مسألة ١١مسألة في تعجيز من يرى منهم أن الأول يعلم غيره ويعلم الأنواع والأجناس بنوع كليقولنا: دليل المسلمين دليل صحيح... فنقول: أما المسلمون لما انحصر عندهم الوجود في حادث وفي قديم ولم يكن عندهم قديم إلا اللّه وصفاته وكان. ما عداه حادثاً من جهته بإرادته حصل عندهم مقدمة ضرورية في علمه فإن المراد بالضرورة لا بد وأن يكون معلوماً للمريد فبنوا عليه أن الكل معلوم له لأن الكل مراد له وحادث بإرادته فلا كائن إلا وهو حادث بإرادته ولم يبق إلا ذاته ومهما ثبت أنه مريد عالم بما أراده فهو حي بالضرورة وكل حي يعرف غيره فهو بأن يعرف ذاته أولى فصار الكل عندهم معلوماً للّه وعرفوه بهذا الطريق بعد أن بان لهم أنه مريد لإحداث العالم.
وأما أنتم فما هو دليلكم فأما أنتم فإذا زعمتم أن العالم قديم لم يحدث بإرادته فمن أين عرفتم أنه يعرف غير ذاته فلا بد من الدليل عليه. قولهم: الموجود لا في مادة يعقل جميع المعقولات وحاصل ما ذكره ابن سينا في تحقيق ذلك في إدراج كلامه يرجع إلى فنين: الفن الأول: أن الأول موجود لا في مادة وكل موجود لا في مادة فهو عقل محض وكل ما هو عقل محض فجميع المعقولات مكشوفة له فإنه المانع عن درك الأشياء كلها التعلق بالمادة والاشتغال بها ونفس الآدمي مشغول بتدبير المادة أي البدن وإذا انقطع شغله بالموت ولم يكن قد تدنس بالشهوات البدنية والصفات الرذيلة المتعدية إليه من الأمور الطبيعية انكشف له حقائق المعقولات كلها. ولذلك قضى بأن الملائكة كلهم يعرفون جميع المعقولات ولا يشذ عنهم شيء لأنهم أيضاً عقول مجردة لا في مادة. قولنا: النتيجة تحتاج إلى برهان فنقول: قولكم: الأول موجود لا في مادة إن كان المعنى به أنه ليس بجسم ولا هو منطبع في جسم بل هو قائم بنفسه من غير تحيز واختصاص بجهة فهو مسلم. فيبقى قولكم: وما هذا صفته فهو عقل مجرد فماذا تعني بالعقل إن عنيت ما يعقل سائر الأشياء فهذا نفس المطلوب وموضع النزاع فكيف أخذته في مقدمات قياس المطلوب وإن عنيت به غيره وهو أنه يعقل نفسه فربما يسلم لك إخوانك من الفلاسفة ذلك ولكن يرجع حاصله إلى أن ما يعقل نفسه يعقل غيره فيقال: ولم ادعيت هذا وليس ذلك بضروري وقد انفرد به ابن سينا عن سائر الفلاسفة فكيف تدعيه ضرورياً وإن كان نظرياً فما البرهان عليه قولهم: المادة مانع من درك الأشياء قولنا: المانع والمادة لا يتفقان فنقول: نسلم أنه مانع ولا نسلم أنه المانع فقط. وينتظم قياسهم على شكل القياس الشرطي وهو أن يقال: إن كان هذا في المادة فهو لا يعقل الأشياء ولكنه ليس في المادة فإذن يعقل الأشياء. فهذا استثناء نقيض المقدم واستثناء نقيض المقدم غير منتج بالاتفاق وهو كقول القائل: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان لكنه ليس بإنسان فإذن ليس بحيوان. فهذا لا يلزم إذ ربما لا يكون إنساناً ويكون فرساً فيكون حيواناً. نعم استثناء نقيض المقدم ينتج نقيض التالي على ما ذكر في المنطق بشرط وهو ثبوت انعكاس التالي على المقدم وذلك بالحصر وهو ك قولهم: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكن الشمس ليست طالعة فالنهار غير موجود لأن وجود النهار لا سبب له سوى طلوع الشمس فكان أحدهما منعكساً على الآخر. وبيان هذه الأوضاع والألفاظ يفهم في كتاب مدارك العقول الذي صنفناه مضموماً إلى هذا الكتاب. قولهم: يتفقان فإن قيل: فنحن ندعي التعاكس وهو أن المانع محصور في المادة فلا مانع سواه. قولنا: فما الدليل عليه قولهم: الكل من فعل الأول الفن الثاني قوله: إنا وإن لم نقل: إن الأول مريد الأحداث ولا إن الكل حادث حدوثاً زمانياً فإنا نقول: إنه فعله وقد وجد منه إلا أنه لم يزل بصفة الفاعلين فلم يزل فاعلاً فلا نفارق غيرنا إلا في هذا القدر وأما في أصل الفعل فلا وإذا وجب الفاعل عالماً بالاتفاق فعله فالكل عندنا من فعله. قولنا: ففعله لازم والجواب من وجهين: أحدهما أن الفعل قسمان: إرادي كفعل الحيوان والإنسان وطبيعي كفعل الشمس في الإضاءة والنار في التسخين والماء في التبريد. وإنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي كما في الصناعات البشرية وأما الفعل الطبيعي فلا. وعندكم إن اللّه فعل العالم بطريق اللزوم عن ذاته بالطبع والاضطرار لا بطريق الإرادة والاختيار بل لزم الكل ذاته كما يلزم النور الشمس وكما لا قدرة للشمس على كف النور ولا للنار على كف التسخين فلا قدرة للأول على الكف عن أفعاله تعالى عن قولهم علواً كبيراً وهذا النمط وإن تجوز بتسميته فعلاً فلا يقتضي علماً للفاعل أصلاً. فإن قيل: بين الأمرين فرق وهو إن صدر الكل عن ذاته بسبب علمه بالكل فتمثل النظام الكلي هو سبب فيضان الكل ولا مبدأ له سوى العلم بالكل والعلم بالكل عين ذاته فلو لم يكن له علم بالكل لما وجد منه الكل بخلاف النور من الشمس. قولنا: إذا نفيت الإرادة فما المانع أن يحال هذا المذهب قلنا: وفي هذا خالفك إخوانك فإنهم قالوا: ذاته ذات يلزم منه وجود الكل على ترتيبه بالطبع والاضطرار لا من حيث أنه عالم بها فما المحيل لهذا المذهب مهما وافقتهم على نفي الإرادة ولما لم يشترط علم الشمس بالنور للزوم النور بل يتبعه النور ضرورة فليقدر ذلك في الأول ولا مانع منه. يقتصر علم الأول على علم المعلول الأول وهو محال الوجه الثاني هو أنه إن سلم أن صدور الشيء من الفاعل يقتضي العلم أيضاً بالصادر فعندهم فعل اللّه واحد وهو المعلول الأول الذي هو عقل بسيط فينبغي أن لا يكون عالماً إلا به والمعلول الأول يكون عالماً أيضاً بما صدر منه فقط فإن الكل لم يوجد من اللّه دفعة بل بالوساطة والتولد واللزوم فالذي يصدر مما يصدر منه لم ينبغي أن يكون معلوماً له ولم يصدر منه إلا شيء واحد بل هذا لا يلزم في الفعل الإرادي فكيف في الطبيعي فإن حركة الحجر من فوق جبل قد يكون بتحريك إرادي يوجب العلم بأصل الحركة ولا يوجب العلم بما يتولد منه بوساطته من مصادمته وكسره غيره. فهذا أيضاً لا جواب له عنه. قولهم: إن كان الأول لا يعرف إلا نفسه أمست المعلولات فوقه شرفاً فإن قيل: لو قضينا بأنه لا يعرف إلا نفسه لكان ذلك في غاية الشناعة فإن غيره يعرف نفسه ويعرفه ويعرف غيره فيكون في الشرف فوقه كيف يكون المعلول أشرف من العلة قولنا: هذا أمر لازم!... قلنا: فهذه الشناعة لازمة من مقاد الفلسفة في نفي الإرادة ونفي حدث العالم فيجب ارتكابها كما ارتكب سائر الفلاسفة أو لا بد من ترك الفلسفة والاعتراف بأن العالم حادث بالإرادة. أو لا بد من إبطاله ثم يقال: بم تنكر على من قال من الفلاسفة إن ذلك ليس بزيادة شرف فإن العلم إنما احتاج إليه غيره ليستفيد به كمالاً فإنه في ذاته قاصر والإنسان شرف بالمعقولات إما ليطلع على مصلحته في العواقب في الدنيا والآخرة وإما لتكمل ذاته المظلمة الناقصة وكذى سائر المخلوقات. وأما ذات اللّه فمستغنية عن التكميل بل لو قدر له علم يكمل به لكان ذاته من حيث ذاته ناقصاً. فكما أن علمه بالخواص من النقصان كذلك علمه بالكليات وهذا كما قلت في السمع والبصر وفي العلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان فإنك وافقت سائر الفلاسفة بأن اللّه منزه عنه وأن المتغيرات الداخلة في الزمان المنقسمة إلى ما كان ويكون لا يعرفه الأول لأن ذلك يوجب تغيراً في ذاته وتأثراً ولم يكن في سلب ذلك عنه نقصان بل هو كمال وإنما النقصان في الحواس والحاجة إليها ولولا نقصان الآدمي لما احتاج إلى حواس لتحرسه عما يتعرض للتغير به. وكذلك العلم بالحوادث الجزئية زعمتم أنه نقصان. فإذا كنا نعرف الحوادث كلها وندرك المحسوسات كلها والأول لا يعرف شيئاً من الجزئيات ولا يدرك شيئاً من المحسوسات ولا يكون ذلك نقصاناً فالعلم بالكليات العقلية أيضاً يجوز أن يثبت لغيره ولا يثبت له ولا يكون فيه نقصان أيضاً وهذا لا مخرج عنه. |