٢٣ المكتوب الثالث والعشرون إلى الخواجه إبراهيم القباديانى فى بيان أن اللّه تعالى أخبر بواسطة الأنبياء عليهم السلام عن ذاته وصفاته وأعمال العبادة المرضية وغير المرضية التى لا مدخل فيها للعقل. الحمد للّه الذى أنعم علينا وهدانا إلى الإسلام وجعلنا من أمة محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام إن الأنبياء رحمات للعالمين أخبر الحق سبحانه وتعالى بواسطة بعثة هؤلاء الأكابر عن ذاته وصفاته لأمثالنا ناقصى العقول وقاصرى الإدراك وأطلعنا على كمالاته الذاتية والصفاتية بمقياس أفهامنا وفرق مراضيه عن غير مراضيه وميز منافعنا الدنيوية والأخروية عن مضارنا فلو لم يكن توسط وجودهم الشريف لكانت العقول البشرية عاجزة فى إثبات الصانع تعالى وقاصرة فى إدراك كمالاته تعالى وكانت قدماء الفلاسفة الذين يزعمون أنفسهم أكابر أرباب العقول منكرين للصانع عز وجل وكانوا ينسبون الأشياء إلى الدهر من نقصان عقولهم ومجادلة النمرود الذى كان سلطان جميع أهل الأرض مع الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام فى إثبات خالق السموات والأرض مشهورة وفى القرآن المجيد مذكورة وقال فرعون المخذول ما علمت لكم من إله غيرى وقال أيضاً خطابا لموسى عليه السلام لئن اتخذت إلهاً غيرى لأجعلنك من المسجونين وقال أيضاً لهامان يا هامان ابن لى صرحاً لعلى أبلغ الأسباب* أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه كاذبا ( وبالجملة ) إن العقل قاصر فى إثبات هذه الدولة العظمى لا يكاد يهتدى إليها بدون هداية هؤلاء الأكابر ولما اشتهرت دعوة الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات إلى اللّه الذى هو خالق الأرض والزمان والسموات وتواترت وعلت كلماتهم وارتفعت اطلع سفهاء كل وقت كان لهم تردد فى ثبوت الصانع على قبائحهم وقالوا بوجود الصانع بلا اختيار وجعلوا الأشياء مستندة إليه تعالى وهذا نور مقتبس من أنوار الأنبياء ونعمة مستفادة من موائدهم عليهم الصلوات والتسليمات إلى يوم التناد بل إلى أبد الآباد وكذلك سائر السمعيات بلتنا بتبليغ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وجود صفاته تعالى الكاملة وبعثة الأنبياء وعصمة الملائكة عليهم السلام ومن الحشر والنشر ومن وجود الجنة والنار والتنعيم والتعذيب الدائمين وأمثالها مما نطقت به الشريعة والعقل قاصر عن إدراكه وناقص فى إثباته من غير سماع من هؤلاء الأكابر لا استقلال له فى شئ منها وكما أن طور العقل وراء طور الحس حيث يدرك بالعقل ما لا يدرك بالحس طور النبوة أيضاً وراء طور العقل يدرك بها ما لا يدرك بالعقل ومن لم يثبت للمعرفة طريقاً وراء طور العقل فهو فى الحقيقة منكر لطور النبوة ومصادف للبداهة فلابد من وجود الأنبياء ليدلوا على كيفية أداء شكر النعم الذى هو واجب عقلا وليظهروا تعظيم مولى النعم جل وعلا المتعلق بالعلم والعمل المتلقى من قبله سبحانه فإن التعظيم الذى لم يكن مستفاداً من عنده سبحانه لا يكون لائقاً بأداء شكره تعالى فإن القوة البشرية عاجزة عن إدراكه بل كثيرا ما يظن غير تعظيمه تعالى تعظيما فيعدل عن الشكر إلى الهجو وطريق استفادة تعظيمه سبحانه من حضرته تعالى وتقدس مقصور على النبوة ومنحصر فى تبليغ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والإلهام الذى هو للأولياء عليهم السلام مقتبس من انوار النبوة ومستفاض من بركات متابعة الأنبياء وفيوضها فلو كان العقل كافيا فى هذا الأمر لما بقى فلاسفة اليونان الذين جعلوا مقتداهم عقولهم فى تيه الضلالة ولعرفوا الحق سبحانه قبل كل الناس والحال أن أشد الناس جهالة فى ذات الحق وصفاته سبحانه هو هؤلاء حيث زعموا الحق سبحانه فارغا ومعطلاً ولم يجعلوا غير شئ واحد مستندا إليه تعالى وهو أيضاً بالإيجاب لا بالاختيار ونختوا من عندهم عقلا فاعلا ونسبوا الحواث إليه ما نعين إياها من خالق السموات والأرض وصرفوا الأثر عن المؤثر الحقيقى جل شأنه وزعموه أثر منحوتهم فإن المعول عندهم أثر العلة القريبة لا يرون للعلة البعيدة تأثيرا فى حصول المعلول وزعموا عدم استناد الأشياء إليه سبحانه من جهلهم كمالا له سبحانه وظنوا التعطيل تبجيلا إياه والحال إن الحق سبحانه يمدح نفسه بخلق السموات والأرض ويقول فى مدح نفسه رب المشرق ورب المغرب ولا احتياج لهؤلاء السفهاء إلى حضرة الحق سبحانه بزعمهم الفاسد أصلا ولا التجاء لهم إليه تعالى قطعاً ينبغى لهم أن يراجعوا وقت الاضطرار والاحتياج إلى العقل الفعال وأن يطلبوا قضاء حوائجهم منه بل لا يتصور طلب قضاء الحاجة من العقل الفعال أيضاً لكونه موجباً ومضطرا غير مختار فى زعمهم أن الكافرين لا مولى لهم وما هو العقل الفعال حتى يدبر الأشياء وتكون الحوادث مستندة إليه وفى نفس وجوده وثبوته ألف كلمة فإن تحققه وحصوله مبتن على المدمات المموهة الفلسفية التى هى غير تامة على الأصول الإسلامية والأبله من يصرف استناد الأشياء عن القادر المختار جل شأنه ويجعلها مستندة إلى مثل هذا الأمر الموهوم بل يلحق الأشياء ألف عار فضيحة من كونها مستندة إلى منحوت الفلسفى بل الأشياء تكون راضية ومسرورة بعدمها ولا تميل إلى الوجود أصلا من فضيحة استناد وجودها إلى مجعول الفلسفى وخوف الحرمان من سعادة الانتساب إلى قدرة القادر المختار جل سلطانه كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا وكفار دار الحرب مع وجود عبادة الأصنام أحسن حالا من هذه الجماعة فإنهم يلتجئون إلى الحق سبحانه فى المضايق ولا يجعلون أصنامهم غير وسائل الشفاعة عنده تعالى وأعجب من هذا أن جماعة يمسون هؤلاء السفهاء حكماء وينسبون أقوالهم إلى الحكمة وأكثر أحكامهم سيمافى الإلهيات التى هى المقصد الأسنى كاذبة ومخالفة للكتاب والسنة فبأى اعتبار يطلق الحكماء على هؤلاء الذين لا نصيب لهم غير الجهل المركب اللّهم إلا إذا قيل على سبيل التهكم والاستهزاء أو يعد من قبيل إطلاق البصر على الأعمى ( وجمع ) من هذه السفهاء اختاروا طريق الرياضات والمجاهدات من غير التزام طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل بمجرد تقليد صوفيه الهية كانوا فى كل عصر من متابعى الأنبياء عليهم السلام واغتروا بصفاء أوقاتهم واعتمدوا على مناماتهم وخيالاتهم وجعلوا كشوفهم الخيالية مقتداهم فى سائر حالاتهم ضلوا فأضلوا ولم يعلموا أن ذلك الصفاء هو صفاء النفس الذى يؤدى إلى طريق الضلالة لا صفاء القلب الذى هو روزنة الهداية فإن صفاء القلب منوط بمتابعة الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات وتزكية النفس مربوطة بصفاء القلب وسياسته إياها وحكم تصفية النفس مع وجود ظلمة القلب الذى هو محل ظهور أنوار القدم كحكم اسراج سراج لنهب العدو الذى هو فى الكمين وهو إبليس اللعين ( وبالجملة ) إن طريق الرياضة والمجاهدة كطريق النظر والاستدلال إنما يعتبر ويعتمد عليه إذا كان مقرونا بتصديق الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات الذين يبلغون الأمانة من قبل الحق جل وعى ومؤيدون بتأييده سبحانه ومعاملتهم محفوظة من كيد اللعين ومكره بنزول الملائكة المعصومين إن عبادى ليس لك عليهم سلطان نقد وقتهم وهذه الدولة لم تتيسر لغيرهم ولم يحصل لهم التخلص من شرك اللعين إلا إذا التزم متابعة هؤلاء الأكابر ومشى على آثارهم عليهم الصلوات والتسليمات . ومن المحال المشى فى طرق الصفا * يا سعد من غير أتباع المصطفى عليه وعلى جميع إخوانه الصلوات والتسليمات العلى سبحان اللّه إن أفلاطون الذى هو رئيس الفلاسفة أدرك دولة بعثة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ولم يصدقه زعما منه بجهالته أنه مستغن عنه ولم ينل نصيباً من بركات النبوة ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور قال اللّه تبارك وتعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون والعجب أن طور عقول الفلاسفة الناقصة كأنه واقع على طرف نقيض طور النبوة فى المبداء وفى المعاد وإحكامهم مخالفة لأحكام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم ما صححوا الإيمان باللّه ولا الإيمان بالآخرة وقالوا بقدم العالم والحال أن الإجماع المتين منعقد على حدوث العالم بجميع أجزائه ولم يقولوا بانشقاق السموات وانتشار الكواكب واندكاك الجبال وانفجار البحار الموعودة فى يوم القيمة وينكرون حشر الأجساد ويخالفون النصوص القرآنية ومتأخروهم الذين عدوا أنفسهم داخلين فى زمرة أهل الإسلام راسخون فى أصولهم الفلسفية كما هى وقائلون بقدم السموات والكواكب وأمثالها وحاكمون بعدم فنائها وهلاكها قوتهم تكذيب النصوص القرآنية ورزقهم إنكار ضروريات الدين والمسائل اليقينية يؤمنون باللّه وبرسوله ولا يقبلون ما أمر اللّه به ورسوله فهل تتجاوز السفاهة عن ذلك ( شعر ) . أكثر فلسفة جاسها فكذا * جميعه إذ كل لكل حكم أكثره وهذه الجماعة صرفوا أعمارهم فى تعليم آله عاصمة للذهن عن الخطاء الفكرى وتعلمه ودققوا فيها تدقيقات كثيرة ولما بلغوا المقصد الأقصى يعنى مسائلة والصفات والأفعال الواجبة جل سلطانه ضيعوا حواسهم وأضاعوا الآله العاصمة وخبطوا خبط عشواء وبقوا فى تبه الضلالة كمن يهيئ آلات الحرب سنين ثم إذا جاء وقت الحرب يضيع حواسه ولا يستعمل الآلة والناس يظنون علوم الفلاسفة متسقة ومنتظمة ويزعمونها محفوظة عن الغلط والخطأ ومصونة وعلى تقدير التسليم إنما يكون هذا الحكم صادقا فى علوم للعقل فيها استقلال واستبداد وهى خارجة عن المبحث وداخلة فى دائرة ما لا يعنى لا تعلق لها بالآخرة التى هى دائمية والنجاة الأخروية ليست بمربوطة بها فإن الكلام إنما هو فى علوم العقل عاجز عن إدراكها وقاصر ومربوطة بطور النبوة والنجاة الأخروية منوطة بها قال حجة الإسلام الإمام الغزالى فى رسالته المنقذ عن الضلال إن الفلاسفة سرقوا علم الطب وعلم النجوم من كتب الأنبياء المتقدمين على نبينا وعليهم الصلاة والسلام واقتبسوا خواص الأدوية وغيرها مما لا سبيل للعقل إلى إدراكه من الصحف والكتب المنزلة إلى الأنبياء عليهم السلام وسرقوا علم تهذيب الأخلاق عن كتب الصوفية المتألهين الموجودين فى كل عصر وفى أمة كل نبى لترويج أباطيلهم فهذه العلوم الثلاثة المعتبرة لديهم كانت مسروقة وقد ذكرت شمة من خبطهم فى العلم الإلهى فى مباحث الذات والصفات والأفعال الواجبية وفى الإيمان باللّه والإيمان بالآخرة ومخالفتهم النصوص القرآنية فيما سبق فبقى علم الهندسة ومثله مما له نوع اختصاص به فلو كان متسقا ومنتظماً فما لزومه ولأى شئ يحتاج إليه وأى عذاب الآخرة يبعد به ويدفع علامة إعراض اللّه تعالى عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه وكما هو غير نافع فى الآخرة فهو مما لا يعنى وعلم المنطق الذى هو آلة وقالوا أنه عاصم عن الخطاء لم ينفعهم ولم يخرجهم عن الغلط والخطأ فى المقصد الأسنى كيف ينفع الآخرين وكيف يخلصهم عن الخطاء ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وبعض الناس الذين لهم رغبة فى العلوم الفلسفية ومفتونون بالتسويلات الفلسفية يعتقدون هذه الجماعة حكماء ويزعمونهم عديل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل يكادون يقدمون علومهم الكاذبة بظن إنها صادقة على شرائع الأنبياء عليهم السلام أعاذنا اللّه سبحانه عن الاعتقاد السوء نعم إذا اعتقدوا هؤلاء حكماء وزعموا علومهم حكمة يقعون فى هذا البلاء بالضرورة فإن الحكمة عبارة عن العلم بالشئ مطابقاً لنفس الأمر فتكون العلوم التى تخالفها غير مطابقة لنفس الأمر ( وبالجملة ) إن تصديق هؤلاء وتصديق علومهم مستلزم لتكذيب الأنبياء وتكذيب علومهم عليهم الصلواة والتحيات وهذان العلمان واقعان فى طرفى النقيض فتصديق أحدهما مستلزم لتكذيب الآخر من شاء فليلتزم ملة الأنبياء يكن من حزب اللّه سبحانه ومن أهل النجاة ومن شاء فليكن فلسفيا يكن من حزب الشيطان وخائبا وخاسرا قال اللّه تبارك وتعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر أنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا بغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا والسلام على من اتبع الهدى والتزم متابعة المصطفى عليه وعلى جميع إخوانه من الأنبياء الكرام والملائكة العظام أتم الصلوات وأكمل التسليمات والسلام . |