٢٤- باب في ألفاظٍ حُكي عن جماعةٍ من العلماء كراهتُها وليستْ مكروهةً اعلم أن هذا البابَ مما تدعو الحاجةُ إليه لئلا يغترّ بقولٍ باطلٍ ويعوّل عليه. واعلم أن أحكامَ الشرع الخمسة، وهي: الإِيجابُ، والندبُ، والتحريمُ، والكراهةُ، والإِباحة، لا يثبتُ شيء منها إلا بدليل، وأدلة الشرع معروفة، فما لا دليلَ عليه لا يُلتفتُ إليه ولا يحتاج إلى جواب، لأنه ليس بحجة ولا يُشتغل بجوابه؛ ومع هذا فقد تبرعَ العلماءُ في مثل هذا بذكر دليلٍ على إبطاله، ومقصودي بهذه المقدمة أنّ ما ذكرتُ أن قائلاً كرهَه ثم قلت: ليس مكروهاً، أو هذا باطلٌ أو نحو ذلك، فلا حاجةً إلى دليل على إبطاله وإن ذكرتُه كنتُ متبرّعاً به، وإنما عقدتُ هذا الباب لأُبيِّن الخطأَ فيه من الصواب لئلا يُغترّ بجلالة مَن يُضاف إليه هذا القول الباطل. واعلم أني لا أُسمّي القائلين بكراهة هذه الألفاظ لئلا تسقطَ جلالتُهم ويُساء الظنّ بهم، وليس الغرض القدح فيهم، وإنما المطلوب التحذير من أقوال باطلة نُقلت عنهم، سواء أصحّتْ عنهم أم لم تصحّ، فإن صحَّتْ لم تقدحْ في جلالتهم كما عرف، وقد أُضيف بعضُها لغرض صحيح بأن يكونَ ما قاله محتملاً فينظر غيري فيه، فلعلّ نظره يُخالف نظري فيعتضدُ نظرُه بقول هذا الإِمام السابق إلى هذا الحكم، وباللّه التوفيق. فمن ذلك ما حكاهُ الإِمامُ أبو جعفر النحاس في كتابه "شرح أسماء اللّه تعالى سبحانه" عن بعض العلماء أنه كره أن يُقال: تصدّق اللّه عليكَ، قال: لأن المتصدّقَ يرجو الثواب. قلتُ: هذا الحكم خطأ صريح وجهلٌ قبيح، والاستدلال أشدُّ فساداً. ٩٩٨- وقد ثبت في صحيح مسلم (٣٢) عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في قصر الصلاة: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللّه بِهَا عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ". فصل:ومن ذلك ما حكاهُ النحَّاسُ أيضاً عن هذا القائل المتقدّم أنه كره أن يُقال: اللّهمّ أعتقني من النار، قال: لأنه لا يعتق إلا مَن يطلب الثواب. قلتُ: وهذه الدعوى والاستدلال من أقبح الخطأ وأرذل الجهالة بأحكام الشرع، ولو ذهبتُ أتتبعُ الأحاديثَ الصحيحة المصرّحة بإعتاق اللّه تعالى مَن شاء من خلقه لطال الكتاب طولاً مُمِلاًّ، وذلك كحديث "مَنْ أعْتَقَ رَقَبَةً أعْتَقَ اللّه تَعالى بِكُلِّ عُضْو مِنْها عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ" (٣٣) وحديث "ما مِنْ يَوْمٍ أكْثَرُ أنْ يُعْتِقَ اللّه تَعالى فِيهِ عَبْداً مِنَ النّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَة" (٣٤) فصل:ومن ذلك قولُ بعضهم: يُكره أن يقولَ افعلْ كذا على اسم اللّه، لأن اسمَه سبحانه على كلِّ شيءٍ. قال القاضي عياض وغيرُه: هذا القول غلط، فقد ثبتت ٩٩٩- الأحاديث الصحيحة: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه في الأضحية: "اذْبَحُوا على اسْمِ اللّه" (٣٥) أي قائلين باسم اللّه. فصل: ومن ذلك ما رواه النحاسُ عن أبي بكر محمد بن يحيى قال: وكان من الفقهاء الأدباء العلماء، قال: لا تقلْ: جمعَ اللّه بيننا في مستقرُ رحمته، فرحمةُ اللّه أوسعُ من أن يكون لها قرار؛ قال: لا تقلْ: ارحمنا برحمتك. قلت: لا نعلمُ لما قاله في اللفظين حجة، ولا دليلَ له فيما ذكره، فإن مرادَ القائل بمستقرّ الرحمة: الجنة، ومعناه: جمعَ بيننا في الجنة التي هي دار القرار ودار المقامة ومحل الاستقرار، وإنما يدخلها الداخلون برحمة اللّه تعالى، ثم من دخلَها استقرّ فيها أبداً، وأمِنَ الحوادث والأكدار، وإنما حصل له ذلك برحمة اللّه تعالى، فكأنه يقول: اجمع بيننا في مستقرّ نناله برحمتك. فصل:ومن ذلك ما حكاهُ النحَّاسُ عن هذا المذكور، قال: لا تقل: توكّلتُ على ربي الربّ الكريم، وقل: توكلت على ربي الكريم. قلتُ: لا أصلَ لما قال. فصل:روى النحّاسُ عن أبي بكر المتقدم قال: لا يقلْ: اللّهمَّ أجِرْنا من النار ولا يقل: اللّهمْ ارزقنا شفاعةَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فإنما يُشفعُ لمن استوجبَ النار. قلتُ: هذا خطأ فاحش وجَهالة بيّنة، ولولا خوفُ الاغترار بهذا الغلط وكونه قد ذكرَ في كتب مصنفه لما تجاسرتُ على حكايته، فكم من حديث في الصحيح جاء في ترغيب المؤمنين الكاملين بوعدهم شفاعة النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، لقوله صلى اللّه عليه وسلم: "مَنْ قالَ مِثْلَ ما يَقُولُ المُؤَذِّنُ حَلَّتْ لَهُ شَفاعَتي" (٣٦) وغير ذلك. ولقد أحسن الإِمام الحافظُ الفقيه أبو الفضل عِياض رحمه اللّه في قوله: قد عُرف بالنقل المستفيض سؤالُ السلف الصالح رضي اللّه عنهم شفاعةَ نبيِّنا صلى اللّه عليه وسلم ورغبتهم فيها قال: وعلى هذا لا يُلتفت إلى كراهة مَن كَرِهَ ذلك لكونها لا تكونُ إلا للمذنبين، لأنه ثبتَ في الأحاديث في صحيح مسلم (٣٧) وغيره إثبات الشفاعة لأقوام في دخولهم الجنة بغير حساب، ولقوم في زيادة درجاتهم في الجنة؛ قال: ثمّ كل عاقل معترف بالتقصير، محتاجٌ إلى العفو، مشفقٌ من كونه من الهالكين؛ ويلزمُ هذا القائل أَنْ لا يدعوَ بالمغفرة والرحمة، لأنهما لأصحاب الذنوب، وكلُّ هذا خلافُ ما عُرف من دعاء السلف والخلف. فصل:ومن ذلك ما حُكي عن جماعة من العلماء أنهم كرهوا أن يُسمَّى الطوافُ بالبيت شوطاً أو دوراً، قالوا: بل يُقال للمرّة الواحدة طوفة، وللمرتين طوفتان، وللثلاث طوفات، وللسبع طواف. قلتُ: وهذا الذي قالوه لا نعلمُ له أصلاً، ولعلَّهم كرهوه لكونه من ألفاظ الجاهلية، والصوابُ المختار أنه لا كراهةَ فيه. ١٠٠٠- فقد روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: أمرهم رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يرملوا ثلاثةَ أشواط ولم يمنعْه أن يأمرَهم أن يرملوا الأشواطَ كلَّها إلا الإِبقاء عليهم. (٣٨) فصل:ومن ذلك: صُمنا رمضانَ، وجاء رمضانُ، وما أشبه ذلك إذا أُريد به الشهر. واختلف في كراهته؛ فقال جماعة من المتقدمين: يُكره أن يُقال رمضان من غير إضافة إلى الشهر، رُوي ذلك عن الحسن البصري ومجاهد. قال البيهقي: الطريق إليهما ضعيف؛ ومذهبُ أصحابنا أنه يُكره أن يُقال: جاء رمضانُ، ودخل رمضانُ، وحضر رمضانُ، وما أشبه ذلك مما لا قرينة تدلّ على أن المرادَ الشهرُ، ولا يُكره إذا ذُكر معه قرينة تدلّ على الشهر، كقوله: صمتُ رمضانَ، وقمتُ رمضانَ، ويجبُ صومُ رمضان، ، وحضرَ رمضانُ الشهر المبارك، وشبه ذلك، هكذا قاله أصحابنا ونقله الإِمامان: أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي في كتابه "الحاوي" وأبو نصر الصباغ في كتابه "الشامل" عن أصحابنا، وكذا نقله غيرُهما من أصحابنا عن الأصحاب مطلقاً، واحتجُّوا بحديث: ١٠٠١- رويناه في سنن البيهقي، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "لا تَقُولُوا رَمَضَانُ، فإنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْماءِ اللّه تَعالى، وَلَكِنْ قُولُوا: شَهْرُ رَمَضَانَ" وهذا الحديث ضعيف ضعَّفه البيهقي والضعف عليه ظاهر، ولم يذكرْ أحدٌ رمضانَ في أسماء اللّه تعالى مع كثرة مَنْ صنَّف فيها. والصوابُ واللّه أعلم، ما ذهب إليه الإِمام أبو عبد اللّه البخاري في صحيحه وغير واحد من العلماء المحقِّقين أنه لا كراهةَ مطلقاً كيفما قال، لأن الكراهةَ لا تثبتُ إلا بالشرع، ولم يثبتْ في كراهته شيء، بل ثبتَ في الأحاديث جواز ذلك، والأحاديث فيه من الصحيحين وغيرهما أكثر من أن تُحصر. ولو تفرَّغتُ لجمع ذلك رجوتُ أن يبلغ أحاديثه مئين، لكن الغرضَ يحصل بحديث واحد، ويكفي من ذلك كله: ١٠٠٢- ما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه؛ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبْوَابُ الجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّياطِينُ " (٣٩) منها صوم رمضان، وأشباهُ هذا كثيرةٌ معروفة. فصل:ومن ذلك ما نُقل عن بعض المتقدمين أنه يُكره أن يقولَ: سورة البقرة، وسورة الدخان، والعنكبوت، والروم، والأحزاب، وشبه ذلك؛ قالوا: وإنما يُقال السورة التي يُذكر فيها البقرة، والسورة التي يُذكر فيها النساء وشبه ذلك. قلتُ: وهذا خطأ مخالف للسنّة، فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك فيما لا يُحصى من المواضع كقوله صلى اللّه عليه وسلم: "الآيَتانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ مَنْ قَرأهُما في لَيْلَةٍ كَفَتَاه" (٤٠) وهذا الحديث في الصحيحين وأشباهُه كثيرة لا تنحصر. فصل:ومن ذلك ما جاء عن مُطرف رحمه اللّه أنه كره أن يقول: إن اللّه تعالى يقول في كتابه؛ قال: وإنما يُقال: إن اللّه تعالى قال: كأنه كره ذلك لكونه لفظاً مضارعاً، ومقتضاهُ الحالُ أو الاستقبالُ، وقول اللّه تعالى هو كلامُه، وهو قديم. قلتُ: وهذا ليس بمقبول، وقد ثبتَ في الأحاديث الصحيحة استعمالُ ذلك من جهات كثيرة، وقد نبَّهتُ على ذلك في شرح صحيح مسلم، وفي كتاب آداب القرّاء، قال اللّه تعالى: {واللّه يقول الحقّ} [الأحزاب: ٤]. ١٠٠٣- وفي صحيح مسلم (٤١) ، عن أبي ذرّ قال: قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: ”يَقُولُ اللّه عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا}" [الأنعام: ١٦٠]. |