مسألة ١٦مسألة في إبطال قولهم إن نفوس السموات مطلعة على جميع الجزئيات الحادثة في هذا العالموإن المراد باللوح المحفوظ نفوس السموات وإن انتقاش جزئيات العالم فيها يضاهي انتقاش المحفوظات في القوة الحافظة المودعة في دماغ الإنسان لا أنه جسم صلب عريض مكتوب عليه وإذا لم يكن للمكتوب نهاية لم يكن للمكتوب عليه نهاية ولا يتصور جسم لا نهاية له ولا يمكن خطوط لا نهاية لها على جسم ولا يمكن تعريف أشياء لا نهاية لها بخطوط معدودة. مذهبهم وقد زعموا أن الملائكة السماوية هي نفوس السموات وأن الملائكة الكرويين المقربين هي العقول المجردة التي هي جواهر قائمة بأنفسها لا تتحيز ولا تتصرف في الأجسام وأن هذه الصور الجزئية تفيض على النفوس السماوية منها وهي أشرف من الملائكة السماوية لأنها مفيدة وهي مستفيدة والمفيد أشرف من المستفيد ولذلك عبر عن الأشرف بالقلم فقال تعالى: علم بالقلم لأنه كالنقاش المفيد مثل المعلم وشبه المستفيد باللوح. هذا مذهبهم. هو محال فنطالبهم بالدليل عليه والنزاع في هذه المسألة يخالف النزاع فيما قبلها فإن ما ذكروه من قبل ليس محالاً إذ منتهاه كون السماء حيواناً متحركاً لغرض وهو ممكن. أما هذه فترجع إلى إثبات علم لمخلوق بالجزئيات التي لا نهاية لها وهذا ربما يعتقد استحالته فنطالبهم بالدليل عليه فإنه تحكم في نفسه. استدلالهم: إرادة الحركة بإرادة دورية جزئية استدلوا فيه بأن قالوا: ثبت أن الحركة الدورية إرادية والإرادة تتبع المراد والمراد الكلي لا يتوجه إليه إلا إرادة كلية والإرادة الكلية لا يصدر منها شيء فإن كل موجود بالفعل معين جزئي والإرادة الكلية نسبتها إلى آحاد الجزئيات على وتيرة واحدة فلا يصدر عنها شيء جزئي بل لا بد من إرادة جزئية للحركة المعينة. فهي تدرك الجزئيات بإدراك جزئي فللفلك بكل حركة جزئية معينة من نقطة إلى نقطة معينة إرادة جزئية لتلك الحركة فله لا محالة تصور لتلك الحركات الجزئية بقوة جسمانية إذ الجزئيات لا تدرك إلا بالقوى الجسمانية فإن كل إرادة فمن ضرورتها تصور لذلك المراد أي علم به سواء كان جزئياً أو كلياً. وبالتالي تدرك لوازمها ومهما كان للفلك تصور لجزئيات الحركات وإحاطة بها أحاط لا محالة بما يلزم منها من اختلاف النسب مع الأرض من كون بعض أجزائه طالعة وبعضها غاربة وبعضها في وسط سماء قوم وتحت قدم قوم وكذلك يعلم ما يلزم من اختلاف النسب التي تتجدد بالحركة من التثليث والتسديس والمقابلة والمقارنة إلى غير ذلك من الحوادث السماوية إما بغير واسطة وإما بواسطة واحدة وإما بوسائط كثيرة. وعلى الجملة فكل حادث فله سبب حادث إلى أن ينقطع التسلسل بالارتقاء إلى الحركة السماوية الأبدية التي بعضها سبب للبعض. فإذن الأسباب والمسببات في سلسلتها تنتهي إلى الحركات الجزئية السماوية فالمتصور للحركات متصور للوازمها ولوازم لوازمها إلى آخر السلسلة. وبالتالي تدرك كل ما سيحدث فبهذا يطلع على ما يحدث فإن كل ما سيحدث فحدوثه واجب عن علته مهما تحققت العلة. ونحن إنما لا نعلم ما يقع في المستقبل لأنا لا نعلم جميع أسبابها ولو علمنا جميع الأسباب لعلمنا المسببات فإنا مهما علمنا أن النار سيلتقي بالقطن مثلاً في وقت معين فنعلم احتراق القطن ومهما علمنا أن شخصاً سيأكل فنعلم أنه سيشبع وإذا علمنا أن شخصاً سيتخطى الموضع الفلاني الذي فيه كنز مغطى بشيء خفيف إذا مشى عليه الماشي تعثر رجله بالكنز وعرفه فنعلم أنه سيستغني بوجود الكنز. ولكن هذه الأسباب لا نعلمها وربما نعلم بعضها فيقع لنا حدس بوقوع المسبب فإن عرفنا أغلبها وأكثرها حصل لنا ظن ظاهر بالوقوع. فلو حصل لنا العلم بجميع الأسباب لحصل بجميع المسببات إلا أن السماويات كثيرة ثم لها اختلاط بالحوادث الأرضية وليس في القوة البشرية الاطلاع عليه ونفوس السموات مطلعة عليها لاطلاعها على السبب الأول ولوازمها ولوازم لوازمها إلى آخر السلسلة. قولهم: يرى النائم ما يكون في المستقبل وذلك باتصاله باللوح المحفوظ أي بنفس الفلك ولهذا زعموا: يرى النائم في نومه ما يكون في المستقبل وذلك باتصاله باللوح المحفوظ ومطالعته ومهما اطلع على الشيء ربما بقي ذلك بعينه في حفظه وربما تسارعت القوة المتخيلة إلى محاكاتها فإن من غريزتها محاكاتها الأشياء بأمثلة تناسبها بعض المناسبة أو الانتقال منها إلى أضدادها فينمحى المدرك الحقيقي عن الحفظ ويبقى مثال الخيال في الحفظ فيحتاج إلى تعبير ما يمثل الخيال الرجل بشجر والزوجة بخف والخادم ببعض أواني الدار وحافظ مال البر والصدقات بزيت البذر فإن البذر سبب للسراج الذي هو سبب الضياء وعلم التعبير يتشعب عن هذا الأصل. وهذا الاتصال مشغولون عنه في يقظتنا بما تورده الحواس وزعموا أن الاتصال بتلك النفوس مبذول إذ ليس ثم حجاب ولكنا في يقظتنا مشغولون بما تورده الحواس والشهوات علينا فاشتغالنا بهذه الأمور الحسية صرفنا عنه وإذا سقط عنا في النوم بعض اشتغال الحواس ظهر به استعداد ما للاتصال. والنبي يرى في اليقظة وزعموا أن النبي مطلع على الغيب بهذا الطريق أيضاً. إلا أن القوة النفسية النبوية قد تقوى قوة لا تستغرقها الحواس الظاهرة فلا جرم يرى هو في اليقظة ما يراه غيره في المنام. ثم القوة الخيالية تمثل له ما رآه وربما يبقى الشيء بعينه في ذكره وربما يبقى مثاله فيفتقر مثل هذا الوحي إلى التأويل كما يفتقر مثل ذلك المنام إلى التعبير. ولولا أن جميع الكائنات ثابتة في اللوح المحفوظ لما عرف الأنبياء الغيب في يقظة ولا منام لكن جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ومعناه هذا الذي ذكرناه. فهذا ما أردنا أن نورده لتفهيم مذهبهم. جوابنا: لا دليل لكم في هذا عن النبي والجواب أن نقول: بم تنكرون على من يقول إن النبي يعرف الغيب بتعريف اللّه على سبيل الابتداء وكذى من يرى في المنام فإنما يعرفه بتعريف أو بتعريف ملك من الملائكة فلا يحتاج إلى شيء مما ذكرتموه فلا دليل في هذا ولا دليل لكم في ورود الشرع باللوح والقلم فإن أهل الشرع لم يفهموا من اللوح والقلم هذا المعنى قطعاً فلا متمسك في الشرعيات يبقي التمسك بمسالك العقول. وما ذكرتموه وإن اعترف بإمكانه مهما لم يشترط نفي النهاية عن هذه المعلومات فلا يعرف وجوده ولا يتحقق كونه وإنما السبيل فيه أن يتعرف من الشرع لا من العقل. ننازع في ثلاث من المقدمات وأما ما ذكرتموه من الدليل العقلي أولاً فمبني على مقدمات كثيرة لسنا نطول بإبطالها ولكننا ننازع في ثلث مقدمات منها: تكلمنا عن حركة الفلك الإرادية المقدمة الأولى قولكم إن حركة السماء إرادية. وقد فرغنا من هذه المسألة وإبطال دعواكم فيها. لا نسلم افتقار الإدراك إلى إرادة جزئية الثانية أنه إن سلم ذلك مسامحة به فقولكم إنه يفتقر إلى تصور جزئي للحركات الجزئية فغير مسلم بل ليس ثم جزء عندكم في الجسم فإنه شيء واحد وإنما يتجزا بالوهم ولا في الحركة فإنها واحدة بالاتصال فيكفي تشوقها إلى استيفاء الأيون الممكنة لها كما ذكروه ويكفيها التصور نسلم هذا في شأن المتوجه إلى مكان ولنمثل للإرادة الكلية والجزئية مثالاً لتفهيم غرضهم. فإذا كان للإنسان غرض كلي في أن يحج بيت اللّه مثلاً فهذه الإرادة الكلية لا يصدر منها الحركة لا الحركة تقع جزئية في جهة مخصوصة بمقدار مخصوص بل لا يزال يتجدد للإنسان في توجهه إلى البيت تصور بعد تصور للمكان الذي يتخطاه والجهة التي يسلكها ويتبع كل تصور جزئي إرادة جزئية للحركة عن المحل الموصول إليه بالحركة. فهذا ما أرادوه بالإرادة الجزئية التابعة للتصور الجزئي وهو مسلم لأن الجهات متعددة في التوجه إلى مكة والمسافة غير متعينة فيفتقر تعين مكان عن مكان وجهة عن جهة إلى إرادة أخرى جزئية. لا في شأن الفلك وأما الحركة السماوية فلها وجه واحد فإن الكرة إنما تتحرك على نفسها وفي حيزها لا تجاوزها والحركة مرادة وليس ثم إلا وجه واحد وجسم واحد وصوب واحد فهو كهوى الحجر إلى أسفل فإنه يطلب الأرض في أقرب طريق وأقرب الطرق الخط المستقيم فتعين الخط المستقيم فلو يفتقر فيه إلى تجدد سبب حادث سوى الطبيعة الكلية الطالبة للمركز مع تجدد القرب والبعد والوصول إلى حد والصدور عنه فكذلك يكفي في تلك الحركة الإرادة الكلية للحركة ولا يفتقر إلى مزيد. فهذه مقدمة تحكموا بوضعها. نبطل معرفة لوازم الحركة المقدمة الثالثة وهي التحكم البعيد جداً قولهم إنه إذا تصور الحركات الجزئية تصور أيضاً توابعها ولوازمها وهذا هوس محض كقول القائل إن الإنسان إذا تحرك وعرف حركته ينبغي أن يعرف ما يلزم من حركته من موازاة ومجاوزة وهو نسبته إلى الأجسام التي فوقه وتحته ومن جوانبه وأنه إذا مشى في شمس ينبغي أن يعلم المواضع التي عليها ظله والمواضع التي لا يقع وما يحصل من ظله من البرودة بقطع الشعاع في تلك المواضع وما يحصل من الإنضغاط لأجزاء الأرض تحت قدمه وما يحصل من التفرق فيها وما يحصل في أخلاطه في الباطن من الاستحالة بسبب الحركة إلى الحرارة وما يستحيل من أجزائه إلى العرق وهلم جرا إلى جميع الحوادث في بدنه وفي غيره من بدنه مما الحركة علة فيه أو شرط أو مهيء ومعد وهو هوس لا يتخيله عاقل ولا يغتر به إلا جاهل وإلى هذا يرجع هذا التحكم. الجزئيات المعلولة لنفس الفلك قد لا تكون الموجودة في الحال فقط. على أنا نقول: هذه الجزئيات المفصلة المعلومة لنفس الفلك هي الموجودة في الحال أو ينضاف إليها ما يتوقع كونها في الاستقبال. فإن قصرتموه على الموجود في الحال بطل إطلاعه على الغيب وإطلاع الأنبياء في اليقظة وسائر الخلق في النوم على ما سيكون في الاستقبال بواسطة ثم بطل مقتضى الدليل فإنه تحكم بأن من عرف الشيء عرف لوازمه وتوابعه حتى لو عرفنا جميع أسباب الأشياء لعرفنا جميع الحوادث المستقبلة وأسباب جميع الحوادث حاضرة في الحال فإنها هي الحركة السماوية ولكن تقتضي المسبب إما بواسطة أو بوسائط كثيرة. ولا في الاستقبال إلى غير نهاية. وإذا تعدى إلى المستقبل لم يكن له آخر فكيف يعرف تفصيل الجزئيات في الاستقبال إلى غير نهاية وكيف يجتمع في نفس مخلوق في حالة واحدة من غير تعاقب علوم جزئية مفصلة لا نهاية لأعدادها ولا غاية لآحادها ومن لا يشهد له عقله باستحالة ذلك فلييأس من عقله. نفس الفلك أشبه بنفس الإنسان فإن قلبوا هذا علينا في علم اللّه فليس تعلق علم اللّه بالاتفاق بمعلوماته على نحو تعلق العلوم التي هي للمخلوقات بل مهما دار نفس الفلك دورة نفس الإنسان كان من قبيل نفس الإنسان فإنه شاركه في كونه مدركاً للجزئيات بواسطة فإن لم يلتحق به قطعاً كان الغالب على الظن أنه من قبيله فإن لم يكن غالباً على الظن فهو ممكن والإمكان يبطل دعواهم القطع بما قطعوا به. قولهم: إن نفس الإنسان تدرك جميع الأشياء لولا انشغالها فإن قيل: حق النفس الإنسانية في جوهرها أن تدرك أيضاً جميع الأشياء ولكن اشتغالها بنتائج الشهوة والغضب والحرص والحقد والحسد والجوع والألم وبالجملة عوارض البدن وما يورده الحواس عليه حتى إذا أقبلت النفس الإنسانية على شيء واحد شغلها عن غيره. وأما النفوس الفلكية فبرية عن هذه الصفات لا يعتريها شاغل ولا يستغرقها هم وألم وإحساس فعرفت جميع الأشياء. قولنا: لعل نفس الفلك تنشغل قلنا: وبم عرفتم أنه لا شاغل لها وهلا كانت عبادتها واشتياقها إلى الأول مستغرقاً لها وشاغلاً لها عن تصور الجزئيات المفصلة أو ما الذي يحيل تقدير مانع آخر سوى الغضب والشهوة وهذه الموانع المحسوسة ومن أين عرف انحصار المانع في القدر الذي شاهدناه من أنفسنا وفي العقلاء شواغل من علو الهمة وطلب الرئاسة ما يستحيل تصوره عند الأطفال ولا يعتقدونها شاغلاً ومانعاً فمن أين يعرف استحالة ما يقوم مقامها في النفوس الفلكية هذا ما أردنا أن نذكره في العلوم الملقبة عندهم بالإلهية. أما الملقب بالطبيعيات وهي علوم كثيرة وصفها نذكر أقسامها ليعرف أن الشرع ليس يقتضي المنازعة فيها ولا إنكارها إلا في مواضع ذكرناها. وهي منقسمة إلى أصول وفروع. وأصولها ثمانية أقسام: أصولها ثمانية الأول يذكر فيه ما يلحق الجسم من حيث أنه جسم من الانقسام والحركة والتغير وما يلحق الحركة ويتبعه من الزمان والمكان والخلاء ويشتمل عليه كتاب سمع الكيان. الثاني يعرف أحوال أقسام أركان العالم التي هي السموات وما في مقعر فلك القمر من العناصر الأربعة وطبائعها وعلة استحقاق كل واحد منها موضعاً متعيناً ويشتمل عليه كتاب السماء والعالم. الثالث يعرف فيه أحوال الكون والفساد والتولد والتوالد والنشوء والبلى والاستحالات وكيفية استبقاء الأنواع على فساد الأشخاص بالحركتين السماويتين الشرقية والغربية ويشتمل عليه كتاب الكون والفساد. الرابع في الأحوال التي تعرض للعناصر الأربعة من الإمتزاجات التي منها تحدث الآثار العلوية من الغيوم والأمطار والرعد والبرق والهالة وقوس قزح والصواعق والرياح والزلازل. الخامس في الجواهر المعدنية. السادس في أحكام النبات. السابع في الحيوانات وفيه كتاب طبائع الحيوانات. الثامن في النفس الحيوانية والقوى الدراكة وأن نفس الإنسان لا يموت بموت البدن وأنه جوهر روحاني يستحيل عليه الفناء. وفروعها سبعة أما فروعها فسبعة: الأول الطب ومقصوده معرفة مبادئ بدن الإنسان وأحواله من الصحة والمرض وأسبابها ودلائلها ليدفع المرض ويحفظ الصحة. الثاني في أحكام النجوم وهو تخمين في الاستدلال من أشكال الكواكب وامتزاجاتها على ما يكون من أحوال العالم والملك والمواليد والسنين. الثالث علم الفراسة وهو استدلال من الخلق على الأخلاق. الرابع التعبير وهو استدلال من المتخيلات الحلمية على ما شاهدته النفس من عالم الغيب فخيلته القوة المتخيلة بمثال غيره. الخامس علم الطلسمات وهو تأليف للقوى السماوية بقوى بعض الأجرام الأرضية ليأتلف من ذلك قوة تفعل فعلاً غريباً في العالم الأرضي. السادس علم النيرنجات وهو مزج قوى الجواهر الأرضية ليحدث منه أمور غريبة. السابع علم الكيمياء ومقصوده تبديل خواص الجواهر المعدنية ليتوصل إلى تحصيل الذهب والفضة بنوع من الحيل. لا نخالفهم شرعاً في شيء منها وليس يلزم مخالفتهم شرعاً في شيء من هذه العلوم وإنما نخالفهم من جملة هذه العلوم في أربعة مسائل: نخالفهم في أربعة مسائل الأولى حكمهم بأن هذا الاقتران المشاهد في الوجود بين الأسباب والمسببات اقتران تلازم بالضرورة فليس في المقدور ولا في الإمكان إيجاد السبب دون المسبب ولا وجود المسبب دون السبب. الثانية قولهم إن النفوس الإنسانية جواهر قائمة بأنفسها ليست منطبعة في الجسم وإن معنى الموت انقطاع علاقتها عن البدن بانقطاع التدبير وإلا فهو قائم بنفسه في كل حال. وزعموا أن ذلك عرف بالبرهان العقلي. الثالثة قولهم إن هذه النفوس يستحيل عليها العدم بل هي إذا وجدت فهي أبدية سرمدية لا يتصور فناؤها. والرابعة قولهم: يستحيل رد هذه النفوس إلى الأجساد. المسألة الأولى: لإثبات المعجزات فقط وإنما يلزم النزاع في الأولى من حيث أنه ينبنى عليها إثبات المعجزات الخارقة للعادة من قلب العصا ثعباناً وإحياء الموتى وشق القمر. ومن جعل مجاري العادات لازمة لزوماً ضرورياً أحال جميع ذلك. وأولوا ما في القرآن من إحياء الموتى وقالوا: أراد به إزالة موت الجهل بحياة العلم. وأولوا تلقف العصا سحر السحرة على إبطال الحجة الإلهية الظاهرة على يد موسى شبهات المنكرين وأما شق القمر فربما أنكروا وجوده وزعموا أنه لو يتواتر. قولهم: لا تكون المعجزات إلا في القوة المتخيلة ولم يثبت الفلاسفة من المعجزات الخارقة للعادات إلا في ثلثة أمور: أحدها في القوة المتخيلة فإنهم زعموا أنها إذا استولت وقويت ولم يستغرقها الحواس والاشتغال اطلعت على اللوح المحفوظ وانطبع فيها صور الجزئيات الكائنة في المستقبل وذلك في اليقظة للأنبياء ولسائر الناس في النوم وفي القوة العقلية لأن البعض ينتبهون في أسرع الأوقات وأقربها الثانية خاصية في القوة العقلية النظرية وهو راجع إلى قوة الحدس وهو سرعة الانتقال من معلوم إلى معلوم. فرب ذكي إذا ذكر له المدلول تنبه للدليل وإذا ذكر له الدليل تنبه للمدلول من نفسه وبالجملة إذا خطر له الحد الأوسط تنبه للنتيجة وإذا حضر في ذهنه حدا النتيجة خطر بباله الحد الأوسط الجامع بين طرفي النتيجة. والناس في هذا منقسمون فمنهم من يتنبه بنفسه ومنهم من يتنبه بأدنى تنبيه ومنهم من لا يدرك مع التنبيه إلا بتعب كثير. وإذا جاز أن ينتهي طرف النقصان إلى من لا حدس له أصلاً حتى لا يتهيأ لفهم المعقولات مع التنبيه جاز أن ينتهي طرف القوة والزيادة إلى أن ينتبه لكل المعقولات أو لأكثرها وفي أسرع الأوقات وأقربها. ولا سيما النبي ويختلف ذلك بالكمية في جميع المطالب أو بعضها وفي الكيفية حتى يتفاوت في السرعة والقرب. فرب نفس مقدسة صافية يستمر حدسها في جميع المعقولات وفي أسرع الأوقات. فهو النبي الذي له معجزة من القوة النظرية فلا يحتاج في المعقولات إلى تعلم بل كأنه يتعلم من نفسه وهو الذي وصف بأنه يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور. الثالث القوة النفسية العملية وقد تنتهي إلى حد تتأثر بها الطبيعيات وتتسخر. ومثاله أن النفس منا إذا توهم شيئاً خدمته الأعضاء والقوى التي فيها فحركت إلى الجهة المتخيلة المطلوبة حتى إذا توهم شيئاً طيب المذاق تحلبت أشداقه وانتهضت القوة الملعبة فياضة باللعاب من معادنها وإذا تصور الوقاع انتهضت القوة فنشرت الآلة بل إذا مشى على جذع ممدود على فضاء طرفاه على حائطين اشتد توهمه للسقوط فانفعل الجسم بتوهمه وسقط ولو كان ذلك على الأرض لمشى عليه ولم يسقط وذلك لأن الأجسام والقوى الجسمانية خلقت خادمة مسخرة للنفوس ويختلف ذلك باختلاف صفاء النفوس وقوتها. وقد يكون الانفعال حتى في غير البدن فلا يبعد أن تبلغ قوة النفس إلى حد تخدمه القوة الطبيعية في غير بدنه لأن نفسه ليست منطبعة في بدنه إلا أن له نوع ونزوع وشوق إلى تدبيره خلق ذلك في جبلته فإذا جاز أن تطيعه أجسام بدنه لم يمتنع أن يطيعه غيره فيتطلع نفسه إلى هبوب ريح أو نزول مطر أو هجوم صاعقة أو تزلزل أرض لتخسف بقوم وذلك موقوف حصوله على حدوث برودة أو سخونة أو حركة في الهواء فيحدث في نفسه تلك السخونة والبرودة ويتولد منه هذه الأمور من غير حضور سبب طبيعي ظاهر ويكون ذلك معجزة للنبي ولكنه إنما يحصل ذلك في هواء مستعد للقبول ولا ينتهي إلى أن ينقلب الخشب حيواناً وينفلق القمر الذي لا يقبل الإنخراق. قولنا: هذا لا ننكره ولكنا نثبت معجزات غيرها يستثنونها فهذا مذهبهم في المعجزات ونحن لا ننكر شيئاً مما ذكروه وأن ذلك مما يكون للأنبياء وإنما ننكر اقتصارهم عليه ومنعهم قلب العصا ثعباناً وإحياء الموتى وغيره فلزم الخوض في هذه المسألة لإثبات المعجزات ولأمر آخر وهو نصرة ما أطبق عليه المسلمون من أن اللّه قادر على كل شيء. فلنخض في المقصود. |