Geri

   

 

 

İleri

 

باب تقسيم الناسخ

اعلم أن الناسخ يطلق على اللّه تعالى يقال نسخ اللّه تعالى التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة ومنه قوله تعالى ما ننسخ من آية

وقوله عز اسمه فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان وعلى الحكم الثابت كما يقال وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء وعلى من يعتقد نسخ الحكم كما يقال فلان ينسخ القرآن بالسنة أي يعتقد ذلك وعلى الطريق المعرف لارتفاع الحكم من الآية وخبر الرسول ونحوهما عند من جوز النسخ بغيرهما وهو المراد هاهنا ولا خلاف أن إطلاقه على المتوسطين مجاز وإنما الخلاف في الطرفين فعندنا إطلاقه على اللّه تعالى حقيقة وعلى الطريق المعرف مجاز وعند المعتزلة على العكس والنزاع لفظي الحجج أربع وفي بعض النسخ أربعة على تأويل الدلائل

قوله أما القياس فلا يصلح ناسخا لما نبين كأنه أراد بقوله لما نبين ما ذكر في باب شروط القياس أن من شرطه أن يتعدى إلى فرع لا نص فيه إذ التعدية بمخالفة النص مناقضة حكم النص وهو باطل واعلم أن القياس المظنون لا يكون ناسخا لشيء عند الجمهور سواء كان جليا أو خفيا ونقل عن أبي العباس بن شريح من أصحاب الشافعي رحمهم اللّه أن النسخ يجوز به لأن النسخ بيان كالتخصيص فما جاز التخصيص به جاز النسخ به أيضا

وكان أبو القاسم الأنماطي من أصحابه لا يجوز ذلك بقياس الشبه ويجوز بقياس مستخرج من الأصول وكان يقول كل قياس هو مستخرج من القرآن يجوز

(٣/٢٦٠)

نسخ الكتاب به وكل قياس هو مستخرج من السنة يجوز نسخ السنة به لأن هذا في الحقيقة نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ السنة بالسنة فثبوت الحكم بمثل هذا القياس يكون محالا به على الكتاب والسنة إذ القياس بكثير محال النص وذكر في بعض الكتب أن النسخ يجوز عند أبي القاسم بالقياس الجلي دون الخفي قال الغزالي رحمه اللّه لفظ الجلي مبهم إن أراد به المقطوع به فهو صحيح

وأما المظنون فلا

تمسك الجمهور باتفاق الصحابة رضي اللّه عنهم فإنهم كانوا مجمعين على ترك الرأي بالكتاب والسنة وإن كانت السنة من الآحاد حتى قال عمر رضي اللّه عنه في حديث الجنين كدنا أن نقضي فيه برأينا وفيه سنة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال علي رضي اللّه عنه لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف بالمسح أولى من ظاهره ولكني رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمسح على ظاهر الخف دون باطنه وبأن ما تقدم على القياس المظنون الذي ينسخ به لا يخلو من أن يكون قطعيا أو ظنيا فإن كان قطعيا فلا يجوز نسخه به لانعقاد الإجماع على وجوب تقديم القاطع على غيره وترك الأضعف بالأقوى وإن كان ظنيا فلا نسخ أيضا لأن العمل بالمظنون المتقدم إنما يثبت مشروطا برجحانه على ما يعارضه وينافيه إذ لو ترجح عليه قياس آخر يبطل شرط العمل به وخرج عن كونه مقتضيا للحكم فتبين من القياس الراجح أن حكم المظنون المتقدم لم يكن ثابتا وإذ لا ثبوت له فلا دفع ولا نسخ

وأما اعتبار النسخ بالتخصيص فمنقوض بدليل العقل والإجماع وخبر الواحد فإن التخصيص بها جائز دون النسخ وكيف يتساويان والتخصيص بيان والنسخ رفع وإبطال

وما ذكره الأنماطي ضعيف أيضا فإن الوصف الذي به يرد الفرع إلى الأصل المنصوص عليه في الكتاب والسنة غير مقطوع بأنه هو المعنى في الحكم الثابت بالنص حتى لو كان ذلك المعنى مقطوعا به بأن كان منصوصا عليه جاز النسخ فيه أيضا كالنص واختلفوا أيضا في جواز كون القياس منسوخا فمنهم من منع من ذلك مطلقا كالحنابلة وعبد الجبار في قول مصير منهم إلى أن القياس إذا كان مستنبطا من أصل فالقياس باق ببقاء الأصل فلا يتصور رفع حكمه مع بقاء أصله ومنهم من جوز نسخ القياس الموجود في زمن النبي عليه السلام دون ما وجد بعده كأبي الحسين البصري واختيار العامة أن لا يكون منسوخا كما لا يكون ناسخا لأن ما بعد

(٣/٢٦١)

القياس قطعيا كان أو ظنيا يبين زوال شرط العمل بالقياس المظنون وهو رجحانه لرجحان القاطع والظني المتأخر عنه وإلا لما صلح لنسخ المتقدم وإذا زال شرط العمل به فلا حكم له فلا رفع ولا نسخ

وذكر في الميزان نسخ القياس لا يجوز بالقياس ولا بدليل فوقه لما ذكرنا أن النسخ انتهاء الحكم الشرعي وبالدليل المعارض إذا كان فوقه تبين أن ذلك القياس لا يصح وإذا كان مثله لا يبطل حكم الأول ويعمل المجتهد بالثاني إذا ترجح عنده على ما مر قال أبو الحسين نسخ القياس في المعنى يجوز بنص متقدم وبإجماع وبقياس نحو أن يجتهد بعض الناس فيحرم شيئا بقياس بعدما اجتهد في طلب النصوص ثم يظفر بنص بخلاف قياسه أو تجمع الأمة على خلاف قياسه أو يظفر هو بقياس أولى من قياسه الأول فيلزم في كل الأحوال ترك قياسه الأول ولا يسمى ذلك نسخا لأن القياس الأول إنما عمل به بشرط أن لا يعارضه قياس أولى منه ولا نص ولا إجماع

هذا إنما يتم هذا على القول بأن كل مجتهد مصيب لأنه يقول إن هذا القياس قد تعبد به ثم رفع فأما من لا يقول كل مجتهد مصيب فإنه لا يقول قد تعبد به فلا يمكن نسخ التعبد به

قوله

وأما الإجماع فكذا الإجماع يجوز ناسخا للكتاب والسنة والإجماع عند بعض مشايخنا منهم عيسى بن أبان وإليه ذهب بعض المعتزلة تمسكوا بما روي أن عثمان رضي اللّه عنه لما حجب الأم عن الثلث إلى السدس بأخوين قال ابن عباس رضي اللّه عنهما كيف تحجبها بأخوين وقد قال اللّه تعالى فإن كان له إخوة فلأمه السدس والأخوان ليسا بإخوة فقال حجبها قومك يا غلام فدل على جواز النسخ بالإجماع وبأن المؤلفة قلوبهم سقط نصيبهم من الصدقات بالإجماع المنعقد في زمان أبي بكر رضي اللّه عنه وبأن الإجماع حجة من حجج الشرع موجبة للعلم كالكتاب والسنة فيجوز أن يثبت النسخ به كالنصوص ألا ترى أنه أقوى من الخبر المشهور والنسخ بالخبر المشهور جائز حيث جاز به الزيادة على النص التي هي نسخ فبالإجماع أولى وعند جمهور العلماء لا يجوز النسخ به لأن الإجماع عبارة عن اجتماع الآراء في شيء ولا مجال للرأي في معرفة نهاية وقت الحسن والقبح في الشيء عند اللّه تعالى ثم أوان النسخ حال حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لاتفاقنا على أن لا نسخ بعده وفي حال حياته ما كان ينعقد الإجماع بدون رأيه وكان الرجوع إليه فرضا وإذا وجد البيان منه فالموجب للعلم قطعا هو البيان المسموع منه

وإنما يكون الإجماع موجبا للعلم بعده ولا نسخ بعده فعرفنا أن النسخ بدليل الإجماع لا يجوز

(٣/٢٦٢)

وهذا الدليل وإن لم يفصل بين كون الإجماع ناسخا للكتاب والسنة وبين كونه ناسخا للإجماع في عدم الجواز إلا أن الشيخ رحمه اللّه ذكر في آخر باب حكم الإجماع أن نسخ الإجماع بإجماع آخر جائز فيكون ما ذكر هاهنا محمولا على عدم جواز نسخ الكتاب والسنة به دفعا للتناقض والفرق على ما اختاره أن الإجماع لا ينعقد ألبتة بخلاف الكتاب والسنة فلا يتصور أن يكون ناسخا لهما ولو وجد الإجماع بخلافهما لكان ذلك بناء على نص آخر ثبت عندهم أنه ناسخ للكتاب والسنة ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع آخر على خلاف الأول ولكن عامة الأصوليين أنكروا كون الإجماع ناسخا لشيء أو منسوخا بشيء لما بينا أنه لا يصلح ناسخا للكتاب والسنة ولا يصلح أن يصير منسوخا بهما أيضا لعدم تصور حدوث كتاب أو سنة بعد وفاة النبي عليه السلام وكذا لا يصلح ناسخا للإجماع ولا منسوخا به لأن الإجماع الثاني إن دل على بطلان الأول لم يجز ذلك إذ الإجماع لا يكون باطلا

وإن دل على أنه كان صحيحا لكن الإجماع الثاني حرم العمل به من بعد لم يجز ذلك إلا لدليل شرعي متجدد وقع لأجله الإجماع من كتاب أو سنة أو لدليل كان موجودا أو خفي عليهم من قبل ثم ظهر لهم وكل ذلك باطل لاستحالة حدوث كتاب أو سنة بعد وفاته عليه السلام ولعدم جواز خفاء الدليل الذي يدل على الحق عند الإجماع الأول على الكل لاستلزامه إجماعهم على الخطأ وكذا لا يصلح ناسخا للقياس ولا منسوخا به لما مر

وأما تمسكهم بقصة عثمان رضي اللّه عنه فضعيف لأنها إنما تدل على النسخ بالإجماع لو ثبت كون المفهوم حجة قطعا حتى يكون معنى الآية من حيث المفهوم فإن لم يكن له إخوة فلا يكون لأمه السدس بل الثلث وثبت أيضا أن لفظ الإخوة لا ينطلق على الأخوين قطعا ولم يثبت واحد منهما كذلك فلا يلزم النسخ على أنه لا يلزم النسخ بالإجماع على تقدير ثبوتهما أيضا لإمكان تقدير النص الدال على الحجب إذ لو لم يقدر ذلك كان الإجماع على الحجب خطأ وحينئذ يكون الناسخ هو النص لا الإجماع وكذا تمسكهم بسقوط نصيب المؤلفة قلوبهم لأن ذلك لم ينسخ بالإجماع بل هو من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء موجبه على ما عرف في موضعه

قوله وقال الشافعي بفساد القسمين الآخرين هما مسألتان إحداهما نسخ

(٣/٢٦٣)

الكتاب بالسنة المتواترة وهو جائز عند جمهور الفقهاء والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وإليه ذهب المحققون من أصحاب الشافعي ونص الشافعي رحمه اللّه في عامة كتبه أنه لا يجوز وهو مذهب أكثر أهل الحديث ثم اختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا يجوز ذلك عقلا وهو الظاهر من مذهب الشافعي وإليه ذهب الحارث المحاسبي وعبد اللّه بن سعيد والقلانسي من متكلمي أهل الحديث وأحمد بن حنبل في رواية عنه وقال بعضهم يجوز ذلك عقلا ولكن الشرع لم يرد به ولو ورد به كان جائزا وبه قال ابن شريح في إحدى الروايتين عنه وقال بعضهم قد ورد الشرع بالمنع من ذلك وهو قول أبي حامد الإسفراييني

والثانية نسخ السنة بالكتاب وهو جائز أيضا عند جميع من قال بالجواز في المسألة الأولى وعند بعض من أنكر الجواز فيها منهم عبد القاهر البغدادي وأبو المظفر السمعاني وذكر عن الشافعي رحمه اللّه في كتاب الرسالة القديمة والجديدة ما يدل على أن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز ولوح في موضع آخر بما يدل على جوازه فخرجه أكثر أصحابه على قولين

أحدهما أنه لا يجوز وهو الأظهر من مذهبه والآخر أنه يجوز وهو الأولى بالحق كذا ذكره السمعاني في القواطع واستدل من أنكر الجواز عقلا في المسألة الأولى بأن المنسوخ ما كان منسوخا في عهد النبي عليه السلام والخبر يصير متواترا بعده فلا يجوز أن تكون المعرفة بكونه منسوخا موقوفة عليه ولهذا لم يجز النسخ بالإجماع إذ لو جاز به النسخ لصارت المعرفة بنسخه موقوفة على انعقاد الإجماع في الزمان المستقبل على نسخه

وربما بنوا هذه المسألة على جواز الاجتهاد للنبي عليه السلام فقالوا لما جاز له الاجتهاد فيما لم يوح إليه لم نأمن في تجويز نسخ القرآن بالسنة أن تكون السنة الناسخة صادرة عن الاجتهاد فيقع حينئذ نسخ القرآن بالاجتهاد وهو غير جائز

قالوا ولهذا أخرنا التخصيص بالسنة لجوازه بالاجتهاد والقياس عندنا واستدل من قال بعدم الجواز شرعا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فإنه يدل على أن الآية لا تنسخ إلا بآية لأنه تعالى قال نأت بخير منها أو مثلها وهو يدل على أن البدل خير أو مثل وعلى

(٣/٢٦٤)

أنه من جنس المبدل لأن قول القائل لا آخذ منك درهما إلا آتيك بخير منه يفيد أنه يأتي بدرهم خير من الدرهم المأخوذ والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثلا له ولا من جنسه بلا شك لأن القرآن كلام اللّه تعالى وهو معجز والسنة كلام الرسول عليه السلام وهي غير معجزة فلا يجوز نسخه بها

ولأنه تعالى قال نأت وهو يدل على أن الآتي بالخير أو المثل هو اللّه تعالى لأن الضمير له وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن لا سنة ويؤكده سياق الآية وهو قوله تعالى ألم تعلم أن اللّه على كل شيء قدير لإشعاره بأن الآتي به هو اللّه تعالى وتمسك بعضهم بهذه الآية لعدم الجواز في المسألة الثانية فقالوا لما دلت الآية على اشتراط المماثلة والمجانسة في النسخ حتى لم يجز نسخ الكتاب بالسنة لعدم الشرطين لا يجوز نسخ السنة بالكتاب لفوات الشرطين وإليه أشار الشيخ بقوله وذلك بين الآيتين أي الإتيان بالمثل أو بالخير إنما يتحقق بين الآيتين أو السنتين لوجود المجانسة التي هي شرط النسخ بينهما فأما في القسمين الآخرين فلا أي فلا يتحقق ذلك ولكن هذا التمسك ضعيف لأن ظاهر هذا النص يقتضي الإتيان بالمثل أو بالخير في نسخ الآية لا في مطلق النسخ إذ لم يقل ما ننسخ من شيء فلا يصح هذا الاستدلال ولهذا لم يذكر شمس الأئمة وعامة الأصوليين هذا التمسك في كتبهم بل تمسكوا بهذه الآية في المسألة الأولى لا غير

واستدلوا في المسألة الأولى أيضا بقوله تعالى قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي

أخبر أن الرسول عليه السلام ليس إليه ولاية التبديل وأنه متبع لما أوحي إليه لا مبدل له والتبديل بإطلاقه يتناول تبديل اللفظ وتبديل الحكم فينتفي الأمران جميعا ولا يكون له ولاية تبديل الحكم كما لا يكون له ولاية تبديل اللفظ وبقوله عليه السلام إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب اللّه تعالى فما وافق كتاب اللّه تعالى فاقبلوه وما خالف فردوه أمر بالرد عند المخالفة ولا بد للنسخ من المخالفة فكيف يجوز النسخ بها وفي المسألة الثانية بقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم جعل قول الرسول عليه السلام بيانا للمنزل فلو نسخت السنة به لخرجت عن كونها بيانا لانعدامها وبقوله عز اسمه ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء والسنة شيء فيكون الكتاب بيانا لحكمه لا رافعا له وذلك في أن يكون مؤيدا لها إن كان موافقا ومبينا للغلط فيها إن كان مخالفا ثم

(٣/٢٦٥)

بين الشيخ لهم من المعقول دليلا يشمل المسألتين فقال ولأن في هذا أي في عدم جواز نسخ

أحدهما بالآخر صيانة الرسول عليه السلام عن شبهة الطعن لأنه لو نسخ الكتاب به أي بالحديث يقول الطاعن هو أول قائل وأول عامل بخلاف ما يزعم أنه أنزل إليه فكيف يعتمد على

قوله ولو نسخت سنة بالكتاب يقول الطاعن قد كذبه ربه فيما قال فكيف نصدقه وهو معنى

قوله لكان مدرجة إلى الطعن أي طريقا ووسيلة إليه فكان التعاون به أي بكل واحد أولى من المخالفة يعني جعل كل واحد منهما معينا للآخر ومؤيدا له أولى من جعله رافعا ومبطلا لصاحبه سدا لباب الطعن لعلمنا أنه مصون عما يوهم الطعن

ولا يقال في نسخ الكتاب بالكتاب مثل هذه المدرجة أيضا فإن الطاعن يقول كيف نعتمد

قوله في أن هذا الكلام من اللّه تعالى وقد يمكنه أن يقول إن اللّه تعالى يقول بخلافه لأنهم يقولون إن اللّه تعالى أجاب عن هذا الطعن بقوله قل نزله روح القدس من ربك بالحق فلا يكون في تجويز نسخ الكتاب بالكتاب تعريضه للطعن بخلاف ما نحن فيه

قوله واحتج بعض أصحابنا منهم الشيخ أبو منصور رحمه اللّه في ذلك أي في جواز نسخ الكتاب بالسنة بقوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف فإن الوصية لهم كانت فرضا بموجب هذه الآية ثم نسخت بقوله عليه السلام لا وصية لوارث وهذا الحديث في قوة المتواتر إذ المتواتر نوعان متواتر من حيث الرواية ومتواتر من حيث ظهور العمل به من غير نكير فإن ظهوره يغني الناس عن روايته وهو بهذه المثابة فإن العمل ظهر به مع القول من أئمة الفتوى بلا تنازع فيجوز النسخ به وقد ذكر أبو الحسن الكرخي عن أبي يوسف رحمهما اللّه أنه يجوز نسخ الكتاب بمثل خبر المسيح لشهرته ولا يجوز أن يقال إنما ثبت النسخ بآية المواريث لأن فيها إيجاب حق آخر بطريق الإرث وثبوت حق بطريق لا ينافي ثبوت حق آخر لطريق آخر كما في حق الأجانب وبدون المنافاة لا يثبت النسخ ولا يجوز أن يقال لعل ناسخه مما أنزل في القرآن ولكن لم يبلغنا لانتساخ تلاوته مع بقاء حكمه لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى القول بالوقف في جميع أحكام الشرع إذ ما من حكم إلا ويتوهم فيه أن ناسخه نزل ولم يبلغنا لانتساخ تلاوته

وإلى الامتناع تعيين ناسخ ومنسوخ أبدا إذ ما من ناسخ إلا ويحتمل أن يقدر أن يكون الناسخ غيره وما من منسوخ حكمه إلا ويحتمل أن

(٣/٢٦٦)

يقدر إسناد ذلك الحكم إلى غيره وفيه خرق الإجماع لانعقاده على أن ما وجد صالحا لإثبات الحكم هو المثبت وما وجد صالحا لنسخ الحكم هو الناسخ وإن احتمل إضافة الحكم والنسخ إلى غير ما ظهر مع عدم الظفر به بعد البحث التام عنه قال الشيخ رحمه اللّه وهذا الاستدلال غير صحيح لوجهين

أحدهما أنا لا نسلم أن نسخ الوصية ثبت بهذا الحديث بل ثبت بآية المواريث فإنها نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وبيانه أي بيان ثبوت النسخ بالآية أنه تعالى رتب الإرث على وصية منكرة بقوله عز ذكره من بعد وصية يوصى بها أو دين

والوصية الأولى كانت معهودة معرفة باللام فإنه تعالى قال الوصية للوالدين والأقربين فلو كانت تلك الوصية المفروضة باقية مع الميراث ثم نسخت بالحديث كما زعموا لوجب ترتيب الميراث على الوصية المعهودة المفروضة ثم على الوصية النافلة بأن قال من بعد الوصية للوالدين والأقربين ومن بعد وصية أوصيتم بها للأجانب فلما رتب الإرث على الوصية المطلقة النافلة دل على نسخ الوصية المقيدة المفروضة لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق نسخ لتغاير المعنيين ولا يقال المعرفة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية عين الأولى على ما مر في باب ألفاظ العموم فيكون هذه الوصية عين الأولى فلا يكون في الآية إشارة إلى نسخها فيتحقق النسخ بالسنة لأنا نقول ذلك الأصل غير مسلم عند بعض العلماء فإن صدر الإسلام أبا اليسر في أصول الفقه أن الشيء إذا ذكر بلفظ النكرة بعدما ذكر بلفظ المعرفة كانت النكرة غير المعرفة فإن من قال رأيت الرجل ثم قال رأيت رجلا يكون المذكور آخرا غير المذكور أولا ولئن سلم فذلك إذا لم يمنع عنه مانع وقد تحقق المانع هاهنا فإنهم أجمعوا أن الميراث بعد الوصية للأجانب ومستند الإجماع هذا النص فلو صرفت الوصية المذكورة فيه إلى المعهودة وقد نسخت المعهودة بلا خلاف لم يبق فيه دلالة على تأخر الميراث عن الوصية وهو خلاف الإجماع

والثاني أي الوجه الثاني لبيان فساد هذا الاستدلال أن النسخ نوعان

أحدهما ابتداء بعد انتهاء محض أي إثبات حكم ابتداء على وجه يكون دليلا على انتهاء حكم كان قبله بالكلية

(٣/٢٦٧)

كنسخ المسالمة بالمقابلة ونسخ إباحة الخمر بحرمتها

والثاني نسخ بطريق الحوالة وهو أن تحول الحكم من محل إلى محل آخر من غير أن ينتهي بالكلية كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فإن أصل فرض التوجه إلى القبلة لم يسقط به ولكن حول من بيت المقدس إلى الكعبة وكنسخ الأمر بذبح الولد إلى الشاة عند أكثر الأصوليين وهذا النسخ أي نسخ الوصية للوالدين والأقربين من النوع الثاني

وبيانه أي بيان كونه نسخا بطريق التحويل أن اللّه تعالى فوض الإيصاء في الوالدين والأقربين إلى العباد بشرط أن يراعوا الحدود وبينوا حصة كل قريب بحسب قرابته وإليه أشار بقوله بالمعروف ثم لما كان الموصي لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصي لكل واحد منهم بجهله وربما كان يقصد إلى المضارة في ذلك تولى اللّه تعالى بنفسه بيان ذلك الحق على وجه يتيقن به بأنه هو الصواب وأن فيه الحكمة البالغة وقصره على حدود لازمة لا يمكن تغييرها نحو السدس والثلث والثمن وغيرها تغير بها الحق أي تحول من جهة الإيصاء إلى الميراث

وقوله فتحول تفسير التغيير وإلى هذا أي إلى ما ذكرنا أنه نسخ بطريق التحويل أشار اللّه تعالى بقوله يوصيكم اللّه في أولادكم حيث أطلق لفظ الإيصاء أي الإيصاء الذي فوض إليكم تولاه بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره لجهلكم

وبقوله جل ذكره لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا أي لا تعلمون من أنفع لكم من هؤلاء في الدنيا والآخرة فتولى اللّه تعالى قسمة الميراث بينكم كما يقتضيه علمه وحكمته ولم يكلها إليكم أن اللّه كان عليما بالحكمة حكيما في القسمة ولما بين بنفسه ذلك الحق بعينه انتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى الطرق كمن أمر غيره بإعتاق عبده ثم أعتقه بنفسه ينتهي به حكم الوكالة لحصول المقصود بمباشرة الموكل الإعتاق بنفسه وإلى هذا أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله إن اللّه تعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث فإن الفاء يدل على سببية الأول كقولك زارني فأكرمته يعني انتفاء الوصية باعتبار أن اللّه تعالى أعطى كل ذي حق حقه فإن الوصية إنما وجبت لتبين حق القريب فإذا تبين حقه ببيان صاحب الشرع لم تبق الوصية مشروعة وهو معنى

قوله بهذا الفرض أي المذكور في الآية نسخ الحكم الأول وهو وجوب الوصية قال شمس الأئمة رحمه اللّه بعد تقرير هذا

(٣/٢٦٨)

الوجه ولكنا نقول بهذا الطريق يجوز أن يثبت انتهاء حكم وجوب الوصية للوالدين والأقربين فأما انتفاء حكم جواز الوصية لهم فلا يثبت بهذا الطريق ألا ترى أن بالحوالة وإن لم يبق الدين واجبا في الذمة الأولى فقد بقيت الذمة محلا صالحا لوجوب الدين فيها وليس من ضرورة انتفاء وجوب الوصية لهم انتفاء الجواز كالوصية للأجانب فعرفنا أنه إنما انتسخ وجوب الوصية لهم لضرورة نفي أصل الوصية وذلك ثابت بالسنة وهو

قوله عليه السلام لا وصية لوارث فمن هذا الوجه يتقرر الاستدلال بهذه الآية

قوله

ومنهم من احتج يعني في جواز نسخ الكتاب بالسنة بأن حكم الإمساك في البيوت في حق الزواني الثابت بقوله تعالى فأمسكوهن في البيوت نسخ بالسنة وهي

قوله عليه السلام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة إذ ليس في الكتاب ما يمكن إضافة إيجاب الرجم ونسخ الإمساك إليه وهو ضعيف أيضا لأنهم يقولون لا نسلم نسخه بالسنة فإنها لا تصلح ناسخة بالاتفاق لكونها من الآحاد بل النسخ ثبت بالكتاب على ما روي عن عمر رضي اللّه عنه أن الرجم كان مما يتلى في القرآن

وقال لولا أن الناس يقولون زاد عمر في كتاب اللّه لكتبت على حاشية المصحف الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم فكان هذا نسخ الكتاب بالكتاب أولا ثم نسخ تلاوة الناسخ وبقي حكمه وقيل نسخ حكم الإمساك بآية الجلد وهي تتناول البكر والثيب ثم خصت الثيب بحديث الرجم وخبر الواحد يصلح مخصصا عندهم وإن لم يصلح ناسخا أو يجعل اللّه لهن سبيلا مجمل فسرته السنة يعني ولئن سلمنا أن الرجم ثبت بالسنة فذلك بطريق تفسير المجمل لا بطريق النسخ فإن حكم الإمساك في البيوت كان موقتا بما هو مجمل وهو قوله تعالى أو يجعل اللّه لهن سبيلا فإن أو هذه بمعنى إلى أن ثم فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك المجمل بقوله خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الحديث وتفسير المجمل بالسنة جائز بالاتفاق فانتهى ذلك الحكم بهذا البيان كانتهاء الصوم بالليل فلا يكون من باب النسخ

قوله واحتج بعضهم أي بعض من جوز نسخ الكتاب بالسنة بقوله تعالى وإن

(٣/٢٦٩)

فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا فإن هذا الحكم وهو إيتاء الزوج مثل ما أنفق حكم نسخ بالسنة إذ لا يتلى ناسخه في القرآن

وهذا الاستدلال غير صحيح أيضا لأن هذا أي قوله تعالى وإن فاتكم شيء الآية فيمن أي في شأن من ارتدت امرأته ولحقت بدار الحرب أن يعطى زوجها بدلا من مال أي في إعطاء من ارتدت امرأته ولحقت بدار الحرب ما غرم فيها من الصداق معونة له في دفع الخسران ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الندب كما قال شمس الأئمة فلا يكون منسوخا ويحتمل أن يكون بطريق الوجوب ولكن من مال الغنيمة لا من كل مال فإن معنى

قوله فعاقبتم أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم كما قال الزجاج أو أصبتم عقبى منهم أي كانت الغلبة لكم حتى غنمتم وعلى هذا التقدير قيل هو غير منسوخ أيضا وقيل هو منسوخ وناسخه آية القتال كذا في التيسير وقيل ناسخه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل كذا في شرح التأويلات وإذا كان كذلك لا يصح الاحتجاج به في موضع النزاع وذكر في المطلع روي أنه لما نزل قوله تعالى واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا أدى المؤمنون مهور المهاجرات إلى أزواجهن المشركين وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور المرتدات إلى أزواجهن المسلمين فنزلت هذه الآية وقال ابن زيد خرجت امرأة من المسلمين إلى المشركين وأتت امرأة من المشركين فقال القوم هذه عقبتكم قد أتتكم فنزلت والمعنى وإن سبقكم وانفلت منكم شيء من أزواجكم أي أحد منهن إلى الكفار فعاقبتم من العقبة وهي النوبة شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه أي يتناوبون كما يتعاقب في الركوب وغيره ومعناه فجاءت عقبتكم من أدائكم فآتوا من فاتته امرأته من الكفار مرتدة مثل مهرها من مهر مهاجرة جاءتكم ولا تؤتوه زوجها الكافر ليكون قصاصا

قالوا وهذه الأحكام التي ذكرها اللّه في هاتين الآيتين من الامتحان ورد المهر وأخذه من الكفار وتعريض الزوج المسلم من الغنيمة أو من صداق وجب رده على أهل الحرب كل ذلك منسوخ عند جميع أهل العلم

(٣/٢٧٠)

قوله

ومن الحجة كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتوجه إلى الكعبة في الصلاة حين كان بمكة ولما هاجر إلى المدينة كان يتوجه إلى بيت المقدس في الصلاة ستة عشر شهرا ثم نسخ ذلك بالتوجه إلى الكعبة فقال الشيخ رحمه اللّه إن كان التوجه إلى الكعبة في الابتداء يعني كان بمكة ثابتا بالكتاب فقد نسخ بالسنة الموجبة للتوجه إلى بيت المقدس فإنه ثابت بالسنة ظاهرا لأنه لا يتلى في القرآن فيكون دليل جواز نسخ الكتاب بالسنة وإن لم يثبت ذلك فلا شك في أن التوجه إلى بيت المقدس الثابت بالسنة ظاهرا قد نسخ بالكتاب وهو قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام فيكون دليلا على جواز نسخ السنة بالكتاب فإن قيل لا نسلم أن التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسنة بل هو ثابت بالكتاب فإنه كان من شريعة من قبلنا وشريعة من قبلنا تلزمنا حتى يقوم الدليل على انتساخه وهذا حكم ثابت بالكتاب وهو قوله تعالى أولئك الذين هدى اللّه فبهداهم اقتده

قلنا عندك شريعة من قبلنا تلزمنا بطريق أنها تصير شريعة لنا بسنة رسول اللّه عليه السلام قولا أو عملا فلا يخرج بهذا من أن يكون نسخ السنة بالكتاب مع أن ناسخ ما كان في شريعة من قبلنا قد ثبت بفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين كان بمكة فإنه كان يصلي إلى الكعبة ثم بعدما قدم المدينة لما صلى إلى بيت المقدس انتسخت السنة بالسنة ثم لما نزلت فرضية التوجه إلى الكعبة انتسخت السنة بالكتاب والشرائع الثابتة بالكتب السالفة نسخت بشريعتنا بلا خلاف وما ثبتت هي إلا بتبليغ الرسول عليه السلام وتبليغه قد يكون بالوحي المتلو وغير المتلو فيكون ذلك دليلا على جواز نسخ الكتاب بالسنة

وعبارة شمس الأئمة فيه ولا خلاف أن ما كان في شريعة من قبلنا ثبت انتساخه في حقنا بقول أو فعل من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخلافه وهذا نسخ الكتاب بالسنة وإنما ظن النسخ من غير كتاب يتلى فإنه كان كاتب الوحي ولم يرد النبي عليه السلام عليه ظنه ولم ينكر عليه فعله فدل على جواز نسخ التلاوة بغير الكتاب وإذا ثبت جواز نسخ التلاوة ثبت

(٣/٢٧١)

جواز نسخ الحكم لأن وجوب التلاوة والعمل بحكم المتوكل واحد منهما ثابت بالكتاب قال أبو اليسر رحمه اللّه هذا ليس بقوي لأن في ذلك الزمان كان القرآن ينزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فربما اعتقد أنها نسخت بآية أخرى قبيل هذا الزمان ولم تبلغه لضيق الوقت فلا يتعين النسخ بالحديث ولعله ظن النسخ بالإنساء

وكان نسخا للكتاب وهو قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد أي لا يحل لك النساء سوى هؤلاء اللاتي اخترنك من بعد أي من بعد ما اخترن اللّه ورسوله بالسنة وهي إخبار النبي عليه السلام إياها أن اللّه تعالى أباح له ذلك وأشار شمس الأئمة رحمه اللّه إلى أن الصحابة اتفقوا على كونه منسوخا وناسخه لا يتلى في الكتاب فعرفنا أنهم اعتقدوا جواز نسخ الكتاب بغيره قال أبو اليسر وهذا لا يقوى لأن هذا الحل لم يثبت يعني حل ما زاد على التسع بعدما حرم بقوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد لم يثبت لأن تحريم ما زاد على التسع محكم لا يحتمل النسخ بدليل

قوله من بعد فإنه بمنزلة التأبيد إذ البعدية المطلقة تتناول الأبد يوضحه أن ذلك ثبت جزاء لحسن عملهن وهو اختيارهن رسول اللّه عليه السلام ومصابرتهن على الفقر والشدة فكيف يجوز أن يبطل ذلك بالنسخ مع بقائهن على ذلك الاختيار ولئن سلمنا نسخه فذلك ثبت بقوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن على ما قيل لا بالسنة فلا يصح هذا الاحتجاج وصالح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على أن من لحق بالكفار من المسلمين لم يردوه ومن لحق بالمسلمين منهم ردوه وكانت المصلحة فيه في ذلك الوقت فلما ختم كتاب الصلح جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة فأقبل زوجها مسافر المخزومي وقيل صيفي بن الراهب فقال يا محمد اردد علي امرأتي كما هو الشرط وهذه طينة الكتاب لم تجف فنزل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات إلى آخر الآية ونسخ ذلك الحكم في حق النساء وهذا السنة بالكتاب

قوله والدليل المعقول وهو معتمد الجمهور أن نسخ

أحدهما أعني الكتاب

(٣/٢٧٢)

والسنة بالآخر ليس بممتنع عقلا ولم يرد منه منع سمعا فوجب القول بالجواز أما بيان عدم امتناعه عقلا فلأن النسخ في الحقيقة بيان مدة الحكم كما بينا فإذا ثبت حكم بالكتاب لم يمتنع أن يبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مدة بقائه بوحي غير متلو كما لا يمتنع أن يبينها بوحي متلو وكما لم يمتنع أن يبين مجمل الكتاب بعبارته لم يمتنع أن يبين مدة الحكم المطلق بعبارته ألا ترى أن النسخ إسقاط الحكم في بعض الأزمان الداخلة تحت العموم كما أن التخصيص إسقاط الحكم في بعض الأعيان الداخلة تحت العموم فإذا لم يمتنع تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة لم يمتنع نسخه بها أيضا وإذا ثبت حكم بالسنة لم يمتنع أيضا أن يتولى اللّه تعالى بيان مدته لعلمه بتبدل المصلحة كما لو بينها الرسول عليه السلام بنفسه وكما لو بين اللّه تعالى مدة الحكم الثابت بالكتاب لأن الحكم الثابت على لسان الرسول عليه السلام أي الثابت بعبارته هو حكم ثابت من اللّه تعالى بدليل مقطوع به بمنزلة الثابت بالكتاب فثبت أن ذلك ليس بممتنع عقلا ولم يرد السمع بعدم جوازه أيضا لأن ما تلوا من الآيات لا يدل على عدم جوازه على ما نبين فثبت أنه جائز

وعبارة بعض الأصوليين أنه لو امتنع نسخ

أحدهما بالآخر لكان لغيره لا لذاته لأن كل واحد من الكتاب والسنة وحي من اللّه تعالى على ما قال وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى إلا أن الكتاب متلو والسنة غير متلوة ونسخ أحد القولين بالآخر غير ممتنع بذاته ولهذا فرض خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخا للسنة أو بجعل السنة ناسخة للقرآن لما لزم لذاته محال عقلا فإذا لو امتنع لكان لغيره والأصل عدمه قال صاحب الميزان إذا أخبر النبي عليه السلام أن هذا الحكم نسخ من غير أن يتلو قرآنا أيقبل خبره أم لا فإن قال الخصم لا يقبل فقد انسلخ عن الدين وإن قال يقبل فقد ترك مذهبه إذ هو تفسير جواز نسخ الكتاب بالسنة

قوله ولأن الكتاب دليل آخر على الجواز متضمن للجواب عما قالوا إن نسخ

أحدهما بالآخر لا يجوز لفوات المماثلة المشروطة بالنص فقال ليس كذلك لأن الكتاب يزيد بنظمه لكونه معجزا على السنة فيصلح ناسخا لها لكونه خيرا منها كما يصلح ناسخا للكتاب لكونه مثلا له والسنة مثل الكتاب في إثبات الحكم وإيجاب العلم كما قرر في الكتاب فيصح نسخه بها أيضا

(٣/٢٧٣)

فإن قيل

قوله فإنما ينسخ بها حكم الكتاب دون نظمه يناقض ما سبق أن أبيا ظن نسخ النظم من غير كتاب يتلى فإنه يدل على جواز نسخ النظم بالسنة قلنا المراد هاهنا بيان الوقوع أي لم يقع نسخ النظم بالسنة وإنما وقع نسخ الحكم بها وفيما سبق بيان الجواز أي ظنه يدل على جواز نسخ النظم بدون الكتاب فلا يكون تناقضا أو المراد من

قوله فإنما ينسخ بها حكم الكتاب دون نظمه أنه لا يجوز نسخ النظم بالسنة على وجه تقوم السنة مقامه في جواز أداء الصلاة بها

والمراد من حديث أبي رضي اللّه عنه أنه يدل على جواز نسخ النظم بالسنة على وجه يكون بيانا لانتهاء حكمه فقط فيندفع التناقض

وقوله ولو وقع الطعن جواب عما قالوا نسخ

أحدهما بالآخر مدرجة إلى الطعن فقال لو وقع الطعن بمثله أي بمثل ما نحن فيه من نسخ الكتاب بالسنة والسنة بالكتاب وامتنع به لما صح ذلك أي النسخ في الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة لأن الطاعن يقول إنه يناقض في كلامه وينقل عن اللّه تعالى كلاما متناقضا فكيف يعتمد عليه وإليه أشار اللّه تعالى بقوله وإذا بدلنا آية مكان آية واللّه أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ثم لم يندفع نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة بهذا الطعن فكذا ما نحن فيه وهذا لأنه لما علم بالمعجزات الدالة على صدق وصحة رسالته وأنه مبلغ وأن الجميع من عند اللّه تعالى لم يبق للطعن مجال بل في ذلك أي في جواز نسخ الكتاب بالسنة وعكسه إعلاء منزلة الرسول عليه السلام وتعظيم سنته من حيث إن اللّه تعالى فوض بيان الحكم الذي هو وحي في الأصل إليه ليبينه بعبارته وجعل لعبارته من الدرجة ما يثبت به انتهاء مدة الحكم الذي هو ثابت بوحي متلو حتى يتبين به انتساخه

ومن حيث إنه جعل سنته في إثبات الحكم مثل كلامه وتولى بيان مدته بنفسه كما تولى بيان مدة الحكم الذي أثبته بكلامه

قوله وظهر أنه ليس بتبديل جواب عن تمسكهم بقوله تعالى قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي فقال ظهر بما بينا أن نسخ الكتاب بالسنة ليس بتبديل من عند نفسه كما زعموا بل بوحي من اللّه تعالى إلا أنه غير متلو ولا يقال يحتمل أنه كان عن اجتهاد لجواز الاجتهاد له فيما لم يوح إليه لأنا نقول الإذن بالاجتهاد من اللّه تعالى أيضا وإنه في اجتهاده لا يقر الخطأ فكان اجتهاده مع التقرر بمنزلة

(٣/٢٧٤)

الوحي أيضا وذكر الغزالي رحمه اللّه أن الناسخ في الحقيقة هو اللّه تعالى على لسان رسوله عليه السلام وليس الشرط أن ينسخ حكم القرآن بل بوحي على لسان رسوله وكلام اللّه تعالى واحد وهو الناسخ باعتبار وهو المنسوخ باعتبار وليس له كلامان

أحدهما قرآن والآخر ليس بقرآن وإنما الاختلاف بالعبارات فربما دل على كلامه بلفظ منظوم يأمر بتلاوته ويسمى قرآنا وربما دل عليه بلفظ غير متلو ويسمى سنة والكل مسموع من الرسول عليه السلام والناسخ هو اللّه تعالى بكل حال

قوله وتأويل الحديث قال شمس الأئمة رحمه اللّه وما روي من

قوله عليه السلام فاعرضوه على كتاب اللّه تعالى فقد قيل هذا الحديث لا يكاد يصح لأن هذا الحديث بعينه مخالف لكتاب اللّه تعالى فإن في الكتاب فرضية اتباعه مطلقا وفي هذا الحديث فرضية اتباعه مقيدا بأن لا يكون مخالفا لما يتلى في الكتاب ظاهرا ولئن ثبت فالمراد اختبار الآحاد لا المسموع عنه بعينه أو الثابت عنه بالنقل المتواتر وفي اللفظ ما دل عليه وهو

قوله عليه السلام إذا روي لكم عني حديث ولم يقل إذا سمعتم مني ونحن نقول إن خبر الواحد لا يثبت نسخ الكتاب به لأنه لا يثبت كونه مسموعا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قطعا ولهذا لا يثبت به علم اليقين على أن المراد من

قوله عليه السلام وما خالف فردوه عند التعارض إذا جهل التاريخ بينهما حتى لا يوقف على الناسخ والمنسوخ منهما فإنه يعمل بما في كتاب اللّه ولا يجوز ترك ما هو ثابت في كتاب اللّه تعالى نصا عند التعارض ونحن هكذا نقول وإنما الكلام فيما إذا عرف التاريخ بينهما

قوله فأما قوله تعالى نأت بخير منها جواب عن تمسكهم بهذه الآية فقال المراد بالخيرية هو الخيرية فيما يرجع إلى مرافق العباد دون النظم بمعناه أي مع معناه أو ملتبسا بمعناه لأن نظم القرآن لا يفضل بعضه على بعض بل الكل سواء في الإعجاز وفي كونه قرآنا فكذلك المماثلة أي فكالخيرية المماثلة في أنها راجعة إلى مرافق العباد لا إلى المماثلة في النظم فكان المعنى نأت بخير منها أو مثلها في المحبة والمصلحة والثواب ونحوها لا بلفظة خير من لفظها أو مثلها فالحاصل أن الخيرية والمثلية باعتبار الحكم لا باعتبار اللفظ وقد يكون حكم السنة الناسخة خيرا أو مثلا لحكم الآية المنسوخة من حيث كونه أصلح للمكلف من الحكم المتقدم أو مساويا له

(٣/٢٧٥)

باعتبار الثواب وغيره والمجانسة حاصلة في هذا التقدير لأن الأحكام جنس واحد مع أننا لا نسلم أن الخيرية تقتضي المجانسة لأن قول القائل من لقيني بحمد وثناء لقيته بخير منه يراد به المنحة والعطاء لا الحمد والثناء

وأجيب عن الآية أيضا بأنها لا تفيد أن الخير أو المثل هو الناسخ لأنه رتب الإتيان ب

أحدهما على نسخ الآية فلو كان الخير أو المثل هو الناسخ لترتب نسخ الآية على الإتيان ب

أحدهما وهو دور واعترض عليه بأن غاية ما يلزم منه أن الخير أو المثل يجوز أن لا يكون ناسخا بل شيئا آخر مغايرا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ وهذا إنما كان يفيد لو كان مدعى المستدل أن الخير أو المثل هو الناسخ وليس كذلك بل مدعاه أن الناسخ يجب أن يكون خيرا من المنسوخ أو مثله لأن الناسخ بدل عن المنسوخ والآية تدل على أن بدل المنسوخ خير أو مثل خارج على هذه الجملة أي على وفاق هذه الجملة فإنا قد بينا أن السنة مثل الكتاب فيما يقع فيه النسخ وهو الحكم وفي بعض النسخ عن هذه الجملة أي الآية على أن الكتاب ينسخ بالكتاب ولا تدل على أنه لا ينسخ بالسنة لما تقدم أن المفهوم ليس بحجة

وأما الجواب عن تمسكهم بقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم فهو أنا لا نسلم دلالة الآية على كون السنة بيانا لجواز أن يكون المراد من

قوله لتبين لتبلغ إذ حمل البيان على التبليغ أولى من حمله على بيان المراد تفاديا عن لزوم الإجمال والتخصيص فيما أنزل لأن التبليغ عام فيه بخلاف بيان المراد لاختصاصه ببعضه كالعام والمجمل والمطلق والمنسوخ ولو سلم أن المراد لتبين العام والمجمل والمطلق والمنسوخ إلى غير ذلك فلا نسلم أن النسخ ليس ببيان لأنه بيان

أيضا

قوله ونسخ السنة بالسنة كذا لم يذكر الشيخ رحمه اللّه أمثلة نسخ الكتاب بالكتاب كما ذكرها غيره لظهورها وكثرتها مثل نسخ آيات المسالمة التي هي أكثر من مائة آية بآيات القتال ونسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة الثابت بقوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين بوجوب ثباته للاثنين بقوله عز اسمه الآن خفف اللّه عنكم الآية وهذا النص وإن كان طريقه طريق الخبر لكنه أمر في الحقيقة روي عن بريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إني نهيتكم عن الثلاث عن زيارة القبور فزوروها فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه ولا تقولوا هجرا وعن لحم الأضاحي أن تمسكوه فوق ثلاثة أيام فأمسكوه ما بدا لكم وتزودوا فإنما نهيتكم ليتسع به موسركم على معسركم وعن النبيذ في الدباء والحنتم والمزفت فاشربوا

(٣/٢٧٦)

في كل ظرف فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ولا تشربوا مسكرا وفي رواية ابن مسعود رضي اللّه عنه لهذا الحديث قال وعن الشرب في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فاشربوا في الظروف ولا تشربوا مسكرا فهذا نسخ السنة بالسنة لانتهاء حكم النهي بالإذن ثم قيل المراد بالنهي عن الزيارة هو النهي عن زيارة قبور المشركين فإنهم ما منعوا عن زيارة قبور المسلمين قط ألا ترى أنه قال فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه وكانت مشركة وروي أنه زار قبرها في أربعمائة فارس فوقفوا بالبعد ودنا هو من قبرها فبكى حتى سمع نشيجه

وقيل إنما نهوا عن زيارة القبور في الابتداء على الإطلاق لما كان من عادة أهل الجاهلية أنهم كانوا يندبون الموتى عند قبورهم وربما يتكلمون بما هو كذب أو محال ولهذا قال ولا تقولوا هجرا أي لغوا من الكلام ففيه بيان أن الممنوع كان هو التكلم باللغو عند القبور وذلك موضع ينبغي للمرء أن يتعظ به ويتأمل في حال نفسه وهذا قائم لم ينتسخ إلا أنه في الابتداء نهاهم عن زيارة القبور لتحقيق الزجر عن الهجر من الكلام ثم أذن لهم في الزيارة بشرط أن لا يقولوا هجرا وقيل الإذن ثبت للرجال دون النساء فالنساء يمنعن من الخروج إلى المقابر لما روي أن فاطمة رضي اللّه عنها خرجت في تعزية لبعض الأنصار فلما رجعت قال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعلك أتيت المقابر قالت لا قال لو أتيت ما فارقت جدك يوم القيامة أي كنت معه في النار والأصح أن الرخصة ثابتة للرجال والنساء جميعا فقد روي أن عائشة رضي اللّه عنها كانت تزور قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في كل وقت وأنها لما خرجت حاجة زارت قبر أخيها عبد الرحمن وأنشدت عند القبر قول القائل وكنا كندمى في حزيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن تتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا والنهي عن إمساك لحوم الأضاحي في الابتداء كان للضيق والشدة فنهاهم عن الإمساك ليتسع توسعهم على معسرهم ولما عدم ذلك الضيق أذن لهم في الإمساك

فأما النهي عن الشرب في الأواني المغتلمة فقد كان تحقيقا للزجر عن شرب المسكر الحرام فقد كانوا ألفوا شربها وقد كان يشق عليهم الانزجار عن العادة المألوفة ولهذا أمر بكسر الدنان وشق الزوايا ولما حصل الانزجار أذن لهم في الشرب في الأواني وبين أن المحرم شرب المسكر وأن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه كذا في أشربة المبسوط عن النبيذ أي عن أخذ النبيذ أو شرب النبيذ والنبيذ التمر ينبذ في جرة الماء أو غيرها أي يلقى فيها حتى

(٣/٢٧٧)

يغلي وقد يكون من الزبيب والعسل والدباء القرع والحنتم جرار حمر وقيل خضر تحمل فيه الخمر إلى المدينة الواحد حنتمة والنقير الخشبة المقورة والمزفت الوعاء المطلي بالزفت وهو القار وهذه أوعية ضارية تسرع بالشدة في الشراب وتحدث فيه التغير ولا يشعر به صاحبه فهو على خطر من شرب المحرم كذا في المغرب

قوله ويجوز أن يكون حكم الناسخ أشق من حكم المنسوخ اختلف القائلون بالنسخ بعد اتفاقهم على جواز النسخ ببدل أخف كنسخ تحريم الأكل بعد النوم في ليالي رمضان بحله وببدل مماثل كنسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة في جواز النسخ إلى بدل أثقل فذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى جوازه وذهب بعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب الظاهر منهم محمد بن داود إلى امتناعه قال شمس الأئمة ذكر الشافعي رحمه اللّه في كتاب الرسالة أن اللّه تعالى فرض فرائض أثبتها وأخرى نسخها رحمة وتخفيفا لعباده فزعم بعض أصحابه أنه أشار بهذا إلى وجه الحكمة في النسخ وقال بعضهم أراد به أن الناسخ أخف من المنسوخ وكان لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل تمسكوا في ذلك بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها أخبر أن الناسخ ما هو خير من المنسوخ أو مثله

والمراد بالخيرية أو المثلية هو الخيرية أو المثلية في حقنا وإلا فالقرآن خير كله من غير تفاضل فيه والأشق ليس بخير ولا مثل فلا يجوز النسخ به وبقوله تعالى يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر

وقوله جل ذكره يريد اللّه أن يخفف عنكم فإنهما يدلان على إرادة اليسر والتخفيف والنقل إلى الأشق يدل على إرادة العسر والتثقيل فيكون خلاف النص فلا يجوز وبأن النقل إلى الأشق أبعد في المصلحة لكونه إضرارا في حق المكلفين لأنهم إن فعلوا التزموا المشقة الزائدة

وإن تركوا تضرروا بالعقوبة وذلك لا يليق بحكمة الشارع ورأفته على عباده وتمسك الجمهور بدلالة العقل والشرع على الجواز

(٣/٢٧٨)

أما دلالة العقل فلأن مصلحة المكلف قد تكون في الترقي من الأخف إلى الأثقل كما يكون في ابتداء التكليف ورفع الحكم الأصلي كما يكون في النقل من الأثقل إلى الأخف ألا ترى أن الطبيب ينقل المريض من الغذاء إلى الدواء تارة ومن الدواء إلى الغذاء أخرى بحسب ما يعلم من منفعته فيه

وأما دلالة الشرع فلأن اللّه تعالى نسخ التخيير بين صوم رمضان والفدية عنه في ابتداء الإسلام على ما روى ابن عمر ومعاذ رضي اللّه عنهم ذلك فعزيمة الصيام أي بالصوم حتما بقوله عز اسمه فمن شهد منكم الشهر فليصمه ولا شك أن الصوم حتما أشق من التخيير ونسخ الصفح والعفو عن الكفار الثابتين بقوله تعالى فاعف عنهم واصفح بآيات القتال ونسخ الحبس والإيذاء باللسان في حد الزنا بالجلد والرجم ونسخ إباحة الخمر ونكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية بتحريمها ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكون الحج مندوبا بكونه فرضا وإباحة تأخير الصلاة عند الخوف بوجوب أدائها في أثناء القتال وكل ذلك نسخ بالأشق والأثقل

وأما تمسكهم بالآية الأولى فضعيف لأنا لا نسلم أن الأشق ليس بخير بل هو خير باعتبار الثواب في الآخرة كما أن الأخف خير باعتبار السهولة في الدنيا فإن الأشق أكثر ثوابا على ما قال عليه السلام لعائشة رضي اللّه عنها أجرك على قدر تعبك وقال أفضل الأعمال أحمزها أي أشقها على البدن وكذا تمسكهم بالآيتين الأخريين لأن الآيتين لا تدلان على اليسر والتخفيف في كل شيء بل في صور مخصوصة

وما ذكروا من المعقول فهو لازم عليهم في نقل الخلق عن الإباحة والإطلاق إلى مشقة التكليف وعن الصحة إلى المرض وعن القوة إلى الضعف وعن الغنى إلى الفقر فما هو الجواب لهم عن صور الإلزام فهو جوابنا في محل النزاع واللّه أعلم

(٣/٢٧٩)

باب تفصيل المنسوخ المنسوخ اسم للحكم المرتفع أو اسم للحكم الذي انتهى بالدليل المتأخر وقد يسمى الدليل الأول منسوخا وهو أنواع نسخ الدليل الذي ثبت به الحكم الأول ونسخ الشرط الذي تعلق به الحكم الأول ونسخ الحكم الأول وهو أنواع نسخ كل الحكم ونسخ بعض الحكم والزيادة على الحكم الأول والنقصان عنه أما نسخ الدليل فعلى ضربين نسخ وحي متلو ونسخ وحي غير متلو وهو خبر الرسول عليه السلام أما نسخ الكتاب فأنواع نسخ التلاوة والحكم جميعا ونسخ التلاوة دون الحكم وعكسه كذا ذكر في الميزان فظهر بهذا أن مراد الشيخ من تفصيل المنسوخ في هذا الباب تفصيل المنسوخ من الكتاب لا تفصيل مطلق المنسوخ

المنسوخ أنواع أربعة التلاوة والحكم أي اللفظ والحكم المتعلق بمعناه جميعا والحكم دون اللفظ وعكسه ونسخ وصفه نحو نسخ فرضية صوم عاشوراء مع بقاء أصله فمثل صحف إبراهيم فإنا قد علمنا حقيقة أنها كانت نازلة تقرأ ويعمل بها قال اللّه تعالى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ثم نسخت أصلا ولم يبق شيء من ذلك بين الخلق تلاوة ولا عملا به فلا طريق لذلك سوى القول بانتساخ التلاوة والحكم فيما يحتمل ذلك بصرفها عن القلوب أي برفعها عنها أو هو من مغلوب الكلام أي تصرف القلوب عنها أي عن حفظها وكان هذا أي هذا النوع وهو نسخ التلاوة والحكم جميعا بصرف القلوب عنهما جائزا في القرآن في حياة النبي صلى اللّه عليه وسلم للاستثناء المذكور في

قوله

(٣/٢٨٠)

تعالى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء اللّه إذ لو لم يتصور النسيان لخلا ذكر الاستثناء عن الفائدة

وقوله تعالى أو ننسها يدل على الجواز أيضا وذلك مثل ما روي عن عائشة أنها قالت كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات فنسخن بخمس وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة وقال الحسن رحمه اللّه إن النبي صلى اللّه عليه وسلم أوتي قرآنا ثم نسيه فلم يكن شيئا أو لم يبق منه شيء لما رفع اللّه تعالى عن قلبه ذلك فأما بعد وفاته فلا أي فلا يجوز قال بعض الرافضة والملحدة ممن يتستر بإظهار الإسلام وهو قاصد إلى إفساده هذا جائز بعد وفاته أيضا وزعموا أن في القرآن كانت آيات في إمامة علي وفي فضائل أهل البيت فكتمها الصحابة فلم تبق باندراس زمانهم واستدلوا في ذلك بما روي أن أبا بكر رضي اللّه عنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم وأنس رضي اللّه عنه كان يقول قرأنا في القرآن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا

وقال عمر رضي اللّه عنه قرأنا آية الرجم وعيناها وروي في حديث عائشة رضي اللّه عنها أن ذلك كان مما يتلى بعد وفاة رسول اللّه عليه السلام والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ومعلوم أنه ليس المراد الحفظ لديه فإن اللّه تعالى يتعالى من أن يوصف بالنسيان والغفلة فعرفنا أن المراد الحفظ في الدنيا فإن الضياع محتمل منا قصدا كما فعله أهل الكتاب والغفلة والنسيان متوهم منا وبه ينعدم الحفظ إلا أن يحفظه اللّه عز وجل وهو معنى

قوله أي يحفظه منزلا لا يلحقه تبديل ولأنه لا يخلو شيء من أوقات بقاء الخلق في الدنيا عن أن يكون فيما بينهم ما هو ثابت بطريق الوحي فيما ابتلوا به من أداء الأمانة التي حملوها إذ العقل لا يوجب ذلك وليس به كفاية بوجه من الوجوه وقد ثبت أنه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولو جوزنا هذا في بعض ما أوحي وجب القول بتجويز ذلك في جميعه فيؤدي إلى القول بجواز أن لا يبقى شيء مما ثبت بالوحي بين الناس في حال بقاء التكليف وهذا قبيح فعرفنا أنه لصيانة الدين إلى آخر الدهر أخبر جل جلاله أنه هو الحافظ لما أنزله على رسوله عن التغيير والمحو عن القلوب فلا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته بطريق الاندراس وذهاب حفظه من قلوب العباد وما نقلوا من

(٣/٢٨١)

أخبار الآحاد فبعضها شاذ لا يكاد يصح وما ثبت منها محمول على أن المحو عن قلوب الصحابة سوى قلب الراوي كان قبل وفاته لا بعده

وأما حديث عائشة فغير صحيح لأنه ذكر في ذلك الحديث وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول اللّه عليه السلام فدخل داجن البيت فأكلها ومعلوم أن بهذا لا ينعدم حفظه عن القلوب ولا يتعذر إثباته في صحيفة أخرى فعرفنا أنه لا أصل لهذا الحديث كذا في أصول الفقه لشمس الأئمة

قوله

وأما القسم الثاني وهو نسخ الحكم دون التلاوة والثالث وهو نسخ التلاوة دون الحكم صحيحان عند جمهور الفقهاء والمتكلمين ومن الناس وهم فرقة شاذة من المعتزلة من أنكر الجواز في القسمين متمسكين بأن المقصود من النص حكمه المتعلق بمعناه إذ الابتلاء يحصل به والنص وسيلة إلى هذا المقصود فلا يبقى النص بدون حكمه لسقوط اعتبار الوسيلة عند فوات المقصود كوجوب الطهارة لا يبقى بعد سقوط الصلاة بالحيض والحكم بالنص يثبت لا بغيره فلا يبقى بدونه كالملك الثابت بالبيع لا يبقى بدون البيع بأن انفسخ وعبارة بعضهم أن التلاوة مع الحكم بمنزلة العلم مع العالمية والمفهوم مع المنطوق وكما لا ينفك العلم من العالمية والمفهوم من المنطوق فكذلك التلاوة والحكم لا ينفكان ومنهم من أنكر نسخ التلاوة مع بقاء الحكم دون عكسه لأن الاعتقاد واجب في المتلو أنه قرآن وأنه كلام اللّه تعالى ولا يصح أن يعتقد فيه خلاف هذا في شيء من الأوقات والقول بجواز نسخ التلاوة يؤدي إليه فلا يجوز وتمسكت العامة في كل واحد من القسمين بالمنقول والمعقول أما بيان المنقول في القسم الأول وهو نسخ الحكم دون التلاوة فهو أن الإيذاء باللسان للزانيين الثابت بقوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما وإمساك الزواني أي الزانيات الثابت بقوله عز اسمه فأمسكوهن في البيوت نسخا بالجلد والرجم مع بقاء تلاوة النصين الدالين عليهما

وقوله نسخ حكمه أي نفس هذا الحكم ومشروعيته وبقيت تلاوته أي تلاوة النص المثبت له ولو قيل إن النص الموجب للإيذاء والإمساك نسخ حكمه وبقيت تلاوته لكان أحسن وكذلك الاعتداد بالحول أي

(٣/٢٨٢)

وكالإيذاء باللسان والإمساك الاعتداد بالحول الثابت بقوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج نسخ مع بقاء تلاوة هذا النص ومثله كثير مثل نسخ تقديم الصدقة على نجوى الرسول عليه السلام ونسخ التخيير في الصوم ونسخ المسالمة مع الكفار وثبات الواحد للعشرة مع بقاء تلاوة الآيات الموجبة لها

وأما المعقول فهو ما ذكر في الكتاب أن للنظم حكمين إلى آخره وحاصله أن ما يتعلق بالنص من الأحكام على قسمين قسم يتعلق بالنظم مثل جواز الصلاة والإعجاز وغيرهما وقسم يتعلق بالمعنى وهو ما يترتب عليه من الوجوب والحرمة ونحوهما فيجوز أن يكون

أحدهما مصلحة دون الآخر فإذا انتسخ ما يتعلق بالمعنى جاز أن يبقى ما يتعلق بالنظم لكونه مقصودا والدليل على أن ما يتعلق بالنظم يصلح مقصودا أن في القرآن ما هو متشابه ولم يثبت به من الأحكام إلا ما يتعلق بالنظم من جواز الصلاة والإعجاز فإذا حسن ابتداء إنزال النظم له فالبقاء أولى فلذلك أي فلصلاح الحكمين المذكورين لكونهما مقصودين استقام البقاء بهما أي بقاء النص ببقائهما وانتهى الآخر أي الحكم المتعلق بالمعنى كالصلاة مع الصوم لما كان كل واحد منهما مقصودا جاز بقاء

أحدهما مع عدم الآخر وبه خرج الجواب عما قالوا المقصود من النص حكمه فلا يبقى النص بدونه لأن الحكم المتعلق بالنظم لما كان مقصودا جاز أن يبقى النظم ببقائه فأما القسم الثالث وهو نسخ التلاوة دون الحكم فتمسكوا بالمنقول والمعقول أيضا أما المنقول فمثل قراءة عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه في كفارة اليمين فصيام ثلاثة أيام متتابعات وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة رحمه اللّه ولكن لم يوجد فيها النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن

ومثل قراءة ابن عباس رضي اللّه عنهما فأفطر فعدة من أيام أخر ومثل قراءة سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه وله أخ أو أخت لأم فلكل واحد منهما السدس وكرواية عمر رضي اللّه عنه الشيخ والشيخة إلى آخره ثم لا يظن بهؤلاء أنهم اخترعوا ما رووا من أنفسهم فيحمل على أنه كان مما يتلى ثم انتسخت تلاوته في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بصرف اللّه تعالى القلوب عن حفظها إلا قلوب هؤلاء ليبقى الحكم بنقلهم فإن خبر الواحد موجب للعمل به فكان بقاء الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق لا أن يكون نسخ التلاوة بعد وفاة رسول اللّه عليه السلام

(٣/٢٨٣)

فإن قيل لا يتصور نسخ التلاوة مع بقاء الحكم لأن القرآن لا يثبت إلا بالنقل المتواتر ولم يثبت بالنقل المتواتر أن ما رووا كان قرآنا ثم نسخت تلاوته وبقي حكمه والدليل عليه أن الحكم الباقي ليس بقطعي ولو كان حكم القرآن لكان قطعيا قلنا القرآنية تثبت بالسماع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإخباره أنه من عند اللّه تعالى وقد ثبت ذلك في حق هؤلاء الرواة وغيرهم إلا أن بصرف قلوب غيرهم عنه لم يثبت القرآنية في حقنا فلا يخرج به من أنه كان قرآنا حقيقة غاية ما فيه أنه يلزم كونه قرآنا في الزمان الماضي بالظن وهو ليس بقادح فيما نحن فيه لأن الثبوت بطريق القطع مشروطة فيما بقي بين الخلق من القرآن لا فيما نسخ

وأما المعقول فما هو المذكور في الكتاب وهو ظاهر ويبقى الحكم بلا نظم أي بلا نظم القرآن وذلك أي الحكم بلا نظم متلو صحيح في أجناس الوحي مثل الأحكام الثابتة بالسنة فإنها تثبت بالإلهام وهو من أقسام الوحي قال شمس الأئمة رحمه اللّه قد ثبت أنه يجوز إثبات الحكم ابتداء بوحي غير متلو فلأن يجوز بقاء الحكم بعدما انتسخ حكم التلاوة من الوحي المتلو كان أولى وتبين بما ذكرنا أن قولهم الحكم ثابت بالنص فلا يبقى بدونه فاسد لأن بقاء الحكم لا يكون ببقاء السبب الموجب له فانتساخ التلاوة لا يمنع بقاء الحكم ولا نسلم أن هذا كالعلم مع العالمية إذ لا مغايرة بين قيام العلم بالذات وبين العالمية فإن العالمية هي قيام العلم بالذات وإذ لا تغاير فلا تلازم ولا يقال الكلام في تلازم العلم والعالمية لا في تلازم العالمية وقيام العلم بالذات لأنا نقول نفس العلم من غير اعتبار قيامه لا يستلزم عالمية تلك الذات وكذا لا نسلم ملازمة المفهوم للمنطوق ولو سلم عدم الانفكاك بين العلم والعالمية وبين المفهوم والمنطوق فلا نسلم التساوي في الشبه إذ العلم والمنطوق علة العالمية والمفهوم بخلاف التلاوة فإنها أمارة الحكم ابتداء لا د

واما فلا يلزم من انتفاء الأمارة انتفاء ما دلت عليه ولا من انتفاء مدلولها انتفاؤها

قوله

وأما القسم الرابع وهو نسخ الوصف فمثل الزيادة على النص اتفق العلماء على أن الزيادة على النص إن كانت عبادة مستقلة بنفسها كزيادة وجوب الصوم أو الزكاة بعد وجوب الصلوات لا يكون نسخا لحكم المزيد عليه لأنها زيادة حكم في الشرع من غير تغيير للأول وما نقل عن بعض العراقيين أن زيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس نسخ فقد بنوا ذلك على أنها تزيل وجوب المحافظة على الصلاة الوسطى المأمور

(٣/٢٨٤)

بالمحافظة عليها في

قوله عز اسمه حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى لأن السادسة تخرجها عن كونها وسطى وهو باطل لأن كونها وسطى أمر حقيقي لا شرعي فلا يكون رفعه نسخا ولأنه يلزم عنه أن الشارع لو أوجب أربع صلوات ثم أوجب صلاة خامسة أو صوما أو زكاة أن ذلك يكون نسخا لإخراج العبادة الأخيرة عن كونها أخيرة وإخراج العبادات السابقة عن كونها أربعا وهو خلاف الإجماع واختلفوا في غير هذه الزيادة إذا ورد متأخرا عن المزيد عليه تأخرا يجوز القول بالنسخ في ذلك القدر من الزمان كزيادة شرط الإيمان في رقبة الكفارة وزيادة التغريب على الجلد في جلد الزاني بعد اتفاقهم على أن مثل هذه الزيادة لو وردت مقارنة للمزيد عليه لا تكون نسخا كورود رد الشهادة في حد القذف مقارنا للجلد فإنه لا يكون نسخا له للقرآن فقال عامة العراقيين من مشايخنا وأكثر المتأخرين من مشايخ ديارنا إنها تكون نسخا معنى وإن كان بيانا صورة وهو مختار الشيخ في الكتاب

وقال أكثر أصحاب الشافعي إنها لا يكون نسخا وإليه ذهب أبو علي الجبائي وأبو هاشم وجماعة من المتكلمين ونقل عن بعض أصحاب الشافعي أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث لو فعله كما قد كان يفعله قبل الزيادة يجب استئنافه كان نسخا كزيادة ركعة على ركعتي الفجر وإن لم يكن كذلك لا يكون نسخا كزيادة التغريب في حد الزاني وزيادة عشرين على الثمانين في حد القاذف لو فرضنا ورود الشرع بها وإليه ذهب الغزالي وعبد الجبار الهمداني من المعتزلة ونقل عن الشيخ أبي الحسن الكرخي وأبي عبد اللّه البصري أن الزيادة إن كانت مغيرة حكم المزيد في المستقبل كانت نسخا كزيادة التغريب على الجلد إذا وردت متأخرة وكزيادة عشرين على حد القاذف فإنها توجب تغير الحكم الأول في المستقبل من الكل إلى البعض وإن لم تكن مغيرة لا يكون نسخا كزيادة وجوب ستر الركبة بعد وجوب ستر الفخذ فإنها لا تكون نسخا لوجوب ستر كل الفخذ لأن ستر الفخذ لا يتصور بدون ستر بعض الركبة فلا تكون الزيادة مغيرة للحكم الأول في المستقبل بل تكون مقررة له ومختار بعض الأصوليين أن الزيادة إن رفعت حكما شرعيا بدليل شرعي متأخر فهي نسخ لوجود حقيقة النسخ على ما مر في بيان حده وما خالفه بأن لا يكون الحكم المرفوع شرعيا أو لا تكون الزيادة متأخرة عنه أو لا يكون إثباتها بدليل شرعي ليس بنسخ لأن النسخ لا يتحقق بدون الأمور الثلاثة فينتفي بانتفاء كل منها

تمسك من قال بأن الزيادة ليست بنسخ أصلا بوجوه من الكلام أحدها أنهم بنوا

(٣/٢٨٥)

على أصلهم أن المطلق من أنواع العام عندهم وأن العام لا يوجب العلم قطعا بل يجوز أن يراد به البعض وبالمطلق المقيد وإذا كان كذلك ظهر بورود الزيادة المقيدة للمطلق أن المراد من العام البعض ومن المطلق المقيد فيكون تخصيصا وبيانا لا نسخا وذلك مثل الرقبة المذكورة في كفارة اليمين والظهار فإنها اسم عام يتناول المؤمنة والكافرة والزمنة وغيرها فإخراج الكافرة منها بزيادة قيد الإيمان يكون تخصيصا لا نسخا كإخراج الزمنة والعمياء منها وكإخراج أصل الذمة من لفظ المشركين

والثاني أن حقيقة النسخ لم توجد في الزيادة لأن حقيقته تبديل ورفع للحكم المشروع والزيادة تقرير للحكم المشروع وضم حكم آخر إليه والتقرير ضد الرفع فلا يكون نسخا ألا ترى أن إلحاق صفة الإيمان بالرقبة لا يخرجها من أن تكون مستحقة للإعتاق في الكفارة وإلحاق النفي بالجلد لا يخرج الجلد من أن يكون واجبا بل هو واجب بعده كما كان قبله فيكون وجوب التغريب ضم حكم إلى حكم وذلك ليس بنسخ كوجوب عبادة بعد عبادة وهو بمنزلة من ادعى على آخر ألفا وخمسمائة وشهد له شاهدان بألف وآخران بألف وخمسمائة حتى قضي له بالمال كله كان مقدار الألف مقضيا به بشهادتهم جميعا وإلحاق الزيادة بالألف بشهادة الآخر يوجب تقرير الأصل في كونه مشهودا به لا رفعه فتبين بهذا أن الزيادة لا تتعرض لأصل الحكم المشروع فيكون فيها معنى النسخ بوجه يوضحه أن النسخ إنما يثبت بدليل متأخر مناف للأول بحيث لو وردا معا لا يمكن الجمع بينهما لتنافيهما وهاهنا إن وردت الزيادة مقارنة للمزيد عليه وجب الجمع ولا تكون منافية له فكيف يثبت بها النسخ إذا وردت متأخرة بل يكون بيانا وإلى هذين الوجهين أشير في الكتاب

وقوله وليس الشرط أن تكون الزيادة تخصيصا اعتذار عن

قوله إنه تخصيص وليس بنسخ بأن يكون تخصيصا يستقيم في تقييد الرقبة على أصل الشافعي ولا يستقيم في إيجاب النفي فقال ليس الشرط أي شرط الزيادة أن تكون تخصيصا يعني لا ندعي أنها تخصيص لا محالة بل تكون تخصيصا وقد لا تكون كذلك ولكنها ليست بنسخ بوجه

والثالث أن الزيادة على النص لو كان نسخا لكان القياس باطلا لأن القياس إلحاق غير المنصوص وزيادة حكم لم يوجبه النص بصيغته وحين كان القياس جائزا ودليلا شرعيا علم أن الزيادة ليست بنسخ

(٣/٢٨٦)

والرابع أن النسخ أمر ضروري لأن الأصل في أحكام الشرع هو البقاء والقول بالتخصيص والتقييد يوجب تغير الكلام من الحقيقة إلى المجاز ومن الظاهر إلى خلافه لكنه متعارف في اللغة فكان الحمل عليه أولى من الحمل على النسخ واحتج من قال بأن الزيادة نسخ معنى بأن النسخ بيان انتهاء حكم بابتداء حكم آخر وهذا عند من شرط البدل في النسخ فأما عند من لم يشترط ذلك فلا حاجة إلى

قوله بابتداء حكم آخر وهذا المعنى موجود في الزيادة على النص فيكون نسخا

وبيانه أن الإطلاق معنى مقصود من الكلام وله حكم معلوم وهو الخروج عن العهدة بالإتيان بما يطلق عليه الاسم من غير نظر إلى قيد والتقييد معنى آخر مقصود على مضادة المعنى الأول لأن التقييد إثبات القيد والإطلاق رفعه وله حكم معلوم وهو الخروج عن العهدة بمباشرة ما وجد فيه القيد دون ما لم يوجد فيه ذلك فإذا صار المطلق مقيدا لا بد من انتهاء حكم الإطلاق بثبوت حكم التقييد لعدم إمكان الجمع بينهما للتنافي فإن الأول يستلزم الجواز بدون القيد

والثاني يستلزم عدم الجواز بدونه

وإذا انتهى الحكم الأول بالثاني كان الثاني ناسخا له ضرورة

وقوله وهذا لأنه كذا توضيح لما ذكر من انعقاد الأول بالثاني وجواب عن قولهم لا نسلم انتهاء الأول بل هو باق ولكن ضم إليه شيء آخر يعني إنما قلنا بانتهاء الأول بالثاني لأن المطلق متى صار مقيدا صار المطلق بعضه أي صار ما كان مطلقا قبل التقييد بعض المقيد لاشتمال المقيد على معنيين

أحدهما ما دل عليه المطلق

والثاني ما دل عليه المقيد وما للبعض حكم الوجود أي ليس لبعض ما يجب حقا للّه تعالى من عباده أو عقوبة أو كفارة حكم وجود الجملة بوجه ولا حكم وجوده في نفسه بدون انضمام الباقي إليه فإن الركعة من صلاة الفجر لا يكون فجرا ولا بعض الفجر بدون انضمام الأخرى إليها والركعتان من صلاة الظهر في حق المقيم كذلك وكذا المظاهر إذا صام شهرا ثم عجز فاطعم ثلاثين مسكينا لا يكون مكفرا بالإطعام ولا بالصوم كبعض العلة وبعض الحد فإنه ليس لبعض العلة حكم الوجود ولبعض الحد حكم الحد حتى إن بعض العلة لا يوجب شيئا من الحكم الثابت بالعلة وبعض الحد لا يتعلق به شيء من أحكام الحد من طهرة المحدود وخروج

(٣/٢٨٧)

الإمام عن عهدة إقامة الواجب وسقوط شهادة القاذف إذا كان الحد حد القذف لأنه متعلق بالحد عندنا وبعض الحد ليس بحد

وإنما قال عندنا لأن سقوط الشهادة عند الشافعي رحمه اللّه متعلق بالقذف الذي هو فسق عنده على ما عرف فيثبت أن الحكم الأولى قد انتهى وإن هذا أي التقييد في المطلق نسخ لوصف الإطلاق بمنزلة نسخ جملته أي بمنزلة نسخ أصله ثم بين الشيخ رحمه اللّه أن التقييد ليس بتخصيص على ما زعم الخصم بوجهين

أحدهما أن التخصيص تصرف في اللفظ ببيان أن بعض ما تناوله النظم بظاهره لولا دليل التخصيص غير مراد به

والقيد لا يتناوله الإطلاق أي لا دلالة للمطلق على القيد بوجه كاسم الرقبة لا يتناول صفة الإيمان والكفر لأن المطلق هو المتعرض للذات دون الصفات فكان التقييد تصرفا فيما لم يكن اللفظ متناولا له فلا يكون تخصيصا ألا ترى توضيح

قوله والقيد لا يتناوله الإطلاق يعني الإطلاق عبارة عن العدم أي عدم القيد والتقييد عبارة عن الوجود أي وجود القيد فكيف يتناول الإطلاق التقييد مع تنافيهما وإذا لم يتناوله لا يكون التقييد تخصيصا بل يكون إثبات نص ناسخ للإطلاق بالمقايسة أو بخبر الواحد وذلك باطل

وبيانه أن الخصم لما أثبت التقييد في رقبة كفارة اليمين أو الظهار بالقياس بأن قال تحرير في تكفير فكان الإيمان من شرطه قياسا على كفارة القتل أو بخبر الواحد وهو ما روي أن معاوية بن الحكم جاء بجارية إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال علي رقبة أفأعتقها فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أين اللّه فقالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول اللّه قال أعتقها فإنها مؤمنة فامتحانها بالإيمان دليل على أن الواجب لا يتأدى إلا بالمؤمنة وأن المراد من المطلق المقيد كان هذا منه إثبات نص مقيد للرقبة المذكورة في الكفارة كأنه تعالى قال في الكفارتين فتحرير رقبة مؤمنة كما قال كذلك في كفارة القتل وإثبات مثل هذا النص بالقياس وخبر الواحد لا يجوز

والثاني أن العام إذا خص منه شيء وخرج المخصوص من أن يكون مرادا به بقي الحكم فيما وراءه ثابتا بذلك النظم بعينه كلفظ

(٣/٢٨٨)

المشركين إذا خص منه أهل الذمة ومن بمعناهم بقي الحكم في غيرهم ثابتا بذلك اللفظ بعينه حتى وجب قتل من لا أمان له لأنه مشرك فلم يكن أي التخصيص نسخا لأن النسخ بيان هذا الحكم الثابت وهذا لم يكن ثابتا وإذا ثبت قيد إيمان في الرقبة المذكورة في كفارة اليمين أو الظهار وخرجت الكافرة من الجملة لم يكن الحكم في المؤمنة ثابتا بذلك النص الأول وهو الرقبة بنظمه أي بصيغته لما قلنا إنه لا دلالة للمطلق على المقيد بوجه بل يكون ثابتا بهذا القيد فيكون التقييد لإثبات ابتداء من غير أن يكون للمطلق دلالة عليه ودليل الخصوص لإخراج ما كان ثابتا لولا التخصيص لا للإثبات ابتداء ولا تشابه بين إخراج ما كان داخلا في الجملة وبين إثبات ما ليس بثابت فعرفنا أنه نسخ وليس بتخصيص

وعبارة القاضي الإمام رحمه اللّه هي أن الزيادة ليست بتخصيص فإن حكم العموم إذا أخص منه بقي الحكم فيما لم يخص منه بالنص العام نفسه لا بشيء آخر فلم يكن نسخا إذا بقي من الحكم بقدر ما بقي على ما كان ومتى زيدت لم يبق للنص الأول حكم فإن نص الزنا جعل الجلد حدا ولا يبقى حد بنفسه بعد ثبوت النفي حدا معه وآية الكفارة جعلت الرقبة بدون صفة الإيمان كفارة ولا تبقى بعد قيد الإيمان كفارة لأن الكافرة تخرج من الجملة والمؤمنة تجوز لا لأنها رقبة على ما قال اللّه تعالى بل للوصف الزائد الذي ليس في الكتاب وبدونه لا يكون ما يبقى كفارة ولا بعضها فالزيادة نسخ معنى

وبيان صورة

قوله ولا يشكل أن النفي كذا جواب عن قولهم النفي تقرير للجلد فلم يكن نسخا فقال نحن لا ندعي أنه نسخ لنفس الجلد بل هو نسخ لكونه حدا لصيرورته بعض الحد وليس لبعض الحد حكم الحد وذكر أبو الحسين البصري في المعتمد أن النظر في هذه المسألة يعني في الزيادة على النص يتعلق بأمور ثلاثة أحدها أن الزيادة على النص تقتضي زوال شيء لا محالة وأقله زوال عدمها الذي كان ثابتا وثانيها أن المزال بهذه الزيادة إن كان حكما شرعيا وكان الزيادة متراخيا سميت تلك الزيادة نسخا وإن كان حكما عقليا وهو البراءة الأصلية لا تسمى نسخا وثالثها أن الزائل بالزيادة إن كان حكم العقل يجوز الزيادة بخبر الواحد والقياس وإن كان الزائل حكما شرعيا فإن كان دليل الزيادة بحيث يجوز أن يكون ناسخا لدليل الحكم الزائل جاز إثبات الزيادة وإلا فلا وخرج عليه الفروع فقال زيادة التغريب لا تزيل إلا نفي وجوب ما زاد على المائة وهذا النفي غير معلوم بالشرع لأن الشرع لم يتعرض لما زاد عليها نفيا ولا إثباتا بل هو معلوم بالعقل

(٣/٢٨٩)

بالبراءة الأصلية

وأما كون المائة وحدها مجزئة وكونها كمال الحد وحصول الخروج عن عهدة الواجب للإمام بإقامتها فكلها تابع لنفي وجوب الزيادة ولما كان نفي الزيادة معلوما بالعقل جاز قبول خبر الواحد فيه كما أن الفروض لو كانت خمسة لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة فلو زيد فيها شيء آخر لتوقف الخروج عن العهدة على أداء ذلك المجموع مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس فكذا هاهنا فأما لو قال اللّه تعالى المائة وحدها كمال الحد وإنها وحدها مجزئة فلا يقبل في الزيادة هاهنا خبر الواحد والقياس لأن نفي الزيادة ثبت بدليل شرعي

وحاصله أن كلية الحد فيها ليست بحكم شرعي فلا يكون رفعها نسخا وأجاب صاحب الميزان عنه بأنا لا نسلم أنه ليس بحكم شرعي لأن حكم الشرع ما لا يثبت إلا بالشرع وتقدير الحد لا يعرف إلا بالشرع فكان شرعيا ولأن الحد متى كان واجبا ثم جاء نص التغريب متراخيا فيكون النبي عليه السلام ساكتا عن حكم التغريب والسكوت عند الحاجة بيان فصار وجوب انتفاء التغريب حكما شرعيا بدلالة السكوت فإذا جاء خبر الواحد بإيجاب التغريب كان نسخا لحكم شرعي وهو وجوب انتفاء التغريب بسكوته ولو أمر صاحب الشرع نصا فقال اجلدوا ولا تغربوا وعرف ذلك قطعا ثم جاء خبر الواحد في إيجاب التغريب أليس يكون نسخا فكذا هذا ولكن يلزم عليه إيجاب عبادة بعد أخرى فإن سكوته عليه السلام بعد إيجاب عبادة يدل على أن غيرها ليس بواجب بمنزلة ما لو نص عليها ثم جاز إيجاب عبادة بعدها بخبر الواحد والقياس بالإجماع فيجوز هاهنا أيضا وأجاب غيره بأن زيادة النفي نسخ لتحريم الزيادة على المائة فإنه حكم شرعي معلوم ثبوته في الشرع بطريقه كزيادة ركعة على ركعتي الفجر فإنها نسخ لتحريم الزيادة على الركعتين فإنه قد ثبت في الشرع في الفرائض المقدرة تحريم الزيادة على مقاديرها بخلاف زيادة عبادة فإنها لا تقتضي تغيير حكم مقصود وذكر عبد القاهر البغدادي أن زيادة التغريب على الجلد إن كان نسخا لزمكم أن يكون إدخال نبيذ التمر بين الماء والتراب نسخا لآية الوضوء وأن يكون وجوب الوضوء بالقهقهة نسخا لما ذكر اللّه تعالى من الأحداث الناقضة للطهارة

وإذا أثبتم ذلك فكأنكم أجزتم الزيادة على النص بأخبار ضعاف ولم تجيزوا بأخبار صحاح قال ومن زاد الخلوة على آيتي الطلاق قبل المسيس في إيجاب العدة وتكميل المهر بخبر عمر رضي اللّه عنه مع مخالفة غيره له وامتنع عن الزيادة على النص بخبر صحيح كان حاكما في دين اللّه برأيه

وأجيب عنه بأن النبيذ في حكم الماء لأن النبي عليه السلام أشار بقوله تمرة طيبة

(٣/٢٩٠)

وماء طهور إلى أن المائية لم تزل بإلقاء التمر فيه فيكون داخلا في عموم قوله تعالى فلم تجدوا ماء فلا يكون نسخا

وأما جعل القهقهة من الأحداث أو من النواقض فنظير إيجاب عبادة بعد عبادة فلا يكون من النسخ في شيء

وأما تكميل المهر بالخلوة فثبت عندنا بقوله تعالى وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وبدلائل أخر عرفت في موضعها فلا يكون من باب الزيادة على النص بخبر الواحد

قوله ولهذا أي ولأن الزيادة على النص نسخ ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز لم يجعل قراءة الفاتحة في الصلاة فرضا لأن إطلاق قوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن

وعمومه يقتضي الجواز بدون الفاتحة فكان تقييد القراءة بالفاتحة نسخا لذلك الإطلاق فلا يجوز بخبر الواحد وهو

قوله عليه السلام لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف يعني ولأنه ليس لبعض الشيء حكم جملته قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه شرب القليل من المثلث وهو ما ذهب ثلثاه بالطبخ ثم صار مسكرا لا يحرم وهو رواية عن محمد رحمه اللّه لأن المحرم في غير الخمر هو السكر بالنص وهو

قوله عليه السلام حرمت الخمر لعينها والسكر من كل شراب وذلك يحصل بشرب الكثير منه دون القليل فكان شرب القليل مباشرة بعض علة السكر وليس لبعض العلة حكم العلة فلا يكون داخلا تحت التحريم وقال محمد رحمه اللّه في رواية يكره شربه وفي رواية يحرم شربه وهو قول مالك والشافعي رحمهما اللّه لما روي أنه عليه السلام قال كل مسكر حرام وفي رواية ما أسكر كثيره فقليله حرام وفي رواية ما أسكر الجرة منه فالجر منه حرام ولأن المثلث بعدما اشتد خمر لأن الخمر إنما سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل لا لكونها نيا وهي موجودة في سائر الأشربة المسكرة وقد نقل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال كل مسكر خمر ولو سماه

(٣/٢٩١)

أحد من أهل اللغة لكان يستدل بقوله على إثبات هذا الاسم فإذا سماه صاحب الشرع به وهو أفصح العرب كان أولى

والجواب عنه أن الجمع إذا أمكن بين الآثار فهو أولى من الأخذ ببعضها والإعراض عن البعض وقد أمكن هاهنا بأن يحمل هذا الحديث على الشرب على قصد السكر فإن شرب القليل والكثير على هذا القصد حرام والحديث الأول على الشرب لاستمراء الطعام فإن القليل بهذا القصد حرام وبدونه لا يحرم كالمشي على قصد الزنا يكون حراما وعلى قصد الطاعة يكون طاعة أو بأن يحمل على أن التحريم كان في الابتداء لتحقيق الزجر كتحريم الانتباذ في الدباء والحنتم ثم ثبت الرخصة بعد ذلك في شرب القليل منه

والمراد بقوله عليه السلام كل مسكر خمر تشبيه بالخمر في حكم خاص وهو الحد فقد بعث مبينا للأحكام دون الأسامي والمعقول الذي ذكروه قياس في اللغة فلا يقبل قال أبو الفضل رحمه اللّه في إشارات الأسرار واعلم أن من وقع في أبي حنيفة رحمه اللّه في هذه المسألة وشنع عليه في أنه أباح مثل هذا الشراب ولم يسلك فيه طريقة الاحتياط فهذا من القائل سفه وقلة ديانة إذ الأصل أن تحريم ما أحله اللّه تعالى بمنزلة تحليل ما حرمه لا فرقان بينهما ومتى لم يقم لأبي حنيفة رحمه اللّه دليل يدل على حرمته وبلغته الآثار المشهورة عن الصحابة والتابعين رضي اللّه عنهم أنهم كانوا يشربونه ويسقون الأضياف ويجلدون على السكر منه كيف يسوغ له في الشرع الفتوى بالحرمة وفيه تعرض لحدود الدين من تحريم شيء لم يرد به الشرع وأمر التقوى والأخذ بالثقة يرجع إلى العمل به دون الفتوى التي هي بيان حدود الدين ولهذا قال محمد بن مقاتل الرازي لو أعطيت الدنيا بحذافيرها ما شربته ولو أعطيت الدنيا بحذافيرها ما أفتيت بأنه حرام

قوله وكذلك أي وكما أن شرب القليل من المثلث لا يحرم لأنه بعض العلة لا يجب على الجنب والمحدث استعمال الماء القليل لصحة التيمم وصورته إذا وجد المحدث ماء لا يكفي الوضوء أو الجنب ماء لا يكفي الاغتسال يجوز له التيمم عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه اللّه لا يجوز قبل استعماله لأن اللّه تعالى قال فلم تجدوا ماء فتيمموا

ذكره منكرا في موضع النفي من غير اعتبار قدر منه فيكون عدمه شرطا لجوازه فما لم يوجد الشرط لا يكون التراب طهورا ثم استعمال هذا القدر مفيد للطهارة حقيقة وحكما بدليل أنه لو استعمله ثم أصاب ماء آخر لم يجب عليه إعادة الأول فكان بمنزلة العاري إذا وجد ما يستر به بعض عورته يلزمه استعماله بقدره وكذا إذا كان به نجاسة حقيقة فوجد ما يزيل بعضها يجب استعماله في ذلك القدر كذا هاهنا ولنا أن عدم الطهور قد تحقق فيباح له التيمم وذلك لأن قولنا طهور لا يراد به

(٣/٢٩٢)

طهارة حسية بل المراد به طهارة حكمية أي محللة للصلاة وباستعمال هذا الماء لا يحصل شيء من الحل يقينا بل الحل موقوف على الكمال فإنه حكم والعلة غسل الأعضاء كلها ولا يثبت شيء من حكم العلة كبعض النصاب في حق الزكاة وبعض علة الربا في حق الربا وهذا كمن وجد بعض الرقبة في باب الكفارات دون الكمال حل له التكفير بالصوم كما لو عدم الرقبة أصلا لأن الأصل رقبة تكون كفارة وهذا البعض لا يصلح كفارة لأنها لا تتجزأ كحكم الطهارة هاهنا وتبين بهذا أن المراد بقوله فلم تجدوا ماء ماء طهور أي محلل للصلاة باستعماله في هذه الأعضاء أو رافع للحدث عنها فإن الآية سيقت لبيان هذه الطهارة لا غير والماء المحلل ماء مقدر لا نفس الماء

وهذا بخلاف النجاسة الحقيقية وستر العورة لأن الواجب مما يزال فيهما أمر حسي عورة ظاهرة ونجاسة حقيقية وإذا كان حسيا اعتبر الزوال حسيا لا حكما والزوال حسا ثابت بقدر الماء الذي معه وكذا زوال الانكشاف ثابت بقدر الثوب كذا في الأسرار

قوله ولأن دليل النسخ دليل آخر على أن القيد نسخ للإطلاق وجواب عما قال بعضهم إنه ليس بنسخ له بدليل إمكان الجمع بينهما إذا كانا مقارنين بأن جهل التاريخ بينهما فقال لا نسلم ذلك بل لو جهل التاريخ بينهما كان القيد معارضا للإطلاق ومانعا عن العمل يعني إذا كانا في الحكم كسائر دلائل النسخ فعند معرفة التاريخ يكون التقييد نسخا للإطلاق أيضا

قوله ونظير هذا الأصل وهو أن الزيادة نسخ معنى اختلاف الشهود في قدر الثمن جواب عن اعتبارهم الزيادة بحقوق العباد فإن الزيادة فيها من جنسها لا توجب تغيير ما كان كما ذكرنا من شهادة الشاهدين على ألف وشهادة الآخرين على ألف وخمسمائة فقال الشيخ ليس ذلك الفرع نظير هذا الأصل لأن تلك الزيادة لا توجب تغييرا بل نظيره اختلاف الشهود في قدر الثمن بأن شهد أحد الشاهدين بالبيع بألف والآخر بالبيع بألف وخمسمائة لا تقبل الشهادة في إثبات العقد بألف وإن اتفق عليه الشاهدان ظاهرا لأن الذي شهد بألف وخمسمائة قد جعل الألف بعض الثمن

وانعقاد البيع بجميع الثمن المسمى لا ببعضه فمن هذا الوجه كل واحد منهما في المعنى شاهد بعقد آخر والألف المذكور في شهادة الآخر كان بحيث يثبت به العقد لو لا وصل شيء آخر به بمنزلة التخيير في الطلاق والعتاق فيصير شيئا آخر إذا اتصل به التعليق بالشرط فحكم الزيادة يكون بهذه الصفة أيضا واللّه أعلم

(٣/٢٩٣)

فصل

ذكر الأصوليون فروقا بين التخصيص والنسخ ونقل عن الشيخ الإمام العلامة مولانا حميد الملة والدين رحمه اللّه فروق أيضا بين التقييد والنسخ والتعليق وغيرها فألحقتها بهذا الباب تتميما للفائدة ثم النسخ والتخصيص وإن اشتركا من حيث إن كل واحد منهما بيان ما لم يرد باللفظ إلا أنهما يفترقان من جهة أن التخصيص يبين أن العام لم يتناول المخصوص والنسخ يرفع بعد الثبوت وأن التخصيص لا يرد إلا على العام والنسخ يرد عليه وعلى غيره وأنه يجب أن يكون متصلا عندنا والنسخ لا يكون إلا متراخيا وأنه لا يجوز إلى أن لا يبقى شيء والنسخ يجوز كذلك وأنه قد يكون بأدلة السمع وغيرها والنسخ لا يجوز إلا بالسمع وأنه يكون معلوما ومجهولا والنسخ لا يكون إلا معلوما وأنه لا يخرج المخصوص منه من كونه معمولا به في مستقبل الزمان والنسخ يخرج المنسوخ عن ذلك وأنه يرد في الأخبار والأحكام والنسخ لا يرد إلا في الأحكام وأن دليل الخصوص يقبل التعليل ودليل النسخ لا يقبله والفرق بين التخصيص والتقييد أن التقييد تصرف فيما كان الأول ساكتا عنه والتخصيص تصرف فيما تناوله اللفظ ظاهرا وأن التقييد مفرد والتخصيص جملة وأن في التقييد يعمل بالقيد لا بالأصل وفي التخصيص يعمل بالأصل وهو المخصوص منه والفرق بين التخصيص والاستثناء أن التخصيص مستبد بنفسه وأنه يقبل التعليل بخلاف الاستثناء وأن لدليل الخصوص حكما بخلاف الاستثناء

والفرق بين الاستثناء والنسخ أن الاستثناء غير مستقل بنفسه وأنه يرد في الأخبار والأحكام وأنه لا يكون إلا متصلا بخلاف النسخ في هذه الجملة كلها والفرق بين التقييد والنسخ من كل وجه أن التقييد مفرد والنسخ جملة وأنه وصف للأول والنسخ ليس كذلك وأنه قد يكون مقارنا والنسخ لا يكون إلا متأخرا والفرق بين التعليق والاستثناء أن الاستثناء لا يعمل في جميع المستثنى منه بل يعمل في بعضه بالإبطال والتعليق يعمل في جميع المعلق بالتغيير وأن الاستثناء مع المستثنى منه ليس بيمين بل هو إيجاب والتعليق يمين وأن التعليق يصح في الإيجاب دون الخبر والاستثناء يصح فيهما والفرق بين التعليق والتقييد أن التعليق تبديل من الإيجاب إلى اليمين والتقييد ليس بتبديل صورة بل زيادة أمر آخر

(٣/٢٩٤)

والفرق بين التقييد والاستثناء أن التقييد يثبت أمرا لم يكن ثابتا بالأول والاستثناء يخرج عن الأول ما كان ثابتا صورة وأن التقييد لا يخرج الأول عن حقيقته صورة فإن الرقبة بزيادة وصف لا تخرج عن كونها رقبة بل تبقى رقبة لكن لم يبق الجواز بها والاستثناء قد يخرج الأول عن حقيقته كما لو استثني من الألف شيء لا يبقى ألفا والفرق بين النسخ والتعليق أن التعليق لا يصح إلا مقارنا والنسخ على عكسه

وأن الشرط مع المشروط يمين والناسخ مع المنسوخ ليس كذلك وأن المعلق بعرضية أن يصير إيجابا والمنسوخ ليس كذلك والفرق بين التخصيص والتعليق أن التخصيص لا يرد إلا على العام ولا يشترط في التعليق ذلك وأن التخصيص له حكم على ضد الأول وليس في التعليق ذلك وأن دليل الخصوص مستقل والشرط ليس كذلك وأنه يقبل التعليل والتعليق لا يقبله وقس عليه واللّه أعلم

(٣/٢٩٥)