٩٠ المكتوب التسعون إلى الفقير هاشم الكشمى فى جواب سؤاله عن حقيقة مشاهدة العرفاء الحق سبحانه بالقلب وتحقيقه. قد سألتم أنه قد أثبت بعض محققى الصوفية رؤية الحق ومشاهدته تعالى ببصر القلب فى الدنيا قال الشيخ العارف فى كتابه العوارف موضع المشاهدة بصر القلب الخ وأورد الشيخ أبو إسحق الكلابادى قدس سره الذى هو من قدماء هذه الطائفة ورؤسائهم فى كتابه التعرف وأجمعوا على أنه تعالى لا يرى فى الدنيا بالأبصار ولا بالقلوب إلا من جهة الإيقان فكيف التوفيق بين هذين التحقيقين وعلى أى منهما يوافق رأيك وما معنى الإجماع مع وجود الاختلاف ( اعلم ) أرشدك اللّه إن مختار هذا الفقير فى هذه المسئلة هو قول صاحب التعرف قدس سره وأعلم أنه لا نصيب للقلوب من تلك الحضرة فى هذه النشأة غير الإيقان سواء ظنوه رؤية أو مشاهدة فإذا لم تكن للقلب رؤية ماذا يكون للأبصار فإن البصر معطل فى هذه المعاملة فى هذه النشأة غاية ما فى الباب أن العنى المسماة بالإيقان الحاصل فى القلب يظهر فى عالم المثال بصورة الرؤية والموقن به يظهر بصورة المرئى فإن لكل معنى صورة فى عالم المثال مناسبة له فى عالم الشهادة وحيث أن كمال اليقين فى عالم الشهادة فى الرؤية يظهر الإيقان أيضاً فى عالم المثال بصورة الرؤية فإذا ظهر الإيقان بصورة الرؤية يظهر متعلقه الذى هو الموقن به صورة المرئى بالضرورة فإذا شاهده السالك فى مرآة المثال يذهل عن توسط المرآة ويظن الصورة حقيقة ويزعم أنه قد حصلت له حقيقة الرؤية وظهر له المرئى ولا يدرى أن تلك الرؤية هى صورة إيقانه وذلك المرئى صورة الموقن به وهذا من أغلاط الصوفية وتلبسات الصور بالحقائق فإذا غلبت هذه الرؤية وترشحت من الباطن فى الظاهر توقع السالك فى توهم أنه قد حصل له رؤية البصر أيضاً وتحول المطلوب من السماع إلى المعانقة ولا يدرون أن حصول هذا المعنى فى الأصل الذى هو البصيرة أيضاً مبنى على التوهم والتلبس فماذا يصيب للبصر الذى هو فرع عليها فى هذه النشأة ومن أين تحصل لها الرؤية وفى الرؤية القلبية وقع جم غفير من الصوفية فى التوهم وحكموا بوقوعها بخلاف الرؤية البصرية فإنه لم يقع فى توهم وقوعها إلا الناقصون من هذه الطائفة وهو مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة شكر اللّه تعالى سعيهم ( فإن قيل ) إذا كان للموقن به صورة فى عالم المثال يلزم أن للحق سبحانه صورة هناك ( أجيب ) أن الصوفية قد جوزوا أن يكون للحق سبحانه مثال وأن يكون له تعالى مثل وجوزوا ظهوره سبحانه فى المثال بصورة كما قرر صاحب الفتوح قدس سره كون الرؤية الأخروية أيضاً بصورة جامعة لطيفة مثالية وتحقيق هذا الجواب إن صورة الموقن به ليست هى صورة الحق سبحانه فى المثال بل هى صورة مكشوف صاحب الإيقان الذى تعلق إيقانه به وذلك المكشوف بعض وجوه الحق سبحانه واعتباراته لا ذاته جل وعلا ولهذا إذا بلغت معاملة العارف الذات لا يظهر له مثل هذه التخيلات ولا يتخيل رؤية ولا مرئى أصلا فإنه لا صورة لذاته الأقدس سبحانه فى المثال حتى تظهر له ويرى إيقانه بصورة الرؤية أو نقول أن فى عالم المثال صور المعانى لا صور الذوات وحيث أن العالم بتمامه مظاهر الأسماء والصفات لا يكون له نصيب من الذاتيات كما حققته فى مواضع متعددة فيكون بتمامه من قسم المعانى بالضرورة وتكون له صورة فى المثال وفى الكمالات الوجوبية كل مرتبة فيها الشأن والصفة التى قيامها بالذات تعالت ومن قبيل المعانى لو كانت لها صورة فى المثال ولو بالنقص لساغ وأما ذاته سبحانه فحاشاها من أن تكون لها صورة فى مرتبة من المراتب فإن الصورة مستلزمة للتحديد والتقييد وذا ليس بمجوز فى أى مرتبة كان وأين المجال للمراتب التى كلها مخلوقة للّه تعالى أن يجعل الخالق سبحانه محدود أو مقيدا وكل من جوز المثال فى حضرته سبحانه وتعالى فهو باعتبار الوجوه والاعتبارات لا باعتبار عين الذات تعالت وإن كان تجويز المثال فى وجوه الذات واعتباراتها أيضاً ثقيلا على هذا الفقير إلا أن يجوز ذلك فى ظل من الظلال البعيدة ( فاتضح ) من هذا البيان أن ارتسام الصور فى المثال إنما هو للمعانى والصفات لا للذات فمأمر من صاحب الفصوص من تجويز كون الرؤية الأخروية بصورة مثالية ليست هى برؤية الحق سبحانه بل ليست برؤية صورة الحق فإنه لا صورة له سبحانه حتى تتعلق بها الرؤية فإن كانت فى المثال صورة فهى لظل من ظلاله البعيدة فكيف تكون رؤيتها رؤية الحق سبحانه والشيخ قدس سره لا يقصر فى نفى الرؤية من المعتزلة والفلاسفة بل يثبت الرؤية على نهج يستلزم نفى الرؤية وهو أبلغ فى النفى من صريح النفى لأن الكناية أبلغ من الصريح قضية مقررة وإنما الفرق بينهما أن مقتدى تلك الجماعة عقولهم العقلية ومقتدى الشيخ الكشف البعيد عن الصحة ويشبه أن تكون أدلة المخالفين الغير التامة قد تمكنت فى متخيلة الشيخ فحرفت كشفه أيضاً فى هذه المسئلة عن صوب الصواب وجعلته مائلا إلى مذهب المخالفين ولكن لما كان من أهل السنة أثبتها صورة واكتفى بهذا القدر وظنها رؤية ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وتحقيق هذه المسئلة الدقيقة محرر أيضاً فيما كتبته لحل بعض مواضع كتاب العوارف وما سألتم من تحقق الإجماع مع وجود الاختلاف فلعل الخلاف المعتد به لم يكن وقت الإجماع أو أنه أراد بالإجماع إجماع مشائخ عصره واللّه سبحانه أعلم بحقيقة الحال . |