باب بيان الأهليةأهلية الإنسان للشيء صلاحيته لصدور ذلك الشيء وطلبه منه وهي في لسان الشرع عبارة عن صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه وهي الأمانة التي أخبر اللّه عز وجل بحمل الإنسان إياها بقوله وحملها الإنسان أما أهلية الوجوب فينقسم فروعها بحسب انقسام الأحكام فالصبي أهل لبعض الأحكام وليس بأهل لبعضها أصلا وهو أهل لبعضها بواسطة رأي الولي فكانت هذه الأهلية منقسمة نظرا إلى أفراد الأحكام وأصلها واحد وهو الصلاح للحكم أي لحكم الوجوب بوجه وهو المطالبة بالواجب أداء وقضاء والعهدة استحقاق حقوق تلزم بالعقد وقيل هي نفس العقد لأن العقد والعهد سواء والعهدة التبعة أيضا غير أن في حقوق العباد المقصود منها المال وفي حقوق اللّه تعالى المقصود استحقاق الأداء ابتلاء ليظهر المطيع من العاصي كذا رأيت بخط شيخي رحمه اللّه أما أهلية الوجوب فبناء على قيام الذمة أي لا تثبت هذه الأهلية إلا بعد وجود ذمة صالحة لأن الذمة هي محل الوجوب ولهذا يضاف إليها ولا يضاف إلى غيرها بحال ولهذا اختص الإنسان بالوجوب دون سائر الحيوانات التي ليست لها ذمة قوله وأن الآدمي يولد دليل على قيام الذمة للإنسان للوجوب أي للوجوب له وعليه بإجماع الفقهاء حتى يثبت له ملك الرقبة وملك النكاح بشراء الولي وبتزويجه إياه ويجب عليه الثمن والمهر بعقد الولي وهذا رد لما ذكر بعض من لم يشم رائحة الفقه في مصنفه في أصول الفقه أن تقدير المال في الذمة لا معنى له وأن تقدير الذمة من الترهات (٤/٣٣٥) التي لا حاجة في الشرع والعقل إليها بل الشرع مكنه بأن يطالبه بذلك القدر من المال فهذا هو المعقول عرفا وشرعا فقال هي ثابتة بالإجماع فمن أنكرها فهو مخالف للإجماع قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه الذمة عبارة عن العهد في اللغة فاللّه تعالى لما خلق الإنسان محل أمانته أكرمه بالعقل والذمة حتى صار بهما أهلا لوجوب الحقوق له وعليه فثبت له حق العصمة والحرية والمالكية بأن حمل حقوقه وثبتت عليه حقوق اللّه تعالى التي سماها أمانة ما شاء كما إذا عاهدنا الكفار وأعطيناهم الذمة ثبتت لهم حقوق المسلمين وعليهم في الدنيا والآدمي لا يخلق إلا وله هذا العهد والذمة فلا يخلق إلا وهو أهل لوجوب حقوق الشرع عليه كما لا يخلق إلا وهو حر مالك لحقوقه وإنما تثبت له هذه الكرامات بناء على الذمة وحمله حقوق اللّه عز وجل قوله بناء على العهد الماضي يعني إنما ثبتت له الذمة التي هي عبارة في الشرع عن وصف يصير الشخص به أهلا للإيجاب والاستيجاب بناء على العهد الماضي الذي جرى بين العبد والرب يوم الميثاق كما أخبر اللّه تعالى عنه بقوله وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم الآية روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في تفسير هذه الآية أخذ اللّه الميثاق من ظهر آدم فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلا أي عيانا بحيث يعاينهم آدم وقال ألست بربكم قالوا بلى شهدنا تلاها إلى قوله المبطلون وروى حديث أخذ الميثاق جماعة منهم ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب والحسن والكلبي وابن بنذر ومعمر والسدي ومقاتل ومجاهد وأبو العالية وعطاء بن السائب وأبو قلابة وغيرهم قال أبو العالية جمعهم جميعا فجعلهم أزواجا ثم صورهم ثم استنطقهم وأخذ عليهم الميثاق على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا قال فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة ما لم تعلموا اعلموا أنه لا إله غيري فلا تشركوا بي شيئا وإني سأرسل إليكم رسلا يذكر بكم عهدي وأنزل عليكم كتبي قالوا نشهد إنك إلهنا لا إله غيرك فأقروا يومئذ بالطاعة وفي رواية مقاتل أن اللّه تعالى مسح صفحة ظهر آدم اليمنى أي أمر ملكا بذلك فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر يتحركون ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال يا آدم هؤلاء ذريتك آخذ ميثاقهم على أن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئا وعلي رزقهم فقال نعم يا رب فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى ثم أفاضهم إفاضة القداح ثم أعادهم جميعا في (٤/٣٣٦) صلب آدم فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء قال اللّه تعالى فيمن نقض العهد الأول وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإلى هذا القول ذهبت عامة المفسرين وأهل الحديث فهذا هو المراد بقوله بناء على العهد الماضي يعني العهد الذي أخذ عليهم يوم الميثاق فإن قيل ظاهر الآية لا يوافق هذا التفسير فإن الآية تدل على أخذ الذرية من ظهور بني آدم فإن قوله تعالى من ظهورهم بدل من بني آدم بدل البعض من الكل بتكرير الجار والحديث يدل على إخراج الذرية من صلب آدم فما وجه التوفيق قلنا وجه التوفيق ما قال الكتاني أن اللّه تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على حسب ما يتوالدون إلى يوم القيامة فكان ذلك أخذا من ظهره وكان ذلك في أدنى مدة كما يكون في موت الكل بالنفخ في الصور وحياة الكل بالنفخة الثانية فإن قيل فما وجه إلزام الحجة بهذه الآية ونحن لا نذكر هذا الميثاق وإن تفكرنا جهدنا في ذلك قلنا أنسانا اللّه تعالى ابتلاء لأن الدنيا دار غيب وعلينا الإيمان بالغيب ولو تذكرنا ذلك زال الابتلاء وليس ما ينسى يزول به الحجة ويثبت به العذر قال اللّه تعالى في أعمالنا أحصاه اللّه ونسوه وأخبر أنه سينبئنا بها ولأن اللّه تعالى جدد هذا العهد وذكرنا هذا المنسي بإنزال الكتب وإرسال الرسل فلم نعذر كذا في التيسير والمطلع وذكر في الكشاف أن معنى أخذ ذريتهم من ظهورهم إخراجهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم وقوله ألست بربكم قالوا بلى شهدنا من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها في أنفسهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال ألست بربكم وكأنهم قالوا بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك وباب التخييل واسع في كلام اللّه ورسوله وفي كلام العرب وإلى هذا القول مال الشيخ أبو منصور وجماعة من المحققين فعلى هذا يكون أخذ الميثاق الذي نحن بصدده ثابتا بالسنة دون الآية قوله وقال تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه أي ألزمناه ما طار له من عمله من قولهم طار سهمه بكذا يعني عمله لازم له لزوم القلادة أو هو رد لتطيرهم بالسانح والبارح من الطير وقوله في عنقه عبارة عن اللزوم يقال لمن التزم شيئا يقلده طوق الحمامة ويقول الرجل لآخر جعلت هذا الأمر في عنقك إذا ألزمه إياه أو هو عبارة عن الشخص كالرقبة والذمة في اللغة العهد لأن نقضه يوجب الذم قال تعالى لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة أي عهدا وقال عليه السلام وإن أرادوكم (٤/٣٣٧) أن تعطوهم ذمة اللّه فلا تعطوهم أي عهده وإنما يراد به أي بالذمة في الشرع على تأويل المذكور أو العهد نفس ورقبة لها ذمة وعهد أي عهد سابق كما بينا يعني المراد بالوجوب في الذمة في قولهم وجب في ذمته كذا الوجوب في محل ثبت فيه العهد الماضي وهو النفس أو الرقبة إلا أنه سمى محل التزام السنة بها وقوله حتى أن ولي الصبي متعلق بقوله يولد وله ذمة صالحة للوجوب لزمه الثمن لأنه أهل للملك وأهل لحكم الوجوب وهو المطالبة بواسطة الولي لأنه واجب مالي فتجري فيه النيابة وقبل الانفصال عن الأم هو جزء من وجه يعني حسا وحكما أما حسا فلأن قراره وانتقاله بقرار الأم وانتقالها كيدها ورجلها وسائر أعضائها ولهذا يقرض بالمقراض عنها عند الولادة وأما حكما فلأنه بعتقها يعتق ويرق باسترقاقها ويدخل في البيع ببيعها ولكنه لما كان منفردا بالحياة معدا للانفصال وصيرورته نفسا برأسه لم يكن جزء الأم مطلقا فلم يكن له ذمة مطلقة أي كاملة حتى صلح لأن يجب له الحق من العتق والإرث والوصية والنسب ولم يجب عليه أي لا يصلح لأن يجب عليه الحق حتى لو اشترى الولي له شيئا لا يجب عليه الثمن ولا يجب عليه نفقة الأقارب ونحوهما وإذا انفصل عن الأم بالولادة فظهرت ذمته مطلقة لصيرورته نفسا من كل وجه وهو عطف على الشرط والجواب كان أي صار أهلا بسبب ذمته للوجوب له وعليه وكان ينبغي أن تجب عليه الحقوق بجملتها كما تجب على البالغ لتحقق السبب وكمال الذمة غير أن الوجوب أي لكن نفس الوجوب غير مقصود بنفسه بل المقصود منه حكمه وهو الأداء عن اختيار ليتحقق الابتلاء ولم يتصور ذلك في حق الصبي لعجزه فيجوز أن يبطل الوجوب أي لا يثبت في حقه أصلا لعدم حكمه وهو المطالبة بالأداء وغرضه وهو الابتلاء لعدم محله كبيع الحر وإعتاق البهيمة فيصير هذا القسم يعني لما جاز أن يبطل الوجوب لعدم الحكم صار هذا القسم وهو الوجوب أو أهلية الوجوب منقسما بانقسام الأحكام لا باعتبار ذاته فكل قسم يتصور شرعيته في حق الصبي يجوز أن يثبت وجوبه في حقه وما لا فلا ثم الأحكام منقسمة إلى حق اللّه تعالى وحق العبد والذي اجتمع فيه الحقان إلى آخر الأقسام المذكورة في أول باب معرفة العلل والأسباب والشروط وبعضها مشروع في حق الصبي كحق العبد من الأموال فيكون أهلا لوجوبه (٤/٣٣٨) وبعضها ليس بمشروع أصلا في حقه كالعقوبات فلا يكون أهلا لوجوبه فلم يكن بد من تفصيل الأحكام في حقه وترتيب الوجوب عليها وتقسيم الوجوب بحسب انقسامها فشرع في بيان ذلك بقوله فأما في حقوق العباد فما كان منها غرما كضمان الإتلافات وعوضا كثمن للبيع والأجرة فالصبي من أهل وجوبه وإن لم يكن عاقلا حتى لو أتلف مال إنسان أو اشترى له الولي شيئا أو استأجره له يجب عليه الضمان والثمن والأجرة لأن حكمه الضمير راجع إلى ما أو للوجوب أي حكم الوجوب في حقوق العباد يحتمل النيابة لأن المال هو المقصود في حقوق العباد دون الفعل إذ المقصود دفع الخسران بما يكون خيرا له أو حصول الربح وذلك يكون بالمال وأداء وليه كأدائه في حصول هذا المقصود به فوجب القول بالوجوب عليه متى صح سببه بأن تحقق الإتلاف أو وجد البيع بشرائطه المال الواجب صلة هو الذي لا يستفاد به عوض أما نفقة الزوجات فلها شبه بالأعواض أجمعوا على أن نفقة المرأة لا تجب عوضا حقيقة لأن المعاوضة إنما تثبت فيما دخل تحت العقد بالتسمية بطريق الأصالة بدليل أن المعاوضة بالبيع إنما تثبت بين المبيع والثمن ولا تثبت بين حقوق العقد وثمراته ولا بين أوصاف المبيع والثمن وإن دخلت تحت التسمية لأنها دخلت تبعا ولأن المرأة متى حبست نفسها لاستيفاء المهر استحقت النفقة ولو كانت عوضا عن الاحتباس للرجل لسقطت بفوته كيف ما فات كما في الإجارة متى لم تسلم المؤاجر ما آجر بأي وجه منع سقط الأجر ولكنها عند الشافعي تجب صلة مستحقة بالعقد ثمرة من ثمراته ثم لزمها الاحتباس جزاء على النفقة وعندنا تجب على الرجل جزاء لها على الاحتباس الواجب عليها عند الرجل كنفقة القاضي فمن حيث إنها لم تجب بعقد المعاوضة كانت صلة كنفقة الأقارب ومن حيث إنها وجبت جزاء أشبه الأعواض فبالمعنى الأول ينبغي أن لا تجب دينا بحال بمضي المدة وبالمعنى الثاني يجب أن لا تسقط بمضي المدة فجعل لها منزلة بين الأمرين فقيل تسقط بمضي المدة إذا لم يوجد التزام كنفقة الأقارب وتصير دينا بالالتزام كالأعواض كذا في الأسرار فهذا معنى قوله لها شبه بالأعواض وأما الأخرى وهي نفقة الأقارب فمؤنة اليسار أي هي مؤنة متعلقة (٤/٣٣٩) باليسار ولذلك لا تجب إلا على الغني والصبي من أهل وجوب المؤن عليه فتجب عليه هذه المؤنة عند حصول الغناء كما تجب عليه نفقة نفسه إذا كان له مال والمقصود إزالة حاجة المنفق عليه بوصول كفايته إليه وذلك يكون بالمال وأداء الولي فيه كأدائه فعرفنا أن الوجوب غير خال عن حكمة مثل تحمل العقل أي الدية لأنه أي تحمل العقل أو وجوبه ولذلك أي ولأنه وجب مقابلا بالكف اختص به أي بتحمل العقل ووجوبه رجال العشائر الذين من أهل هذا الحفظ دون النساء لأنهن لا يقدرن عليه لضعفهن والصبي ليس بأهل لوجوب الجزاء بوجه وما كان عقوبة أي من حقوق العباد كالقصاص أو جزاء كحرمان الميراث لم يجب على الصبي على ما مر أي في باب معرفة العلل لأنه أي الصبي لا يصلح لحكمه وهو المطالبة بالعقوبة أو جزاء الفعل قوله وكذلك أي ومثل القول في حقوق العباد أنه متى كان أهلا لحكم الوجوب في شيء كان أهلا لوجوبه القول في حقوق اللّه تعالى على الإجمال أي على الجملة وإن صح سببه بأن تحقق دلوك الشمس وشهود الشهر ومحله وهو الذمة وقد مر تقسيم هذه الجملة وهي حقوق اللّه تعالى في ذلك الباب أيضا ثم شرع في تفصيل ما أجمل فقال فأما الإيمان فلا يجب على الصبي قبل أن يعقل لعدم أهلية الأداء وجوبا أو وجودا في حقه فما كان القول بالوجود في حقه بدون أهلية الأداء إلا نظير القول بالوجوب بدون المحل باعتبار السبب كما في حق البهائم فلا يجوز وكذلك أي ومثل الإيمان العبادات الخالصة المتعلقة بالبدن كالصلاة والصوم والحج أو بالمال كالزكاة لأن الأداء أي الفعل هو المقصود يعني في حق من علم اللّه تعالى منه أنه يأتمر أما في حق من علم أنه لا يأتمر فالمقصود الابتلاء وإلزام الحجة (٤/٣٤٠) والصغر ينافيه أي الابتلاء لأن الابتلاء بالفعل إنما ثبت ليظهر المطيع من العاصي ومع الصبا لا يتحقق ذلك ولا يظهر أيضا مع الجبر لأنه مجازى على فعله ولا جزاء مع الجبر لأنه لا فعل للمجبر حقيقة فلا يستحق الجزاء وقوله وما يتأدى بالنائب جواب عما قال الشافعي أن الزكاة تجب على الصبي في ماله لأن الزكاة يتأدى بالنائب وهو الوكيل كما يتأدى حقوق العباد به فيتأدى بالولي أيضا ألا ترى أنه يجب عليه صدقة الفطر والعشر لما قلنا فكذا الزكاة فقال وما يتأدى بالنائب أي بمثل هذا النائب وهو الولي لا يصلح طاعة لأن هذه النيابة نيابة جبر لا اختيار لثبوتها على الصبي شرعا شاء أو أبى والزكاة طاعة محضة فلا يتأدى بمثل هذه النيابة لأنه يصير إعطاء بطريق الكره بخلاف نيابة الوكيل لأنها نيابة اختيار حيث ثبتت بإنابته فينتقل فعل النائب إلى الموكل بالأمر فتصلح لأداء العبادة فلو وجب يعني ما يتأدى بالنائب على الصبي باعتبار أداء النائب مع أن هذه نيابة جبر لصار المال هو المقصود في هذه العبادة كما في حقوق العباد دون الفعل الذي به يحصل الابتلاء وذلك أي كون المال مقصودا باطل في جنس القرب لأنه يدل على حاجة صاحب الحق كما في حقوق العباد ومن يقع له القربة أغنى الأغنياء ومالك ما في السموات والأرض ومنزه عن نقيصة الحاجة فلا يجوز أن يصير المال في القربة مقصودا فإن قيل ما ذكرتم مردود بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ابتغوا في أموال اليتامى خيرا كي لا تأكلها الصدقة وفي رواية كي لا تأكلها الزكاة وفي رواية من ولي مال اليتيم فليؤد زكاته قلنا هذا خبر مزيف فإن الصحابة اختلفوا في هذه المسألة فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما لا زكاة في مال الصبي وقال ابن مسعود رضي اللّه عنه يعد الوصف عليه السنين لم يجبره بعد البلوغ فإن شاء أدى وإن شاء لم يؤد وعن عمر وابن عمر وعائشة رضي اللّه عنهم أنهم أوجبوا ولم تجر المحاجة بينهم بهذا الحديث ولو بلغهم لما وسعهم ترك المحاجة به ولو احتجوا به لاشتهر أكثر من شهرة الفتوى وخبر الواحد يرد بمثله عندنا مع أنه روي عن الحسن البصري أنه حكى إجماع السلف في أن لا زكاة على الصبي (٤/٣٤١) قوله وما يشوبه أي يخلطه معنى المؤنة مثل صدقة الفطر لم يلزم الصبي عند محمد وزفر رحمهما اللّه لما قلنا آنفا أنه ليس بأهل للعبادة المالية بواسطة أداء الولي وقد ترجح معنى العبادة فيها فصار معنى المؤنة بمنزلة المعدوم اجتزاء أي اكتفاء وذلك أي الاختيار القاصر وقد مر بيان هذه المسألة ولزمه ما كان مؤنة في الأصل وهو العشر والخراج وإنما قيد به لأن معنى العبادة خالط العشر حتى لم يجب على الكافر عند أبي حنيفة رحمه اللّه ومعنى العقوبة خالط الخراج حتى لا يبتدئ على المسلم ولكنهما في الأصل من مؤن الأرض كما مر بيانه ومعنى العبادة والعقوبة فيهما ليسا بمقصودين والمقصود منهما المال وأداء الولي في ذلك كأدائه فيكون الصبي من أهل وجوبهما ولما ذكرنا أي في نفقة الأزواج أن الصبي أهل لوجوب المؤن وما كان عقوبة من حقوق اللّه تعالى لم يجب على الصبي كالحدود كما لا يجب ما هو عقوبة من حقوق العباد وهو القصاص لعدم حكمه وهو المؤاخذ بالعقوبة قوله ولهذا أي ولما ذكرنا أن من كان أهلا لحكم الوجوب وهو المطالبة بالأداء كان أهلا لنفس الوجوب كان الكافر أهلا لأحكام لا يراد بها وجه اللّه تعالى مثل المعاملات والعقوبات من الحدود والقصاص لأنه أهل لأدائها إذ المطلوب من المعاملات مصالح الدنيا وهم أليق بأمور الدنيا من المسلمين لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة وكذا المقصود من العقوبات المشروعة في الدنيا الانزجار عن الإقدام على أسبابها وهذا المعنى مطلوب من الكافر كما هو مطلوب من المؤمن بل الكافر أليق بما هو عقوبة وجزاء من المؤمن فكان أهلا للوجوب له وعليه فيجب له الثمن والأجرة والمهر إذا زوج أمته والقصاص إذا قتل وليه كما تجب عليه هذه الأشياء ولما لم يكن أهلا لثواب الآخرة لم يكن أهلا لوجوب شيء من الشرائع لا خلاف أن الخطاب بالشرائع التي هي للطاعات يتناول الكفار في حكم المؤاخذة في الآخرة على معنى أنهم يؤاخذون بترك الاعتقاد لأن موجب الأمر اعتقاد اللزوم والأداء وإنهم ينكرون اللزوم اعتقادا وذلك كفر منهم بمنزلة إنكار التوحيد فإن التصديق والإقرار بالتوحيد لا يكون مع إنكار شيء من الشرائع فيعاقب عليه في الآخرة كما يعاقب على أصل الكفر (٤/٣٤٢) فأما في وجوب الأداء في أحكام الدنيا فمذهب العراقيين من أصحابنا أن الخطاب يتناول وأن الأداء واجب عليهم وهو مذهب الشافعي وعامة أصحاب الحديث وقال عامة مشايخ ديارنا أنهم لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات وإليه مال القاضي الإمام أبو زيد والشيخان وهو المختار وفائدة الخلاف لا تظهر في أحكام الدنيا فإنهم لو أدوها في حال الكفر لا تكون معتبرة بالاتفاق ولو أسلموا لا يجب عليهم قضاء العبادات الفائتة بالإجماع وإنما تظهر في حق أحكام الآخرة فإن عند الفريق الأول يعاقب الكفار بترك العبادات زيادة على عقوبة الكفر كما يعاقبون بترك الاعتقاد وعند الفريق الثاني لا يعاقبون بترك العبادات كذا في الميزان تمسك الفريق الأول بقوله تعالى إخبارا عن مسألة أهل الجنة إياهم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين الآيات فظاهر هذا النص يقتضي أنهم يعاقبون في الآخرة على الامتناع من الأداء في الدنيا فدل أن الأداء واجب عليهم فيها وبقوله تعالى وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة أخبر بالويل لهم بعدم إيتاء الزكاة فدل على وجوبها عليهم وبأن سبب الوجوب متقرر وصلاحية الذمة للوجوب موجودة وشرط وجوب الأداء وهو التمكن منه غير معدوم في حقهم لتمكنهم من الأداء بشرط تقديم الإيمان كالجنب والمحدث يخاطبان بأداء الصلاة لتمكنهما من أدائها بتقديم الطهارة عليه فلو سقط الخطاب بالأداء بعد كان ذلك تخفيفا بسبب الكفر وهو لا يصلح سببا للتخفيف لأنه جناية ألا ترى أن زوال التمكن بسبب السكر وبسبب الجهل إذا كان عن تقصير منه لا يسقط الخطاب بالأداء فبسبب الكفر الذي هو رأس الجنايات أولى وإنما لا يجب القضاء بعد الإسلام لأن الكافر إذا أسلم سقطت الواجبات عنه بعد الوجوب بعفو صاحب الحق بقوله تعالى إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقوله عليه السلام الإسلام يجب ما قبله لا أنها لم تجب فإذا مات على الكفر لم يوجد المسقط فيعاقب على تركها في الآخرة وليس حكم الوجوب وفائدته الأداء لا غير فإن الإيمان واجب على كافر قد علم اللّه تعالى منه أنه يموت على الكفر وكذا الصلاة واجبة على مسلم علم اللّه تعالى منه أنه لا يصلي هذه الصلاة ولا يتصور منهما الأداء لأن خلاف معلوم اللّه تعالى محال ولكنهما وجبا لفائدة توجه العذاب في الآخرة فكذا هاهنا ووجه القول المختار ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له ادعهم إلى شهادة أن لا (٤/٣٤٣) إله إلا اللّه فإن هم أجابوك فأعلمهم أن عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة الحديث فهذا تنصيص على أن وجوب أداء الشرع يترتب على الإجابة إلى ما دعوا إليه من أصل الدين وما أشير إليه في الكتاب وهو أن حكم الوجوب الأداء وفائدة الأداء نيل الثواب في الآخرة حكما من اللّه تعالى والكافر مع صفة الكفر ليس بأهل للثواب عقوبة له على كفره حكما من اللّه تعالى كالعبد لا يكون أهلا لملك المال والمرأة لا تكون أهلا لملك المتعة لها على الرجل بسبب النكاح ولا بسبب ملك الرقبة حكما من اللّه عز وجل وإذا انتفت أهلية ما هو المطلوب بالأداء انتفت أهلية الأداء بدون أهليته لا يثبت الوجوب وهذا بخلاف وجوب الإيمان فإنه أهل لأدائه حيث يصير به أهلا لما وعد اللّه المؤمنين فكان أهلا لوجوبه وذكر في الميزان أن إيجاب الشرائع على الكافر تكليف بما ليس في الوسع لأنها إما أن يجب لتؤدى في حالة الكفر أو لتؤدى بعد الإسلام لا وجه إلى الأول لأن الكفر مانع من صحة أداء العبادات ولا إلى الثاني لأن قضاءها لا يجب بعد الإسلام وتكليف ما ليس في الوسع غير جائز سمعا وعقلا وقوله ولم يجعل مخاطبا بالشرائع إلى آخره جواب عما قالوا إن الكافر وإن لم يكن أهلا للخطاب بالشرائع مع صفة الكفر ولكنه أهل له بشرط تقديم الإيمان فجعل الإيمان ثابتا اقتضاء تصحيحا لتكليفه بالشرائع كما قلنا في الجنب والمحدث فصار كأنه أمر بالإيمان أولا ثم بأداء الشرائع ثانيا فقال إنما يثبت الشيء اقتضاء إذا كان صالحا للتبعية لأن الثابت بالاقتضاء تابع للمقتضي لأنه ثبت لتصحيحه وليس الإيمان كذلك لأنه رأس أهلية نعيم الآخرة فلا يصلح أن يثبت شرطا لوجوب الشرائع بطريق الاقتضاء كما لو قال المولى لعبده أعتق عن نفسك عبدا أو قال له تزوج أربعا من النساء لا يصح الأمر بالإعتاق وبتزوج الأربع ولا تثبت حريته بطريق الاقتضاء تصحيحا للأمر لأن حرية أصل الأهلية الإعتاق وتزوج الأربع وهما تبع لها فلا يثبت مقتضى لما هو تبع لها فكذلك ها هنا ولأن الشيء إنما يثبت مقتضى لشيء إذا تقرر المقتضي كالبيع يثبت مقتضى الأمر بالإعتاق لتقرر صحة الإعتاق عند تحقق البيع وبعد تحقق الإيمان هاهنا لا يبقى وجوب الأداء في شيء مما سبق في حالة الكفر فلا يجوز أن يثبت مقتضى به وتبين بما ذكرنا أن سقوط الخطاب بالأداء عن الكفار ليس للتخفيف عليهم كما ظنوا بل لتحقيق معنى العقوبة والنعمة في حقهم بإخراجهم من أهلية ثواب العباد وذلك لأن الأمر لأداء العبادة للمؤدي المأمور لا للآمر فالكافر لم يستحق هذا النظر والمنفعة عقوبة له على كفره فكيف يكون فيه معنى التخفيف وكذا الإيجاب بالأمر نظر من الشرع للمأمور فعسى أن يقصر فيما لا يكون واجبا عليه ولا تقصير في أداء ما هو واجب عليه والكافر غير مستحق لهذا النظر فكان عدم تناول الخطاب إياهم تغليظا عليهم وإلحاقا لهم (٤/٣٤٤) بالبهائم لا تخفيفا ولأن الخطاب بأداء العبادات ليسعى المرء بأدائها في فكاك نفسه قال عليه السلام الناس غاديان بائع نفسه فموبقها ومشتر نفسه فمعتقها يعني بالائتمار بالأوامر والقول بأن الكافر ليس بأهل للسعي في فكاك رقبته ما لم يؤمن لا يكون تخفيفا عليه وهو نظير أداء بدل الكتابة فإنه لما كان لتوصل المكاتب إلى فكاك رقبته لا يكون إسقاط المولى هذه المطالبة عنه عند عجزه بالرد في الرق تخفيفا عليه فإن ما يبقى فيه من ذل الرق فوق ضرر المطالبة بالأداء ومثاله من الحسيات مطالبة الطبيب المريض بشرب الدواء إذا كان يرجو له الشفاء يكون نظرا من الطبيب له وإذا أيس من شفائه فترك مطالبته بشرب الدواء لا يكون تخفيفا منه عليه بل يكون إخبارا بما هو أشد عليه من ضرر شرب الدواء وهو ما يذوق من كأس الحمام فكذلك قولنا أن الكفار لا يخاطبون بأداء الشرائع لا يتضمن معنى التخفيف بل يكون فيه بيان عظم الوزر والعقوبة فيما أصروا عليه من الشرك وهو كسقوط خطاب الإيمان عن الكفار بعد البعث إذ لو بقي لقبل منهم إذا أجابوا فإن ذلك السقوط لا يكون تخفيفا بل بكون تنكيلا وأما تعلقهم بالنصوص فغير صحيح لأن المراد من المسلمين المعتقدون لها أي لم يكن من المعتقدين فرضية الصلاة وحقيتها على الوجه الذي جاء به الرسول كما في قوله تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة أي قبلوها واعتقدوا حقيتها بدليل أن تخلية السبيل كانت واجبة قبل الأداء أو المراد لم نك من المؤمنين لأن الصلاة هي العلامة اللازمة للإيمان كما في قوله عليه السلام نهيت عن قتل المصلين أي المؤمنين وكذا المراد من قوله تعالى لا يؤتون الزكاة لا يقرون بفرضيتها كما قال الزجاج أو لا يزكون أنفسهم بالإيمان كما قاله الحسن وأما قولهم فائدة الوجوب الإثم والعقوبة فغير صحيح أيضا لأن الخطاب للأداء لا للإثم فلم يجز التصحيح لمكان الإثم بالترك كذا في التقويم وأصول شمس الأئمة والميزان قوله وقال بعض مشايخنا أراد به القاضي الإمام أبا زيد ومن سلك طريقه فإنهم قالوا بوجوب حقوق اللّه تعالى جميعا على الصبي من حين يولد كوجوبها على البالغ ثم بسقوطها عنه بعد وجوب بعذر الصبا لدفع الحرج وذلك لأن الوجوب مبني على صحة الأسباب وقيام الذمة لا على القدرة وقد تحققا في حق الصبي لتحققها في حق البالغ لأن الصبي والبالغ في حق الذمة والسبب سواء وإنما يفترقان في وجوب الأداء فيثبت الوجود (٤/٣٤٥) باعتبار السبب والمحل وهذا لأن الحقوق الشرعية التي تلزم الآدمي بعد البلوغ تجب جبرا بلا اختيار منه شاء أو أبى وإذا لم يتعلق الوجوب عليه باختيار لم يفتقر إلى قدرة الفعل ولا قدرة التمييز وإنما يعتبر القدرة والتمييز في وجوب الأداء وذلك حكم وراء أصل الوجوب ألا ترى أن النائم والمغمى عليه أو المجنون تلزمهم الصلاة على أصلنا بوجود السبب والذمة مع عدم التميز والقدرة على الأداء في الحال فكذا الصبي إلا أنها تسقط بعذر الصبا بعد الوجوب دفعا للحرج ولا يقال الوجوب يثبت الأداء لا لنفسه فلا يجوز الإيجاب على من لا يقدر على الأداء لأنا نقول الوجوب الأداء لا حال الوجوب بل يجوز بعده بزمان إما أداء أو قضاء فصح الإيجاب على من يرجى له قدرة الأداء أو القضاء في الجملة والصبي من تلك الجملة كالنائم والمغمى عليه على أن الأداء ثمرة الوجوب فلا يمتنع الوجوب بعدم ثمرته كما لو باع من مفلس يجب الثمن وإن كان عاجزا عن أدائه قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه اللّه وقد كنا على هذا القول زمانا ولكنا تركناه بهذا القول الذي اخترناه لأن القول بالوجوب نظرا إلى السبب والذمة من غير اعتبار ما هو حكم الوجوب مجاوزة الحد في الغلو وإخلاء لإيجاب الشرع عن الفائدة في الدنيا والآخرة لأن فائدة الحكم في الدنيا تحقيق معنى الابتلاء وفي الآخرة الجزاء وذلك باعتبار الحكم وهو الأداء فيه يظهر المطيع من العاصي فيتحقق الابتلاء المذكور في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا وكذا المجازاة في الآخرة تبتنى عليه كما قال تعالى جزاء بما كانوا يعملون فثبت أن الوجوب بدون حكمة غير مفيد فلا يجوز القول بثبوته شرعا وهذا أي القول المختار أسلم الطريقين عن الفساد صورة لأن الصبي غير مخاطب بالحقوق الشرعية بالإجماع فالقول بوجوبها عليه ثم بسقوطها عنه لا يخلو عن فساد صورة فكان القول بعدم الوجوب عليه أصلا أسلم عن الفساد ومعنى لما بينا أن الوجوب من غير أداء وقضاء خال عن الفائدة فكان فاسدا معنى والقول بعدم الوجوب سالم عن هذا الفساد المعنوي وتقليدا أي للسلف فإنهم لم يقولوا بالوجوب على الصبي أصلا وحجة أي استدلالا فإن الوجوب لو كان ثابتا عليه ثم سقط لدفع الحرج لكان ينبغي أنه إذا أدى كان مؤديا للواجب كالمسافر إذا صام في رمضان في السفر وحيث لم يقع المؤدى عن الواجب بالاتفاق دل على انتفاء الوجوب أصلا وكذا قوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم يدل بظاهره على انتفاء الوجوب أصلا فكان القول به (٤/٣٤٦) قوله ولذلك أي ولما بينا أن الوجوب لازم متى صح القول بحكمه ومتى بطل القول بحكمه بطل القول بوجوبه قلنا في الصبي إذا بلغ في بعض شهر رمضان أنه لا يقضي ما مضى لأن الوجوب فيما مضى لم يكن ثابتا في حقه لعدم حكمه وهو وجوب الأداء في الحال أو في الثاني لما يلحقه من الحرج فلم يثبت الوجوب أصلا حتى لو أدى في الحال وبعد البلوغ كان منتقلا ابتداء لا مؤديا للواجب وبقوله فيما مضى أشار إلى أنه يؤدي ما بقي من الشهر لأنه صار أهلا للوجوب بالبلوغ وهذا بخلاف المجنون إذا أفاق في بعض الشهر حيث يقضي ما مضى لأن الوجوب متقرر في حقه لاحتمال الأداء بانقطاع الجنون في كل ساعة وعدم الحرج في النقل إلى الخلف وهو القضاء فأما الصغر فعذر دائم لا يحتمل الانقطاع إلى أن يبلغ فكان احتمال وجوب الأداء منقطعا فلا يثبت الوجوب وكذلك أي وكما بنينا حكم الصبي على الأصل المذكور بنينا حكم الحائض عليه أيضا فقلنا إن الصوم يلزمها لاحتمال الأداء إذا النجاسة لا تؤثر في المنع من أداء الصوم حقيقة وحكما لأن قهر النفس يحصل مع هذه الصفة ويصح الأداء مع الجنابة والحدث بالاتفاق فيثبت الوجوب ولكن الشرع لما منعها من الأداء في هذه الحالة انتقل الحكم إلى القضاء لانتفاء الحرج كما في الحلف على مس السماء والأمر بالوضوء عند عدم الماء انتقل الحكم إلى الكفارة والتراب للعجز الحالي على ما مر وكذلك أي مثل قولنا في الصبي والحائض قولنا في المجنون يعني كما بنينا حكمها على الأصل المذكور بنينا حكم المجنون عليه أيضا فقلنا إذا امتد الجنون حتى صار لزوم الأداء يؤدي إلى الحرج بأن استغرق الشهر في الصوم أو زاد على يوم وليلة في الصلاة لم يثبت الوجوب من الأصل لعدم حكمه وهو الأداء في الحال والقضاء في ثاني الحال بسبب الحرج الذي يلحقه في ذلك وهو معنى قوله هذا أي سقوط الوجوب عند الامتداد في الصلاة والصيام معا وإذا لم يمتد بأن لم يستغرق الشهر في الصوم لزمه أصله أي أصل الصوم يعني ثبت في حقه نفس الوجوب لاحتمال حكمه وهو القضاء لانتفاء الحرج عنه فيه وكذا الحكم في (٤/٣٤٧) الصلاة إذا لم يمتد الجنون إلى يوم وليلة لانتفاء الحرج عنه في إيجاب قضائها ولكنه خص الصوم بالذكر لأنه وضع مسألة بلوغ الصبي في الصوم فذكر في مقابلتها هذه المسألة قوله وإذا عقل الصبي واحتمل الأداء أي أداء الإيمان قلنا بوجوب أصل الإيمان أي بثبوت نفس وجوبه عليه دون وجوب أدائه حتى صح الأداء يعني عن الفرض لما نبين وذلك أي ثبوت نفس وجوبه عليه إذا عقل لما عرف في باب بيان أسباب الشرائع وغيره أن نفس الوجوب يثبت بطريق الجبر بأسباب وضعت للأحكام إذا لم يخل الوجوب عن حكمه وهو الأداء والقضاء أو عن حكمة أي فائدة يعني أصل الوجوب في الذمة لا يثبت بالأمر ليتعلق صحته بكون المأمور من أهل الفهم بل الوجوب متعلق بالأسباب والأمر بعد ذلك لإلزام أداء الوجوب في الذمة بسببه ووجوب الإيمان متعلق بحدوث العالم وأنه متقرر في حق الصبي وذمته قابلة للوجوب لأن الصبا لم يكن منافيا للوجوب بنفسه فثبت الوجوب إذا تضمن فائدة لكن الأداء لا يجب عليه وإن عقل لأنه مما يحتمل السقوط بعد البلوغ بعذر النوم والإغماء وكذا إذا وصف مرة لا يلزمه ثانيا فيسقط بعذر الصبا أيضا وهو معنى قوله ولا تكليف ولا خطاب على الصبي بمجرد العقل وإذا كان الوجوب حاصلا وأداه بشرط وهو الشهادة عن معرفة صح وإن لم يلزمه الأداء بعد كما صح منه أداء الصلاة وإذا صح كان فرضا لأنه في نفسه غير متنوع بين نفل وفرض ولهذا لا يلزمه تجديد الإقرار بعد البلوغ ولا كذلك الصلاة لأنها مترددة بين فرض ونفل فيقع نفلا ولأن نفس وجوب الإيمان ثابت في حقه لما قلنا ألا يرى أن امرأته لو أسلمت أو أبى هو الإسلام بعدما عرض عليه القاضي يفرق بينهما ولو لم يثبت حكم الوجوب في حقه لم يفرق بينهما إذا امتنع عنه فثبت أن نفس الوجوب ثبت في حقه ووجوب الإيمان بعدما ثبت لا يحتمل السقوط بعذر فلا يسقط بالصبا أيضا فيقع أداؤه فرضا لا محالة والصلاة تحتمل السقوط بأعذار كثيرة فتسقط بالصبا أيضا ولما سقط أصل الوجوب استقام إثباتها نفلا وخرج السبب عن السببية وهذا هو مختار الشيخ وأستاذ الإمام شمس الأئمة الحلواني والقاضي الإمام رحمه اللّه وجماعة سواهم وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه اللّه الأصح عندي أن (٤/٣٤٨) الوجوب غير ثابت في حق الصبي وإن عقل ما لم يعتدل حاله بالبلوغ فإن الأداء منه يصحح باعتبار عقله وصحة الأداء تستدعي كون الحكم مشروعا ولا يستدعي كونه واجب الأداء فعرفنا أن حكم الوجوب وهو وجوب الأداء معدوم في حقه وقد بينا أن الوجوب لا يثبت باعتبار السبب والمحل بدون حكم الوجوب إلا أنه إذا أدى يكون المؤدى فرضا لأن بوجوب الأداء صار ما هو حكم الوجوب موجودا مقتضى الأداء وإنما لم يكن الوجوب ثابتا لانعدام الحكم فإذا صار موجودا بمقتضى الأداء كان المؤدى فرضا بمنزلة العبد فإن وجوب الجمعة في حقه غير ثابت حتى لو أذن له المولى أو حضر الجامع مع المولى كان له أن لا يؤدي ولكن إذا أدى فرضا ما هو حكم الوجوب صار موجودا بمقتضى الأداء وإنما لم يكن الوجوب ثابتا لعدم حكمه وكذا المسافر إذا أدى الجمعة كان مؤديا للفرض مع أن وجوب الجمعة لم يكن ثابتا في حقه قبل الأداء بالطريق الذي ذكرنا قوله والإغماء لما لم يناف حكم وجوب الصوم وهو الأداء في الحال أو القضاء في غير حرج في الثاني ولا اعتبار لامتداده في الصوم لندرته لم يناف نفس وجوب الصوم وإنما قلنا إنه غير مناف للأداء لا أنه إذا جن أو أغمي عليه بعدما نوى الصوم ولم يوجد منه ما ينافي الإمساك صح صومه وكان مؤديا للفرض فعلم أنه غير مناف لأدائه وكان منافيا لحكم وجوب الصلاة إذا امتد بأن زاد على يوم وليلة تعذر الأداء في الحال وتغير القضاء في الثاني لاستلزامه الحرج فكان منافيا لوجوبه أي وجوب المذكور وهو الصلاة أو وجوب هذا الواجب والنوم لما لم يكن منافيا لحكم الوجوب وهو القضاء بعد الانتباه بلا حرج في الصوم والصلاة لندرة امتداده فيهما لم يكن منافيا للوجوب أيضا فثبت أن الحقوق كلها تخرج مستقيمة على الطريق المختار واللّه أعلم (٤/٣٤٩) |