Geri

   

 

 

İleri

 

 ٢ الركن الثاني في السنة

وهي تطلق على قول الرسول عليه السلام وعلى فعله والحديث مختص بقوله والأقسام التي ذكرت في كتاب كالخاص والعام والمشترك إلى آخرها والأمر والنهي ثابتة ههنا أيضا فلا نشتغل بها وإنما بحثنا في بيان الاتصال بالرسول عليه السلام فنبحث في أمور في كيفية الاتصال وفي الانقطاع وفي محل الخبر وفي كيفية السماع والضبط والتبليغ وفي الطعن

فصل في الاتصال الخبر لا يخلو من أن يكون رواته في كل عهد قوما لا يحصى عددهم ولا يمكن تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم أو تصير كذلك

(٢/٣)

بعد القرن

الأول أو لا تصير كذلك بل رواته آحاد

والأول متواتر

والثاني مشهور والثالث خبر الواحد ولم يعتبر فيه العدد إذا لم يصل حد التواتر

والأول يوجب علم اليقين لأن الاتفاق على شيء مخترع مع تباين همومهم وطبائعهم وأماكنهم مما يستحيل عقلا

والثاني يوجب علم طمأنينة وهو علم تطمئن به النفس وتظنه يقينا لكن لو تأمل حق التأمل علم أنه ليس بيقين كما إذا رأى قوما جلسوا للمأتم يقع له علم عن غفلة عن التأمل لأنه يمكن المواضعة بناء على أنه آحاد الأصل وإنما يوجب أي الخبر المشهور

(٢/٤)

ذلك أي علم طمأنينة القلب لأنه وإن كان في الأصل خبر واحد لكن أصحاب الرسول عليه السلام تنزهوا عن وصمة الكذب

ثم بعد ذلك دخل في حد التواتر فأوجب ما ذكرنا والثالث يوجب غلبة الظن إذا اجتمع الشرائط التي نذكرها إن شاء اللّه تعالى وهي كافية لوجوب العمل وعند البعض لا يوجب شيئا لأنه لا يوجب العلم ولا عمل إلا عن علم لقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وعند بعض أهل الحديث يوجب العلم لأنه يوجب العمل ولا عمل إلا عن علم فأما إيجابه العمل فلقوله تعالى

(٢/٥)

فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون الطائفة تقع على الواحد فصاعدا والرسول عليه السلام قبل خبر بريرة وسلمان في الهدية والصدقة وأرسل الأفراد إلى الآفاق والأخبار في أحكام الآخرة لا توجب إلا الاعتقاد وهي مقبولة ولأنه يحتمل الصدق والكذب وبالعدالة يترجح الصدق ولنا هذه الدلائل لكن لا نسلم أنه لا عمل إلا عن علم قطعي والعقل يشهد أنه لا يوجب اليقين

والأحاديث في أحكام الآخرة منها ما اشتهر ومنها ما دون ذلك وكل ذلك يوجب ما ذكرنا ولأنها توجب عقد القلب وهو عمل فيكفي له خبر الواحد وفي هذا نظر لأنه يجب أن لا يختص هذا بأحكام الآخرة بل يكون كل الاعتقاديات كذلك

فصل الراوي

إما معروف بالرواية

وإما مجهول أي لم يعرف إلا بحديث أو حديثين والمعروف

إما أن يكون معروفا بالفقه والاجتهاد كالخلفاء الراشدين والعبادلة أي عبد اللّه بن مسعود وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن عمر وزيد ومعاذ وأبي موسى الأشعري وعائشة

(٢/٦)

ونحوهم رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين وحديثه يقبل وافق القياس أو خالفه وحكي عن مالك أن القياس مقدم عليه ورد بأنه يقين بأصله وإنما الشبهة في نقله وفي القياس العلة محتملة وهي الأصل وأيضا إذا ثبت أن هذا علة قطعا لكن يمكن أن يكون في الفرع مانع أو لخصوصية الأصل أثر أو بالرواية فقط كأبي هريرة وأنس رضي اللّه تعالى عنهما فإن وافق القياس قبل وكذا إن خالف قياسا ووافق قياسا آخر لكنه إن خالف جميع الأقيسة لا يقبل

(٢/٧)

عندنا وهذا هو المراد من السداد باب الرأي وذلك لأن النقل بالمعنى كان مستفيضا فيهم فإذا قصر فقه الراوي لم يؤمن من أن يذهب شيء من معانيه فتدخله شبهة زائدة يخلو عنها القياس

وذلك كحديث المصراة وهي ما روي أنه عليه السلام قال من اشترى شاة فوجدها محفلة فهو بخير النظرين إلى ثلاثة أيام إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها ورد معها صاعا من تمر

والمحفلة شاة جمع اللبن في ضرعها بترك حلبها ليظنها المشتري سمينة فيغتر

فهذا الحديث مخالف للقياس الصحيح من كل وجه لأن تقدير ضمان العدوان بالمثل أو بالقيمة حكم ثابت بالكتاب وهو قوله فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم والسنة والإجماع

(٢/٨)

(٢/٩)

وأما المجهول فإن روى عنه السلف وشهدوا له بصحة الحديث صار مثل المعروف بالرواية وإن سكتوا عن الطعن بعد النقل فكذا لأن السكوت عند الحاجة إلى البيان بيان وإن قبل البعض ورد البعض مع نقل الثقات عنه يقبل إن وافق قياسا كحديث معقل بن سنان في بروع مات عنها هلال بن مرة وما سمى لها مهرا وما دخل بها فقضى عليه السلام لها بمهر مثل نسائها فقبله ابن مسعود ورده علي رضي اللّه تعالى عنهما وقال ما نصنع بقول أعرابي بوال على عقبيه قال شمس الأئمة الكردري إن من عادة الأعرابي الجلوس محتبيا فإذا بال يقع البول على عقبيه وهذا لبيان قلة احتياط الأعراب حيث لم يستنزهوا البول وهذا طعن من علي رضي اللّه تعالى عنه وقد روى عنه الثقات كابن مسعود وعلقمة ومسروق وغيرهم فعملنا به لما وافق القياس عندنا فإن الموت كالدخول بدليل وجوب العدة في الموت ولم يعمل به الشافعي رحمه اللّه تعالى لما خالف القياس عنده

وإن رده الكل فهو مستنكر لا يعمل به كحديث فاطمة بنت قيس أنه عليه السلام لم يجعل لها نفقة ولا سكنى وقد طلقها زوجها ثلاثا فرده عمر وغيره من الصحابة وقال عمر لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت أحفظت أم نسيت قال عيسى بن أبان فيه أراد بالكتاب

(٢/١٠)

والسنة القياس لأن ثبوته بهما حيث قال اللّه تعالى فاعتبروا وحديث معاذ في القياس مشهور وقال بعضهم أراد بالكتاب قوله تعالى أسكنوهن وأراد بالسنة ما قال عمر سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال للمطلقة الثلاث النفقة والسكنى ما دامت في العدة

وإن لم يظهر حديثه في السلف كان يجوز العمل به في زمن أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى إذا وافق القياس لأن الصدق في ذلك الزمان غالب قال عليه السلام خير القرون قرني الذين أنا فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب فالقرن

الأول الصحابة

والثاني التابعون والثالث تبع التابعين

أما بعد القرن الثالث فلا لغلبة الكذب فلهذا صح عنده القضاء بظاهر العدالة وعندهما لا فهذا لاختلاف العهد

فصل في شرائط الراوي وهي أربعة العقل والضبط والعدالة والإسلام

أما العقل فيعتبر هنا كماله وهو مقدر بالبلوغ على ما يأتي فلا يقبل خبر الصبي والمعتوه

وأما الضبط فهو سماع الكلام كما يحق سماعه ثم فهم معناه ثم حفظ لفظه ثم الثبات عليه مع المراقبة

(٢/١١)

إلى حين الأداء وكماله أن ينضم إلى هذا الوقوف على معانيه الشرعية

وشرطنا حق السماع احترازا عن أن يحضر رجل مجلسا وقد مضى صدر من الكلام ويخفى على المتكلم هجومه ليعيده وهو يزدري نفسه فلا يستعيده

وفهم المعنى بالنصب عطف على حق السماع في قوله وشرطنا حق السماع هنا لا في القرآن لأن المعتبر في نقله نظمه فلهذا يبالغ في حفظه عادة بخلاف الحديث على أنه قد ينقل بالمعنى حتى ولو بولغ في حفظه كانت كافية ولأنه محفوظ لقوله تعالى وإنا له لحافظون

والمراقبة بالنصب عطف أيضا على ذلك احترازا عما لا يرى نفسه أهلا للتبليغ فيقصر في مراقبة بعض ما ألقي إليه

وأما العدالة فهي الاستقامة وهي الانزجار عن محظورات دينه وهي متفاوتة وأقصاها أن يستقيم كما أمر وهو أن لا يكون مخالفا النبي عليه السلام فاعتبر ما لا يؤدي إلى الحرج وهو رجحان جهة الدين والعقل على داعي الهوى والشهوة فقيل إن من ارتكب كبيرة سقطت عدالته وإذا أصر على الصغيرة فكذا

أما من ابتلي بشيء منها من غير إصرار فتام العدالة فشهادة المستور وإن كانت مردودة لكن خبر المجهول يقبل عندنا لشهادة النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك القرن بالعدالة

وأما الإسلام فإنما شرطناه وإن كان الكذب حراما في كل دين لأن الكافر يسعى في هدم دين الإسلام تعصبا فيرد قوله في أموره وهو التصديق والإقرار وهو نوعان ظاهر بنشوئه بين المسلمين وثابت بالبيان بأن يصف اللّه تعالى كما هو إلا أن في اعتباره على سبيل التفصيل

(٢/١٢)

حرجا فيكفي الإجمال بأن يصدق بكل ما أتى به النبي عليه السلام فلهذا

قلنا الواجب أن يستوصف فيقال أهو كذا وكذا فإذا قال نعم يكمل إيمانه أي لأجل أن الإجمال كاف بناء على أن الحرج مدفوع في الدين

قلنا إن الواجب الاستيصاف وليس المراد بالاستيصاف أن نسأله عن صفات اللّه تعالى أو نسأله عن الإيمان ما هو وما صفته فإن هذا بحر عميق تغرق فيه العقول والأفهام ولا يكاد العلماء يعلمون صفات اللّه بل المراد أن نذكر صفات اللّه تعالى التي يجب أن يعرفها المؤمنون ونسأله أهو كذلك أي أتشهد أن اللّه موصوف بالصفات المذكورة فيقول نعم فيكمل إيمانه

وهذا هو المراد واللّه

أعلم بقوله تعالى فامتحنوهن فإذا ثبتت هذه الشرائط يقبل حديثه سواء كان أعمى أو عبدا أو امرأة أو محدودا في قذف تائبا بخلاف الشهادة في حقوق الناس فإنها تحتاج إلى تمييز زائد ينعدم بالعمى وإلى ولاية كاملة تنعدم بالرق وتقصر بالأنوثة

فإن الشهادة والقضاء ولاية للشاهد والقاضي على المشهود عليه والمقضي عليه ألا يرى أن الشاهد يلزم المشهود عليه شيئا وهذا أي الإخبار بالحديث ليس من باب الولاية فإن المخبر لا يلزمه أي الناقل لا يلزم المنقول إليه شيئا بل يلزمه بالتزامه أي يلزم الحكم على المنقول إليه بالتزامه الشرائع ولأنه يلزمه أولا ثم يتعدى منه إلى الغير أي يلزم الحكم الناقل أولا ثم يتعدى منه إلى الغير وهو المنقول إليه

ولا تشترط لمثله الولاية أي لمثل الحكم الذي يلزم على الغير بتبعية لزومه أولا على الشاهد وبالتزام الشاهد عليه شيئا كما في الشهادة بهلال رمضان فإن الصوم يلزم الشاهد أولا ثم يتعدى منه إلى الغير تبعا فلا يكون ولاية على الغير أي ثبوت هذا الحكم بالتبعية على الغير إذ ليس هو إلزاما على الغير قصدا فلهذا يقبل من العبد والمرأة الشهادة بهلال رمضان ورد الشهادة أبدا من تمام الحد هذا بيان الفرق بين قبول الحديث من

(٢/١٣)

المحدود في القذف إذا تاب وبين عدم قبول الشهادة منه فإن حديثه مقبول وشهادته غير مقبولة فإن عدم قبول شهادته من تمام حده قال اللّه تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا

فبعد التوبة لا تقبل شهادتهم وإن كانوا عدولا لكن يقبل حديثهم بناء على عدالتهم وقد ثبت عن أصحابه عليه السلام قبول الحديث عن الأعمى والمرأة كعائشة وهو عليه السلام قبل خبر بريرة وسلمان رضي اللّه تعالى عنهما

فصل في الانقطاع أي انقطاع الحديث عن الرسول عليه السلام وهو ظاهر وباطن

أما الظاهر فكالإرسال الإرسال عدم الإسناد وهو أن يقول الراوي قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من غير أن يذكر الإسناد والإسناد أن يقول حدثنا فلان عن فلان عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم والمرسل منقطع عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من حيث الظاهر لعدم الإسناد الذي يحصل به الاتصال لا من حيث الباطن للدلائل المذكورة في المتن الدالة على قبول المرسل

ومرسل الصحابي مقبول بالإجماع ويحمل على السماع ومرسل القرن

الثاني والثالث لا يقبل عند الشافعي رحمه اللّه تعالى إلا أن يثبت اتصاله من طريق آخر كمراسيل سعيد بن المسيب قال لأني وجدتها مسانيد للجهل بصفات الراوي التي تصح بها الرواية وهذا دليل على قوله لا يقبل عند الشافعي رحمه اللّه تعالى ويقبل عندنا وعند مالك وهو فوق المسند لأن الصحابة أرسلوا وقال البراء ما كل ما نحدثه سمعناه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإنما حدثنا عنه لكنا لا نكذب

ولأن كلامنا في إرسال من لو أسند لا يظن به الكذب فلأن لا يظن الكذب على الرسول أولى والمعتاد أنه إذا وضح له الأمر طوى الإسناد وجزم وإذا لم يتضح نسبه إلى الغير ليحمله ما حمله هذا جواب في دليل الشافعي رحمه اللّه تعالى حيث قال للجهل بصفات الراوي ولا بأس بالجهالة لأن المرسل إذا كان ثقة لا يتهم بالغفلة على حال من سكت عنه ألا يرى أنه لو قال أخبرني ثقة يقبل مع الجهل ولا يعزم ما لم يسمعه من الثقة

ومرسل من دون هؤلاء يقبل عند أصحابنا لما ذكرنا ويرد عند البعض لأن الزمان زمان الفسق والكذب إلا أن يروي الثقات مرسله كما رووا مسنده مثل إرسال محمد بن الحسن وأمثاله

وأما الانقطاع الباطن فإما بالمعارضة أو بنقصان في الناقل

أما

الأول فإما بمعارضة الكتاب كحديث فاطمة بنت قيس قوله تعالى بالنصب أي كمعارضة حديث فاطمة قوله تعالى فنصب قوله تعالى لكونه مفعول المعارضة أسكنوهن

أما في السكنى فظاهر

وأما في النفقة فلأن قوله تعالى من وجدكم يحمل عندنا على قراءة ابن مسعود وهي وأنفقوا عليهن من وجدكم وكحديث القضاء بشاهد ويمين المدعي قوله تعالى بالنصب أيضا لهذا المعنى وهكذا الأمثلة

(٢/١٤)

التي تأتي واستشهدوا شهيدين من رجالكم الآية وعند عدم الرجلين أوجب رجلا وامرأتين وحيث نقل إلى ما ليس بمعهود في مجالس الحكم دل على عدم قبول الشاهد الواحد مع اليمين فإن حضور النساء لا يعهد في مجالس الحكم ولو كانت اليمين كافية مع الشاهد الواحد مقام المرأتين لما أوجب حضورهما على أن النساء ممنوعات من الخروج وحضور مجالس الرجال وذكر في المبسوط أن القضاء بشاهد ويمين بدعة وأول من قضى به معاوية

(٢/١٥)

وكحديث المصراة قوله تعالى فاعتدوا وإنما يرد لتقدم الكتاب حتى يكون عام الكتاب وظاهره أولى من خاص خبر الواحد ونصه ولا ينسخ ذلك بهذا ولا يزاد به عليه

وإما بمعارضة الخبر المشهور كحديث الشاهد واليمين قوله عليه السلام البينة على المدعي واليمين على من أنكر وكحديث بيع الرطب بالتمر فإنه إن كان الرطب هو التمر يعارض قوله عليه السلام التمر بالتمر مثلا بمثل وقوله جيدها ورديئها سواء وإن لم يكن يعارض قوله إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم تحقيقه أن الرطب لا يخلو من أن يكون تمرا أو لم يكن فإن كان تمرا فإن لم يجز بيعه بالتمر يكون معارضا لقوله عليه السلام التمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا ولا يقال إنه تمر لكن الرطب والتمر مختلفان في الصفة لأنا نقول لا اعتبار لاختلاف الصفة لقوله صلى اللّه عليه وسلم جيدها ورديها سواء ولدفع هذه الشبهة صريحا زدت قوله جيدها ورديئها سواء

(٢/١٦)

(٢/١٧)

(٢/١٨)

وأما بكونه شاذا في البلوى العام كحديث الجهر بالتسمية فإنه لو كان فخفاؤه في مثل هذه الحادثة مما يحيله العقل

فإن قيل جعل هذا النوع من أقسام المعارضة ولا معارضة فيه قلت أمثال هذا الحديث يدل على عدم وجوب التبليغ عن النبي عليه الصلاة والسلام أو على ترك الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم التبليغ الواجب عليهم فتكون معارضة لدلائل وجوب التبليغ أو لدلائل تدل على عدالتهم أو تكون معارضة للقضية العقلية وهي أنه لو وجد لاشتهر وفي المتن إشارة إلى هذا

وإما بإعراض الصحابة عنه نحو الطلاق بالرجال والعدة بالنساء فإنهم اختلفوا في الحكم ولم يرجعوا إليه

وأما

الثاني وهو الذي يكون الانقطاع بنقصان في الناقل فصار الانقطاع الباطن على

(٢/١٩)

قسمين

الأول أن يكون منقطعا بسبب كونه معارضا

والثاني أن يكون الانقطاع بنقصان في الناقل والأول على أربعة أوجه

إما أن يكون معارضا للكتاب أو السنة المشهورة أو بكونه شاذا في البلوى العام أو بإعراض الصحابة عنه فإنه معارض لإجماع الصحابة

فلما ذكر الوجوه الأربعة شرع في القسم

الثاني من الانقطاع الباطن وهذان القسمان وإن كانا متصلين ظاهرا لوجود الإسناد لكنهما منقطعان باطنا وحقيقة

أما القسم

الأول فلقوله عليه السلام يكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب اللّه تعالى فما وافق كتاب اللّه فاقبلوه وما خالف فردوه فدل هذا الحديث على أن كل حديث يخالف كتاب اللّه فإنه ليس بحديث الرسول عليه السلام وإنما هو مفترى وكذلك كل حديث يعارض دليلا أقوى منه فإنه منقطع عنه عليه السلام لأن الأدلة الشرعية لا يناقض بعضها بعضا وإنما التناقض من الجهل المحض

وأما القسم

الثاني فلأنه لما كان الاتصال بوجود الشرائط التي ذكرناها في الراوي فحيث عدم بعضها لا يثبت الاتصال فكخبر المستور إلا في الصدر

الأول كما

قلنا في المجهول وخبر الفاسق بالجر عطف على قوله خبر المستور والمعتوه وسيأتي معناه في فصل العوارض

والصبي العاقل والمغفل الشديد الغفلة لا من غالب حاله التيقظ والمساهل أي المجازف الذي لا يبالي من السهو والخطأ والتزوير وصاحب الهوى فإنه لا تقبل روايتهم للشرائط المذكورة أي لاشتراط الشرائط المذكورة في الراوي

(٢/٢٠)

فصل في محل الخبر أي الحادثة التي ورد فيها الخبر وهو

إما حقوق اللّه تعالى وهي

إما العبادات أو العقوبات

والأولى تثبت بخبر الواحد بالشرائط المذكورة وما كان من الديانات كالإخبار بطهارة الماء ونجاسته فكذا أي يثبت بأخبار الآحاد بالشرائط المذكورة أي إذا أخبر الواحد العدل أن هذا الماء طاهر أو نجس يقبل خبره ثم استدرك عن قوله فكذا بقوله لكن إن أخبر بها الفاسق أو المستور يتحرى لأن هذا إشارة إلى الإخبار عن طهارة الماء ونجاسته أمر لا يستقيم تلقيه من جهة العدول بخلاف أمر الحديث ففي كثير من الأحوال لا يكون العدل حاضرا عند الماء فاشتراط العدالة بمعرفة الماء حرج فلا يكون خبر الفاسق والمستور ساقط الاعتبار فأوجبنا انضمام التحري به بخلاف أمر الأحاديث فإن الذين يتلقونها هم العلماء الأتقياء فلا حرج إذا لم يعتبر قول الفسقة والمستورين في الأحاديث فلا اعتبار لأحاديثهم أصلا

وأما أخبار الصبي والمعتوه والكافر فلا يقبل فيها أصلا أي لا يقبل في الديانات كالإخبار عن طهارة الماء ونجاسته أصلا أي لا يلتفت إلى قوله فلا يجب التحري بخلاف أخبار الفاسق فإن الواجب فيه التحري

والثانية أي العقوبات كذلك عند أبي يوسف رحمه اللّه أي تثبت بخبر الواحد بالشرائط المذكورة لأنه يفيد من العلم ما يصح به العمل في الحدود كالبينات ولأنه يثبت العقوبات بدلالة النص

والثابت بدلالة النص فيه شبهة فعلم أن العقوبات تثبت بدليل فيه شبهة وجوابه أن الثابت بدلالة النص قطعي بمعنى

(٢/٢١)

قطع الاحتمال الناشئ عن دليل كحرمة الضرب من قوله تعالى فلا تقل لهما أف والثابت بخبر الواحد ليس في هذه المرتبة وعندنا لا لتمكن الشبهة في الدليل والحد يندرئ بها وإنما تثبت بالبينة بالنص أي كان القياس أن لا تثبت العقوبات كالحدود والقصاص بالبينة لأنها خبر الواحد فإن كل ما دون التواتر خبر الواحد فتكون البينة دليلا فيه شبهة والحد يندرئ بها لكن إنما تثبت العقوبات بالبينة بالنص على خلاف القياس فلا يقاس ثبوتها بحديث يرويه الواحد على ثبوتها بالبينة

وأما حقوق العباد فتثبت بحديث يرويه الواحد بالشرائط المذكورة

وأما ثبوتها بخبر يكون في معنى الشهادة فما كان فيه إلزام محض لا يثبت إلا بلفظ الشهادة والولاية فلا تقبل

(٢/٢٢)

شهادة الصبي والعبد والعدد عند الإمكان حتى لا يشترط العدد في كل موضع لا يمكن فيه العدد عرفا كشهادة القابلة مع سائر شرائط الرواية صيانة لحقوق العباد ولأن فيه معنى الإلزام فيحتاج إلى زيادة توكيد والشهادة بهلال الفطر من هذا القسم أي له حكم هذا القسم لما فيه من خوف التزوير والتلبيس وما ليس في الإلزام كالوكالات والمضاربات والرسالات في الهدايا وما أشبه ذلك كالودائع والأمانات تثبت بأخبار الواحد بشرط التمييز دون العدالة فيقبل فيها خبر الفاسق والصبي والكافر لأنه لا إلزام فيه وللضرورة اللازمة هنا

فإن في اشتراط العدالة في هذه الأمور غاية الحرج على أن المتعارف بعث الصبيان والعبيد بهذه الأشغال

والعدول الثقات لا ينتصبون دائما للمعاملات الخسيسة لا سيما لأجل الغير بخلاف الطهارة والنجاسة فإن ضرورتهما غير لازمة لأن العمل بالأصل ممكن فإنه قد سبق في هذا الفصل في الطهارة والنجاسة أن هذا أمر لا يستقيم تلقيه من جهة العدول

فهذا بيان أن الضرورة حاصلة في قبول خبر غير العدول في الطهارة والنجاسة لكن نذكر هنا أن الضرورة فيهما غير لازمة لأن العمل بالأصل ممكن فأما في المعاملات فالضرورة لازمة فلم يقبل خبر العدول ثمة مطلقا بل مع انضمام التحري وقبل هنا مطلقا وما فيه إلزام من وجه دون

(٢/٢٣)

وجه كعزل الوكيل فإنه إلزام من حيث إنه يبطل عمله في المستقبل وليس بإلزام من حيث أن الموكل يتصرف في حقه وحجر المأذون وفسخ الشركة لما ذكرنا في عزل الوكيل وإنكاح الولي البكر البالغة فإنه من حيث إنه لا يمكن لهذا التزوج في المستقبل على تقدير نفاذ هذا الإنكاح إلزام ومن حيث إنه يمكن لها فسخ هذا الإنكاح ليس بإلزام فإن كان المخبر وكيلا أو رسولا يقبل خبر الواحد غير العدل وإن كان فضوليا يشترط

إما العدد أو العدالة بعد وجود سائر الشرائط

إنما فرقوا بين الوكيل والرسول وبين الفضولي لأن الوكيل والرسول يقومان مقام الموكل والمرسل فينتقل عبارتهما إليهما فلا يشترط شرائط الأخبار من العدالة ونحوها في الوكيل والرسول بخلاف الفضولي وأيضا قلما يتطرق الكذب في الوكالة والرسالة بأن يقول كاذبا وكلني فلان أو أرسلني إليك ويقول كذا وكذا

وأما الأخبار الكاذبة من غير رسالة ووكالة فكثيرة الوقوع وذلك لأن مخافة ظهور الكذب ولزوم الضرر في الأولين أشد

وقوله رعاية للشبهين أي شبه الإلزام وعدم الإلزام

فصل في كيفية السماع والضبط والتبليغ

أما السماع فهو العزيمة في هذا الباب وهو

إما بأن يقرأ المحدث عليك أو بأن تقرأ عليه فتقول أهو كما قرأت فيقول نعم والأول أعلى عند المحدثين فإنه طريقة الرسول عليه السلام وقال أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى كان ذلك أحق منه عليه السلام فإنه كان مأمونا عن السهو

أما في غيره فلا على أن رعاية الطالب أشد عادة

(٢/٢٤)

وطبيعة وأيضا إذا قرأ التلميذ فالمحافظة من الطرفين وإذا قرأ الأستاذ لا تكون المحافظة إلا منه

وأما الكتابة والرسالة فقائم مقام الخطاب فإن تبليغ الرسول عليه السلام كان بالكتاب والإرسال أيضا والمختار في الأولين أن يقول حدثنا وفي الأخيرين أخبرنا

وأما الرخصة فهي الإجازة والمناولة فإن كان عالما بما في الكتاب يجوز فالمستحب أن يقول أجاز ويجوز أيضا أخبر وإن لم يكن عالما بما فيه لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللّه تعالى خلافا لأبي يوسف كما في كتاب القاضي

لهما أن أمر السنة أمر عظيم مما لا يتساهل فيه وتصحيح الإجازة من غير علم فيه من الفساد ما فيه وفيه فتح لباب التقصير في طلب العلم وهذا أمر يتبرك به لا أمر يقع به الاحتجاج

وأما الضبط فالعزيمة فيه الحفظ إلى وقت الأداء

وأما الكتابة فقد كانت رخصة فانقلبت عزيمة في هذا الزمان صيانة للعلم

والكتابة نوعان مذكر أي إذا رأى الخط تذكر الحادثة هذا هو الذي انقلب عزيمة وأمام وهو لا يفيد التذكر والأول حجة سواء خطه هو أو رجل معروف أو مجهول

والثاني لا يقبل عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى أصلا وعند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى إن كان تحت يده يقبل في الأحاديث وديوان القضاء للأمن من التزوير وإن لم يكن في يده لا يقبل في ديوان القضاء ويقبل في الأحاديث إذا كان خطا معروفا لا يخاف عليه التبديل عادة ولا يقبل في الصكوك لأنه في يد الخصم حتى إذا كان في يد الشاهد يقبل وعند محمد رحمه اللّه تعالى يقبل أيضا في الصكوك إذا علم بلا شك أنه خطه لأن الغلط فيه نادر وما يجده بخط رجل معروف في كتاب معروف

(٢/٢٥)

يجوز أن يقول وجدت بخط فلان كذا وكذا

وأما الخط المجهول فإن ضم إليه خط جماعة لا يتوهم التزوير في مثله والنسبة تامة يقبل وغير مضموم لا المراد من النسبة التامة أن يذكر الأب والجد

(٢/٢٦)

وأما التبليغ فإنه لا يجوز عند بعض أهل الحديث النقل بالمعنى لقوله عليه الصلاة والسلام نضر اللّه امرأ أي نعم اللّه سمع منا مقالة فوعاها وأداها كما سمعها لأنه مخصوص بجوامع الكلم وعند عامة العلماء يجوز ولا شك أن العزيمة هو

الأول والتبرك بلفظه عليه الصلاة والسلام أولى لكن إذا ضبط المعنى ونسي اللفظ فالضرورة داعية إلى ما ذكرنا وهو في ذلك أنواع أي الحديث في النقل بالمعنى أنواع فما كان محكما يجوز للعالم باللغة وما كان ظاهرا يحتمل الغير كعام يحتمل الخصوص أو حقيقة تحتمل المجاز يجوز للمجتهد فقط وما كان مشتركا أو مجملا أو متشابها أو من جوامع الكلم لا يجوز أصلا لأن في

الأول أي المشترك إن أمكن التأويل فتأويله لا يصير حجة على غيره

والثاني والثالث أي المجمل والمتشابه لا يمكن نقلهما بالمعنى وفي الأخير أي ما كان من جوامع الكلم لا يؤمن الغلط فيه لإحاطته عليه السلام لمعان تقصر عنها عقول غيره

(٢/٢٧)

فصل في الطعن وهو

إما من الراوي أو من غيره والأول

إما بأن يعمل بخلافه بعد الرواية فيصير مجروحا كحديث عائشة رضي اللّه عنها أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثم زوجت بعدها ابنة أخيها عبد الرحمن رحمه اللّه تعالى وهو غائب وكحديث ابن عمر رضي اللّه عنهما في رفع اليدين في الركوع وقال مجاهد صحبت ابن عمر رحمه اللّه تعالى عشر سنين فلم أره رفع يديه إلا في تكبيرة الافتتاح وإن عمل بخلافه قبلها أو لا يعلم التاريخ لا يجرح

وأما بأن يعمل ببعض محتملاته فإنه رد منه للباقي بطريق التأويل لا جرح كحديث ابن عباس من بدل دينه فاقتلوه وقال لا تقتل المرتدة

وأما بأن أنكرها صريحا كحديث عائشة أيما امرأة نكحت الحديث رواه سليمان عن موسى عن الزهري عن عائشة رضي اللّه عنها وقد أنكر الزهري لا يكون جرحا عند محمد رحمه اللّه تعالى لقصة ذي اليدين وهي ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى إحدى العشاءين فسلم على رأس ركعتين فقام ذو اليدين فقال لرسول اللّه عليه الصلاة والسلام أقصرت الصلاة أم نسيتها فقال عليه الصلاة والسلام كل ذلك لم يكن فقال وبعض ذلك قد كان فأقبل على القوم فيهم أبو بكر وعمر فقال أحق ما يقول ذو اليدين فقالا نعم فقام فصلى ركعتين فقبل عليه

(٢/٢٨)

السلام روايتهما عنه مع إنكاره

ومن ذهب إلى أن كلام الناسي يبطل الصلاة زعم أن هذا كان قبل تحريم الكلام في الصلاة ثم نسخ ولأن الحمل على نسيانه أولى من تكذيب الثقة الذي يروي عنه ويكون جرحا عند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى لأن عمارا قال لعمر

أما تذكر حيث كنا في إبل فأجنبت فتمعكت إلى آخره ولم يقبله عمر رضي اللّه تعالى عنه قال كنا في إبل الصدقة فأجنبت فتمعكت في التراب فذكرت ذلك لرسول اللّه عليه الصلاة والسلام فقال

أما كان يكفيك ضربتان فلم يتذكره عمر فلم يقبل قول عمار يقال تمعكت الدابة في التراب أي تمرغت

ووجه التمسك بهذا أن عمارا لو لم يحك حضور عمر في تلك القضية لقبله عمر لعدالة عمار فالمانع من القبول أن عمارا حكى حضور عمر وعمر لم يتذكر ذاك

(٢/٢٩)

فبالأولى إذا نقل عن رجل حديث وهو لا يتذكره لا يكون مقبولا

ونقل البخاري في صحيحه عن سفيان عن شقيق كنت مع عبد اللّه بن مسعود وأبي موسى فقال أبو موسى ألم تسمع قول عمار لعمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثني أنا وأنت فأجنبت فتمعكت الصعيد فأتينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرناه فقال عليه الصلاة والسلام

أما كان يكفيك هكذا ومسح وجهه وكفيه واحدة وقال عبد اللّه أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار

وهذا فرع خلافهما في شاهدين شهدا على قاض أنه قضى بهذا ولم يتذكر القاضي

والثاني أنه إن كان من الصحابي فيما لا يحتمل الخفاء يكون جرحا نحو البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ولم يعمل به عمر وعلي رضي اللّه عنهما ولا يمكن خفاء مثل هذا الحكم عنهما وفيما يحتمل الخفاء لا يكون جرحا كما لم يعمل أبو موسى بحديث الوضوء على من قهقه في الصلاة لأنه من الحوادث النادرة فيحمل على الخفاء عنه وإن كان من أئمة الحديث فإن كان الطعن مجملا لا يقبل وإن كان مفسرا فإن فسر بما هو جرح شرعا متفق عليه والطاعن من أهل النصيحة لا من أهل العداوة والعصبية يكون جرحا وإلا فلا وما ليس بطعن شرعا فمذكور في أصول البزدوي فإن أردت فعليك بالمطالعة فيه

(٢/٣٠)

فصل في أفعاله عليه الصلاة والسلام فمنها ما يقتدى به وهو مباح ومستحب وواجب وفرض وغير المقتدى به وهو

إما مخصوص به أو زلة وهي فعله من الصغائر يفعله من غير قصد ولا بد أن ينبه عليها لئلا يقتدى بها ففعله المطلق يوجب التوقف عند البعض للجهل بصفته ولا تحصل المتابعة إلا بإتيانه على تلك الصفة وعند البعض يلزمنا اتباعه لقوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أي فعله وطريقته وعند الكرخي يثبت المتيقن وهو الإباحة ولا يكون لنا اتباعه لأنه لا يمكن أن يكون مخصوصا به والمختار عندنا الإباحة لكن يكون لنا اتباعه لأنه بعث ليقتدى بأقواله وأفعاله قال اللّه تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إني جاعلك للناس إماما وذلك بسبب النبوة والمخصوص به نادر

(٢/٣١)

فصل في الوحي وهو ظاهر وباطن

أما الظاهر فثلاثة

الأول ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه عليه الصلاة والسلام بعد علمه بالمبلغ بآية قاطعة والقرآن من هذا القبيل

والثاني ما وضح له بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال عليه الصلاة والسلام إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت الحديث حتى تستكمل رزقها فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب

الروع القلب وهذا يسمى خاطر الملك والثالث ما تبدى لقلبه بلا شبهة بإلهام اللّه تعالى إياه بأن أراه بنور من عنده كما قال اللّه تعالى لتحكم بين الناس بما أراك اللّه وكل ذلك حجة مطلقا بخلاف الإلهام للأولياء فإنه لا يكون حجة على غيره

وأما الباطن فما ينال بالرأي والاجتهاد وفيه خلاف فعند البعض حظه الوحي الظاهر لا غير وإنما الرأي وهو المحتمل للخطأ يكون لغيره لعجزه عن

الأول لقوله تعالى إن هو إلا وحي يوحى وعند البعض له العمل بهما والمختار عندنا أنه مأمور بانتظار الوحي ثم العمل

(٢/٣٢)

بالرأي بعد انقضاء مدة الانتظار لعموم فاعتبروا يا أولي الأبصار ولحكم داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام بالرأي في نفش غنم القوم يقال نفشت الغنم والإبل نفوشا أي رعت ليلا بلا راع روي أن غنم قوم وقعت ليلا في زرع جماعة فأفسدته فتخاصموا عند داود عليه الصلاة والسلام فحكم داود بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان عليه الصلاة والسلام وهو ابن إحدى عشرة سنة غير هذا أرفق بالفريقين فقال أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها والحرث إلى أرباب الشاة يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسدته ثم يترادون فقال داود عليه الصلاة والسلام القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك

أما وجه حكومة داود عليه الصلاة والسلام أن

(٢/٣٣)

الضرر وقع بالغنم فسلمت إلى المجني عليه كما في العبد الجاني

وأما وجه حكومة سليمان عليه الصلاة والسلام أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان

ولقوله عليه الصلاة والسلام أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته الحديث روي أن الخثعمية قالت يا رسول اللّه إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة فيجزيني أن أحج عنه فقال عليه الصلاة والسلام أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يقبل منك قالت نعم قال فدين اللّه أحق أن يقبل

وقوله عليه السلام أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته الحديث روي أن عمر سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قبلة الصائم فقال عليه السلام أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك

لكن يحتمل في الحديثين أن النبي صلى اللّه عليه وسلم علمه بالوحي لكن بينه بطريق القياس لما كان موافقا له ليكون أقرب إلى فهم السامع ولأنه أسبق الناس في العلم وأنه يعلم المتشابه والمجمل فمحال أن يخفى عليه معاني النص المراد بها العلل

فإذا وضح له لزمه العمل ولأنه شاور أصحابه في سائر الحوادث عند عدم النص فأخذ في أسارى بدر برأي أبي بكر رضي اللّه عنه روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتى يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس عمه عليه السلام وعقيل ابن عمه أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال قومك وأهلك فاستبقهم لعل اللّه أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية يقوى بها أصحابك وقال عمر كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن اللّه عز وجل أغناك عن الفداء مكن عليا من عقيل وحمزة من عباس ومكني من فلان لنسيب له فلنضرب أعناقهم فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم برأي أبي بكر وكان ذلك هو الرأي عنده فمن عليهم حتى نزل قوله تعالى لولا كتاب من اللّه سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم أي لولا حكم اللّه سبق في اللوح المحفوظ وهو أنه لا يعاقب أحد بالخطأ فكان هذا خطأ في الاجتهاد لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا لإسلامهم وتوبتهم وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد

(٢/٣٤)

في سبيل اللّه وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأقل لشوكتهم فلما نزلت هذه الآية قال عليه السلام لو نزل بنا عذاب ما نجا إلا عمر ولهذه الآية تأويل آخر نذكره في باب الاجتهاد إن شاء اللّه تعالى

ومثل ذلك كثير أي مثل ما أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم برأي أصحابه كثير وبعض ذلك مذكور في أصول البزدوي ومن ذلك ما روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أراد يوم الأحزاب أن يعطي المشركين شطر ثمار المدينة لينصرفوا فقام سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا إن كان هذا عن وحي فسمعا وطاعة وإن كان عن رأي فلا نعطيهم إلا السيف قد كنا نحن وهم في الجاهلية لم يكن لنا ولهم دين كانوا لا يطعمون من ثمار المدينة إلا بشراء أو قرى فإذا أعزنا اللّه تعالى بالدين أنعطيهم ثمار المدينة لا نعطيهم إلا السيف وقال عليه السلام إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أصرفهم عنكم فإذا أبيتم فذاك ثم قال عليه السلام للذين جاءوا للصلح اذهبوا فلا نعطيهم إلا السيف

واجتهاده لا يحتمل القرار على الخطأ لكن مع ذلك الوحي الظاهر أولى لأنه أعلى ولأنه لا يحتمل الخطأ لا ابتداء ولا بقاء والباطن لا يحتمل بقاء أي الوحي الباطن وهو القياس يحتمل الخطأ لا حالة الابتداء لكن لا يحتمل القرار على الخطأ فهذا هو المراد بالبقاء والوحي الظاهر لا يحتمل الخطأ أصلا لا ابتداء ولا بقاء فكان أقوى

ومدة الانتظار ما يرجو نزوله فإذا خاف الفوت في الحادثة يعمل بالرأي لما ذكر في هذا الفصل أنه مأمور بانتظار الوحي للعمل بالرأي بعد انقضاء مدة الانتظار بين مدة الانتظار وهي ما يرجو نزوله

واللّه تعالى إذا سوغ له الاجتهاد كان الاجتهاد وما يستند إليه وهو الحكم الذي ظهر له بالاجتهاد وحيا لا نطقا عن الهوى وهذا جواب التمسك على المذهب

الأول بقوله تعالى إن هو إلا وحي يوحى

فصل في شرائع من قبلنا وهي تلزمنا حتى يقوم الدليل على النسخ عند البعض لقوله

(٢/٣٥)

تعالى فبهداهم اقتده قوله تعالى ومصدقا لما بين يديه وعند البعض لا لقوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولأن الأصل في الشرائع الماضية الخصوص إلا بدليل كما كان في المكان أي كان في القرون الأولى لكل قوم نبي ويتبع كل واحد منهم نبيهم دون الآخر وكل من الأنبياء مخصوص لمعين

وما ذكروا وهو قوله تعالى فبهداهم اقتده وقوله تعالى مصدقا لما بين يديه فذلك في أصول الدين وعند البعض تلزمنا على أنها شريعة لنا لقوله تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية والإرث يصير ملكا للوارث مخصوصا به فنعمل به على أنه شريعة لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ولقوله عليه السلام لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي وما ذكروا غير مختص بالأصول بل في الجميع على أن النسخ ليس تغييرا بل هو بيان لمدة الحكم والمذهب عندنا هذا لكن لما لم يبق الاعتماد على كتبهم للتحريف شرطنا أن يقص اللّه تعالى علينا من غير إنكار

فصل في تقليد الصحابي يجب إجماعا فيما شاع فسكتوا مسلمين ولا يجب إجماعا

(٢/٣٦)

فيما ثبت الخلاف بينهم واختلف في غيرهما وهو ما لم يعلم اتفاقهم ولا اختلافهم

فعند الشافعي رحمه اللّه تعالى لا يجب لأنه لما لم يرفعه لا يحمل على السماع وفي الاجتهاد هم وسائر المجتهدين سواء لعموم قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار ولأن كل مجتهد يخطئ ويصيب عند أهل السنة

وعند أبي سعيد البردعي يجب لقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم إن اقتديتم اهتديتم اقتدوا باللذين من بعدي تمام الحديث أبي بكر وعمر

ولأن أكثر أقوالهم مسموع من حضرة الرسالة وإن اجتهدوا فرأيهم أصوب لأنهم شاهدوا موارد النصوص ولتقدمهم في الدين وبركة صحبة النبي عليه السلام وكونهم في خير القرون وعند الكرخي يجب فيما لا يدرك بالقياس لأنه لا وجه له إلا السماع أو الكذب

والثاني منتف لا فيما يدرك لأن القول بالرأي منهم مشهور والمجتهد يخطئ ويصيب والاقتداء في البعض بما ذكرنا أي الاقتداء في بعض المواضع بأن نقلدهم ونأخذ بقولهم وفي البعض أي في بعض المواضع بأن نسلك مسلكهم أي في الاجتهاد ونجتهد كما اجتهدوا وهذا اقتداء أيضا وهو جواب عن قوله عليه السلام أصحابي كالنجوم

وأيضا كل

(٢/٣٧)

ما ثبت فيه اتفاق الشيخين يجب الاقتداء به

وأما التابعي فإن ظهر فتواه في زمن الصحابة فهو كالصحابي عند البعض لأنهم بتسليمهم إياه دخل في جملتهم كشريح خالف عليا رضي اللّه عنه ورد شهادة الحسن له وكان مذهب علي قبول شهادة الولد لوالده

وابن عباس رجع إلى فتوى مسروق في النذر بذبح الولد وكان مذهبه أن يجب عليه مائة من الإبل إذ هي الدية فرجع إلى فتوى مسروق وهي أن يجب ذبح شاة واللّه

أعلم

باب البيان ويلحق بالكتاب والسنة البيان وهو إظهار المراد وهو

إما بالمنطوق أو غيره

الثاني بيان ضرورة والأول

إما أن يكون بيانا لمعنى الكلام أو اللازم له كالمدة

الثاني بيان تبديل

والأول

إما أن يكون بلا تغيير أو معه

الثاني بيان تغيير كالاستثناء والشرط والصفة والغاية

والأول

إما أن يكون معنى الكلام معلوما لكن

الثاني أكده بما قطع الاحتمال أو مجهولا كالمشترك والمجمل

الثاني بيان تفسير والأول بيان تقرير فبيان التقرير والتفسير يجوز للكتاب بخبر الواحد دون التغيير لأنه دونه فلا يغيره فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد عندنا على ما سبق ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنه تكليف بما لا يطاق وهل يجوز تأخيره عن وقت الخطاب فبيان التقرير والتفسير يجوز موصولا ومتراخيا اتفاقا لقوله تعالى ثم إن علينا بيانه وبيان التغيير لا يصح متراخيا إلا عند ابن عباس لقوله عليه السلام فليكفر عن يمينه الحديث

جاء بروايتين إحداهما من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ثم ليأت بالذي هو خير والأخرى فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه وجه التمسك لنا أن النبي عليه الصلاة والسلام أوجب الكفارة ولو جاز بيان التغيير

(٢/٣٨)

متراخيا لما وجبت الكفارة أصلا لجواز أن يقول متراخيا إن شاء اللّه تعالى فيبطل يمينه ولا تجب الكفارة

(٢/٣٩)

وطريقه أنه لما جاء في كتاب اللّه تعالى وجب حمله على وجه لا يلزم التناقض فقلنا الكلام إذا تعقبه مغير توقف على الآخر فيصير المجموع كلاما واحدا كما ذكر في الشرط أي في فصل مفهوم المخالفة أن الشرط والجزاء كلام واحد أوجب الحكم على تقدير وهو ساكت عن غيره

واختلف في التخصيص بالكلام المستقل فعند الشافعي رحمه اللّه تعالى يصح متراخيا وعندنا لا بل يكون نسخا أي المتراخي لا يكون تخصيصا بل يكون نسخا

له قصة البقرة أي قوله تعالى إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة يعم الصفراء وغيرها ثم خص متراخيا وعلم أن المراد بقرة مخصوصة وقوله تعالى وأهلك في قوله تعالى لنوح عليه السلام فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك وقوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم نقل أنه لما نزلت هذه الآية قال

(٢/٤٠)

ابن الزبعرى لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أأنت قلت ذلك قال نعم فقال اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة فقال عليه الصلاة والسلام لا بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل اللّه تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون يعني عزيرا وعيسى والملائكة

خصتا متراخيا أي خصت الآيتان تخصيصا متراخيا وهما قوله تعالى وأهلك وقوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون اللّه بقوله إنه ليس من أهلك وبقوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون

قلنا في قصة البقرة نسخ الإطلاق لأن في

الأول يجوز ذبح أي بقرة شاءوا ثم نسخ هذا والأهل لم يكن متناولا للابن لأن من لا يتبع الرسول لا يكون أهلا له ولو سلمنا تناوله لكن استثنى بقوله تعالى إلا من سبق فإن أريد بالأهل الأهل قرابة حتى يشمل الابن فالاستثناء متصل وقوله ليس من أهلك أي من الأهل الذي لم يسبق عليه القول وإن أريد الأهل إيمانا فاستثناء منقطع تحقيقه أن الأهل لا يخلو

إما أن يراد به الأهل إيمانا أو الأهل

(٢/٤١)

قرابة فإن أريد به

الأول لا يتناول الابن لأنه كافر فالاستثناء وهو قوله تعالى إلا من سبق عليه القول على هذا منقطع وقوله تعالى إنه ليس من أهلك لا يكون تخصيصا لعدم تناول الأهل الابن الكافر

وإن أريد

الثاني أي الأهل قرابة يتناول الابن لكن استثني الابن بقوله تعالى إلا من سبق عليه القول فخرج الابن بالاستثناء لا بالتخصيص المتراخي لقوله إنه ليس من أهلك أي من الأهل الذي لم يسبق عليه القول والمراد بسبق القول ما وعد اللّه تعالى بإهلاك الكفار

وقوله تعالى وما تعبدون من دون اللّه لم يتناول عيسى عليه السلام حقيقة لأن ما لغير العقلاء وإنما أورده تعنتا بالمجاز أو التغليب فقال إن الذين سبقت لهم لدفع هذا الاحتمال وأصحابنا قالوا كل ما هو تفسير يصح متراخيا اتفاقا وما هو تغيير لا يصح إلا موصولا اتفاقا كالاستثناء

وإنما اختلفوا في التخصيص بناء على أنه عندنا بيان تغيير وعنده بيان تفسير لما عرف أن العام عنده دليل فيه شبهة فيحتمل الكل والبعض فبيان إرادة البعض يكون تفسيرا فيصح متراخيا كبيان المجمل وعندنا قطعي في الكل فيكون التخصيص تغيير موجبه

أقول لا فرق عند الشافعي رحمه اللّه تعالى بين التخصيص والاستثناء بناء على أن العام محتمل عنده فعلى هذا كلاهما يكونان تفسيرا عنده لكن الاستثناء لما كان غير مستقل لا بد من اتصاله والتخصيص مستقل فيجوز فيه التراخي وعندنا كلاهما تغيير وهو لا يجوز إلا موصولا

(٢/٤٢)

(٢/٤٣)

فصل في الاستثناء وهو مشتق من الثني يقال ثنى عنان فرسه إذا منعه عن المضي في الصوب الذي هو متوجه إليه

اعلم أن بعض الناس قسموا الاستثناء على المتصل والمنقطع ثم عرفوا كلا منهما بما يجب تعريفه به لكني لم أفعل كذلك لأن الاستثناء الحقيقي هو المتصل وإنما المنقطع يسمى استثناء بطريق المجاز فلم أجعل المنقطع قسما منه لكن أوردته في ذنابة الاستثناء الحقيقي وهو المنع عن دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه

أي في حكم صدر الكلام وفي متعلق بالدخول وقوله بعض ما تناوله صدر الكلام ليخرج الاستثناء المستغرق

بإلا وأخواتها متعلق بالمنع وفيه احتراز عن سائر التخصيصات وهذا تعريف تفردت به وهو أجود من سائر التعريفات لأن من قال هو إخراج بإلا وأخواتها إن أراد حقيقة الإخراج فممتنع لأن الإخراج

إما أن يكون بعد الحكم فيكون تناقضا والاستثناء واقع في كلام اللّه تعالى أو قبل الحكم وحقيقة الإخراج لا تكون إلا بعد الدخول والمستثنى غير داخل في حكم صدر الكلام فيمتنع الإخراج من الحكم وإنما المستثنى داخل في صدر الكلام من حيث التناول أي من حيث إنه يفهم أن المستثنى من صدر الكلام وضعا والإخراج ليس من حيث التناول لأن التناول بعد الاستثناء باق فعلم أن حقيقة الإخراج غير مرادة على أنهم صرحوا بأنه إخراج ما لولاه لدخل

فعلم أن المراد بالإخراج المنع من الدخول مجازا وهو غير مستعمل في الحدود فالتعريف الذي ذكرته أولى قالوا هو بيان تغيير لأنه يغير موجب صدر الكلام إذ لولاه لشمل الكل ومع ذلك إنه

(٢/٤٤)

@ ٤٥ بيان لمعنى الكلام لأنه يبين أن المراد هو البعض بخلاف النسخ فإنه تغيير محض لمعنى الكلام

واختلفوا في كيفية عمله ففي قوله علي عشرة إلا ثلاثة لا يخلو

إما أن أطلق العشرة على السبعة فحينئذ قوله إلا ثلاثة يكون بيانا لهذا فهو كما قال ليس له علي ثلاثة منها فيكون كالتخصيص بالمستقل في أن كلا منهما يبين أن الحكم المذكور في صدر الكلام وارد على بعض أفراده والحكم في البعض الآخر مخالف للحكم في البعض

الأول ولا فرق بينهما على هذا المذهب إلا أن الاستثناء كلام غير مستقل والتخصيص كلام مستقل وعندنا هذا الفرق ثابت بينهما مع فرق آخر وهو أن الاستثناء لا يثبت حكما مخالفا لحكم الصدر بخلاف التخصيص وهذا المذهب وهو أن العشرة يراد بها السبعة إلخ هو ما قال مشايخنا إن الاستثناء عند الشافعي رحمه اللّه يمنع الحكم بطريق المعارضة مثل دليل الخصوص والمراد

(٢/٤٥)

بالمعارضة أن يثبت حكما مخالفا لحكم صدر الكلام

وإنما قلت إن مرادهم بالمنع بطريق المعارضة هذا المذهب لأنهم ذكروا في الجواب عنه أن الألف اسم علم للعدد المعين لا يقع على غيره ولا يحتمله إذ لا يجوز أن يسمى تسعمائة ألفا بخلاف دليل الخصوص لأن المشركين إذا خص منهم نوع كان الاسم واقعا على الباقي بلا خلل وهذا الكلام نص على أنه جواب عن قول من قال إن المراد بالعشرة هو السبعة أو أطلق العشرة على عشرة أفراد ثم أخرج ثلاثة بعد الحكم وهذا تناقض ظاهر وإنكار بعد الإقرار ولا أظنه مذهب أحد أو قبله ثم حكم على الباقي أو أطلق عشرة إلا ثلاثة على السبعة فكأنه قال علي سبعة فحصل ثلاثة مذاهب فعلى هذين أي على المذهبين الأخيرين يكون أي الاستثناء تكلما بالباقي في صدر الكلام بعد الثنيا أي المستثنى ففي قوله له علي عشرة إلا ثلاثة صدر الكلام عشرة والثنيا ثلاثة والباقي في صدر الكلام بعد المستثنى سبعة فكأنه تكلم بالسبعة وقال له علي سبعة وإنما

قلنا إنه على الأخيرين تكلم بالباقي بعد الثنيا

أما على المذهب الأخير فلأن عشرة إلا ثلاثة موضوعة للسبعة فيكون تكلما بالسبعة

وأما على المذهب

الثاني فلأنه أخرج

(٢/٤٦)

الثلاثة قبل الحكم من أفراد العشرة ثم حكم على السبعة فالتكلم في حق الحكم يكون بالسبعة أي يكون الحكم على السبعة فقط لا على الثلاثة لا بالنفي ولا بالإثبات

إلا أن على المذهب الأخير يكون فيما إذا كان المستثنى منه عدديا كالتخصيص بالعلم وفي غير العددي كالتخصيص بالوصف كأنه قال جاءني زيد لما جمع بين المذاهب

الثاني والثالث في أن الاستثناء على كليهما تكلم بالباقي أراد أن يبين الفرق الذي بينهما وهو أن على المذهب الأخير المستثنى منه إذا كان عدديا كقوله له علي عشرة إلا ثلاثة فهو كقوله له علي سبعة فيكون الاستثناء في دلالته على كون الحكم في المستثنى مخالفا لحكم الصدر كالتخصيص بالعلم في نفي الحكم عما عداه

وإن كان غير عددي كجاءني القوم إلا زيدا فهو كقوله جاءني من القوم غير زيد فيكون في دلالته على كون الحكم في المستثنى مخالفا لحكم الصدر كالتخصيص بالوصف في نفي الحكم عما عداه فإن قوله غير زيد صفة فلا فرق على هذا المذهب إذا كان المستثنى منه غير عددي بين إلا وغير صفة

وعلى المذهب

الثاني آكد من هذا أي المذهب

الثاني هو أن المراد بالعشرة عشرة أفراد والإخراج قبل الحكم فالاستثناء على هذا المذهب آكد في دلالته على كون الحكم في المستثنى مخالفا لحكم الصدر من التخصيص بالعلم والوصف في نفي الحكم عما عداهما

لأن ذكر المجموع أولا ثم إخراج البعض ثم الإسناد إلى الباقي يشير إلى أن حكم المستثنى خلاف حكم الصدر بخلاف جاءني غير زيد وعلى

الأول أي على المذهب

الأول يكون إثباتا ونفيا بالمنطوق أي يكون المستثنى والمستثنى منه جملتين إحداهما مثبتة والأخرى منفية والإثبات والنفي يكونان بطريق المنطوق لا المفهوم وعلى المذهب الأخير يكون كالتخصيص بالعلم أو الوصف فلا دلالة لهما على نفي الحكم عما عداهما عندنا وعند البعض يكون دلالته من حيث المفهوم وعلى المذهب

الثاني يكون آكد من هذا فدلالته على الحكم في المستثنى تكون إشارة لا منطوقا

(٢/٤٧)

حجته أي حجة المذهب

الأول أن وجود التكلم مع عدم حكمه في البعض شائع كالتخصيص فأما إعدام التكلم الموجود فلا وإجماعهم أي إجماع أهل العربية وهو عطف على قوله أن وجود التكلم مع عدم حكمه في البعض شائع

على أنه من النفي إثبات وبالعكس وأيضا لولا ذلك لما كان كلمة التوحيد توحيدا تاما

فإن قيل لو كان المراد البعض يلزم استثناء النصف من النصف في اشتريت الجارية إلا النصف أو التسلسل هذا دليل أورده ابن الحاجب على نفي المذهب

الأول وإثبات المذهب

الثاني وهو المذهب عنده ولما وجدته زيفا أوردته على طريق الإشكال وبينت فساده وتوجيهه أنه لو كان المراد من العشرة سبعة كما هو المذهب

الأول فإذا قلت اشتريت الجارية إلا النصف يكون المراد بالجارية النصف فإن كان المراد بالنصف المستثنى نصف الجارية فقد استثنيت نصف الجارية من نصف الجارية وإن كان المراد بالنصف المستثنى نصف ما هو المراد بالجارية فالمراد

(٢/٤٨)

بالجارية كان النصف ثم نصف هذا النصف مستثنى من النصف

فعلم أن المراد بالجارية لم يكن نصفا بل ربعا والمفروض أن المستثنى نصف ما هو المراد فيكون نصف الربع مستثنى فيتسلسل هذا حكاية ما أورد ابن الحاجب والجواب الذي خطر ببالي هو قوله

قلنا هو بيان أن المراد هو البعض لا أن المتناول هو البعض فإن اللفظ متناول للكل ثم هو استثناء من المتناول لا من المراد أي الاستثناء هو بيان أن المراد هو البعض لا أن المتناول هو البعض فإن اللفظ متناول للكل ثم الاستثناء من المتناول إلا من المراد فيكون استثناء النصف من الكل

(٢/٤٩)

والجواب أي عن الدليل على المذهب

الأول أن العشرة هذا جواب عن قوله أن وجود التكلم مع عدم حكمه في البعض شائع

لفظ خاص للعدد المعين لا عام كالمسلمين فلا يجوز إرادة البعض بالاستثناء كما لا يجوز بالتخصيص ولو صحت مجازا فالأصل عدمه وقولهم هو من الإثبات نفي وبالعكس مجاز والمراد أنه لم يحكم عليه بحكم الصدر لا أنه حكم عليه بنقيض حكم الصدر وقوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بطهور هو كقوله لا صلاة بغير طهور ولو كان نفيا وإثباتا يلزم صلاة طهور ثابتة فيصح كل صلاة بطهور لعموم النكرة الموصوفة ولأن الاستثناء متعلق بكل فرد وقولهم هو من الإثبات نفي إلخ جواب عن قوله وإجماعهم وقوله لم يحكم عليه أي على المستثنى وإنما حملنا قولهم على المجاز لأنا لما أبطلنا المذهب

الأول فعلى المذهبين الأخيرين المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالإثبات ووجه المجاز إطلاق الأخص على الأعم لأن الحكم عليه بنقيض

(٢/٥٠)

حكم الصدر أخص من قولنا حكم الصدر منتف عنه وقوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بطهور تكلم بالباقي بعد الثنيا وهو لا صلاة بغير طهور وليس هو نفيا وإثباتا لأن تقديره لا صلاة ثابتة إلا صلاة ملصقة بطهور فلو كان نفيا وإثباتا فالجملة الإثباتية هي صلاة ملصقة بطهور ثابتة وصلاة ملصقة بطهور نكرة موصوفة وهي عامة لعموم الصفة على ما دللنا عليه في فصل العام فصار كقوله كل صلاة بطهور ثابتة وهذا باطل لأن الشرائط الأخر إن كانت مفقودة والطهور موجودا لا تجوز الصلاة وأيضا صدر الكلام يوجب السلب الكلي أي كل واحد واحد من أفراد الصلوات غير جائزة ثم الاستثناء يجب أن يتعلق بكل واحد واحد وإلا يلزم جواز بعض الصلوات بلا طهور وإذا كان الاستثناء متعلقا بكل واحد واحد والاستثناء يكون من النفي إثباتا يلزم تعلق الإثبات بكل واحد فيلزم كل صلاة بطهور جائزة معناه كل واحد واحد من الصلوات غير جائزة في حال إلا في حال اقترانها بالطهور فالجملة الإثباتية قولنا كل واحد واحد من الصلوات جائزة في حال اقترانها بالطهور

فإن قيل قوله لا صلاة إلا بطهور يشكل عليكم لا علينا لأنكم قد ذكرتم في فصل العام أن النكرة الموصوفة عامة لعموم الصفة وأوردتم للمثال لا أجالس إلا رجلا عالما له أن يجالس كل عالم فقوله لا صلاة إلا بطهور عام في زعمكم فيلزم عليكم فسادان

أحدهما ما ذكرتم أنه يلزم أن تكون كل صلاة بطهور جائزة

والثاني أنه يلزم أن يكون الاستثناء من النفي إثباتا وأنتم لا تقولون به ولا يشكل علينا لأن النكرة الموصوفة لا تعم عندنا فإن كان الاستثناء من النفي إثباتا يصير كقوله بعض صلاة بطهور جائزة وهذا حق قلت المستثنى في كلتا الصورتين أي في قوله لا أجالس إلا رجلا عالما وقوله لا صلاة إلا بطهور عام عندنا والاستثناء ليس من النفي إثباتا في كلتيهما لكن في قوله لا أجالس إلا رجلا عالما لا يدخل في الخلف شيء من أفراد

(٢/٥١)

العالم ومن ضرورة هذا أن يكون له مجالسة كل عالم فإباحة المجالسة لكل عالم لهذا المعنى لا لأن الاستثناء من النفي إثبات

وأما في قوله لا صلاة إلا بطهور كل صلاة بطهور غير محكوم عليه بعدم الجواز إلا أنه محكوم عليه بالجواز عندنا فلا يلزم شيء من الفسادين علينا بل على من يقول إن الاستثناء من النفي إثبات وأيضا يجيء في باب القياس أن الفرق بطريق الاستثناء يدل على علية المستثنى فتكون الصلاة الخالية عن الطهور علة لعدم جوازها فكلما خلت عنه لا تجوز فلو كان الاستثناء من النفي إثباتا يكون كونها مقارنة للطهور علة للجملة الإثباتية

(٢/٥٢)

فتعم لعموم العلة

وقوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ هو كقوله وما كان له أن يقتل مؤمنا عمدا إلا أنه كان له أن يقتل خطأ لأنه يوجب إذن الشرع به ولا يجوز إذن الشرع بالقتل الخطأ لأن جهة الحرمة ثابتة فيه بناء على ترك التروي ولهذا تجب فيه الكفارة ولو كان مباحا محضا لما وجبت الكفارة وهذا دليل تفردت بإيراده وهذا أقوى دليل على هذا المذهب

والشافعية حملوا الاستثناء في قوله إلا خطأ على المنقطع فرارا عن هذا لكن

(٢/٥٣)

@ ٥٤ الأصل هو المتصل

وأما كلمة التوحيد جواب عن قوله وأيضا لولا ذلك لما كان كلمة التوحيد توحيدا تاما فلأن معظم الكفار كانوا أشركوا وفي عقولهم وجود الإله ثابت فسيق لنفي الغير ثم يلزم منه وجوده تعالى إشارة على

الثاني أي على المذهب

الثاني وهو أن الاستثناء إخراج قبل الحكم ثم حكم على الباقي وإنما

قلنا إن وجوده تعالى يثبت على هذا المذهب بطريق الإشارة لأنه لما ذكر الإله ثم أخرج اللّه تعالى ثم حكم على الباقي بالنفي يكون إشارة إلى أن الحكم في المستثنى خلاف حكم الصدر وإلا لما أخرج منه

وضرورة على الأخير أي على المذهب الأخير وهو أن العشرة إلا ثلاثة موضوعة للسبعة فعلى هذا المذهب وجوده تعالى يثبت بطريق الضرورة لأن وجود الإله لما كان ثابتا في عقولهم يلزم من نفي غيره وجوده ضرورة وذلك لأن تقديره على هذا المذهب لا إله غير اللّه موجود فيكون كالتخصيص بالوصف وليس له دلالة على نفي الحكم عما عداه عندنا فلا دلالة للكلام على وجوده تعالى منطوقا ومفهوما بل ضرورة فقط

وما قيل عليه أي على المذهب الأخير هذا دليل حاول به ابن الحاجب نفي المذهب الأخير إنه لم يعهد في العربية لفظ مركب من ثلاثة أي المستثنى منه وأداة الاستثناء والمستثنى بل عهد لفظ مركب من كلمتين كبعلبك ومركب أعرب في وسطه ضعيف إذ ليس المراد أنه مركب موضوع مثل بعلبك بل المراد أن معناه مطابق لمعنى السبعة مثلا فيكون

(٢/٥٤)

هناك وضع كلي أي وضع الواضع اللفظ الذي استثني منه الباقي وضعا كليا لا وضعا جزئيا

واعلم أن الوضع على نوعين وضع جزئي كوضع اللغات ووضع كلي كالأوضاع التصريفية والنحوية ففي الأوضاع الجزئية سلمنا أنه لم يعهد في العربية لفظ مركب من ثلاث كلمات مع أنه في حيز المنع نحو شاب قرناها وبرق نحره وعبد الرحمن فإنه مركب من ثلاثة العبد واللام ورحمن لكن في الأوضاع الكلية لا نسلم أنه لم يعهد في العربية أن في معنى المركب من ثلاث كلمات يطابق معنى الكلمة الواحدة فإن من له يد في الإيجاز والإطناب يسهل عليه أن يفيد معنى الكلمات الكثيرة بكلمة واحدة ويفيد معنى كلمة واحدة بكلمات كثيرة فإن لفظ إنسان وحيوان ذي نطق كل منها يقوم مقام الآخر وكذا لفظ فرس وحيوان ذي صهيل وأمثال ذلك كثيرة

وأيضا منقوض بنحو أبي عبد اللّه فإنه مركب من ثلاثة والإعراب في وسطه وهذا المذهب هو المشهور بين علمائنا وبعضهم أي بعض مشايخنا كالقاضي الإمام أبي زيد وفخر الإسلام وشمس الأئمة السرخسي رحمهم اللّه تعالى مالوا في الاستثناء الغير العددي

(٢/٥٥)

إلى

الثاني بحكم العرف أي إلى المذهب

الثاني وهو أنه إخراج قبل الحكم ثم حكم على الباقي

وقد فهم هذا من قولهم في كلمة التوحيد أن إثبات الإله بالإشارة لأنه على الأخير كالتخصيص بالوصف وهم لا يقولون به بل شبهوا

(٢/٥٦)

الاستثناء بالغاية

اعلم أنهم لم يصرحوا بهذا المذهب لكن قالوا في كلمة التوحيد إن إثبات الإله بطريق الإشارة ففهمت من ذلك أن مذهبهم هذا لأنه لو كان مذهبهم هو الثالث وهو أن العشرة إلا ثلاثة موضوعة للسبعة وقد بينا أن الاستثناء الغير العددي على هذا المذهب كالتخصيص بالوصف فصار كقوله لا إله إلا غير اللّه موجود والتخصيص بالوصف عند هؤلاء لا يدل على نفي الحكم عما عداه فلا دلالة له على وجوده تعالى بطريق الإشارة فعلم أن مذهبهم ليس هذا الثالث وأنهم شبهوا الاستثناء بالغاية ويقولون إن حكم ما بعد الغاية يخالف حكم ما قبل الغاية وليس مذهبهم هو

الأول لأن على

الأول النفي والإثبات بطريق المنطوق لا بطريق الإشارة

فعلم أن مذهبهم في الاستثناء الغير العددي هو

الثاني بحكم العرف وهذا مناسبا لما قال علماء البيان إن الاستثناء وضع لنفي التشريك والتخصيص يفهم منه ولما قال أهل اللغة إنه إخراج وتكلم بالباقي ومن النفي إثبات وبالعكس فيكون إخراجا من الأفراد وتكلما بالباقي في حق الحكم ونفيا وإثباتا بالإشارة وفي العددي ذهبوا إلى الأخير حتى قالوا في إن كان لي إلا مائة فكذا ولم يملك إلا خمسين لا يحنث فعلى المذهب الثالث هو كقوله إن كان لي فوق المائة فلا يشترط وجود المائة

ولو قال ليس له علي عشرة إلا ثلاثة لا يلزمه شيء فكأنه قال ليس له علي سبعة

(٢/٥٧)

(٢/٥٨)

مسألة شرط الاستثناء أن يكون مما أوجبه الصيغة قصدا لا مما يثبت بها ضمنا لأنه تصرف في اللفظ فلهذا قال أبو يوسف لو وكل رجلا بالخصومة غير جائز الإقرار لا يجوز لأنه إنما يجوز له الإقرار لأنه قائم مقامه لا لأنه من الخصومة فيكون ثابتا بالوكالة ضمنا فلا يستثنى إلا أن ينقض الوكالة استثناء منقطع أي لكن له أن ينقض الوكالة

ويصح عند محمد رحمه اللّه تعالى لأن المراد بالخصومة الجواب مجازا فيتناول الإقرار والإنكار فيصح الاستثناء موصولا لأنه بيان تقرير نظرا إلى الحقيقة اللغوية لأن الإقرار مسالمة لا مخاصمة

(٢/٥٩)

فعلى هذا يصح مفصولا ولو قال غير جائز الإنكار فأيضا على الخلاف بناء على الدليل

الأول لمحمد

وهو أن الخصومة تشتمل الإقرار والإنكار فيصح عند محمد رحمه اللّه تعالى استثناء الإنكار ولا يتأتى ذلك على الدليل

الثاني لمحمد وهو أن استثناء الإقرار بيان تقرير نظرا إلى الحقيقة اللغوية لأن استثناء الإنكار ليس تقريرا للحقيقة اللغوية بل إبطال لها

أما عند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى فلا يصح هذا الاستثناء لا للدليل الذي ذكر في استثناء الإقرار بل لأنه استثناء الكل من الكل لأنه قد ذكر أن الإقرار ليس من الخصومة فالخصومة هي الإنكار فقط فلا يمكن استثناء الإنكار منها هذا ما خطر ببالي

(٢/٦٠)

مسألة الاستثناء متصل ومنقطع

والثاني مجاز

فإن قيل قسمت الاستثناء على المتصل والمنقطع فكيف يصح قولك

والثاني مجاز قلت ليس هذا قسمة حقيقة بل المراد أن الاستثناء يطلق على معنيين

أحدهما بطريق الحقيقة

والثاني بطريق المجاز

وقد أورد أصحابنا قوله تعالى إلا الذين تابوا من أمثلة الاستثناء المنقطع ووجهه أن الاستثناء المتصل هو إخراج عن حكم المستثنى منه بالمعنى المذكور وهنا ليس كذلك لأن حكم الصدر أن من قذف فهو فاسق وهنا لا يخرج من هذا الحكم إلا أنه لا يبقى فاسقا بعد التوبة فهذا حكم آخر أورده أصحابنا من أمثلة الاستثناء المنقطع

والوجه الذي ذكره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى في كونه منقطعا هو أن صدر الكلام الفاسقون والتائبون ليسوا من الفاسقين وفي هذا نظر لأن الفاسقين ليس مستثنى منه بل المستثنى منه قوله وأولئك أي الذين يرمون والفاسقون حكم المستثنى منه ولا شك أن الرماة التائبين داخلون في المستثنى منه وهو أولئك غير داخلين في حكم المستثنى منه وهو الفاسقون كما تقول القوم منطلقون إلا زيدا فزيد داخل في القوم وغير داخل في منطلقون وقد ذكر في التقويم وجه حسن

(٢/٦١)

لكونه منقطعا فأوردت ذلك في المتن وهو أن الاستثناء المتصل إخراج عن حكم المستثنى منه

بالمعنى المذكور والمعنى المذكور أن معنى الإخراج هو المنع عن الدخول كما ذكرنا في حد الاستثناء والاستثناء المنقطع هو أن يذكر شيء بعد إلا وأخواتها غير مخرج بالمعنى المذكور فقولنا غير مخرج يتناول أمرين

أحدهما أن لا يكون داخلا في صدر الكلام

والثاني أن يكون داخلا فيه لكن لا يخرج عن عين ذلك الحكم وحكم صدر الكلام أن من

(٢/٦٢)

قذف صار فاسقا وقوله تعالى إلا الذين تابوا لا يخرج عن عين ذلك الحكم بل معناه أن من تاب لا يبقى فاسقا بعد التوبة فهذا حكم آخر ونظائره في القرآن كثيرة منها وقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف فإن قوله إلا ما قد سلف أي الجمع بين الأختين الذي قد سلف داخل في الجمع بين الأختين لكنه غير مخرج من حكم صدر الكلام وهو الحرمة لأنه حرام أيضا لكنه أثبت فيه حكما آخر وهو أنه مغفور

مسألة الاستثناء المستغرق باطل وأصحابنا قيدوه بلفظه أو بما يساويه نحو عبيدي أحرار إلا عبيدي أو إلا مماليكي لكن إن استثنى بلفظ يكون أخص منه في المفهوم لكن في الوجود يساويه يصح نحو عبيدي أحرار إلا هؤلاء ولا عبيد له سواهم

مسألة إذا تعقب الاستثناء الجمل المعطوفة كآية القذف ينصرف إلى الكل عند الشافعي رحمه اللّه وعندنا إلى الأقرب لقربه واتصاله به وانقطاعه عما سواه ولأن توقف صدر الكلام

(٢/٦٣)

ثبت ضرورة فيتقدر بقدر الحاجة على أنه لا شركة في عطف الجمل في الحكم ففي الاستثناء أولى وصرفه إلى الكل في الجمل المختلفة كآية القذف في غاية البعد لأن قوله تعالى فاجلدوا ولا تقبلوا ردا على سبيل الجزاء بلفظ الإنشاء ثم وأولئك هم الفاسقون جملة مستأنفة بلفظ الإخبار أي صرف الشافعي رحمه اللّه تعالى الاستثناء إلى الكل ففي آية القذف قطع الشافعي رحمه اللّه تعالى قوله تعالى ولا تقبلوا عن قوله فاجلدوهم حتى لم يجعل رد الشهادة من تمام الحد وجعل وأولئك هم الفاسقون عطفا على قوله

(٢/٦٤)

ولا تقبلوا ثم جعل الاستثناء مصروفا إلى قوله ولا تقبلوا وقوله وأولئك لا إلى قوله فاجلدوا حتى أن الجلد لا يسقط بالتوبة

وعدم قبول الشهادة والفسق يسقطان بالتوبة عنده والجمل المختلفة في آية القذف هي قوله فاجلدوا وقوله ولا تقبلوا وقوله وأولئك هم الفاسقون ونحن جعلنا الأولين جزاء لأنهما أخرجا بلفظ الطلب مفوضين إلى الأئمة وجعلنا وأولئك مستأنفا لأنها بطريق الإخبار والاستثناء مصروفا إلى أولئك

ومن أقسام بيان التغيير الشرط وقد مر أي في فصل مفهوم المخالفة

والفرق بينه

(٢/٦٥)

وبين الاستثناء يظهر في قوله بعت منك هذا العبد بألف إلا نصف العبد أنه يقع البيع على النصف بألف لأن الاستثناء تكلم بالباقي فكأنه قال بعت نصف العبد بألف

ولو قال على أن لي نصفه يقع على النصف بخمسمائة فكأنه يدخل في البيع لفائدة تقسيم الثمن ثم يخرج ولا يفسد بهذا الشرط لأنه بيع شيء من شيئين

(٢/٦٦)

فصل في بيان التبديل وهو النسخ والبحث هنا في تعريفه وجوازه ومحله وشرطه

والناسخ والمنسوخ وهو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه ولما كان الشارع عالما بأن الحكم

الأول مؤقت إلى وقت كذا كان دليل

الثاني بيانا محضا لمدة الحكم في حقه ولما كان الحكم

الأول مطلقا كان البقاء فيه أصلا عندنا لجهلنا عن مدته فالثاني يكون تبديلا بالنسبة إلى علمنا كالقتل بيان للأجل في حقه تعالى لأن المقتول ميت بأجله وفي حقنا تبديل

وهو جائز في أحكام الشرع عندنا خلافا لليهود عليهم اللعنة فعند بعضهم باطل نقلا وعند بعضهم عقلا وقد أنكره بعض المسلمين أيضا وهذا لا يتصور من مسلم إن كان المراد أن الشرائع الماضية لم ترتفع بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام وتلك الشرائع باقية كما كانت لكن المسلمين الذين لم يجوزوا النسخ لم يروا هذا المعنى بل مرادهم أن الشريعة المتقدمة مؤقتة إلى وقت ورود الشريعة المتأخرة إذ ثبت في

(٢/٦٧)

القرآن أن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بشرا بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام وأوجبا الرجوع إليه عند ظهوره وإذا كان مؤقتا

الأول لا يسمى

الثاني ناسخا ونحن نقول إن اللّه تعالى سماه نسخا بقوله ما ننسخ من آية الآية

أما النقل ففي التوراة تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض وادعوا نقله تواترا ويدعون النقل عن موسى عليه الصلاة والسلام أن لا نسخ لشريعته

قلنا هذه الدعوى غير

(٢/٦٨)

صحيحة لوجود التحريف

وأما العقل فلأنه يوجب كون الشيء مأمورا به ومنهيا عنه فيكون حسنا وقبيحا ولأنه يوجب البداء والجهل بالعواقب ولنا أن حل الأخوات في شريعة آدم عليه السلام وحل الجزء أي حواء له عليه السلام ولم ينكره أحد ثم نسخ في غير شريعته ولأن الأمر للوجوب لا للبقاء وإنما هو بالاستصحاب فلا يقع التعارض بين الدليلين بل الدليل

الثاني بيان لمدة الحكم

الأول التي لم تكن معلومة لنا وقولهم بأن البقاء بالاستصحاب مع أن الاستصحاب

(٢/٦٩)

ليس بحجة عندهم مشكل لأنه يلزم أن لا يكون نص ما في زمن النبي عليه السلام حجة إلا في وقت نزوله فأما بعده فلا

والجواب عن هذا

إما بالتزام الاحتجاج بمثل هذا الاستصحاب أي في كل صورة علم أنه لم يغير

وإما بأن النص يدل على شرعية موجبة قطعا إلى زمان نزول الناسخ فبهذا يندفع التعارض المذكور

اعلم أن فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أجاب عن قولهم أنه يوجب كون الشيء منهيا عنه ومأمورا به بقوله إلا أن الأمر للوجوب لا للبقاء إنما البقاء بالاستصحاب فلا يلزم كون الشيء مأمورا به ومنهيا عنه في حالة واحدة وفي هذا الجواب نظر وهو أنه لما كان البقاء بالاستصحاب

والاستصحاب ليس بحجة عند علمائنا فيلزم أن لا يكون نص ما في زمن حياة النبي عليه الصلاة والسلام حجة لا في حالة نزوله ولا يكون حجة بعدها وهذا قول باطل وإنما قيدناه بزمن النبي عليه الصلاة والسلام لأن بوفاته عليه الصلاة والسلام ارتفع احتمال النسخ وبقي الشرائع التي قبض النبي عليه السلام عليها حجة قطعية مؤبدة

وقد خطر ببالي عن هذا النظر جوابان

أحدهما أن نلتزم أن مثل هذا الاستصحاب حجة أي كل استصحاب يكون فيه عدم التغيير معلوما فلما نزل على النبي عليه السلام حكم فثبوته بالنص وبقاؤه بالاستصحاب وقد علم أنه لم ينزل مغير إذ لو نزل لبين النبي عليه السلام فلما لم يبين علم أنه لم ينزل فمثل الاستصحاب يكون حجة

وثانيهما أنا لا نقول إن البقاء بالاستصحاب بل النص يدل على شرعية موجبة قطعا إلى زمان نزول الناسخ وبهذا يندفع التعارض المذكور وهو كون الشيء مأمورا به ومنهيا عنه في زمان واحد لأن النص

الأول حكمه مؤقت إلى زمان نزول الناسخ فإذا نزل الناسخ فلم يبق موجب

الأول وهذا عين ما ذكر في أول الفصل أنه لما كان الشارع عالما بأن الحكم

الأول مؤقت إلخ فلا يحتاج لدفع التعارض المذكور إلى أن نقول إن البقاء بالاستصحاب وفي هذا حكمة بالغة وهو كالإحياء ثم الإماتة وأيضا يمكن حسن الشيء وقبحه في زمانين

وأما محله فاعلم أن الحكم

إما أن لا يحتمل النسخ في نفسه كالأحكام العقلية مثل وحدانية اللّه وأمثالها وما يجري مجراها كالأمور الحسية والإخبارات عن الأمور الماضية أو الحاضرة أو المستقبلة نحو فسجد الملائكة

وإما أن يحتمل كالأحكام الشرعية ثم هذا

إما إن لحقه تأبيد نصا كقوله تعالى وجاعل الذين اتبعوك الآية وقوله عليه السلام الجهاد ماض إلى يوم القيامة أو دلالة كالشرائع التي قبض عليها النبي عليه السلام فإنها مؤبدة بدلالة أنه خاتم النبيين أو توقيت عطف على قوله تأبيد في قوله

أما إن لحقه تأبيد

فإن النسخ قبل تمام الوقت

(٢/٧٠)

بداء ويكون الحكم مطلقا عنهما أي عند التأبيد والتوقيت

فالذي يجري فيه النسخ هذا فقط

وأما شرطه فالتمكن من الاعتقاد كاف لا حاجة إلى التمكن من الفعل عندنا وعند المعتزلة لا يصح قبل الفعل لأن المقصود منه الفعل فقبل حصوله يكون بدءا ولنا أنه عليه السلام أمر ليلة المعراج بخمسين صلاة ثم نسخ الزائد على الخمس مع عدم التمكن من العمل وذلك لأنه يمكن أن يكون المقصود هو الاعتقاد فقط أو الاعتقاد والعمل جميعا وهنا أي في صورة يكون المقصود الاعتقاد والعمل جميعا

الاعتقاد أقوى فإنه يصلح أن يكون قربة مقصودة كما في المتشابه وهو أي الاعتقاد لا يحتمل السقوط بخلاف العمل فإن العمل يمكن أن يسقط بعذر كالإقرار والصلاة والصوم وغيرها فذبح إبراهيم عليه السلام من

(٢/٧١)

هذا القبيل أي من قبيل النسخ قبل الفعل عند البعض

وعند البعض ليس بنسخ فإن الاستخلاف لا يكون نسخا لأن الاستخلاف لا يكون إلا مع تقرير الأصل على ما كان وإنما أمر بذبح الولد ابتلاء على القولين

فإن قيل الأمر بالفداء حرم الأصل فيكون نسخا هذا إشكال على مذهب من يقول إن ذبح إبراهيم عليه السلام ليس بنسخ

قلنا لما قام الغير مقامه عاد الحرمة الأصلية

(٢/٧٢)

وأما الناسخ فهو

إما الكتاب أو السنة لا القياس على ما يأتي ولا الإجماع لأنه إن كان في حياة النبي عليه السلام يكون من باب السنة لأنه متفرد ببيان الشرائع وإن كان بعده فلا نسخ حينئذ فيكون أربعة أقسام نسخ الكتاب بالكتاب أو السنة بالسنة أو الكتاب بالسنة أو بالعكس وقال الشافعي رحمه اللّه تعالى بفساد الأخيرين لقوله تعالى نأت بخير منها أو مثلها دليل على امتناع نسخ الكتاب بالسنة والسنة دونه أي دون الكتاب

وقوله تعالى قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ولقوله عليه السلام إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب اللّه الحديث أوله قوله عليه السلام يكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب اللّه فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه

ولأنه إن نسخ الكتاب بالسنة يقول الطاعن خالف النبي عليه السلام ما يزعم أنه كلام ربه وإن نسخ السنة

(٢/٧٣)

بالكتاب يقول كذبه ربه فلا نصدقه فالتعاون بينهما أولى واحتج بعض أصحابنا أي على جواز نسخ الكتاب بالسنة بأنه نسخ قوله تعالى الوصية للوالدين والأقربين أول الآية قوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف بقوله عليه السلام لا وصية لوارث وبعضهم بأن قوله تعالى فأمسكوهن الآية أول الآية قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل اللّه لهن سبيلا نسخ بقوله عليه السلام الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ولكن هذا فاسد أي ما مر من الاحتجاجين لبعض أصحابنا فاسد فاستدل على فساد الاحتجاج

الأول بقوله لأن الوصية للوارث نسخت بآية المواريث إذ في

الأول فوضها إلينا ثم تولى بنفسه بيان حق كل منهم وإلى هذا أشار بقوله يوصيكم اللّه في أولادكم قال عليه السلام إن اللّه أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ثم استدل على فساد الاحتجاج

الثاني بقوله ولأن عمر قال إن الرجم كان مما يتلى في كتاب اللّه تعالى فقوله تعالى فأمسكوهن في البيوت لم ينسخ بقوله عليه السلام الثيب بالثيب بل نسخ بالكتاب وهو قوله تعالى الشيخ والشيخة إذا

(٢/٧٤)

زنيا فارجموهما وكان هذا مما يتلى في كتاب اللّه تعالى فنسخ تلاوته وبقي حكمه ثم لما بين فساد ما احتج به بعض أصحابنا على جواز نسخ الكتاب بالسنة والسنة بالكتاب أراد أن يذكر الحجة الصحيحة على هذا المطلوب فقال

والحجة أنه عليه السلام حين كان بمكة يصلي إلى الكعبة وبعدما قدم إلى المدينة كان يصلي إلى بيت المقدس

فالأول إن كان بالكتاب نسخ بالسنة

والثاني كان بالسنة ثم نسخ بالكتاب

واعلم أنه عليه السلام لما كان بمكة كان يتوجه إلى الكعبة ولا يدرى أنه كان بالكتاب أو بالسنة ثم لما قدم إلى المدينة توجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وليس هذا بالكتاب بل بالسنة ثم نسخ هذا بالكتاب وهو قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام فنسخ السنة بالكتاب متيقن به

أما نسخ الكتاب بالسنة في هذه القضية فمشكوك فيه وحديث عائشة رضي اللّه عنها دليل على نسخ الكتاب بالسنة وهو قوله وقالت عائشة رضي اللّه عنها ما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أباح اللّه له من النساء ما شاء فتكون السنة ناسخة لقوله لا يحل لك النساء من بعد

ولأنه عليه السلام بعث مبينا فجاز له بيان مدة حكم الكتاب بوحي غير متلو ويجوز أن يبين اللّه بوحي

(٢/٧٥)

متلو مدة حكم ثبت بوحي غير متلو وقوله تعالى نأت بخير أي فيما يرجع إلى مصالح العباد دون النظم وإن سلم هذا لكنها إنما نسخ حكمه لا نظمه وهما في الحكم مثلان أي إن سلم أن المراد الخيرية من حيث النظم فالسنة لا تنسخ نظم الكتاب فإن الأحكام المتعلقة بالنظم باقية كما كانت بل تنسخ حكمه والكتاب والسنة في إثبات الحكم مثلان وإن الكتاب راجح في النظم بأن نظمه معجز وتثبت بنظمه أحكام كالقراءة في الصلاة ونحوها

وليس ذلك من تلقاء نفسه عليه السلام لقوله تعالى إن هو إلا وحي يوحى أي ليس نسخ الكتاب بالسنة من تلقاء نفسه وهذا جواب عن قوله تعالى قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي

وقوله عليه الصلاة والسلام فاعرضوه على كتاب اللّه إذا أشكل تاريخه أو لم يكن في الصحة بحيث ينسخ به الكتاب بدليل سياق الحديث وهو قوله عليه السلام يكثر الأحاديث من بعدي وما ذكر من الطعن فإنه في نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة وارد فإن من هو مصدق يتيقن أن الكل من عند اللّه ومن هو مكذب يطعن في الكل ولا اعتبار بالطعن الباطل وفيما ذكرنا إعلاء منزلة الرسول عليه السلام وتعظيم سنته ونظائر نسخ الكتاب بالكتاب كثيرة كنسخ الوصية للوالدين بآية المواريث ونسخ الكتاب بالسنة ما روت عائشة رضي

(٢/٧٦)

اللّه تعالى عنها ما قبض النبي عليه السلام حتى أباح اللّه له من النساء ما شاء فيكون قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد منسوخا بالسنة ونسخ السنة بالكتاب نسخ التوجه إلى بيت المقدس بقوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام ونسخ السنة بالسنة بقوله عليه السلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها

الحديث

مسألة يجوز أن يكون الناسخ أشق عندنا لأن في ابتداء الإسلام كل من عليه الصيام كان مخيرا بين الصيام والفدية ثم صار الصوم حتما وعند البعض لا يصح إلا بالمثل أو الأخف لقوله تعالى نأت بخير منها الآية

قلنا الأشق قد يكون خيرا لأن فيه فضل الثواب مسألة لا ينسخ المتواتر بالآحاد وينسخ بالمشهور لأنه من حيث إنه بيان يجوز بالآحاد ومن حيث إنه تبديل يشترط التواتر فيجوز بما هو متوسط بينهما أي بين المتواتر وخبر الآحاد وهو المشهور

وأما المنسوخ فهو

إما الحكم والتلاوة معا قالوا وقد يرفعان بموت العلماء أو بالإنساء كصحف إبراهيم عليه السلام والإنساء كان للقرآن في زمن النبي عليه السلام قال اللّه تعالى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء اللّه فأما بعد وفاته فلا لقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون

وإما الحكم فقط

وإما التلاوة فقط ومنعه البعض لأن النص بحكمه والحكم بالنص فلا انفكاك بينهما ولنا قوله تعالى فأمسكوهن في البيوت نسخ حكمه وبقي تلاوته ونظائره كثيرة كوصية الوالدين وسورة الكافرين ونحوهما ونسخ قراءة ابن مسعود وهي ثلاثة أيام متتابعات مع بقاء حكمه ولأن حكمه أي حكم النص على قسمين

أحدهما يتعلق

(٢/٧٧)

بمعناه

والآخر بنظمه كالإعجاز وجواز الصلاة وحرمته للجنب والحائض فيجوز أن ينسخ

أحدهما بدون الآخر

وإما وصف الحكم عطف على قوله

وإما الحكم فقط

وإما التلاوة فقط فقد اختلفوا أن الزيادة على النص نسخ أم لا وذكروا أنها

إما بزيادة جزء كزيادة ركعة على ركعتين

(٢/٧٨)

أو شرط كالإيمان في الكفارة

وإما برفع مفهوم المخالفة كما لو قال في العلوفة زكاة بعد قوله في السائمة زكاة وهي نسخ عندنا أي الزيادة على النص نسخ عندنا ويجب استثناء الثالث إذ لا نقول بالمفهوم أي بمفهوم المخالفة

اعلم أن في المحصول وأصول ابن الحاجب ذكر أن الزيادة على النص

إما بزيادة الجزء أو بزيادة الشرط أو بزيادة ما يرفع مفهوم المخالفة وذكر الخلاف في كل واحد من هذه الثلاثة وهو أن الزيادة نسخ عند أبي حنيفة رحمه

(٢/٧٩)

اللّه تعالى فأقول يجب استثناء الثالث فإن الزيادة بما يرفع مفهوم المخالفة لا تكون نسخا عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى بناء على أنه لا يقول بمفهوم المخالفة وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى لا مطلقا وقيل نسخ في الثالث وقيل نسخ إن غيرت الأصل حتى لو أتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة كزيادة ركعة في الفجر وعشرين في حد القذف مثلا والتخيير في الثلاثة بعد ما كان في الاثنين كالشاهد واليمين كان في الكتاب التخيير بين الاثنين بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين فزاد الشافعي رحمه اللّه تعالى أمرا ثالثا وهو الشاهد ويمين المدعي لكن الأخيرين لا يستقيمان على هذا التفسير

اعلم أن ابن الحاجب أورد هنا ثلاثة أمثلة

فالأول هو زيادة ركعة في الفجر مثلا وهذا المثال مستقيم لأنه على تقدير الزيادة إن أتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة والمثالان الأخيران وهما زيادة عشرين في حد القذف والشاهد واليمين لا يستقيمان على هذا التفسير فإنه فسر تغيير الأصل بأنه لو أتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة

وإنما

قلنا إنهما لا يستقيمان على هذا التفسير لأن في هاتين الصورتين إن أتى به كما هو قبل الزيادة لا تجب الإعادة وقيل إن صار الكل شيئا واحدا كان نسخا كزيادة ركعة لا كالوضوء في الطواف واختار البعض قول أبي الحسين وذكر في المحصول وأصول ابن الحاجب أن المختار قول أبي الحسين وهو أنه لا شك أن الزيادة تبدل شيئا فإن كان أي الشيء المبدل حكما شرعيا تكون نسخا وإلا نحو أن يكون

(٢/٨٠)

عدما أصليا فلا

ولنا أن زيادة الجزء

إما بالتخيير في اثنين أو ثلاثة بعد ما كان الواجب واحدا أو واحد اثنين فترفع حرمة الترك

وإما بإيجاب شيء زائد فترفع أجزاء الأصل كزيادة الشرط هذا دليل على أن الزيادة نسخ كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى وتقريره أن الزيادة المختلف فيها بيننا وبينهم زيادة الجزء وزيادة الشرط

أما زيادة الجزء فإنما تكون بثلاثة أمور

الأول بالتخيير في اثنين بعدما كان الواجب واحدا فالزيادة هنا ترفع حرمة ترك ذلك الواجب الواحد

والثاني بالتخيير في الثلاثة بعد ما كان الواجب أحد اثنين فالزيادة هنا ترفع حرمة ترك أحد هذين الاثنين والثالث بإيجاب شيء زائد فالزيادة

(٢/٨١)

هنا ترفع أجزاء الأصل

وأما زيادة الشرط فإنها ترفع أجزاء الأصل وهذا ما قال في المتن كزيادة الشرط

والكل حكم شرعي مستفاد من النص وأيضا المطلق يجري على إطلاقه كما ذكرنا أي حرمة ترك الواجب الواحد وحرمة ترك أحد اثنين وأجزاء الأصل أحكام شرعية

قالوا حرمة الترك التي يرفعها التخيير ليست بحكم شرعي لأن حرمة الترك لهذا الواجب الواحد إنما كانت ثابتة إذا لم يكن شيء آخر خلفا عنه والأصل عدمه قد ذكرنا أن التخيير يرفع حرمة الترك وهي حكم شرعي وهم يقولون حرمة الترك التي يرفعها التخيير ليست بحكم شرعي لأن حرمة الترك لهذا الواجب إنما كانت ثابتة إذا لم يكن شيء آخر خلفا عن ذلك الواجب الواحد

أما إذا كان شيء آخر خلفا عن ذلك الواجب الواحد لا يكون تركه حراما فعلم أن حرمة تركه مبنية على عدم الخلف وعدم الخلف عدم أصلي فكل حق مبني على عدم أصلي لا يكون حكما شرعيا فحرمة ترك ذلك الواجب لا تكون حكما شرعيا فرفعها لا يكون نسخا

فلهذا أي لأجل أن حرمة الترك التي ترى فيها التخيير ليست بحكم شرعي يثبت التخيير بين غسل الرجل ومسح الخف بخبر الواحد وكذا بين التيمم والوضوء بالنبيذ فعلى هذا لا يكون الشاهد واليمين ناسخا لقوله تعالى فإن لم يكونا رجلين هذا تفريع على مذهب أبي الحسين فنص الكتاب أوجب غسل الرجلين على التعيين فيمكن أن يثبت التخيير بين غسل الرجلين ومسح الخف بخبر الواحد

وأيضا أوجب النص التيمم على التعيين عند عدم الماء فيمكن أن يثبت بخبر الواحد التخيير بين التيمم والوضوء بالنبيذ عند عدم الماء وأيضا النص أوجب رجلا وامرأتين عند عدم الرجلين فيمكن أن يثبت بخبر الواحد التخيير بين رجل وامرأتين وبين اليمين والشاهد

قلنا حرمة الترك تثبت بلفظ النص عند عدم الخلف لا به أي لا بعدم الخلف يعني عدم الخلف ليس علة لحرمة الترك بل النص علة لحرمة الترك لكن عند عدم الخلف فيكون حرمة الترك حكما شرعيا ولو كان

(٢/٨٢)

الأمر كما توهم لم يكن شيء من الأحكام الواجبة حكما شرعيا إذ يمكن أن يقال حرمة ترك الصلاة والصوم وغيرهما مبنية على عدم الخلف وأيضا وجوبهما

وأيضا التخيير ليس باستخلاف إذ في

الأول الواجب

أحدهما وفي

الثاني الأصل لكن الخلف كأنه هو فلا يكون أي الاستخلاف نسخا وإن كان ففي المسح والنبيذ ثبت بخبر مشهور أي وإن كان الاستخلاف نسخا ففي مسألة المسح على الخفين والوضوء بالنبيذ ثبت بخبر مشهور ونسخ الكتاب بالخبر المشهور جائز عندنا

وقوله تعالى فرجل وامرأتان أي فالواجب هذا فيكون الشاهد واليمين ناسخا ثم أورد الفروع على أن الزيادة نسخ عندنا وقال فلا يزاد التغريب على الجلد والنية والترتيب والولاء على الوضوء وهو أي الوضوء على الطواف والفاتحة وتعديل الأركان على سبيل الفرضية بخبر الواحد يرجع إلى الكل والإيمان على الرقبة بالقياس أي لا يزاد قيد الإيمان على الرقبة في كفارة اليمين بالقياس على كفارة القتل

يرد هنا أنكم زدتم الفاتحة والتعديل بخبر الواحد حتى وجبا وإنما لم تثبت الفرضية لأنها لا تثبت بخبر الواحد عندكم فإن الفرض عندكم ما ثبت لزومه بدليل قطعي والواجب ما ثبت لزومه بدليل ظني فقد زدتم على الكتاب بخبر الواحد ما يمكن أن يزاد به وهو الوجوب ويمكن أن يجاب بأنا لم نزد الفاتحة والتعديل على وجه يلزم منه نسخ الكتاب لأنا لم نقل بعدم إجزاء الأصل لولا الفاتحة والتعديل حتى يلزم النسخ حينئذ بل

قلنا بالوجوب فقط

بمعنى أنه يأثم تاركهما وفي هذا المعنى لا يلزم نسخ الكتاب أصلا ولا

(٢/٨٣)

يمكن مثل هذا في الوضوء حتى تكون النية والترتيب واجبين في الوضوء لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة بل هو شرط للصلاة فلا يمكن أن يكون شيء من أجزائه واجبا لعينه بمعنى أنه يأثم تاركه بل لأجل الصلاة بمعنى أنه لا تجوز الصلاة إلا به فإن

قلنا بوجوب النية والترتيب فمعناه أنه لا تصح الصلاة إلا بهما فيلزم من وجوبهما عدم إجزاء الصلاة التي هي الأصل

(٢/٨٤)

وهذا سر أن أبا حنيفة رحمه اللّه تعالى جعل في الصلاة واجبات ولم يجعل تلك في الوضوء فللّه دره ما أدق نظره في أحكام الشريعة الغراء وهو الذي أصله ثابت وفروعه في السماء

فصل في بيان الضرورة وهو أربعة أنواع

الأول ما هو في حكم المنطوق مثل قوله تعالى وورثه أبواه فلأمه الثلث يدل على أن الباقي للأب وكذا نصيب المضارب أي إذا بين تعين الباقي لرب المال قياسا واستحسانا

وكذا نصيب رب المال استحسانا للشركة في صدر الكلام أي إذا بين تعين الباقي للمضارب استحسانا لا قياسا لأن المضارب إنما يستحق الربح بالشرط ولم يوجد بخلاف رب المال فإنه يستحق بدونه لأن الربح نماء ملكه فيكون له حتى إذا فسدت المضاربة يكون كل الربح للمالك وللمضارب أجر عمله هذا هو وجه القياس

وأما وجه الاستحسان فمذكور في المتن

(٢/٨٥)

والثاني ما ثبت بدلالة حال المتكلم كسكوت صاحب الشرع عن تغيير أمر يعاينه يدل على حقيته وكذا السكوت في موضع الحاجة كسكوت الصحابة عن تقويم منفعة البدن في ولد المغرور روي أن عمر رضي اللّه تعالى عنه حكم فيمن اشترى جارية فاستولدها ثم استحقت برد الجارية على المستحق ورد قيمة الولد والعقر وكان شاور عليا رضي اللّه عنه واشتهر في الصحابة ولم يرده أحد ولم يقض برد قيمة المنافع ولو كانت واجبة لما حل الإعراض عنه بعدما رفعت إليه القضية وطلب منه القضاء بما للمولى عليه

وكذا سكوت البكر البالغة جعل بيانا لحالها التي توجب الحياء وكذا النكول وطلب منه القضاء بما للمولى جعل بيانا أي جعل إقرار الحال في الناكل وهو أنه امتنع عن أداء ما لزمه وهو اليمين مع القدرة عليها فيدل

(٢/٨٦)

ذلك الامتناع على إقراره بالمدعى لأنه لا يظن بالمسلم الامتناع عما هو لازم عليه إلا إذا كان محقا في الامتناع وذلك بأن تكون اليمين كاذبة إن حلف ولا تكون كاذبة إلا أن يكون المدعي محقا في دعواه

والثالث ما جعل بيانا لضرورة دفع الغرور كالمولى يسكت حين يرى عبده يبيع ويشتري يكون إذنا دفعا للغرور عن الناس

وكذا سكوت الشفيع جعل تسليما لأنه إن لم يجعل تسليم فإن امتنع المشتري عن التصرف يكون ذلك ضررا له وإن لم يمتنع وتصرف ثم ينقض الشفيع تصرفه يتضرر المشتري أيضا

والرابع ما ثبت لضرورة الكلام نحو له علي مائة ودرهم ومائة ودينار ومائة وقفيز حنطة يكون الآخر بيانا للأول وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى المائة مجملة عليه بيانها كما في

(٢/٨٧)

مائة وثوب ومائة وشاة لنا أن حذف المعطوف عليه في العدد متعارف للخفة نحو بعت بمائة وعشرة دراهم ونظائرها فيحمل على ذلك فيما هو مقدر بخلاف العبد والثوب على أنهما لا يثبتان في الذمة

فقوله فيحمل على ذلك أي حذف المعطوف عليه فالحاصل أنه إذا ذكر بعد المائة عدد مضاف نحو مائة وثلاثة أثواب فإن الأخير بيان المائة بالاتفاق فإن كان بعد المائة شيء من المقدرات كالدرهم والدينار والقفيز نجعله بيانا للمائة قياسا على العدد والجامع كونهما مقدرين فإذا قال له علي مائة ودرهم

قلنا المائة من الدراهم قياسا على قوله علي مائة وثلاثة أثواب

أما إذا كان بعد المائة شيء مما هو غير مقدر كالعبد والثوب كقوله له علي مائة وثوب ومائة وعبد لا نجعله بيانا للمائة واللّه

أعلم