظلمات دياجى الجهل، ويقتدوا بهديه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وقد كانت مجالسه مع أصحابه- رضى اللّه عنهم- عامتها مجالس تذكير باللّه،

__________

(١) هذه القصة ذكرها الهيثمى فى (المجمع) (٩/ ١٨- ١٩) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه- و

قال: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى ورجال الأوليين رجال الصحيح.

(٢) صحيح: والحديث عند البخارى (١٨٩) فى الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس.

(٣) القصة ذكرها الحافظ فى الإصابة، أما حديثها فى البخارى فهو ليس سماعا، حيث ليس لها حديث مرفوع، بل كل أحاديثها بواسطة لصغر سنها.

وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه اللّه من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما نفع فى الدين، كما أمره اللّه تعالى أن يذكر ويعظ ويقص، وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشر وينذر، فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقة القلوب، والزهد فى الدنيا والرغبة فى الآخرة، كما ذكره أبو هريرة فيما رواه أحمد والترمذى وابن حبان فى صحيحه

قال: قلنا: يا رسول اللّه، ما لنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا وزهدنا فى الدنيا وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك عافسنا أهلنا وشممنا أولادنا وأنكرنا أنفسنا. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو أنكم إذا خرجتم من عندى كنتم على حالكم ذلك لزارتكم الملائكة فى بيوتكم) (١) الحديث.

وقوله: عافسنا: - بالعين المهملة بعد الألف فاء فسين مهملة ساكنة- أى: عالجنا أهلنا ولاعبناهم.

ومن تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه ما عاب ذواقا قط، ولا عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه (٢) رواه الشيخان. وهذا إن كان الطعام مباحا، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه، وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصنعة لم يكره،

قال: لأن صنعة اللّه تعالى لا تعاب، وصنعة الآدميين تعاب. قال فى فتح البارى: والذى يظهر:

التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع. قال النووى: ومن آداب الطعام المتأكدة:

أن لا يعاب، كقوله: مالح، حامض، قليل الملح، غليظ، رقيق، غير ناضج ونحو ذلك.

ومن تواضعه: أن هذه الدنيا شاع سبها فى العالمين، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تسبوا الدنيا) (٣) ، ثم مدحها

فقال: (نعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر) (١) .

__________

(١) قلت: هو فى صحيح مسلم (٢٧٥٠) فى التوبة، باب: فضل دوام الذكر والفكر فى أمور الآخرة، من حديث حنظلة الأسيدى- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦٣) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٠٦٤) فى الأشربة، باب: لا يعيب الطعام، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه الديلمى وابن النجار عن ابن مسعود، كما فى (كنز العمال) (٣٠٢٩ و ٦٣٤٣) .

وقال: (لا تسبوا الدهر) ، رواه البخارى من حديث أبى هريرة بلفظ: (ولا تقولوا خيبة الدهر فإن اللّه هو الدهر) (٢) . وفى لفظ له: (يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر، بيدى الليل والنهار) وعند مسلم فى حديث بلفظ (لا يسب أحدكم الدهر) . ومحصل ما قيل فى تأويله، ثلاثة أوجه:

أحدها: أن المراد بقوله: إن اللّه هو الدهر، أى: المدبر للأمور.

ثانيها: أنه على حذف مضاف. أى: صاحب الدهر.

ثالثها: التقدير: مقلب الدهر. ولذلك عقبه بقوله فى رواية البخارى:

بيدى الليل والنهار.

وقال المحققون: من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكن يكره ذلك لتشبهه بأهل الكفر فى الإطلاق. وما خير- صلى اللّه عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه (٣) . رواه البخارى. أى بين أمرين من أمور الدنيا لا إثم فيهما، وأبهم (فاعل) خير ليكون أعم، من قبل اللّه أو من قبل المخلوقين.

وقوله: إلا اختار أيسرهما

وقوله: ما لم يكن إثما:

أى لم يكن الأسهل مقتضيا للإثم فإنه حينئذ يختار الأشد. وفى حديث أنس عند الطبرانى فى الأوسط: إلا اختار أيسرهما ما لم يكن للّه فيه سخط.

ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح.

ومن تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه لم يكن له بواب راتب، كما جاء عن أنس أنه

قال: مر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بامرأة وهى تبكى عند قبر،

فقال: (اتقى اللّه واصبرى) ،

__________

(١) هو تتمة ما قبله.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦١٨١ و ٦١٨٢) فى الأدب، باب: لا تسبوا الدهر، ومسلم (٢٢٤٦) فى الألفاظ من الأدب، باب: النهى عن سب الدهر.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦٠) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٢٧) فى الفضائل، باب: مباعدته- صلى اللّه عليه وسلم- للآثام واختياره من المباح أسهله، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

فقالت: إليك عنى فإنك خلو من مصيبتى، قال فجاوزها ومضى. فمر بها رجل فقال لها؛ ما قال لك رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم

قالت: ما عرفته.

قال: إنه لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. قال فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابا (١) . الحديث رواه البخارى. لكن فى حديث أبى موسى: أنه كان بوابا للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- لما جلس على القف (٢) . وجمع بينهما: بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا لم يكن فى شغل من أهله ولا انفراد من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة إليه. وفى حديث عمر حين استأذن له الأسود فى قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهرا، ففيه: أنه كان فى وقت خلوته بنفسه يتخذ بوابا، ولولا ذلك لاستأذن عمر بنفسه ولم يحتج إلى قوله يا رباح استأذن لى. لكن يحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشى أن يكون وجد عليه بسبب ابنته، فأراد أن يختبر ذلك باستئذانه عليه، فلما أذن له اطمأن.

وقد اختلف فى مشروعية الحجاب للحاكم. فقال الشافعى وجماعة:

ينبغى أن يكون للحاكم أن لا يتخذ حاجبا. وذهب آخرون: إلى جوازه.

وحمل الأول على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم،

وقال آخرون: بل يستحب ذلك حينئذ ليرتب الخصوم ويمنع المستطيل، ويدفع الشرير، واللّه أعلم.

وأما ما روى من حيائه- صلى اللّه عليه وسلم-؛ فحسبك ما فى البخارى من حديث أبى سعيد: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أشد حياء من العذراء فى خدرها (٣) .

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٨٣) فى الجنائز، باب: زيارة القبور، ومسلم (٩٢٦) فى الجنائز، باب: فى الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٩٣) فى المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب أبى حفص القرشى العدوى- رضى اللّه عنه-، ومسلم (٢٤٠٣) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان بن عفان- رضى اللّه عنه-. وقف البئر: هو الدكة التى تجعل حولها.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦٢) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٢٠) فى الفضائل، باب: كثرة حيائه- صلى اللّه عليه وسلم-.

والعذراء: هى البكر. والخدر: - بكسر الخاء المعجمة- أى فى سترها. وهو من باب التتميم، لأن العذراء فى الخدر يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجة عنه، لكون الخلوة مظنة وقوع الفعل بها. فالظاهر: أن المراد تقييده بما إذا دخل عليها فى خدرها لا حيث تكون منفردة فيه. والحياء- بالمد- وهو من الحياء، ومنه: الحيا للمطر، لكن هو مقصور. وعلى حسب حياة القلب تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، وكلما كان القلب حيّا كان الحياء أتم. وهو فى اللغة: تغير وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشىء بسبب. والترك إنما هو من لوازمه. وفى الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير فى حق ذى الحق.

وقال ذو النون: (الحياء وجود الهيبة فى القلب، مع وحشة ما يسبق منك إلى ربك، والحب ينطق والحياء يسكت، والخوف يقلق) .

وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من اللّه مطيعا استخيا منه وهو مذنب. وهذا الكلام يحتاج إلى شرح ومعناه: أن من غلب عليه خلق الحياء من اللّه حتى فى حال طاعته فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستحى خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحيا اللّه من نظره إليه فى تلك الحالة لكرامته عليه، فيستحى أن يرى من وليه ما يشينه عنده. وفى الشاهد. شاهد بذلك، فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به وأحبهم إليه وأقربهم منه، من صاحب أو ولد أو من يحبه، وهو يخونه، فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياء عجيب حتى كأنه هو الجانى. وهذا غاية الكرم. وللحياء أقسام ثمانية يطول استقصاؤها.

منها: حياء الكرم، كحيائه- صلى اللّه عليه وسلم- من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطولوا عنده المقام، واستحيا أن يقول لهم انصرفوا (١) .

__________

(١) القصة أخرجها البخارى (٤٧٩٣) فى التفسير، باب: قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ... ، ومسلم (١٤٢٨) فى النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش- رضى اللّه عنها-، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

ومنها: حياء المحب من محبوبه، حتى إنه إذا خطر على قلبه فى حال غيبته هاج الحياء من قلبه وأحس به فى وجهه، فلا يدرى ما سببه.

ومنها: حياء العبودية، وهو حياء يمتزج بين محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له توجب استيحاءه منه لا محالة.

ومنها: حياء المرء من نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقنعها بالدون، فيجد نفسه مستحييا من نفسه، حتى كأن له نفسين، يستحى بإحداهما من الآخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحى من غيره أجدر.

والحياء- كما قال- صلى اللّه عليه وسلم- (لا يأتى إلا بخير) (١) ، (وهو من الإيمان) (٢) ، كما رواهما البخارى. قال القاضى عياض وغيره: وإنما جعل الحياء من الإيمان- وإن كان غريزة- لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم. وقال القرطبى: الحياء المكتسب هو الذى جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلف به دون الغريزى. غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، حتى يكاد يكون غريزيّا، وكان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قد جمع له النوعان، فكان فى الغريزى أشد حياء من العذراء فى خدرها.

وقال القاضى عياض: وروى عنه- صلى اللّه عليه وسلم-: كان من حيائه لا يثبت بصره فى وجه أحد.

وأما خوفه- صلى اللّه عليه وسلم- ربه جل وعلا، فاعلم أن الخوف والوجل والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة. قال الجنيد: الخوف توقع العقوبة على مجارى الأنفاس.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٦١١٧) فى الأدب، باب: الحياء، ومسلم (٣٧) فى الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، من حديث عمران بن حصين- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: وهو يشير إلى حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة..) ، والحديث أخرجه البخارى (٩) فى الإيمان، باب: أمور الإيمان، ومسلم (٣٥) فى الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

وقيل الخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف. وقيل الخوف: قوة العلم بمجارى الأحكام، وهذا سبب الخوف، لا أنه نفسه.

وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره. والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء باللّه تعالى:

قال اللّه تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللّه مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (١) ، فهو خوف مقرون بمعرفة. وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أتقاكم للّه وأشدكم له خشية) (٢) فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذى يرى العدو والسيل ونحوهما له حالتان: إحداهما حركة للّهرب منه وهى حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره فى مكان لا يصل إليه وهى الخشية.

وأما الرهبة: فهى الإمعان فى الهرب من المكروه، وهى ضد الرغبة التى هى سفر القلب فى طلب المرغوب فيه. وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته. وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما تكون مع المعرفة والمحبة. والإجلال: تعظيم مقرون بالحب.

فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنى لأعلمكم باللّه وأشدكم له خشية) (٣) رواه البخارى، وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) (٤) رواه البخارى

__________

(١) سورة فاطر: ٢٨.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠) فى الإيمان، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أعلمكم باللّه) ، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-،

وأخرجه مسلم (١١٠٨) فى الصيام، باب: بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، من حديث أم سلمة- رضى اللّه عنها-.

(٣) صحيح: وقد تقدم تخريجه فى الحديث السابق.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٤٤) فى الكسوف، باب: الصدقة فى الكسوف، ومسلم (٩٠١) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-

وأخرجه البخارى (٦٤٨٥) فى الرقاق، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو تعلمون ما أعلم) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

من حديث أبى هريرة، وفيه دلالة على اختصاصه- صلى اللّه عليه وسلم- بمعارف بصرية وقلبية. وقد يطلع اللّه تعالى عليها غيره من المخلصين من أمته لكن بطريق الإجمال، وأما تفصيلها فاختص بها- صلى اللّه عليه وسلم-.

وفى صحيح مسلم من حديث أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (والذى نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) قالوا: وما رأيت يا رسول اللّه

قال: (رأيت الجنة والنار) (١) .

فقد جمع اللّه له بين علم اليقين وعين اليقين مع الخشية القلبية، واستحضار العظمة الإلهية على وجه لم يجتمع لغيره، ولذا

قال: (إن أتقاك وأعلمكم باللّه أنا) (٢) وهو فى الصحيح من حديث عائشة: وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء (٣) رواه النسائى وابن خزيمة وابن حبان فى صحيحه بلفظ: كأزيز الرحا، أى خنين من الخوف- بالخاء المعجمة- وهو صوت البكاء.

وقيل: وهو أن يجيش جوفه ويغلى بالبكاء.

وأما ما روى من شجاعته- صلى اللّه عليه وسلم- ونجدته وقوته فى اللّه وشدته، فعن أنس: (كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس) ، لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- راجعا قد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر على فرس لأبى طلحة عرى والسيف فى عنقه وهو يقول: (لن تراعوا) .

وفى رواية: كان فزع بالمدينة فاستعار النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فرسا من أبى طلحة يقال له المندوب، فركب فلما رجع

قال: (ما رأينا من شىء، وإن وجدناه

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٤٢٦) فى الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود.

(٢) صحيح: وقد تقدم قريبا.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٩٠٤) فى الصلاة، باب: البكاء فى الصلاة، والنسائى (٣/ ١٣) فى السهو، باب: البكاء فى الصلاة، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٢٥) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٦٥ و ٧٥٣) ، وابن خزيمة فى (صحيحه) (٩٠٠) من حديث عبد اللّه بن الشخير- رضى اللّه عنه-.

لبحرا، أو إنه لبحر) . قال وكان فرسا يبطؤ (١) رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى.

وللبخارى: إن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فرسا لأبى طلحة كان يقطف، أو فيه قطاف، فلما رجع

قال: (وجدنا فرسكم ها بحرا) فكان بعد لا يجارى. وفى أخرى له: ثم خرج يركض وحده فركب الناس يركضون خلفه ف

قال: (لن تراعوا إنه لبحر، فما سبق بعد ذلك اليوم) .

قوله لن تراعوا: أى روعا مستقرا، أو روعا يضربكم.

وفى هذا الحديث بيان شجاعته- صلى اللّه عليه وسلم- من شدة عجلته فى الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم، بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس. وفيه:

بيان عظيم بركته ومعجزته فى انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان بطيئا وهو معنى قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (وجدناه بحرا) أى واسع الجرى. وكان فيه قطاف:

يقال: قطف الفرس فى مشيه إذا تضايق خطوه وأسرع مشيه.

قال القاضى عياض: وقد كان فى أفراسه- صلى اللّه عليه وسلم- فرس يقال له:

مندوب، فلعله صار إليه بعد أبى طلحة. وقال النووى: يحتمل أنهما فرسان اتفقا فى الاسم. وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٢) . وذكر ابن إسحاق فى كتابه وغيره: أنه كان بمكة رجل شديد القوة يحسن الصراع وكان الناس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم. فبينا هو ذات يوم فى شعب من شعاب مكة إذ لقيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال له:

(يا ركانة ألا تتقى اللّه وتقبل ما أدعوك إليه) - أو كما قال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال له ركانة: يا محمد، هل من شاهد يدل على صدقك؟

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٣٩٠٨) فى الجهاد والسير، باب: الحمائل وتعليق السيف بالعنق، ومسلم (٢٣٠٧) فى الفضائل، باب: فى شجاعة النبى- عليه السّلام- وتقدمه للحرب، وأبو داود (٤٩٨٨) فى الأدب، باب: ما روى فى الرخصة فى ذلك، والترمذى (١٦٨٧) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الخروج عند الفزع، وابن ماجه (٢٧٧٢) في الجهاد، باب: الخروج فى النفير.

(٢) صحيح: أخرجه الدارمى فى (سننه) (٥٩) بسند صحيح.

قال:

 (أرأيت إن صرعتك أتؤمن باللّه ورسوله؟)

قال: نعم يا محمد، فقال له:

(تهيأ للمصارعة)

قال: تهيأت، فدنا منه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأخذه ثم صرعه، قال فتعجب ركانة من ذلك، ثم سأله الإقالة والعودة، ففعل به ذلك ثانيا وثالثا. فوقف ركانة متعجبا و

قال: إن شأنك لعجيب (١) . رواه الحاكم فى مستدركه عن أبى جعفر محمد بن ركانة المصارع، ورواه أبو داود والترمذى وكذا البيهقى من رواية سعيد بن جبير.

وقد صارع- صلى اللّه عليه وسلم- جماعة غير ركانة، منهم أبو الأسود الجمحى، كما قاله السهيلى. ورواه البيهقى، وكان شديدا بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة، ويجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرى الجلد ولم يتزحزح عنه، فدعا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى المصارعة

وقال: إن صرعتنى آمنت بك، فصرعه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فلم يؤمن وفى قصته طول.

وفى البخارى من حديث البراء، وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم حنين؟ ف

قال: فأكببنا على المغانم فاستقبلنا بالسهام.

ولقد رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها وهو يقول: (أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) (٢) .

وهذا فى غاية ما يكون من الشجاعة التامة، لأنه فى مثل هذا اليوم فى حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة ليست بسريعة الجرى، ولا تصلح لكر ولا فر ولا هرب، ومع ذلك يركضها إلى وجوههم، وينوه باسمه ليعرفه من ليس يعرفه- صلوات اللّه وسلامه عليه-. وفى حديث البراء: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أى جعلناه قدامنا واستقبلنا العدو به، وقمنا خلفه.

__________

(١) أخرجه أبو داود (٤٠٧٨) فى اللباس، باب: فى العمائم، والترمذى (١٧٨٤) فى اللباس، باب: العمائم على القلانس، والحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٥١١) وأبو يعلى فى (مسنده) (١٤١٢) ، والطبرانى فى (الكبير) (٥/ ٧١) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٦٤) فى الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره فى الحرب، ومسلم (١٧٧٦) فى الجهاد والسير، باب: غزوة حنين.

وأما ما ذكر من سخائه وجوده وكرمه، فاعلم أن السخاء صفة غريزية، وفى مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس،

قال اللّه تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١) فحكم بالفلاح لمن وقى الشح، وحكم بالفلاح أيضا لمن أنفق وبذل

فقال: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٢) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣) والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين. وليس الشح من الآدمى بعجيب، لأنه جبلى فيه، وإنما العجب وجود السخاء فى الغريزة، والسخاء أتم وأكمل من الجود، وفى مقابلته البخل، وفى مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق انتهى الاكتساب بطريق العادة بخلاف الشح والسخاء إذ كان ذلك من ضرورة الغريزة، فكل سخى جواد وليس كل جواد سخيّا. والجود يتطرق إليه الرياء، ويأتى به الإنسان متطلعا لغرض من الخلق أو الحق بمقابلة من الثناء أو غير ذلك من الخلق والثواب من اللّه تعالى، ولا يتطرق الرياء إلى السخاء لأنه ينبع من النفس الزكية المرتفعة عن الأغراض. أشار إليه فى عوارف المعارف.

وقد كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس (٤) رواه البخارى ومسلم من حديث أنس. وأجود: أفعل تفضيل، من الجود وهو إعطاء ما ينبغى لمن ينبغى، ومعناه: هو أسخى الناس، ولما كانت نفسه أشرف النفوس ومزاجه أعدل الأمزجة لابد أن يكون فعله أحسن الأفعال، وشكله أملح الأشكال، وخلقه أحسن الأخلاق، فلا شك يكون أجود الناس، وكيف لا وهو مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات.

واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاثة من جوامع الكلم، لأنها أمهات

__________

(١) سورة الحشر: ٩.

(٢) سورة البقرة: ٣، وسورة الأنفال: ٣، وسورة الحج: ٣٥، وسورة القصص: ٥٤، وسورة السجدة: ١٦، وسورة الشورى: ٣٨.

(٣) سورة البقرة: ٥.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٢٠) فى الجهاد والسير، باب: الشجاعة فى الحرب والجبن، ومسلم (٢٣٠٧) فى الفضائل، باب: فى شجاعة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وتقدمه للحرب.

الأخلاق، فإن فى كل إنسان ثلاث قوى:

إحداها الغضبية، وكمالها الشجاعة،

وثانيها، الشهوانية وكمالها الجود،

وثالثها العقلية وكمالها النطق بالحكمة.

وفى رواية لمسلم عنه: ما سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شيئا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه ف

قال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخاف الفقر (١) . وعنده أيضا عن صفوان بن أمية

قال: لقد أعطانى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما أعطانى وإنه لمن أبغض الناس إلى، فما برح يعطينى حتى إنه لأحب الناس إلى (٢) . قال ابن شهاب: أعطاه يوم حنين مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة. وفى مغازى الواقدى: إن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أعطى صفوان يومئذ واديا مملوآ إبلا ونعما، فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبى. ويرحم اللّه ابن جابر حيث

قال:

هذا الذى لا يتقى فقرا إذا ... يعطى ولو كثر الأنام وداموا

واد من الأنعام أعطى آملا ... فتحيرت لعطائه الأوهام

وإنما أعطاه ذلك لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- علم أن داءه لا يزول إلا بهذا الدواء وهو الإحسان فعالجه به حتى برئ من داء الكفر وأسلم، وهذا من كمال شفقته ورحمته ورأفته- صلى اللّه عليه وسلم- إذ عامله بكمال الإحسان، وأنقذه من حر النيران إلى برد لطف الجنان. وكان على إذا وصفه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: كان أجود الناس كفّا، وأصدق الناس لهجة. وخرج ابن عدى- بإسناد فيه ضعف- من حديث أنس مرفوعا: (أنا أجود بنى آدم) (٣) .

فهو- صلى اللّه عليه وسلم- بلا ريب أجود بنى آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم وأشجعهم وأكملهم فى جميع الأوصاف الحميدة، وكان جوده

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣١٢) فى الفضائل، باب: ما سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شيئا قط ف

قال: لا، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣١٣) فيما سبق.

(٣) إسناده ..... أخرجه ابن عدى فى (الكامل) (١/ ٣٥٧) .

بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه للّه فى إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، ولقد أحسن ابن جابر حيث

قال:

يروى حديث الندى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهل ومنسجم

من وجه أحمد لى بدر ومن يده ... بحر ومن فمه در لمنتظم

يمم نبيّا تبارى الريح أنمله ... والمزن من كل هام الودق مرتكم

لو عامت الفلك فيما فاض من يده ... لم تلق أعظم بحر منه إن تعم

تحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ ... به ودع كل طامى الموج ملتطم

لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وروت قلب كل ظمى

فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحاب من غمائم يمينه. روى البخارى من حديث جابر: (ما سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن شىء قط فقال: لا) (١) وكذا عند مسلم، أى ما طلب منه شىء من أمر الدنيا فمنعه: قال الفرزدق:

ما قال لا قط إلا فى تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم

لكن قال شيخ مشايخنا الحافظ أبو الفضل ابن حجر: ليس المراد أنه يعطى ما يطلب منه جزما، بل المراد: أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاء سائغا وإلا سكت.

قال: وقد ورد بيان ذلك فى حديث مرسل لابن الحنيفة عند ابن سعد ولفظه: إذا سئل فأراد أن يفعل

قال: نعم، وإن لم يرد أن يفعل سكت. وهو قريب من حديث أبى هريرة؛ ما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام معناه: لم يقل: لا، منعا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما فى

قوله تعالى: قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ (٢) ، ولا يخفى الفرق بين

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٣٤) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء، ومسلم (٢٣١١) فى الفضائل، باب: ما سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شيئا قط ف

قال: لا.

(٢) سورة التوبة: ٩٢.

قوله: لا أجد ما أحملكم وبين لا أحملكم انتهى. وهو نظير ما فى حديث أبى موسى الأشعرى: لما سأله الأشعريون الحملان فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما عندى ما أحملكم) (١) .

لكن يشكل عليه أنه- صلى اللّه عليه وسلم- حلف لا يحملهم

فقال: (واللّه لا أحملكم) (٢) فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر، ما إذا سئل ما ليس عنده والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضى الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل، كأن لم يكن يعرف العادة، فلو اقتصر فى جوابه على السكوت مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلا، ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل، والسر فى الجمع بين قوله: (لا أجد ما أحملكم)

وقوله: (واللّه لا أحملكم) أن الأول لبيان أن الذى سئله لم يكن موجودا عنده، والثانى أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا أو بالاستيهاب، إذ لا اضطرار حينئذ، وروى الترمذى أنه حمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلا حتى فرغ منها.

قال: وجاءه رجل فقال ما عندى شىء ولكن ابتع على، فإذا جاءنا شىء قضيناه، فقال له عمر: ما كلفك اللّه ما لا تقدر، فكره النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فقال رجل من الأنصار: يا رسول اللّه، أنفق ولا تخف من ذى العرش إقلالا، فتبسم- صلى اللّه عليه وسلم- وعرف البشر فى وجهه. و

قال: (بهذا أمرت) (٣) .

وإنما فعل ذلك للمصلحة الداعية لذلك كالاستئلاف ونحوه.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٣٣) فى الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، ومسلم (١٦٤٩) فى الإيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها.

(٢) صحيح: وهو جزء مما قبله.

(٣) أخرجه الترمذى فى (الشمائل) (٢٨١) .

وذكر ابن فارس فى كتابه (فى أسماء النبى- صلى اللّه عليه وسلم-) أنه فى يوم حنين جاءت امرأة فأنشدت شعرا تذكره أيام رضاعته فى هوازن فرد عليهم ما أخذ وأعطاهم عطاء كثيرا حتى قوّم ما أعطاهم ذلك اليوم فكان خمسمائة ألف ألف. قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذى لم يسمع بمثله فى الوجود.

وفى البخارى من حديث أنس: أنه أتى بمال من البحرين ف

قال: (انثروه) - يعنى صبوه- فى المسجد، وكان أكثر مال أتى به النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فخرج إلى المسجد ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس ف

قال: أعطنى، فإنى فاديت نفسى وفاديت عقيلا، فقال له (خذ) ، فحثا فى ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، ف

قال: يا رسول اللّه مر بعضهم يرفعه إلى،

قال: لا،

قال: فارفعه أنت على،

قال: لا، فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع ف

قال: يا رسول اللّه مر بعضهم يرفعه على،

قال: لا،

قال: فارفعه أنت

قال: لا، ثم نثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله فانطلق، فما زال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يتبعه بصره حتى خفى علينا من حرصه، فما قام- صلى اللّه عليه وسلم- وثم منها درهم (١) .

وفى رواية ابن أبى شيبة من طريق حميد بن هلال مرسلا: كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمى من خراج البحرين،

قال: وهو أول مال حمل إليه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وسايره جابر على حمل له، فقال له- صلى اللّه عليه وسلم-: (بعنى جملك)

فقال: هو لك يا رسول اللّه، بأبى أنت وأمى،

فقال: (بل بعنيه) فباعه إياه وأمر بلالا أن ينقده ثمنه فنقده، ثم قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (اذهب بالثمن والجمل بارك اللّه فيهما) (٢) . مكافأة لقوله: هو لك، فأعطاه الثمن ورد عليه الجمل وزاده الدعاء بالبركة فيهما. وحديثه فى البخارى ومسلم وغيرهما.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى فى المساجد، باب: القسمة وتعليق القنو فى المسجد تعليقا.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٧١٨) فى الشروط، باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، ومسلم (٧١٥) فى المساقاة، باب: بيع البعير واستثناء ركوبه.

وقد كان جوده- صلى اللّه عليه وسلم- كله للّه وفى ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو لمحتاج وتارة ينفقه فى سبيل اللّه، وتارة يتألف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه. وكان يؤثر على نفسه وأولاده، فيعطى عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش فى نفسه عيش الفقراء، فيأتى عليه الشهر والشهران لا توقد فى بيته تار، وربما ربط الحجر على بطنه الشريفة من الجوع.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- قد أتاه سبى، فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت وطلبت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد، و

قال: (لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع) (١) . وأتته امرأة ببردة

فقالت: يا رسول اللّه أكسوك هذه، فأخذها- صلى اللّه عليه وسلم- محتاجا إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة

فقال: يا رسول اللّه ما أحسن هذه فاكسنيها

فقال: (نعم) فلما قام- صلى اللّه عليه وسلم- لامه أصحابه، قالوا: ما أحسنت حين رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أخذها محتاجا إليها ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل فيمنعه (٢) . رواه البخارى من حديث سهل بن سعد. وفى رواية ابن ماجه والطبرانى

قال: نعم، فلما دخل طواها وأرسل بها إليه. وأفاد الطبرانى فى رواية زمعة بن صالح أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أمر أن يصنع له غيرها فمات قبل أن يفرغ منها. وفى هذا الحديث من الفوائد: حسن خلقه- صلى اللّه عليه وسلم- وسعة جوده.

واستنبط منه السادة الصوفية: جواز استدعاء المريد خرقة التصوف من المشايخ تبركا بهم وبلباسهم، كما استدلوا لإلباس الشيخ للمريد بحديث أنه- صلى اللّه عليه وسلم- ألبس أم خالد خميصة سوداء ذات علم (٣) رواه البخارى.

__________

(١) صحيح: وأصل القصة عند البخارى (٣١١٣) فى الخمس، باب: الدليل على أن الخمس لنوائب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- والمساكين، ومسلم (٢٧٢٧) فى الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٣٦) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء.

(٣) صحيح: حديث أم خالد أخرجه البخارى (٥٨٢٣) فى اللباس، باب: الخميصة السوداء.

لكن قال شيخنا: ما يذكرونه من أن الحسن البصرى لبسها من على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه-، فقال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل، وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر ليس فى شىء من طرقها ما يثبت، ولم يرد فى خبر صحيح ولا حسن ولا ..... أنه- صلى اللّه عليه وسلم- ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدا من أصحابه بفعلها، وكل ما يروى صريحا فى ذلك فباطل.

قال: ثم إن من الكذب المفترى قول من

قال: إن عليّا ألبس الخرقة الحسن البصرى، فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من على سماعا فضلا عن أن يلبسه الخرقة.

وكذا قال الدمياطى والذهبى والعلاء ومغلطاى والعراقى والأبناسى والحلبى وغيرهم مع كون جماعة منهم لبسوها وألبسوها تشبها بالقوم، نعم ورد لبسهم لها مع الصحبة له المتصلة إلى كميل بن زياد، وهو صحب على ابن أبى طالب- رضى اللّه عنه- من غير خلف فى صحبته له بين أئمة الجرح والتعديل.

وفى بعض الطرق اتصالها بأويس القرنى، وهو اجتمع بعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب- رضى اللّه عنهما-. وهذه صحبة لا مطعن فيها، وكثير من السادة يكتفى بمجرد الصحبة كالشاذلية وشيخنا أبى إسحاق المتبولى.

وكان الشيخ يوسف العجمى يجمع بين تلقين الذكر وأخذ العهد واللبس وله فى ذلك رسالته (ريحان القلوب) قرأتها على ولد ولده العارف المسلك سيدى على، مع إلباسه لى الخرقة والتلقين والعهد.

وللشيخ قطب الدين القسطلانى (ارتقاء الرتبة فى اللباس والصحبة) واللّه يهديناا إلى سواء السبيل.