الركن الثانيقوله الركن الثاني في السنة وهي في اللغة الطريقة والعادة وفي الاصطلاح في العبادات (١/٤٢٤) النافلة وفي الأدلة وهو المراد هاهنا ما صدر عن النبي عليه السلام غير القرآن من قول ويسمى الحديث أو فعل أو تقرير والمقصود بالبحث هاهنا بيان اتصال السنة بالنبي عليه السلام لأنه يبحث عن كيفية الاتصال بأنه بطريق التواتر أو غيره وعن حال الراوي وعن شرائطه وعن ضد الاتصال وهو الانقطاع وعن متعلقه الذي هو محل الخبر وعن وصوله من الأعلى إلى الأدنى في المبدأ وهو السماع أو المنتهى وهو التبليغ أو الوسط وهو الضبط عن قدح القادح فيه وهو الطعن وعما يخص نوعا خاصا من السنة وهو الفعل وعن مبدأ السنة وهو الوحي وعما يتعلق بها تعلق السوابق كشرائع من قبلنا أو تعلق اللواحق كأقوال الصحابة فأورد هذه المباحث في أحد عشر فصلا قوله فصل في الاتصال فإن قلت كيف جعل مورد القسمة الخبر وفي السنة الأمر والنهي بل الفعل أيضا ينقل بالطرق المذكورة قلت لأن المتصف حقيقة بالتواتر وغيره هو الخبر ومعنى اتصاف الأمر والنهي به أن الإخبار بكونه كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم متواتر ومعنى المتواتر على مقتضى كلامه (٢/٣) ما يكون رواته في كل عهد قوما لا يحصى عددهم ولا يمكن تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم فقوله في كل عهد احتراز عن المشهور وقوله لا يحصى عددهم معناه لا يدخل تحت الضبط وفيه احتراز عن خبر قوم محصور وإشارة إلى أنه لا يشترط في التواتر عدد معين على ما ذهب إليه بعضهم من اشتراط خمسة أو اثني عشر أو عشرين أو أربعين أو خمسين قولا من غير دليل وقوله ولا يمكن تواطؤهم أي توافقهم على الكذب عند المحققين تفسير للكثرة بمعنى أن المعتبر في كثرة المخبرين بلوغهم حدا يمتنع عند العقل تواطؤهم على الكذب حتى لو أخبر جمع غير محصور بما يجوز تواطؤهم على الكذب فيه لغرض من الأغراض لا يكون متواترا وأما ذكر العدالة وتباين الأماكن فتأكيد لعدم تواطئهم على الكذب وليس بشرط في التواتر حتى لو أخبر جمع غير محصور بما يجوز تواطؤهم على الكذب فيه لغرض من الأغراض لا يكون متواترا وأما ذكر العدالة وتباين الأماكن فتأكيد لعدم تواطئهم على الكذب وليس بشرط في التواتر حتى لو أخبر جمع غير محصور من كفار بلدة بموت ملكهم حصل لنا اليقين وأما مثل خبر اليهود بقتل عيسى عليه السلام وتأبيد دين موسى عليه السلام فلا نسلم تواتره وحصول شرائطه في كل عهد ثم المتواتر لا بد أن يكون مستندا إلى الحس سمعا أو غيره حتى لو اتفق أهل إقليم على مسألة عقلية لم يحصل لنا اليقين حتى يقوم البرهان قوله والأول أي المتواتر يوجب علم اليقين لأن اتفاق الجمع الغير المحصور على شيء مخترع لا ثبوت له في نفس الأمر مع تباين آرائهم وأخلاقهم وأوطانهم مستحيل عقلا بمعنى أن العقل يحكم حكما قطعيا بأنهم لم يتواطئوا على الكذب وأن ما اتفقوا عليه حق ثابت في نفس الأمر غير محتمل للنقيض لا بمعنى سلب الإمكان العقلي على تواطئهم على الكذب والأحسن أن يقال إنا نجد من أنفسنا العلم الضروري بالبلاد النائية كمكة وبغداد والأمم الخالية كالأنبياء والأولياء عليهم السلام بحيث لا يحتمل النقيض أصلا وما ذاك إلا بالأخبار ثم حصول العلم من التواتر ضروري لا يفتقر إلى تركيب الحجة حتى إنه يحصل لمن لا يعلم ذلك كالصبيان وجواز ترتيب المقدمات لا ينافي ذلك كما في بعض الضروريات فإن قيل جواز كذب كل واحد يوجب جواز كذب الآخرين لعدم المنافاة مع أن المجموع ليس إلا نفس الآحاد فجواز كذب كل واحد يوجب جواز كذب المجموع وأيضا يلزم القطع بالنقيضين عند تواترهما وأيضا إذا عرضنا على أنفسنا (٢/٤) وجود إسكندر وكون الواحد نصف الاثنين نجد الثاني أقوى بالضرورة فلو كانا ضروريين لما كان بينهما فرق وأيضا الضروري يستلزم الوفاق وهو منتف في المتواتر لمخالفة السمنية والبراهمة وأجيب إجمالا بأنه تشكيك في الضروري فلا يستحق الجواب كشبه السوفسطائية وتفصيلا بأن حكم الجملة قد يخالف حكم الآحاد كالعسكر الذي يفتح البلاد وتواتر النقيضين محال عادة ولا امتناع في اختلاف أنواع الضروري بحسب السرعة والوضوح بواسطة الإلف والعادة وكثرة الممارسة والأخطار بالبال ونحو ذلك مع الاشتراك في عدم احتمال النقيض والضروري لا يستلزم الوفاق لجواز المكابرة والعناد كما للسوفسطائية قوله والثاني أي المشهور يفيد علم طمأنينة والطمأنينة زيادة توطين وتسكين يحصل للنفس على ما أدركته فإن كان المدرك يقينيا فاطمئنانها زيادة اليقين وكماله كما يحصل للمتيقن بوجود مكة بعد ما يشاهدها وإليه الإشارة بقوله تعالى حكاية ولكن ليطمئن قلبي وإن كان ظنيا فاطمئنانها رجحان جانب الظن بحيث يكاد يدخل في حد اليقين وهو المراد هاهنا وحاصله سكون النفس عن الاضطراب بشبهة إلا عنه ملاحظة كونه آحاد الأصل فالمتواتر لا شبهة في اتصاله صورة ولا معنى وخبر الواحد في اتصاله شبهة صورة وهو ظاهر ومعنى حيث لا تتلقاه الأمة بالقبول والمشهور في اتصاله شبهة صورة لكونه آحاد الأصل لا معنى لأن الأمة قد تلقته بالقبول فأفاد حكما دون اليقين وفوق أصل الظن فإن قيل هو في الأصل خبر واحد ولم ينضم إليه في الاتصال بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ما يزيد على الظن فيجب أن يكون بمنزلة خبر الواحد قلنا أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم تنزهوا عن وصمة الكذب أي الغالب الراجح من حالهم الصدق فيحصل الظن بمجرد أصل النقل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم يحصل زيادة رجحان بدخوله في حد التواتر وتلقيه من الأمة بالقبول فيوجب علم طمأنينة وليس المراد بتنزههم عن وصمة الكذب أن نقلهم صادق قطعا بحيث لا يحتمل الكذب وإلا لكان المشهور موجبا علم اليقين لأن القرن الثاني والثالث وإن لم يتنزها عن الكذب إلا أنه دخل في حد التواتر وأما بعد القرون الثلاثة فأكثر أخبار الآحاد نقلت بطريق التواتر لتوفر الدواعي على نقل الأحاديث (٢/٥) وتدوينها في الكتب وفي كلامه إشارة إلى أن خبر الواحد إذا لم يكن راويه الأول متنزها عن وصمة الكذب لا يفيد علم الطمأنينة وإن دخل بعد ذلك في حد التواتر كما يشتهر من الأخبار الكاذبة في البلاد قوله والثالث وهو خبر الواحد يوجب العمل دون علم اليقين وقيل لا يوجب شيئا منهما وقيل يوجبهما جميعا ووجه ذلك أن الجمهور ذهبوا إلى أنه يوجب العمل دون العلم وقد دل ظاهر قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إن يتبعون إلا الظن على استلزام العمل العلم فذهب طائفة إلى أنه يوجب العمل أيضا احتجاجا بنفي اللازم وهو علم على نفي الملزوم وطائفة إلى أنه يوجب العلم أيضا احتجاجا بوجود الملزوم على وجود اللازم والمصنف رحمه اللّه تعالى منع اللزوم من غير تعرض لدفع الدليل وظاهره غير موجه إلا أنه اعتمد على ظهوره وهو أن اتباع الظن قد ثبت بالأدلة ولا عموم للآيتين في الأشخاص والأزمان على أن العلم قد يستعمل في الإدراك جازما ما كان أو غير جازم والظن قد يكون بمعنى الوهم واستدل على كون خبر الواحد موجبا للعمل بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة الآية وذلك أن لولا ههنا للطلب والإيجاب لامتناع الترجي على اللّه تعالى والطائفة بعض من الفرقة واحد أو اثنان إذ الفرقة هي الثلاثة فصاعدا وبالجملة لا يلزم أن يبلغ حد التواتر فدل على أن قول الآحاد يوجب الحذر وقد يجاب بأن المراد الفتوى في الفروع بقرينة التفقه ويلزم تخصيص القوم بغير المجتهدين بقرينة أن المجتهد لا يلزمه وجوب الحذر بخبر الواحد لأنه ظني وللاجتهاد فيه مساغ ومحال على أن كون لولا للإيجاب والطلب محل نظر ثم قوله تعالى (٢/٦) كل فرقة وإن كان عاما إلا أنه خص بالإجماع على عدم خروج واحد من كل ثلاثة وأما السنة فلأنه عليه الصلاة والسلام قبل خبر بريرة في الهدايا وخبر سلمان في الهدية والصدقة حين أتي بطبق رطب فقال هذا صدقة فلم يأكل منه وأمر أصحابه بالأكل ثم أتي بطبق رطب وقال هذا هدية فأكل وأمر أصحابه بالأكل ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يرسل الأفراد من أصحابه إلى الآفاق لتبليغ الأحكام وإيجاب قبولها على الأنام وهذا أولى من الأول لجواز أن يحصل للنبي صلى اللّه عليه وسلم علم بصدقهما على أنه إنما يدل على القبول دون الوجوب فإن قيل هذه أخبار آحاد فكيف يثبت بها كون خبر الواحد حجة وهو مصادرة على المطلوب قلنا تفاصيل ذلك وإن كانت آحادا إلا أن جملتها بلغت حد التواتر كشجاعة علي وجود حاتم وإن لم يلزم التواتر فلا أقل من الشهرة وربما يستدل بالإجماع وهو أنه نقل من الصحابة وغيرهم الاستدلال بخبر الواحد وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى وتكرر ذلك وشاع من غير نكير وذلك يوجب العلم عادة بإجماعهم كالقول الصريح وقد دل سياق الأخبار على أن العمل في تلك الوقائع كان بنفس خبر الواحد وما نقل من إنكارهم بعض أخبار الآحاد إنما كان عند قصور في إفادة الظن ووقوع ريبة في الصدق قوله والإخبار في أحكام الآخرة ولأنه يحتمل دليلان مستقلان على كون خبر الواحد موجبا للعلم تقرير الأول أن خبر الواحد في أحكام الآخرة من عذاب القبر وتفاصيل الحشر والصراط والحساب والعقاب وغير ذلك مقبول بالإجماع مع أنه لا يفيد إلا الاعتقاد إذ لا يثبت به عمل من الفروع وتقرير الثاني أن خبر الواحد يحتمل الصدق والكذب وبالعدالة ترجح جانب الصدق بحيث لا يبقى احتمال الكذب وهو معنى العلم وجوابه أنا لا نسلم ترجح جانب الصدق إلى حيث لا يحتمل الكذب أصلا بل العقل شاهد بأن خبر الواحد العدل لا يوجب اليقين وأن احتمال الكذب قائم وإن كان مرجوحا وإلا لزم القطع بالنقيضين عند إخبار العدلين بهما وجواب الأول وجهان أحدهما أن الأحاديث في باب الآخرة منها ما اشتهر فيوجب علم الطمأنينة ومنها ما هو خبر الواحد فيفيد الظن وذلك في التفاصيل والفروع ومنها ما تواتر واعتضد بالكتاب وهو في الجمل والأصول فيفيد القطع وثانيهما أن المقصود من أحكام الآخرة عقد القلب وهو عمل فيكفيه خبر الواحد واعترض عليه بأنه يلزم عقد القلب في غير أحكام الآخرة وهو معنى العلم وقد بين فساده وجوابه أن الأحاديث في أحكام الآخرة إنما وردت لعقد القلب والجزم بالحكم وفي غيرها للعمل دون الاعتقاد فوجب الإتيان بما كلفنا به في كل منهما قوله فصل حاصله أن الراوي إما معروف بالرواية أو مجهول أما المعروف فإن كان معروفا بالفقه يقبل سواء وافق القياس أم لا وإلا فإما أن يوافق قياسا ما فيقبل أو لا فيرد وأما المجهول فإما أن يظهر حديثه في القرن الثاني أو لا فإن لم يظهر يجوز العمل به في القرن الثالث لا (٢/٧) بعده وإن ظهر فإما أن يشهد السلف له بصحة الحديث فيقبل أو برده فلا يقبل أو يسكتوا عنه فيقبل أو يقبل البعض ويرد البعض مع نقل الثقات عنه فإن وافق قياسا وإلا فلا قوله وحديثه يقبل أي يعمل بحديث الراوي المعروف بالرواية والفقه سواء وافق القياس حتى يكون ثبوت الحكم به لا بالقياس أو خالفه حتى يثبت موجبه لا موجب القياس وذهب أصحاب الشافعية إلى أن العلة إن ثبتت بنص راجح على الخبر في الدلالة فإن كان وجودها في الفرع قطعيا فالقياس مقدم راجح على الخبر وإن كان ظنيا فالتوقف وإن ثبتت لا بنص راجح فالخبر مقدم وعن أبي الحسين البصري رحمه اللّه تعالى أنه لا خلاف في تقدم القياس إن ثبتت العلة بنص قطعي وفي تقدم الخبر إن ثبتت بنص ظني أو استنبطت من أصل ظني وإنما الخلاف فيما إذا استنبطت من أصل قطعي واستدل المصنف رحمه اللّه تعالى على تقدم الخبر بوجهين الأول أن الخبر يقين بأصله لأنه من حيث إنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحتمل الخطأ وإنما الشبهة في عارض النقل حيث يحتمل الغلط والنسيان والكذب والقياس محتمل بأصله أي علته التي تبنى عليها الأحكام فإنها لا تتحقق يقينا إلا بنص قطعي أو إجماع وهو أمر عارض ولا شك أن متيقن الأصل راجح على محتمله الثاني أنه على تقدير ثبوت العلة قطعا يحتمل أن يكون خصوصية الأصل شرطا لثبوت الحكم أو خصوصية الفرع مانعا عنه فيكون تطرق الاحتمال إلى القياس أكثر فيؤخر عن الخبر الذي لا يتطرق الاحتمال إلا في طريق نقله هو عارض ثم ترك الصحابة القياس بالخبر متواتر المعنى وإن كانت آحاده غير متواترة فيكون إجماعا قوله لكنه أي خبر الراوي المعروف بالرواية دون الفقه إن خالف جميع الأقيسة التي لا يكون ثبوت أصولها بخبر راو غير معروف بالفقه لا يقبل عندنا وفيه بحث أما أولا فلأن الشبهة في القياس في أمور ستة حكم الأصل وتعليله في الجملة وتعين الوصف الذي به التعليل ووجود ذلك الوصف في الفروع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع وأما ثانيا فلأن الظاهر من حال عدول الصحابة نقل الحديث بلفظه ولهذا نجد في كثير من الأحاديث شك الراوي وإنما استفاض النقل بالمعنى عند العلماء لتقرير لفظ الحديث بالرواية والتدوين وأما ثالثا فلأنه نقل عن كبار الصحابة أنهم تركوا القياس بخبر الواحد الغير المعروف بالفقه وقد نقل صاحب الكشف ما يشير إلى أن هذا الفرق مستحدث وأن خبر الواحد مقدم على القياس من غير تفصيل وما روي من (٢/٨) استبعاد ابن عباس خبر أبي هريرة في الوضوء مما مسته النار ليس تقديما للقياس بل استبعادا للخبر لظهور خلافه وقد يستدل بأن الكتاب دل على وجوب العمل بالقياس وهو قوله تعالى فاعتبروا وخبر الواحد لا يصلح ناسخا للكتاب ويجاب بأنه لا عموم في الآية حتى يثبت به قياس يعارضه خبر الواحد ولو سلم فقد خص منه القياس الذي يعارضه دليل أقوى منه فلم يبق قطعيا وقد سبق أن العام الذي خص منه البعض يجوز أن يخص بالخبر والقياس قوله كحديث المصراة من صريته إذا جمعته والمراد الشاة التي جمع اللبن في ضرعها بالشد وترك الحلب مدة ليظنها المشتري كثيرة اللبن وقول المصنف رحمه اللّه تعالى ليظنها المشتري سمينة فيه نظر وكذا المحفلة روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر ويروى بأحد النظرين ويروى من اشترى شاة محفلة فهو بخير النظرين ثلاثة أيام الحديث ووجه كون هذا الحديث مخالفا للقياس الصحيح أن تقدير ضمان العدوان بالمثل ثابت بالكتاب وهو قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وتقديره بالقيمة ثابت بالسنة وهي قوله عليه الصلاة والسلام من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا وكلاهما ثابت بالإجماع المنعقد على وجوب المثل أو القيمة عند فوات العين فإن قيل فيكون رد هذا الحديث بناء على مخالفة الكتاب والسنة والإجماع ولا نزاع في ذلك أجيب بأن هذه الصورة ليست من ضمان العدوان صريحا لكنه بعد فسخ العقد ظهر أنه تصرف في ملك الغير بلا رضاه لأن البائع إنما رضي لحلب الشاة على تقدير أن يكون ملكا للمشتري فيثبت فيها الضمان بالمثل أو القيمة قياسا على صورة العدوان الصريح وهذا تكلف ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى وظاهر كلام فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن هذا الخبر ناسخ للكتاب والسنة ومعارض للإجماع في ضمان العدوان بالمثل أو القيمة وأوله بعضهم بأن المراد أنه ناسخ للكتاب والسنة والإجماع على كون القياس حجة والقول بنفي القياس إنما حدث بعد القرن الثالث (٢/٩) وسيصرح المصنف رحمه اللّه تعالى في فصل الانقطاع بأن هذا الحديث معارض لقوله تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم قوله وأما المجهول ذهب بعضهم إلى أن هذا كناية عن كونه مجهول العدالة والضبط إذ معلوم العدالة والضبط لا بأس بكونه منفردا بحديث أو حديثين فإن قيل عدالة جميع الصحابة ثابتة بالآيات والأحاديث الواردة في فضائلهم قلنا ذكر بعضهم أن الصحابي اسم لمن اشتهر بطول صحبة النبي عليه الصلاة والسلام على طريق التتبع له والأخذ منه وبعضهم أنه اسم لمؤمن رأى النبي عليه السلام سواء طالت صحبته أم لا إلا أن الجزم بالعدالة مختص بمن اشتهر بذلك والباقون كسائر الناس فيهم عدول وغير عدول قوله في بروع بفتح الباء وأصحاب الحديث يكسرونها قوله لما خالف القياس عنده وذلك أن المهر لا يجب إلا بالفرض بالتراضي أو بقضاء القاضي أو باستيفاء المعقود عليه فإذا عاد المعقود عليه إليها سالما لم يستوجب بمقابلته عوضا كما لو طلقها قبل الدخول بها وكهلاك المبيع قبل القبض قوله كحديث فاطمة بنت قيس ولقائل أن يقول هو مما قاله ابن عباس وقال به الحسن وعطاء والشعبي وأحمد فكيف يكون مما رده الكل اللّهم إلا أن يجعل للأكثر حكم الكل مع كونه مخالفا لظاهر الكتاب والسنة (٢/١٠) قوله قال عليه السلام خير القرون الحديث فإن قيل وقد قال عليه السلام مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره فكيف التوفيق قلنا الخيرية تختلف بالإضافات والاعتبارات فالقرون السابقة خير بنيل شرف قرب العهد بالنبي عليه السلام ولزوم سيرة العدل والصدق واجتناب المعاصي ونحو ذلك على ما أشار إليه قوله عليه السلام ثم يفشو الكذب وأما باعتبار كثرة الصواب ونيل الدرجات في الآخرة فلا يدرى إن الأول خير لكثرة طاعته وقلة معصيته أم الآخر لإيمانه بالغيب طوعا ورغبة مع انقضاء زمن مشاهدة آثار الوحي وظهور المعجزات بالتزامه طريق السنة مع فساد الزمان قوله فصل في شرائط الراوي لم يكتف بذكر الضبط والعدالة لأن الصبي الكامل التمييز ربما يكون ضابطا لكن لا يجتنب الكذب لعلمه بأن لا إثم عليه ولأن الكافر ربما يكون مستقيما على معتقده ولهذا يسأل القاضي عن عدالة الكافر إذا شهد على الكافر عند طعن الخصم نعم لو فسر (٢/١١) العدالة بمحافظة دينه يحمل على ملازمة التقوى والمروءة من غير بدعة وجعل علامتها اجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر وترك بعض الصغائر والمباحات التي مما يدل على خسة النفس ودناءة الهمة كسرقة لقمة والتطفيف في الوزن بحبة والاجتماع مع الأرذال والاشتغال بالحرف الدنيئة فلا خفاء في شمولها الإسلام لأن الكفر أعظم الكبائر فيخرج بقيد العدالة الكافر كما يخرج المبتدع والفاسق قوله وأما الضبط لا يخفى أن الضبط بهذا المعنى لا يشترط في قبول الرواية لأنهم كانوا يقبلون أخبار الأعراب الذين لا يتصور منهم الاتصاف بذلك وشاع وذاع من غير نكير إلا أن هذا يفيد الرجحان على ما صرح به في سائر كتب الأصول وإليه أشار فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى بقوله وهو مذهبنا في الترجيح قوله فصل في الانقطاع وهو قسمان ظاهر كالإرسال وباطن وذلك إما لأمر يرجع إلى نفس الخبر بكونه معارضا للكتاب أو للخبر المتواتر أو المشهور أو بكونه شاذا فيما تعم به البلوى (٢/١٢) وإما لأمر يرجع إلى نفس الناقل كنقصان في العقل كخبر المعتوه والصبي أو في الضبط كخبر المغفل أو في العدالة كخبر الفاسق والمستور أو في الإسلام كخبر المبتدع وإما لأمر غير ذلك كإعراض الصحابة عنه وفي اصطلاح المحدثين إن ذكر الراوي الذي ليس بصحابي جميع الوسائط فالخبر مسند وإن ترك واسطة واحدة بين الراويين فمنقطع وإن ترك واسطة فوق الواحد فمعضل بفتح الضاد وإن لم يذكر الواسطة أصلا فمرسل (٢/١٣) (٢/١٤) قوله ومرسل القرن الثاني والثالث لا يقبل عند الشافعي رحمه اللّه تعالى إلا بأحد أمور خمسة أن يسنده غيره أو أن يرسله آخر وعلم أن شيوخهما مختلفة أو أن يعضده قول صحابي أو أن يعضده قول أكثر أهل العلم أو أن يعلم من حاله أنه لا يرسل إلا بروايته عن عدل فإن قيل اشتراط إسناد غيره باطل لأن العمل حينئذ بالمسند والأربعة الباقية ليس شيء منها بدليل وانضمام غير المقبول إلى غير المقبول لا يصيره مقبولا قلنا المسند قد لا يثبت عدالة رواته فيقبل المرسل ويعمل به وبانضمام أمر إلى أمر قد يحصل الظن أو يقوى فيجب العمل وعندنا يقبل بل يقدم على المسند استدل الشافعي رحمه اللّه تعالى بأن قبول الرواية موقوف على العلم بكون الراوي متصفا بالعقل والعدالة وغير ذلك من الصفات المعتبرة في الرواة وعند عدم ذكر الراوي لا يعلم ذلك فلا يقبل واستدل القائلون بالقبول بثلاثة أوجه ثالثها يدل على أنه فوق المسند الأول إرسال الصحابة وقبوله مع وجود الواسطة في البعض الثاني أو كلامنا في إرسال العدل الذي لو أسنده لا يظن أنه كذب على من روى عنه وإذا لم يظن به الكذب على من يجوز أن يكذب فعدم ظن كذبه على النبي عليه الصلاة والسلام وهو معصوم أولى وقد عرفت أن ليس النزاع في مرسل الصحابي ومرسل من علم من حاله أنه لا يرسل إلا بروايته عن عدل الثالث أن العادة جارية بأن الأمر إذا كان واضحا للناقل جزم بنقله من غير إسناد وإذا لم يكن واضحا نسبه إلى الغير ليحمل الناقل ذلك الغير الشيء الذي حمله هو أي الناقل فالمرسل يدل على أنه واضح للناقل بخلاف المسند وقد يمنع جري العادة بذلك بل ربما يرسل لعدم إحاطته بالرواة وكيفية الاتصال ويسند إلى العدول تحقيقا للحال وأنه على ثقة في ذلك المقال قوله ولا بأس جواب عن استدلال الشافعي رحمه اللّه تعالى يعني أن جهل السامع بصفات الراوي لا يضر لأن التقدير أن الناقل عدل ضابط فلا يتهم بالغفلة عن حال الرواة ولا يجزم بنقل الحديث ما لم يسمعه من عدل وقد يدفع بأن أمر العدالة على الظن والاجتهاد فربما يظن غير العدل عدلا (٢/١٥) قوله ألا يرى أنه إذا قال أخبرني ثقة يقبل كأنه يشير إلى أن الشافعي رحمه اللّه تعالى كثيرا ما يقول أخبرني الثقة وحدثني من لا أتهمه إلا أن مراده بالثقة إبراهيم بن إسماعيل وبمن لا يتهم يحيى بن حسان وذلك مشهور معلوم قوله كحديث فاطمة بنت قيس فيه بحث لأن الكلام في خبر العدل وهذا مستنكر متهم رواته بالكذب والغفلة والنسيان لا لكونه في مقابلة عموم الكتاب وإلا لما كان لقوله أحفظت أم نسيت وصدقت أم كذبت معنى وأيضا لا خفاء في أن القراءة الشاذة غير متواترة ولا مفيدة للقطع فكيف يرد الحديث لمعارضتها وكيف يقبل من الراوي أن هذا كلام اللّه تعالى ولا يقبل أن ذاك كلام الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو بمرأى منه ومسمع قوله وكحديث القضاء بشاهد ويمين هو ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قضى بشاهد ويمين الطالب وهو معارض لقوله تعالى واستشهدوا شهيدين الآية وذلك من وجوه الأول أن الأمر بالاستشهاد مجمل في حق ما هو شهادة ففسره برجلين أو رجل وامرأتين وتفسير المجمل يكون بيانا لجميع ما يتناوله اللفظ الثاني أن قوله تعالى ذلكم أقسط عند اللّه وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا نص على أن أدنى ما ينتفي به الريبة هو هذان النوعان وليس بعد الأدنى شيء الثالث ما ذكره المصنف وإنما اقتصر عليه لأنه ربما يمنع الإجمال والحصر فيما ذكر بل للشارع أن يترك بعض الأمور إلى الاجتهاد أو إلى الحديث ولأن قوله تعالى ذلكم إشارة إلى أن تكتبوه وأدناه معناه أقرب من انتفاء الريب على ما هو المذكور في التفسير قوله وذكر في المبسوط ليس المراد أن ذلك أمر ابتدعه معاوية في الدين بناء على خطئه كالبغي في الإسلام ومحاربة الإمام وقتل الصحابة لأنه ورد فيه الحديث الصحيح بل المراد أنه (٢/١٦) أمر مبتدع لم يقع العمل به إلى زمن معاوية لعدم الحاجة إليه لكن المروي عن علي رضي اللّه تعالى عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قضى بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق وروي عنه أيضا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقضون بشهادة الشاهد الواحد ويمين المدعي وعن علي رضي اللّه عنه أنه كان يقضي بالشاهد واليمين فعلى هذا لا يكون العمل به من مبتدعات معاوية قوله وكحديث المصراة صريح في كونه مخالفا للكتاب لا لمجرد القياس على ما ذهب إليه المصنف فيما نقل عنه قوله وإنما يرد أي خبر الواحد في معارضة الكتاب لأن الكتاب مقدم لكونه قطعيا متواتر النظم لا شبهة في متنه ولا في سنده لكن الخلاف إنما هو في عمومات الكتاب وظواهره فمن يجعلها ظنية يعتبر بخبر الواحد إذا كان على شرائطه عملا بالدليلين ومن يجعل العام قطعيا فلا يعمل بخبر الواحد في معارضته ضرورة أن الظني يضمحل بالقطعي فلا ينسخ الكتاب به ولا يزاد عليه أيضا لأنه بمنزلة النسخ واستدل على ذلك بقوله عليه السلام يكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب اللّه فما وافق فاقبلوه وما خالفه فردوه وأجيب بأنه خبر واحد وقد خص منه البعض أعني المتواتر والمشهور فلا يكون قطعيا فكيف يثبت به مسألة الأصول على أنه يخالف عموم قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وقد طعن فيه المحدثون بأن في رواته يزيد بن ربيعة وهو مجهول وترك في إسناده واسطة بين الأشعث وثوبان (٢/١٧) فيكون منقطعا وذكر يحيى بن معين أنه حديث وضعته الزنادقة وإيراد البخاري إياه في صحيحه لا ينافي الانقطاع أو كون أحد رواته غير معروف بالرواية فإن قيل المشهور أيضا لا يفيد علم اليقين فكيف يعتبر في معارضة عموم الكتاب وهو قطعي أجيب عنه بأنه يفيد علم طمأنينة وهو قريب من اليقين والعام ليس بقطعي بحيث يكفر جاحده فهو قريب من الظن وقد انعقد الإجماع على تخصيص عمومات الكتاب بالخبر المشهور كقوله عليه السلام لا يرث القاتل وقوله عليه السلام لا تنكح المرأة على عمتها وغير ذلك قوله البينة على المدعي واليمين على من أنكر حصر جنس البينة على المدعي وجنس اليمين على المنكر فلا يجوز الجمع بين الشاهد واليمين على المدعي بخبر الواحد قوله وكحديث بيع الرطب بالتمر هو ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه أن النبي عليه السلام سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص إذا جف فقالوا نعم قال فلا إذن إلا أنه لما أورد هذا الحديث على أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى أجاب بأن هذا الحديث دار على زيد بن أبي عياش وهو ممن لا يقبل حديثه واستحسن أهل الحديث منه هذا الطعن حتى قال ابن المبارك كيف يقال أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى لا يعرف الحديث وهو يقول زيد بن أبي عياش ممن لا يقبل حديثه كذا في المبسوط فلا يكون من قبيل رد خبر الواحد بناء على معارضته للخبر المشهور وذكر في الأسرار وغيره أنه يجوز أن لا يكون الرطب تمرا مطلقا لفوات وصف اليبوسة ولا نوعا آخر لبقاء أجزائه عند صيرورته تمرا كالحنطة المقلية ليست حنطة على الإطلاق لفوات وصف الإنبات ولا نوعا آخر لوجود أجزاء الحنطة فيها وكذا الحنطة مع الدقيق قوله لا اعتبار لاختلاف الصفة لقوله عليه السلام جيدها ورديئها سواء اعترض عليه بأنه لا يلزم من عدم اعتبار الاختلاف بالجودة والرداءة عدم اعتبار الاختلاف بالوصف أصلا لجواز أن يكون المعتبر بعض اختلاف الأوصاف وهو ما يكون موجبا لتبدل الاسم والحقيقة في العرف حتى إن الإتيان بالتمر لا يعد امتثالا لطلب الرطب كالزبيب والعنب فإن قيل فيه دليل على أن علة الاستواء كون الوصف ليس من صنع العباد قلنا ممنوع بل العلة عدم تبدل الاسم والحقيقة في العرف ولو سلم فلا عبرة بالقياس في مقابلة الخبر (٢/١٨) قوله وأما بكونه شاذا عطف على قوله وأما بمعارضة الخبر المشهور وكذا قوله وإما بإعراض الصحابة عنه وكلاهما من أقسام الانقطاع بالمعارضة أما الأول فلأن الخبر الشاذ مع عموم البلوى يعارض الأدلة الدالة على وجوب تبليغ الأحكام وتأدية مقالات النبي عليه الصلاة والسلام أو الأدلة الدالة على عدالة الصحابة لأن ترك التبليغ إن كان تركا للواجب لزم عدم عدالتهم وإن لم يكن تركا للواجب لزم عدم وجوب التبليغ فإن قيل فعلى هذا يكون قسما آخر بل من الانقطاع بواسطة معارضة الكتاب أو الخبر المشهور قلنا جعله قسما آخر باعتبار أنه يحتمل كلا مما ذكرتم مع احتمال المعارضة للقضية العقلية وهي أنه لو وجد هذا الحديث لاشتهر لتوفر الدواعي وعموم حاجة الكل إليه ولا يخفى أن هذه القضية ليست قطعية حتى يرد الخبر بمعارضتها نعم الأصل هو الاشتهار لكن رب أصل قلعه الحديث وأيضا ليس وجوب التبليغ أن يبلغ كل واحد كل حديث إلى كل أحد بل عدم الإخفاء ولذا قال اللّه تعالى فاسألوا أهل الذكر وأما حديث الجهر بالتسمية فهو عندهم من قبيل المشهور حتى إن أهل المدينة احتجوا به على مثل معاوية وردوه عن ترك الجهر بالتسمية وهو مروي عن أبي هريرة وعن أنس أيضا إلا أنه اضطربت رواياته فيه بسبب أن عليا رضي اللّه عنه كان يبالغ في الجهر وحاول معاوية وبنو أمية محو آثاره فبالغوا على الترك فخاف أنس وروي الجهر عن عمر وعلي وابن عباس وابن الزبير وغيرهم ثم لا يخفى أن ترك الجهر نفي والجهر إثبات فربما لا يسمعه الراوي لا سيما مثل أنس وقد كان يقف خلف النبي عليه الصلاة والسلام أبعد من هؤلاء وهذا لا ينافي سماعه الفاتحة على أنه روي عن أنس أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم اللّه الرحمن الرحيم وأيضا روي أن أنسا سئل عن الجهر والإسرار فقال لا أدري هذه المسألة والسبب ما ذكرناه وأما الثاني وهو انقطاع الخبر بالمعارضة بسبب إعراض الصحابة فلأنه يعارض إجماعهم (٢/١٩) على عدم قبوله وعلى ترك العمل به فيحمل على أنه سهو أو منسوخ لا يقال لا إجماع مع مخالفة بعض الصحابة كيف والقول بأن الطلاق يعتبر بحال الرجال مما ذهب إليه عمر وعثمان وعائشة رضي اللّه عنهم وراوي الحديث زيد بن ثابت لأنا نقول ليس المراد الإجماع على ترك الحكم بل عدم التمسك بذلك الحديث ولا يخفى أن المراد اتفاق غير هذا الراوي وإلا فهو متمسك به لا محالة قوله إلا في الصدر الأول يعني القرن الأول والثاني والثالث فإنه يقبل لأن العدالة فيها أصل بشهادة النبي عليه السلام وفي غير الصدر الأول المستور بمنزلة الفاسق لأن أهل الفسق في ذلك الزمان غالب فلا بد من العدالة المرجحة جانب الصدق قوله وصاحب الهوى وهو الميل إلى الشهوات والمستلذات من غير داعية الشرع والمراد المبتدع المائل إلى ما يهواه في أمر الدين فإن تأدى إلى أن يجب إكفاره كغلاة الروافض والمجسمة والخوارج فلا خفاء في عدم قبول الرواية لانتفاء الإسلام وإلا فالجمهور على أنه يقبل روايته إن لم يكن ممن يعتقد وضع الأحاديث إلا إذا كان داعيا إلى هواه بذلك الحديث فقوله للشرائط (٢/٢٠) المذكورة إشارة إلى أن المراد بالهوى ما يؤدي إلى الكفر أو الفسق قوله فصل في محل الخبر سواء كان خبرا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أو لم يكن والمراد خبر الواحد ولذا حصر المحل في الفروع والأعمال إذ الاعتقاديات لا تثبت بأخبار الآحاد لابتنائها على اليقين قوله وأما أخبار الصبي فإن قيل إن ابن عمر رضي اللّه عنه أخبر أهل قباء بتحويل القبلة فاستداروا كهيئتهم وكان صبيا قلنا لو سلم كونه صبيا فقد روي أنه أخبرهم بذلك أنس فيحتمل أنهما جاءا به جميعا فأخبراهم قوله لتمكن الشبهة قد يجاب عنه بأنه لا عبرة للشبهة بعد ما ثبت كونه خبر الواحد حجة على الإطلاق بالدلائل القطعية وإنما لم يثبت بالقياس ومع الأدلة القطعية على كونه حجة لأن الحدود تجب مقدرة بالجنايات ولا مدخل للرأي في إثبات ذلك قوله مع سائر شرائط الرواية يخرج الفاسق والمغفل ونحو ذلك وقيد الولاية يخرج العبد ومثل الصبي يخرج بكل من القيدين بعد تفرد كل منهما بفائدة (٢/٢١) قوله صيانة لحقوق العباد يعني تشترط الأمور المذكورة لئلا تثبت الحقوق المعصومة بمجرد إخبار عدل أو هو تعليل لثبوت حقوق العباد بخبر يكون في معنى الشهادة قوله ولأن فيه معنى الإلزام تعليل لاشتراط الأمور المذكورة فإن قوله لا يثبت إلا بكذا يتضمن الأمرين جميعا قوله فيحتاج إلى زيادة توكيد أما لفظة الشهادة فلأنها تنبئ عن كمال العلم لأن المشاهدة هي المعاينة والعلم شرط في الشهادة لقوله عليه الصلاة والسلام إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع وأما الولاية فلأنها تتضمن كون المخبر حرا عاقلا بالغا يتمكن من تنفيذ القول على الغير شاء أو أبى وذلك من أمارات الصدق وأما العدد فلأن اطمئنان القلب بقول الاثنين أكثر منه بقول الواحد ولأن الشاهد الواحد يعارضه البراءة الأصلية فيترجح جانب الصدق بانضمام شاهد آخر إليه قوله والشهادة بهلال الفطر يشترط لها لفظ الشهادة والولاية والعدد وإن لم يكن من إثبات الحقوق التي فيها معنى الإلزام لأن الفطر مما يخاف فيه التلبيس والتزوير دفعا للمشقة بخلاف الصوم وهذا أظهر مما ذهب إليه بعضهم من أنه من هذا القسم بناء على أن العباد ينتفعون بالفطر فهو من حقوقهم ويلزمهم الامتناع عن الصوم يوم الفطر فكان فيه معنى الإلزام إذ لا يخفى أن انتفاعهم بالصوم أكثر وإلزامهم فيه أظهر مع أنه يكفي فيه شهادة الواحد (٢/٢٢) قوله وما ليس فيه إلزام ذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى في موضع من كتابه أن أخبار المميز يقبل في مثل الوكالة والهدايا من غير انضمام التحري وفي موضع آخر أنه يشترط التحري وهو المذكور في كلام الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى ومحمد ذكر القيد في كتاب الاستحسان ولم يذكره في الجامع الصغير فقيل يجوز أن يكون المذكور في كتاب الاستحسان تفسيرا لهذا فيشترط ويجوز أن يشترط استحسانا ولا يشترط رخصة ويجوز أن يكون في المسألة روايتان قوله على أن المتعارف لا يشترط في الخبر بالوكالة والإذن ونحوهما العدالة والتكليف والحرية سواء أخبر بأنه وكيل فلان أو مأذونه أو أخبر بأن فلانا وكل المبعوث إليه أو جعله مأذونا لأن الإنسان قلما يجد المستجمع للشرائط يبعثه لهذه المعاملات أو لإخبار الغير بأنه وكيل في ذلك وظاهر عبارة البعض مشعر بالقسم الثاني حيث يقولون الإنسان قلما يجد المستجمع للشرائط يبعثه إلى وكيله أو غلامه قوله وإن كان أي المخبر بما فيه إلزام من وجه دون وجه فضوليا يشترط إما العدد أو العدالة على الأصح وقيل لا بد من العدالة والاختلاف إنما وقع من لفظ المبسوط حيث قال إذا حجر المولى على عبده وأخبره بذلك من لم يرسله مولاه لم يكن حجرا في قياس قول أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى حتى يخبره رجلان أو رجل عدل يعرفه العبد فجعل بعضهم العدالة للمجموع (٢/٢٣) وبعضهم للرجل فقط وهو الأصح لأن للعدد تأثيرا في الاطمئنان ولأنه لو اشترط في الرجلين العدالة كان ذكره ضائعا ويكفي أن يقال حتى يخبره رجل عدل ولم يذكر في المبسوط اشتراط وجود سائر الشرائط أعني الذكورة والحرية والبلوغ لا نفيا ولا إثباتا فلذا قال فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى وغيره إنه يحتمل أن يشترط سائر شرائط الشهادة عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى حتى لا يقبل خبر العبد والمرأة والصبي وأما عندهما فالكل سواء أي يكفي في هذا القسم قول كل مميز كما في القسم الذي لا إلزام فيه لمكان الضرورة والمصنف رحمه اللّه تعالى جزم باشتراط سائر الشرائط لكن لا يخفى أنه يحصل به قصور في رعاية شبه عدم الإلزام فقوله رعاية للشبهين تعليل للاكتفاء بأحد الأمرين إما العدد أو العدالة قوله فصل في كيفية السماع وهو الإجازة بأن (٢/٢٤) يقول له أجزت لك أن تروي عني هذا الكتاب أو مجموع مسموعاتي أو مقروءاتي ونحو ذلك والمناولة أن يعطيه المحدث كتاب سماعه بيده ويقول أجزت لك أن تروي عني هذا الكتاب ولا يكفي مجرد إعطاء الكتاب وإنما جوز طريق الإجازة ضرورة أن كل محدث لا يجد راغبا إلى سماع جميع ما صح عنده فيلزم تعطيل السنن وانقطاعها فلذا كانت رخصة قوله وهذا أمر يتبرك به جواب عما يقال أن السلف كانوا يعتبرون الإجازة والمناولة من غير علم المجاز له بما فيه قوله وإمام يعني أن الراوي لم يستفد منه التذكر بل اعتمد عليه اعتماد المقتدي على إمامه قوله والثاني لا يقبل عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى لأن المقصود من النظر في الكتاب عنده التذكر والعود إلى ما كان عليه من الحفظ حتى تكون الرواية عن حفظ تام إذ الحفظ الدائم مما يتعسر على غير النبي عليه الصلاة والسلام لا سيما في زمان الاشتغال بأنواع العلوم وفروع الأحكام (٢/٢٥) وذكر في المعتمد أن الذي ينبغي أن يكون محل الخلاف هو ما إذا لم يتذكر سماعه بما في هذا الكتاب وفي قراءته ولكن غلب على ظنه ذلك قوله وديوان القضاء هو المجموعة من قطع القراطيس يقال دونت الكتب جمعتها وقد يقال الديوان لمجمع الحاكم قوله عليه السلام نضر اللّه امرأ الحديث أجيب بأن النقل بالمعنى من غير تغير أداء كما سمع ولو سلم فلا دلالة في الحديث على عدم الجواز غايته أنه دعاء للناقل باللفظ لكونه أفضل قوله ولأنه مخصوص بجوامع الكلم يعني يوجد في الحديث ألفاظ يسيرة جامعة لمعان كثيرة لا يقدر غيره على تأدية تلك المعاني بعبارته وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام الخراج (٢/٢٦) بالضمان و لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وفي الغرم بالغنم والجواب أن الكلام في غير جوامع الكلم مع القطع بأنه معنى الحديث لمعرفة الناقل بمواقع الألفاظ والعمدة في جواز ذلك ما ورد عن الصحابة رضي اللّه عنهم أمر النبي عليه الصلاة والسلام بكذا ونهى عن كذا ورخص في كذا وشاع ذلك من غير نكير فكان اتفاقا قوله فما كان محكما أي متضح المعنى بحيث لا يشتبه معناه ولا يحتمل وجوها متعددة على ما صرح به فخر الإسلام لا ما يحتمل النسخ على ما هو المصطلح في أقسام الكتاب (٢/٢٧) قوله فصل في الطعن كحديث عائشة رضي اللّه عنها قد يقال إن غيبة الأب لا توجب أن يكون النكاح بلا ولي لأن الولاية تنتقل إلى الأبعد عند غيبة الأقرب قوله وإن عمل أي الراوي بخلاف ما روى قبل الرواية لا يجرح لجواز أنه كان مذهبه فتركه بالحديث وكذا إذا لم يعلم التاريخ لأنه حجة بيقين فلا يسقط بالشك قوله عن الزهري عن عائشة رضي اللّه عنهما ترك بينهما ذكر عروة وهو الراوي عن عائشة رضي اللّه عنها قوله لقصة ذي اليدين هو عمرو بن عبد ود سمي بذلك لأنه كان يعمل بكلتا يديه وقيل لطول يديه استدل بالقصة على أن رد المروي عنه لا يكون جرحا وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل رواية أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما أنه سلم على رأس الركعتين مع أنه أنكر ذلك (٢/٢٨) أولا لأن سياق القصة يدل على أنه إنما عمل بقولهما إلا بدليل آخر وكلام النبي عليه الصلاة والسلام إنما جرى على ظن أنه قد أكمل الصلاة فكان في حكم الناسي وكلام الناسي لا يبطل الصلاة والقول بأن ذلك كان قبل تحريم الكلام في الصلاة تأويل فاسد لأن تحريم الكلام في الصلاة كان بمكة وحدوث هذا الأمر إنما كان بالمدينة لأن راويه أبو هريرة وهو متأخر الإسلام وقد رواه عمران بن الحصين وهجرته متأخرة كذا في شرح السنة قوله ولأن الحمل على نسيانه أولى من تكذيب الثقة الذي يروي عنه فإن قيل إن أريد بالتكذيب النسبة إلى تعمد الكذب فليس بلازم لجواز أن يكون سهوا أو نسيانا وإن أريد به أعم من ذلك فلا أولوية لأن المروي عنه أيضا ثقة قلنا تعارضا فبقي أصل الخبر معمولا به وفيه نظر وظاهر كلام المصنف رحمه اللّه تعالى يدل على أن هذا الخلاف فيما إذا صرح المروي عنه بالإنكار والتكذيب ولا يشعر بالحكم فيما إذا توقف وقال لا أتذكر ذلك وقيل الخلاف في الثاني وفي الأول يسقط بلا خلاف وقيل إن ترجح أحدهما على الآخر في الجزم فهو المعتبر وإن تساويا فقد تساقطا فلا يعمل بالحديث قوله ويكون جرحا عند أبي يوسف لقصة عمار وقد يستدل بأنه يلزم الانقطاع ويكون أحدهما مغفلا وجوابه أن عدم التذكر في حادثة لا يوجب كونه مغفلا بحيث يرد خبره وقلما يسلم الإنسان من النسيان ولا خفاء في أن كلا من عمر وعمار عدل ضابط وأيضا عدالة كل منهما وضبطه يقين فلا يرتفع بالشك قوله ولم يعمل به عمر وعلي رضي اللّه عنهما فإن قيل قد روي أن عمر رضي اللّه عنه نفى رجلا فلحق بالروم مرتدا فحلف واللّه لا أنفي أبدا أجيب بأنه كان سياسة إذ لو كان حدا لما (٢/٢٩) حلف إذ الحد لا يترك بالارتداد وفيه بحث لأن المسألة اجتهادية لا قطع بها فيجوز أن يكون تغير اجتهاده بذلك والإنصاف أن قصة أعرابي وقع في كوة في المسجد وقهقهت الأصحاب في الصلاة بمحضر من كبار الأصحاب وأمر النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم إياهم بإعادة الوضوء والصلاة ليست أخفى من حديث في تغريب العام في زنا البكر بالبكر ذكره النبي عليه الصلاة والسلام ورواه عبادة بن الصامت رضي اللّه تعالى عنه قوله فإن كان الطعن مجملا بأن يقول هذا الحديث غير ثابت أو منكر أو مجروح أو راويه متروك الحديث أو غير العدل لم يقبل لأن العدالة أصل في كل مسلم نظرا إلى العقل والدين لا سيما الصدر الأول فلا يترك بالجرح المبهم لجواز أن يعتقد الجارح ما ليس تجريحا وقيل يقبل لأن الغالب من حال الجارح الصدق والبصارة بأسباب الجرح ومواقع الخلاف والحق أن الجارح إن كان ثقة بصيرا بأسباب الجرح ومواقع الخلاف ضابطا لذلك يقبل جرحه المبهم وإلا فلا قوله ما ليس بطعن شرعا مثل ركض الخيل والمزاح وتحمل الحديث في الصغر ومثل الإرسال والاستكسار من فروع الفقه وأمثال ذلك (٢/٣٠) قوله فصل في أفعاله عليه الصلاة والسلام يعني أن الأفعال التي لم يتضح فيها أمر الجبلة كالقيام والقعود والأكل والشرب فإن ذلك مباح له ولأمته بلا خلاف فيكون خارجا عن الأقسام أو يدخل في المباح الذي يقتدى به بمعنى أنه يباح لنا أيضا فعله فعلى هذا يصح حصر غير المقتدى به في المخصوص والزلة إذ لا يجوز منه الكبائر ولا الصغائر قوله وواجب وفرض يعني أن فعله بالنسبة إلينا يتصف بذلك بأن يجعل الوتر واجبا عليه صلى اللّه عليه وسلم لا مستحبا أو فرضا وإلا فالثابت عنده بدليل يكون قطعيا لا محالة حتى إن قياسه واجتهاده أيضا قطعي لأنه لا يقرر عن الخطأ على ما سيأتي قوله وهو فعله من الصغائر رد لما ذكره بعض المشايخ من أن زلة الأنبياء هي الزلل من الأفضل إلى الفاضل ومن الأصوب إلى الصواب لا عن الحق إلى الباطل وعن الطاعة إلى المعصية لكن يعاتبون لجلالة قدرهم ولأن ترك الأفضل عنهم بمنزلة ترك الواجب عن الغير قوله من غير قصد قال الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى أما الزلة فلا يوجد فيها القصد إلى عينها ولكن يوجد القصد إلى أصل الفعل لأنها أخذت من قولهم زل الرجل في الطين إذا لم يوجد القصد إلى الوقوع ولا إلى الثبات بعد الوقوع ولكن وجد القصد إلى المشي في الطريق وإنما يؤاخذ عليها لأنها لا تخلو عن نوع تقصير يمكن للمكلف الاحتراز عنه عند التثبت وأما المعصية حقيقة فهي فعل حرام يقصد إلى نفسه مع العلم بحرمته قوله ففعله المطلق أي الخالي عن قرينة الفرضية والوجوب والاستحباب والإباحة وكونه زلة أو سهوا أو مخصوصا بالنبي عليه الصلاة والسلام فيه أربعة مذاهب حاصلا الأولين الاتفاق على عدم الجزم بحكم ذلك الفعل بالنسبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام والاختلاف في أنه هل (٢/٣١) يلزمنا الاتباع أو يتوقف في الاتباع أيضا وحاصل الأخيرين الاتفاق على أن حكمه الإباحة للنبي عليه الصلاة والسلام والاختلاف في أنه هل يجوز لنا الاتباع أم لا واعترض على مذهب التوقف بأنا إما أن نمنع الأمة من الفعل ونذمهم عليه فيكون حراما أو لا فيكون مباحا فلا يتحقق القول بالوقف والجواب أنا لا نمنعهم ولا نذمهم لعدم علمنا بالحكم في حقهم لا لتحقق الإباحة وقد يقال على الأول إن المراد بالمتابعة مجرد الإتيان بالفعل وهذا لا يتوقف على العلم بصفة وعلى الثاني أنا لا نسلم أن الأمر في الآية بمعنى الفعل والطريقة بل هو حقيقة في القول على ما سبق وعلى الثالث أن الإباحة ليست مجرد جواز الفعل مع جواز الترك ولا نسلم أنه متيقن وأيضا فيه إثبات الحرمة بلا دليل مع أن الأصل في الأشياء الإباحة وعلى الرابع أنه إن أريد بالإباحة جواز الفعل مع جواز الترك على ما هو المصطلح فلا دليل عليها وإن أريد مجرد جواز الفعل فلا نزاع للواقفية ويمكن أن يقال المراد الإباحة بالمعنى المصطلح وتثبت بحكم الأصل قوله فعند البعض حظه الوحي الظاهر لا الاجتهاد واستدل عليه صريحا بقوله تعالى إن هو إلا وحي فإنه يدل على أن كل ما ينطق به إنما هو وحي لا غير والمفهوم من الوحي ما ألقى اللّه تعالى إليه بلسان الملك أو غيره وأجاب بأنه إذا كان متعبدا بالاجتهاد كان حكمه بالاجتهاد أيضا وحيا لا نطقا عن الهوى واستدل أيضا إشارة بأن الاجتهاد يحتمل الخطأ فلا يجوز إلا عند العجز عن دليل لا يحتمل الخطأ ولا عجز بالنسبة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم لوجود الوحي القاطع (٢/٣٢) وأشار إلى الجواب بأن اجتهاده لا يحتمل القرار على الخطأ فتقريره على مجتهده قاطع للاحتمال كالإجماع الذي سنده الاجتهاد وبهذا يخرج الجواب عن استدلالهم الآخر وهو أنه لو جاز له الاجتهاد لجاز مخالفته لأن جواز المخالفة من لوازم أحكام الاجتهاد لعدم القطع بأنه حكم اللّه تعالى واللازم باطل بالإجماع وقد يستدل بأنه لو جاز له الاجتهاد لما توقف في جواب سؤال بل اجتهد وبين ما يجب عليه من الجواب فأشار في تقرير القول المختار إلى جوابه وهو أنه مأمور بالانتظار فهو شرط لاجتهاده على أن نفس الاجتهاد أيضا يقتضي زمانا واستدل على المختار بخمسة أوجه الأول وجوب الاجتهاد عليه لعموم قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار الثاني وقوعه من غيره من الأنبياء كداود عليه الصلاة والسلام وسليمان عليه الصلاة والسلام ولا قائل بالفرق الثالث وقوعه منه عليه الصلاة والسلام في قصة الخثعمية وجواز قبلة الصائم الرابع أنه عالم بعلل النصوص وكل من هو عالم بها يلزمه العمل في صورة الفرع الذي يوجد فيه العلة وذلك بالاجتهاد الخامس أنه عليه الصلاة والسلام شاور أصحابه في كثير من الأمور المتعلقة بالحروب وغيرها ولا يكون ذلك إلا لتقريب الوجوه ولتخيير الرأي إذ لو كان لتطييب قلوبهم فإن لم يعمل برأيهم كان ذلك إيذاء واستهزاء لا تطييبا وإن عمل فلا شك أن رأيه أقوى وإذا جاز له العمل برأيهم عند عدم النص فبرأيه أولى لأنه أقوى (٢/٣٣) (٢/٣٤) قوله ولأن الأصل في الشرائع أي شرائع من قبلنا الخصوص بزمان إلا أن يدل دليل على أن (٢/٣٥) الثاني تبع للأول في الزمان وداع إلى ما دعا إليه كلوط لإبراهيم وهارون لموسى صلوات اللّه عليهم كما كان الأصل فيها الخصوص بمكان كشعيب صلوات اللّه تعالى عليه في أهل مدين وأصحاب الأيكة وموسى عليه الصلاة والسلام فيمن أرسل إليهم وإذا كان الأصل هو الخصوص فلا يثبت العموم في الأمكنة والأزمنة والأمم قوله وما ذكروا غير مختص بالأصول دفع لما أورده الفريق الثاني من اختصاص الآيتين بالأصول دون الفروع ولما ورد عليه أن بعض أحكامهم مما لحقه النسخ فلا يقتدى به ويكون مغيرا له لا مصدقا أجاب بأن النسخ ليس تغييرا بل بيانا لمدته فما انتهت مدته ارتفع ولم يبق لنا الاتباع وما بقي لزمنا الاتباع على أنه شريعة لنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم قوله واختلف في غيرهما محل الخلاف قول الصحابي المجتهد هل يكون حجة على مجتهد غير صحابي لم يظهر له دليل من كتاب أو سنة (٢/٣٦) قوله وأما التابعي ما ذكره رواية النوادر وفي ظاهر الرواية لا تقليد إذ هم رجال ونحن رجال بخلاف قول الصحابي فإنه جعل حجة لاحتمال السماع وزيادة الإصابة في الرأي ببركة صحبة النبي عليه الصلاة والسلام وذكر الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى أنه لا خلاف في أنه لا يترك القياس بقول التابعي وإنما الخلاف في أنه هل يعتد به في إجماع الصحابي حتى لا يتم إجماعهم مع خلافه فعندنا يعتد به وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى لا يعتد به (٢/٣٧) قوله باب البيان ويلحق بالكتاب والسنة البيان وهو يشارك العام والخاص والمشترك ونحوها من جهة جريانها في الكتاب والسنة إلا أنه قدم ذكرها وأخر ذكر البيان اقتداء بالسلف في ذلك ثم البيان يطلق على فعل المبين كالسلام والكلام وعلى ما حصل به التبيين كالدليل وعلى متعلق التبيين ومحله وهو العلم وبالنظر إلى هذه الإطلاقات قيل هو إيضاح المقصود وقيل الدليل وقيل العلم عن الدليل وإلى الأول ذهب المصنف رحمه اللّه تعالى وحصره في بيان (٢/٣٨) الضرورة وبيان التبديل وبيان التفسير وبيان التغيير وبيان التقرير وذكر فيه وجه ضبط وبعضهم جعل الاستثناء بيان تغيير والتعليق بيان تبديل ولم يجعل النسخ من أقسام البيان لأنه رفع للحكم لا إظهار لحكم الحادثة إلا أن فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى اعتبر كونه إظهارا لانتهاء مدة الحكم الشرعي ولا يخفى أنه إن أريد بالبيان مجرد إظهار المقصود فالنسخ بيان وكذا غيره من النصوص الواردة لبيان الأحكام ابتداء وإن أريد إظهار ما هو المراد من كلام سابق فليس بيانا وينبغي أن يراد إظهار المراد بعد سبق كلام له تعلق به في الجملة ليشمل النسخ دون النصوص الواردة لبيان الأحكام ابتداء مثل أقيموا الصلاة ثم التخصيص أيضا من بيان التغيير إلا أنه أخر ذكره لما فيه من البحث والتفصيل ولم يعده مع الاستثناء والشرط والصفة والغاية فإن قيل الغاية أيضا بيان للمدة فكيف جعلها بيانا لمعنى الكلام إلا للازمه قلنا النسخ بيان لمدة بقاء الحكم لا لشيء هو من جملة الكلام ومراده به بخلاف الغاية فإنها بيان لمدة معنى هو مدلول الكلام حتى لا يتم الكلام بدون اعتباره مثل ثم أتموا الصيام إلى الليل فلهذا جعل الغاية بيانا لمعنى الكلام دون مدة بقاء الحكم المستفاد من الكلام ثم كون النسخ تبديلا إنما هو بالنسبة إلينا حيث نفهم من إطلاق الحكم التأبيد قوله فلا يجوز التخصيص أي تخصيص الكتاب بخبر الواحد لأن خبر الواحد دون الكتاب لأنه ظني والكتاب قطعي فلا يخصصه لأن التخصيص تغيير وتغيير الشيء لا يكون إلا بما يساويه أو يكون بما فوقه وهذا مبني على أن العام قطعي فيما يتناوله وإلا فقد يجاب بأن عام الكتاب قطعي المتن لا الدلالة والتخصيص إنما يقع في الدلالة لأنه رفع الدلالة في بعض الموارد فيكون ترك ظني بظني وبعبارة أخرى الكتاب قطعي المتن ظني الدلالة والخبر بالعكس فكان لكل قوة من وجه فوجب الجمع وهو أولى من إبطال الخبر بالكلية وقد استدل بأن الصحابة كانوا يخصصون الكتاب بخبر الواحد من غير نكير فكان إجماعا على جوازه وجوابه أن خبر الواحد قطعي عند الصحابي بمنزلة المتواتر عندنا لأنه سمعه من النبي عليه السلام مع أنهم إنما كانوا يخصصون الكتاب بالخبر بعد ما ثبت تخصيصه بقطعي من إجماع أو غيره وقد عرفت أن العام الذي خص منه البعض يصير ظنيا ويجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس قوله ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز تكليف المحال ولا اعتداد به وما روي من أنه نزل قوله تعالى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل (٢/٣٩) من الفجر فكان أحدنا إذا أراد الصوم وضع عقالين أبيض وأسود وكان يأكل ويشرب حتى يتبينا فهو محمول على أن هذا الصنيع كان في غير الفرض من الصوم ووقت الحاجة إنما هو الصوم الفرض قوله فبيان التقرير والتفسير يجوز موصولا ومتراخيا اتفاقا أي بيننا وبين الشافعي رحمه اللّه تعالى وإلا فعند أكثر المعتزلة والحنابلة وبعض الشافعية لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب فإن قلت فما فائدة الخطاب على تقدير تأخير البيان قلت فائدته العزم على الفعل والتهيؤ له عند ورود البيان فإنه يعلم منه أحد المدلولات بخلاف الخطاب بالمهمل فإنه لا يفهم منه شيء ما أصلا واستدل على جواز تراخي بيان التفسير عن وقت الخطاب بقوله تعالى ثم إن علينا بيانه أي فإذا قرأناه بلسان جبريل عليك فاتبع قرآنه فتكرر فيه حتى يترسخ في ذهنك ثم إن علينا بيان ما أشكل عليك من معانيه وإنما حمل على بيان التفسير لأن معناه اللغوي هو الإيضاح ورفع الاشتباه وأما تسمية التغيير بيانا فاصطلاحا ولو سلم فبيان التفسير مراد إجماعا فلا يراد غيره دفعا لعموم المشترك ولو سلم أن اللفظ عام وليس بمشترك فبيان التغيير وقد خص منه بالإجماع (٢/٤٠) قوله وبيان التغيير إن كان بمستقل فسيأتي حكمه وإن كان بغيره كالاستثناء ونحوه فلا يصح إلا موصولا بحيث لا يعد في العرف منفصلا حتى لا يضر قطعه بتنفس أو سعال أو نحوهما وعند ابن عباس يجوز متراخيا تمسك الجمهور بقوله عليه السلام من حلف على يمين الحديث وجه التمسك أنه لو صح الانفصال لما أوجب النبي عليه السلام التكفير معينا بل قال فليستثن أو يكفر فأوجب أحدهما لا بعينه إذ لا حنث مع الاستثناء فلا كفارة على التعيين بل الواجب أحد الأمرين وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام المصنف رحمه اللّه تعالى لا على أنه لو جاز التراخي لما وجبت الكفارة أصلا لا معينا ولا مخبرا فإن قيل قد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأغزون قريشا وسكت ثم قال إن شاء اللّه تعالى وأيضا سأله اليهود عن مدة لبث أصحاب الكهف في كهفهم فقال أجيبكم غدا فتأخر الوحي بضعة عشر يوما ثم نزل ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء اللّه فقال إن شاء اللّه فقد صح انفصال الاستثناء عن قوله أجيبكم غدا بأيام فالجواب عن الأول أن السكوت العارض يحمل على ما ذكرنا من نحو تنفس أو سعال جمعا بين الأدلة وعن الثاني أن قوله عليه السلام إن شاء اللّه لا يلزم أن يعود إلى قوله غدا أجيبكم بل معناه أفعل ذلك أي أعلق كل ما أقول له إني فاعل ذلك غدا بمشيئة اللّه تعالى إن شاء اللّه كما يقال لك افعل كذا وكذا فتقول إن شاء اللّه فعلى هذا يحمل قول ابن عباس على أن مراده أنه يصح دعوى نية الاستثناء منه ولو بعد شهر على ما ذهب إليه البعض من (٢/٤١) جواز اتصال الاستثنائية وإن لم تقع تلفظا فإن قيل بيان التغيير على تقدير الاتصال مشتمل على إثبات شيء ونفيه في زمان واحد وإلا لما كان تغييرا فجوابه أنه لما وقع في كلام اللّه تعالى نحمله على وجه لا يلزم منه ذلك التنافي وذلك لأنا لا نجعل المجموع كلاما واحدا موجبا للحكم على تقدير الشرط أو الصفة مثلا وساكتا عن ثبوته ونفيه على تقدير عدمه حتى لو ثبت بدليله ثبت ولو انتفى انتفى بناء على عدم دليل الثبوت على ما سبق في فصل مفهوم المخالفة فإن قلت فما معنى التغيير على هذا التقدير قلت معناه أنه يفهم الإطلاق على تقدير عدم ذكر المغير فبعد ذكره تغير المراد الذي كان يفهمه السامع على تقدير عدم المغير ولا يخفى أنه على هذا التقدير يكون جميع متعلقات الفعل من قبيل بيان التغيير وقد يقال إنه كان أولا للإيجاب وبعد البيان صار تصرف يمين ولا يخفى أن هذا إنما يصح في بعض صور الشرط لا غير قوله واختلف في التخصيص بالكلام المستقل أنه هل يصح متراخيا أم لا وذكر المستقل للتحقيق والتوضيح دون التقييد لأن التخصيص بالكلام لا يكون إلا بالمستقل وليس الخلاف في (٢/٤٢) جواز قصر العام على بعض ما يتناوله بكلام متراخ عنه وإنما الخلاف في أنه تخصيص حتى يصير العام في الباقي ظنيا أو نسخ حتى يبقى قطعيا بناء على أن دليل النسخ لا يقبل التعليل وقد نبهت على أن اشتراط الاستقلال والمقارنة في التخصيص مجرد اصطلاح مع أن العمدة في التخصيص عند الجمهور إنما هي الاستثناء والشرط والصفة والغاية ويدل البعض على أنه لا يستمر لهم الجري على هذا الاصطلاح لتصريحهم بأن العام إذا خص منه البعض صار ظنيا يجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس ولا يخفى أن التخصيص بكلام مستقل مقارن في غاية الندرة ثم الخلاف في جواز التراخي جار في كل ظاهر يستعمل في خلافه كالمطلق في المقيد والنكرة في المعين ولهذا صح استدلال الشافعية بقصة البقرة وإلا فلفظ بقرة نكرة في الإثبات فلا يكون من العموم في شيء وجه الاستدلال أنهم أمروا بذبح بقرة معينة مع أن اللفظ مطلق ورد بيانه متراخيا وإنما قلنا إنهم أمروا بذبح بقرة معينة لأن الضمير في قوله تعالى إنها بقرة صفراء فاقع لونها للبقرة المأمور بذبحها وللقطع بأنهم لم يؤمروا ثانيا بمتجدد وبأن الامتثال إنما حصل بذبح البقرة المعينة والجواب منع ذلك بل المأمور بذبحها كانت بقرة مطلقة على ما هو ظاهر اللفظ ولذا قال ابن عباس وهو رئيس المفسرين لو ذبحوا أدنى بقرة لأجزأتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد اللّه تعالى عليهم وقد دل قوله تعالى وما كادوا يفعلون على أنهم كانوا قادرين على الفعل وأن السؤال عن التعيين كان تعنتا وتعللا ثم نسخ الأمر بالمطلق وأمر بالمعين واعترض بأنه يؤدي إلى النسخ قبل الاعتقاد والتمكن من العمل جميعا إذ لم يحصل لهم العلم بالواجب قبل السؤال والبيان والجواب أنهم علموا أن الواجب بقرة مطلقة وإطلاق اللفظ كاف في العلم بذلك والتردد إنما وقع في التفصيل والتعيين قوله في قوله تعالى لنوح عليه السلام فاسلك أي أدخل في السفينة من كل جنس من الحيوان ذكرا وأنثى وأدخل فيها نساءك وأولادك ثم خص ابنه بقوله تعالى إنه ليس من أهلك قوله لأن ما لغير العقلاء فذهب البعض وجمهور أئمة اللغة على أنها تعم العقلاء وغيرهم فإن قيل لو كان ما لغير العقلاء لما أورد ابن الزبعرى هذا السؤال وهو من الفصحاء العارفين باللغة ولما سكت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن تخطئته فالجواب أنه إنما أورده تعنتا بطريق المجاز أو التغليب فإن أكثر معبوداتهم الباطلة من غير ذوي العقول فغلب جانب الكثرة ولا يخفى أن التغليب أيضا نوع من المجاز وقد روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل فعلى هذا يكون قوله تعالى إن الذين سبقت لدفع احتمال المجاز لا لتخصيص العام قوله وأصحابنا قالوا إن الخلاف مبني على أن التخصيص بالمستقل بيان تغيير عندنا وبيان تفسير عند الشافعي رحمه اللّه تعالى ثم رد ذلك بأنه لا فرق عند الشافعي رحمه اللّه تعالى بين التخصيص بالمستقل وبين الاستثناء في أن كلا منهما بيان تفسير وإنما افترقا في جواز التراخي بناء على الاستقلال وعدمه وأقوال المحققين من أصحاب الشافعي رحمه اللّه تعالى على أن الاستثناء بيان تغيير بخلاف التخصيص المستقل وغيره من المخصصات وذلك لأن المراد في الاستثناء (٢/٤٣) مجموع الأفراد لكن لا يتعلق الحكم إلا بعد إخراج البعض وسائر أنواع التخصيص ليس كذلك بل هو بيان ودلالة على أن المراد البعض قوله فصل في الاستثناء قد اشتهر فيما بينهم أن الاستثناء حقيقة في المتصل مجاز في المنقطع والمراد بالاستثناء صيغ الاستثناء وأما لفظ الاستثناء فحقيقة اصطلاحية في القسمين بلا نزاع فالصواب أن يقسم أولا إلى القسمين ثم يعرف كل على حدة والمصنف رحمه اللّه تعالى ذهب إلى أن لفظ الاستثناء مجاز في المنقطع فلم يجعله من أقسام الاستثناء ثم المتعارف في عبارة القوم أن الاستثناء هو الإخراج من متعدد بإلا وأخواتها وعدل المصنف رحمه اللّه تعالى عن ذلك إلى المنع عن الدخول لأنه إن أريد الإخراج عن الحكم فالبعض غير داخل فيه حتى يخرج وإن أريد الإخراج عن تناول اللفظ إياه وانفهامه من اللفظ فلا إخراج لأن التناول باق بعد وإن أريد بالإخراج المنع عن الدخول فهو مجاز يجب صيانة الحدود عنه وأنت خبير بأن تعريفات الأداء مشحونة بالمجاز على أن الدخول والخروج هاهنا مجاز ألبتة لأن الدخول هو الحركة من الخارج إلى الداخل والمخروج بالعكس (٢/٤٤) قوله بإلا وأخواتها احتراز عن سائر أنواع التخصيص أعنى الشرط والصفة والغاية وبدل البعض والتخصيص بالمستقبل وإطلاق التخصيص على الجميع باعتباراتها قصر للعموم ونقض للشيوع على ما هو مصطلح الشافعية فإن قيل يدخل في التعريف الوصف بإلا وغير وسوى ونحو ذلك قلنا إن تحقق تناول صدر الكلام وعمومه فهو استثناء وإلا فلا انتقاض لعدم التناول قوله قالوا تحقيق كون الاستثناء بيان تغيير أما التغيير فبالنظر إلى شمول الحكم للجميع على تقدير عدم الاستثناء وأما البيان فبالنظر إلى أنه إظهار أن المتكلم أراد البعض وهذا ظاهر في المذهب الأول وليس مختارا عنده وهذا معنى قولهم موجب الكلام بدون الاستثناء هو الثبوت للكل فغير إلى الثبوت للبعض وفيه بيان أن المراد ثبوت الحكم للبعض وقال في التقويم هو تغيير من حيث إنه رفع البعض وبيان من حيث إنه قرر الباقي قوله واختلفوا في كيفية عمله قد سبق إلى الفهم أن في الاستثناء المتصل تناقضا من حيث إن قولك لزيد علي عشرة إلا ثلاثة إثبات للثلاثة في ضمن العشرة ونفي لها صريحا فاضطروا إلى بيان كيفية عمل الاستثناء على وجه لا يرد ذلك وحاصل أقوالهم فيها ثلاثة الأول أن العشرة مجاز عن السبعة وإلا ثلاثة قرينة الثاني أن المراد بعشرة معناها أي عشرة أفراد فيتناول السبعة والثلاثة معا ثم أخرج منها ثلاثة حتى بقيت سبعة ثم أسند الحكم إلى العشرة المخرج منها الثلاثة فلم يقع الإسناد إلا على سبعة الثالث أن المجموع أعني عشرة إلا ثلاثة موضوع بإزاء سبعة حتى كأنه وضع لها اسمان مفرد هو سبعة ومركب هو عشرة إلا ثلاثة قوله مع فرق آخر هذه مسألة اختلافهم في أن الاستثناء من الإثبات هل هو نفي أم لا (٢/٤٥) فعند الشافعي رحمه اللّه تعالى نعم حتى يكون معنى إلا ثلاثة أنها ليست علي وعند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى لا حتى يكون معناه عدم الحكم بثبوت الثلاثة وجعلها في حكم المسكوت عنه لا إثبات ولا نفي بخلاف التخصيص بالمستقل فإنه يثبت حكما مخالفا لحكم صدر الكلام اتفاقا قوله وهذا المذهب ذكر بعض المشايخ أن الاستثناء يعمل عندنا بطريق البيان بمعنى الدلالة على أن البعض غير ثابت من الأصل حتى كأنه قيل علي سبعة ولم يتعلق التكلم بالعشرة في حق لزوم الثلاثة فالاستثناء تصرف في الكلام بجعله عبارة عما وراء المستثنى وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى بطريق المعارضة بمعنى أن أول الكلام إيقاع للكل لكنه لا يقع لوجود المعارض وهو الاستثناء الدال على النفي عن البعض حتى كأنه قال إلا ثلاثة فإنها ليست علي فلا يلزمه الثلاثة للدليل المعارض لأول الكلام فيكون الاستثناء تصرفا في الحكم فأجابوا بأن الكلام قد يسقط حكمه بطريق المعارضة بعد ما انعقد في نفسه كما في التخصيص وقد لا ينعقد بحكمه كما في طلاق الصبي والمجنون إلا أن إلحاق الاستثناء بالثاني أولى لأنه لو انعقد الكلام في نفسه مع أنه لا يوجب العشرة بل السبعة فقط لزم إثبات ما ليس من محتملات اللفظ إذ السبعة لا تصلح مسمى للفظ (٢/٤٦) العشرة لا حقيقة وهو ظاهر ولا مجازا إلا أن اسم العدد نص في مدلوله لا يحتمل على غيره ولو سلم فالمجاز خلاف الأصل فيكون مرجوحا فاستدل المصنف بهذا الجواب على أن مرادهم بكونه بطريق المعارضة هو أن المستثنى منه عبارة عن القدر الباقي مجازا والاستثناء قرينة على ما صرح به صاحب المفتاح حيث قال إن استعمال المتكلم للعشرة في التسعة مجاز وإلا واحدا قرينة المجاز قوله أو قبله عطف على قوله بعد الحكم أي أطلق العشرة على عشرة أفراد ثم أخرج ثلاثة قبل الحكم ثم حكم على الباقي من العشرة وهو السبعة (٢/٤٧) قوله حجته قد احتج الذاهبون إلى المذهب الأول بأنه لا بد أن يراد بعشرة كمالها أو سبعة إذ لا ثالث والأول باطل للقطع بأنه لم يقر إلا بسبعة فتعين الثاني وأيضا لو كان المراد عشرة بكمالها لامتنع من الصادق مثل قوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما لما يلزم من إثبات لبث خمسين ونفيه وأجيب بأن المراد باللفظ الكل والحكم إنما يتعلق بعد إخراج البعض إذ الكلام يتم بآخره فلا فساد وقد أورد فخر الإسلام رحمه اللّه ثلاث حجج من قبل الشافعي رحمه اللّه في أن الاستثناء يعمل بطريق المعارضة دون البيان ولما ذهب المصنف إلى أن القول بأنه يعمل بطريق المعارضة معناه القول بالمذهب الأول جعلها حججا على المذهب الأول تقرير الأولى أنه لا سبيل إلى جعل المستثنى في حكم المسكوت عنه لأن إعدام التكلم أي القول بعدم التكلم الموجود حقيقة غير معقول بل هو إنكار للحقائق بخلاف وجود التكلم مع عدم حكمه أي الأثر الثابت به بناء على مانع فإنه شائع مستفيض كالعام الذي خص منه البعض يمتنع حكمه في القدر المخصوص فهاهنا يثبت التكلم بالكل وينعقد الكلام في نفسه إلا أنه يمتنع الحكم في القدر المستثنى لوجود المعارض وهو الاستثناء وتقرير الثانية أن أهل اللغة أجمعوا على أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وهذا صريح في أن الاستثناء يدل على أن حكم المستثنى مخالف لحكم الصدر فيكون معارضا له لا في حكم المسكوت عنه وتقرير الثالثة أنهم أجمعوا على أن قولنا لا إله إلا اللّه كلمة توحيد أي إقرار بوجود الباري تعالى ووحدانيته فلو لم (٢/٤٨) يكن عمل الاستثناء بطريق المعارضة وإثباته حكما مخالفا لحكم الصدر لما لزم الإقرار بوجود اللّه تعالى بل بنفي الألوهية عن ما سواه والتوحيد لا يتم إلا بإثبات الألوهية للّه تعالى ونفيها عما سواه ولا شك أنه لو تكلم بكلمة التوحيد دهري منكر لوجود الصانع يحكم بإسلامه ورجوعه عن معتقده فثبت أن الاستثناء يدل على إثبات حكم مخالف للصدر هذا تقرير الحجج على وفق ما ذكره القوم احتجاجا بها على أن عمل الاستثناء بطريق المعارضة وأنه من النفي إثبات وبالعكس وقد سبق أن هذا عبارة عن المذهب الأول فيكون حججا على إثباته وأيضا أنها تدل على بطلان المذهبين الأخيرين فتعين الأول وذلك لأنه لا يتحقق على المذهبين الأخيرين حكمان أحدهما نفي والآخر إثبات بل حكم واحد فقط أما على المذهب الثاني فلأنه إنما يتعلق الحكم بالصدر بعد إخراج البعض منه فلا حكم فيه إلا على الباقي وأما على المذهب الثالث فلأن مجموع المستثنى منه والمستثنى وآلة الاستثناء عبارة عن الباقي ولا حكم إلا عليه هذا ولكن لا يخفى أن الحجة الأولى لا تدل على نفي المذهب الثالث إذ ليس فيه إعدام للتكلم بل قول بأن عشرة إلا ثلاثة اسم للسبعة فليس فيه إلا العدول عن التكلم بالأخصر إلى التكلم بالأطول قوله فإن قيل تقرير السؤال ظاهر من الكتاب وتوجيه الجواب منع الملازمة وهي قوله إن كان المراد بالنصف المستثنى نصف الجارية لزم استثناء نصف الجارية من نصف الجارية وإنما يلزم ذلك لو كان النصف مستثنى من المراد وليس كذلك بل هو مستثنى من المتناول أي ما يتناوله اللفظ وهو الجارية بكمالها على ما سبق من أن الاستثناء عبارة عن منع دخول بعض ما يتناوله صدر الكلام في حكمه وفيه بحث أما أولا فلأن المستثنى منه هو اللفظ باعتبار ما يتناوله بحسب الاستعمال وقصد المتكلم لا بحسب الوضع للقطع بأنه لا يصح استثناء بعض الأفراد الحقيقي عن اللفظ المستعمل في معناه المجازي إذا كان استثناء متصلا مثل جعلوا أصابعهم في آذانهم إلا أصولها بأن يراد بالأصابع الأنامل ويخرج منها الأصول على أنه استثناء متصل وما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى من هذا القبيل لأنه أراد بالجارية نصفها مجازا وأخرج النصف منها باعتبار أنها تتناول الكل بحسب الوضع أما ثانيا فلأنه غير اعتراض ابن الحاجب هربا عن إشكال الضمير وتقرير اعتراضه أنا قاطعون بأن من قال اشتريت الجارية إلا نصفها لم يرد بالجارية نصفها وإلا لزم استثناء نصفها من نصفها وهو باطل قطعا وأيضا يلزم التسلسل لأن استثناء النصف من (٢/٤٩) الجارية يقتضي أن يراد بها النصف وإخراج النصف من النصف يقتضي أن يراد به الربع وإخراج النصف من الربع يقتضي أن يراد به الثمن وهكذا إلى غير النهاية وأيضا إنا قاطعون بأن الضمير يعود إلى الجارية بكمالها لا إلى نصفها مع القطع بأن مدلول الجارية وضميرها واحد وعلى ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى يلزم أن يراد بالجارية معناها المجازي وبضميرها معناها الحقيقي على عكس ما هو المشهور في صنعة الاستخدام قوله والجواب أجاب عن الحجة الأولى بأن القول بل الاستثناء يعمل بطريق المعارضة وأن المراد بالمستثنى منه هو البعض مما لا يصح في بعض الصور وهو إذا كان اسم عدد فإنه لفظ خاص في مدلوله بمنزلة العلم لا يستعمل في غيره حقيقة ولا مجازا ولما كان هذا ضعيفا بناء على أن المجاز باعتبار إطلاق اسم الكل على البعض شائع حتى يجري في الأعلام بأن يطلق زيد ويراد بعض أعضائه قال ولو صحت الإرادة مجازا فالأصل عدم المجاز لا يصار إليه إلا بدليل وهاهنا يصح أن يراد الكل ويكون تعلق الحكم بعد إخراج البعض ولا يخفى عليك أن هذا دليل مستقل على نفي المذهب الأول ولا بد في جعله جوابا عن الحجة الأولى من تكلف وأجاب عن الثانية بأن قول أهل اللغة أن الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس مجاز لوجوه (٢/٥٠) الأول أنهم أجمعوا على أنه استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا أي يستخرج بالاستثناء بعض الكلام على أن يكون موجبا ويجعل الكلام عبارة عما وراء المستثنى فظاهر الإجماعين متناف فلا بد من الجمع بينهما بحمل الأول على المجاز وإنما عدل المصنف رحمه اللّه تعالى عن هذا الوجه لضعفه لأن الإجماع الثاني ممنوع ولو سلم فيجوز أن يحمل على أنه تكلم بالباقي بحسب وضعه وحقيقته وإثبات ونفي بحسب إشارته على ما صرح به فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى من أن كونه نفيا وإثباتا ثابت بدلالة اللغة كصدر الكلام إلا أن موجب صدر الكلام ثابت قصدا وكون الاستثناء نفيا وإثباتا ثابت إشارة ولا شك أن الثابت بالإشارة ثابت بنفس الصيغة وإن لم يكن السوق لأجله الثاني أن القول بكون الاستثناء من النفي إثباتا وبالعكس إنما يصح على المذهب الأول دون الأخيرين وقد أبطلنا المذهب الأول بما سبق من الدليل فبطل صحة كون الاستثناء من النفي إثباتا وبالعكس فوجب تأويل الإجماع عليه (٢/٥١) @ ٥٢ الثالث أن القول بكونه من النفي إثباتا وبالعكس لا يصح في كثير من الصور كقوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بطهور على ما سيأتي واعلم أن كلام المصنف رحمه اللّه تعالى مبني على أن القول بكون الاستثناء من النفي إثباتا وبالعكس إنما يصح على المذهب الأول بل هو عينه وأما على المذهبين الأخيرين فلا حكم على المستثنى أصلا لا بالنفي ولا بالإثبات وفيه نظر لأن جمهور القائلين بالمذهب الثاني كابن الحاجب وغيره قائلون بأن الاستثناء من النفي إثبات وبالعكس بمعنى أنه أخرجت من العشرة ثلاثة ثم تعلق بالعشرة المخرج منها الثلاثة الحكم بالثبوت وبالثلاثة الحكم بعدم الثبوت قوله ووجه المجاز أي طريق هذا المجاز إطلاق الأخص على الأعم والملزوم على اللازم وذلك لأن انتفاء حكم الصدر لازم للحكم بخلاف حكم الصدر لأنه كلما تحقق الحكم بنقيض حكم الصدر انتفى حكم الصدر من غير عكس كما في قوله لا صلاة إلا بطهور فإن حكم الصدر وهو عدم الصحة منتف عن الصلاة بطهور ولم يتحقق الحكم بنقيضه وهو الحكم بصحة كل صلاة بطهور فعبروا عن انتفاء حكم الصدر بالحكم بنقيض حكم الصدر تعبيرا عن اللازم بالملزوم فقالوا هو من النفي إثبات وبالعكس قال في التقويم إن قولهم هو من النفي إثبات ومن الإثبات نفي إطلاق على ظاهر الحال مجازا لأنك إذا قلت لفلان علي ألف درهم إلا عشرة لم يجب العشرة كما لو نفيتها ولكن عدم الوجوب على المقر ليس بنص ناف للوجوب عليه بل لعدم دليل الوجوب قوله وليس نفيا أو إثباتا أورد دليلين على الاستثناء في مثل لا صلاة إلا بطهور لا يجوز أن يكون إثباتا وإن كان من النفي الأول أنه لو كان إثباتا لكان معناه صلاة بطهور ثابتة أي صحيحة وقد سبق أن النكرة الموصوفة تعم بعموم الصفة فيكون المعنى كل صلاة بطهور صحيحة وهذا باطل لأن بعض الصلاة الملصقة بالطهور باطلة كالصلاة إلى غير جهة القبلة وبدون النية ونحو ذلك وهذا في غاية الفساد (٢/٥٢) للقطع بأن مثل قولنا أكرمت رجلا عالما لا يدل على إكرام كل عالم وكون الوصف علة تامة للحكم بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر غير مسلم في شيء من الصور فضلا عن جميع الصور والقول بعموم النكرة الموصوفة مما قدح فيه كثير من العلماء الحنفية فضلا عن القائلين بأن الاستثناء من النفي إثبات وبالعكس ولا نزاع لأحد في أن من حلف لأكرمن رجلا عالما يبر بإكرام عالم واحد وأما من حلف لا أجالس إلا رجلا عالما فإنما لا يحنث بمجالسة عالمين أو أكثر بناء على أن الوصف قرينة أن المستثنى هو النوع لا الفرد بخلاف ما لو قال لا أجالس إلا رجلا على أن القائلين بعموم النكرة الموصوفة لا يشترطون في العموم الاستغراق الثاني أن قوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة سلب كلي بمعنى لا شيء من الصلاة بجائزة والسلب الكلي عند وجوب الموضوع في قوة الإيجاب الكلي المعدول المحمول فيكون المعنى كل واحد من أفراد الصلاة غير جائز إلا في حال اقترانها بالطهور فيجب أن يتعلق الاستثناء بكل صلاة إذ لو تعلق بالبعض لزم جواز البعض الآخر بلا طهور ضرورة أنه لم يشترط الطهور إلا في بعض الصلاة وهو باطل وإذا تعلق الاستثناء بكل فرد والاستثناء من النفي إثبات لزم تعلق إثبات ما نفي عن الصدر بكل فرد من أفراد الصلاة فيكون المعنى كل واحد من أفراد الصلاة جائز حال اقترانها بالطهور وهو باطل لما مر فإن قلت معنى تعلق الاستثناء بكل واحد أن البعض الذي هو المستثنى قد أخرج من الحكم المتعلق بكل واحد وهو عدم الجواز وأثبت له حكم مخالف له وهو الجواز فلا يلزم جواز كل صلاة ملتصقة بالطهور قلت المخرج على هذا التقدير بعض الأحوال لا بعض أفراد الصلاة إذ الدليل الثاني مبني على أن يكون قوله إلا بطهور حالا والمعنى لا صلاة جائزة في حال من الأحوال إلا في حال اقترانها بالطهور بمعنى أن كل صلاة فهي غير جائزة إلا في تلك الحال فإنها جائزة حينئذ كما تقول ما جاءني القوم إلا راكبين بمعنى جاءوا راكبين لا ماشين من جهة أن الحكم المثبت على الحالة المستثناة يكون بعينه هو المنفي في صدر الكلام وبالعكس لا من جهة أن تعلق الاستثناء بالبعض يستلزم جواز بعض الصلاة بلا طهور فإنه مما لا يدل عليه شبهة فضلا عن أن يكون حجة كيف والحكم الكلي في صدر الكلام إنما هو عدم الجواز ولا دلالة له على أن المشروط بالطهور هو جواز البعض دون البعض والدليل الأول مبني على أن يكون خبرا والمعنى لا صلاة إلا صلاة ملتصقة بالطهور نعم لقائل أن يقول إن الموضوع في صدر الكلام نكرة دالة على (٢/٥٣) فرد ما وإنما جاء عمومها من ضرورة وقوعها في سياق النفي ففي جانب الاستثناء يوجد أيضا ذلك الموضوع ولا يعم لكونه في الإثبات فيكون المعنى لا صلاة جائزة إلا في حال الاقتران بالطهور فإن فيها ينتفي هذا الحكم ويثبت نقيضه وهو جواز شيء من الصلوات إذ نقيض السلب الكلي إيجاب جزئي كما يقال ما جاءني أحد إلا راكبا قوله فإن قيل حاصل السؤال أنكم قائلون بعموم النكرة الموصوفة وقد ذكرتم في مثل لا أجالس إلا رجلا عالما أن له أن يجالس كل عالم فيلزم هاهنا أيضا أن تصح كل صلاة بطهور وهذا قول بكون الاستثناء من النفي إثباتا وحاصل الجواب أنا قائلون بالعموم لكن لا يلزمنا الحكم بجواز كل صلاة بطهور بل يلزمنا عدم الحكم بعدم جواز كل صلاة بطهور وهذا أعم من الحكم بالجواز والعام لا يستلزم الخاص وأما جواز مجالسة كل عام فإنما هي بالإباحة الأصلية لا بدلالة الاستثناء وذلك لأنه باليمين إنما حرم مجالسة غير العالم فبالاستثناء أخرج العالم عن تحريم المجالسة فبقي مباح المجالسة بحكم الأصل (٢/٥٤) قوله وأيضا لما لم يسلم الخصم قاعدة عموم النكرة الموصوفة أثبت لزوم العموم في مثل لا صلاة إلا بطهور بطريق إلزامي وهو أنه سلم في باب القياس أن من مراتب إثبات العلية بطريق الإيماء أن يفرق بين حكمين بوصفين بطريق الاستثناء كما في قوله تعالى فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون فإن العفو علة لسقوط المفروض فهاهنا لو كان الاستثناء إثباتا لكان الاقتران بالطهور علة الجواز والخلو عنه علة عدم الجواز فيلزم جواز كل صلاة مقترنة بالطهور ضرورة وجود الحكم عند وجود العلة وفيه نظر لأنه طريق ظني وقد عارضه الأدلة القاطعة على أن مجرد الطهور ليس علة للجواز بل يفتقر إلى أشياء أخرى على أنه لو ثبت العلية لم يضر لجواز انتفاء الحكم لعدم شرط أو وجود مانع فمن أين يلزم جواز كل صلاة بطهور والحاصل أنهم قائلون بأن مثل قولنا ما كتبت إلا بالقلم يدل على ثبوت الكتابة بالقلم لكن لا يلزم منه أن لا يتوقف الكتابة على شيء آخر قولهوهذا أقوى دليل للخصم أن يمنع كونه دليلا إذ لا دلالة مع احتمال الانقطاع وكون الأصل في الاستثناء هو الاتصال لا يفيد لجواز أن يعدل عن الأصل بقرينة عدم ظهور ما يصلح استثناؤه منه فالأوجه أن يقال إن قوله إلا خطأ مفعول أو حال أو صفة مصدر محذوف فيكون مفرغا والاستثناء المفرغ متصل لأنه معرب على حسب العوامل فيكون من تمام الكلام ويفتقر إلى تقدير مستثنى منه عام مناسب له في جنسه ووصفه قوله وأما كلمة التوحيد جواب عن الحجة الثالثة وتقريره ظاهر فإن قيل لزوم وجوده (٢/٥٥) تعالى بطريق الإشارة اعتراف بمذهب الخصم فإنه لا يدعي أنه يفيد الإثبات بطريق العبارة بمعنى أن يكون السوق لأجله بل يدعي أنه مدلول اللفظ ولزوم وجوده تعالى بطريق الضرورة على الوجه المذكور يقتضي أن لا يصير الدهري النافي للصانع مؤمنا بهذه الكلمة وهو خلاف الإجماع أجيب على الأول بأن محل الخلاف هو اطراد هذا الحكم أعني كون الاستثناء من النفي إثباتا وثبوته بطريق الإشارة في هذه الصورة لا يوجب الاطراد لانتفائه في مثل لا صلاة إلا بطهور وعن الثاني بأن مبنى الأمر على الأعم الأغلب وحكم بإسلامه عملا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه الحديث قوله وما قيل حاول ابن الحاجب وغيره المذهب الثالث بوجوه الأول أنا قاطعون بأن المراد من كل من المستثنى والمستثنى منه وآلة الاستثناء معناه الإفرادي والمفرد لا يقصد بجزء منه الدلالة على جزء معناه الثاني أنه خارج عن قانون لغة العرب إذ لم يعهد مركب من ثلاثة ألفاظ ولا مركب أعرب جزؤه الأول وهو غير مضاف الثالث أنه يلزم عود الضمير إلى جزء الاسم في مثل اشتريت الجارية إلا نصفها (٢/٥٦) الرابع أن أهل اللغة أجمعوا على أن الاستثناء إخراج بعض من كل وعلى تقدير أن يكون عشرة إلا ثلاثة اسما للسبعة لا يتحقق هذا المعنى فأشار المصنف رحمه اللّه تعالى إلى منع الوجه الثاني ونقضه وحله على وجه يندفع به الوجوه الأربعة أما المنع فهو أنا لا نسلم أنه لم يعهد في لغة العرب لفظ مركب من أكثر من كلمتين فإن كثيرا من الأعلام كذلك مثل شاب قرناها وبرق نحره وأمثال ذلك وأما النقض فهو أن مثل أبي عبد اللّه علم مركب من ثلاث كلمات مع أن الإعراب في وسطه بدليل قولنا جاءني أبو عبد اللّه ورأيت أبا عبد اللّه ومررت بأبي عبد اللّه وأما الحل فهو أنه إن أريد أنه ليس في لغة العرب تركب الموضوع الشخصي من أكثر من كلمتين فمسلم لكن القائلين بأن المستثنى منه والمستثنى وأداة الاستثناء عبارة عن الباقي لم يريدوا أنه موضوع له بالشخص بمنزلة بعلبك ومعدي كرب بل أرادوا أنه موضوع له بالنوع بمعنى أنه ثبت من الواضع أنه إذا ذكر ذلك فهم منه الباقي كما ثبت منه أنه إذا غير صيغة فعل بالفتح إلى فعل بضم الفاء وكسر العين يفهم منها معنى المبني للمفعول وإذا ركب زيد مع قائم وجعلا مرفوعين فهم منه الحكم بثبوت القيام لزيد إلى غير ذلك من القواعد الصرفية والنحوية فإنها أوضاع كلية وإن أريد أنه ليس في اللغة تركب الموضوع النوعي من أكثر من كلمتين فظاهر الفساد فإن جميع المركبات موضوعة بالنوع سواء تركب من كلمتين أو أكثر مثل قولنا حيوان ذو نطق وقولنا جسم نام حساس متحرك بالإرادة ونطق فإنه موضوع للإنسان بالنوع على معنى أنه ثبت من الواضع أنه إذا ذكر اسم جنس ووصف بما يخص بعض أنواعه فهم منه ذلك النوع فالموضوع النوعي كثيرا ما يتركب من أكثر من كلمتين ويكون الإعراب في وسطه كما ترى ويكون لأجزائه دلالة على معانيها الإفرادية لأنها كلمات ولا يصير المجموع كلمة واحدة حتى يكون كل من المفردات جزءا من الكلمة فيمتنع عود الضمير إليه بل يكون عود الضمير إلى المستثنى منه بمنزلة عوده إلى المبتدأ في مثل زيد أبوه قائم مع أنه جزء من المركب الموضوع بالنوع وهذا المعنى لا ينافي في الإخراج المجمع عليه لأنه مما يفيده أداة الاستثناء والمعاني الإفرادية ليست مهجورة في الموضوعات النوعية وأقول أما المنع فجوابه الاستقراء ونقل أئمة اللغة وأما النقض بمثل شاب قرناها فمدفوع (٢/٥٧) بما ذكر في الكشاف جوابا عما قيل إنه لم يعهد التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا فكيف تكون الكلمات المتهجى بها أسماء للصور وذلك أنه قال إن التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب لكن إذا جعلت اسما واحدا على طريقة حضرموت وأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار فيها لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية كما سموا بتأبط شرا وبرق نحره وشاب قرناها وكما لو سمي بزيد منطلق وببيت من الشعر ولا خفاء في أن مثل عشرة إلا ثلاثة ليس محكيا بل معربا بحسب العوامل وأما النقض بمثل أبي عبد اللّه حيث أعرب في وسطه ففي غاية الفساد لأن ابن الحاجب قد احترز عنه حيث قال ولا يعرب الجزء الأول وهو غير مضاف ولا أدري كيف خفي هذا على المصنف رحمه اللّه تعالى وأما الحل فليس بمستقيم لأن المقصود دفع التناقض المتوهم في الاستثناء حيث أسند الحكم إلى الكل وأخرج البعض فالقول بكون المركب موضوعا للباقي وضعا كليا ليس مما يخفى على أحد أو يقع فيه اختلاف أو يصلح أن يكون مقابلا للمذهبين الأولين لكنه لا يفي بالمقصود لأن المفردات حينئذ مستعملة في معانيها الإفرادية فإما أن يراد بالعشرة في قولنا له علي عشرة إلا ثلاثة عشرة أفراد ويحكم بإثباتها وهو التناقض أو يراد سبعة أفراد وهو المذهب الأول أو يراد عشرة أفراد لكن يتعلق الحكم بها بعد إخراج الثلاثة وهو المذهب الثاني فمجرد القول بأن المجموع موضوع للسبعة بالنوع لا يغني من الحق شيئا بل التحقيق في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين وهو أن عشرة أخرجت منها ثلاثة مجاز للسبعة لأن العشرة التي أخرجت منها ثلاثة عشرة ولا شيء من السبعة بعشرة والعشرة بعد إخراج الثلاثة وقبله مفهوم واحد وليست السبعة بعشرة على حال أطلقتها أو قيدتها إنما هي الباقي من العشرة بعد إخراج الثلاثة كما يقال إنها أربعة ضمت إليها ثلاثة وإنها ليست بأربعة أصلا وإنما هي الحاصل من ضم الأربعة إلى الثلاثة ثم إن السبعة مرادة في مثل عشرة إلا ثلاثة فإن قلنا هذا التركيب حقيقة في عشرة موصوفة بأنها أخرجت منها ثلاثة فكان مجازا في السبعة وهو المذهب الأول وإن قلنا هو موضوع للباقي من العشرة بعد إخراج الثلاثة ولا يفهم منها عند الإطلاق إلا ذلك وليس مدلولها عشرة مقيدة فهو موضوع للسبعة لا على أنه وضع له وضعا واحدا كما يتصور بل على أنه يعبر عنه بلازم مركب والشيء قد يعبر عنه باسمه الخاص وقد يعبر عنه بمركب يدل على بعض لوازمه وذلك في العدد ظاهر فإنك قد تنقض عددا من عدد حتى يبقى المقصود كما تنقض ثلاثة من عشرة حتى تبقى سبعة وقد يضم عدد إلى عدد حتى يحصل المقصود كما قال الشاعر بنت سبع وأربع وثلاث هي حب المتيم المشتاق والمراد منه بنت أربع عشرة وقد يعبر عنه بغيرهما كما يقال العشرة جذر المائة وضعف الخمسة وربع الأربعين وعلى هذا ينبغي أن يحمل المذهب الأخير والمذهب الثاني يرجع إلى أحدهما وأنت بعد ذلك خبير بما يرد على الوجوه التي أبطلوا بها المذهبين قوله شبهوا الاستثناء بالغاية حيث قالوا إن موجب صدر الكلام ينتهي بالاستثناء انتهاء الإثبات بالعدم والنفي بالوجود كما ينتهي بالغاية أصل الكلام ولزم من انتهاء الأول إثبات الغاية فصار كل من الإثبات والنفي في المستثنى ثابتا بدلالة اللغة كالصدر إلا أن حكم الصدر ثابت قصدا (٢/٥٨) وعبارة وحكم المستثنى ضمنا وإشارة ولا يخفى أن هذا إنما يصح في غير الاستثناء المفرغ للقطع بأن مثل ما جاءني إلا زيد وما زيد إلا قائم مسوق لإثبات مجيء زيد وقيامه بأبلغ وجه وأوكده حتى قالوا إنه تأكيد على تأكيد قوله بحكم العرف يعني أن العرف شاهد على أن الاستثناء يفيد إثبات حكم مخالف للصدر بطريق الإشارة دون العبارة وهو إنما يصح على المذهب الثاني دون الأول لأنه يفيده بطريق العبارة ودون الثالث لأنه لا يفيد أصلا إلا أن الكلام في ثبوت هذا العرف وفرقه بين العددي وغيره وأيضا مبنى هذا الكلام على أن كون الاستثناء من النفي إثباتا وبالعكس منطوق على المذهب الأول دون الثاني وقد عرفت ما فيه وأنه لا يختلف باختلاف المذهبين قوله وهذا مناسب يعني في القول بأن الاستثناء الغير العددي يفيد النفي والإثبات بطريق الإشارة توفيق بين الإجماعات الأربعة الأول ما قال علماء البيان في إفادة ما وإلا للقصر مثل ما جاءني إلا زيد إن الاستثناء موضوع لنفي التشريك بمعنى أنه لا يشارك المستثنى في الحكم غيره من أفراد المستثنى منه ويلزم منه التخصيص أي إثبات الحكم للمستثنى ونفيه عما سواه وهو معنى القصر الثاني إجماع أهل اللغة على أنه إخراج أي للمستثنى من حكم المستثنى منه الثالث إجماعهم على أنه تكلم بالباقي أي قصد إلى الحكم على ما بقي من الأفراد بعد الاستثناء من غير قصد إلى إثبات أو نفي في القدر المستثنى وإن كان لازما الرابع إجماعهم على أنه من النفي إثبات ومن الإثبات نفي أي ضمنا وإشارة لا قصدا وعبارة قوله مسألة شرط الاستثناء أن يكون المستثنى منه بحيث يدخل فيه المستثنى قصدا وحقيقة على تقدير السكوت عن الاستثناء لا تبعا وحكما لأن الاستثناء تصرف لفظي فيقتصر عمله على ما يتناوله اللفظ ولا يعمل فيما يثبت حكما فلو وكل رجلا بالخصومة واستثنى الإقرار لا يجوز عند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى لأن الإقرار ثبت ضمنا بواسطة أن الوكيل قائم مقام الموكل لا بواسطة أن الإقرار يدخل فيها قصدا حتى يصح إخراجه منها فلا يصح استثناؤه ولا إبطاله بطريق المعارضة إلا بنقض الوكالة ويصح عند محمد رحمه اللّه تعالى لوجهين الأول أن الخصومة لما كانت (٢/٥٩) مهجورة شرعا صار التوكيل بالخصومة توكيلا بالجواب عملا بالمجاز فدخل فيها الإقرار والإنكار قصدا فصح استثناء الإقرار موصولا لا مفصولا لأنه بيان تغيير الثاني أنه بيان تقرير لأنه يفيد أنه أراد بالخصومة معناها اللغوي الذي هو الخصومة لا الشرعي الذي هو مطلق الجواب فيصح موصولا ومفصولا ولو وكله بالخصومة واستثنى الإنكار قيل لا يصح بالاتفاق لما فيه من تعطيل اللفظ عن حقيقة أعني المنازعة والإنكار ومجازه أعني مطلق الجواب والأصح أنه على الخلاف بناء على الوجه الأول لمحمد رحمه اللّه تعالى وهو أنه مجاز عن الجواب شامل للإقرار والإنكار فيجوز استثناء أيهما كان ولا يلزم تعطيل اللفظ لأنه قصد مجازه واستثنى بعض أفراد المجاز كما يقال رأيت في الحمام الأسود إلا هذا الأسد وذلك لأن دخول الإنكار فيه ليس من حيث إنه معناه الحقيقي بل من حيث إنه من أفراد المعنى المجازي نظرا إلى عموم المجاز والإقرار وإن كان ضمنا وتبعا للإنكار إلا أنه لما صار مجازا عن مطلق الجواب دخل كل منهما فيه بحسب الأصالة وأما عند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى فلا يصح استثناء الإنكار لكن لا للدليل الذي ذكره في عدم صحة استثناء الإقرار إذ الإنكار ثبت بالخصومة قصدا لا ضمنا بل لأن الوكالة بالخصومة وكالة بالإنكار فيكون استثناؤه منها بمنزلة استثناء الشيء من نفسه ولقائل أن يقول الإقرار يثبت ضمنا وإن لم يثبت قصدا وحينئذ لا يتعذر إخراج الإنكار ولا يلزم إبطال الصيغة والأقرب أن يقال الإقرار يثبت ضمنا وتبعا للإنكار عنده فإذا استثنى الإنكار لزم استثناء الإقرار أيضا فيلزم استثناء الشيء من نفسه قوله مسألة المستثنى إن كان بعض المستثنى منه فالاستثناء متصل وإلا فمنقطع ولفظ الاستثناء والمستثنى حقيقة عرفية في القسمين على سبيل الاشتراك وأما صيغة الاستثناء فحقيقة في المتصل مجاز في المنقطع لأنها موضوعة للإخراج ولا إخراج في المنقطع فكلام المصنف رحمه اللّه تعالى محمول على أن الاستثناء أي الصيغة التي يطلق عليها هذا اللفظ مجاز في المنقطع فإن لفظ الاستثناء يطلق على فعل المتكلم وعلى المستثنى وعلى نفس الصيغة (٢/٦٠) قوله وقد أورد أصحابنا الظاهر أن الاستثناء في قوله تعالى وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا متصل أي أولئك الذين يرمون محكوم عليهم بالفسق إلا التائبين منهم فإنهم غير محكوم عليهم بالفسق لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والفسق هو المعصية والخروج عن طاعة اللّه وقد جعله فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى وغيره منقطعا وبينوه بوجوه الأول ما اختاره المصنف رحمه اللّه تعالى وهو المذكور في التقويم وحاصله أن المستثنى وإن دخل في الصدر لكن لم يقصد إخراجه من حكمه على ما هو معنى الاستثناء المتصل به قصد إثبات حكم آخر له وهو أن التائب لا يبقى فاسقا ولا يخفى إنما يتم إذا لم يكن معنى هم الفاسقون الثبات على الفسق والدوام وإلا فلا تعذر للاتصال فلا وجه للانقطاع الثاني ما ذكره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى وهو أن المستثنى غير داخل في صدر الكلام لأن التائب ليس بفاسق ضرورة أنه عبارة عما قام به الفسق والتائب ليس كذلك لزوال الفسق بالتوبة وهذا مبني على أنه يشترط في حقيقة اسم الفاعل بقاء معنى الفعل وأما إذا لم يشترط ذلك فيتحقق التناول لكن لا يصح الإخراج لأن التائب ليس بمخرج ممن كان فاسقا في الزمان الماضي وهذا حاصل الوجه الثالث وهو أن التائب قاذف والقاذف فاسق لأن الفسق لازم القذف وبالتوبة لم يخرج (٢/٦١) عن كونه قاذفا فلم يخرج عن لازمه وهو الفسق في الجملة وإن لم يكن فاسقا في الحال واعترض المصنف رحمه اللّه بأن المستثنى منه على تقدير اتصال الاستثناء ليس هم الفاسقين بل الذين حكم عليهم بذلك وهم الذين يرمون المشار إليهم بقوله وأولئك ولا شك أن التائبين داخلون فيهم مخرجون عن حكمهم وهو الفسق كأنه قيل جميع القاذفين فاسقون إلا التائبين منهم كما يقال القوم منطلقون إلا زيدا استثناء متصل بناء على أن زيدا داخل في القوم مخرج عن حكم الانطلاق فيصح الاستثناء المتصل سواء جعل المستثنى منه بحسب اللفظ وهو القوم أو الضمير المستتر في منطلقون بناء على أنه أقرب وأن عمل الصفة في المستثنى أظهر وليس المراد أن المستثنى منه لفظا هو لفظ القوم ألبتة وإذا جعل المستثنى منه ضمير منطلقون فمعنى الكلام أن زيدا داخل في الذوات المحكوم عليهم بالانطلاق فخرج عن حكم الانطلاق كما في قولنا انطلق القوم إلا زيدا وكذا الكلام في الآية وأجاب بعض مشايخنا عن هذا الاعتراض بكلام تحقيقه أن الفاسق هاهنا إما أن يكون بمعنى الفاسق على قصد الدوام والثبات أو بمعنى من صدر عنه الفسق في الزمان الماضي أو من قام به الفسق في الجملة ماضيا كان أو حالا فإن أريد الأول فالتائب ليس بفاسق ضرورة قضاء الشرع بأن التائب ليس بفاسق حقيقة ومن شرط الاستثناء المتصل أن يكون الحكم متناولا المستثنى على تقدير السكوت عن الاستثناء وهذا مراد فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى بعد تناول الفاسقين التائبين بخلاف منطلقون فإنه يدخل فيه زيد على تقدير عدم الاستثناء وإن أريد الثاني أو الثالث فلا صحة لإخراج التائب عن الفاسقين لأنه فاسق بمعنى صدور الفسق عنه في الجملة ضرورة أنه قاذف والقذف فسق ولا يخفى أن منع دخول التائبين في الفاسقين بالمعنى الذي ذكرنا ومنع عدم صحة إخراجهم عن الفاسقين بالمعنى الآخر ليس بموجه وأن الاستدلال على دخولهم بأنه قد حكم بالفسق على أولئك المشار به إلى الذين يرمون وهو عام ليس بصحيح للإجماع القاطع على أنه لا فسق مع التوبة وكفى به مخصصا وذكر بعض الأفاضل أن دخول المستثنى في المستثنى منه إنما يكون باعتبار تناول المستثنى منه وشموله إياه لا بحسب ثبوته له في الواقع كيف ولو ثبت الحكم له لما صح استثناؤه فهاهنا الذين يرمون شامل للتائبين منهم فلا يضر في صحة الاستثناء أنهم ليسوا بفاسقين في الواقع وأن التوبة تنافي ثبوت الفسق كما إذا لم يدل زيد في الانطلاق فإنه يصح استثناؤه باعتبار دخوله في القوم مثل انطلق القوم إلا زيدا والحاصل أنه يكفي في الاستثناء دخول المستثنى في حكم المستثنى منه بحسب دلالة اللفظ (٢/٦٢) وإن لم يدخل فيه بحسب دليل خارج كما يقال خلق اللّه كل شيء إلا ذاته وصفاته ويمكن الجواب بأنه لا فائدة للاستثناء المتصل على هذا التقدير لأن خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوم فيحمل على المنقطع المفيد لفائدة جديدة وهذا مراد فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى بعدم دخول التائبين في صدر الكلام وحينئذ لا يرد اعتراض المصنف رحمه اللّه تعالى لا يقال لم لا يجوز أن يكون المستثنى منه هو الفاسقون ويكون الاستثناء لإخراج التائبين منهم في الحكم الذي هو الحمل على أولئك القاذفين والإثبات لهم فإن الاستثناء كما يجوز من المحكوم عليه يجوز من غيره كما يقال كرام بلدتنا أغنياؤهم إلا زيدا بمعنى أن زيدا وإن كان غنيا لكنه خارج عن الحمل عن الكرام لأنا نقول فحينئذ يلزم أن يكون التائبون من الفاسقين ولا يكونون من القاذفين والأمر بالعكس وقد يقال إن الاستثناء منقطع على معنى أنهم فاسقون في جميع الأحوال إلا حال التوبة ولا يخفى أنه يحتاج إلى تكلف في التقدير أي في الأحوال إلا حال توبة الذين تابوا وإلا توبة القاذفين أي وقت توبتهم على أن يجعل الذين حرفا مصدريا لا اسما موصولا وضمير تابوا عائد إلى أولئك وبعد اللتيا والتي يكون الاستثناء مفرغا متصلا لا منقطعا قوله مسألة إذا ورد الاستثناء عقيب جمل معطوفة بعضها على بعض بالواو فلا خلاف في (٢/٦٣) جواز رده إلى الجميع وإلى الأخيرة خاصة وإنما الخلاف في الظهور عند الإطلاق فمذهب الشافعي رحمه اللّه تعالى أنه ظاهر في العود إلى الجميع وذهب بعضهم إلى التوقف وبعضهم إلى التفصيل ومذهب أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى أنه ظاهر في العود إلى الأخير لوجهين الأول أن الجملة الأخيرة قريبة من الاستثناء متصلة به منقطعة عما سبقها من الجمل نظرا إلى حكمها وإن اتصلت به باعتبار ضمير أو اسم إشارة ويحتمل أن يجعل القرب والاتصال دليلا والانقطاع عما سبق دليلا آخر بمعنى أن الأخيرة بسبب انقطاعها تصير بمنزلة حائل بين المستثنى والمستثنى منه كالسكوت من غير أن يصير المجموع بمنزلة جملة واحدة فلا يتحقق الاتصال الذي هو شرط الاستثناء الثاني أن عود الاستثناء إلى ما قبله إنما هو لضرورة عدم استقلاله والضرورة تندفع بالعود إلى واحدة وقد عاد إلى الأخيرة بالاتفاق فلا ضرورة في العود إلى غيرها والمصنف رحمه اللّه تعالى أثبت الضرورة في جانب صدر الكلام وذلك أنه لما ورد الاستثناء لزم توقف صدر الكلام ضرورة أنه لا بد له من مغير والضرورة تندفع بتوقف جملة واحدة فلا تتجاوز إلى الأكثر ولما كان هاهنا مظنة أن يقال الواو للعطف والتشريك فيفيد اشتراك الجمل في الاستثناء أجاب بأن العطف لا يفيد شركة الجمل التامة في الحكم على ما سبق من أن القران في النظم لا يوجب القران في الحكم مع أن وضع العاطف للتشريك في الإعراب والحكم فلأن لا يفيد التشريك في الاستثناء وهو تغيير لكلام لا حكم له أولى قوله وصرفه إلى الكل تنزل بعد إثبات المطلوب إلى صورة جزئية وقع فيها النزاع وكثر فيها الكلام وهي آية القذف المشتملة على جمل ثلاث هي فاجلدوا ولا تقبلوا وأولئك هم الفاسقون واستدل من مذهب الشافعي رحمه اللّه تعالى في الأحكام على أنه جعل جملة ولا تقبلوا منقطعة عن جملة فاجلدوا مع أن كونها معطوفة عليها أظهر من أن يخفى وجعل جملة وأولئك هم الفاسقون عطفا على جملة ولا تقبلوا مع أنها جملة اسمية إخبارية ظاهرها الاستئناف بيانا لحال القاذفين وجريمتهم غير صالحة أن تكون جزاء للقذف وتتميما للحد ولا تقبلوا فعلية طلبية مسوقة جزاء للقذف ووجه الاستدلال أنه قبل شهادة المحدود في القذف بعد (٢/٦٤) التوبة وحكم عليه بعدم الفسق ولم يسقط عنه الجلد فلزم من ذلك تعلق الاستثناء بالأخيرتين وقطع ولا تقبلوا عن فاجلدوا إذ لو كان عطفا عليه لسقط الجلد عن التائب على ما هو الأصل عنده من صرف الاستثناء إلى الكل وفيه بحث إذ لا نزاع لأحد في أن قوله تعالى ولا تقبلوا عطف على فاجلدوا إلا أن الشافعي رحمه اللّه تعالى لم يجعله من تمام الحد بناء على أنه لا يناسب الحد لأن الحد فعل يلزم على الإمام إقامته لا حرمة فعل ولم يسقط عنه الجلد بالتوبة لأنه حق العبد ولهذا أسقطه بعفو المقذوف وصرف الاستثناء إلى الكل عنده ليس بقطعي بل هو ظاهر يعدل عنه عند قيام الدليل وظهور المانع مع أن المستثنى هو الذين تابوا وأصلحوا ومن جملة الإصلاح الاستحلال وطلب عفو المقذوف وعند وقوع ذلك يسقط الجلد أيضا فيصح صرف الاستثناء إلى الكل قوله ثم وأولئك هم الفاسقون جملة مستأنفة مبتدأة غير واقعة موقع الجزاء بل هي إزالة لما عسى أن يستبعد من صيرورة القذف سببا لوجوب العقوبة التي تندرئ بالشبهات مع أن القذف خبر يحتمل الصدق والكذب وربما يكون حسبة يعني أنهم الفاسقون العاصون بهتك ستر العفة من غير فائدة حين عجزوا عن إقامة أربعة شهداء فلهذا استحقوا العقوبة ولا يجوز أن يكون في معرض التعليل لرد الشهادة حتى يكون رد الشهادة بسبب الفسق فتقبل بعد التوبة لزوال الفسق لأن العلة لا تعطف على الحكم بالواو بل ربما يذكر الفاء كذا قيل وفيه نظر لأنه يرد ذلك على تقدير جعلها علة لاستحقاق العقوبة فإن قيل الواو لمجرد النسق والنظم دون العطف على حكم قلنا فليكن كذلك إذا جعلناها في معرض العلة لرد الشهادة مع أنه أقرب قوله ومن أقسام بيان التغيير الشرط أما أنه تغيير فلأنه غير الصيغة عن أن تصير إيقاعا ويثبت موجبها وأما أنه بيان فلأن الكلام كان يحتمل عدم الإيجاب في الحال بناء على جواز التكلم (٢/٦٥) بالعلة مع تراخي الحكم كبيع الخيار وبالشرط ظهر أن هذا المحتمل مراد وذهب الإمام شمس الأئمة رحمه اللّه تعالى إلى أنه بيان تبديل لأن مقتضى أنت حر نزول العتق في المحل واستقراره فيه وأن يكون علة للحكم بنفسه فبالشرط يتبدل ذلك ويتبين أنه ليس بعلة تامة ولا إيجاب للعتق بل يمين بخلاف الاستثناء فإنه تغيير لا تبديل إذ لم يخرج كلامه من أن يكون إخبارا بالواجب وقد ذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن كلا منهما يمنع انعقاد الإيجاب إلا أن الاستثناء يمنع الانعقاد في بعض الجملة حتى لا يبقى موجبا فيه لا في الحال ولا في المآل والتعليق يمنع الانعقاد في الحال لا في المآل قوله ولا يفسد أي البيع الواقع بقبوله بعت هذا العبد منك بألف على أن لي نصفه بهذا الشرط وهو كون نصفه له على ما سبق من أن كلمة على تستعمل في الشرط مع أن هذا شرط لا يقتضيه العقد لأن هذا بالتحقيق ليس بيعا بالشرط بل هو بيع شيء من شيئين أي أحد النصفين من نصفي العبد والحاصل أنه شرط من جهة فأفاد توزيع الثمن وليس بشرط حقيقة فلم يفسد البيع قوله فصل النسخ في اللغة الإزالة يقال نسخت الشمس الظل أي أزالته والنقل يقال نسخت الكتاب أي نقلت ما فيه إلى آخر ونسخت النخل نقلتها من موضع إلى موضع آخر ومنه المناسخات في المواريث لانتقال المال من وارث إلى وارث وفي الشرع هو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه أي حكم الدليل الشرعي المتقدم فخرج التخصيص لأنه لا يكون متراخيا وخروج وورود الدليل الشرعي مقتضيا خلاف حكم العقل من الإباحة الأصلية والمراد بخلاف حكمه ما يدافعه وينافيه لا مجرد المغايرة كالصوم والصلاة ونكر الدليل ليشمل الكتاب والسنة قولا وفعلا وغير ذلك وخرج ما يكون بطريق الإنساء والإذهاب عن القلوب من غير أن يرد دليل وكذا نسخ التلاوة فقط لأن المقصود تعريف النسخ المتعلق بالأحكام على أن يكون صفة للدليل بمعنى المصدر المبني للفاعل وهو الناسخية لا من المبني للمفعول وهو المنسوخية وقد يطلق النسخ بمعنى الناسخ وإليه ذهب من قال هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان باقيا ثابتا مع تراخيه عنه وقد يطلق على فعل الشارع وإليه ذهب من قال هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر لا يقال ما ثبت في الماضي لا يتصور بطلانه لتحققه قطعا وما في المستقبل لم يثبت بعد فكيف يبطل فأيا ما كان لا رفع لأنا نقول ليس المراد بالرفع البطلان بل زوال ما نظن من التعلق بالمستقبل بمعنى أنه لولا الناسخ لكان في عقولنا (٢/٦٦) ظن التعلق في المستقبل فبالناسخ زال ذلك التعلق المظنون قوله ولما كان الشارع يعني أن النسخ بيان للمدة بالنظر إلى علم اللّه وتبديل بالنظر إلى علمنا حيث ارتفع بقاء ما كان الأصل بقاءه عندنا قوله ونحن نقول فيه بحث لأن النزاع ليس في إطلاق لفظ النسخ وكيف يتصور ذلك من المسلم وقد ورد به التنزيل وإنما النزاع في ورود نص يقتضي حكما مخالفا لما يقتضيه نص سابق غير دال على توقيت بل جار على الإطلاق الذي يفهم منه التأبيد ولهذا كان تفصي المخالف من المسلمين عن ارتفاع الشرائع المتقدمة بأنها كانت مؤقتة إلى ظهور خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام لا مطلقة يفهم منه التأبيد ولا خفاء في أن قوله تعالى ما ننسخ من آية الآية لا ينافي ذلك بل الجواب أنا لا نسلم أن بشارة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بشرع النبي عليه الصلاة والسلام وإيجابهما الرجوع إليه يقتضيان توقيت أحكام التوراة والإنجيل لاحتمال أن يكون الرجوع إليه باعتبار كونه مفسرا أو مقررا أو مبدلا لبعض دون بعض فمن أين يلزم التوقيت بل هي مطلقة يفهم منها التأبيد فتبديلها يكون نسخا ولو سلم فمثل التوجه إلى بيت المقدس والوصية للوالدين كان مطلقا فرفع (٢/٦٧) قوله أما النقل القائلون ببطلان نسخ شريعة موسى عليه الصلاة والسلام نقلا تمسكوا بكتابهم وقول نبيهم وادعوا في كل منهما أنه متواتر أما الكتاب فما نقلوا أنه في التوراة تمسكوا بالسبت أي بالعبادة فيه والقيام بأمرها ما دامت السماوات والأرض ولا قائل بالفصل بين السبت وغيره وأما قول النبي عليه السلام فما نقلوا عن موسى عليه السلام أن هذه شريعة مؤبدة إلى يوم القيامة وفي لفظ الادعاء إشارة إلى الجواب وهو منع التواتر والوثوق على كتابهم لما وقع فيه من التحريف واختلاف النسخ وتناقض الأحكام كيف ولم يبق في زمن بخت نصر من اليهود عدد يكون إخبارهم متواترا وخبر تأبيد شريعة موسى مما افتراه ابن الراوندي ليعارض به دعوى الرسالة من نبينا عليه السلام ولو صح ذلك لاشتهر معارضتهم به مع حرصهم على دفع رسالة محمد عليه السلام والقائلون ببطلان النسخ عقلا تمسكوا بوجهين الأول أنه يوجب كون الشيء مأمورا به ومنهيا عنه فيلزم حسنه وقبحه لذاته وهو ممتنع الثاني أن النسخ لا يجوز أن يكون بدون مصلحة لامتناع العبث على الحكيم تعالى بل يكون لحكمة خفيت أولا فظهرت ثانيا وهذا رجوع عن المصلحة الأولى بالاطلاع على مصلحة أخرى فيلزم البداء والجهل وكلاهما محالان على اللّه تعالى فالمصنف رحمه اللّه تعالى استدل أولا على ثبوت النسخ بما ينتهض حجة على اليهود وغيرهم وهو نسخ بعض الأحكام الثابتة في زمن آدم عليه السلام لكن لا يخفى أنه لا يدفع القول بتأبيد شريعة موسى عليه السلام بدليل نقلي لا يقال الأحكام المذكورة كانت جائزة بالإباحة الأصلية دون الأدلة الشرعية فرفعها لا يكون نسخا ولو سلم كانت في حق أمة مخصوصة أو كانت مؤقتة إلى ظهور شريعة لأنا نقول قد ثبت الإطلاق واحتمال التقييد لم ينشأ عن دليل فلا يعبأ به والإباحة الأصلية عندنا بالشريعة لأن الناس لم يتركوا سدى في زمان من الأزمنة فرفعها يكون نسخا لا محالة وأجاب ثانيا عن دليل القائلين ببطلان النسخ عقلا على ما ذكره القوم وأشار ثالثا إلى بطلان دليلهم الأول بأنه لا يمتنع تبدل الأفعال حسنا وقبحا بحسب تبدل الأزمان والأحوال (٢/٦٨) والأشخاص على ما سبق في مسألة الحسن والقبح قوله وقد خطر ببالي لقائل أن يقول الاعتراض إنما هو على فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى وهو قائل بأن الاستصحاب ليس بحجة أصلا وكونه حجة في صورة ما يكون رجوعا عن مذهبه فلا يتم الجواب الأول وكذا الثاني لأنه قائل بأن البقاء بالاستصحاب فالقول بأن البقاء ليس للاستصحاب يكون دفعا لكلامه لا توجيها له قوله وأما محله أي محل النسخ حكم شرعي فرعي لم يلحقه تأبيد ولا توقيت فخرج الأحكام العقلية والحسية والإخبار عن الأمور الماضية أو الواقعة في الحال أو الاستقبال مما يؤدي نسخه إلى كذب أو جهل بخلاف الإخبار عن حل الشيء أو حرمته مثل هذا حلال وذاك حرام والمراد بالتأبيد دوام الحكم ما دامت دار التكليف ولهذا كان التقييد بقوله إلى يوم القيامة تأبيدا لا توقيتا فإن قيل قد تستعمل صيغ التأبيد في المكث الطويل فيجوز أن يلحق الحكم تأبيد يفهم منه الدوام ويكون مراد اللّه تعالى طول الزمان فيرد دليل يبين انتهاءه فيكون نسخا في حقنا قلنا حقيقة التأبيد هو الدوام واستمرار جميع الأزمنة وإرادة البعض مجاز لا مساغ له بدون القرينة وبعد الدلالة (٢/٦٩) على ثبوت الحكم في جميع الأزمنة كان رفعه في بعض الأزمنة من باب البداء وهو على اللّه تعالى محال هذا إذا كان التأبيد قيدا للحكم كالوجوب مثلا أما إذا كان قيدا للواجب مثل صوموا أبدا فالجمهور على أنه يجوز نسخه إذ لا يزيد في الدلالة على جزئيات الزمان على دلالة قولنا صم غدا على صوم غد وهو قابل للنسخ فإن قيل التأبيد يفيد الدوام والنسخ ينفيه فيلزم التناقض قلنا لا منافاة بين إيجاب فعل مقيد بالأبد وعدم أبدية التكليف به كما لا منافاة بين إيجاب صوم مقيد (٢/٧٠) بزمان وأن لا يوجد التكليف به في ذلك الزمان كما يقال صم غدا ثم ينسخ قبله وذلك كما يكلف بصوم غد ثم يموت قبل غد فلا يوجد التكليف وتحقيقه أن قوله صم أبدا يدل على أن صوم كل شهر من شهور رمضان إلى الأبد واجب في الجملة من غير تقييد للوجوب بالاستمرار إلى الأبد فلم يكن رفع الوجوب بمعنى عدم استمراره مناقضا له وذلك كما تقول صم كل رمضان فإن جميع الرمضانات داخلة في هذا الخطاب وإذا مات انقطع الوجوب قطعا ولم يكن نفيا لتعلق الوجوب بشيء من الرمضانات وتناول الخطابات له والحاصل أنه يجوز أن يكون زمان الواجب غير زمان الوجوب فقد يتقيد الأول بالأبد دون الثاني فإن قلت قوله تعالى وجاعل الذين اتبعوك من قبيل الإخبار فكيف جعله من أمثلة الأحكام الشرعية قلت من جهة أنه حكم وجوب تقدم المؤمن على الكافر في باب الشرف والكرامة كالشهادة ونحوها قوله فذبح إبراهيم عليه السلام ذهب بعضهم إلى أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح الولد ثم نسخ بورود الفداء بذبح الشاة أما الأول فلقوله تعالى حكاية يا أبت افعل ما تؤمر فإنه يدل على أن الذبح كان مأمورا به ولقوله تعالى وفديناه بذبح عظيم والفداء إنما يكون بدلا عن المأمور به ولو كان المأمور به مقدمات الذبح لما احتيج إلى الفداء لأنه قد أتى بها وأيضا لو لم يكن الذبح مأمورا به لامتنع شرعا وعادة اشتغاله بذلك وإقدامه على الترويع وإمراره المدية على حلق الولد وتله للجبين وأما الثاني فلأنه لو لم ينسخ لكان تركه معصية فإن قيل قد وجد الذبح لما روي أنه ذبح وكان كلما قطع شيئا يلتحم عقيب القطع قلنا هذا خلاف العادة والظاهر ولم ينقل نقلا يعتد به ولو كان لما احتيج إلى الفداء ثم لا يخفى أن هذا النسخ ليس من قبل النسخ قبل التمكن من الفعل كما في نسخ الصلوات ليلة المعراج للقطع بأنه (٢/٧١) تمكن من الذبح وإنما امتنع لمانع من الخارج وأما كونه قبل الفعل فالنسخ لا يكون إلا كذلك إذ لا يتصور نسخ ما مضى ولذا قال إمام الحرمين رحمه اللّه تعالى كل نسخ واقع فهو متعلق بما كان يقدر وقوعه في المستقبل فإن النسخ لا ينعطف على مقدم سياق بل الغرض أنه إذا فرض ورود الأمر بشيء فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يمضي من وقت اتصال الأمر به ما يتسع لفعل المأمور به والحاصل أنه إذا وقع التكليف بفعل ظاهر في الاستمرار فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يؤتى بشيء من جزئياته كما لو قال حجوا هذه السنة وصوموا غدا ثم قال قبل مجيء وقت الحج والغد لا تحجوا أو لا تصوموا وذهب بعضهم إلى أنه ليس بنسخ إذ لا رفع هنا ولا بيان للانتهاء وإنما استخلاف وجعل ذبح الشاة بدلا عن ذبح الولد إذ الفداء اسم لما يقوم مقام الشيء في قبول ما يتوجه إليه من المكروه يقال فديتك نفسي أي قبلت ما يتوجه عليك من المكروه ولو كان ذبح الولد مرتفعا لم يحتج إلى قيام شيء مقامه وحيث قام الخلف مقام الأصل لم يتحقق ترك المأمور به حتى يلزم الإثم فإن قيل هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أعني ذبح الولد وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة فجوابه أنا لا نسلم كونه نسخا وإنما يلزم لو كان حكما شرعيا وهو ممنوع فإن حرمة ذبح الولد ثابتة في الأصل فزالت بالوجوب ثم عادت بقيام الشاة مقام الولد فلا يكون حكما شرعيا حتى يكون ثبوتها نسخا للوجوب قوله لا القياس لأن شرطه التعدي إلى فرع لا نص فيه قوله فلا نسخ حينئذ أي بعد النبي عليه السلام لأن الأحكام صارت مؤبدة بانقطاع الوحي ولا يخفى أن هذا مختص بالأحكام المنصوصة فإن قيل قد سقط نصيب المؤلفة قلوبهم بالإجماع المنعقد في زمن أبي بكر وثبت حجب الأم عن الثلث إلى السدس بالأخوين بالإجماع مع دلالة (٢/٧٢) النص على أنها إنما تحجب بالإخوة دون الأخوين قلنا نصيب المؤلفة سقط لسقوط سببه لا لورود دليل شرعي على ارتفاعه ودلالة النص على عدم الحجب بالأخوين تبتنى على كون المفهوم حجة وكون أقل الجمع ثلاثة ولا قطع بذلك وذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى في باب الإجماع أن نسخ الإجماع بالإجماع جائز وكأنه أراد أن الإجماع لا ينعقد ألبتة بخلاف الكتاب والسنة فلا يتصور أن يكون ناسخا لهما ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع ناسخ له والجمهور على أنه لا ينسخ ولا ينسخ به لأنه لا يكون إلا عن دليل شرعي ولا يتصور حدوثه بعد النبي عليه السلام ولا ظهوره لاستلزامه إجماعهم أولا على الخطأ مع لزوم كونه على خلاف النص وهو غير منعقد فإن قيل لم لا يجوز أن يكون سند الإجماع الثاني قياسا قلنا لأن شرط صحة القياس عدم مخالفة الإجماع ولهذا لا يجوز أن يكون المنسوخ بالإجماع هو القياس لأن انتفاء الشيء بانتفاء شرطه ليس من باب النسخ ولقائل أن يقول لا نسلم أن الإجماع المخالف للنص خطأ وإنما يكون كذلك لو لم يكن مستندا إلى نص راجح على النص الأول الذي نجعله منسوخا به لا يقال فحينئذ يكون الناسخ هو النص الراجح لا الإجماع لأنا نقول يجوز أن لا يعلم تراخي ذلك النص فلا يصح جعله ناسخا بخلاف الإجماع المبني عليه فإنه يكون متراخيا لا محالة فيصلح ناسخا (٢/٧٣) قوله وإلى هذا يعني أشار بقوله تعالى يوصيكم اللّه إلى أن الإيصاء الذي فوض إلى العباد قد تولاه بنفسه لعلمه بجهل العباد وعجزهم عن معرفة مقاديره فصار بيان المواريث كأنه الإيصاء وكذا الفاء في قوله عليه السلام إن اللّه أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث مشعر بأن ارتفاع وصية الوارث إنما هو بسبب شرعية الميراث كما يقال زارني فأكرمته وقد يقال إن الثابت بآية المواريث وجوب حق بطريق الإرث وهو لا ينافي ثبوت حق آخر بطريق آخر فلا رافع للوصية إلا السنة وذكر الإمام السرخسي أن المنفي بآية المواريث إنما هو وجوب الوصية لا جوازها والجواز إنما انتفى بقوله عليه السلام لا وصية لوارث ضرورة نفي أصل (٢/٧٤) الوصية لكن لا يخفى أن جوازها ليس حكما شرعيا بل إباحة أصلية والثابت بالكتاب إنما هو الوجوب المرتفع بآية المواريث فلا يكون هذا من نسخ الكتاب بالسنة قوله وكان هذا مما يتلى في كتاب اللّه تعالى يعني أن حكم قوله تعالى فأمسكوهن في البيوت قد نسخ بقوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من اللّه فهذا منسوخ التلاوة دون الحكم وقوله فأمسكوهن بالعكس ومنسوخ التلاوة وإن لم يكن قرآنا متواترا متلوا مكتوبا في المصاحف لكنه يجعل من قسم الكتاب لا السنة ولذا قال عمر لولا أنني أخشى أن يقال زاد عمر في القرآن ما ليس منه لألحقت الشيخ والشيخة إلخ بالمصحف قوله فنسخ السنة بالكتاب متيقن فيه بحث إذ لا دليل على كون التوجه إلى بيت المقدس ثابتا بالسنة سوى أنه غير متلو في القرآن وهو لا يوجب اليقين كالتوجه إلى الكعبة قبل التوجه إلى (٢/٧٥) بيت المقدس فإنه لا يعلم كونه ثابتا بالكتاب أو السنة مع أنه لا يتلى في القرآن للقطع بأن آية التوجه إلى المسجد الحرام إنما نزلت بعد التوجه إلى بيت المقدس بالمدينة فإن قيل التوجه إلى بيت المقدس من شرائع من قبلنا وهي ثابتة بقوله تعالى فبهداهم اقتده قلنا قد ظهر انتساخه بالسنة حيث كان النبي عليه الصلاة والسلام يتوجه بمكة إلى الكعبة قوله وحديث عائشة رضي اللّه عنها دليل على نسخ الكتاب بالسنة فيه بحث لعدم النزاع في أن الكتاب لا ينسخ بخبر الواحد فكيف بمجرد إخبار الراوي من غير نقل حديث في ذلك على أن (٢/٧٦) قولها حتى أباح اللّه له ظاهر في أنه كان بالكتاب حتى قيل إنه قوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وأشار الشيخ أبو اليسر إلى أن حرمة الزيادة على التسع حكم لا يحتمل النسخ لأن قوله تعالى من بعد بمنزلة التأبيد إذ البعدية المطلقة تتناول الأبد قوله وليس ذلك من تلقاء نفسه فإن قلت هل يجوز أن يكون بالاجتهاد قلت هو راجع إلى الوحي حيث أذن اللّه تعالى له بالاجتهاد من غير أن يقره على الخطأ قوله بدليل سياق الحديث فإنه يدل على أن المراد خبر لا يقطع بصحته حيث لم يقل فإذا سمعتم مني وقيل هذا الحديث مما يخالف كتاب اللّه تعالى الدال على وجوب اتباع الحديث مطلقا (٢/٧٧) قوله وأما المنسوخ لا يخفى أن هذا التفصيل إنما هو في منسوخ الكتاب إذ الحديث ليس الوحي المتلو حتى يكون منسوخ التلاوة بل لا يجري النسخ إلا في حكمه والمراد بالحكم هاهنا ما يتعلق بمعنى الكتاب لا بنظمه قوله قالوا وقد يرفعان بحث استطرادي يعني كما يرفع الحكم والتلاوة بدليل شرعي حتى يكون نسخا وقد يرفعان بغير ذلك وتحقيقه أن المراد بالحكم هو العلم بالوجوب ونحوه ولا خفاء في ارتفاع ذلك بموت العلماء أو بإذهاب اللّه تعالى ذلك العلم عن قلوبهم وفيه بحث لأن الحكم غير العلم والعلم إنما يقوم بالروح وهو لا يفنى بالموت فلذا أحال هذا البحث على غيره قوله سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء اللّه يدل على ثبوت النسيان في الجملة لأن الاستثناء من النفي إثبات إشارة وإن لم يكن كذلك عبارة وذلك مثل ما روي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة قوله فقد اختلفوا أن الزيادة على النص نسخ أم لا يعني أن الزيادة إن كانت عبادة مستقلة كزيادة صلاة سادسة مثلا فلا نزاع بين الجمهور في أنها لا تكون نسخا وإنما النزاع في غير المستقل (٢/٧٨) ومثلوا له بزيادة جزء أو شرط أو زيادة ما يرفع مفهوم المخالفة واختلفوا فيه على ستة مذاهب الأول أنه نسخ وإليه ذهب علماء الحنفية الثاني أنه ليس بنسخ وإليه ذهب الشافعية الثالث إن كانت الزيادة ترفع مفهوم المخالفة فنسخ وإلا فلا الرابع إن غيرت الزيادة المزيد عليه بحيث صار وجوده كالعدم شرعا فنسخ وإلا فلا وإليه ذهب القاضي عبد الجبار الخامس إن اتحدت الزيادة مع المزيد عليه بحيث يرتفع التعدد والانفصال بينهما وإلا فلا السادس أن الزيادة إن رفعت حكما شرعيا بعد ثبوته بدليل شرعي فنسخ وإلا فلا والظاهر أن قولهم بدليل شرعي وإنما ذكر لزيادة البيان والتأكيد سواء تعلق بقوله رفعت أو بثبوته لأن الزيادة على النص الرافعة لحكم شرعي لا تكون إلا بدليل شرعي وكذا ثبوت الحكم الشرعي ثم لا يخفى أن الدليل الذي تثبت به الزيادة يجب أن يكون مما يصلح ناسخا هذا تفصيل المذاهب على ما في أصول ابن الحاجب وللمصنف رحمه اللّه تعالى عليه مؤاخذتان إحداهما أنه يجب إخراج مفهوم المخالفة عن محل الخلاف مع أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى لأنه لا يقول به فلا يتصور رفعه وأنت خبير بأنه لا مؤاخذة في ذلك على ابن الحاجب لما علم من عادته في الاختصار بالسكوت عما هو معلوم فهو في حكم المستثنى والثانية أن ابن الحاجب أورد الزيادة التي تغير المزيد عليه بحيث يصير وجوده كالعدم بثلاثة أمثلة الأول زيادة ركعة في صلاة الفجر والثاني زيادة عشرين جلدة على ثمانين في حد القذف والثالث التخيير في ثلاثة أمور بعد التخيير في أمرين كما يقال صم أو اعتق ثم يقال صم أو اعتق أو أطعم وقد فسر في المحصول وغيره تغيير الأصل بحيث يصير وجوده كالعدم بأن يكون الأصل أعني المزيد عليه بحيث لو يؤتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة والاستئناف ولا يخفى أن هذا إنما يستقيم في المثال الأول إذ لو فرضنا كون الفجر ثلاث ركعات فمن صلى ركعتين وسلم تجب عليه إعادة الصلاة بركعاتها الثلاث بخلاف المثالين الأخيرين إذ لو اقتصر على ثمانين جلدة لا تجب إلا زيادة عشرين من غير إعادة للثمانين وكذا لو أتى بأحد الأمرين الأولين أعني الصوم أو الإعتاق كان (٢/٧٩) كافيا من غير وجوب شيء آخر عليه وإن اقتصر في تفسير تغيير الأصل على ما ذكره ابن الحاجب وهو أن يصير وجود المزيد عليه بمنزلة العدم فالمثال الثاني مستقيم إذ الثمانون بمنزلة العدم في أنه لا يحصل بها إقامة الحد ويبقى الإشكال في المثال الثالث لأن أحد الأمرين لا يكون بمنزلة العدم على تقدير التخيير بين ثلاثة أمور بل يحصل الإتيان بالمأمور به على تقدير الإتيان بأحد الأمرين الأولين وغاية توجيهه ما ذكره بعض المحققين وهو أن ترك الأولين مع فعل الثالث غير محرم وقد كان محرما قبل الزيادة فهو كالعدم في انتفاء الحرمة عنها واعلم أن المثال الثاني أعني زيادة عشرين على الثمانين ليس من قبيل النسخ عند القاضي فإن المثال الثالث نسخ عنده لكن لا من حيث دخوله في ضابط تغيير الأصل بل من حيث إن مذهبه هو أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه بحيث يصير وجوده كالعدم ويلزم استئنافه أو كانت زيادة فعل ثالث بعد التخيير بين الفعلين فنسخ وإلا فلا كزيادة عشرين على ثمانين صرح بذلك الآمدي في الأحكام حيث قال ومنهم من قال إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث صار (٢/٨٠) المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حسب ما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه كزيادة ركعة على ركعتي الفجر كان ذلك نسخا أو كان قد خير بين فعلين فزيد فعل ثالث فإنه يكون نسخا لتحريم ترك الفعلين السابقين وإلا فلا وذلك كزيادة التغريب على الجلد وزيادة عشرين جلدة على حد القاذف وزيادة شرط منفصل في شرائط الصلاة كاشتراط الوضوء وهذا هو مذهب القاضي عبد الجبار هذه عبارة الأحكام وفي معتمد الأصول أنه قال قاضي القضاة إن الزيادة إذا كانت مغيرة حكم المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث لو فعل المزيد عليه بعد الزيادة على الحد الذي كان يفعل قبلها لم يجزه ولزم استئنافه كانت نسخا وإن فعل بعد الزيادة يصح ولم يلزم استئنافه وإنما يجب ضم شيء آخر إليه لم يكن نسخا وقال لو خيرنا اللّه تعالى بين واجبين لكانت زيادة ثالث نسخا لقبح تركهما فظهر أن في نقل ابن الحاجب خللا بينا قوله فإنه فسر ينبغي أن يكون بلفظ المبني للمفعول لأن ابن الحاجب لم يفسره بهذا التفسير قوله فترفع أجزاء الأصل قيل معنى الإجزاء امتثال الأوامر والخروج عن العهدة ودفع وجوب القضاء وذلك ليس بحكم شرعي ولو سلم فالامتثال بفعل الأصل لم يرتفع وما ارتفع وهو عدم توقفه على شيء آخر ليس بنسخ لأنه مستند إلى العدم الأصلي فالأولى أن يقال إنه نسخ لتحريم الزيادة على الركعتين مثلا وأيضا قيل إن التخيير بين الاثنين معناه وجوب أحدهما لا بعينه وهو ليس بمرتفع والمرتفع وهو عدم قيام غيرهما مقامهما ثابت لحكم النفي الأصلي فلا يكون رفعه نسخا (٢/٨١) قوله وأيضا المطلق يعني أن الإطلاق معنى مقصود له حكم معلوم وهو الجواز بما يطلق عليه الاسم وإن لم يشتمل على القيد وحكم المقيد الجواز بما اشتمل على المقيد ويستلزم عدم الجواز بدونه فثبوت حكم أحدهما يوجب انتفاء حكم الآخر فيكون نسخا وفيه بحث لأنه إن أراد أن المقيد يستلزم عدم الجواز بدون القيد بحسب دلالة اللفظ فهو قول بمفهوم المخالفة وإن أراد بحسب العدم الأصلي فهو لا يكون حكما شرعيا قوله ولو كان الأمر كما توهم أي لو كان التوقف على عدم الخلف موجبا لكون الحكم غير شرعي لزم أن لا يكون شيء من الأحكام شرعيا لأن وجوب كل شيء وحرمة تركه يبتنى على عدم الخلف وفيه نظر لأن ثبوت الخلف لا ينافي الوجوب غاية ما في الباب أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان معا في شخص واحد فيكون فرضية الصلاة والصوم مثلا ثابتة بالنص وحرمة تركهما موقوفة على عدم الخلف وأيضا لا معنى لتوقف حرمة الزنا والسرقة ونحو ذلك على عدم الخلف فمن أين يلزم نفي الحكم الشرعي على تقدير أن لا يكون المتوقف على عدم الخلف حكما شرعيا (٢/٨٢) قوله وأيضا التخيير لما جعل الخصم التخيير من قبيل الاستخلاف حتى سوى بين التخيير في رجل وامرأتين وشاهد مع يمين والتخيير بين الغسل والمسح وبين التيمم والوضوء بالنبيذ أبطله المصنف رحمه اللّه تعالى بأن الواجب في التخيير أحد الأمرين أو الأمور لا على التعيين في الاستخلاف واحد معين هو الأصل الذي تعلق به الوجوب أولا كالغسل مثلا وكالوضوء إلا أن الخلف جعل كأنه عين ذلك الأصل حتى كأنه لم يرتفع فلهذا لم يكن الاستخلاف نسخا بخلاف التخيير فإنه نسخ لحرمة ترك ذلك الأمر الواجب أولا على التعيين قوله وقوله تعالى فرجل وامرأتان خبر مبتدأ محذوف أي فإن لم يكن رجلان فالواجب رجل وامرأتان فعلى هذا يكون الحكم بالشاهد واليمين رفعا لذلك الوجوب وفيه بحث لأن أصل الاستشهاد ليس بواجب وإنما التقدير فليشهد رجل وامرأتان أو فالمستشهد رجل وامرأتان وهذا على تقدير إفادته انحصار الاستشهاد في النوعين لا ينفي صحة الحكم بالشاهد واليمين والجواب (٢/٨٣) أن قوله تعالى فاستشهدوا مجمل في حق الشاهد وقد فسر بالنوعين فيلزم الانحصار لأن التفسير بيان لجميع ما أريد بالمجمل وأيضا قد نقل الحكم عن المعتاد إذ ما ليس بمعتاد من حضور النساء مجالس القضاء وهذا دليل على أن غيره ليس بمشروع وقد يقال إن غايته الدلالة على انحصار الاستشهاد في النوعين وعلى أن غيرهما لا يعتبر عند التدين لكنه لا يقتضي عدم صحة القضاء بغير ذلك قوله فلا يزاد التغريب بقوله عليه السلام البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والنية بقوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات والترتيب بقوله عليه السلام ابدءوا بما بدأ اللّه تعالى به وبقوله عليه السلام لا يقبل اللّه تعالى صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ثم يغسل يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه والولاء في غسل أعضاء الوضوء على ما ذهب إليه مالك بما روي أنه عليه السلام كان يوالي في وضوئه أو بقوله عليه السلام هذا وضوء لا يقبل اللّه تعالى الصلاة إلا به والوضوء على الطواف بقوله عليه السلام لا صلاة إلا بطهور والطواف بالبيت صلاة إلا أن اللّه تعالى أباح فيه الكلام وفرضية الفاتحة بقوله عليه السلام لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وفرضية تعديل الأركان في الصلاة بقوله عليه السلام لأعرابي خفف في صلاته قم فصل (٢/٨٤) فإنك لم تصل فإن قيل كيف زيد وجوب الفاتحة والتعديل بخبر الواحد قلنا لأن الزيادة بطريق الوجوب لا ترفع أجزاء الأصل فلا تكون نسخا فلا تمتنع بخلاف الزيادة بطريق الفرضية بمعنى عدم الصحة بدونها فإنها ترفع حكم الكتاب وربما يجاب بأن خبر الفاتحة والتعديل مشهور والمقصود بالفرضية والوجوب هاهنا فوات الصحة وعدمها إذ لا نزاع في أن شيئا من ذلك لا يكفر جاحده فإن قلت فهلا زيد تغريب العام على سبيل الوجوب قلنا لأن الخبر فيه غريب مع عموم البلوى ولأنه تحريض على الفساد على ما مر فإن قلت إذا اقتصر المصلي على الفاتحة تكون فرضا لا محالة فتكون فرضا على الإطلاق إذ لا قائل بالفصل قلت النزاع فيما شرع فرضا لا فيما يقع فرضا كما إذا اقتصر على سورة البقرة فإنها تقع فرضا ولم تشرع فرضا بالإجماع فإن قلت فحينئذ تكون الفاتحة فرضا وواجبا مع أنهما متنافيان ضرورة أن الفرض ما ثبت بدليل قطعي والواجب بدليل ظني لا قطعي قلت فرض من حيث كونها قرآنا واجب من حيث خصوصية الفاتحة وعند تغاير الحيثيتين لا منافاة قوله بل هو شرط للصلاة يعني أن الكلام في كون الوضوء مفتاحا للصلاة وأما كونه قربة فيفتقر إلى النية بلا خلاف إذ بها تتميز العبادة عن العادة فعلى هذا ينبغي أن تكون النية والترتيب واجبين في الوضوء على قصد القربة بمعنى أنه لا يكون قربة بدونهما قوله بمعنى أنه لا تجوز الصلاة إلا به لقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون واجبا بمعنى أن يكون المصلي آثما باعتبار تركه النية أو الترتيب في الوضوء مع صحة صلاته كما في ترك الفاتحة وحينئذ لا يلزم النسخ (٢/٨٥) قوله فيلزم من وجوبهما عدم إجزاء الصلاة التي هي الأصل الأنسب أن يفسر الأصل بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس ومعنى عدم إجزائه كونه غير كاف في صحة الصلاة وذلك لأن المراد بالأصل في هذا المقام هو المزيد عليه الذي ترفع الزيادة أجزاءه قوله ولم يجعل تلك أي الواجبات بمعنى أنه يأثم تاركها في الوضوء وإلا فلا خفاء في أن غسل المرفق ومقدار الربع في المسح واجب بمعنى اللازم بدليل ظني بحيث لا يكفر جاحده قوله أصله ثابت اقتباس لطيف بتغيير يسير مع ما فيه من لطف الإبهام وذلك أن أبا حنيفة رحمه اللّه تعالى اسم أبيه ثابت كما أن قواعد فقهه وأصوله ثابتة محكمة ونتائج فكره عالية مشتهرة كفروع فقهه قوله للشركة في صدر الكلام وهو عقد المضاربة فإنه تنصيص على الشركة في الربح وبيان نصيب أحد الشريكين في المال المشترك بيان لنصيب الآخر فإذا قال علي إن لي نصف الربح فكأنه قال ولك ما بقي فهو في حكم المنطوق وقوله بدلالة حال المتكلم أي الذي من شأنه التكلم في الحادثة كالشارع والمجتهد وصاحب الحادثة (٢/٨٦) قوله وكذا السكوت في موضع الحاجة كان الأنسب أن يقدم ذلك ويجعل سكوت صاحب الشرع وسكوت الصحابة وسكوت البكر من أمثلته فإن الأمر الذي يعاينه الشارع لو لم يكن حقا لاحتيج إلى تغييره ضرورة أن الشارع لا يسكت عن تغيير الباطل قوله وكذا سكوت البكر البالغة جعل بيانا لحالها التي توجب الحياء وهي الإجازة المنبئة عن الرغبة في الرجال وعبارة فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن سكوت البكر في النكاح جعل بيانا لحالها التي توجب ذلك أي السكوت وهي أي تلك الحالة هي الحياء والمقصود أن السكوت جعل بيانا للحياء عن التكلم بما حصل لها من الرضا والإجازة وقيل معناه أنه جعل بيانا لحال يوجب ذلك أي كونه بيانا وهي الحياء فجعل سكوتها دليلا على ما يمنع الحياء من التكلم به وهو الإجازة والصواب أن اللازم في قوله لحالها ليست صلة للبيان وإنما هو تعليل إذ المعنى جعل السكوت بيانا للرضا لأجل حال في البكر يوجب السكوت وهي الحياء عن إظهار الرغبة في الرجال ومعنى عبارة المصنف رحمه اللّه تعالى أنه جعل بيانا للإجازة لأجل حالها الموجبة للحياء وهي الرغبة في الرجال قوله وكذا النكول جعل بيانا لثبوت الحق عليه وإقراره به لأجل حال في الناكل وهذا هو الموافق لما نحن بصدده من أن البيان يثبت بدلالة حال المتكلم (٢/٨٧) قوله كالمولى يسكت حين يرى عبده يبيع ويشتري يكون إذنا فإن قيل يحتمل أن يكون سكوته لفرط الغيظ وعدم الالتفات بناء على أن العبد محجور شرعا قلت يترجح جانب الرضا بدلالة العرف والعادة في أن من لا يرضى بتصرف العبد يظهر النهي ويرد عليه والأظهر أن هذا القسم مندرج في القسم الثاني أعني ثبوت البيان بدلالة حال المتكلم قوله وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى المائة مجملة يعني أن عطف الدرهم عليها ليس بيانا وتفسيرا لها لأن مبنى العطف على التغاير ومبنى التفسير على الاتحاد قوله لنا استدل على كون المعطوف بيانا للمعطوف عليه في مثل له علي مائة ودرهم بأن حذف المعطوف عليه أي حذف تمييزه وتفسيره متعارف في العدد إذا عطف عليه عدد مفسر مثل مائة وثلاثة أثواب حتى إن ذكره يستهجن في العربية فيعد تكرارا فصورة عطف غير العدد أيضا يحمل على ذلك أي على حذف مفسر المعطوف عليه بقرينة المعطوف فيما إذا كان المعطوف مقدرا بالعدد مثل مائة ودرهم أو بالوزن مثل مائة وقفيز حنطة لمشابهته العدد بخلاف نحو له علي مائة (٢/٨٨) وعبد أو ثوب فإن الثاني لا يكون بيانا للأول لأنه لا يشبه العدد حتى يصلح قياسه على مثل له علي مائة وثلاثة دراهم مع مانع آخر وهو أن تفسير المائة بالعبد أو الثوب لا يلائم لفظ علي لأن موجبه الثبوت في الذمة ومثل العبد والثوب لا يثبت في الذمة إلا في السلم للضرورة فلا يرتكب إلا فيما صرح به كالمعطوف دون المعطوف عليه مع أنه لا يكثر كثرة العدد حتى يستحق التخفيف فإن قيل القياس ليس بمستقيم لأن المفسر في مثل مائة وثلاثة دراهم هو مميز المعطوف أعني المضاف إليه لا نفس المعطوف على ما زعمتم في مائة ودرهم قلنا ممنوع بل المفسر هو المعطوف بمعنى أن المعطوف عليه يكون من جنس المعطوف درهما كان أو دينارا أو غيرهما وقد يجاب بأنه قياس في اللغة وإن أريد ابتناء الحكم على القياس الشرعي لم يكن من قبيل البيان وأيضا لا نسلم أن العلة هو كون المعطوف من قبيل المقدرات بل كون العطف مقتضيا للشركة فيما يتوقف عليه المعطوف والمعطوف عليه كالجزاء والشرط فكذا التفسير في مائة وثلاثة أثواب بخلاف مائة ودرهم إذ لا إبهام في المعطوف فلا احتياج إلى التفسير |