Geri

   

 

 

İleri

 

باب بيان المقالة الثانية

وتقسيم وجوهه وهو الطرد ذكر في الباب المتقدم أن القائسين اختلفوا في دلالة كون الوصف علة على قولين وذكر أحد القولين في ذلك الباب وهو قول أهل الفقه فكان القول الآخر وهو قول أهل الطرد ثانيا بالنسبة إليه فعقد هذا الباب لبيانه وذكر الضمير الراجع إلى المقالة في وجوهه بتأويل القول أو الطرد قسم في بيان الحجة أي في بيان كون الطرد حجة وغير حجة أو في بيان الحجة لأصحاب الطرد والحجة عليهم

والثاني في تقسيم الجملة أي جملة ما هو عمل بلا دليل من أقسام الطرد وما يشابه من جملة ما ليس بحجة وقد اتفق أهل هذه المقالة أي أهل الطرد على أن الاطراد دليل على صحة العلة من غير اشتراط ملاءمة أو تأثير لكنهم اختلفوا في تفسير الاطراد الذي هو دليل على الصحة فقال بعضهم هو الوجود عند الوجود أي المراد من الطرد وجود الحكم عند وجود الوصف من غير اشتراط ملاءمة أو تأثير في جميع الأصول أي في جميع الصور وزاد بعضهم يعني على ما ذكره الفريق الأول العدم مع العدم يعني جعل هؤلاء الطرد مع العكس وهو المسمى بالدوران وجودا وعدما دليل صحة العلة دون مجرد الطرد ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم إنه يدل عليها قطعا وهو مذهب بعض المعتزلة وقال بعضهم إنه يدل عليها ظنا

(٣/٥٢٩)

وهو مذهب بعض الأصوليين وأكثر أبناء الزمان من أهل الجدل وزاد بعضهم أي على الطرد والعكس أن يكون النص قائما في الحالين ولا حكم له يعني شرط أن يكون المنصوص عليه قائما في حال وجود الوصف وحال عدمه ولا يكون الحكم مضافا إليه بل إلى الوصف كما أن

قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يقضي القاضي وهو غضبان معلل بشغل القلب لدوران الحكم معه وجودا وعدما ولا حكم للمنصوص عليه وهو الغضب أو لنفس النص في الحالين فإن الغضب إذا وجد ولم يوجد شغل القلب لا يثبت حرمة القضاء مع أن ظاهر النص يقتضي حرمته لوجود الغضب المنصوص عليه وإذا وجد الشغل بدون غضب بالجوع أو بالعطش أو نحوهما نثبت الحرمة مع أن النص لا يقتضي حرمته لعدم الغضب المنصوص عليه فتعلق الحكم بالشغل وجودا وعدما وانقطاعه عن الغضب المنصوص عليه حتى لم يؤثر وجوده في وجوده ولا عدمه في عدمه دليل على كون الشغل علة

وقيل اشتراط قيام النص ولا حكم له في الحالين إنما يستقيم على قول من جعل المفهوم حجة فأما عند من لم يجعله حجة فلا لأن قيام النص وعدم حكمه إن تصور في حال عدم الوصف كما قلنا لا يتصور في حال وجود الوصف فإن شغل القلب إن وجد بالغضب يكون النص قائما مع حكمه وهو ثبوت الحرمة وإن وجده بغيره لا يكون النص قائما لأن معنى قيام النص ولا حكم له قيامه في هذه الصورة وتناوله لها مع عدم حكمه فيها لا قيامه في نفس الأمر فإذا لم يكن المفهوم حجة لا يكون للنص عند عدم الوصف المنصوص عليه موجب في نفي الحكم ولا في إثباته فلا يكون النص قائما في هذه الحالة لكن إذا جعل المفهوم حجة يكون عدم الحكم عند عدم الوصف من موجب النص فيكون النص قائما ولا حكم له

قوله واحتجوا أي أهل الطرد جميعا على كون الطرد دليل صحة العلة بأن الدلائل التي جعلت القياس حجة لم تخص وصفا دون وصف فظواهرها يقتضي جواز التعليل لكل وصف إلا ما قام عليه دليل يمنع عن التعليل به فكان كل وصف بمنزلة نص من المنصوص في جواز التعليل والعمل به فيجوز إثبات الحكم به من غير أن يفعل فيه معنى إلا أنه إذا لم يكن مطردا دل على عدم اعتبار الشرع إياه لأن تخلف الحكم عن العلة أمارة النقض وذلك غير جائز على صاحب الشرع

ولأن علل الشرع أمارات أي علامات على ثبوت الأحكام فإنها غير مثبتة بذواتها إذ المثبت في الحقيقة هو اللّه جل جلاله وإذا كانت أمارات لم يشترط فيها أن يكون معقولة المعاني لأن أمارة الشيء ما يكون ذلك الشيء

(٣/٥٣٠)

موجودا عنده من غير أن يشترط فيها معنى معقول يضاف وجود ذلك الشيء إليه كالمنارة للمسجد والميل للطريق ولأن الدوران مهما حصل ولم يكن مانع من الحكم بالعلية حصل العلم أو الظن عادة بكون المدار وهو الوصف علة للدائر وهو الحكم كما إذا دعي إنسان باسم يغضب ثم ترك دعاؤه به فلم يغضب وتكرر ذلك منه مرارا علم أن دعاءه بذلك هو سبب الغضب حتى إن الأطفال يعلمون ذلك منه ويتبعون له داعين بذلك الاسم المغضب له ولأن عدم الاطراد لما كان دليل فساد العلة يكون الاطراد دليل صحتها لأنه ليس بين الصحة والفساد واسطة

قوله والجواب أي عن كلام أهل الطرد أن الشرع جعل الأصل شاهدا يعني النصوص التي جعلت القياس حجة جعلت الأصل شاهدا والوصف منه شهادة على ما مر وذلك أي صيرورته شاهدا لا يقتضي الشهادة بكل وصف أي لا يقتضي أن يكون كل وصف منه شهادة لأن القياس متحقق ببعض الأوصاف بل يقتضي أن يكون شهادته بوصف خاص متميز من بين سائر الأوصاف بدليل كما جعل الشرع كامل الحال من الناس وهو الحر العاقل البالغ العدل شاهدا

ثم لم يجب أي لم يدل ذلك أن يكون لفظة منه شهادة بل بعض الألفاظ ثم لا بد من معنى معقول يميزه عن سائر الألفاظ مثل

قوله أشهد فإنه تميز من بين الألفاظ التي تصلح للإخبار عن المشهود به من

قوله أعلم أو أتيقن أو أخبر أو أعلم بالوكادة التي فيه فإنه ينبئ عن المشاهدة التي هي السبب المطلق لأداء الشهادة وإليه أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع ولهذا كان أشهد من ألفاظ اليمين فكذا هاهنا لا بد من أن يكون الوصف متميزا من بين سائر الأوصاف بدليل معقول ولأن كل وصف لو صلح علة والأوصاف محسوسة مسموعة لشارك السامعون وأهل اللغة كلهم الفقهاء في المقايسات ولما اختص بها الفقهاء فعلم أن المقايسة مبنية على معان تفقه لا أوصاف تسمع كذا في التقويم ولا أعرف وجه تعلق الاستثناء في

قوله إلا بمعنى معقول وكان من حق الكلام أن يقال ثم لم يجب أن يكون كل لفظة شهادة بل وجب أن يكون بعض الألفاظ شهادة وذلك البعض لا يتميز إلا بمعنى معقول يوجب تميزا

وأما

قوله أي قول الخصم إنها أي العلل أمارات فكذلك أي فيما ذكر

(٣/٥٣١)

لكن في حق اللّه تعالى لأنه هو الشارع للأحكام في الحقيقة والموجب لها فأما في حق العباد فلا لأنهم مبتلون بنسبة الأحكام إلى العلل وإن كانت الأحكام ثابتة بشرعه جل جلاله كما نسبت الأجزئة إلى أفعالهم بقوله عز اسمه جزاء بما كانوا يعملون مع أن الأجزئة فضل من اللّه أو عدل ويجوز أن يكون معناه أن العقوبات المشروعة أجزئة مثل الرجم والجلد والقطع منسوبة إلى أفعالهم من الزنا والقذف والسرقة وما يجري مجراه أي مجرى ما ذكرنا مثل نسبة الحل إلى النكاح والحرمة إلى الطلاق فكانت أي العلل غير موجبة في الأصل بذواتها ولهذا لم يكن موجبة قبل الشرع

ولكنها أي العلل جعلت موجبة شرعا في حقنا على ما يليق بها وهو النسبة يعني كونها موجبة ثبت في حقنا بالطريق الذي يليق بها وهو أن ينسب الأحكام إليها بأن يقال القصاص حكم القتل والملك حكم البيع والحل حكم النكاح فهذا النوع من النسبة يليق بها فأما نسبة حقيقة الإيجاب إليها في حق اللّه تعالى وفي علمنا أيضا فلا وهذا كإيجاب القصاص على القاتل فإنه مضاف إلى القتل وإن كان المقتول ميتا بأجله في حق علمنا فثبت أن علل الشرع ليست أمارات على الإطلاق وإذا كان كذلك أي كان الأمر كما قلنا وهو أن العلل صارت موجبة شرعا في حقنا لم يكن بد من التمييز بين العلل والشروط أي من دليل يميز بينهما ومجرد الاطراد لا يميز لأنه يوجد مع الشرط أيضا

وكذلك العدم عند عدمه هذا جواب عما قال الفريق الثاني أن وجود الحكم عند وجود الوصف قد يكون اتفاقا وقد يكون علة فلا يتعين جهة كونه علة إلا بعدم الحكم عند عدمه فيصلح العدم عن العدم دليلا مميزا للعلة عن غيرها فقال وكذلك العدم عند عدمه أي كما لا يصلح الاطراد دليلا مميزا لا يصلح عدم الحكم عند عدم الوصف دليلا مميزا أيضا

لأنه أي الوصف يزاحمه الشرط فيه أي في عدم الحكم عند عدمه فإن دوران الحكم كما يوجد مع العلة وجودا وعدما يوجد مع الشرط كذلك أيضا فإن وجوب أداء الزكاة ووجوب صدقة الفطر ووجوب الطهارة كما يدور مع النصاب والرأس وإرادة الصلاة التي هي أسبابها وجودا وعدما يدور مع الحول ويوم الفطر والحدث التي هي شروطها وجودا وعدما أيضا وكذا العتق كما يدور مع الإعتاق يدور مع الدخول في

قوله إن دخلت الدار فأنت حر وذلك لأن الأحكام لا تدور مع الأسباب إلا بوجود الشروط فتدور الأحكام مع الشروط وجودا بوجود الأسباب وتنعدم عند عدمها على الإطلاق قال الشيخ في شرح التقويم

(٣/٥٣٢)

أما قولهم العدم عند العدم دليل على أن الوجود لم يكن اتفاقا فليس بشيء لأن الوجود عند الوجود كما يكون اتفاقا يكون العدم عند العدم اتفاقا أيضا فلا يصلح حجة ولأن نهاية الطرد الجهل أي الجهل بوجود المعارض والمناقض فإنه لا يمكنه أن يقول ليس لهذا الوصف مناقض ولا معارض أصلا بل غاية أمره أن يقول إلى ما وجدت له معارضا ولا مناقضا لأنه لا يمكنه الطرد في جميع الأصول وهل ثبت ذلك أي وما ثبت عدم المعارض والمناقض عندك إلا بالوقوف عن طلبهما وقد كان يتأدى أي يتهيأ لك ذلك أي الوقوف عن طلب والحكم بانتفاء المعارض والمناقض قبل الطرد

وأما العدم فليس بشيء فلا يصلح دليلا أي لا يصلح في نفسه دليلا على شيء لأن الدليل على الشيء أمر وجودي وكيف يصلح أي عدم الحكم عند عدم الوصف دليلا على كون الوصف علة مع احتمال أن يثبت الحكم بعلة أخرى يعني ولئن سلمنا أنه يصلح دليلا في نفسه فلا يصلح دليلا هاهنا لأنه لو كان دليلا على صحة الوصف لامتنع ثبوت الحكم عند عدم علة بعلة أخرى ولاقتضى ذلك أن لا تكون لحكم واحد إلا علة واحدة وقد ثبت في الشرع لحكم واحد علل متعددة كالنوم والإغماء وخروج النجاسة من السبيلين ومن غيرهم لانتقاض الطهارة وكالبيع والهبة والصدقة والميراث والاستيلاء للملك وكالردة والكفر المفضي إلى المحاربة والبغي والزنا بعد الإحصان لإباحة القتل

فلا يصلح شرط عدمه برفع الطاء والشرط مصدر مضاف إلى المفعول والضمير للحكم أي لا يصلح اشتراط عدم الحكم عند عدم الوصف لصحة كون الوصف علة

وصحح في بعض الشروح بنصب الطاء فقيل معناه فلا يصلح عدم العلة شرط عدم الحكم لاحتمال أن يثبت الحكم بعلة أخرى وإذا لم يصلح شرطا له كيف يستدل بعدم الحكم عند عدم الوصف على صحة ذلك الوصف ولهذا إذا كانت العلة منحصرة يصح الاستدلال بعدم الحكم على عدم العلة وبالعكس والوجه هو الأول وعبارة بعض المحققين ولو كان العدم عند العدم دليل الصحة لكان الوجود عند العدم دليل الفساد لأن بالوجود عند العدم لا يبقى دليل الصحة وهو العدم عند العدم كالوجود عند الوجود عندكم لما كان دليل الصحة كان العدم عند الوجود دليل الفساد لزوال دليل الصحة به واتفاق الكل هاهنا على جواز الحكم في محل بعلل تدل على أن الوجود عند العدم ليس دليل الفساد فلا يصلح العدم عند العدم دليل

(٣/٥٣٣)

الصحة ضرورة

وأما استدلالهم بحصول الظن أو العلم بالدعاء باسم مغضب فليس بصحيح لأنا لا نسلم حصول العلم أو الظن بكون ذلك الاسم سبب الغضب بمجرد الدوران فإنه لولا ظهور انتفاء غير ذلك من الأوصاف ببحث أو بأنه الأصل لم يظن والبحث طريق مستقل بنفسه ويقوى بالدوران

وذكر في القواطع أن أحكام الشرع مرتبطة بطريق علمي أو ظني يستند إلى سبب وإذا خلا عن هذين الطريقين يكون مجرد احتكام على الشرع والطرد لا يفيد علما ولا ظنا لأن الحكم الذي ربطه به إثباتا لو ربطه به نفيا لم يترجح في مسلك الظن

أحدهما على الآخر فبطل التعلق به ألا ترى أن القياس الفاسد قد يطرد كما سيجيء بيانه ولو كان الاطراد دليل صحة العلة لم يقم هذا الدليل على الأقيسة الفاسدة وكذا استدلالهم بدلالة عدم الاطراد على الفساد على دلالة الاطراد على الصحة فاسد لأن عدم الاطراد دليل النقض والنقض باطل فأما الاطراد فغايته أنه يدل على عدم النقض أو لا يدل على النقض فلا يلزم منه كونه علة فإن قيل قد اتفقنا أن الطرد والعكس يصلح دليلا على العلة في الأحكام العقلية فكذا في الأحكام الشرعية وهذا لأن العلة ما يثبت به الحكم والمثبت في الحقيقة هو اللّه تعالى في الحقائق والحكميات جميعا فإن الجاعل للذات متحركا هو اللّه تعالى ولكن بواسطة الحركة كما أن المثبت للملك هو اللّه تعالى ولكن بسبب البيع ثم العلة في الحقائق تثبت بالطرد والعكس فكذا في الشرعيات قلنا الحقائق لا تختلف باختلاف الأزمان فيجوز أن يكون أن يكون الطرد والعكس فيها دليلا على العلة فأما العلل الشرعية فمبنية على مصالح العباد وأنها تختلف باختلاف الأزمان وأحوال الناس فلا يصلح الدوران دليلا عليها بل تعرف علل الشرع بالشرع والشرع هو النص والاستدلال على الوجه الذي ذكرنا في الباب المتقدم إليه أشير في الميزان ألا ترى أن مثل هذا أي مثل التمسك بالطرد لا يوجد في علل السلف فإنه لم يرو عن أحد من الصحابة أنه تمسك بطرد لا يناسب الحكم ولا يؤثر فيه وأقوى دليل في صحة القياس إجماعهم وإنما نظروا في الأقيسة من حيث المعاني وسلكوا طريق المراشد والمصالح التي تشير إلى محاسن الشريعة ولو كان الطرد صحيحا لما عطلوه ولا أهملوه ولا تركوا التعليل به وكذلك سائر الأمة المقتدى بهم

قال صاحب القواطع وإذا انتهى التصرف في الشرع إلى هذا المنتهى كان ذلك استهزاء بقواعد الدين واستهانة بضبطها وتطريقا لكل قائل أن يقول ما أراد ويحكم بما شاء ولهذا صرف علماء الشرع سعيهم إلى البحث عن المعاني المخيلة المؤثرة

قوله

وأما من شرط قيام النص إنما شرط الفريق الثالث مع الدوران قيام النص وعدم حكمه في الحالين لأن الحكم إذ وجد مع وجود الاسم والمعنى وعدم بعدمهما لم

(٣/٥٣٤)

يكن إضافة الحكم إلى المعنى بأولى عن إضافته إلى الاسم كتحريم العصير إذا اشتد وسمي خمرا وزوال الحرمة عند زوال الشدة والاسم أما إذا كان الاسم قائما في الحالين والحكم دائر مع المعنى وجودا وعدما زالت شبهة تعلق الحكم بالاسم فيتعين المعنى لكونه علة وصار كما إذا تعين جهة المجاز في النص لا يبقى للحقيقة حكم بوجه واحتج بآية الوضوء فإن وجوب الوضوء فيها رتب على القيام إلى الصلاة ولما عللت بالحدث دار الحكم معه وجودا وعدما حتى لم يجب الوضوء عند القيام بدون الحدث ووجب عند الحدث بدون القيام إلى الصلاة والمنصوص عليه وهو القيام إلى الصلاة أو النص قائم في الحالين ولا حكم له وبقول النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يقضي القاضي وهو غضبان فإن حرمة القضاء فيه رتب على الغضب ولما علل بشغل القلب دار الحكم وجودا وعدما حتى حل القضاء مع وجود الغضب عند فراغ القلب ولا يحل عند شغله مع عدم الغضب والنص قائم في الحالين ولا حكم له إلا أن هذا أي ما ذكر الفريق الثالث من اشتراط قيام النص وعدم كلمة شرط لا يكاد يوجد إلا نادرا

وذلك من حيث الظاهر أيضا لا من حيث الحقيقة فكيف فكيف يجعل أصلا أي لا يمكن أن يجعل أصلا لأن النادر لا حكم له على أن من شرط صحة التعليل أي يبقى الحكم في المنصوص بعد التعليل على ما كان قبله فإذا علل على وجه لا يبقى للنص حكم بعده يكون ذلك أنه فساد القياس لا دليل صحته وكيف يجوز أن لا يبقى للنص حكم بعد التعليل وليس المقصود بالتعليل إلا تعدية حكم النص إلى محل لا نص فيه فإذا لم يبق له حكم فأي شيء يتعدى إلى الفرع وذلك غير مسلم أي قيام النص ولا حكم له بناء على دوران الحكم مع الوصف المعلل به غير مسلم فيما ذكرت من النصين أيضا ومعنى

قوله أيضا أنه مع ندرته غير مسلم هاهنا لأن الحدث ثابت بالنص لا بالتعليل قال الشيخ رحمه اللّه في نسخة أخرى العلة الموجبة للوضوء إرادة الصلاة على ما مر فإن سلمنا أن الحدث سبب فنقول ذلك حدث بالاستدلال بالنص بما ذكر وكذلك ذكر الغسل أي وكما ذكر التيمم معلقا بالحدث ذكر الغسل معلقا به أيضا والنص في البدل النص في الأصل لأنه أي البدل يفارق الأصل بحاله لا بسببه من حيث إنه يجب في حال لا يجب فيه الأصل فكان ذكر

(٣/٥٣٥)

السبب في البدل بقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط بيانا أنه هو السبب للأصل ألا ترى أنه تعالى لما ذكر الغسل بقوله جل ذكره فاغسلوا أو لم يذكر ما يغسل به وذكر الماء في البدل بقوله عز اسمه فإن لم تجدوا ماء فتيمموا كان ذلك بيانا أن الغسل واجب بالماء فكذا هذا

فإن قيل هذا إثبات للحدث في الوضوء بطريق الدلالة لا بالصيغة فإنه استدلال بذكره في البدل على ثبوته في المبدل وهو في بيان ثبوته بالصيغة

قلنا أراد بالثبوت بالصيغة هاهنا أن لفظا من ألفاظ النص يدل عليه فإنه تعالى لما ذكر الأحداث ثم ذكر عدم الماء بقوله فلم تجدوا ماء ثم رتب الحكم على وجود الحدث عند عدم الماء عرف بصيغة هذا الكلام أن الأمر بالتوضؤ عند وجود الماء مرتب على الحدث وأراد بثبوته بالدلالة على الثبوت بمضمر فإن قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا لما دل على إضمار لأن العمل بظاهره غير ممكن لاقتضائه وجوب الوضوء عند كل قيام بل في كل ركعة من الصلاة وهو خلاف الإجماع أضمر فيه من مضاجعكم أي إذا قمتم من مضاجعكم إلى الصلاة فاغسلوا وقد نقل عن بعض الصحابة أنه لو كان يقرأ هكذا والقيام من المضاجع كناية عن النوم أي عن التنبه عن النوم والنوم دليل الحدث لأنه سببه بواسطة استرخاء المفاصل وإذا ثبت أن اشتراط الحدث لهذين الوجهين لم يكن ثابتا بالتعليل لا يكون النص ساقطا بل هو قائم مع حكمه في الحال قال القاضي الإمام رحمه اللّه الحدث شرط زيد في الآية لا بالرأي ولكن بدلالة النص فإنه قال ولكن يريد ليطهركم وقال في الاغتسال وإن كنتم جنبا فاطهروا وقال في بدل الوضوء أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا وإنما يتعلق وجوب التيمم الذي هو بدل بما يجب به الأصل فتعين أن المراد بصدر الآية إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ولكن سقط ذكر الحدث اختصارا لما في الآية ما يدل عليه ونحن لم ننكر الاختصار والزيادة بدلالة النص وإنما أنكرنا الزيادة بالرأي فإنها تجري مجرى النسخ فهذا يشير إلى أن الوجهين المذكورين من باب الدلالة

وإليه يشير تقرير شمس الأئمة أيضا

(٣/٥٣٦)

قوله وهذا النظم أي اختير هذا النظم وهو أن الحدث لم يذكر في الوضوء الذي هو الأصل وذكر في البدل وهو التيمم لأن الوضوء مطهر بنفسه وحقيقته كما قال تعالى ولكن يريد ليطهركم فدل كونه مطهرا على قيام النجاسة لأن المطهر ما يثبت الطهارة ويقتضي ذلك ثبوت النجاسة ليصح إثبات الطهارة فإن إثبات الثابت مستحيل فاستغنى عن ذكر الحدث بخلاف التيمم لأنه ليس بمطهر بنفسه بل هو تلويث حقيقة فلم يدل ذكره على قيام نجاسة فلو لم يذكر الحدث فيه صريحا لتوهم أن الحدث ليس بشرط فيه بل يجب التيمم لكل صلاة عند عدم الماء تعبدا ويلزم على هذا التقرير أن الحدث قد ذكر في الغسل بقوله وإن كنتم جنبا فاطهروا مع أنه تطهير حقيقة كالوضوء فأشار إلى الفرق بينه وبين الوضوء فقال والوضوء متعلق بالصلاة أي شرعه لأجل الصلاة وسبب وجوبه إرادة الصلاة

والحدث شرطه أي شرط وجوبه عرف ذلك بذكره في البدل كما بينا فلم يذكر الحدث في الوضوء صريحا ليعلم بظاهر النص أن الوضوء مشروع لكل صلاة إما بطريق الفرض أو الندب فإذا كان محدثا كان الأمر في حقه للإيجاب فيكون الوضوء فرضا وإذا لم يكن محدثا كان الأمر في حقه للندب فيكون الوضوء سنة عند إرادة الصلاة فأما الغسل فليس بمسنون لكل صلاة بل هو فرض خالص أي الغسل الذي تعلق به الصلاة نوع واحد وهو الفرض فلم يشرع إلا مقرونا بالحدث بقوله عز اسمه وإن كنتم جنبا فاطهروا ولا يلزم عليه غسل الجمعة والعيدين لأن المدعى أن الغسل لكل صلاة ليس بمسنون وبشرعية الغسل للجمعة والعيدين لا يثبت كون الغسل سنة لكل صلاة على أن كلامنا فيما ثبت بالكتاب وبإشارته وذلك ثبت بالسنة

وذكر في الكشاف فإن قلت ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة محدث وغير محدث فما وجهه قلت يحتمل أن يكون الأمر للوجوب فيكون الخطاب للمحدثين خاصة وأن يكون للندب وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والخلفاء بعده أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة فإن قلت هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين وغيرهم لهؤلاء على وجه الإيجاب ولهؤلاء على وجه الندب قلت لا لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية وقيل كان الوضوء لكل صلاة أول ما فرض ثم نسخ

(٣/٥٣٧)

قوله وكذلك الغضب أي وكما أن الحدث ثابت بدلالة النص لا بالرأي الغضب معلول بشغل القلب أي المراد منه شغل القلب لأن الغضب سببه وقد يسمى الشيء باسم سببه كذا ذكر الشيخ في بعض مصنفاته وقط لا يوجد غضب بلا شغل فلا يستقيم قول الخصم النص قائم ولا حكم له لإباحة القضاء مع وجود الغضب عند فراغ القلب لأنا لا نسلم ذلك بل لا يحل القضاء إلا عند سكون الغضب وإن قل لأنه لا يخلو عن شغل ألبتة فتبين أن الحكم في جميع المواضع ثابت بالنص لا بالعلة مع قيام النص ولا حكم له قال القاضي الإمام رحمه اللّه وكذلك قول النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان كناية عن القضاء وهو مشغول القلب عرف ذلك بدلالة الإجماع كما صار قوله تعالى فلا تقل لهما أف كناية عن الإيذاء حتى صار الشتم بمنزلته عقل ذلك بدلالة محل الخطاب ما هو من التعليل بالرأي للقياس في شيء

وإنما التعليل للتعدية أي التعليل إبداء لتعدية الحكم الثابت بالنص إلى محل لا نص فيه فاشتراط وجود النص ولا حكم له يمنع التعليل فيكون فاسدا

قوله

وأما تقسيم هذه الجملة أي جملة ما هو احتجاج بلا دليل من الاطراد ونحوه فأول أقسامه الاطراد لأنه على نهج العلل فإن الوصف المطرد من أوصاف النص قد يكون ملائما وقد يكون مؤثرا في نفسه وإن لم يبين الطارد تأثيره فيكون مقدما على سائر الأقسام

والذي يليه الاحتجاج بالنفي والعدم لأنه يصلح حجة للدفع في بعض المواضع والذي يليه الاستصحاب لأنه ليس بدليل لإثبات الحكم ولكنه حجة لإبقاء ما كان على ما كان والذي يليه تعارض الأشباه لأنه حجة عند البعض والذي يليه ما لا يستقل إلا بوصف يقع به الفرق إلا أنه وصف مجمع عليه فكان مقدما على وصف مختلف فيه ثم الوصف المختلف فيه مقدم على ما لا يشك في فساده لأن ذلك الوصف المختلف فيه حجة عند الخصم ثم هو مقدم على الاحتجاج بأن لا دليل لأنه ليس بأقل من العدم كذا ذكر في بعض الشروح

(٣/٥٣٨)

أما الأول أي عدم صحة الوجه الأول فلأن الاطراد لا يثبت به إلا كثرة الشهود أي بالنظر إلى الأصول التي يوجد فيها هذا الوصف أو كثرة أداء الشهادة يعني بالنظر إلى نفس الوصف وهو كقولهم في المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه فوصف الركنية موجود في غسل الوجه وغسل اليدين وغسل الرجلين وكل واحد منها أصل بنفسه فكان فيه كثرة الشهود إلا أن هذا الوصف لما كان واحدا كان فيه تكثير أداء الشهادة قال القاضي الإمام الاطراد إنما يثبت بكون الوصف شاهدا أينما وجد في كل أصل على العموم فلا يكون عموم شهادته دليلا على عدالته بمنزلة شاهد كرر شهادته في كل مجلس قضاء فلا يصير التكرار والثبات على الأداء تعديلا أو نقول كل أصل شاهد بنفسه بذلك الوصف فيه فيكون بمنزلة شهود ورواة كثيرة فلا تصير الكثيرة تعديلا لمن لم يكن عدلا قبل الكثرة ولأن الوجود قد يكون اتفاقا أي وجود الحكم عند وجود وصف قد يقع بطريق الاتفاق والعدم قد يقع لأنه شرط أي العدم عند العدم قد يقع باعتبار أنه شرط فإن المعلق بالشرط معدوم قبل وجوده فلا يصلح الوجود عند الوجود ولا العدم دليلا على صحة العلة ثم استوضح ما ذكر من أن الاطراد لا يصلح دليل الصحة بقوله ألا ترى أن وجود الشيء أي مجرد وجود شيء ليس بعلة لبقاء ذلك الشيء فإن الوجود لو كان علة للبقاء لما فنى شيء في الدنيا

ولهذا صح أن يقال وجد ولم يبق فكيف يصلح علة للوجود في غيره بنفسه أي يصلح الوجود بنفسه علة لوجود غيره من غير نظر إلى معنى آخر من تأثير أو إخالة لأن البقاء أسهل من الابتداء فلما لم يصلح نفس الموجود سببا للبقاء فلأن لا يصلح سببا للإيجاد ابتداء وهو اتحاد الحكم كان أولى

وهذا بخلاف العلل المؤثر فإنها علة الوجود في غيرها ولم تكن علة للبقاء في نفسها لأنها كانت علة باعتبار الأثر لا باعتبار الوجود وأثرها يظهر في الغير لا في نفسها أما الوجود فثابت بالنسبة إلى نفسه وغيره فلو صلح علة في غيره باعتبار الوجود لكن علة في نفسه بالطريق الأولى

وأما ما يقال الوجود علة الرؤية فالمراد أن الوجود هو الذي قبل الرؤية لا أنه مؤثر في الرؤية

وكذلك وجود الحكم أي كما أن الوجود عند الوجود لا يصلح دليلا على صحة العلة لا يصلح العدم عند العدم دليلا على الفساد أيضا لأن موجب العلة ثبوت الحكم بها لا أن يثبت الحكم بها ولا يثبت بغيرها بل كما يجوز أن يثبت بها يجوز أن يثبت بغيرها فلا يدل عدمها على

(٣/٥٣٩)

عدم الحكم ولا وجود الحكم عند عدم العلة على فساد العلة لجواز وجوده أي وجود الحكم بغيره أي بغير الوصف الذي هو علة

قوله ووجود العلة ولا حكم بنفسه لا يصلح مناقضا أهل الطرد لا يزول تخصيص العلة فتخلف الحكم عن الوصف الذي جعل علة يدل على انتقاضه عندهم وأهل التأثير لا يجعلون عدم الحكم عند وجود العلة صورة دليل المناقضة لكن القائلين بجواز التخصيص منهم مثل القاضي الإمام أبي زيد وعنده يقولون لا يتخلف الحكم عن العلة المؤثرة إلا لمانع فوجود المانع يكون تخصيصا للعلة ومن أنكر جواز تخصيص العلة منهم يقولون تخلف الحكم عن العلة المؤثرة إنما يكون لفوات وصف من العلة فينعدم به العلة بمنزلة علة ذات وصفين إذا عدم

أحدهما فيكون عدم الحكم لعدم العلة لا لمانع تخصيصها مع وجودها

فالشيخ رحمه اللّه رد المذهب الأول بقوله ووجود العلة أي وجود صورة العلة ولا حكم بنفسه أي لا يثبت حكم بنفس ذلك الوصف الذي هو علة لا يصلح مناقضا أي لا يكون نقضا لجواز أن يقف الحكم أي يمتنع لفوت وصف من العلة ذلك الوصف ليس بعلة بنفسه فكان عدم الحكم لعدم علته كالنصاب علة لوجوب الزكاة ولكن بصفة النماء فبدونه لا يعمل في الإيجاب لعدم تمام العلة بفوات وصفها فلا يكون مناقضة ورد المذهب الثاني بقوله ولا ذكره وقد دل عليه التعليل تخصيصا ويحتمل هذا الكلام وجوها أن يكون الضميران في ذكره وعليه للعلة على تأويل الوصف والواو للحال هو المعنى لا يكون ذكر الوصف الذي هو علة بدون الحكم تخصيصا للعلة مع أن التعليل يدل على كون ذلك الوصف علة بل يكون عدم الحكم لعدم العلة بناء على فوات وصف من العلة أو المعنى لا يكون ذكر الوصف بأنه علة لهذا الحكم والحال أن التعليل يدل على أن ذلك الوصف علة له تخصيصا للحكم بتلك العلة بل يجوز أن يكون للحكم علة أخرى ثبت الحكم بها عند عدم هذا الوصف لما بينا

وأن يكون الضمير الأول للمعلل بطريق إضافة المصدر إلى الفاعل

والثاني للعلة على تأويل الوصف ويكون

قوله وقد دل عليه التعليل مفعول الذكر أي ولا يكون ذكر المعلل هذا الكلام وهو

قوله قد دل التعليل على هذا الوصف علة لكن لم يثبت حكمه لمانع تخصيصا للعلة بل هو امتناع الحكم لعدم العلة بفوت وصف منها وإن كانت صورتها موجودة وأن يرجع الضمير الأول إلى فوت الوصف من العلة

والثاني إلى الوصف الغائب منها والواو للحال أي لا يكون ذكر فوت الوصف من العلة مع أن التعليل يدل على اشتراط ذلك الوصف لتمام العلة تخصيصا

(٣/٥٤٠)

للعلة يعني إذا فات وصف من العلة وامتنع الحكم عنها بفواته يسميه من جوز التخصيص مانعا مخصصا ويقول العلة موجودة موجبة للحكم إلا أنه امتنع حكم لهذا المانع وهو فوات الوصف فخصت به فقال الشيخ لا يصلح ذكر فوات ذلك الوصف تخصيصا أي مخصصا للعلة لأن التخصيص إنما يستقيم إذا وجدت العلة بتمامها أصلا ووصفا ثم لا يثبت حكمها بالمانع ولم يوجد العلة هاهنا بتمامها لأن التعليل يدل على أنه لا بد من الوصف الفائت لتمام العلة فلا يكون فوات ذلك الوصف مانعا مخصصا بل ينعدم العلة بفواته فينعدم الحكم لانعدامها ولما ثبت أن وجود الحكم عند عدم العلة لا يدل على فسادها وأن وجود صورة العلة بدون حكمها لا يدل على المناقضة والتخصيص لا يدل الوجود عند الوجود ولا العدم عند العدم على الصحة اعتبارا لحالة الموافقة بحال المخالفة في الصحة والفساد على ما تبين أي في باب تخصيص العلل إن شاء اللّه تعالى إلا أن هذا أي الاحتجاج بالاطراد على نهج العلل بسكون الهاء أي طريقها من حيث إنه وصف من أوصاف النص يدور الحكم معه كما يدور مع الوصف المؤثر وتحريك الهاء لحن لأن النهج بالتحريك البهر وتتابع النفس ولا معنى له هاهنا

قوله التعليل بالنفي يعني بعد الاحتجاج بالاطراد في الرتبة التعليل بعدم الوصف لعدم الحكم وهو فاسد لأن العدم ليس بشيء وما ليس بشيء لا يصلح علة للأحكام ولأن عدم وصف لا ينافي وجود وصف آخر يثبت الحكم به لما قلنا إن الحكم يجوز يرى أن يثبت بعلل شتى لا يرى أن العدم ليس بأعلى حالا وصف من الوجود ووجود وصف لا يمنع وجود آخر فكيف يمنع العدم وكذلك الوجود لا يصلح علة للبقاء ولا لوجود شيء آخر فكيف يصلح العدم علة لوجود الأحكام مثل قول الشافعي في النكاح إنه لا ينعقد بشهادة الرجال مع النساء لأنه ليس بمال فأشبه الحدود وفي الأخ إذا ملك أخاه لا يعتق لأنه ليس بينهما بعضية فأشبه ابن العم ولا يلحق المبتوتة طلاق يقال بت طلاق المرأة وأبته أي طلقها طلاقا لا رجعة فيه والمبتوتة المرأة وأصلها المبتوت طلاقها يعني لا يلحقها صريح الطلاق في العدة كما لا يلحقها البائن فيها لأنه لا نكاح بينهما فصار كما بعد انقضاء العدة ويجوز إسلام المروي في المروي أي الثبوت المروي في جنسه وهذه النسبة إلى بلد بالعراق على شط الفرات لأنهما أي البدلين مالان لم يجمعهما طعم ولا

(٣/٥٤١)

ثمينة يعني المعنى الموجب لحرمة النسيئة التي هي من أنواع الربا الطعم أو الثمنية ولم يوجد واحد منهما فلا يثبت حرمة النسيئة كما إذا اختلف الجنس وهذا في الظاهر أي هذا النوع من التعليل وهو التعليل بالنفي جرح في الظاهر على مثال العلل أي العلل الصحيحة لأنه ترتيب الحكم على علة يتوهم أنها مؤثرة إذ عدم الوصف يصلح دليلا في بعض المواضع على انتفاء الحكم لكنه أي التعليل بالنفي لما كان عدما أي استدلالا بعدم وصف على عدم حكم لم يكن شيئا إذ العدم ليس بشيء فلا يصلح حجة للإثبات أي لإثبات أحكام الشرع ولا يقال ما ذكرتم مسلم إذا كان الحكم ثبوتيا فأما إذا كان عدميا فلا لأن العدم يصلح علة للعدم

وهذه أحكام عدمية عللت بالعدم فينبغي أن يجوز لأنا نقول هذا عين المتنازع فيه بل العدم لا يصلح علة أصلا وعدم الحكم لا يحتاج إلى علة أيضا لأنه ثابت بالعدم الأصلي

ألا ترى أن استقصاء العدم أي عدم العلة لا يمنع الوجود من وجه آخر أي لا يمنع وجود الحكم من طريق آخر فإنك لو قلت زيد ليس بموجود لأنه ليس في مكان كذا ولا في بلد كذا

وكذا لا يصح لأنه يحتمل أن يكون في مكان لا تعلمه

قوله إلا أن يقع الاختلاف استثناء من

قوله فلا يصلح حجة للإثبات وهو جواب عما يقال إنكم قد عللتم بالنفي في مواضع كثيرة مثل قول محمد رحمه اللّه في ولد الغصب أي المغصوب إنه ليس بمضمون لأنه أي الغاصب لم يغصب الولد ومثل

قوله فيما لا خمس فيه من اللؤلؤ لأنه لم يوجف عليه المسلمون فأشار إلى الجواب وقال إلا أن يقع الاختلاف في حكم سببه معين كما في ولد الغصب فإن الاختلاف واقع في أن ضمان الغصب هل يجب في زوائد المغصوب أم لا لا في مطلق الضمان فإن الضمان كما يجب بالغصب يجب بالإتلاف والبيع الفاسد وغيرهما وفي حكم الواو بمعنى أو يعني أو أن يقع الاختلاف في حكم ثبت دليله بالإجماع واحدا لا ثاني له مثل وجوب الخمس فإن سببه في الشرع واحد بالإجماع وهو الإيجاف بالخيل والركاب فحينئذ يصح الاستدلال

(٣/٥٤٢)

بعدم العلة على عدم الحكم لأن ذلك أي حكم سبب معين أو حكم سبب لا ثاني له لا يوجد بغير ذلك السبب فانتفاء ذلك السبب يدل على انتفاء الحكم ضرورة

وذكر القاضي الإمام رحمه اللّه أمثلة من هذا الجنس ثم قال إنما قالها محمد رحمه اللّه على سبيل الاستدلال دون التعليل والمقايسة لأن حكم العلة لا بد من أن ينعدم إذا عدمت العلة كما كان معدوما قبل العلة وإنما أتينا إضافة العدم إلى عدم العلة واجبا به وإذا بطلت الإضافة لم يكن علة وإنما يبقى الحكم مع عدم العلة لعلة أخرى فتكون مثل الأولى لا عينها في الوجوب والتعلق بها وإذا كان كذلك صح الاستدلال بعدم العلة على عدم الحكم إذا وقع الاختلاف في حكم علة بعينها فأما

قوله ليس بمال فكذا يعني ما ذكره الشافعي ليس من قبيل ما ذكره محمد رحمهما اللّه فإن قول الشافعي النكاح ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال تعليل بعدم الوصف لا استدلال لأن قبول شهادة النساء مع الرجال لم يثبت اختصاصه بالأموال في الشرع ليصح الاستدلال بعدم المال على عدم القبول وإذا كان تعليلا لا يمنع كونه غير مال قيام وصف له أثر في صحة إثباته بشهادة النساء مع الرجال

وهو أي ذلك الوصف أن النكاح وإن لم يكن مالا فهو من جنس ما لا يسقط بالشبهات يعني إذا طرأت عليه شبهة بعد ثبوته لا يسقط بها بل هو من جنس ما يثبت مع الشبهات يعني إذا كانت مقارنة له لا تمنعه من الانعقاد نحو نكاح الهازل ونكاح المكره والدليل عليه أنه يثبت بالشهادة على الشهادة وبكتاب القاضي إلى القاضي مع أن فيها زيادة شبهة يمكن الاحتراز عنها ولهذا لا يثبت بهما الحدود والقصاص فعرفنا أنه من جنس ما يثبت بالشبهات فصار فوق الأموال من هذا الوجه بدرجة يعني صار النكاح فوق الأموال من هذا الوجه بدرجة وهي أنه يثبت مع الشبهات والمال لا يثبت بها ألا ترى أن البيع لا يثبت مع الهزل وأن تفريق الصفقة في البيع مفسد للبيع حتى لو قبل البيع في أحد العبدين فيما إذا قال البائع بعت منك هذين العبدين بكذا لا يصح ولو قبل نكاح إحدى المرأتين صح وكذا لو جمع بين حر وقن وباعهما لا يصح البيع أصلا ولو جمع بين من يحل له نكاحها وبين من لا يحل وتزوجهما صح العقد في حق من يحل له نكاحه فيثبت أن النكاح فوق الأموال في ثبوته مع الشبهة دونها ولما ثبت المال بشهادة النساء مع الرجال مع أنه لا يثبت بالشبهة وإن لم يسقط بها فلأن يثبت النكاح الذي لا يؤثر الشبهة في ثبوته وسقوطه كان أولى وذكر في الأسرار في بيان ثبوت النكاح مع الشبهة وعدم سقوطه بها أن النكاح يثبت مع شرط أن لا مهر ومهر فاسد والبيع لا يصح معهما فكان أسهل جوازا

وكذا النكاح الفاسد يوجب بشبهة النكاح حتى لو دخل بها الناكح لم يجب عليهما الحد ثم لو تزوجها

(٣/٥٤٣)

رجل صح ولم يجعل شبهة نكاح الذي تزوج فاسدا مانعة من صحة هذا النكاح

وكذا النكاح الثابت لا يبطل بنكاح آخر وإن دخل بها ويثبت له شبهة النكاح حتى وجبت العدة عليها ولم يجب الحد وكذا لو اشترى المكاتب منكوحة مولاه لم يبطل النكاح وقد ثبت للمولى شبهة ملك في مال مكاتبه بل حق الملك حتى استولد أمة مكاتبة النسب ولم يوجب الحد ولو تزوجها ابتداء لم يصح لحق الملك فلما لم يبطل النكاح بحق الملك فبالشبهة أولى وكذا رجوع الشاهد بعد القضاء لا يبطل القضاء ولو كان من جنس ما يسقط بالشبهة لبطل القضاء به كما في الحدود فثبت أن النكاح يثبت مع الشبهة ولا يسقط بها

وكذلك في أخواتها يعني كما أن التعليل بالعدم في هذه المسألة لا يمنع من قيام وصف آخر يثبت الحكم به لا يمنع التعليل بالعدم في أخوات هذه المسألة وهي مسألة عتق الأخ وطلاق المبتوتة وإسلام المروي في المروي من قيام أوصاف آخر يثبت الحكم بها في تلك المسائل ففي مسألة عتق الأخ إن لم يوجد البعضية فقد وجدت القرابة التي صينت عن الاستدلال بأدنى الذلين وهو ذل ملك النكاح فيصان عن الاستدلال بأعلى الذلين بالطريق الأولى

وفي المبتوتة إن لم يوجد النكاح فقد وجدت العدة التي هي من آثاره وصحة الطلاق تستغني عن زوال ملك النكاح حكما له فإن صريح الطلاق بعد صريح الطلاق منعقد ولا أثر له في إزالة الملك فإن الأول قد انعقد لإزالة الملك فلا حاجة إلى انعقاد الثاني لها

وكذا لو طلقها طلاقا رجعيا يبقى النكاح منعقدا ولا يزيل الملك بحال فثبت أن زوال الملك ليس بحكم لازم من الطلاق بل حكمه اللازم إبطال حل المحلية إذا تم ثلثا وإذا كان كذلك أمكن إعماله في تفويت الحل وإبطاله بعد الإبانة فوجب القول بصحته إلا أنا شرطنا قيام العدة لأنه لا بد من ضرب ملك لنفاذ تصرفه عليها وذلك يحصل بالعدة تارة وبقيام النكاح أخرى فأيهما وجد ينفذ تصرفه عليها إليه أشير في الأسرار والطريقة البرغرية وفي إسلام المروي في المروي إن لم يوجد الطعم أو الثمنية فقد وجدت الجنسية التي هي أحد وصفي علة ربا الفضل وأنها تصلح بانفرادها علة لربا النسيئة كالوصف الآخر وهو الطعم عنده والكيل عندنا فإن من باع قفيز حنطة بقفيز شعير نسيئة لا يجوز بالاتفاق وقول الخصم الجنسية شرط وليست بأحد وصفي العلة فاسد لأن العلة تتميز من الشرط بالتأثير وقد ظهر تأثير الجنسية في إثبات التسوية على ما بينا فيكون من العلة

وكذا

قوله الجنسية بعض العلة فلا نثبت به الحكم فاسد أيضا لأنها بعض العلة في ربا الفضل فأما في

(٣/٥٤٤)

الربا النسيئة فهي جميع العلة استدلالا بالوصف الآخر فإنه كان بعض العلة في ربا الفضل وصار جميع العلة في ربا النسيئة فإن قيل فساد البيع لفوات القبض لا لربا النسيئة

قلنا هذا الكلام يهدم قاعدة الشريعة فإنه يؤدي إلى إنكار ربا النسيئة وأنه ثابت بالنصوص المشهورة حتى كان ابن عباس رضي اللّه عنهما يقول لا ربا إلا في النسيئة بل ربا النسيئة أثبت من ربا الفضل فإن الصحابة قد اتفقت عليه فكان ما يؤدي إلى إنكاره باطلا فصار حاصل هذا الفصل ما أشير إليه في الميزان أو التعليل بالنفي على وجهين

أحدهما أن يعلل لنفي الحكم بنفي وصف من أوصاف المنصوص عليه وهو فاسد لأنه يجوز أن يكون الحكم متعلقا بوصف آخر غيره وهو في الحقيقة تعليل بعلة قاصرة ويجوز أن يكون الحكم ثابتا بعلل

والثاني أن يكون الحكم ثابتا بعلة معينة ليست له علة أخرى كضمان الغصب لا يجب بدون الغصب وحد السرقة لا يجب بدون السرقة فكان نفي الحكم بنفي الغصب والسرقة نفيا صحيحا ألا ترى إلى قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الآية فإن التحريم لما كان لا يعرف إلا بالوحي انعدم عند عدمه

قوله

وأما الاحتجاج باستصحاب الحال إلى آخره الاستصحاب في اللغة طلب الصحبة ويقال استصحب الكتاب وغيره وكل شيء لازم شيئا فقد استصحبه وسمي هذا النوع استصحاب الحال لأن المستدل يجعل الحكم الثابت في الماضي مصاحبا للحال أو يجعل الحال مصاحبا لذلك الحكم وفي الشريعة هو الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على أنه كان ثابتا في الزمان الأول وقيل هو التمسك بالحكم الثابت في حال البقاء لعدم الدليل المغير وعبارة بعضهم هو الحكم ببقاء الحكم الثابت للجهل بالدليل المغير لا للعلم بالدليل المتقي وقال بعضهم هو عبارة عن الحكم ببقاء حكم ثابت بدليل غير متعرض لبقائه ولا لزواله محتمل للزوال بدليله لكنه التبس عليك حاله وهذه العبارات تؤدي معنى واحدا في التحقيق ثم لا خلاف أن استصحاب حكم عقلي وهو كل حكم عرف وجوبه وامتناعه وحسنه وقبحه بمجرد العقل أو استصحاب حكم شرعي ثبت تأبيده أو توقيته نصا أو ثبت مطلقا وبقي بعد وفاة النبي عليه السلام واجب العمل به لقيام دليل البقاء وعدم الدليل المزيل قطعا ولا خلاف أن استصحاب حكم ثبت بدليل مطلق غير معترض للزوال والبقاء ليس بحجة قبل الاجتهاد في طلب الدليل المزيل لا في حق غيره ولا في حق نفسه لأن جهله بالدليل المزيل بسبب تقصير منه لا يكون حجة على غيره ولا في

(٣/٥٤٥)

حق نفسه أيضا إذا كان متمكنا من الطلب إلا أن لا يكون متمكنا منه

فأما إذا كان الحكم ثابتا بدليل مطلق غير معترض للزوال وقد طلب المجتهد الدليل المزيل بقدر وسعه ولم يظهر فقد اختلف فيه فقال جماعة من أصحاب الشافعي مثل المزني والصيرفي وابن شريح وابن خيران إنه حجة ملزمة متبعة في الشرعيات وإليه مال الشيخ أبو منصور رحمه اللّه فإنه ذكر في مأخذ الشرائع أن هذا القسم يصلح حجة على الخصم في موضع النظر ويجب العمل به على كل مكلف إذا لم يجد دليلا فوقه من الكتاب والسنة ولا يجوز تركه بالقياس قبل الترجيح وتابعه في ذلك جماعة من مشايخ سمرقند وهو اختيار صاحب الميزان وقال كثير من أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي وأبو الحسين البصري وجماعة من المتكلمين إنه ليس بحجة أصلا لا لإثبات أمر لم يكن ولا لإبقاء ما كان على ما كان وقال أكثر المتأخرين من أصحابنا مثل القاضي الإمام أبي زيد والشيخين وصدر الإسلام أبي اليسر ومتابعيهم إنه لا يصلح حجة لإثبات حكم مبتدأ ولا للإلزام على الخصم بوجه ولكنه يصلح لإبلاء العذر وللدفع فيجب عليه العمل به في حق نفسه ولا يصح له الاحتجاج به على غيره

قوله

وذلك في كل حكم بيان الاستصحاب أي الاستصحاب أو الاحتجاج بالاستصحاب إنما يتحقق في كل حكم عرف وجوبه أي ثبوته بدليل ثم وقع الشك في زواله كان استصحاب حال البقاء على ذلك أي على ذلك الوجوب يعني كأن جعل حال البقاء مصاحبا للوجوب دليلا موجبا أي ملزما يصح الاحتجاج به على الخصم وعندنا هذا أي الاستصحاب لا يكون للإيجاب أي لا يصلح للإلزام لكنها حجة دافعة أي يدفع إلزام الغير واستحقاقه والضمير للاستصحاب وتأنيثه لتأنيث الخبر كقوله تعالى بل هي فتنة أو تأويل الحال أي لكن الحال حجة دافعة على ذلك دلت مسائلهم أي على ما قلنا من كون الاستصحاب موجبا عنده دافعا عندنا دلت مسائل الفريقين منها مسألة الصلح على الإنكار فإنه جائز عندنا ويصح الاعتياض عما ادعاه وعنده لا يجوز لأن الأصل في الذمة هو البراءة عن الحقوق لأنها خلقت فارغة والشغل بعارض والتمسك بالأصل حجة للدفع والإلزام عنده وكما يدفع التمسك بهذا الأصل الدعوى عن المدعى عليه يتعدى إلى المدعي في إبطال دعواه وصار كأنه أقام بينة على أن ذمته فارغة عن حق الغير ونحن جعلنا البراءة دافعة للدعوى ولم نجعلها حجة على المدعي بل صار

(٣/٥٤٦)

دعوى المدعي إلى أن المدعى حقي وملكي معارضا لإنكار المنكر على السواء فإنه خبر محتمل أيضا فكما لا يكون خبر المدعي حجة على المدعى عليه في إلزام التسليم إليه لكونه محتملا فكذلك خبر المدعى عليه لا يكون حجة على المدعي في إبطال دعواه وفساد الاعتياض بطريق الصلح ولهذا لو صالحه أجنبي على مال جاز بالاتفاق ولو ثبت براءة ذمته في حق المدعي بدليل كما ذكره الخصم لم يجز صلحه مع الأجنبي كما لو أقر أنه مبطل في دعواه ثم صالح مع أجنبي كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه وتقرير آخر أن قول المدعي معتبر في حقه دون خصمه وإنكار خصمه ليس بمعتبر في حق المدعي فكانا سواء في أنهما ليسا بحجتين في حق كل واحد منهما فجوزنا الصلح في حق المدعي اعتياضا عن حقه وفي حق المنكر افتداء باليمين وقطعا لخصومة عنه لأن خبر كل واحد منهما حجة في حق نفسه فلو لم يجز الصلح لكان قول المنكر حجة على المدعي ولا يقال لو جاز الصلح لجعل قول المدعي حجة في حق الخصم لأن الجواز في جانبه بجهة افتداء اليمين لا لأن الحق ثبت عليه ومنها مسألة الشفعة ما هي ما إذا بيع من الدار شقص وطلب الشريك الشفعة من المشتري فأنكر المشتري أن يكون ما في يد الشفيع من الدار ملك الشفيع بأن قال يدك ليست بيد ملك بل كانت يد إجارة وإعادة وأنكر الطالب أن يكون يده يد إجارة أو إعارة كان القول قول المشتري حتى أن الشفيع ما لم يقم بينة على أن ما في يده من الدار ملكه لا يستحق الشفعة عندنا لأنه يتمسك بالأصل فإن اليد دليل الملك في الظاهر وهو لا يصح حجة للإلزام وقال الشافعي رحمه اللّه أنه يستحق الشفعة يعني إن أقام بينة ملكه وأن يده يد ملك لأن التمسك بالأصل يصلح حجة للدفع والإلزام جميعا عنده

وإنما وضع المسألة في الشقص احترازا عن موضع الخلاف فإن الشفعة بالجواز ليست بثابتة عنده والشقص الجزء من الشيء والنصيب ومنها مسألة تعليق عتق العبد فإنه إذا قال لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر ثم اختلف بعد مضي اليوم فقال المولى قد دخلت وقال العبد لم أدخل كان القول قول

(٣/٥٤٧)

المولى عندنا حتى لا يعتق العبد لأن العبد متمسك بالأصل وهو عدم الوجود والتمسك به لا يصلح حجة للإلزام على الغير فلا يبطل به إنكار المولى عدم الدخول فيجعل كأن العبد أقام البينة على ذلك فيعتق ويكون القول

قوله لما ذكرنا أن الاستصحاب حجة دافعة لا ملزمة ثم استدل من جعله حجة على الإطلاق بالنص وهو

قوله عليه السلام إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول أحدثت أحدثت فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا حكم باستدامة الوضوء عند الاشتباه وهو عين الاستصحاب وبالإجماع وهو أنه إذا تيقن بالوضوء ثم شك في الحدث جاز له أداء الصلاة ولم يكن الوضوء ولو تيقن بالحدث ثم شك في الوضوء يبقى الحدث وكذا إذا تيقن بالنكاح ثم شك في الطلاق لا يزول النكاح بما حدث من الشك وهذا كله استصحاب

وبالدليل المعقول وهو أن الحكم إذا ثبت بدليل ولم يثبت له معارض قطعا ولا ظنا يبقى بذلك الدليل أيضا ألا ترى أن الحكم الثابت بالنص يبقى به أي بذلك بالنص بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى تعذر نسخه أي نسخ ذلك الحكم لبقاء النص الموجب له وبعد وفاته عليه السلام واستدل صاحب الميزان للشيخ أبي منصور رحمهما اللّه بأن الحكم حتى ثبت شرعا فالظاهر دوامه لما تعلق به من المصالح الدينية والدنيوية ولا يتغير المصلحة في زمان قريب وإنما تحتمل التغير عند تقادم العهد فمتى طلب المجتهد الدليل المزيل ولم يظفر به فالظاهر عدمه وهذا نوع اجتهاد وإذا كان البقاء ثابتا بالاجتهاد لا يترك باجتهاد مثله بلا ترجيح ويكون حجة على الخصم كمن تعلق بقياس صحيح فأنكر خصمه وعارضه بقياس لا رجحان له على الأول يجب أن يكون المنكر محجوجا به لأن ذلك حكم قد ثبت بقاؤه بالاجتهاد فلا يزول إلا بدليل يترجح على الأول وإن كان أوجب شبهة في الأول وهذا معنى قول الفقهاء أن ما أمضى بالاجتهاد لا ينتقض باجتهاد مثله ألا ترى أن الحكم المطلق في حال حياة النبي عليه السلام كان محتملا للنسخ ثم هو ثابت في حق من كان بعيدا عنه في حق وجوب العمل به والإلزام على الغير ودعوة الناس

(٣/٥٤٨)

في ذلك فعرفنا أن الاستصحاب حجة ملزمة كذا في الميزان وتمسك من لم يجعله حجة أصلا بالمستصحب ليس له دليل عقلي ولا شرعي على ثبوت الحكم في موضع الخلاف فإن العقل لا يدل على تغاير الحكم الشرعي بعد ثبوته

وكذا دلائل الشرع الكتاب والسنة والإجماع والقياس ولم يدل شيء منها بقاء الحكم بعد الثبوت فكان العمل بالاستصحاب عملا بلا دليل وكيف يجعل حجة لإبقاء ما كان على ما كان والبقاء لا يضاف إلى الدليل الموجب بل حكمه الثبوت لا غير ولأن التمسك بالاستصحاب يؤدي إلى التعارض في الأدلة فإن من استصحب حكما من صحة فعل له وسقوط فرض كان لخصمه أن يستصحب خلافه في مقابلته كما لو قيل إن المتيمم إذا رأى الماء قبل صلاته وجب عليه التوضؤ فكذلك إذا رآه بعد دخوله في الصلاة باستصحاب ذلك الوجوب أمكن أن يعارض بأن الإجماع قد انعقد على صحة شروعه في الصلاة وانعقاد الإحرام وقد وقع الاشتباه في بقائه بعد رؤية الماء في الصلاة فيحكم ببقائه بطريق الاستصحاب وما ادعى إلى مثل هذا كان باطلا

ولنا أن الدليل الموجب أي المثبت لحكم في الشرع لا يوجب بقاءه لأن حكمه الإثبات والبقاء غير الثبوت فلا يثبت به البقاء كالإيجاد لا يوجب البقاء لأن حكمه الوجود لا غير يعني لما كان الإيجاد علة للوجود لا للبقاء لم يثبت به البقاء حتى صح الإفناء بعد الإيجاد ولو كان الإيجاد موجبا للبقاء كما كان موجبا للوجوب لما تصور الإفناء بعد الإيجاد لاستحالة الفناء مع المبقي كما لم يتصور الزوال حالة الثبوت لاستحالة الجمع بين الوجود والعدم ولما صح الإفناء علم أن الإيجاد لا يوجب البقاء فكذا الحكم لما احتمل النسخ بعد الثبوت علم أن دليله لا يوجب البقاء لاستحالة الجمع بين المزيل والمثبت ألا ترى أنه لما كان موجبا لم يجز نسخ الحكم في حال ثبوته لأن رفع الشيء في حال ثبوته محال

وهذا أي ما قلنا إن الدليل الموجب لشيء لا يوجب بقاءه ثابت لأن ذلك أي البقاء ويعبر به عن الكون في الزمان الثاني بعد الكون في الزمان الأول بمنزلة أعراض تحدث فإن البقاء معنى وراء الباقي بدليل أن الشيء في أول أحواله يوصف بالوجود ولا يوصف بالبقاء فإنه صح أن يقال وجد ولم يبق فلو كان بقاؤه نفس وجوده لما انفك وجوده عن البقاء في الزمان الأول ولصح اتصافه في تلك الحالة بالبقاء

وإذا ثبت أنه معنى

(٣/٥٤٩)

آخر وراء الوجود ولا قياما له بنفسه حقيقة كسائر الصفات كان بمنزلة الأعراض التي تحدث في الشيء بعد وجوده من البياض والسواد والحركة والسكون فلم يصلح أن يكون وجود شيء علة لوجود غيره أي لم يصلح أن يكون نفس وجود شيء من غير انضمام دليل آخر إليه علة لوجود غيره من الأعراض التي تقوم به فلا يصلح نفس وجود الحكم علة لبقائه الذي هو غيره بمنزلة العرض القائم به فثبت أن الدليل الموجب للحكم لا يوجب بقاء فلا يكون البقاء ثابتا بدليل بل بناء على عدم العلم بالدليل المزيل مع الاحتمال وجوده فلا يصلح حجة على الغير لكنه لما بذل جهده في طلب المزيل ولم يظفر به جاز له العمل به إذ ليس في وسعه وراء ذلك جاز له العمل بالتحري عند الاشتباه ورأيت بخط شيخي رحمه اللّه قال الشافعي رحمه اللّه استصحاب حكم ثبت بدليله في الزمان الثاني لم يكن قولا بدليل لأن الموجب للوجود أو العدم أوجب البقاء

والحكم الشرعي مما يوصف بالبقاء عدميا كان أو وجوديا فيبقى موصوفا بالوصف الذي ثبت بدليله إلى أن يوجد المغير بخلاف الأعراض التي لا توصف بالبقاء لأنها لا تستغني عن العلة في كل ساعة ولحظة لحدوثها جزءا فجزءا فيحتاج إلى علة حسب حاجة الأول إليها

فالشيخ تعرض لإبطال هذا الكلام وقال البقاء بمنزلة أعراض تحدث بالترادف والتوالي فلا يستغنى عن الدليل وقد وقع الشك في الدليل المبقي فلا يكون حجة على الغير مع الشك فإن قيل لما كان البقاء أمرا حادثا سوى الثبوت لا بد له من دليل وسبب كالثبوت لا بد له من سبب فلا يستقيم أن يقال البقاء ثابت بلا دليل أو يضاف إلى عدم المزيل قلنا بقاء الموجود في الحقيقة ثابت بإبقاء اللّه تعالى إياه إلى زمان وجود المزيل كما أن الوجود ثابت بإيجاده إلا أن للوجود سببا ظاهرا يضاف إليه وليس للبقاء سبب ظاهر فقيل البقاء ثابت بلا دليل على معنى أنه لا يحتاج في الظاهر إلى سبب يضاف إليه لا على معنى أنه لا يحتاج إلى مبق أصلا وذلك أنه إذا ثبت موت إنسان أو بناء دار كان ابتداؤه مفتقرا إلى سبب ظاهر بعدما علمنا يقينا أنه ثابت بإيجاد اللّه تعالى على ما عرف في مسألة المتولدات فأما بقاؤه فلا يفتقر إلى سبب ظاهر بل يبقى بإبقاء اللّه تعالى إلى أن يوجد القاطع من غير سبب يضاف إليه فكذا الحكم الشرعي يفتقر في ابتداء ثبوته إلى دليل ولما ثبت بدليل يبقى بإبقاء اللّه تعالى إلى أن يوجد المزيل من غير دليل ظاهر يدل على بقائه ولما لم يحصل العلم بعدم المزيل لم يحصل العلم بالبقاء فكان البقاء ثابتا لعدم العلم بالمزيل لا للعلم بعدم المزيل فلم يصلح حجة على الغير

(٣/٥٥٠)

فإن قيل إن لم يحصل العلم بالبقاء فقد حصل الظن الغالب به فالاجتهاد في طلب المزيل وعدم الظفر به والدليل الظني حجة في الشرع كاليقيني فيصح الإلزام به على الغير كما يصح بالقياس قلنا لا نسلم أن كل ظن معتبر في الشرع بل المعتبر هو الدليل الظني الذي قام دليل قطعي على اعتباره مثل القياس وخبر الواحد ولم يقم هاهنا دليل قطعي ولا ظني على اعتباره فلا يصح الاحتجاج به على الغير كما لا يصح الاحتجاج بالظن الحاصل بالتحري على الغير

قوله ألا ترى توضيح لقوله الدليل الموجب لحكم لا يوجب بقاءه وإشارة إلى أن استصحاب العدم مثل استصحاب الوجود وذكر القاضي الإمام في التقويم أن الاحتجاج بالاستصحاب عمل بلا دليل وذكر مثال الاستصحاب في المعدوم والموجود ثم قال وهذا لأن ثبوت العدم لا يوجب بقاء ولا ينفي حدوث علة موجودة ولا ثبوت الوجود بعده يوجب بقاءه ولا ينفي قيام ما تقدم ألا ترى أن عدم الشراء منك لا يمنعك عن الشراء ولا يوجب أيضا دوام العدم بل يدوم لعدم الشراء منك للحال لا بحكم العدم فيما مضى وإذا اشتريت فهذا الشراء منك أوجب الملك ولا يوجب بقاءه وإنما يبقى بعدم ما يزيله ولا يمنع حدوث ما يزيله وحياة الإنسان بعلتها لا يوجب البقاء ولا تمنع طريان الموت وما في هذه الجملة إشكال فإذا أراد إثبات دوام الحالة الثانية في المستقبل بكونه ثابتا وهو لا يوجبه بل يبقى لاستغنائه عن الدليل في بقائه كان محتجا بلا دليل

وقوله ألا ترى أن الفسخ توضيح لقوله وهذا لا يشكل لما ذكرنا إشارة إلى

قوله الدليل الموجب لا يوجب البقاء ثم أجاب عما استدل الشافعي به من المسائل فقال

وأما فصل الطهارة والملك بالشراء وما أشبه ذلك وهي مسألة الشهادة فليس مما نحن بصدده بل هي من قبيل ما ثبت بقاؤه بدليل كدلائل الشرع بعد وفاة الرسول عليه السلام وذلك لأن حكم الشراء ملك مؤبد

وكذا حكم أخواته من النكاح والوضوء والحدث بدليل أنه لا يصح توقيت هذه الأحكام صريحا فإنه لو قال اشتريت إلى كذا أو توضأت إلى كذا أو قال اشتريت على أن يثبت الملك في سنة أو سنتين أو توضأت على أن يثبت الطهارة إلى وقت كذا أو

(٣/٥٥١)

تزوجت على أن يثبت الحل إلى مدة كذا لا يصح بل يفسد العقد أو الشرط ولو لم يكن هذه الأحكام مؤبدة وكان بقاؤها بالاستصحاب لجاز توقيتها كالحكم الثابت ابتداء بدليل شرعي في زمان الرسول عليه السلام وكسائر ما ثبت بقاؤه بالاستصحاب ألا إن هذه الأحكام مع كونها مؤبدة تحتمل السقوط بالمعارض على سبيل المناقضة يعني بمعارض يناقض الأول ويضاده كالفسخ للبيع والطلاق البات النكاح والحدث للطهارة فقبل وجود المعارض كان لها حكم التأبيد فكان بقاؤها بالدليل لا بالاستصحاب فيصلح حجة على الغير ثم الشيخ رحمه اللّه ذكر في محل النسخ أن الشراء يثبت به الملك دون البقاء

وذكر هاهنا أن الثابت بالشراء ملك مؤبد وهذا يقتضي أن الشراء يوجب البقاء كما يثبت أصل الملك وهذا يتراءى تناقضا والتقصي عنه أن المراد من

قوله الشراء يوجب الملك دون البقاء أنه يوجب الملك على وجه لا يحتمل أن يتخلف عنه لكنه يوجب البقاء على وجه يحتمل طروء انقطاع عليه فثبوت بقاء الملك بالشراء ليس كثبوت الملك به فإنه يحتمل الانتقاض وثبوت الملك لا يحتمله

ثم بين الشيخ مسألة تخرج على القولين فقال ولذلك أي ولأن الاستصحاب ليس بحجة ملزمة عندنا وهو ملزمة عنده قلنا في رجل أقر بحرية عبد يعني عبد الغير ثم اشتراه منه أنه أي العقد صحيح بالنسبة إلى البائع على اختلاف الأصلين حتى كان له ولاية مطالبة الثمن بالاتفاق أما عندنا فلما قلنا يعني في موضعه أو بينا في هذا الكتاب من حيث المعنى أن قول كل واحد من العاقدين لا يعدو قائله أي لا يتجاوزه أما البائع فلأنه في

قوله بعت هذا العبد مستصحب للملك السابق الثابت له بدليله فلا يصلح مبطلا لزعم المشتري أنه حر

وأما المشتري فلأن

قوله هو حر ليس بمبني على دليل كالاستصحاب فلا يتعدى إلى البائع ولا يصلح مبطلا لكلامه فلو لم يجز البيع لكان

قوله متعديا إلى البائع وذلك لا يجوز ولا يقال لو جاز البيع لزم أن يكون قول البائع أنه عبد متعديا إلى المشتري حيث نفذ البيع في حقه ووجب الثمن عليه لأنا نقول إنما يلزم ذلك لو جعل البيع منعقدا في حق المشتري وصار العبد ملكا له بهذا العقد ولم يجعل كذلك فإن العقد ليس بمنعقد في حق

(٣/٥٥٢)

المشتري بل هو في حقه فداء وتخليص للعبد لأن

قوله حجة في حق نفسه وإن لم يكن متعديا إلى البائع وهو بمنزلة الصلح على الإنكار فإن بدل الصلح فداء عن اليمين في حق المدعى عليه وعوض عن الحق في حق المدعي

ثم الولاء لا يثبت لأحد إن كان في زعمه أنه حر الأصل وإن كان يزعم أنه حر بإعتاق البائع فالولاء موقوف لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه فإن البائع يقول أنا ما أعتقته بل عتق بإقرار المشتري فله ولاؤه والمشتري يقول بل أعتقه البائع فالولاء له فيتوقف ولاؤه إلى أن يرجع

أحدهما إلى تصديق صاحبه فيكون الولاء له لأن الولاء لا يحتمل القبض بعد ثبوته ولا يبطل بالتكذيب أصلا ولكنه يبقى موقوفا فإذا صدقه ثبت منه كذا في المبسوط وعلى

قوله أي قول الشافعي قول البائع يعني

قوله بعت يرجع إلى ما عرف بدليله وهو الملك فإن الملك لما ثبت بدليله من الشراء أو الهبة أو الإرث أو نحوها يبقى بذلك الدليل فيصلح حجة على خصمه وهو المشتري فأما قول المشتري هو حر فليس يرجع إلى أصل عرف بدليله إذ ليس للمشتري دليل على ثبوت الحرية ليستصحبه بذلك الدليل فلم يكن حجة على خصمه وهو البائع وذكر في الوسيط للغزالي لو شهد بحرية عبد غيره وردت شهادته أو لم يشهد معه ثان فلم يحكم به ثم جاء واشتراه صحت المعاملة واختلفوا في حقيقته منهم من قال هو بيع من الطرفين فإن المشتري لما قال اشتريته منك كان مقرا له بالملك وهو رجوع عن الشهادة السابقة فقد توافق المتعاقدان على صحة البيع

ولا يظهر حكم الشهادة في مؤاخذة المشتري به بعده ومنهم من قال إنه مفاداة من الجانبين فإن البائع لما عرف أن العبد حر بعد الشراء كان ما يأخذه مال فداء ومنهم من قال هو بيع في حق البائع وفداء في حق المشتري وهو الصحيح نظرا في حق كل واحد إلى

قوله فلا يثبت للمشتري خيار المجلس والشرط بالاتفاق لأنه لا يشتريه ليملكه بل ليخلصه عن الرق فأما ثبوت الخيار للبائع فيبنى على ما ذكرناه إن قلنا هو فداء من الجانبين فلا خيار له أيضا وإن قلنا إنه بيع من الجانبين أو من جانب البائع ثبت له الخيار

قوله

وأما الاحتجاج بتعارض الأشباه فكذا الاستدلال بتعارض الاشتباه وهو إبقاء الحكم الأصلي في المتنازع فيه بناء على تعارض الأصلين اللذين يمكن إلحاقه بكل واحد منهما وهو فاسد لأنه في الحقيقة احتجاج بلا دليل وذلك مثل زفر في غسل

(٣/٥٥٣)

المرافق أنه ليس بفرض في الوضوء لأن اللّه تعالى جعل المرافق غاية لغسل الأيدي بقوله عز ذكره وأيديكم إلى المرافق ومن الغايات ما يدخل في المغيا كما في قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فإن المسجد داخل في الإسراء وكما في

قوله عليه السلام ليس فيما زاد على الخمس شيء إلى التسع وكما يقال حفظت القرآن من أوله إلى آخره ومنها ما لا يدخل كما في قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل

وقوله عز وجل فنظرة إلى ميسرة

ولهذه الغاية شبه بكل واحد من القسمين بدخول حرف الغاية عليها فلشبهها بالقسم الأول يدخل في المغيا ويجب الغسل ولشبهها بالقسم الثاني لا يجب وليس أحد الشبهين أولى من الآخر ولم يكن الغسل واجبا فلا يجب بالشك وهذا أي الاحتجاج بهذا الطريق عمل بغير دليل لأن ما ادعى من ثبوت الشك غير مسلم له لأنه أمر حادث فلا بد له من دليل ولم يوجد فإن قال دليله تعارض الأشباه قلنا إنه أمر حادث أيضا فلا يثبت إلا بدليل فإن قال دليله دخول بعض الغايات في المغيا وعدم دخول بعضها فيه كما بينا فحينئذ نقول له أتعلم أن هذا المتنازع فيه من أي القسمين أم لا فإن قال أعلم ذلك قلنا إذا لا يكون فيه شك لأن العلم مع الشك لا يجتمعان لتنافيهما بل يلحق بما هو من نوعه بدليله وإن قال لا أعلم فقد أقر بالجهل وأنه لا دليل معه ثم إن كان هذا مما يمكن الوقوف عليه بعد الطلب كان معذورا في الوقوف لكن عذره لا يصير حجة له على غيره ممن يزعم أنه قد ظهر عنده دليل إلحاقه بأحد النوعين فعرفنا أن حاصله احتجاج بلا دليل ولأن أكثر ما في الباب أن الأشباه متعارضة وأن تعارضها يحدث الشك لكن أثر الشك في التوقف وترك الميل إلى

أحدهما ما لم يقل دليل الترجيح ل

أحدهما

أما الحكم بنفي وجوب الغسل فلا هذا هو الترتيب المذكور في هذه المسألة في التقويم والميزان وغيرهما إلا أن الشيخ لم يذكر بعض المقدمات وجعل الاستفسار دليلا آخر وتقريره أن الشك أمر حادث فلا يثبت إلا بدليل لم يوجد ولئن سلمنا أنه ثابت بدليل وأن دليله انقسام الغايات إلى قسمين كما أشير إليه في

قوله من الغايات ما يدخل ومنها ما لا يدخل فلا يدخل بالشك يقال له القلم إلى آخره وذكر في بعض الشروح في

قوله الشك أمر حادث فلا يثبت بغير علة أن كل حادث يفتقر إلى السبب وما قاله زفر لا يصلح سببا للشك لأن ما دخل من الغايات في المغيا دخل بدليل

(٣/٥٥٤)

وما لم يدخل لم يدخل بدليل فلا يكون ذلك تعارضا في المرفق لأنه لم يجتمع دليل الدخول وعدم الدخول في نفس المرفق ومن شرط التعارض اتحاد المحل فلا يكون الدخول في محل وعدم الدخول في محل آخر تعارضا فيه فلا يصلح سببا للشك بخلاف سؤر الحمار لأن التعارض في الدليلين ثبت في نفس السؤر

أحدهما يوجب نجاسته والآخر يوجب طهارته فيصلح سببا للشك عند تعذر الترجيح كذلك هاهنا

قوله

وأما الذي لا يستقل أي الاحتجاج بالوصف الذي لا يستقل بنفسه في إثبات الحكم بل ينضم إليه وصف آخر يقع به الفرق بين المقيس والمقيس عليه باطل مثل قول بعض أصحاب الشافعي ممن لم يشم رائحة الفقه في مسألة مس الذكر إنه حدث لأنه مس الفرج فكان حدثا كما إذا مسه وهو يبول فهذا القياس لا يستقيم إلا بزيادة وصف في الأصل به يقع الفرق بين الفرع والأصل وبه يثبت الحكم في الأصل

وقوله لأنه مس الفرج متعلق بالبول ومعموله وهذا أي التعليل بمثل هذا الوصف ليس بتعليل لا ظاهرا لأنه ليس على موافقة تعليلات السلف ولا باطنا لأنه لا تأثير لمس الفرج في انتقاض الطهارة كما أشار إليه علي رضي اللّه عنه بقوله لا أبالي أمسست ذكري أم أنفي

وقيل لا ظاهرا أي لا قياسا جليا ولا باطنا أي لا قياسا خفيا يعني ليس هذا بقياس ولا استحسان ولا رجوعا إلى أصل أي مقيس عليه يعني هذا قياس بلا مقيس عليه لأنه لما جعل مس الذكر مقيسا وجعل مسه مع وصف آخر مقيسا عليه مع أن الفرق بهذا الوصف يقع بين الأصل والفرع باعتبار أنه علة تامة للانتقاض ولم يوجد في الفرع لم يعتبر انضمامه إليه فلم يبق إلا قياس مس الذكر على مس الذكر وذلك باطل لعدم الأصل الذي يلحق الفرع وكذلك قولهم أي ومثل قولهم في مس الذكر قولهم في عدم جواز إعتاق المكاتب الذي لم يؤد شيئا من بدل كتابته عن الكفارة هذا مكاتب فلا يصح التكفير بإعتاقه كما لو أدى بعض بدل الكتابة ثم أعتقه عنها لأن بهذا الوصف وهو أداء بعض البدل يقع الفرق بين الأصل والفرع لأن المستوفى من البدل يكون عوضا والعوض في الإعتاق مانع من جواز التكفير ولم يوجد هذا المانع في الفرع فلم يبق إلا

قوله لا يجوز التكفير بتحرير المكاتب لأنه مكاتب وهو دعوى بلا دليل فيكون باطلا

(٣/٥٥٥)

قوله

وأما الذي يكون مختلفا أي الاحتجاج بالوصف الذي يكون مختلفا فيه فكذلك إذا ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه عندنا سواء كانت القرابة قرابة ولاد أولم تكن وعند الشافعي رحمه اللّه يختص هذا الحكم بقرابة الولاد فلا يثبت العتق في بني الأعمام ومن في معناهم بالإجماع لعدم الولاد والمحرمية ويثبت في الوالدين والمولودين بالإجماع لوجود المعنيين وتثبت في الإخوة والأخوات ومن في معناهم عندنا لوجود القرابة المحرمة للنكاح ولا يثبت عنده لعدم الولاد ثم إنه إذا اشترى قريبه الذي يعتق عليه مثل الأب والابن ناويا عن الكفارة يصح ويخرج به عن عهدة الكفارة عندنا وعنده لا يصح التكفر به لما عرف في موضعه فإذا علل في أن الأخ لا يعتق على أخيه بالملك بأنه شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا يعتق بالملك كابن العم وعكسه الأب كان هذا تعليلا بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا لأن عتق القريب وإن كان مستحقا عند وجود الملك تتأدى به الكفارة عندنا كما إذا اشترى أباه بنية الكفارة فلا بد له من إقامة الدليل على أن حصول العتق في الملك صلة للقريب يمنع جواز الصرف إلى الكفارة ليمكنه الاستدلال بجواز الصرف إلى الكفارة على عدم وقوع العتق في الملك فقبل إقامة الدليل ومساعدة الخصم إياه في ذلك لم يكن هذا الوصف معتبرا فكان هذا تعليلا بلا وصف في الحقيقة فكان باطلا

وكذا تعليلهم لبطلان الكتابة الحالة بأنه أي هذا العقد عقد كتابة لا يمنع من التكفير فكان فاسدا كالكتابة بالخمر تعليل بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا لأن الكتابة لا يمنع جواز الإعتاق عن الكفارة عندنا حالة كانت أو مؤجلة فيلزم عليه إقامة الدليل على أن الكتابة الصحيحة يمنع جواز الإعتاق عن الكفارة ليصح له الاستدلال بجواز الإعتاق عن الكفارة على فساد الكتابة فقبل إقامة الدليل وإلزام الخصم كان الاستدلال به فاسدا وذكر وجه آخر في أن التكفير بإعتاق الأخ مختلف فيه وهو أن صحة التكفير بإعتاق الأخ عندنا ليس كما قاله الشافعي فإن عنده إنما يصح التكفير بإعتاق قصدي يتحقق بعد الملك كما في العبد الأجنبي إذ الأخ لا يعتق بالملك عنده وعندنا يصح التكفير بإعتاق مقارن للملك يثبت في ضمن الشراء بنية التكفير ولا مدخل للإعتاق القصد في حقه فكان هذا وصفا مختلفا فيه فلم يصح التعليل به على ما بينا

(٣/٥٥٦)

قوله

وأما الذي لا يشكل فساده أو لا يشك في فساده فمثل قولهم إن السبع إلى آخر ما ذكر في الكتاب ومثل

قوله من قال في منع إزالة النجاسة بغير الماء مائع لا يبنى على جنسه القنطرة ولا يصطاد فيه السمك فأشبه الدهن والمرق ومثل قول من قال في القهقهة اصطكاك أجرام علوية فلا ينتقض به الطهارة كالرعد ومثل

قوله من قال من أصحابنا في مس الذكر إنه مس آلة الحرث فأشبه مس الفدان وقال طويل مشقوق فمسه لا ينقض الوضوء كمس القلم

وفي قولهم إن السبع كذا إشارة إلى أنه لا بد من رعاية هذا العدد عند الإمكان حتى قالوا قراءة فاتحة ركن للمنفرد وللإمام وللقوم وعلى العاجز عن الفاتحة أن يقرأ سبع آيات من القرآن متوالية فإن لم يحسن شيئا من القرآن سبح وكبر وهلل بقدر الفاتحة كذا في المخض وهذا أي هذا النوع من التعليل مما لا يخفى فساده على من له أدنى فطانة فإنه لا مشابهة ولا مناسبة بين غسل أعضاء في الطهارة والقطع في القصاص أو السرقة ولا بين مدة المسح والقراءة ولا بين الطواف بالبيت وقراءة الفاتحة وكذا البواقي فضلا من أن يكون فيها معنى مؤثر ولم ينقل شيء من هذا الجنس عن السلف وإنما أحدثه بعض الجهال ممكن بعيدا عن طريق الفقهاء فالاشتغال بأمثاله هزل لعب بالدين قال صاحب القواطع بعد ذكر هذا النوع سائر أنواع الأقيسة الطردية الفاسدة وعندي أن الاشتغال بأمثال هذا تضييع الوقت العزيز وإهمال العمر النفيس ومثل هذه التعليلات لا يجوز أن يكون معتصم العباد والأحكام ولا مناط شرائع هذا الدين الرفيع بل هي صد للمبتدئين عن سبيل الرشد ومسالك الحق وقد كانت هذا الأنواع مسلوكا طريقها من قبل يجري النظار على سنتها ويناطحون عليها غير أن زماننا هذا قد غلب فيه معاني الفقه قد جرى الفقهاء فيه على مسلك واحد يطلبون الفقه المحض والحق الصريح وقد تناهت معاني الفقه إلى نهاية قاربت في الوضوح الدلائل العقلية التي يوردها المتكلمون في أصول الدين فالنزول عن تلك المعاني إلى مثل هذه الأنواع زلة في الدين وضلة في العقل واللّه العاصم بمنه

(٣/٥٥٧)

قوله

وأما الاحتجاج بلا دليل آخره اتفقوا على أنه لا يطلب الدليل ممن قال لا أعلم أن للّه حكما في هذه الحادثة لأن من جهل أمرا كان جاهلا بدليله فإذا أقر به كان طلب الدليل منه سفها فأما إذا اعتقد وقال أعلم أن حكم اللّه تعالى في هذه الحادثة من وجوب فعل أو تركه نحو أن يقول ليس على المجنون والصبي زكاة ويدعي ذلك مذهبا ويدعو غيره إليه فهل عليه دليل إذا طالب الخصم في المناظرة بدليل النفي أو هل يجوز له أن يعتقد نفي حكم شرعي بلا دليل في غير موضع المناظرة قال أصحاب الظاهر لا دليل على معتقد النفي لا في حق نفسه ولا عند مطالبة الخصم في المناظرة بل يكفيه التمسك بلا دليل وهو المراد من

قوله فقد جعله بعضهم حجة للنافي يعني ليس عليه إقامة دليل بل تمسكه بلا دليل حجة له على خصمه وقال أهل العلم يجب على النافي إقامة الدليل في العقليات دون الشرعيات وقال بعضهم لا دليل حجة دافعة لا موجبة

والذي دل عليه مسائل الشافعي أنه حجة لإبقاء ما ثبت بدليله لا لإثبات ما لم يعلم ثبوته بدليله هكذا ذكر في التقويم وأصول شمس الأئمة وأنكر صاحب القواطع هذا مذهبا للشافعي فقال والذي ادعاه القاضي أبو زيد على الشافعي من مذهبه فيما قاله لا ندري كيف وقع له ذلك والمنقول من الأصحاب ما بينا أن النافي يجب عليه الدليل مثل المثبت وعندنا لا دليل لا يكون حجة لأحد الخصمين على الآخر في الدفع ولا في الإيجاب لا في الإبقاء في الإثبات ابتداء وهو قول الجمهور فإنه ذكر في الميزان أنه يجب على النافي الدليل عند العامة كما يجب على المثبت ولا يجوز أن يعتقد الإنسان نفي حكم ولا أن يناظر غيره فيه ويدعوه إلى معتقده إلا بدليل تمسك الفريق الأول بالنص وهو قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم الآية فإنه تعالى علم نبيه عليه السلام الاحتجاج بلا دليل لانتفاء الحرمة عن غير الأشياء المذكورة في هذه الآية وبالمعقول وهو أن النافي متمسك بالظاهر إذ الأصل عدم ثبوت الأحكام فلا يجب عليه الدليل لأن المعتاد المعروف من أحوال الشرع أن إقامة الحجة على من يدعي أمرا عارضا لا على من تمسك بالظاهر فإن من تمسك بعام أو بحقيقة لا يحتاج إلى إقامة الدليل على أنه على عمومه أو حقيقته لأن الأصل في صيغة العام هو العموم وفي الكلام هو الحقيقة بل الدليل على من يدعي الخصوص أو المجاز

وكذا القول في الدعوى قول المنكر وإقامة البينة على المدعي لأن المنكر وهو المتمسك بالأصل بالظاهر والمدعي يدعي أمرا عارضا فكذا النافي متمسك بالظاهر فلا يجب عليه الدليل بخلاف المثبت فإنه يدعي أمرا عارضا فلا بد له من إقامه الدليل عليه يوضحه أن أقوى الخصومات الخصومة في النبوة والنبي عليه السلام كان مثبتا والقوم نفاة وكانوا لا يطالبون بحجة سوى أن لا

(٣/٥٥٨)

دليل على النبوة

ولا معنى قولنا لا دليل على النافي لا دليل على المتمسك بالعدم لأن العدم ليس بشيء والدليل يحتاج إليه لشيء وهو مدلول عليه فإذا لم يكن العدم شيئا لم يحتج المتمسك به إلى دليل يدل عليه وتمسك من فرق بين العقليات والشرعيات بأن مدعي النفي والإثبات في العقليات يدعي حقيقة الوجود أو العدم فيطالب بالدليل فأما في الشرعيات فمدعي الإثبات يدعي حكما شرعيا من الوجوب أو الإباحة أو الندب أو نحوها فيطالب بالدليل لكن النافي ينكر وجوده ويدعي انتفاءه وليس ذلك بحكم شرعي فلا يطالب بالدليل واحتج الفريق الثالث بأن العدم حجة على من ليس عنده دليل الوجود والخصم إذا ادعى دليل الوجود لا يكون العدم حجة عليه لأن العدم احتمال التغيير بدليله وهو مدعيه وقول الآخر عندي دليله محتمل يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون فلا يكون حجة على الخصم فبقي كل واحد منهما محتملا فجعل حجة في حق نفسه دون صاحبه ووجه قول الشافعي أن لا دليل ليس بحجة إلا أن العدم إذا كان ثابتا بدليل يبقى إلى أن يوجد المغير لأن دليل العدم يوجب بقاء العدم إلى أن يعتريه الزوال فكان

قوله لا دليل احتجاجا بذلك الدليل وذلك الدليل حجة على خصمه فأما إذا لم يستند إلى دليل فلم يبق إلا الاحتجاج بقوله لا دليل

وهو ليس بحجة وحجة الجمهور النص وهو قوله تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم أخبر عن اليهود الذين نفوا دخول المسلمين الجنة وأثبتوا دخول اليهود والنصارى فيها ثم أمر نبيه عليه السلام بطلب الحجة والبرهان على النفي والإثبات جميعا فثبت أنه لا بد للنفي من الحجة وبالمعقول وهو أن نفي كون الشيء حلالا أو حراما أو واجبا أو مندوبا من أحكام الشرع كالإثبات فإن انتفاء وجوب صوم شوال وصلاة الضحى من أحكام الشرع كوجوب رمضان وصلاة الظهر وانتفاء الحل عن الخمر حكم الشرع كثبوت الحل في الخل والأحكام لا يثبت إلا بأدلتها فمن ادعى في شيء من الأشياء حكما من إثبات أو نفي فعليه إقامة الدليل ولا دليل لا يصلح أن يكون دليلا لأنه نفي للدليل ونفي الشيء لا يحتمل أن تكون إثبات ذلك الشيء كقول الإنسان لا بيع ليس ببيع ولا زيد ليس بزيد فكان التمسك بالنفي تمسكا بعدم الدليل وعدم الدليل لا يكون دليلا فإن قيل

قوله لا دليل نفي للدليل المثبت فيكون انتفاؤه دليلا على النفي ضرورة لأنه لا واسطة بين النفي والإثبات قلنا إنما يكون دليلا إذا كان النافي ممن له علم بجميع

(٣/٥٥٩)

الأدلة فأما ممن لا علم له بذلك فهو جهل بالدليل لا علم بانتفاء الدليل فلا يكون حجة على الغير والتحقيق فيه أنه يقال للنافي ما ادعيت نفيه عرفت انتفاه بيقين أو أنت شاك فيه فإن أقر بالشك فلا تطالب بالدليل لأنه معترف بالجهل على ما قلنا

وإن قال أتيقن بالنفي فيقال بعينك هذا حصل عن ضرورة أو غيرها ولا يمكنه أن يقول عن ضرورة لأنه لو كان عن ضرورة لشاركه جميع العقلاء فيه لعدم اختصاص الضروريات بأحد ولم يحصل لنا العلم بانتفائه ضرورة ولما لم يعرفه عن ضرورة لا يخلو من أن يدعي المعرفة عن تقليد أو نظر واستدلال والتعليل لا يفيد العلم فإن الخطأ جائز على المقلد والمقلد معترف بعمى نفسه وإنما يدعي البصيرة لغيره وإن ادعى المعرفة عن نظر واستدلال فقد أقر أنه نفي الحكم بدليل فلا بد من بيانه قال الغزالي رحمه اللّه ويلزم على إسقاط الدليل عن النافي أمران شنيعان

أحدهما أن لا يجب الدليل على نافي حدث العالم ونافي الصانع ونافي النبوات ونافي تحريم الزنا والخمر والميتة ونكاح المحارم وهو محال

والثاني أن الدليل إذا سقط عن هؤلاء لم يعجز أن يعبر المثبت عن مقصود إثباته بالنفي فيقول بدل

قوله محدث إنه ليس بقديم وبدل

قوله قادر إنه ليس بعاجز وما يجري مجراه

قوله

ولا يلزم ما ذكر محمد يعني لا يلزم على ما ذكرنا من بطلان الاحتجاج بلا دليل ما ذكر محمد في كتاب الزكاة حاكيا عن أبي حنيفة رحمهما اللّه لا خمس في العنبر لأن الأثر لم يرد به فإنه تمسك بلا دليل لنفي الخمس

وقوله لأنه ذكر جواب السؤال أي لم يكتف على هذا القدر بل ذكر أيضا أنه بمنزلة السمك حيث قال حاكيا عنه لا خمس في العنبر قلت لم قال لأنه بمنزلة السمك قلت وما بال السمك لا يجب فيه الخمس قال لأنه بمنزلة الماء

وهذا إشارة إلى قياس مؤثر لأنا أخذنا خمس المعادن من خمس الغنائم وإنما نوجب الخمس فيما يصاب من المعادن إذا كان أصله في يد العدو ثم وقع في أيدي المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فيكون في معنى الغنيمة والمستخرج من البحر

(٣/٥٦٠)

لم يكن في يد العدو لأن قهر الماء يمنع قهر آخر على ذلك الموضع فكان القياس نافيا وجوب الخمس فيه ولم يرد أثر بخلاف القياس يعمل به ويترك به القياس فوجب العمل بالقياس فكان ما ذكره إشارة إلى العمل بالقياس لا احتجاجا بلا دليل ثم أقام الشيخ دليلا آخر وأجاب عن تمسك الفريق الأول بالنص فقال ولأن الناس يتفاوتون في العلم بالأدلة ومعرفة الحجج تفاوتا لا سبيل إلى إنكاره لأنه شبه المحسوس لمن يرجع إلى أحوال فإن بعضهم يقف على ما لا يقف عليه البعض وإليه أشار اللّه عز وجل في

قوله وفوق كل ذي علم عليم فمع هذا التفاوت واحتمال قصور النافي عن غيره في درك الدليل لا يكون تمسكه بلا دليل حجة على الغير ولهذا أي ولأن فساد الاحتجاج بلا دليل لاحتمال القصور عن الغير في درك الأدلة صح هذا النوع أي الاحتجاج بلا دليل من صاحب الشرع لأن علمه محيط بالأدلة الشرعية لأنه هو الشارع للأحكام والواضع للدلائل فكانت شهادته بالعدم دليلا قاطعا على العدم ومن شرع في العمل أي احتج بلا دليل وفتح بابه اضطر إلى التقليد الذي هو باطل لأنه يحتج به لعدم المعرفة بالموجب لا لحصول المعرفة بالنفي عن سبب ولما لم يحصل معرفته بالنفي عن صورة ولا عن نظر واستدلال لما بينا كانت حاصلة بالتقليد أو ليس بعد الاستدلال شيء سوى التقليد ويجوز أن يكون معناه ومن شرع أي جوز العمل بلا دليل

اضطر إلى التقليد أي إلى القول بجواز التقليد لأنه من أقسام العمل بلا دليل والتقليد باطل لأنه اتباع الرجل غيره على ما يسمعه ويراه بفعله على تقدير أنه محق بلا نظر واستدلال وتأمل وتمييز بين كونه حقا أو باطلا على احتمال كونه حقا وباطلا كذا في التقويم ولا شك أنه بهذا التفسير باطل وليس بحجة لأنه فعل غيره

وقوله محتمل للصواب والخطأ والمحتمل لا يصلح دليلا وحجة ولهذا رد اللّه تعالى على الكفرة احتجاجهم باتباع الآباء بنفس الرؤية والسماع من غير نظر واستدلال وليس اتباع الأمة صاحب الوحي ولا رجوع العامي إلى قول المفتي ولا القاضي إلى قول العدول من هذا القبيل لأن التمييز بين النبي وغيره لا يقع إلا بالاستدلال وقيام المعجزة فوجب تصديقه

وكذا وجب قبول الإجماع بقول الرسول ووجب قبول المفتي والشاهدين بالنص والإجماع فلم يكن هذا تقليدا لأن شرطه عدم الحجة وقد قامت الحجة وتبين بما ذكرنا أن تمسكهم بأن لا دليل على المدعى عليه لأنه ناف وإنما الدليل

(٣/٥٦١)

على المدعي لأنه مثبت ليس بشيء فإن الشرع أوجب اليمين على المنكر كما أوجب البينة على المدعي إلا أنه جعل البينة حجة المدعي واليمين حجة المدعى عليه لأنه لا سبيل إلى إقامة الدليل على النفي بل يستحيل فلم يكلف المدعى عليه إقامة الحجة على ما يستحيل إقامتها عليه وأوجب عليه أن يعضد جانبه باليمين كما ألزم المدعي أن ينور دعواه بالحجة وقولهم النفي ليس بحكم شرعي فلا يطلب عليه دليل فاسد أيضا لأن قبل ورود الشرع لا حكم في حقنا نفيا ولا إثباتا ولكن بعد ورود الشرع يثبت الوجوب في حق البعض والانتفاء في حق البعض والإباحة في حق البعض والحرمة في حق البعض

وقد ورد الشرع بالنفي نصا في بعض المواضع مثل

قوله عليه السلام لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول لا صدقة إلا عن ظهر غنى لا زكاة في العلوفة ليس في النخة ولا في الجبهة ولا في الكسعة صدقة وإذا كان النفي حكم الشرع لا يثبت من غير دليل كذا في الميزان

وأما نفي الكفار نبوة الرسول عليه السلام وقولهم لا دليل على ثبوته فلم يكن لهم حجة عليه بوجه ولكن كان ذلك إظهارا منهم لجهلهم وكان على الرسول عليه السلام إزالة ذلك الجهل عنهم بإظهار المعجزات الدالة على ثبوته

وإذا عرف معنى القياس وشرطه وركنه لا بد من معرفة حكمه فشرع في بيانه وقال

(٣/٥٦٢)

باب حكم العلة أي القياس وأشار بقوله فأما إلى تعلقه بما تقدم يعني قد مر بيان الشرط والركن فأما الحكم الثابت بتعليل النصوص يعني بالقياس فتعدية حكم النص إلى ما لا نص فيه وزاد القاضي الإمام ولا إجماع ولا دليل فوق الرأي وإنما قال الحكم الثابت بالتعليل كذا ولم يقل حكم القياس كذا لأنه لا خلاف أن حكم القياس التعدية وإنما الخلاف في التعليل فعندنا القياس والتعليل واحد وعنده التعليل أعم من القياس على ما سنبينه فإن قيل إنه قد جعل التعدية من شروط القياس بقوله وأن يتعدى الحكم الثابت إلى آخره وذلك يقتضي أن يتوقف القياس عليها وأن تكون مقدمة على القياس وجعلها هاهنا حكم القياس وذلك يوجب تأخره عنه ووجودها به

وبين الأمرين تناف إذ يستحيل ثبوتها بالقياس وتوقف القياس عليها قلنا المراد من كون التعدية شرط القياس اشتراط كونها حكما له يعني يشترط أن يكون التعدية حكمه لا غير ليكون صحيحا في نفسه لا أن يكون حقيقة وجود التعدية شرطا له بمنزلة الشهود للنكاح والطهارة للصلاة إذ لا تصور لوجود التعدية قبل القياس ولو وجدت التعدية قبله لما احتيج إلى القياس لحصول المقصود بدونه فكان تصور وقوع القياس موجبا للتعدية شرط صحته وهو موجود قبل القياس فيصلح شرطنا

ويمكن أن يجاب بأن المراد من كون التعدية شرط القياس أنها شرط للعلم لصحة القياس لا شرط نفس القياس والعلم بصحته موقوف على وجودها بخلاف الشهادة فإنها شرط لوجود النكاح شرعا

وكذا الطهارة للصلاة وقد ذكرنا يعني في باب شروط القياس أن التعدية حكم لازم للتعليل عندنا حتى لو لم يفد التعليل تعدية كان فاسدا فيكون التعليل والقياس عبارتين عن معنى واحد جائز عند الشافعي يعني يجوز عنده أن يفيد

(٣/٥٦٣)

التعليل التعدية إلى الفرع وحينئذ يكون قياسا ويجوز أن لا يفيد تعدية ويكون مقتصرا على محل النص فكان حكم التعليل عنده تعلق حكم النص بالوصف الذي تبين علة والتعدية من ثمراته

وهذا بناء عن أن الحكم في محل النص ثابت بالعلة عنده كما في الفرع والنص معرف لثبوت الحكم بها لأن الحكم لو لم يكن مضافا إلى العلة في محل النص لم يمكن إثباته في الفرع بتلك العلة وإذا كان كذلك كان التعليل بدون التعدية صحيحا لإفادته ظهور تعلق الحكم بالوصف الذي جعل علة كما في العلة العقلية والعلة المنصوصة فإن الأسباب الموجبة الحدود والكفارات جعلت أسبابا شرعا ليتعلق الحكم بها من غير اعتبار تعدية وعندنا الحكم في محل النص ثابت بالنص دون العلة لأن في إضافته إلى العلة في محل النص إبطال عمل النص بالتعليل وإسناد الحكم إلى الدليل الأضعف مع وجود الدليل الأقوى وإذا كان كذلك لم يفد التعليل بدون التعدية وكان لغوا على ما مر بيانه

قوله وإذا ثبت ذلك أي أن حكم التعليل التعدية قلنا إن جملة ما يعلل له أي جميع ما يقع التعليل لأجله ويتكلم القائسون فيه بالتعليل أربعة أقسام

الأول إثبات الموجب أو وصفه

والثاني إثبات الشروط ووصفه والثالث إثبات الحكم أو وصفه والرابع هو تعدية حكم معلوم بسببه وشرطه بأوصاف معلومة الباء الأولى يتعلق بمحذوف والثانية بمعلوم أي تعدية حكم ثابت بسببه وشرطه معلوم بأوصافه ويجوز أن تكون الباء الثانية مع معمولها في محل الحال ويصلح الحكم ذا الحال باعتبار الوصف أي تعدية حكم معلوم ثابت بسببه وشرطه ملتبسا بأوصاف معلومة

وعبارة شمس الأئمة في بيان القسم الرابع والحكم المتفق على كونه مشروعا معلوما بصفته أهو مقصور على المحل الذي ورد فيه النص أم تعدى إلى غيره من المحال الذي يماثله بالتعليل والتعليل للأقسام الأول باطل لا خلاف بين الفقهاء أن إثبات سبب أو شرط أو حكم بالرأي ابتداء من غير أن يكون له أصل يرد إليه باطل ولا خلاف أن إثبات الحكم بطريق التعدية من أصل فرع بالشرائط المعروفة صحيح واختلفوا في إثبات الأسباب والشروط بطريق التعدية بأن ثبت سبب أو شرط لحكم بالنص أو الإجماع هل يجوز أن يتعدى السببية أو الشرطية إلى شيء آخر بمعنى جامع ليصير ذلك الشيء سببا أو شرطا لذلك الحكم فذهب بعض المحققين من أصحاب الشافعي إلى أنه لا يجوز وأظنه مذهبا لعامة أصحابنا وذهب عامة الأصوليين إلى أنه يجوز وهو مختار بعض أصحابنا منهم صاحب الميزان وهو مذهب

(٣/٥٦٤)

الشيخ المصنف رحمه اللّه فإنه ذكر في آخر الباب وإنما أنكرنا هذه الجملة إذا لم يوجد له في الشريعة أصل يصح تعليله فأما إذا وجد فلا بأس به فتبين بما ذكرنا أن المراد من

قوله والتعليل للأقسام الأول باطل التعليل لإثباتها ابتداء لا التعليل بطريق التعدية وإنما بطل التعليل لإثباتها ابتداء لأن حكم التعليل إما التعدية كما هو مذهبنا أو تعلق حكم النص بالعلة كما هو مذهب من خالفنا ولا تصور للتعدية في إثبات هذه الأقسام بالرأي ابتداء ولا لتعلق حكم النص بالعلة فيما لا نص فيه فبطل التعليل لفوات حكمه

ولما ذكر في الكتاب وهو أن التعليل شرع مدركا لأحكام الشرع على ما قلنا يعني في أول باب القياس لا للإثبات ابتداء وفي إثبات الموجب وصفته أي أو صفته ابتداء إثبات الشرع بالرأي أما في إثبات الموجب فظاهر

وأما في إثبات صفته فلأن الموجب لما لم يعلم بدون صفته كان إثباتها بالتعليل بمنزلة إثبات أصل السبب به فكان ذلك نصب شرع بالرأي أيضا وليس إلى العباد نصب الشرع بل لهم مباشرة الأسباب المشروعة وفي إثبات الشرط وصفته ابتداء إبطال الحكم ورفعه لأن الحكم كان ثابتا قبل الشرط وبعدما شرط له شرط كان متعلقا به ومعدوما قبل وجوده فكان إثبات الشرط بالتعليل ابتداء رفعا للحكم الثابت ونسخا له

وكذا التعليل لإثبات وصف الشرط لأن الوصف بمنزلة الشرط يتوقف الحكم عليه كما يتوقف على الشرط فيكون إثبات الوصف رفعا للحكم كإثبات أصل الشرط

وقوله ونصب أحكام الشرع بالرأي باطل وكذلك رفعها دليل القسم الثالث أي التعليل لإثبات الحكم أو وصفه ابتداء باطل أيضا لأنه نصب الشرع ابتداء وليس ذلك إلى العباد ويجوز أن يكون من تتمة الكلام السابق يعني إثبات الأسباب نصب لأحكام الشرع وإثبات الشروط رفع لها ولا يجوز نصب أحكام الشرع ولا رفعها بالرأي بالإجماع فلا يجوز إثبات الأسباب والشروط به أيضا

وقد اندرج فيه دليل القسم الثالث وبطلان التعليل لنفيها أي لنفي هذه الأقسام أيضا كما بطل لإثباتها لأن من نفاها لا يخلو من أن ينكر ثبوتها أصلا أو أن يدعي رفعها بعد الثبوت فإن أنكر ثبوتها بأن قال هي لم تشرع أصلا فلا يمكنه إثباته بالتعليل لأن ما ليس بمشروع لا يمكن إثباته بالدليل الشرعي وإن ادعى رفعها بعد الثبوت وكذلك النسخ بالتعليل لا يجوز أيضا

ولم يذكر الشيخ هذا الشق لأنه مندرج في

قوله وكذلك رفعها ووجه قول من جوز إثبات الأسباب والشروط بطريق

(٣/٥٦٥)

التعدية أعني بالقياس أن حكم الشرع نوعان

أحدهما نفس الحكم

والثاني نصب أسباب الحكم فإن للّه تعالى في إيجاب الرجم والقطع على الزاني والسارق حكمان

أحدهما إيجاب الرجم والقطع والآخر نصب الزنا والسرقة سببا لوجوب الرجم والقطع فيجوز لنا إذا علقنا المعنى في السبب ووجدناه موجودا في غيره أن يجعل ذلك الغير سببا أيضا كما جاز ذلك في نفس الحكم مثل أن يقول إنما نصب الزنا سببا لوجوب الرجم لعلة كذا وتلك العلة موجودة في اللواطة فنجعلها سببا وإن كان لا يسمى زنا وهذا لأن القياس ليس إلا إثبات ما ثبت في الأصل بالمعنى الذي ثبت في الأصل في فرع هو نظيره وهذا يتحقق في الأسباب والشروط كما يتحقق في الأحكام لأن المعنى الذي تعلقت السببية أو الشرطية به يمكن معرفة كالمعنى الذي تعلق الحكم به فيجري القياس في الجميع قال صاحب الميزان ولا معنى لقول من يقول إن القياس حجة في الفصل الأخير دون الفصول الأخر لأنه إن أراد به معرفة علة الحكم بالرأي والاجتهاد فذلك جائز في الجميع لأن المعرفة لا تختلف

وإن أراد به أن الجمع بين الأصل والفرع لا يتصور إلا في الفصل الأخير فهو ممنوع أيضا لأنه يتصور في جميع الفصول وإن أراد به أن القياس لا يثبت به شيء فهو مسلم ولكن في الفصول الثلاثة الأول لا يثبت به شيء كما في الفصل الأخير بل يعرف به الحكم وتمسك من أنكر جريان القياس في الأسباب والشروط أصلا بأنه لا بد للقياس من معنى جامع بين الأصل والفرع فإذا قسنا اللواطة على الزنا مثلا في كونها سببا للحد لا بد من أن يقول الزنا سبب للحد بوصف مشترك بينه وبين اللواطة ليمكن جعل اللواطة سببا أيضا وحينئذ يكون الموجب للحد في ذلك المعنى المشترك ويخرج الزنا واللواطة عن كونهما موجبين له لأن الحكم لما استندا أن المعنى المشترك استحال مع ذلك استناده إلى خصوصية في كل واحد منهما ويلزم منه بطلان القياس لأن شرط القياس بقاء حكم الأصل والقياس في الأسباب والشروط ينافي في بقاء حكم الأصل بخلاف القياس في الأحكام فثبوت الحكم في الأصل لا ينافي كونه معللا بالمعنى المشترك بينه وبين الفرع فإن قيل الجامع بين الوصفين لا يكون له تأثير في حكم بل تأثيره في علية الوصفين

وأما الحكم فإنما يحصل من الوصفين قلنا هذا فاسد لأن ما يصلح لعلية العلة كان صالحا لعلية الحكم فلا حاجة حينئذ إلى الواسطة

قوله فأما تفسير القسم الأول أي بيان مثاله فمثل قولهم أي اختلافهم يعني

(٣/٥٦٦)

اختلاف الفقهاء في أن الجنس بانفراده هل يحرم النسيئة أو لا هذا خلاف أي اختلاف وقع في الموجب للحكم فلم يصح إثباته أي إثبات كون الجنس موجبا للحكم بالرأي لأنا لا نجد أصلا نقيسه عليه ولا نفيه بالرأي أيضا لأن من ينفي إنما يتمسك بالعدم الذي هو أصل فعليه الاشتغال بإفساد دليل خصمه لأنه متى ثبت أن ما ادعاه الخصم دليل صحيح لا يبقى له حق التمسك بعدم الدليل أما الاشتغال بالتعليل ليثبت العدم به فظاهر الفساد إنما يجب الكلام فيه أي في الموجب أو في أن الجنس بانفراده يحرم النسيئة بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه لأنه الثابت بالنص فقلنا في مسألة الجنس كذا يعني أثبتنا سببه الجنس بالاستدلال لا بالتعليل فإنا وجدنا الفضل الذي لا يقابله عوض في عقد المعاوضة محرما بما ذكرنا من العلة وهي القدر والجنس يعني ثبت حرمة الفضل الخالي عن العوض بالنص وهو

قوله عليه السلام والفضل ربا وبالإجماع فإن من باع عبدا بجارية بشرط أن يسلم المشتري إليه ثوابا لا يقابله شيء من العوض لا يجوز لأنه فضل مال خال عن العوض في عقد المعاوضة وثبت بإشارة النص أن علة حرمة هذا الفضل القدر والجنس على ما هو بيانه في باب القياس ووجدنا أن هذا الحكم أي تحريم الفضل حكما يستوي شبهته بحقيقته بالخبر وهو ما روي أن النبي عليه السلام نهى عن الربا أو الريبة أي عن الفضل الخالي عن العوض وشبهته

وبالإجماع فإنهم اتفقوا على أن من باع صبرة حنطة بصبرة حنطة وغالب رأيهما أنهما شيئان لا يجوز لاحتمال الفضل ولو لم تكن الشبهة ملحقة بالحقيقة لجاز البيع لعدم تحقق الفضل الحقيقي الذي هو المانع من الصحة وقد وجدنا في النسيئة شبهة الفضل وهي الحلول فإن النقد خير من النسيئة وهو يشبه المال لأنه صفة مرغوب فيها ولهذا ينقص الثمن إذا كان حالا ويزاد إذا كان نسيئة بمنزلة الجودة فإن الثمن ينقص عند وجود الجودة ويزاد عند فواتها

ولا يقال هذا فضل من حيث الوصف فينبغي أن يجعل عفوا كالفضل من حيث الجودة لأنا نقول إنما سقط في الشرع اعتبار التفاوت من حيث الوصف فيما ثبت بصنع اللّه تعالى دفعا للحرج فإن الاحتراز يتعذر عنه فأما ما حصل بصنع العباد فمعتبر وإن كان فيه حرج لأن الاحتراز عنه ممكن ألا ترى أن من نذر أن يحج مائة حجة لزمته وإن كان فيه حرج والشرع ما أوجب إلا

(٣/٥٦٧)

حجة تيسيرا وأقرب مما ذكرنا الحنطة المقلية بغير المقلية فإن فيهما تفاوتا من حيث الصفة لكن لما كان بصنع العباد كان معتبرا حتى لم يجز بيع أحديهما بالأخرى والحنطة العلكة بغير العلكة فإن فيهما تفاوتا أيضا لكن لما كان بخلق اللّه تعالى جعل عفوا حتى جاز أحديهما بالأخرى وهذا معنى

قوله وهو الحلول المضاف إلى صنع العباد

وقد وجدنا شبهة العلة يعني لما وجدنا شبهة الفضل معتبرة لا بد من أن تضاف إلى سبب فوجدنا شبهة العلة أي علة حرمة حقيقة الفضل وهي أحد وصفي العلة فإن العلة التامة هي القدر والجنس والجنس شطر العلة وشطر العلة له حكم الوجود في نفسه وحكم العدم من حيث الشطر الآخر فدار بين الوجود والعدم فيثبت له شبهة الوجود فانعقد علة لثبوت شبهة الحكم احتياطا لباب الربا لأن الشبهة فيما يحتاط فيه العمل عمل الحقيقة فأثبتناه بدلالة النص أي أثبتنا هذا الحكم وهو حرمة النسيئة عند وجود الجنس الذي هو أحد وصفي علة الربا بدلالة النص أو أثبتنا كون الجنس بانفراده سببا لثبوت حرمة النسيئة بدلالة النص فإن النص الذي يوجب سببية القدر والجنس لحرمة حقيقة الفضل يدل على سببية الجنس لحرمة النسيئة وتحقيقه ما ذكر الإمام البرغري رحمه اللّه أن فقه هذه المسألة يبنى على أن الشرع أوجب في بيع الحنطة بالحنطة التسوية كيلا بكيل ويدا بيد وتفسير اليد باليد النقد وحرم الفضل بناء على وجوب التسوية وهو الفضل على الكيل والفضل من حيث النقدية لأن النقد خير من النسيئة فأوجب التسوية من وجهين احترازا عن هذين النوعين من الفضل وعلة هذا الحكم الكيل مع الجنس ثم قال في آخر الحديث وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد ولا خير فيه نسيئة فأسقط أحد الحكمين وهو التسوية كيلا عند زوال أحد الوصفين وهو الجنس وحكم ببقاء الحكم الآخر وهو التسوية من حيث النقدية عند بقاء الوصف الآخر وهو الكيل فعرفنا أن حكم هذا النص أعني

قوله إذا اختلف النوعان إلى آخره وجوب التسوية من وجه احترازا عن الفضل من وجه وهو فضل النقد على النسيئة وأن علة هذا الحكم كون هذه الأمثال متساوية المالية من وجه وهو من حيث الصورة لا من حيث المعنى فالكيل المسوى من وجه لما أوجب هذا الحكم يستدل به على الجنس المسوي بين الأموال من وجه أن يوجب الحكم أيضا لأنه مثله في إثبات التسوية بل أولى لأن الكيل يؤثر في إثبات التسوية صورة لا معنى والجنس يؤثر في إثباتها

(٣/٥٦٨)

معنى

وفضل النقد على النسيئة من حيث المعنى لا من حيث الصورة فلما أوجب الكيل المسوي للأموال من حيث الصورة تسوية معنوية وحرم فضلا معنويا فالجنس المسوي من حيث المعنى لأن يحرم الفضل المعنوي كان أولى وهذا كله لأن باب الربا مبني على الاحتياط وتبين بآخر الحديث أن الحكم الأول في

قوله عليه السلام الحنطة بالحنطة مثل بمثل يد بيد متعلق بالوصفين حيث عدم بعدم

أحدهما فكانا علة واحدة والحكم الثاني متعلق بكل واحد من الوصفين حيث لم ينعدم الحكم بعدم

أحدهما فكان كل واحد منهما علة كاملة يثبت الحكم به

قوله وكذلك فعلنا في السفر أي كما حكمنا بسببية الجنس بالدلالة لا بالقياس حكمنا بكون السفر مسقطا لشطر الصلاة بالدلالة أيضا لا بالتعليل فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إن اللّه تعالى تصدق عليكم فاقبلوا صدقته ذلك إسقاط محض أي التصدق بشطر الصلاة إسقاط محض لأنه تصدق بما لا يحتمل التمليك فكان إسقاطا كالتصدق بملك القصاص وإذا كان إسقاطا لا يرتد بالرد ولا يتوقف على القبول خصوصا إذا صدر من صاحب الشرع

وقوله محض احتراز عن التصدق بما فيه معنى التمليك كإبراء الدين فإنه وإن لم يتوقف على القبول لوجود معنى الإسقاط يرتد بالرد لوجود معنى التمليك ولأن القصر تعين تخفيفا يعني السفر من أسباب التخفيف كرامة من اللّه عز وجل وجهة التخفيف متعينة في القصر فإنه لا تخفيف في الإكمال في مقابلة القصر بوجه فيكون القصر هو المشروع دون غيره بخلاف الفطر في السفر لأن جهة التخفيف غير متعينة في الإفطار لأن في الصوم ضرب يسر على ما مر بيانه فيختار أي اليسرين شاء ولأن التخيير على وجه لا يتضمن رفقا أي يسرا وفي بعض النسخ دفعا أي دفعا لمضرة ونفعا من صفات الألوهية فإن اللّه تعالى هو الذي يفعل ما يشاء ويختار من غير نفع يعود إليه دون العبودية فإنه لا يثبت للعبد إلا اختيار ما كان له فيه رفق ونفع وفي اختيار إكمال الصلاة لا رفق له أصلا لأنه لا يتعلق به ثواب ليس في القصر فكان اختيارا مطلقا فلا يثبت للعبد على ما عرف يعني في باب العزيمة والرخصة فهذه أي المعاني التي ذكرناها وأثبتنا كون السفر مسقطا لشطر الصلاة بها دلالات النصوص وليست بأقيسة

وفي هذا الكلام نوع تسامح فإن

(٣/٥٦٩)

الدليل الأول من قبيل الإشارة دون الدلالة

وأما صفة السبب أي إثبات صفة الموجب ابتداء فمثل صفة السوم في الأنعام أيشترط لوجوب الزكاة أم لا يعني هل يشترط صفة النمو في مال الزكاة ناطقا كان أو صامتا فعند العامة تشترط فلا تجب الزكاة إلا في المال المعد للتجارة أو السائمة وعند مالك رحمه اللّه لا تشترط فيجب الزكاة في أموال القنية والإبل المعلوفة فلا يتكلم فيه بالقياس بل يستدل بالنص على اشتراطه أو عدم اشتراطه فيتمسك لعدم اشتراطه بإطلاق قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة

وقوله عليه السلام لمعاذ خذ من الإبل في أربعين شاة شاة وفي خمس من الإبل شاة إلى أخبار كثيرة من غير تقييد بوصف ويحتج لاشتراطه بقوله عليه السلام ليس في الإبل الحوامل صدقة ليس في البقرة المثيرة صدقة في خمس من الإبل السائمة شاة فصار النماء شرطا بهذه الأخبار ومثل صفة الحل في الوطء لإثبات حرمة المصاهرة فعندنا صفة الحل ليست بشرط بل تثبت بمطلق الوطء حلالا كان أو حراما وعند الشافعي رحمه اللّه عليه لا بد من صفة الحل حتى لا تثبت بالزنا فلا وجه للتمسك فيه بالرأي بل يرجع فيه إلى النص والاستدلال فالشافعي رحمه اللّه أثبت صفة الحل بالنص وهو قوله تعالى وأمهات نسائكم الآية ونحن جعلنا الزنا سببا بالنص وهو قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية

وبالاستدلال فإن الزنا سبب للولد الذي هو الأصل في استحقاق هذه الحرمة مثل الوطء الحلال فيلحق به الدلالة كما مر بيانه في آخر باب النهي ومثل اختلافهم في صفة القتل الموجب للكفارة أنه سبب بصفة أنه حرام أم باشتماله على الوصفين الحظر والإباحة فعند الشافعي هو سبب بصفة أنه حرام فيجب الكفارة في العمد كما يجب في الخطأ وعندنا هو سبب باشتماله على الوصفين فلا تجب في القتل العمد فيتكلم فيه بالدلالة لا بالقياس وفي صفة اليمين الموجبة لكفارة أنها سبب بصفة العقد أم بصفة القصد فعنده هي سبب بصفة القصد فيجب الكفارة في الغموس كما في المعقودة وعندنا هي سبب بصفة أنها معقودة مشتملة على وصفي الحظر والإباحة فلا تجب في الغموس لأنها حرام محض فيتكلم في ذلك بالاستدلال لا بالقياس ولا يلزم عليه الفطر في رمضان فإنه محظور محض وقد تعلق به الكفارة لأنا نقول ما حرم الفطر لمعنى في عينه بل لمعنى في غيره لأن الفطر ليس إلا ترك الإمساك والإمساك فعله فكان تركه وإبطاله مملوكا له لكن الحرمة باعتبار أن حق الغير متعلق بالإمساك هو حق اللّه تعالى فصار الترك والإبطال حراما لغيره لا لعينه فكان نظير إتلاف مال

(٣/٥٧٠)

الغير فلم يكن عدوانا محضا بل هو دائر بين الحظر والإباحة فيصلح سببا للكفارة وقد مر الكلام في المسألتين في باب الوقوف على أحكام النظم

قوله

وأما اختلافهم في الشرط فمثل اختلافهم في شرط التسمية أي اشتراطها لحل الذبيحة فعندنا هي شرط فلم يحل متروك التسمية عمدا وعنده ليست بشرط بل الشرط الملة لا غير ومثل صوم الاعتكاف فإنه شرط لصحته عندنا وليس بشرط عنده ومثل الشهود في النكاح شرط عند العامة وعند مالك ليست بشرط بل الشرط هو الإعلام ومثل شرط النكاح لصحة الطلاق عند الشافعي فإن عنده قيام ملك النكاح شرط لنفوذ الطلاق ولا عبرة بالعدة حتى لا يقع الطلاق في العدة إذا انقطع الملك بالبينونة وعندنا شرط النفوذ إما النكاح أو العدة فتبقى المرأة محلا لصريح الطلاق في العدة بعد البينونة ما دامت تحل له عقد أو لم تصر من المحرمات كما كانت محلا عند قيام النكاح وفي الطلاق الرجعي تبقى محلا بالاتفاق لبقاء الحل عندنا ولبقاء أصل الملك عنده ولهذا كان له أن يستدرك ما فاته من الحل بالرجعة بغير رضاها ورضاء وليها وبغير مهر

وكذا بغير شهود في قول وقيل معناه أن النكاح شرط لصحة اليمين بالطلاق فإن التعليق بالملك باطل عنده والدليل عليه ما ذكر في بعض نسخ أصول الفقه وكذلك علل الشافعي لإثبات ملك النكاح شرطا لانعقاد اليمين بالإطلاق ولكن ما ذكرناه أولا هو المذكور في التقويم والأسرار فهذه شروط لا طريق إلى نفيها وإثباتها ابتداء بالتعليل بل السبيل فيها الرجوع إلى النصوص وإشارتها ودلالاتها ففي اشتراط التسمية يتمسك بقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه وفي اشتراط الصوم للاعتكاف بقوله عليه السلام أو بقول علي وابن عباس وابن عمر وعائشة رضي اللّه عنهم لا اعتكاف إلا بالصوم

وفي اشتراط الشهود بقوله صلى اللّه عليه وسلم لا نكاح إلا بشهود وفي وقوع الطلاق على المبتوتة في العدة بقوله عليه السلام المختلعة تلحقها الطلاق ما دامت في العدة وباستدلالات قوية عرفت في مواضعها من الأسرار والمبسوط وغيرهما لا بالقياس والاختلاف في صفته أي صفة الشرط مثل صفة الشهود أي مثل اختلافهم في صفة الشهود فيشترط صفة الذكورة والعدالة فيهم عند الشافعي رحمه اللّه حتى لا ينعقد النكاح بشهادة رجل وامرأتين ولا بشهادة الفساق وعندنا لا يشترط صفة الذكورة في الجميع ولا صفة العدالة فينعقد النكاح بشهادة رجل وامرأتين وينعقد بشهادة الفساق كما ينعقد بشهادة العدول وهو

(٣/٥٧١)

معنى

قوله أم شهود موصوفون بكل وصف فلا يجوز إثبات هذين الوصفين ابتداء ولا نفيهما بالرأي بل يتمسك في إثباتهما بقوله عليه السلام ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فإن عبارته تدل على اشتراط العدالة ويشير لفظ التثنية إلى نفي شهادة النساء فإن عدد الاثنين لا يكفي إلا من الرجال ويتمسك في نفيهما بإطلاق قوله تعالى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان وبإطلاق

قوله عليه السلام لا نكاح إلا بشهود وكقولنا الوضوء شرط بغير نية يعني شرط لصحة الصلاة لكن بدون صفة القربة حتى صح من غير نية وعند الشافعي رحمه اللّه هو شرط بصفة القربة فلا يصح بدون النية ولا يمكن إثبات هذا الصفة ولا نفيها بالقياس ابتداء بل يتمسك من يثبتها بعموم

قوله عليه السلام الأعمال بالنيات ويحتج من نفاها بدلالة محل الإجماع فإنا أجمعنا أنه لو صلى صلوات بوضوء واحد جازت الصلوات فلو كان يشترط صفة القربة في الوضوء لكان يشترط نية كل صلاة وإرادتها في الوضوء ولما لم تشترط علم أن صفة القربة ليست بشرط بل الشرط كونه طاهرا إذا أراد القيام إلى الصلاة ليكون أهلا لخدمة اللّه تعالى والقيام بحضرته

قوله

وأما الاختلاف في الحكم الركعة الواحدة ليست بصلاة مشروعة عندنا وقال الشافعي رحمه اللّه هي مشروعة فلا يمكن إثبات شرعيتها بالقياس فمن أثبت شرعيتها يتمسك بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة وبما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من أحب أن يوتر بركعة فعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فعل ومن أنكر شرعيتها يتمسك بما اشتهر أن النبي عليه السلام كان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في الآخرة وبما روي عن محمد بن كعب القرظي أن النبي عليه السلام نهى عن البتراء أو بما قال ابن مسعود رضي اللّه عنه ما أجزت ركعة قط وبنوع من الاستدلال فإن السفر سبب لسقوط شطر الصلاة كما في الأربع فلو كانت الركعة صلاة لسقط الشطر أيضا في الفجر فلما لم يسقط

(٣/٥٧٢)

مع قيام العلة علم أنه إنما امتنع لأن الباقي لا يبقى صلاة فيكون إسقاطا للكل ألا ترى أن شطر المغرب لم يسقط لما لم يكن ركعة ونصف صلاة وفي صوم بعض اليوم فإنه غير مشروع عندنا وعند بعض أصحاب الشافعي منهم أبو زيد القاشاني مشروع حتى لو أكل في أول النهار ثم بدا له أن يصوم باقيه جاز عندهم واعتبروه بيوم الأضحى فإن إمساك بعض اليوم قربة فيه فيجوز أن يكون قربة في غيره من الأيام وقاسوه بالصدقة فإن القليل منها مشروع كالكثير وهذا فاسد لأن الصدقة إنما صارت قربة مشروعة لما فيها من صلة الفقير وفي القليل صلة الفقير كما في الكثير أما الصوم فإنما شرع قربة لما فيه من قهر النفس بكفها عن اقتضاء الشهوتين في وقت ممتد وهو النهار من أوله إلى آخره فلا يمكن إثبات صفة القربة فيما دونه وجعله مشروعا بالقياس والإمساك في أول يوم الأضحى ليس بصوم بل شرع ليكون أول التناول من ضيافة اللّه عز وجل فلا يصح اعتباره به ويجوز أن يكون المراد منه أن صوم بعض اليوم مشروع عند الشافعي رحمه اللّه لكن بشرط عدم الأكل في أول النهار حتى لو نوى النفل قبل انتصاف النهار أو بعده في قول ولم يأكل فيما مضى من النهار يجوز ويصير صائما من حين نوى وعندنا ليس بمشروع ويصير صائما من أول النهار وقد مر بيانه في باب تقسيم المأمور به في حق الوقت

وفي حرم المدينة لا حرم للمدينة عندنا وعند الشافعي لها حرم مثل حرم مكة في حق الأحكام فلا يمكن إثباته ولا نفيه بالتعليل بل يرجع فيه إلى النصوص فقوله عليه السلام إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها

وقوله عليه السلام إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها

وقوله عليه السلام من قتل صيدا بالمدينة يؤخذ مثله يدل على أن لها حرما مثل حرم مكة كما قال الشافعي وما روي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت كان لآل محمد وحوش يمسكونها

وقوله عليه السلام لأبي عمير يا أبا عمير ما فعل النغير وكان طيرا يمسكه وانعقاد الإجماع على جواز دخولها بغير إحرام يدل على أنه لا حرم لها كما قلنا وإن الأحاديث المروية في الباب محمولة على إثبات الاحترام لا على إثبات الأحكام ومثل إشعار البدن الإشعار أن يضرب بالمبضع في أحد

(٣/٥٧٣)

جانبي سنام البدن حتى يخرج منه الدم ثم يلطخ بذلك سنامها سمي بذلك لأنها أعلم به أنها هدي والإشعار الإعلام لغة والبدن بضم الباء جمع بدنة وهي ناقة أو بقرة تنحر بمكة ويقع على الذكر والأنثى ثم الإشعار مكروه عند أبي حنيفة وهو قول إبراهيم النخعي رحمهما اللّه وقال أبو يوسف ومحمد هو حسن في البدنة وإن تركه لم يضره وقال الشافعي رحمه اللّه هو سنة فلا يحكم فيه بالرأي بل المفزع فيه الأخبار وفعل النبي عليه السلام فما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم أشعر البدنة بيده يدل على كونه سنة

وما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال إن شئت فأشعر وإن شئت فلا يدل على أنه حسن وأن تركه لا يضر وما روي عن ابن عباس في رواية أخرى وعائشة رضي اللّه عنهم أن الإشعار ليس بسنة وإنما أشعر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كي لا تنالها أيدي المشركين يدل على أنه ليس بسنة ولا مستحب وهو في نفسه مثلة وتعذيب الحيوان فيكون مكروها والأصح أنه ليس بمكروه لأن الآثار فيه مشهورة وإنما كره أبو حنيفة رحمه اللّه إشعار أهل زمانه لأنه رآهم يستقصون في ذلك على وجه يخاف منه هلاك البدنة بسرايته خصوصا في حر الحجاز فرأى الصواب في سد هذا على العامة لأنهم لا يقفون على الحد إليه أشير في المبسوط والأسرار

قوله

وأما صفته أي الاختلاف في صفة الحكم فمثل اختلاف في صفة الوتر أنه سنة أم واجب بعد اتفاقهم على أنه مشروع ولا مدخل للرأي في معرفته فذهب أبو حنيفة رحمه اللّه إلى أنه واجب متمسكا بقوله عليه السلام إن اللّه تعالى زادكم صلاة إلى صلواتكم الخمس ألا وهي الوتر فحافظوا عليها

وقوله صلى اللّه عليه وسلم الوتر حق واجب فمن لم يوتر فليس منا وذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم اللّه إلى أنه سنة معتصمين بالسنة أيضا وهو

قوله عليه السلام ثلاث كتب علي وهي لكم سنة الوتر والضحى والأضحى أي الأضحية

وفي صفة الأضحية أي ومثل اختلافهم في صفة الأضحية أنها واجبة أم سنة بعد اتفاقهم على شرعيتها فعندنا هي واجبة وعند الشافعي رحمه اللّه سنة ومفزع الفريقين السنة دون الرأي فنحن نتمسك في الإيجاب بقوله عليه السلام ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا

(٣/٥٧٤)

وهو يتعلق في نفي الإيجاب بما روينا وفي صفة العمرة فعندنا هي سنة مؤكدة كصلاة العيد وعند الشافعي رحمه اللّه هي فريضة كالحج ولا يعرف ذلك بالرأي فأوجبها الشافعي بقوله تعالى يوم الحج الأكبر فإنه يدل على أن من الحج ما هو أصغر وبقوله عليه السلام العمرة واجبة وقلنا إنها سنة بما روى جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سئل عن العمرة أواجبة هي فقال لا وأن تعتمر خير لك

وبما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي عليه السلام أنه قال الحج جهاد والعمرة تطوع وغيرهما من الأحاديث وحملنا ألفاظ الوجوب على التأكيد

قوله وفي صفة حكم الرهن بعد اتفاقهم أنه وثيقة لجانب الاستيفاء لا خلاف أن الرهن عقد وثيقة لجانب الاستيفاء حتى لا يصح رهن ما لا يصلح للاستيفاء كالخمر وأم الولد كما أن الكفالة وثيقة لجانب الوجوب وأنه لا بد من تسليم الرهن إلى المرتهن وأن الحكم الثابت به للمرتهن بعد التسليم إليه حق الحبس وثبوت اليد لكنهم اختلفوا في صفة الحكم فعندنا اليد الثابتة له عليه في حكم يد الاستيفاء والحبس ثابت بصفة الدوام حكما أصليا للرهن فلو هلك في يده يتم الاستيفاء ويسقط من الدين بقدره ولا يكون للراهن حق الاسترداد للانتفاع كما في حقيقة الاستيفاء وعند الشافعي رحمه اللّه ليست هذه يد استيفاء بل ثبوت اليد والحبس لتعلق الدين بالعين بإيفائه من ماليته بالبيع فإذا هلك في يده هلك أمانة لا مضمونا وكان للراهن حق الاسترداد للانتفاع ثم الرد إلى المرتهن بعد الفراغ

وذكر في الوسيط حقيقة الرهن توثيق الدين بتعليقه بالعين ليسلم المرتهن به عن مزاحمة الغرماء عند الإفلاس ويتم ذلك بالقبض ليحفظ محل حقه ليوم حاجته ويثبت للمرتهن في الحال استحقاق اليد على المرهون وفي ثاني الحال استحقاق البيع في قضاء حقه إذا لم يوفه الراهن من مال آخر ثم ما ذكرنا لا يمكن إثباته بالقياس لأنا لا نجد حكم الرهن في عقد آخر لتعديه إليه بالقياس ولكن يرجع إلى الاستدلال فقال الشافعي الرهن وثيقة لجانب الاستيفاء بالإجماع ومعنى التوثق إنما يظهر بما قلت فإنه من قبل كان مطالبا بالإيفاء من غير تعيين محل وبعد الرهن بقي ما كان وازداد به شيء آخر وهو مطالبته بالإيفاء من هذا المحل بعينه تبعا وإيفاء للدين من ثمنه وإنه على مثال الكفالة على أصله فإن موجبها ثبوت الدين في الذمة الثانية مع بقائه في الذمة الأولى فحصل معنى التوثق في جانب الوجوب بضم ذمة إلى ذمة وهاهنا حصل معنى التوثق

(٣/٥٧٥)

بتعيين محل مع بقائه مطلقا في غيره

وإذا ثبت هذا كان للراهن أن ينتفع بالرهن لأن انتفاع المالك به لا يبطل حق البيع بالدين فلا يحجر المالك عنه لحقه كما لا يحجر المولى عن استخدام الأمة المنكوحة لحق الزوج لأنه حقه في ملك الوطء ولا يبطل ذلك باستخدامها ويدل عليه قول الرسول صلى اللّه عليه وسلم الرهن مجلوب ومركوب وأنه ليس بمجلوب ولا مركوب للمرتهن فيثبت أنه للراهن ونحن نقول أحكام العقود الشرعية تقتبس من ألفاظها الدالة عليها فإن التعريف وقع بهذا الاسم فلا بد من مراعاة معنى الاسم فيه ليكون التعريف به صحيحا وقد ورد الشرع بإطلاق اسم الرهن عليه وأنه منبئ عن الحبس قال اللّه تعالى كل نفس بما كسبت رهينة أي محتبسة فجعلنا موجبه احتباس العين بالدين وهذا الاحتباس وإن كان أمرا حقيقيا اتصف بكونه حكما شرعيا لاتصافه بكونه مطلقا شرعا

وأما الاستدلال بنظيره من عقد الكفالة فظاهر على ما عليه مذهبنا فإن موجبه صيرورة ذمة الكفيل مضمونة إلى ذمة الأصيل في المطالبة دون أصل الدين حتى يكون الثابت به وثيقة فإن الوثيقة إثبات شيء هو من جنس ما ثبت بالحقيقة حتى يزداد وثوقا ولا يمكن إثبات أصل الدين لأنه حينئذ يصير الثابت به حقيقة ثم ما هو الفرع في الدين وهو المطالبة جعل أصلا في عقد الكفالة لتكون موصلة إلى الحقيقة فكذا اليد على المحل فرع حقيقة الاستيفاء فجعلت أصلا في عقد الرهن وإبداء ما هو الاتباع والفروع في الأصول يجعل أصولا في التوثقات

فإن قيل ما معنى الوثيقة في هذه اليد ومن أي وجه جعلت وثيقة قلنا معنى الوثيقة في إثبات شيء زائد هو من جنس الأصل مع بقاء الأول على ما كان فإذا احتبس عنده حقيقة يصير هذا الاحتباس وسيلة إلى النقد من محل آخر وهذا هو المتعاهد فيما بين الناس أن ملك الإنسان متى صار محبوسا عنه بدين يتسارع إلى فكاكه بإيفاء الدين والدليل على هذا المحل من جنس يد الاستيفاء والدين بالاستيفاء يصير محصنا فإذا بقيت له المطالبة على ما كانت من قبل وازدادت يد هي من جنس الأول ازداد الأول توثقا به فهذا تفسير معنى الوثيقة في حقيقة الاحتباس واليد الثابتة على المحل فأما ما ذكره الخصم فلا ينبئ عنه اللفظ ولا يستدعي أن يكون وثيقة لأن البيع في الدين حكم يأتي بعد عقد الرهن

وكذا تعينه للبيع غير ثابت لأن الإيفاء من محل آخر يكون في العادات فإن الإنسان يرهن الشيء ليوفي الدين من محل آخر لا ليبيعه في الدين وكيف يكون البيع في الدين موجب عقد الرهن ولا يملك المرتهن ذلك بعد تمام الرهن إلا بتسليط الراهن إياه على ذلك وكم من رهن ينفك عن البيع في الدين موجب العقد ما لا يخلو العقد عنه بعد تمامه

قوله وفي كيفية وجوب المهر من أحكام النكاح بالإجماع لكنهم اختلفوا في

(٣/٥٧٦)

صفته فعندنا هو واجب عوضا عن ملك البضع وليس فيه معنى الصلة وقد تعلق حق الشرع بوجوبه في الابتداء وفي البقاء تمحض حقا للمرأة

وعند الشافعي رحمه اللّه هو مشتمل على معنى العوض والصلة وقد تمحض حقا للمرأة ابتداء وبقاء كالثمن في البيع ويتفرع منه أنه إذا تزوجها ولم يسم لها مهرا يجب المهر بنفس العقد عندنا حتى لو مات

أحدهما قبل الدخول تأكد المهر وعند الشافعي لا يجب بنفس العقد حتى لو مات

أحدهما قبل الدخول لا يجب لها شيء ولو دخل بها قال بعض أصحاب الشافعي لا يجب المهر كما لا يجب بالعقد وقال بعضهم يجب المهر بالدخول وبالاتفاق كان لها أن تطالبه بعد العقد بأن يفرض لها مهرا ويبتنى عليه أيضا أن المهر مقدر شرعا حتى لم يجز أقل من عشرة عندنا لأن حق الشرع تعلق به وجوبا فيكون التقدير إليه وعند الشافعي رحمه اللّه التقدير إلى المتعاقدين لأنه خالص حق العبد فكان حكمه حكم سائر الأعراض ولا مجال للقياس فيه لأنه لم يوجد لأحد الفريقين أصل تعدى الحكم منه إلى المتنازع فيه فيتكلم فيه بالاستدلال من النص أو الإجماع فقال الشافعي رحمه اللّه المهر زائد على ما يقتضيه النكاح فإن المناكحة تقوم ببدن المتناكحين فكان الركن في العقد ذكرهما ليتحقق موجب اللفظ أما المال فأمر زائد وبهذا صح العقد بدون التسمية ومع نفيها فكان فيه معنى الصلة من هذا الوجه

ومن حيث إنه يثبت للزوج عليها ضرب ملك لم يوجد ذلك في جانبها كان فيه معنى العوض فلكونه عوضا إذا شرط في العقد تملك ملك الأعواض وإذا نفى أو لم يشترط لا يجب كالثمن في البيع ولكونه صلة تستحق المرأة مطالبة الفرض كالنفقة أو يقال إذا تحقق فيه معنى العوض والصلة فلكونه صلة ينعقد أصل العقد بدون المهر ولكونه عوضا لا يخلو عنه ملك البضع فيتأخر وجوبه إلى حين الدخول وتستحق الفرض لئلا يخلو البضع عنه قال وهو خالص حقها لأنه وجب مقابلا بالبضع بالإجماع وله حكم الإجزاء أو حكم المنافع فكيف ما كان هو حقها فوجب أن يكون بدله خالص حقها والدليل عليه أنها تملك الاستيفاء والإبراء ولو كان فيه حق لصاحب الشرع لما صح إسقاطها أصلا

ونحن نقول حكم النكاح ثبوت الملك بالإجماع والازدواج والسكن من ثمراته وهذا الملك لم يشرع إلا بمال بقوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم فكان وجوبه على سبيل المعاوضة دون الصلة ثم هذا المال مع كونه عوضا يثبت من غير شرط على خلاف سائر الأعواض فإن الأب يزوج ابنته من غير مهر ويجب العوض باعتبار أن وجوب هذا المال لتحصيل الملك المشروع فإذا شرع في العقد وحصل الملك وجب المال وإن لم يذكر وصار الإقدام على العقد تحصيلا للملك بمال وفيه حق الشرع أيضا لأن المحل الذي ورد عليه العقد محل النسل وللّه تعالى فيه حق من حيث الاستعباد فظهر حق

(٣/٥٧٧)

الشرع في العقد الذي هو سبب تحصيل النسل ألا ترى أنه لا يجري فيه البذل والإباحة ولا يخلو التصرف في هذا المحل عن حد وعقد وإن رضيت به المرأة ولو كان البضع محض حق المرأة لعمل رضاها في إسقاط الواجب إن لم يعمل في إباحة الفعل كما في قطع الأطراف وقتل النفس لا يحل الفعل بالإباحة ولكن لا يجب الضمان في الأطراف ولا القصاص في النفس

وكذا إباحة المال إن كانت بطريق مشروع تثبت الإباحة وإن لم تكن لا تثبت الإباحة ولكن لا يجب الضمان فعرفنا أن حق الشرع متعلق بالمحل وإذا كان كذلك لم يكن بد من رعاية حق الشرع فيما يتعلق بالسبب من اعتبار المهر والشهود وإنما شرع على هذا الوجه إبانة لحظر المحل وصونا له عن الهوان فأما البقاء فلا تعلق له بالسبب فعمل رضاها في الإسقاط لأنه حقها على التمحض في حالة البقاء فهذا معنى قولنا ظهر حق الشرع فيه وجوبا والبقاء حق المرأة على التمحض

قوله وفي كيفية حكم البيع اختلفوا في صفة حكم البيع وهو الملك أنه ثابت بنفس البيع على صفة اللزوم أم بتراخ إلى آخر المجلس فعندنا يثبت بنفس البيع لازما فلا يكون لواحد من المتعاقدين خيار المجلس وعند الشافعي يتراخى ثبوت الملك بالبيع إلى آخر المجلس في قول وإليه أشير في الكتاب وفي

قوله يثبت بنفس البيع ولكن يتراخى اللزوم إلى آخر المجلس فيثبت على القولين خيار المجلس لكل واحد منهما ولا يتعرف إثباته ولا نفيه بالقياس فرجع الشافعي رحمه اللّه في إثباته إلى الحديث وهو

قوله عليه السلام المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا ونحن أثبتنا اللزوم بنفس البيع بعموم قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود

وقوله عليه السلام المسلمون عند شروطهم وقول عمر رضي اللّه عنه البيع صفقة أو خيار والصفة عند العرب عبارة عن النافذة اللازمة والحديث الذي رواه لم تجر المحاجة به بين الصحابة بعدما اختلفوا في خيار المجلس فدل على زيافته وهو محمول على خيار الإيجاب والقبول فإنه سماهما متبايعين وذلك في حال إقدامهما على البيع وبعد الفراغ يسميان به مجازا لا حقيقة ولا يلزم اختلاف الناس يعني لا يلزم على ما قلنا إن إثبات الحكم ابتداء بالرأي لا يجوز اختلاف الناس في صوم يوم النحر وتكلمهم فيه بالرأي وهو حكم لا مدخل للرأي فيه

وقوله لأنهم لم يختلفوا جواب السؤال يعني أنهم لم يختلفوا في أن الأيام محال

(٣/٥٧٨)

للصوم بل محلية الأيام للصوم ثابتة بالإجماع وهو من جملتها فيكون محلا للصوم بالنظر إلى أنه يوم إنما اختلفوا في صفة حكم النهي أي اختلفوا في أن النهي يوجب الانتهاء على وجه يبقى فيه اختيار للمنهي فيلزم منه بقاء مشروعية الصوم في هذا اليوم أم يوجبه على وجه لا يبقى له فيه اختيار بأن صار المنهي عنه منسوخا بالنهي ولم يبق مشروعا أصلا وذلك لا يثبت بالرأي أي حكم النهي على الوصف الذي ذكرنا ليس بثابت بالرأي بل بالنص وهو أن اللّه تعالى قال لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها وقال ليبلوكم أيكم أحسن عملا فمقتضى هذين النصين أن يكون ما كلف العبد وابتلي به داخلا تحت قدرته واختياره والنهي من باب التكليف فيشترط أن يكون الانتهاء الواجب به أمرا اختياريا ليكون العبد بين أن ينتهي فيثاب وبين أن يباشر المنهي عنه فيعاقب ويلزم منه بقاء مشروعية الصوم على ما مر في باب النهي

قوله وإنما أنكرنا هذه الجملة أي إنما لم نجوز استعمال الرأي في هذه الأقسام الثلاثة أو في هذه الأمثلة المذكورة إذا لم يوجد له أي لما وقع الاختلاف فيه من هذه الأقسام في الشريعة أصل يصح تعليل ذلك الأصل وتعدية حكمه إليه فأما إذا وجد فلا بأس به أي باستعمال الرأي فيه وإثباته بالقياس ألا ترى أنهم اختلفوا في التقابض أي في اشتراط قبض البدلين لبقاء العقد على الصحة في بيع الطعام بالطعام أي بيع طعام بعينه بطعام بعينه وتكلموا فيه بالرأي فقال الشافعي رحمه اللّه يشترط التقابض فيه اتحد الجنس بأن باع قفيز حنطة بقفيز حنطة أو اختلف بأن باع كر حنطة بكر تمر أو شعير لأنهما مالان يجري بينهما ربا الفضل فيشترط قبضهما في المجلس لبقاء العقد على الصحة كالذهب والفضة

وقلنا لا يشترط التقابض اتحد الجنس أو اختلف لأنهما مالان عينان فلا يشترط قبضهما في المجلس لبقاء العقد على الصحة كما في بيع الثوب بالثوب أو بالدراهم وإنما صح الكلام فيه بالرأي لأنه قد وجد لإثبات اشتراط التقابض أصل وهو عقد الصرف ووجد للجواز بدون القبض أصل أيضا وهو بيع سائر السلع فاستقام تعليل كل أصل لتعدية الحكم به إلى الفرع

فإذا وجد مثله في غيره أي وجد أصل يمكن تعليله في غير التقابض مما ذكرنا من الأمثلة صحت التعدية أيضا فإن قيل قد وجد في جواز النكاح بغير شهود أصل وهو عقود المعاملات فإن النكاح منها بدليل أنه يصح من الكافر والمسلم ولم يشترط الشهود لصحة المعاملات

(٣/٥٧٩)

شرعا وإن ترتب على بعضها حل الاستمتاع كبيع الأمة فيعلل ذلك الأصل لتعدية الحكم به إلى الفرع وكذلك وجد لسقوط اشتراط التسمية لحل الذبيحة أصل وهو الناسي فيعلل لتعدية الحكم به إلى الفرع قلنا لم يشترط الشهود في النكاح من حيث إنه معاملة ولكن اشتراط الشهود فيه باعتبار أنه عقد مشروع للتناسل وإنه يرد على محل له خطر وهو مصون عن الابتذال فلإظهار خطره يختص بشرط الشهود ولا يوجد أصل في المشروعات بهذه الصفة ليعلل ذلك الأصل فيعدى الحكم به إلى الفرع

وأما الناسي فلم يسقط عنه شرط التسمية ولكنه جعله كالمسمى حكما للعذر بدلالة

قوله عليه السلام تسمية اللّه في قلب كل امرئ مسلم كما جعل الناسي في الصوم كالمباشر لركن الصوم حكما بالنص وهو

قوله عليه السلام تم على صومك فإنما أطعمك اللّه وسقاك وهذا حكم معدول به عن القياس وتعليل مثله لتعدية الحكم باطل مع أن العامد ليس كالناسي لانعدام العذر في حقه ألا ترى أن قياس العامد على الناسي في الصوم لا يجوز فكذا هاهنا ألا ترى أن من ادعى متصل بقوله إذا لم يوجد له في الشريعة أصل يصح تعليله فصار حاصل الباب أن إثبات السبب أو الشرط أو الحكم بالتعليل ابتداء لا يجوز فأما بطريق التعدية فجائز عند وجود شرائط التعدية وفيما ذكرنا من النظائر إنما حكمنا بفساد التعليل لعدم أصول تقاس هذه الأمثلة عليها لا لأنها ليست بمحل للقياس

وأما النوع الرابع وهو تعدية حكم معلوم إلى آخره فعلى وجهين في حق الحكم يعني القياس والاستحسان الثابت بالتعليل واحد من حيث إن كل واحد منها مبني على الرأي مستنبط بالعلة إلا أنهما في حق الحكم نوعان فإن

أحدهما يثبت ما ينفيه الآخر ثم الحكم إذا تعلق بالمعنى فلا يخلو إما أن يكون المعنى جليا أو لم يكن فإن كان جليا سميناه قياسا وإن لم يكن سميناه استحسانا

(٣/٥٨٠)