٨٩ المكتوب التاسع والثمانون إلى القاضى إسماعيل الفريد آبادى فى شرح كلام الشيخ روز بهان البقلى مع بيان بعض دقايق التوحيد الوجودى. قال الشيخ الولى روز بهان البقلى قدس سره فى تبين غلطات الصوفية وغلط آخر أنهم يقولون الكل هو ويريدون بجميع هذه الجزئيات المتفرقة الحادثة ذاتا واحدة ويقول بعضهم ببعض بالرمز ما نحن إلا هو فيكون لهؤلاء الكفار مائة ألف آله ورب العالمين تعالى وتقدس منزه من جمع المحدثات وتفرقتها واحد لا سبيل إليه للجزء ولا يقبل الحلول ولا يكون متلونا وهم كفار بهذا القول لا يعرفون اللّه ولا يعرفون أنفسهم فإن كان الإنسان حقا كيف يكون فانياً وغلط القوم فى روح وغلط هؤلاء فى الجسم قاتلهم اللّه سبحانه انتهى ( لا يخفى ) أن عبارة الكل هو وإن لم تكن متعارفة فيما بين قدماء الصوفية قدس اللّه أسرارهم ولكن كان بينهم مثل أنا الحق وسبحانى وما فى جبتى سوى اللّه وأمثالها مما يعسر تعداده ومؤدى هذه العبارة وتلك العبارة واحد ( شعر ) . إذا ما تعدى الماء عن مفرق فلا * تقاوت فى مقدار رمح وأرماح مثل موزون مشهور وهذه العبارة شائعة ذائعة ما بين متأخرى الصوفية ويقولون الكل هو بلا تكلف ويصرون على هذا القول إلا أن القليل منهم لهم تردد فى هذه العبارة وأمثالها بل يظهرون صورة الإنكار عليها وما يفهمه هذا الفقير من معنى قولهم الكل هو أن جميع هذه الجزئيات المتفرقة الحادثة ظهور ذات واحدة تعالت وتقدست كما إذا انعكست صورة زيد فى مرايا متعددة وظهرت فيها فيقال الكل هو يعنى أن جميع هذه الصور التى ظهرت فى مرايا متعددة ظهور ذات واحدة لزيد فهنا أى جزئية واتحاد وأى حلول وتلون بل ذات زيد مع وجود الصور كلها على صرافتها وحالتها الأصلية مازادت هذه الصورة فيها شيأ وما نقصت لا اسم للصور فيما فيه ذات زيد ولا رسم حتى يحصل لها معها نسبة من نسب الجزئية والاتحاد والحلول والسريان ينبغى أن يطلب سرا لآن كما كان فى هذا المكان فإن مرتبته سبحانه وتعالى كما لم يكن للعالم فيها مجال قبل الظهور لا يكون له فيها مجال أيضاً بعد الظهور فلا جرم يكون الآن كما كان ( والعجب ) أن كثيراً من أكابر متقدمى الصوفية فهموا من هذه العبارة الممزوجة بشهد التوحيد معنى الحلول والاتحاد وكفروا قائليها وضللوهم وبعضهم يوجه هذه العبارة على نهج لا مناسبة له بمذاق قائليها بوجه ولا نسبة قال صاحب العوارف أن صدور أنا الحق من الحلاج وسبحانى من أبى يزيد البسطامى كان بطريق الحكاية يعنى من الحق سبحانه وتعالى فلو لم يكن بطريق الحكاية بل كان فيه شائبة الحلول والاتحاد نرد قائلى هذه الأقوال كما نرد النصارى لقولهم بالحلول والاتحاد وقد اتضح من التحقيق السابق أنه لا حلول فى هذه العبارة الشبيهة بالشطح والاتحاد والحمل فيها إنما هو باعتبار الظهور والشهود لا باعتبار الوجود كما فهموا وحملوا على الحلول والاتحاد وكان هذه المسئلة يعنى مسئلة التوحيد الوجودى لم تكن محررة وملخصة فيما بين متقدمى الصوفية كما ينبغى وكل من كان منهم مغلوب الحال ظهر منه كلمة فى التوحيد شبيهة بالقول بالاتحاد وهو لم يطلع على سرها من غلبة السكر ولم يصرفها من ظاهرها الذى يفهم منه شائبة الحلول والاتحاد ولما وصلت النوبة إلى الشيخ الأجل محى الدين بن العربى قدس سره شرح هذه المسئلة الدقيقة من كمال المعرفة وبوبها وفصلها ودونها تدوين الصرف والنحو ومع ذلك لم يفهم جمع من هذه الطائفة مراده فخطأوه وطعنوا فيه وأطلقوا عليه لسان الملام والشيخ محق فى أكثر تحقيقات هذه المسئلة والطاعنون فيه بعيدون عن الصواب ينبغى أن يعرف جلالة شأن الشيخ ووفور علمه من تحقيق هذه المسئلة لا أن يرده ويطعن فيه وكلما يمر على هذه المسئلة زمان تصير واضحة ومنقحة بتلاحق أفكار المتأخرين وتبعد عن شبهات الحلول والاتحاد ألا ترى أن النحو الذى صار الآن واضحاً ومنقحاً بتلاحق أفكار المتأخرين من النحويين لم يكن فيه ذلك التنقيح والوضوح فى زمان سيبويه والأخفش فإن تكميل الصناعة بتلاحق الأفكار وقد باحث الإمام الأعظم والإمام أبو يوسف فى مسئلة خلق القرآن ستة أشهر وجرى بينهما الرد والنقض ثم استقر رأيهما على أن من قال أن القرآن مخلوق يصير كافرا وطول هذه المنازعة إنما كان لعدم تنقيح هذه المسئلة فى ذلك الوقت والآن حيث كانت منقحة بتلاحق الأفكار نقول لو كان محل النزاع هو الحروف والكلمات الدالة على الكلام النفسى فلا شك أنها حادثة ومخلوقة وإن كان المراد هو المدلولات فقديمة وغير مخلوقة وهذا التنقيح من بركات تلاحق الأفكار ( ولنرجع ) إلى أصل الكلام فنقول إن لهذه العبارة معنى آخر بعيداً عن الحلول والاتحاد يعنى أن الكل معدوم والموجود هو اللّه تعالى لا أن الكل موجود ومتحد معه تعالى فإن هذا الكلام لا يتكلم به أبله فكيف يتصور صدوره عن الأكابر ولكن إذا كان ما سوى المحبوب مستورا عن نظر هؤلاء الأكابر عند غلبة المحبة ولم يبق غيره فى شهودهم وهم يقولون الكل هو يعنى أن جميع هذا الذى يرى ثابتا موهوم ومتخيل والموجود اللّه تعالى فعلى هذا التقدير ليست فيها شائبة الجزئية والاتحاد ولا مظنة الحلول والتلون ومع هو ذلك لا يستحسن هذا الفقير أمثال هذه العبارة وإن كانت مبرأة من هذه المفاسد لأنها ليست بلائقة بمرتبة تقديسه وتنزيهه تعالى وما مقدار هؤلاء الموجودات حتى تكون مظاهر له تعالى (ع) فى أى مرآة يكون مصوراً * وأين فيها استحقاق أن تكون محمولة عليه تعالى ولو باعتبار الظهور والشهود فإن كانت مظهرا فمظهر لظل من ظلال كمالاته تعالى ولعل بين ذلك الظل الذى صارت الموجودات مظهرا له وبين الذات تعالت وتقدست ألوفا من الحجاب ألم تسمع أن للّه تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة فحمل مظهر ظل من ظلال كماله سبحانه عليه تعالى من غير تحاش والقول بأنه هو سوء أدب وكمال جراءة ولكن لما كان صدور ذلك فى غلبة الحال واستيلاء السكر ليس بمذموم جدا وكذلك اعتقاد مشهودهم عين الحق على الوجيه الثانى وحمله عليه تعالى بهذا الاعتبار أيضاً سوء أدب بل خلاف الواقع فإن ذلك المشهود أيضاً ظل من ظلال كمالاته تعالى وهو تعالى وراء الوراء ثم وراء الوراء وأيضاً أن كل ما هو مشهود ومستحق للنفى فلا يكون الحق جل وعلا قال الخواجه النقشبند قدس سره كلما يكون مسموعا ومرئياً ومدركا فهو غير الحق سبحانه ينبغى نفيه بحقيقة كلمة لا وما هو مختار هذا الفقير فى هذه المسئلة والمناسب لشأن التقديس والتزيه عبارة الكل منه لا بمعنى يقتصر عليه علماء الظاهر ويقولون أن صدور الخلق كله منه فإن هذا وإن كان صادقاً ولكن مع ذلك هنا علاقة أخرى أيضاً لم يهتد العلماء إليها وامتازت الصوفية بإدراكها ووجدانها وهى الارتباط بين الأصالة والظلية يعنى أن وجود الممكن ناش من وجود الواجب تعلى وظل لوجوده سبحانه وكذلك حياته ناشئة من صفة حياته سبحانه وظل لتلك الحياة المقدسة وعلى هذا القياس العلم والقدرة والإرادة وغيرها فالعالم على رأى الصوفية صادر من الحق سبحانه وظل لكمالاته وناش من تلك الكمالات المنزهة مثلا الوجود الذى أعطيه الممكن ليس هو أمر على حدة مستقل برأسه بل هو وجود الواجب تعالى وكذلك الحياة والعلم وغيرهما مما أعطيه الممكن ليست أمورا ثبت لها الاستقلال من الواجب تعالى بل هى مع وجود صدورها عن الواجب تعالى ظلال كمالاته سبحانه وصورها وأمثالها والاهتداء إلى هذا الارتباط يعنى ارتباط الأصالة والظلية رفع معاملة الصوفيين إلى أعلى عليين وأوصلهم إلى الفناء والبقاء وجعلهم متحققين بالولاية الخاصة ولما لم يتيسر لعلماء الظاهر هذه الرؤية والاهتداء لم يصبهم نصيب من الفناء والبقاء ولم يتحققوا وبالولاية الخاصة والصوفية وجدوا كمالاتهم ظلال كمالات الواجب وعلموا أن الوجود وتوابع الوجود عكوس تلك الكمالات فلا جرم لم يروا أنفسهم غير حاملى أمانات كمالاته سبحانه ولم يجدوا أنفسهم سوى أن يكونوا مرايا لتلك الكمالات فإذا أدوا هذه الأمانات بحكم ان اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها الآية إلى أهل الأمانات وأعطوا هذه الكمالات بالتمام إلى الأصل ذوقا يجدون أنفسهم معدومين ميتين فإنه لما ذهب الوجود والحياة إلى الأصل بقوا معدومين وميتين فتحقق الفناء للمولوى الرومى رحمه اللّه ( شعر ) . فإذا عرفته أنت من هو أولاً * ونسبت نفسك نحو حضرته العلا وعرفت أنك ظل من يا من درى * كن فارغا حيا وميتا من ملا فمن تشرف بالبقاء بعد الفناء أعطى الوجود وتوابع الوجود من الصفات الكاملة مرة ثانية ويتحقق بالولادة الثانية لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين (ع) هنيئا لأرباب النعيم نعيمها * إلهى قد أطلق من ضيق العبارة الألفاظ التى لم يرد الشرع بإطلاقها كالظلية وغيرها وأقول أن وجود الممكن ظل وجود الواجب تعالى وصفاته ظلال صفاته الكاملة وأنا خائف وجل من هذه الإطلاقات وإذ قد سبق أولياؤك بإطلاق هذه العبارات نرجوالعفو والمعافاة ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( ينبغى ) أن يعلم أنه قد اتضح من التحقيق السابق أن الصوفية القائلون بكلام الكل هو لا يعتقدون اتحاد العالم بالحق جل وعلا ويثبتون الحلول والسريان والحمل الذى يحصل من كلامهم هذا فإنما هو باعتبار الظهور والظلية لا باعتبار الوجود والتحقق وإن توهم من ظاهر عباراتهم الاتحاد الوجودى ولكن حاشاهم من أن يكون مرادهم ذلك فإنه كفر وإلحاد فإذا كان حمل أحدهما على الآخر باعتبار الظهور والشهود لا باعتبار الوجود كان معنى الكل هو الكل منه فإن ظل الشئ ناش من ذلك الشئ وإن كانوا يقولون وقت غلبة الحال الكل هو ولكن يكون مرادهم من هذه العبارة فى الحقيقة الكل منه فلا مجال فى الطعن فى كلامهم والحكم بتضليل قائليه وتكفيرهم ( اعلم ) أن ظل شئ عبارة عن ظهور الشئ فى مرتبة ثانية أو ثالثة أو رابعة مثلا أن صورة زيد المنعكسة فى المرآة ظل زيد وظهوره فى مرتبة ثانية وزيد فى الحقيقة فى مرتبة وجوده الأصلى أظهر نفسه فى المرآة بالظل من غير أن يطرأ له فى ذاته وصفاته تلون وتغير كما مر ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شئ قدير والسلام على من اتبع الهدى . |