٢٨٧ المكتوب السابع والثمانون والمائتان إلى أخيه الحقيقى منبع الحقائق وميان غلام محمد فى بيان الجذبة والسلوك وبيان المعارف المناسبة لهذين المقامين. بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا اللّه لقد جاءت رسل ربنا بالحق وختمهم بأفضلهم وأكملهم محمد الذى جاء بالصدق صلوات اللّه سبحانه وبركاته عليه وعليهم وعلى من تابعهم أجمعين إلى يوم الدين آمين ولقد رأيت الطالبين ينزلون المسلك الطويل والمطلب الرفيع بواسطة دناءة الهمة وخسة الفطرة وعدم وجدان صحبة الشيخ الكامل المكمل إلى منزلة طريق قصير ومقصد وضيع ويقنعون بكلما يتيسر لهم فى الطريق من حقير وخطير ويظنون ذلك مقصدا ويزعمون أنفسهم بحصوله كملة وأرباب نهاية ويطبقون من خسة الفطرة واستيلاء قواهم المتخيلة أحوالهم الناقصة على الأحوال الكاملة التى بينها الكملة الواصلون من تمام أمرهم ونهاية سيرهم كما قيل ( ع ) وصار الفار فى رؤياه ناقة * ويكتفون من البحر المحيط بقطرة بل بصورة قطرة ومن بحر عمان برشحة بل بصورة رشحة ويتصورون المثالى غير المثالى ويسكنون عن غير المكيف بالمكيف ويتخيلون المثلى لا مثليا وينخدعون عن اللامثلى غير اللامثالى بالمثلى وأحوال جماعة آمنوا باللامثلى بالتقليد واعتقدوه أفضل من أحوال هؤلاء الطالبين الذين لم يتم سلوكهم والظامئين القانعين بالسراب بمراتب فإنه فرق كثير بين المحق والمبطل والمصيب والمخطئ فويل للطالبين القاصرين المنقطعين عن المطلب الذين يظنون المحدث قديما ويزعمون المثالى لا مثاليا إن لم يكونوا معذورين بالخطأ فى الكشف ويؤاخذون بهذا الخطأ والغلط ربنا لا تؤآخذنا إن نسينا أو أخطأنا وهذا كما إذا كان شخص مثلا طالب كعبة وتوجه إليها بكمال الشوق فاستقبله فى أثناء الطريق اتفاقا بيت شبيه بالكعبة ولو بحسب الصورة فخاله كعبة وصار معتكفا هناك وشخص آخر له علم بخواص الكعبة بالأخذ عن الواصلين إليها وصدق بوجودها بحسب علمه فهذا الشخص وإن لم يخط خطوة فى طلب الكعبة ولكنه لم يعتقد غير الكعبة كعبة ومحق فى تصديقه فحاله أفضل من حال الطالب المذكور المخطئ نعم إذا لم يعتقد الطالب الغير الواصل إلى المطلب غير المطلب مطلبا فحاله أفضل من حال مقلد محق لم يضع قدمه فى طريق المطلب فإنه مع وجود حقية تصديقه بالمطلوب قاطع لمسافة طريق المطلوب ولو فى الجملة فله تتحقق المزية ( وطائفة ) منهم أيضا جعلوا أنفسهم بهذا الكمال والخيال والوصال الوهمى فى مسند المشيخة ودعوة الخلق وضيعوا بعلة منقصتهم استعداد كثير من المستعدين للكمالات وأزالوا بشؤم برودة صحبتهم حرارة طلب الطالبين ضلوا فأضلوا ضاعوا فأضاعوا وتخيل هذه الكمالات وتوهم الوصال فى المجذوبين غير السالكين أكثر منه فى السالكين المجذوبين للغير الواصلين فإن المبتدى والمنتهى متشابهان فى صورة الجذبة ومتساويان فى العشق والمحبة فى الظاهر وإن لم يكن بينهما مناسبة فى الحقيقة وكانت أحوال كل منهما مغايرة لأحوال الآخر وممتازة عنها ( ع ) ما نسبه الفرشى بالعرشى * فإن كل شئ يوجد فى البداية فهو معلول وإلى غرض ما محمول وحيث كان ما فى الانتهاء بالحق فهو للحق وسيذكر تفصيل هذا الكلام عن قريب إن شاء اللّه تعالى وتكون هذه المشابهة الصورية والمناسبة الضرورية باعثة على ذلك التخيل وحيث كانت الجذبة مقدمة على السلوك فى طريقة النقشبندية العلية كثر هذا القسم من التخيل والتوهم فى مجاذب هذا الطريق الذين لم يشرفوا بعد بدولة السلوك وقد يحصل لجماعة منهم تقلبات فى مقام الجذبة وتنقلات عن حال إلى حال فيظنون ذلك قطع منازل السلوك وطى مسالك السير إلى اللّه ويزعمون أنفسهم بتلك التقلبات من المجذوبين السالكين فتقرر فى الخاطر الفاتر أن أكتب فقرات فى بيان حقيقة السلوك والجذبة وبيان الفرق ما بين هذين المقامين مع ذكر بعض خواص مميزة لكل واحد منهما عن الآخر وبيان الفرق بين جذبة المبتدى وجذبة النتهى وحقيقة مقام التكميل والإرشاد وعلوم أخر مناسبة لذلك المقام ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون فشرعت فيه بحسن توفيقه سبحانه وهو سبحانه يهدى السبيل وهو نعم المولى ونعم الوكيل وهذا المكتوب مشتمل على مقصدين وخاتمة المقصد الأول فى بيان معارف متعلقة بمقام الجذبة والمقصد الثانى فى بيان ما يتعلق بالسلوك والخاتمة فى بعض العلوم والمعارف التى عملها كثير المنفعة للطالبين ( المقصد الأول ) اعلم أن المجذوب غير تام السلوك وإن كان له جذب قوى داخل فى زمرة أرباب القلوب من أى طريق كان منجذبا فإنه لا يمكن له تجاوز مقام القلب والاتصال بمقلب القلب من غير سلوك وتزكية نفس فإن انجذابهم قلبى وحبهم عرضى لا ذاتى ولا أصلى فإن النفس ممتزجة بالروح فى هذا المقام والظلمة مختلطة بالنور فى هذا المعاملة ولا يتصور الخروج عن مضيق مقام القلب بالكية والاتصال بمقلب وحصول الانجذاب الروحى نحو المطلوب بدون تخلص الروح من النفس لأجل التوجه إلى المطلوب وانفكاك النفس عن الروح ونزولها إلى مقام العبودية وما دام هذان مجتمعين فى الحقيقة لا يتصور الانجذاب الروجى الخالص فإن الحقيقة الجامعة القلبية قائمة مستحكمة وتخلص الروح عن النفس إنما يتصور بعد قطع منازل السلوك وطى مسالك السير إلى اللّه وتحقق السير فى اللّه بل بعد حصول مقام الفرق بعد الجمع الذى يتعلق بالسير عن اللّه باللّه ( شعر ). هل كل ذى ذكر يحويه معترك * أو كل من نال من ملك سليمان فظهر الفرق بين جذب المنتهى وجذب المبتدى وشهود المجذوبين أرباب القلوب من وراء حجاب الكثرة علموا هذا العنى أولا وليس مشهودهم إلا عالم الأرواح الذى هو شبيه فى اللطافة والإحاطة والسريان بموجوده صورة فإن اللّه خلق آدم على صورته وبهذه المناسبة يزعمون شهود الروح شهود الحق تعالى وتقدس وعلى هذا القياس الإحاطة والسريان والقرب والمعية فإن نظر السالك لا ينفذ إلا إلى المقام الفوق لا إلى مقام فوق الفوق والمقام الذى فوق مقامهم هو مقام الروح فلا ينفذ نظرهم إلى ما فوق مقام الروح ولا يكون مشودهم شيأ غير الروح والنظر إلى ما فوق مقام الروح موقوف على الوصول إلى مقام الروح وحال المحبة والانجذاب أيضا كحال الشهود وشهود الحق سبحانه بل محبته والانجذاب إليه تعالى مربوط بحصول الفناء المعبر عنه بنهاية السير إلى اللّه ( شعر ). ومن لم يكن فى حب مولاه فانيا * فليس له فى كبرياء سبيل وإطلاق الشهود فى هذا المقام من ضيق ميدان العبارة وإلا معاملة هؤلاء الأكابر متعارفة بما وراء وراء الشهود وكما أن مقصدهم لا مثلى ولا كيفى كذلك اتصالهم أيضا لا مثلى ولا كيفى لا سبيل للمثالى إلى اللامثالى لا يحمل عطايا الملك إلا مطاياه ( شعر ). إن للرحمن مع أرواح ناس * اتصالا دون كيف وقياس وإحاطته تعالى وسريانه وقربه ومعيته عند المحققين أرباب السلوك الواصلين إلى نهاية الأمر كلها علمية وهم موافقون لعلماء أهل الحق شكر اللّه سعيهم والحكم بالقرب الذاتى وأمثاله عندهم من عدم الحاصل والبعد والمقربون لا يحكمون بالقرب قال واحد من الكبراء من قال أنا قريب فهو بعيد ومن قال أنا بعيد فهو قريب وهذا هو التصوف والعلم المتعلق بالتوحيد الوجودى منشأوه والمحبة والانجذاب القلبى وأرباب القلوب الذين لا جذبة لهم بل يقطعون المنازل بطريق السلوك لا مناسبة لهذا العلم بهم وكذلك المجذوبون المتوجهون بالسلوك من القلب إلى مقلب القلب بالكلية يتبرأون من هذه العلوم ويستغفرون منها ( وبعض ) المجذوبين وإن سلكوا طريق السلوك وطووا المنازل ولكن لا ينقطع نظرهم عن المقام المألوف ولا يقدرون التوجه إلى الفوق فلا يترك أمثال هذه العلوم أذيالهم ولا يقدرون الخروج من هذه الورطة والتخلص منها ولهذا يكون فيهم ضعف وعروج فى العروج إلى مدارج القرب والصعود إلى معارج القدس ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا وعلامة الوصول إلى نهاية المطلب التبرى من هذه العلوم فإنه كما تحصل زيادة المناسبة بالتنزيه يوجد عدم مناسبة العالم بالصانع أزيد ولا معنى جينئذ فى اعتقاد أن العالم عين الصانع أو فى ظن أن الصانع محيط بالعالم بالذات ما للتراب ورب الأرباب (١ معرفة ) قال الخواجه بهاء الدين النقشبند قدس اللّه تعالى سره الأقدس نحن ندرج النهاية فى البداية ومعنى هذه العبارة هو أن الانجذاب والمحبة اللذين يتيسر أن للمنتهيين فى الانتهاء مندرجان فى هذا الطريق فى الانجذاب والمحبة اللذين يحصلان فى الابتداء فإن انجذاب المنتهى روحى وفى المبتدى جذب قلبى ومن حيث أن القلب برزخ بين الروح والنفس يحصل فى ضمن الجذب القلبى الذب الروحى أيضا وتخصيص هذا الاندراج بهذا الطريق مع أنه حاصل فى جميع الجذبات بهذا المعنى مبنى على أن أكابر هذه الطريقة وضعوا طريقا خاصا لحصول هذا المعنى وعينوا مسلكا مخصوصا للوصول إلى هذا المطلب ويحصل هذا المعنى لغيرهم على سبيل الاتفاق وليس لهم فى ذلك ضابطة ( وأيضا ) إن لهؤلاء الأكابر شأنا خاصا فى مقام الجذبة ليس هو لغيرهم فإن كان فنادر ولهذا يحصل لبعضهم فى هذا المقام من غير قطع منازل السلوك فناء وبقاء شبيهان بفناء أرباب السلوك وبقائهم ويتيسر لهم شرب من مقام التكميل شبيه بمقام السير عن اللّه باللّه يربون به المستعدين وسيجئ تحقيق هذا المبحث عن قريب إن شاء اللّه تعالى ( وههنا ) دقيقة ينبغى أن يعلم أن الروح كان لها قبل تعلقها بالبدن نحو من التوجه إلى المقصود فلما تعلقت بالبدن زال عنها ذلك التوجه وأكابر هذه السلسلة العلية وضعوا طريقا لظهور ذلك التوجه ولكن لما كانت الروح متعلقة بالبدن انتقل ذلك التوجه إلى القلب فيحصل لهم فيه توجه قلبى جامع لتوجه النفس والروح ولا شك أن التوجه الروحى مندرج فى التوجه القلبى وأما التوجه الروحى فى المنتهيين فهو بعد فناء الروح وبقائه بالوجود الحقانى المعبر عنه بالبقاء باللّه والتوجه الروحى الذى هو ضمن التوجه القلبى بل توجه الروح الذى كان قبل تعلقها بالبدن فهو توجه مع وجود وجود الروح لم يتطرق الفناء إليها أصلا والفرق بين توجه الروح مع وجود وجودها وبين توجهها مع فنائها كثير فإطلاق النهاية على ذلك التوجه الروحى المندرج إنما هو باعتبار توجهها الذى يبقى فى النهاية هو فقط فالمراد باندراج النهاية فى البداية اندراج صورة النهاية فى البداية لا حقيقتها فإن اندراجها فى البداية محال ويمكن أن يكون عدم إتيان لفظ الصورة لأجل الترغيب فى طلب هذا الطريق والحق ما حققت بعون اللّه تعالى والسابقون الذين انجذابهم من غير تعمل وكسب بل يتوجه وحضور فذلك الانجذاب أيضا قلبى وأثر من توجه الروح السابق فإنه لم يزل بالكلية بواسطة تعلقها بالبدن والكسب والتعمل لظهور الوجه السابق إنما هو لجمعة نسوا التوجه السابق بواسطة ذلك التعلق وكأن الكسب لأجل التنبيه على التوجه السابق والتذكير لتلك الدولة الغائبة الضائعة ولكن استعداد الناسين للتوجه السابق ألطف من استعداد السابقين المذكورين فإن نسيان التوجه السابق بالكلية يخبر عن التوجه الكلى إلى المتوجه إليه بالفعل وعن الفناء فيه بخلاف عدم نسيان التوجه السابق فإنه ليس كذلك غاية فى الباب إن السابقين يحصل لهم ذلك التوجه على سبيل الشمول لكليتهم والسريان فيها ويأخذ بدنهم أيضا حكم روحهم كما هو شأن المحبوبين المرادين والفرق بين شمول المحبين وشمول السابقين كالفرق بين حقيقة الشئ وصورته كما هو الظاهر لأربابه نعم إن هذا النوع من الشمول متحقق أيضا فى المحبين والواصلين والمريدين الكاملين ولكنه كالبرق فيهم ليس بدائمى والتوجه الدائمى إنما هو من خاصة المحبوبين (٢ معرفة ) أن المجذوبين أرباب القلوب إذا حصل لهم تمكن ورسوخ فى مقام القلب وتيسر لهم معرفة وصحو مناسب لذلك المقام يقدرون على إيصال الفائدة إلى الطالبين ويحصل للطالبين فى صحبتهم انجذاب ومحبة قلبية وإن لم يبلغوا من جهتهم مرتبة الكمال فإنهم لم يبلغوا بعد بأنفسهم حد الكمال فلا يقدرون على أن يكونوا واسطة لحصول الكمال لغيرهم ومشهور أن الناقص لا يجئ منه كامل وإفادتهم على كل حال أزيد من إفادة أرباب السلوك وأن بلغوا نهاية السلوك وحصل لهم جذب المنتهيين ولكنهم لم ينزلوا إلى مقام القلب بطريق السير عن اللّه باللّه فإن النتهى غير المرجوع ليس له مرتبة التكميل والإفادة لأنه لم يبق فيه مناسبة بالعالم وتوجه إليه حتى يقدر على الإفادة وإطلاق البرزخ على الشيخ المقتدى به إنما هو باعتبار نزوله إلى مقام البرزخية الذى هو مقام القلب وأخذه من كلا جهتى الروح والنفس حظا وافرا فمن جهة الروح يستفيد من الفوق ومن جهة النفس يفيد من دونه لأنه اجتمع فيه التوجه إلى الحق سبحانه بالتوجه إلى الخلق بحيث لا يكون أحدهما حجابا للآخر فالإفادة والاستفادة حاصلتان له معا وبعض المشائخ أرد ببرزخية الشيخ برزخيته بين الحق والخلق وقال الشيخ البرزخ جامعا بين التشبيه والتنزيه ولا يخفى أن مثل هذه البرزخية التى بناها هلى السكر غير لائقة بمقام المشيخة الذى بناه على الصحو فإن نفوسهم فى هذا المقام مندرجة فى غلبات أنوار الروح وذلك الاندراج هو الذى صار منشأ للسكر وفى مقام برزخية القلب يتفرق كل من النفس والروح ويمتاز عن الآخر فلا يكون فيه مجال للسكر بالضرورة بل فيه كله صحو فإنه هو المناسب لمقام الدعوة هذا ( فإذا نزل ) الشيخ الكامل إلى مقام القلب نحصل له المناسبة بالعالم بواسطة البرزخية ويكون واسطة لحصول الكمالات لمستعدى الكمالات وحيث كان المجذوب المتمكن أيضاً فى مقام القلب له مناسبة بالعالم لا يبخل بالتوجه إلى أهل العالم وقد اكتسب نصيبا من الانجذاب وحصل المحبة وإن كانا قلبيين فلا جرم انكشف له طريق الإفادة بل أقول أن كمية إفادة المجذوب المتمكن أزيد من كمية إفادة المنتهى المرجوع وكيفية إفادة المنتهى المرجوع أزيد من كيفية إفادة المجذوب فإن المنتهى المرجوع وإن حصلت له المناسبة بالعالم لكنها فى الصورة فقط وفى الحقيقة هو مفارقة ومنصبغ بلون الأصل وباق به ومناسبة هذا المجذوب بالعالم فى الحقيقة وهو من جملة إفادة العالم وباق بالبقاء الذى به بقاء العالم فيواسطة المناسبة الحقيقية تكون استفادة الطالبين منه أكثر بالضرورة ومن المنتهى المرجوع أقل ولكن إفادة كمال مراتب الولاية مخصوصة بالمنتهى فلا جرم يكون المنتهى فى كيفية الإفادة أرجح وأيضا ليس فى المنتهى همة وتوجه فى الحقيقة والمجذوب صاحب همة وتوجه فيقدم أمور الطالبين ويرقيهم بالهمة والتوجه وإن لم يبلغهم حد الكمال ( وأيضا ) إن نهاية التوجه الذى يحصل للطالبين من المجذوبين هى ذلك التوجه السابق للروح الذى نسوه فيتذكرونه فى صحبتهم ويحصل ثانيا بطريق الاندراج فى التوجه القلبى بخلاف التوجه الحاصل فى صحبة المنتهيين فإنه توجه حادث لم يكن موجودا قبل ذلك أصلا وكان موقوفا على فناء الروح بل على بقائها بالوجود الحقانى فلا بد وأن يكون التوجه الأول سهل الحصول والتوجه الثانى متعسر الوجود وكلما هو أسهل فهو أزيد وكلما هو متعسر فهو أقل ومن هنا قالوا إن الشيخ المقتدى به ليس بواسطة فى تحصيل جهة الجذبة فإن تلك النسبة كانت حاصلة أولا أو وصار محتاجا إلى التنبيه والتعليم بواسطة ولهذا يقال لمثل هذا الشيخ شيخ التعليم لا شيخ التربية وفى جهة السلوك لابد من شيخ مقتدى به لقطع منازل السلوك وتربيته ضرورية فيها لا يجوز لشيخ مقتدى به أن يأذن لمثل هذا المجذوب المتمكن بالإجازة العامة وأن يجلسه فى مقام التكميل والمشيخة فإن بعض الطالبين يكون استعدادهم عالياً جداً وتكون قابليتهم للكمال والتكميل على الوجه الأتم فإن وقع مثل هذا الطالب فى صحبة ذلك المجذوب يحتمل أن يضيع ذلك الاستعداد فيها وأن نزول عنه تلك القابلية كما إذا كانت للأرض مثلا قابلية تامة لزراعة البر فيها فإن زرعوا فيها بذرا جيدا من الحنطة تنبت زرعا وجيدا على قدر استعدادها وأن يزرعوا فيها بذر قمح ردئ أو بذر حمص تكون مسلوب القابلية فضلا عن الإنبات ( فإن لأى ) الشيخ المقتدى به فرضا مصلحة فى رخصته وإجازته ووجد فيه صلاحية الإفادة ينبغى أن يقدر إفادته وإجازته ببعض القيود مثل ظهور مناسبة الطالب لطريق إفادته وعدم إضاعة استعداده فى صحبته وعدم طغيان نفسه بتلك الرياسة واقتداء الناس به فإن هوى النفس مازال عنه بعد لعدم تزكية النفس فيه فإذا علم أن الطالب قد بلغ نهاية الاستفادة منه وغاية إفادته إياه وفى استعداد الطالب قابلية للترقى ينبغى أن يظهر له هذا المعنى وأن يأذن له ليتم أمره من شيخ آخر ولا يظهر له أنه منته لئلا يكون قاطعا لطريق الناس بهذه الحيلة والحاصل يذكر له من أمثال هذه الشرائط ما يعلم أنه مناسب لوقته وحاله ويأذن له بعدو وصية تامة بها ( وأما النتهى ) المرجوع فلا يحتاج فى إفادته وتكميله إلى أمثال هذه القيود فإن له بواسطة جامعيته مناسبة بجميع الطرق والاستعدادات يمكن أن يستفيد منه كل شخص على قدر استعداده ومناسبته وأن كان التفاوت بالسرعة والبطئ بواسطة قوة المناسبة وضعفها متصورا فى صحبة الشيوخ المقتدى بهم أيضا ولكنهم متساووا الأقدام فى أصل الإفادة والالتجاء إلى جانب الحق سبحانه والاعتصام بحبله المتين لازم للشيخ المقتدى به حين إفادة الطالب خوفا من مكره سبحانه فى ضمن هذا الاشتهار بل ينبغى له أن ينفك عن هذا الالتجاء فى جميع الأمور التى يمنحه اللّه سبحانه أياها فى وقت من الأوقات وفى جميع الأحوال والأفعال فضلا عن هذا الأمر ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم ( المقصد السلوك ) فى بيان ما يتعلق بالسلوك اعلم أن الطالب إذا كان متوجها إلى فوق بطريق السلوك فمتى بلغ اسما هو ربه وصار فانيا ومستهلكا فيه يصح إطلاق الفناء عليه وبعد البقاء بهذا الاسم يسلم إطلاق البقاء عليه وبهذا الفناء والبقاء يشرف بأول مرتبة من مراتب الولاية ولكن ههنا تفصيل وبسط الكلام فيه ضرورى ( تمهيد ) أن الفيض الوارد من ذات الحق سبحانه وتعالى وتقدس على نوعين نوع يتعلق بالإيجاد والإبقاء والتخليق والترزيق والإحياء والأمانة وأمثالها ونوع آخر يتعلق بالإيمان والعرفة وسائر كمالات الولاية والنبوة والنوع الأول من الفيض بتوسط الصفات فقط والنوع الثانى فعلى البعض بتوسط الصفات وعلى البعض الآخر بتوسط الشؤنات والفرق بين الصفات والشؤنات دقيق جدا لا يظهر إلا على آحاد من الأولياء المحمدى المشرب ولم يعلم أنه تكلم به أحد وبالجملة إن الصفات موجودة فى الخارج بوجود زائد على وجود الذات والشئونات مجرد اعتبارات فى الذات ولنوضح هذا المبحث بمثال وهو أن الماء مثلا ينزل من فوق إلى تحت بالطبع وهذا الفعل الطبيعى يوهم اعتبار الحياة والعلم والقدرة والإرادة فيه فإن أرباب العلم ينزلون من أعلى إلى أسفل بواسطة ثقلهم وبمقتضى علمهم ولا يتوجهون إلى جهة الفوق والعلم تابع للحياة والإرادة تابع للعلم والقدرة أيضاً ثابتة فإن الإرادة تخصيص أحد المقدورين وهذه الاعتبارات المثبتة يعنى الموهومة فى ذات الماء بمنزلة الشئونات فلو أثبتتت صفات زائدة لذات الماء مع وجود هذه الاعتبارات لكانت بمنزلة الصفات الموجودة بوجود زائد ولا يصح أن يقال للماء بالاعتبار الأول أنه حى عالم قادر مريد بل لابد لصحة إطلاق هذه الأسامى من ثبوت صفات زائدة فما وقع فى عبارة بعض المشائخ من إطلاق الأسامى المذكورة على الماء مبنى على عدم الفرق بين الشئون والصفات وكذلك الحكم بنفى وجود تلك الصفات أيضا محمول على عدم ذلك الفرق ( والفرق الآخر ) بين الشئون والصفات هو أن مقام الشئون مواجه لذى الشأن ومقام الصفات ليس كذلك ( ومحمد ) رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والأولياء الذين على قدمه رضوان اللّه عليهم أجمعين وصول الفيض الثانى إليهم بواسطة الشئونات وسائر الأنبياء عليهم السلام والأولياء الذين على أقدامهم وصول هذا الفيض بل الفيض الأول أيضا إليهم بواسطة الصفات ( فأقول ) أن الاسم الذى هو ربه صلى اللّه عليه وسلم وواسطة وصول الفيض الثانى إليه ظل شأن العلم وهذا الشأن جامع لجميع الشئون الإجمالية وظله عبارة عن قابلية الذات تعالت وتقدست لذلك الشأن بل لجميع الشئون الإجمالية والتفصيلية ولكن باعتبار شمول شأن العلم لها يعنى لا بالذات ( ينبغى ) أن يعلم أن هذه القابلية وإن كانت برزخا بين الذات وبين شأن العلم ولكن لما كانت إحدى جهتيها لا لونية وهى جهة الذات لا يظهر لونها فى البرزخ فذلك البرزخ منصبغ بلون جهة أخرى وهى جهة شأن العلم فلا جرم قلنا أنها ظل ذلك الشأن وأيضا إن ظل الشئ عبارة عن ظهور الشئ ولو شبها ومثالا فى مرتبة ثانية وحيث كان حصول البرزخ بعد حصول الطرفين لا جرم ينكشف هذا البرزخ وقت المكاشفة تحت ذلك الشأن فناسب إطلاق الظل باعتبار هذا الظهور بالضرورة ( والأسماء ) التى هى أرباب طائفة من الأولياء الذين على قدمه صلى اللّه عليه وسلم فى وصول الفيض الثانى ظلال تلك القابلية الجامعة وكالتفاصيل لذلك الظل المجمل ( وأرباب ) سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وواسطة وصول الفيض الأول والثانى إليهم قابليات اتصاف الذات بالصفات الموجودة الزائدة ( وأرباب ) طائفة من الأولياء الذين على أقدامهم فى حق وصول الفيض الأول والثانى صفات وواسطة وصول الفيض الأول إليه صلى اللّه عليه وسلم قابلية اتصاف الذات بجميع الصفات وكأن القابليات التى هى وسائل فيضان الفيوض لسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ظلال هذه القابلية الجامعة وكالتفاصيل لذلك الجامع المجمل ووسائط وصول الفيض الأول إلى طائفة هم على قدمه صلى اللّه عليه وسلم أيضا على حدة فإنها صفات فكأن وسائل وصول الفيض الأول فى محمدى المشارب مغايرة لوسائط وصول الفيض الثانى بخلاف غيرهم فإنها واحدة فيهم وبعض المشائخ قدس اللّه أسرارهم جعل ربه صلى اللّه عليه وسلم منحصراً فى قابلية الاتصاف ومنشأوه عدم الفرق بين الشئون والصفات بل عدم العلم بمقام الشئون واللّه يحق الحق وهو يهدى السبيل ( فتحقق ) أن ربه صلى اللّه عليه وسلم رب الأرباب فى مقام الشئون وفى موطن الصفات وواسطة لوصول كلا الفيضين وعلم أيضا أن وصول فيض مراتب كمالات ولايته عليه الصلاة والسلام من الذات من غير توسط أمر زائد لأن الشئون عين الذات واعتبار الزيادة فيها من منتزعات العقل ولهذا كان التجلى الذاتى مخصوصا به صلى اللّه عليه وسلم ولما أخذ كمل تابعية الفيض من طريقة حصل لهم أيضا شرب من هذا المقام والآخرون لما كانت فى وصول الفيض إليهم وساطة الصفات فى البين والصفات موجودة بوجود زائد وقع فى البين حاجز حصين وكان التجلى الصفاتى متعينا لهم ( ينبغى ) أن يعلم أن قابلية الاتصاف وإن كانت اعتبارية وليس لها وجود زائد والصفات موجودة دون قابلياتها ولكن لما كانت القابليات كالبرازخ بين الذات والصفات بل بين الشئون والصفات ومن شأن البرزخ أن يأخذ لون طرفيه أخذت القابليات أيضا لون الصفات وحصلت الحائية ( شعر ). وما قل هجران الحبيب وإن غدا * قليلا ونصف الشعر فى عين ضائر فلاح من هذا البيان أن ظهور الذات تعالت وتقدست من غير حجاب ليس بمناف للتجلى الشهودى ولكنه مناف للتجلى الوجودى ولهذا لم يكن فى جانب وصول فيض كمالات الولاية إليه صلى اللّه عليه وسلم حائل وفى جانب وصول الفيض الوجودى حصل الحائل فى البين وهو قابلية الاتصاف كما مر ( لا يقال ) لما كانت الشئون وقابلياتها من الاعتبارات العقلية ثبت لها الوجود الذهنى فلزم منه الحجاب العلمى غاية ما فى الباب أن حجب الصفات خارجية وحجب الشؤن علمية ( لانا نقول أن ) الموجود الذهنى لا يكون حجابا بين الموجودين الخارجيين فإن حجاب الموجود الخارجى لا يكون إلا موجودا خارجيا ولو سلم فالحجاب العلمى يمكن ارتفاعه من البين بحصول بعض المعارف بخلاف الخارجى فإنه لا يمكن زواله ( فإذا علمت هذه المقدمات فاعلم ) أن السالك إذا كان محمدى المشرب فمنتهى سيرة المسمى بالسير إلى اللّه إلى ظل الشأن الذى هو أسمه يعنى ربه وبعد الفناء فى ذلك الاسم يشرف بالفناء فى اللّه وإذا صار باقيا به تيسر له البقاء باللّه أيضا وبهذا الفناء والبقاء يكون داخلا فى أول مرتبة من الولاية الخاصة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام والتحية فإن لم يكن محمدى المشرب يصل إلى قابلية صفة أو نفس صفة هى ربه فإذا كان فانيا فى هذا الاسم يعنى الصفة أو القابلية التى وصل إليها لا يطلق عليها الفانى فى اللّه وكذلك لا يكون باقيا باللّه على تقدير بقائه بها فإن اسم اللّه عبارة عن مرتبة جامعة لجميع الشئون والصفات وحيث كانت الزيادة فى جهة الشؤن اعتبارية كانت الشئون عين الذات وبعضها عين البعض الآخر فالفناء فى اعتبار واحد فناء فى جميع الاعتبات بل فناء فى الذات وكذلك البقاء باعتبار واحد بقاء بجميع الاعتبارات فإطلاق الفانى فى اللّه والباقى باللّه يصح فى هذه الصورة بخلافها فى جانب الصفات فإنها موجودة بوجود زائد على الذات ومغايرتها للذات ومغايرة بعضها للبعض الآخر تحقيقية فالفناء فى صفة واحدة لا يستلزم الفناء فى جميعها وهكذا الحال فى البقاء فلا جرم لا يقال لهذا الفانى فانيا فى اللّه وللباقى باقيا باللّه بل يصح أن يقال له الفانى والباقى مطلقا أو مقيدا بصفة يعنى الفانى فى صفة العلم والباقى بتلك الصفة فيكون فناء المحمديين أتم بالضرورة وبقاؤهم أكمل وأيضا لما كان عروج المحمدى إلى جانب الشئون ولا مناسبة بين الشئون والعالم وأصلا لأن العالم ظل الصفات لا ظل الشئون لزم أن يكون فناء السالك فى شأن مستلزم للفناء المطلق على نهج لا يبقى من وجود السالك ولا من أثره شئ أصلا وهكذا على تقدير البقاء يكون باقيا بتمامه وكليته بذلك الشأن بخلاف الفانى فى الصفات فإنه لاينخلع عن نفسه بالتمام ولا يزول أثره لأن وجود السالك أثر تلك الصفة وظلها فظهور الأصل لا يكون ماحيا لوجود الظل بالكلية والبقاء عل مقدار الفناء فالمحمدى يكون أمينا عن الرجوع إلى الصفات البشرية ومحفوظا من خوف الرد إلى مرتبة البهيمية لأنه منخلع عن نفسه بالكلية وصار باقيا به سبحانه فيكون العود ممنوعا على هذا التقدير بخلافه فى صورة الفناء الصفاتى فإن العود هناك ممكن لبقاء أثر وجود السالك ويمكن أن يكون وقوع الاختلاف بين المشائخ فى جواز رجوع الواصل وعدم جوازه من هذه الجهة والحق هو أنه أن كان محمديا فمحفوظ من العود وإلا ففى الخطر وكذلك الاختلاف الواقع فى زوال أثر وجود السالك بعد فنائه حيث قال بعضهم بزوال العين والأثر والبعض الآخر لم يجوز زوال الأثر والحق فى هذا الباب أيضا تفصيل فإن كان محمديا يزوال عنه العين والأثر كلاهما وإلا فلا يزول عنه الأثر لأن أصل الصفة التى هى أصله باق فلا يمكن زوال ظله رأسا ( وههنا ) دقيقة ينبغى أن يعلم أن المراد بزوال العين والأثر الزوال الشهودى لا الوجودى فإن القول بالزوال الوجودى مستلزم للإلحاد والزندقة وجماعة من هذه الطائفة تصوروا الزوال زوالا وجوديا فهربوا من زوال أثر الممكن وتيقنوا أن القول به إلحاد وزندقة والحق ما حققت بأعلامه سبحانه والعجب أنهم مع قولهم بالزوال الوجودى قالوا بزوال العين ألم تعلموا أن القول بزوال عين الوجود كالحكم بزوال الأثر مستلزم للإلحاد والزندقة وبالجملة إن الزوال الوجودى محال فى العين والأثر والشهودى ممكن فى كليهما بل واقع ولكنه مخصوص بمحمدى المشرب فالمحمديون ينخلعون عن القلب بالتمام ويتصلون بمقلب القلب وهم متخلصون عن تقلب الأحوال ومحررون عن رقية السوى بالكلية ولما كان وجود الآثار لازما لغيرهم وتقلب الأحوال نقد وقتهم ليس لهم مخلص من مقام القلب لأن تقلب الأحوال ووجود الآثار من شعب الحقيقة الجامعة القلبية فيكون شهود غيرهم فى الحجاب دائما فإن حجاب المطلوب إنما يكون على مقدار ثبوت بقايا وجود السالك وحيث كان الأثر باقيا فالحجاب هو ذلك الأثر (٣ معرفة ) إذا وصل السالك من طريق سلوك غير متعارف إلى مرتبة من مراتب فوق اسم هو ربه وصار فانيا ومستهلكا فى تلك المرتبة من غير أن يصل إلى ذلك الاسم فإطلاق الفناء فى اللّه فى هذه الصورة أيضا جائز وكذلك البقاء بتلك المرتبة فتخصيص الفناء فى اللّه بذلك الاسم اعتبارى لكونه أول مرتبة من مراتب الفناء (٤ معرفة ) إن السلوك على أنواع فسلوك البعض من غير تقدم الجذبة وفى البعض الجذبة مقدمة على سلوكهم وجماعة تحصل لهم الجذبة فى أثناء قطع منازل السلوك وطائفة يتيسر لهم طى منازل السلوك ولكنهم لا يصلون إلى حد الجذبة فتقدم الجذبة للمحبوبين وباقى الأقسام متعلقة بالمحبين وسلوك المحبين تحصل خلاصة المقامات العشرة لا حاجة لهم إلى الترتيب والتفصيل والعلم بوحدة الوجود من الإحاطة والسريان والمعية الذاتية كل ذلك مربوط بالجذبة المتقدمة أو المتوسطة وليس للسلوك الخاص وجذبة المنتهين مناسبة بأمثال هذه العلوم ولا مناسبة أيضا بين حق اليقين الخصوص بالمنتهيين وبين العلوم المناسبة بالتوحيد الوجودى ففى كل موضع بين فيه حق اليقين المخصوص بمقام المجذوبين مناسبا لمقام أرباب التوحيد الوجودى فهو حق اليقين المخصوص بالمجذوب المبتدى أو المتوسط (٥ معرفة ) قال بعض المشائخ إذا بلغ شغل الطالب الجذبة فدليله بعد ذلك هو تلك الجذبة فحسب يعنى أنه لا يحتاج إلى توسط دليل آخر بل تلك الجذبة كافية له فإن أراد بهذه الجذبة جذبة السير فى اللّه فنعم إنها كافية ولكن لفظ الدليل مناف لهذه الإرادة لأنه لا مسافة بعد السير فى اللّه حتى يحتاج فى قطعها إلى دليل وكذلك الجذبة المتقدمة يعنى على السلوك أيضا ليست بمرادة هنا كما هو معلوم من العبارة فيكون المراد بها بالضرورة جذبة المتوسط وكفايتها فى الوصول إلى المطلوب ليس بمعلوم فإن كثيرا من المتوسطين قد توقفوا وتقاعدوا من العروج إلى فوق عند حصول هذه الجذبة وزعموا تلك الجذبة جذبة النهاية فإن كانت كافية لما كانت تتركهم فى أثناء الطريق نعم إذا كانت الجذبة المتقدمة المتعلقة بالمحبوبين كافية فلها مجال يمكن أن تجر المحبوبين بسلسلة العناية ولا تتركهم فى أثناء الطريق ولكن كون هذه الكفاية فى حق جميع الجذبات المتقدمة ممنوع أيضا بل الجذبة إذا آل أمرها إلى السلوك فكافية وإلا فمجذوب أبتر وليس من المحبوبين ( الخاتمة ) قالت طائفة من المشائخ قدس اللّه أسرارهم إن التجلى الذاتى مزيل للشعور ومعطل للحس وقد أخبر بعضهم عن حاله بأنه سقط ووقع على الأرض عند ظهور هذا التجلى الذاتى وبقى مدة مديدة من غير حس وحركة حتى ظن الناس أنه قد مات وبعضهم منع الكلام وغيره فى التجلى الذاتى وحقيقة هذا الكلام أن التجلى هو حجاب اسم من الأسماء وبقاء الحجاب بواسطة بقايا أثر وجود صاحب التجلى يعنى المتجلى له وعدم الشعور أيضا بواسطة تلك البقية فإن كان فانيا بالتمام وشرف بالبقاء باللّه لا يسلب التجلى عنه الشعور أصلا ( شعر ). يحرق بالنار من يمس بها * ومن هو النار كيف يحترق ( بل ) أقول إن التجلى الذى فى الحجاب ليس هو تجليا ذاتيا بل داخل فى التجلى الصفاتى والتجلى المخصوص به صلى اللّه عليه وسلم بلا حجاب وعلامة وجود الحجاب فقدان الشعور وفقدان الشعور من البعد وعلامة عدم الحجاب وجود الشعور والشعور فى كمال الحضور وقد أخبر واحد من الأكابر عليه الرحمة والغفران عن حال صاحب هذا التجلى بالأصالة والاستقلال حيث قال ( شعر ). وأغمى موسى من تجلى صافته * وأنت ترى ذات الآله وتبسم وهذا التجلى الذاتى الذى لا حجاب فيه دائمى للمحبوبين وبرقى للمحبين فإن أبدان المحبوبين أخذت حكم أرواحهم وسرت تلك النسبة فى كليتهم وهذه السراية فى المحبين على سبيل الندرة وما وقع فى الحديث النبوى من قوله عليه الصلاة والسلام لى مع اللّه وقت ليس المراد بالوقت هذا التجلى البرقى فإن هذا التجلى فى حقه عليه الصلاة والسلام الذى هو رئيس المرادين دائمى بل هو نوع من خصوصيات هذا التجلى الدائمى واقع على سبيل الندرة والقلة كما لا يخفى على أربابه (٦ معرفة ) أن المشائخ قدس اللّه أسرارهم فى حديث لى مع اللّه وقت لا يسعنى فيه ملك مقرب ولا نبى مرسل على قسمين فطائفة أرادوا بالوقت الوقت المستمر وطائفة أخرى قالوا بندرة الوقت والحق أن الوقت النادر مع وجود استمرار الوقت متحقق أيضا كما مرت الإشارة إليه آنفا وتحقق هذا الوقت النادر عند هذا الحقير هو فى حين أداء الصلاة وكأن النبى صلى اللّه عليه وسلم أشار بقوله وقرة عينى فى الصلاة إلى ذلك وأيضا قال صلى اللّه عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من الرب فى الصلاة وقال تبارك وتعالى واسجد واقترب وكل وقت فيه القرب الإلهى أزيد فمجال الغير فيه أشد انتفاء وما قال بعض المشائخ قدس اللّه أسرارهم مخبرا عن حاله ووقته واستمراره حالى فى الصلاة كحال قبل الصلاة ينافى الأحاديث المذكورة بل النص المذكور ينفى المساواة والاستمرار ينبغى أن يعلم أن الاستمرار الوقت متحقق والكلام إنما هو فى أن الحالة النادرة مع وجود استمرار الوقت هل هى متحققة أولا والذى لم يطلعوا على ندرة الوقت قالوا ينفيها والذى لهم حظ من ذلك المقام اعترفوا بها والحق أن الذين أعطوا الجمعية فى الصلاة بتبعيته عليه الصلاة والسلام واحتظوا بدولة قرب ذلك الشرب أقل قليل رزقنا اللّه سبحانه بكمال كرمه نصيبا من هذا المقام بحرمة محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام (٧ معرفة ) أن المنتهيين من أرباب الصفات قريبون من المجذوبين فى العلوم والمعارف وكلا الطائفتين على وصف واحد فى الشهود فإن كليهما من أرباب القلوب غاية ما فى الباب أن أرباب الصفات مطلعون على التفاصيل بخلاف المجذوبين وأيضا أن أرباب الصفات فيهم بواسطة السلوك والعروج إلى فوق زيادة قرب النسبة إلى المجذوبين الذين لا عروج لهم ولكن محبة الأصل آخذة بيد المجذوبين وإن كان فى البين حجب ولا عجب لو اعتبر فى المجذوبين بحكم المرء مع من أحب قرب الأصل ومعيته فالمجذوبون لهم مناسبة بالمحبوبين فى المحبة فإن الحب الذاتى ولو مع الحجب متحقق فى المجذوبين أيضا (٨ معرفة ) قد وقع فى عبارة البعض من هذه الطائفة أن للأقطاب تجلى الصفات وللأفراد تجلى الذات وفى هذا الكلام مجال للتأمل فإن القطب محمدى المشرب والمحمديون لهم التجلى الذاتى نعم إن فى هذا التجلى أيضا تفاوتا كثيرا فإن القرب الذى للأفراد ليس للأقطاب ولكن لكليهما نصيب من التجلى الذاتى إلا أن نقول إنه يمكن أن يكون مراده من القطب قطب الأوتاد الذى هو على قدم إسرافيل عليه السلام لا على قدم محمد صلى اللّه عليه وسلم (٩ معرفة ) أن اللّه خلق آدم على صورته واللّه تعالى منزه عن الشبه والمثال وخلق روح آدم التى هى خلاصته على صورة لا شبهية ولا مثلية فكما أن الحق سبحانه لا مكانى كانت الروح أيضا لا مكانية ونسبة الروح إلى البدن كنسبته تعالى وتقدس إلى العالم لا داخلة فيه ولا خارجة عنه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه لا نفهم فيا نسبة سوى القيومية ومقوم كل ذرة من ذرات البدن هو الروح كما أن اللّه تبارك وتعالى قيوم العالم وقيوميته تعالى للبدن بواسطة الروح وكل فيض يرد منه سبحانه على البدن فمحل وروده ابتداء هو الروح ثم يصل ذلك الفيض بواسطة الروح إلى البدن ولما كانت الروح مخلوقة على صورة لا شبهية ولا مثلية لا جرم كان فيها مجال للاشبهى واللامثالى الحقيقى لا يعنى أرضى ولا سمائى ولكن يسعنى قلب عبدى والمؤمن فإن الأرض والسماء لما كانا مع وجود الوسعة فيهما داخلين فى دائرة المكان ومتسمين بسمة الشبه والمثال ليس فيهما مجال اللامكانى المقدس عن الشبه والمثال فإن اللا مكانى لا يسعه المكانى واللامثالى لا يتمكن فى المثالى فلا جرم تحقق السعة والمجال فى قلب عبده المؤمن الذى هو لا مكان ومنزه عن الشبه والمثال والتخصيص بقلب المؤمن مبنى على أن قلب غير المؤمن هابط عن أوج اللامكانى ومأسور للشبهى والمثالى وآخذ حكمة ولما كان داخلا فى دائرة المكانى بسبب ذلك النزول والأسر وأكتسب المثالية ضيع تلك القابلية أولئك كالأنعام بل هم أضل وكل من أخبر عن وسعة قلبه من المشائخ فمراده لا مكانية القلب فإن المكانى وإن كان وسيعا ضيق ألا ترى أن العرش مع وجود عظمته ووسعته لما كان مكانيا كان حكمة فى جنب اللامكانى الذى هو الروح كحكم الخردلة بل أقل بل أقول إن هذا القلب لما كان محل تجلى أنوار القدم بل وجد بقاء بالقدم لو وقع فيه العرش وما فيه لصار مضمحلا ومتلاشيا بحيث لا يبقى منه أثر كما قال سيد الطائفة فى هذا المقام إن المحدث إذا قورن بالقديم لم يبق له أثر وهذا لباس متفرد مخيط على قدر قد الروح خاصة وليست هذه الخصوصية للملائكة أيضا فإنهم داخلون فى دائرة المكانى ومتصفون بالمثالى فلا جرم كان الإنسان خليفة الرحمن ولا عجب فيه فإن صورة الشئ خليفة الشئ وما لم يخلق على صورة شئ لا يليق بخلافة الشئ وما لم يكن لائقا بالخلافة لا يقدر أن يتحمل ثقل أمانة أصله لا يحمل عطايا الملك إلا مطاياه قال تبارك وتعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا كثير الظلم على نفسه بحيث لا يبقى من وجدوده ولا من توابع وجوده أثرا ولا حكما كثير الجهل حتى لا يكون له إدراك والاعتراف بالجهل معرفة أكثرهم معرفة باللّه أكثرهم تحيرا فيه ( تنبيه ) فإن وقع فى بعض العبارات لفظ موهم بالظرفية والمظروفية فى شأنه تعالى وتقدس ينبغى أن يحمله على ضيق ميدان العبارة وأن يجعل المراد والمقصود من الكلام مطابقاً لآراء أهل السنة (١٠ معرفة ) إن العالم صغيرة وكبيرة مظاهر الأسماء والصفات الإلهية جل شأنه ومرايا الشئونات والكمالات الذاتية وهو سبحانه كان كنزا مكنونا وسرا مخزونا فأراد أن يعرض نفسه من الخلاء إلى الملاء وأن يورد الإجمال على التفصيل فخلق العالم ليدل على أصله وليكون علامة لحقيقته ولا نسبة بين العالم والصانع سوى أن العالم مخلوقة ودليل على كمالاته المخزونة تعالى وتقدس وكل حكم وراء ذلك من جنس الاتحاد والعينية والإحاطة والمعية من السكر وغلبة الحال والأكابر المستقيمو الأحوال الذين ذاقوا شرابا من قدح الصحو والوصال بترأون من هذه العلوم ويستغفرون من مثل هذا الحال وإن حصل لبعضهم هذه العلوم فى أثناء الطريق ولكنهم يجاوزونها بالأخرى ويمنحون علوما أزلية مطابقة لعلوم الشريعة ولنبين لتحقيق هذا المبحث مثالاً إن العالم التحرير ذا فنون مثلا أراد أن يبرز كمالاته المخزونة إلى عرصة الظهور وأن يجلى فنونه المكنونة إلى الملاء فأوجد الحروف والأصوات ليظهر فى حجب تلك الحروف والأصوات كمالاته المخزونة وفنونه المكنونة ففى هذه الصورة لا مناسبة بين تلك الحروف والأصوات وبين المعانى المخزونة بل بين العالم الموجد لها أصلا إلا أن العالم موجدها وهى دالة على كمالاته المخزونة ولا معنى فى القول بأن تلك الحروف والأصوات عين ذلك العالم الموجود أو عين تلك المعانى وكذلك الحكم بالإحاطة والمعية غير واقع فى تلك الحادثة بل المعانى على صرافتها المخزونة نعم حيث تحقق بين المعانى وصاحبها وبين الحروف والأصوات مناسبة الدالية والمدلولية ربما يحدث فى التخيل بعض المعانى الزائدة والأوهام الغير الواقعة والعالم ومعانية المخزونة منزهان ومبرآن بالحقيقة عن تلك النسبة الزائدة وهذه الحروف والأصوات موجودة فى الخارج لا إن العالم والمعانى موجود فقط والحروف والأصوات أوهام وخيالات فكذلك العالم الذى هو عبارة عما سواه تعالى موجود فى الخارج بالوجود الظلى والكون الطبعى لا إنه أوهام وخيالات فإن هذا المذهب هو عين مذهب السوفسطائى حيث يقولون إن العالم أوهام وخيالات وإثبات الحقيقة للعالم لا يخرجه عن أن يكون أوهام وخيالات بل تكون الحقيقة موجودة لا العالم فإن العالم وراء تلك الحقيقة المفروضة ( تنبيه ) أن المراد بمظهرية العالم ومرآتيته للأسماء والصفات كونه مظهر أو مرآءة لصور الأسماء والصفات لا لأعيان الأسماء والصفات فإن الاسم كالمسمى لا يكون محاطا بالمرآة أصلا والصفة كالموصوف لا تكون مقيدة بمظهر قطعا ( شعر ). وجل اسمه سبحانه مثل ذاته * كذا وصفه من أن يحاطا بمظهر (١١ معرفة ) أن كمال أتباعه صلى اللّه عليه وسلم وإن كان لهم بواسطة اتباعه صلى اللّه عليه وسلم نصيب من التجلى الذاتى الذى هو من خصائصه صلى اللّه عليه وسلم بالأصالة ولسائر الأنبياء عليهم السلام تجلى الصفات وتجلى الذات أشرف من تجلى الصفات ولكن ينبغى أن يعلم أن للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فى تجلى الصفات من مراتب القرب ما ليس لكمل التابعين من هذه الأمة مع وجود تجلى الذات بطريق التبعية وهذا كما أن شخصا مثلا إذا وصل إلى الشمس بطى مدارج العروج محبة لجمالها حتى لم يبق بينه وبين الشمس غير حائل رقيق وشخص آخر مع وجود محبته لذات الشمس عاجز عن العروج إلى تلك المراتب وإن لم يكن بينه وبين الشمس حائل أصلا فلا شك أن الشخص الأول أقرب إلى الشمس وأعلم بكمالاتها الدقيقة فكل من فيه القرب أزيد ومعرفته أكثر فهو أفضل وكماله أوفر فلا يبلغ ولى من أولياء هذه الأمة التى هى خير الأمم مع وجود أفضلية نبيهم مرتبة نبى من الأنبياء وإن حصل بمتابعة نبيه نصيب من مقام به الأفضلية والفضل الكلى إنما هو للأنبياء عليهم السلام والأولياء طفيليون وليكن هذا آخر الكلام والحمد للّه سبحانه على ذلك وعلى جميع نعمائه والصلاة والسلام على أفضل أنبيائه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وعلى الصديقين والشهداء والصالحين . |