باب بيان التغييرأي البيان الذي فيه تغيير لموجب الكلام الأول قوله وإنما يصح ذلك أي بيان التغيير موصولا أي ينحصر الجواز في الموصول ثم أكده بقوله ولا يصح مفصولا وأشار بقوله على هذا أجمع الفقهاء إلى الدليل وإلى خلاف غير الفقهاء فإنه أراد بالفقهاء مثل أبي حنيفة والشافعي ومالك والأوزاعي وأمثالهم من فقهاء الأمصار والحاصل أن اتصال الاستثناء بالمستثنى منه لفظا أو ما هو في حكم الاتصال لفظا وهو أن لا يعد المتكلم به آتيا به بعد فراغه من الكلام الأول عرفا بل يعد الكلام واحدا غير منقطع وإن تخلل بينهما فاصل بانقطاع نفس أو سعال أو عطاس أو نحوها شرط عند عامة العلماء وكان ابن عباس رضي اللّه عنهما يقول بصحة الاستثناء منفصلا عن المستثنى منه وإن طال الزمان وبه قال مجاهد سواء ترك الاستثناء ناسيا أو عامدا وفي بعض الروايات عنه قدر زمان الجواز بسنة فإن استثنى بعدها بطل وعن الحسن وطاوس وعطاء أنهم جوزوا ما لم يقم عن مجلسه اعتبارا بالعقود وبه قال أحمد بن حنبل وعن أبي العالية أنه يجوز إلى أربعة أشهر اعتبارا بمدة الإيلاء ونقل عن بعض العلماء جوازه في القرآن خاصة تمسك ابن عباس رضي اللّه عنهما بأن اليهود سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن مدة لبث أهل الكهف وغيرها فقال غدا أجيبكم ولم يستثن فتأخر الوحي عنه مدة بضعة عشر يوما ثم نزل قوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء اللّه واذكر ربك إذا نسيت أي استثن إذا تركت الاستثناء ثم ذكرت فقال إن شاء اللّه بطريق إلحاقه إلى خبره الأول وهو قوله غدا أجيبكم وبأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال واللّه لأغزون قريشا ثم قال بعد سنة إن شاء اللّه ولا يقال هذا شرط وكلامنا في الاستثناء لأن من جواز أحدهما يلزم جواز الآخر إذ (٣/١٧٨) لا قائل بالفرق ومن خص الجواز بالقرآن قال الكلام الأزلي واحد وإنما الترتيب في جهات الوصول إلى المخاطبين وإن كان قد تأخر الاستثناء به فذاك في سماع السامعين وفهم الفاهمين لا في كلام رب العالمين واحتج الفقهاء بأن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه عين التكفير لتخليص الحالف ولو صح الاستثناء منفصلا لقال فليستثن وليأت الذي هو خير منها لأن تعيين الاستثناء للتخليص أولى لكونه أسهل وبمثله استدل علي على ابن عباس رضي اللّه عنهم فقال لما حلف أيوب عليه السلام بضرب امرأته أمره اللّه تعالى بضرب ضغث عليها تحلة ليمينه وتخفيفا عليها كما قال تعالى وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ولو صح الاستثناء متصلا لأمره به لا بالضرب بالضغث لأنه أيسر وأخف وبأن الشرع حكم بثبوت الإقرارات والطلاق والعتاق وغيرها من العقود ولو صح الاستثناء منفصلا لم يثبت شيء من هذه العقود ولم يستقر وفساده ظاهر لتأديته إلى التلاعب وإبطال التصرفات الشرعية وبأنه لو صح منفصلا لما علم صدق صادق ولا كذب كاذب ولم يحصل وثوق بيمين ولا وعد ولا وعيد وبطلانه لا يخفى على ذي لب وبمسألة أفحم أبو حنيفة رحمه اللّه أبا جعفر الدوانقي حين عاتبه على مخالفة جده في هذه المسألة فقال لو صح الاستثناء منفصلا كما هو مذهب جدك لقد بارك اللّه في بيعتك فإن الذين بايعوك على الخلافة لو استثنوا بعدما خرجوا من عندك أو حين ما بدا لهم ذلك لم تبق خلافتك ووسعهم خلافك فسكت ورده بجميل قال الغزالي رحمه اللّه نقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما جواز تأخير الاستثناء ولعله لا يصح فيه النقل إذ لا يليق ذلك بمنصبه وإن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أو لا ثم أظهر نيته بعده فيدين فيما بينه وبين اللّه تعالى فيما نواه ومذهبه أن ما يدين فيه العبد يقبل ظاهرا فهذا له وجه وأما تجويز التأخير لو أصر عليه دون هذا التأويل فيرده عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط وخبر المبتدأ فإنه إذا أخر الشرط أو الخبر لا يفهم منه شيء فلا يصير كلاما فضلا من أن يكون شرطا أو خبرا فكذا قوله إلا زيدا بعد شهر يخرج من أن يكون مفهوما فضلا من أن يكون إتماما للكلام وأما استثناء النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد النسيان فقد كان (٣/١٧٩) على وجه تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الإثم والامتثال لما أمر به وهو قوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت لا أن يكون استثناء حقيقة على وجه يكون مغيرا للحكم وأما تخصيص الجواز بالقرآن بناء على ما ذكرنا فوهم لأن النزاع ليس في الكلام الأزلي بل في العبارات التي بلغتنا وهي محمولة على معنى كلام العرب نظما وفصلا ووصلا ولا شك أنه لا ينتظم في وضع اللغة فصل صيغة الاستثناء عن العبارة التي تشعر بمستثنى منه قوله وإنما سميناه أي هذا النوع من البيان ببيان التغيير ولم نقتصر على تسميته بالتغيير ولا بالبيان للإشارة إلى وجود أثر كل واحد من البيان والتغيير فيه وذلك أي وجود أثر كل واحد من المعنيين نزل به أي نزل أنت حر بالعبد شرعا منزلة وضع شيء محسوس في محل تقر فيه فإذا حال الشرط بينه أي بين قوله أنت حر وبين محله وهو العبد فتعلق أنت حر بالشرط بطل كونه إيقاعا جواب إذا ولكنه أي المتعلق بيان مع ذلك أي مع كونه تغييرا لأن البيان ما يظهر به ابتداء وجوده أي وجود الشيء والضمير راجع إلى مدلول البيان وهو المبين فأما التغيير بعد الوجود فنسخ وليس ببيان لأن النسخ رفع الحكم الثابت والتغيير بعد الوجود بهذه المثابة فلا يكون بيانا وهذا الكلام إنما يستقيم على اختيار القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما اللّه فإنهما لم يجعلا النسخ من أقسام البيان فأما على اختيار الشيخ رحمه اللّه فلا يستقيم لأنه جعل النسخ أحد أقسام البيان وسماه بيان التبديل ثم قال هاهنا إنه ليس ببيان ووجه التوفيق بينهما أنه إنما جعل النسخ من أقسام البيان باعتبار أنه عند اللّه تعالى بيان انتهاء مدة الحكم ولم يجعله بيانا هاهنا باعتبار الظاهر فإنه في الظاهر رفع الحكم الثابت وإبطاله فلا يكون بيانا له ولما كان التعليق بالشرط لابتداء وقوعه غير موجب يعني ولما كان التعليق لهذا الغرض وهو بيان ابتداء وقوع الكلام غير موجب والكلام كان يحتمله أي يحتمل كونه غير موجب حكمه في الحال شرعا مثل البيع بشرط الخيار وبيع الفضولي وتصرفات الصبي (٣/١٨٠) سمي أي التعليق بيانا وهو جواب لما وإنما قال والكلام كان يحتمله لأنه لا بد لصحة البيان من أن يكون اللفظ المبين محتملا له بوجه ليكون البيان إظهارا لذلك المحتمل فإن لم يحتمل لا يكون بيانا له بل يكون ابتداء كلام قوله وكذلك الاستثناء أي وكالتعليق بالشرط الاستثناء في اشتماله على وصفي البيان والتغيير ألف درهم اسم علم لذلك العدد أي العدد الذي هو مدلول الألف وهو عشر مئين فإن اسم العدد كثلاثة وعشرة ومائة ونحوها علم جنس كأسامة للأسد والاسم العلم لا يحتمل غيره أو هو بمنزلة العلم من حيث إنه لا يجوز إطلاقه على غيره فإن إطلاق اسم العدد على غيره لا يجوز بطريق الحقيقة وهو ظاهر ولا بطريق المجاز لانسداد بابه إذ لا مناسبة بينه وبين غيره من الأعداد معنى إلا نسبة عامة وهي كون كل واحد عددا والنسبة العامة لا تصلح طريقا للمجاز ولا صورة إلا من حيث الجزء والكل وهو لا يصلح طريقا له أيضا هاهنا لأن من شرطه أن يكون الجزء مختصا بالكل ليصح إطلاق اسم الكل على لازمه وهو الجزء المختص به وهاهنا ما دون الألف مثلا كما يصلح جزء الألف يصلح جزء الألفين ولثلاثة آلاف وغيرهما وهذه الجزئية لا تصلح طريقا للمجاز أيضا فثبت أنه لا يحتمل غيره ألا ترى توضيح لكون الاستثناء والتعليق تغبيرا فإنه لو صح على واحد من التعليق والاستثناء متراخيا كان ناسخا لأن قوله أنت حر إذا صدر من الأهل في المحل غير معلق بالشرط ثبت موجبه وهو الحرية فلو صح إلحاق الشرط به بعد ذلك يرتفع الحكم الثابت بالتعليق فكان نسخا وكذا قوله علي ألف درهم لفلان إذا لم يقترن به الاستثناء ثبت موجبه وهو وجوب تمام الألف فلو صح إلحاق الاستثناء به بعد تقرره كان نسخا للحكم في بعض الألف كما في التعليق فثبت أن في كل واحد منهما معنى التغيير لكنه أي الاستثناء إذا اتصل بالكلام وهو استدراك من قوله كان تغييرا لبعضه منع بعض التكلم أي منع التكلم أن يكون إيجابا في البعض لا إن رفعه بعد الوجود فإنه لو رفع لكان نسخا فكان أي الاستثناء بيانا من حيث إنه بين أن البعض هو المراد من الكلام ابتداء فلذلك سمي بيان تغيير كالتعليق بالشرط وذكر في التقويم أن قوله إلا مائة ليس (٣/١٨١) بتغيير للألف بل رد لبعضه فمن حيث قرر البقية كان بيانا ومن حيث رفع بعضه كان تغييرا وما ذكر في بعض الشروح أنه سمي بيانا لأنه يبين المراد ابتداء والكلام يحتمله لأن إطلاق اسم الكل على البعض جائز لا يوافق ما ذكره الشيخ أن الألف اسم علم لذلك العدد لا يحتمل غيره إلا بتأويل متكلف وهو أنه يحتمل البعض ولكن بشرط لحوق الاستثناء به فكان التحاقه به بيان أن المراد محتمله والصحيح في بيان الاحتمال ما أشار إليه الشيخ في بعض مصنفاته أن الاستثناء بيان لأنه بين أن الإيجاب السابق غير موجب كل الألف كما يقتضيه ظاهر اللفظ ويحتمل أن لا يكون موجبا في الجملة بأن وجد من الصبي أو المجنون فلما احتمل صدر الكلام هذا وبالاستثناء تبين ذلك سميناه بيان التغيير لا تغييرا محضا وذكر صدر الإسلام أبو اليسر رحمه اللّه أن تسمية الاستثناء والتعليق بيانا مجاز فإن الاستثناء في قوله لفلان علي ألف درهم إلا مائة يبطل الكلام في حق المائة فإن الألف اسم لعشر مئين حقيقة وكذلك الشرط في قوله إن دخلت الدار فأنت طالق يبطل كونه إيقاعا ويصيره يمينا إلا أن في الاستثناء يبطل بعض الكلام وفي التعليق يبطل أصله بانقلابه يمينا والإبطال لا يكون بيانا حقيقة ألا ترى أن البيان هو الإظهار والألف ظاهر في عشر مئين وأنت طالق ظاهر في كونه إيقاعا فلا يتصور إظهارهما حقيقة فلم يكن الاستثناء ولا التعليق إظهارا حقيقة بل كان إبطالا ولكنه بيان مجازا من حيث إنه يبين أن عليه تسعمائة درهم لا ألف درهم وأنه يحلف ولا يطلق قوله ومنزلة الاستثناء مثل منزلة التعليق بالشرط فرق القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما اللّه بين الاستثناء والتعليق فجعلا الاستثناء بيان تغيير والتعليق بيان تبديل قال شمس الأئمة التعليق تبديل من حيث إن مقتضى قوله لعبده أنت حر نزول العتق في المحل واستقراره فيه وأن يكون علة للحكم بنفسه فبذكر الشرط يتبدل ذلك كله لأنه تبين أنه ليس بعلة تامة للحكم قبل الشرط وأنه ليس بإيجاب للعتق بل هو يمين وأن محله الذمة حتى لا يصل إلى العبد إلا بعد خروجه من أن يكون يمينا بوجود الشرط والاستثناء تغيير لمقتضى صيغة الكلام وليس بتبديل إنما التبديل أن يخرج كلامه من أن يكون إخبارا بالواجب أصلا فجمع الشيخ بينهما وقال منزلة الاستثناء في التغيير مثل منزلة التعليق فيه لأن كل واحد منهما يمنع انعقاد الكلام عن الإيجاب إلا أن الاستثناء يمنع انعقاده في بعض الجملة أصلا حتى لا يبقى موجبا لذلك البعض في الحال ولا يحتمل أن يصير موجبا له في ثاني الحال والتعليق يمنع انعقاده لأحد الحكمين وهو الإيجاب في (٣/١٨٢) الحال ولا يمنع عن صلاحيته لانعقاده علة في ثاني الحال وهو حال وجود الشرط وهو معنى قوله ويبقى الثاني وهو الاحتمال أي احتمال صيرورته علة موجبة للحكم فلذلك أي لكون كل واحد منهما مانعا من الانعقاد كانا من قسم واحد فكانا من باب التغيير دون التبديل فإن التبديل هو النسخ قال اللّه تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية وأنهما ليسا من النسخ في شيء إذ النسخ رفع بعد الوجود ولم يوجد ذلك فيهما وفي التحقيق هذا الاختلاف في العبارة دون المعنى ثم الفرق بين الاستثناء والتعليق بالشرط أن تقديم الشرط على الجزاء وتأخيره عنه جائزان وتقديم الاستثناء على المستثنى منه في الإثبات لا يجوز حتى لو قال طلقت إلا زينب جميع نسائي أو أعتقت إلا سالما جميع عبدي أو قال إلا زينب جميع نسائي طوالق أو إلا سالما جميع عبيدي أحرار لا يصح الاستثناء ويطلق جميع النساء ويعتق جميع العبيد لأن معنى الاستثناء جعل بعض الأشياء مصروفا عن المعنى الذي دخل فيه سائره فلو جاز تقديمه على المستثنى منه لبطل هذا المعنى بخلاف الشرط لأن معناه وهو تعليق الجزاء به لا يبطل بالتقديم والتأخير وبخلاف التقديم في الاستثناء عن النفي حيث يجوز حتى لو قال ما أعتقت إلا سالما أحدا من عبيدي أو ما طلقت إلا عائشة أحدا من نسائي يعتق سالم وتطلق عائشة دون غيرهما لعدم الإخلال بالمعنى فإن حذف المستثنى منه في النفي جائز وكان المستثنى في هذه الصورة منصوبا على الاستثناء لا على البدل لأن البدل لا يكون قبل المبدل قوله واختلفوا في كيفية عمل كل واحد منهما أي من التعليق والاستثناء وقد تقدم الكلام في التعليق وهذا بيان الاستثناء فيتكلم أولا في تعريفه وشروطه ثم في تقديره وتحقق معناه والكلام في تعريفه يتوقف على مقدمة وهي أن الاستثناء في المنقطع حقيقة أم مجاز فذهب بعض الأصوليين إلى أنه حقيقة فيه كما في المتصل فيكون مشتركا بينهما إما بالاشتراك المعنوي كاشتراك الحيوان بين الإنسان وغيره أو بالاشتراك اللفظي كاشتراك العين بين مفهوماته لأن المتصل إخراج وخاصة المنقطع مخالفة من غير إخراج فلا يشتركان فيما يصلح جعل اللفظ له وقد أطلق اللفظ عليهما فكان مشتركا إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة وذهب أكثرهم إلى أنه مجاز فيه وليس بحقيقة لأن اللفظ الدال على الشيء لا يدل على خلاف جنس مسماه واللفظ إذا لم يدل على شيء لا يحتاج إلى صارف يصرفه عنه فينبغي أن لا يصح الاستثناء إلا أنه إنما صح بإضمار في المستثنى (٣/١٨٣) منه كما في قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس فإن معناه عند من قال لم يكن إبليس من جنس الملائكة فسجد الملائكة ومن أمر بالسجود إلا إبليس أو في المستثنى كما في قولك له علي مائة إلا دينارا أي إلا مقدار مائة دينار أو بتأويل إلا بجعله بمعنى لكن فكان مجازا والدليل عليه سبق الفهم إلى المتصل من غير قرينة وتوقفه في المنقطع على قرينة ألا ترى أنه مأخوذ من ثنيت عنان الفرس إذا عطفته وصرفته عند أهل اللغة ولا عطف ولا صرف إلا في المتصل إذ الجملة الأولى في المنقطع باقية على حالها لم تتغير ولا يمكن حمل اللفظ على الاشتراك المعنوي كما قالوا لأنه يؤدي إلى جواز استثناء كل شيء بطريق الحقيقة لوجود الاشتراك في الأشياء معنى بوجه من الوجوه وذلك خلاف كلام العرب ولا على الاشتراك اللفظي مع إمكان حمله على المجاز في المنقطع لأن الحمل على الأغلب وهو المجاز خصوصا عند قيام الدلالة أولى ولأنه لا يؤدي إلى إبهام المراد لأن المجاز لا يخلو عن قرينة دالة على المراد بخلاف الاشتراك ثم حده عند من قال بالاشتراك المعنوي هو ما دل على مخالفة بإلا غير الصفة أو إحدى أخواتها واحترز بقوله غير الصفة عن إلا التي هي صفة وهي التي كانت تابعة لجمع منكر غير محصور أي لجمع لا يدخل فيه المستثنى لو سكت عن الاستثناء نحو قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا وبقوله بإلا أو إحدى أخواتها عن المخالفة بغيرها مثل قوله جاءني القوم ولم يجئ زيد لا عمرو وأمثالهما فإنها ليست باستثناء وعند من قال بالاشتراك أو بالمجاز لا يمكن أن يجتمعا في حد واحد لأن أحدهما مخرج من حيث المعنى والآخر ليس بمخرج فتعذر جمعهما بحد واحد لأن كل أمرين فصل أحدهما مفقود في الآخر يستحيل جمعهما في حد واحد وتمحل بعضهم للجمع على هذا القول فقال هو المذكور بإلا أو إحدى أخواتها مخرجا أو غير مخرج وعلى تقدير التعذر قيل في المنقطع هو ما دل على مخالفة بإلا غير الصفة أو إحدى أخواتها من غير إخراج وفي المتصل هو إخراج بإلا أو إحدى أخواتها ويقرب منه عبارة ابن الحاجب في المتصل هو لفظ أخرج به شيء من شيء بإلا وأخواتها وفي المنقطع هو لفظ من ألفاظ الاستثناء لم يرد به إخراج سواء كان من جنس الأول أو من غير جنسه فلو قلت جاء القوم إلا زيدا وزيد ليس من القوم كان منقطعا وذكر الغزالي رحمه اللّه هو قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دل على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول (٣/١٨٤) قال واحترزنا بقولنا ذو صيغ محصورة عن قوله رأيت المؤمنين ولم أر زيدا فإن العرب لا تسميه استثناء وإن أفاد ما يفيد قولنا إلا زيدا وقيل هو لفظ لا يستقل بنفسه متصل بجملة بإلا أو إحدى أخواتها دال على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به أما شروطه فثلاثة أحدها الاتصال وقد بيناه والثاني أن يكون المستثنى داخلا في الكلام لولا الاستثناء كقولك رأيت القوم إلا زيدا وزيد منهم ورأيت عمرا إلا وجهه فإن لم يكن داخلا كان الاستثناء منقطعا ولا يكون استثناء حقيقة فكان هذا الشرط لكونه حقيقة لا لصحته والشرط الثالث أن لا يكون مستغرقا لأنه إذا كان مستغرقا كان رجوعا لا استثناء كذا قيل وهذا ليس بصحيح لأن استثناء الكل فيما يصح الرجوع عنه باطل أيضا مثل أن يقول أوصيت لفلان بثلث مالي إلا ثلث مالي كان الاستثناء باطلا والصحيح أنه إنما لا يجوز لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وفي استثناء الكل لا يتوهم بقاء شيء بجعل الكلام عبارة عنه وهذا بلا خلاف وإنما الخلاف في الاستثناء المساوي والأكثر نحو قوله علي عشرة إلا خمسة أو إلا ستة إلى تسعة فذهبت العامة إلى جوازهما وذهبت الحنابلة والقاضي أبو بكر الباقلاني إلى منعهما وذهب الفراء وابن درستويه إلى المنع في الأكثر خاصة لأن العرب تستقبح استثناء الأكثر وتستهجن قول القائل رأيت ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين وإذا ثبت كراهتهم واستثقالهم ثبت أنه ليس من كلامهم واحتجت العامة بقوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وهو استثناء الأكثر بدليل قوله عز وجل وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ولا تجد أكثرهم شاكرين ولكن أكثر الناس لا يؤمنون فدل على الجواز وبقوله تعالى قم الليل إلا قليلا نصفه ولما جاز استثناء النصف جاز استثناء الأكثر أيضا لأنه لا فرق بينهما في أن كل واحد منهما ليس بأقل وقولهم هو مستقبح ممنوع بل استثقال وليس باستقباح ولئن سلمنا فالاستقباح لا يمنع الصحة كقوله علي عشرة إلا تسع سدس ربع درهم فإنه مع كونه في غاية الاستقباح يصح وأما بيان موجبه فهو أن الاستثناء يمنع التكلم بحكمه أي مع حكمه بقدر المستثنى فيجعل تكلما بالباقي بعد (٣/١٨٥) الاستثناء وينعدم الحكم في المستثنى لعدم الدليل الموجب له مع صورة التكلم به بمنزلة الغاية فيما يقبل التوقيت فإن الحكم ينعدم فيما وراء الغاية لعدم الدليل الموجب له لا لأن الغاية توجب نفي الحكم فيما وراءها وعند الشافعي رحمه اللّه موجبه امتناع الحكم في المستثنى لوجود المعارض كامتناع ثبوت حكم العام فيما خص منه لوجود المعارض صورة وهو دليل الخصوص وأصل الخلاف في التعليق بالشرط وإليه أشار الشيخ بقوله كما اختلفوا في التعليق بالشرط فإن التعليق عنده لا يخرج الكلام من أن يكون إيقاعا بل يمتنع وقوعه لمانع وهو التعليق أو عدم الشرط فكذلك الاستثناء وعندنا التعليق يخرج الكلام من أن يكون إيقاعا ويمتنع ثبوت الحكم في المحل لعدم العلة مع صورة التكلم بها فكذا الاستثناء فإذا قال لفلان علي ألف إلا مائة صار عنده كأنه قال إلا مائة فإنها ليست علي فلا تلزمه المائة للدليل المعارض لأول كلامه لا لأنه يصير بالاستثناء كأنه لم يتكلم به وصار عندنا كأنه قال لفلان علي تسعمائة وأنه لم يتكلم بالألف في حق لزوم المائة وكأن الغزالي مال إلى هذا القول فإنه ذكر في المستصفى أن كل واحد من الشرط والاستثناء يدخل على الكلام فيغيره عما كان يقتضيه لولا الشرط والاستثناء فيجعله متكلما بالباقي لا أنه يخرج من كلامه ما دخل فيه فإنه لو دخل فيه لما خرج نعم كان يقبل القطع في الدوام بطريق النسخ فأما رفع ما سبق دخوله في الكلام فمحال قال فإن قيل قوله اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة أو إن لم يكونوا ذميين يتناول الجميع لكن خرج أهل الذمة بإخراجه بالشرط والاستثناء قلنا هو كذلك لو اقتصر عليه ولذلك يمتنع الإخراج بالشرط والاستثناء منفصلا ولو قدر على الإخراج لم يفرق بين المتصل والمنفصل ولكن إذا لم يقتصر وألحق به ما هو جزء منه وإتمام له غير موضوع الكلام وجعله كالناطق بالباقي ودفع دخول البعض ومعنى الدفع أنه كان يدخل لولا الشرط والاستثناء فإذا ألحقا قبل الوقوف دفعا وذكر ابن الحاجب في شرح المفصل أن عقلية الاستثناء يعني معقوليته مشكلة لأن في قول الرجل جاءني القوم إلا زيدا إن قلنا زيد غير داخل في القوم لم يستقم لإجماع أهل اللغة في الاستثناء المتصل أنه إخراج ما بعد إلا مما قبلها وإجماعهم مقطوع به في تفاصيل العربية ولأنا قاطعون إذا قال العربي له عندي دينار إلا ثمنا ونصف ثمن بأن يحسب المذكور بعد إلا ثم يخرجه من الدينار ثم يقطع بأن القدر بعده هو الباقي وإن قلنا هو داخل فيهم فكذلك لأن المتكلم إذا قال جاء القوم وزيد منهم فقد وجب نسبة المجيء إليه لأنه منهم فإذا أخرج بعد ذلك فقد نفي عنه المجيء فيصير مثبتا منفيا باعتبار واحد فيؤدي إلى أن لا يكون الاستثناء في كلام إلا وهو كذب من (٣/١٨٦) أحد الطرفين وهو باطل فإن القرآن مشتمل عليه قال والصواب الذي يجمع رفع الإشكالين أن يقول لا يحكم بالنسبة إلا بعد كمال ذكر المفردات في كلام المتكلم فإذا قال المتكلم قام القوم إلا زيدا فهم القيام أولا بمفرده وفهم القوم بمفرده وأن منهم زيدا وفهم إخراج زيد منهم بقوله إلا زيدا ثم حكم بنسبة القيام إلى هذا المفرد الذي أخرج منه زيد فحصل الجمع بين المسالك المقطوع بها على وجه يستقيم وهو أن الإخراج حاصل بالنسبة إلى المفردات وفيه توقية بإجماع النحويين وتوقية بأنك ما نسبت إلا بعد أن أخرجت زيدا فلا يؤدي إلى المناقضة المذكورة فاستقام الأمر في الوجهين جميعا قوله وقد دل على هذا الأصل مسائلهم يعني دل على الاختلاف المذكور أجوبة الفريقين في المسائل التي تتعلق بالاستثناء قال القاضي الإمام ولنا ولهم مسائل تدل على المذهبين أو دل على أن الاستثناء يعمل بطريق المعارضة عند الشافعي وأصحابه جوابهم في المسائل المتعلقة بالاستثناء يعني ما ذكرنا من الأصل ليس بمنقول عن السلف أو عن الشافعي نصا وإنما يستدل عليه بالمسائل وبيان ذلك أي بيان أن المسائل تدل على ما ذكرنا أن الشافعي رحمه اللّه جعل قوله تعالى إلا الذين تابوا معارضا لصدر الكلام فقال إنه تعالى استثنى التائبين من جملة القاذفين فيكون هذا إثبات حكم على خلاف ما أثبته صدر الكلام بطريق المعارضة وصدر الكلام أمر بالجلد ونهي عن قبول الشهادة وتسمية بالفسق فيصير الاستثناء نفيا على خلافه ويصير كأنه قال إلا التائبين فإنهم ليسوا بفاسقين وتقبل شهادتهم ولا يجلدون فيبقى صفة الفسق ورد الشهادة به وكان ينبغي أن يسقط الجلد بالتوبة أيضا كرد الشهادة إلا أن رد الشهادة من حقوق اللّه تعالى فيشترط للسقوط التوبة إليه لا غير فإذا تاب سقط كما إذا تاب عن شرب الخمر ونحوه وحد القذف خالص حق العبد أو حق العبد فيه غالب على أصل الشافعي رحمه اللّه حتى يجري فيه التوارث والعفو عنده فيشترط في سقوطه التوبة إلى العبد بعد التوبة إلى اللّه تعالى فلا يسقط بمجرد التوبة إلى اللّه عز وجل كالمظالم لا تسقط بمجرد التوبة إلى اللّه تعالى بدون إرضاء أربابها حتى إذا تاب إلى المقذوف واعتذر فعفا عنه المقذوف سقط أيضا كالقصاص قوله وكذلك أي كما جعل الاستثناء معارضا في هذه الآية جعله معارضا في (٣/١٨٧) هذا الحديث وهو قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء فإن معناه عنده لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا طعاما مساويا بطعام مساو فإن لكم أن تبيعوهما أو معناه إلا سواء بسواء فإنهما إذا صارا متساويين جاز لكم أن تبيعوهما أثبتت حرمة البيع بصدر الكلام عامة في القليل والكثير أعني ما يدخل تحت الكيل وما لا يدخل فيه مثل الحفنة والحفنتين لأن الطعام اسم جنس وقد دخله لام التعريف فاستغرق الجميع فلما استثنى المساوي امتنع الحكم فيه بالمعارضة فيبقى ما وراءه داخلا تحت الصدر ثم المراد من التساوي المساواة في الكيل بالاتفاق فيثبت المعارضة في المكيل خاصة فبقي بيع الحفنة بالحفنة وبالحفنتين داخلا في صدر الكلام فيحرم وقوله وخصوص دليل المعارضة لا يتعدى جواب سؤال وهو أن الاستثناء وإن عارض الصدر في المكيل على الخصوص بصيغته يحتمل أن يتعدى الحكم عنه بالتعليل فيثبت المعارضة حينئذ في غير المكيل فيثبت الجواز في بيع الحفنة عند التساوي كما يتعدى الحكم عن المخصوص إلى غيره بتعليل دليل الخصوص فقال خصوص دليل المعارضة يعني الدليل الذي ثبت به المعارضة وهو الاستثناء إذا كان خاصا لا يزول خصوصه بتعدي حكمه إلى غيره لأنه لا يقبل التعليل كما يقبله دليل الخصوص في العام لعدم استقلاله بنفسه في إفادة المعنى بخلاف دليل الخصوص في العامة فإنه مستقل بنفسه فيقبل التعليل ومثل يقرأ بالنصب على المصدر لا بالرفع وبعضهم قرأه بالرفع وزعم أن معناه أن دليل المعارضة خاص بصيغته فلا يتعدى إلى غير ما تناوله إذ لو تعدى لصار عاما كما أن دليل الخصوص لا يتعدى عن المخصوص نصا إلا بطريق التعليل لكن الفرق أن دليل المعارضة لا يتعدى ما تناوله بنفسه ولا بالتعليل إذ يلزم منه معارضة التعليل النص وهي باطلة فأما دليل الخصوص فمبين لوجود حد البيان فيه وهو أن يظهر به ابتداء وجود الشيء فكان قابلا للتعليل وهذا كله وهم والمعنى هو الأول وذلك مثل قوله تعالى إلا أن يعفون أي خصوص الاستثناء وعموم الصدر في هذا الحديث مثل خصوص الاستثناء وعموم الصدر في قوله تعالى إلا أن يعفون فإنه تعالى أوجب على الأزواج نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول في جميع المطلقات بقوله وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم فيدخل في (٣/١٨٨) عمومه العاقلة والمجنونة والصغيرة والكبيرة ثم استثنى حالة العفو بقوله عز اسمه إلا أن يعفون أي إلا أن يعفون فيسقط الكل فيثبت المعارضة به في حق الكبيرة العاقلة التي يصح منها العفو دون المجنونة أو الصغيرة التي لا يصح العفو منهما فكان الاستثناء معارضا لبعض صدر الكلام لا لجميعه فبقي الصدر فيما لا يعارضه فيه على ما كان ويختص السقوط بالعفو بالعاقلة الكبيرة التي يصح العفو منها إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر وتقول المرأة ما رآني وما استمتع بي فكيف آخذ منه شيئا أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح أي الولي الذي يلي عقد نكاحهن وهو مذهب الشافعي أو الزوج فإن إمساك العقدة وحلها بالطلاق بيده واللام في النكاح بدل الإضافة أي نكاحه أي أو أن يتفضل الزوج بإعطاء الكل صلة لها وإحسانا فيقول قد نسبت إلي بالزوجية فلا يليق بالمروءة استرداد شيء من مهرها يعني الواجب شرعا هو النصف إلا أن تسقط هي الكل أو يعطي هو الكل فإيجاب النصف إنصاف الشريعة وتركها وبذله من أخلاق الطريقة قال صاحب الكشاف وتسمية الزيادة على الحق عفو باعتبار أن الغالب كان فيهم سوق المهر إليها عند التزوج فإذا كان طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها وقال في رجل قال لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا إن الاستثناء صحيح ويسقط من الألف قدر قيمة الثوب لأن معناه إلا ثوبا فإنه ليس علي من الألف لأنه ليس بيانا إلا هكذا ثم الدليل المعارض وهو الاستثناء واجب العمل بقدر الإمكان إذ لو لم يعمل به صار لغوا والأصل في كلام العاقل أن لا يكون كذلك فإن كان المستثنى من جنس المستثنى منه يمكن إثبات المعارضة في عين المستثنى والإمكان هاهنا في أن يجعل نفيا لقدر قيمة الثوب لا لعينه فيجب العمل به كما قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه في قول الرجل لفلان علي ألف إلا كر حنطة أنه يصرف إلى قيمة الكر تصحيحا للاستثناء بقدر الإمكان قال ولو كان الكلام عبارة عما وراء المستثنى كما قلتم ينبغي أن يلزمه الألف كاملا لأن مع وجوب الألف عليه نحن نعلم أنه لا كر عليه فكيف يجعل هذا عبارة عما وراء المستثنى والكلام لم يتناول المستثنى أصلا فظهر أن الطريق فيه ما قلنا هذا بيان المسائل التي يظهر أثر الخلاف فيها على ما ذكر في كتب أصحابنا ولكنهم ينكرون هذا الأصل ويخرجون هذه المسائل على أصول (٣/١٨٩) أخر فيقولون رد الشهادة بناء على أن الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة بعضها على بعض يرجع إلى الجميع عندنا إذا لم يمنع عنه مانع كما إذا تعقبها أو تقدمها شرط أو بناء على أن قوله تعالى وأولئك هم الفاسقون في معنى التعليل لعدم القبول أي ولا تقبلوا شهادتهم لأنهم فاسقون وبالتوبة ينتفي الفسق فيثبت القبول لزوال المانع على أن الاستثناء معارضة وكذا بقاء صدر الكلام على العموم في الحديث متناولا لحرمة بيع الحفنة بالحفنة ليس بناء على أن الاستثناء فيه بطريق المعارضة بحيث لو لم يجعل معارضا لا يثبت هذه الحرمة بل لو جعل تكلما بالباقي يثبت هذه الحرمة أيضا لأن قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام لما تناول القليل والكثير ثم استثنى المساوي من الجميع بقي تكلما بالباقي وهو القليل والكثير الذي ليس بمساو لبدله وصار كأنه قال لا تبيعوا الطعام القليل بالطعام ولا الكثير بما ليس بمساو له وكذا صحة الاستثناء في قوله علي ألف إلا ثوبا ليست مبنية على الاستثناء معارضة أيضا بل هي مبنية على أن الاستثناء المتصل حقيقة والاستثناء المنقطع مجاز فمهما أمكن حمل الاستثناء على الحقيقة وجب حمله عليها إذ الأصل في الكلام هو الحقيقة ومعلوم أنه لا بد في الاستثناء المتصل من المجانسة فوجب صرف الاستثناء إلى القيمة ليثبت المجانسة ويتحقق الاستخراج كما هو حقيقته ألا ترى أنه لا يمكن جعله معارضة إلا بهذا الطريق إذ لا بد لها من اتحاد المحل أيضا وإذا وجب رد الثوب إلى القيمة تصحيحا للاستثناء لا ضرورة إلى جعله معارضة بل يجعل عبارة عما وراء المستثنى فيثبت بما ذكرنا أن هذه المسائل لا تدل على كون الاستثناء معارضة ويؤيده ما ذكر في الميزان أن بعض مشايخنا قالوا الاستثناء يعمل بطريق البيان عندنا وعند الشافعي رحمه اللّه بطريق المعارضة ولا نص فيه عن الشافعي ولكنهم استدلوا على الخلاف بمسائل ولكن الصحيح أنه لا خلاف بين أهل الديانة أنه بطريق البيان لا بطريق المعارضة لأنه خلاف إجماع أهل اللغة فإنهم قالوا الاستثناء استخراج بعض ما تكلم به وقالوا أيضا الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا والمعارضة قد تكون بين الحكمين المتضادين مع بقاء الكلام وهو غير استخراج بعض الكلام والتكلم وقال وإنما حمل هؤلاء على جعل هذه المسألة مختلفة إشكالات يتراءى أنه من باب المعارضة وليس كذلك قوله إن أهل اللغة أجمعوا على أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات فلو لم يكن له موجب على خلاف الأول لما جعلوه كذلك فثبت أن الاستثناء حكما على ضد (٣/١٩٠) موجب أصل الكلام يعارض الاستثناء بذلك الحكم حكم المستثنى منه أو الراء بالفتح أي يعارض بذلك الحكم حكم المستثنى منه إلا أنه لم يذكر اختصارا لدلالة الصدر عليه وقد نص عليه في بعض المواضع قال اللّه تعالى فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين وفي موضع إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولهذا اتفق الفقهاء على أن لو قال لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهمين يلزمه تسعة لأن الاستثناء الأول من الإثبات فكان نفيا والاستثناء الثاني من النفي فكان إثباتا وأما الثاني وهو التمسك بدلالة الإجماع فهو أن كلمة الشهادة وهي كلمة لا إله إلا اللّه كلمة توحيد بالإجماع وهي مشتملة على النفي والإثبات فقوله لا إله نفي للألوهية عن غير اللّه وقوله إلا اللّه إثبات الألوهية للّه عز وجل وبهاتين الصفتين صارت كلمة الشهادة والتوحيد وعلى ما ذكرتم لا تبقى كلمة التوحيد لأن الاستثناء إذا جعل داخلا على التكلم ليمنع البعض صار كأنه لم يتكلم بالإثبات وإنما تكلم بالنفي على الإطلاق أي بنفي الألوهية عن غير اللّه لا بإثبات الألوهية له عز وجل وذلك لا يكون توحيدا ولا يعني به نفي ما هو ثابت أو إثبات ما لم يكن لأن غير اللّه لم يكن إلها ولا يكون واللّه تعالى إله أزلا وأبدا وإنما يعني بالنفي التبرؤ عن غير اللّه وبالإثبات الإقرار بالوحدانية له تعالى فتبين بما ذكرنا أن معنى التوحيد إنما يتحقق في هذه الكلمة إذا جعل معناه إلا اللّه فإنه إله وكذلك لا عالم إلا زيد أي ومثل التقدير المذكور في كلمة التوحيد التقدير في قوله لا عالم إلا زيد لأن معناه فإنه عالم إذ المقصود من هذا الكلام مدح زيد بأنه عديم النظير في العلم ولا يتحقق هذا المقصود إلا بهذا التقدير ولو جعل تكلما بالباقي لا يحصل هذا الغرض أصلا لأن نفي العلم عن غيره يصير مقصودا حينئذ لا إثبات العلم له وأما الثالث وهو الدليل فهو أن الاستثناء لا يرفع التكلم بقدر المستثنى حقيقة لأن الكلام بعدما وجد حقيقة يستحيل القول بكونه غير موجود حقيقة وإذا نفي التكلم صيغة (٣/١٩١) نفي بحكمه إذا لم يمنع عنه مانع لأن بقاء الدليل يدل على بقاء المدلول فعرفنا أنه لا سبيل إلى القول بارتفاع التكلم بالاستثناء لأنه يؤدي إلى إنكار الحقائق فيجب القول بامتناع الحكم بالعارضة بين الاستثناء وصدر الكلام في القدر المستثنى مع قيام التكلم حقيقة وامتناع الحكم لمانع مع بقاء التكلم سائغ كالبيع بشرط الخيار والطلاق المضاف وكالعام المخصوص منه يمتنع حكمه في القدر المخصوص لوجود المعارض صورة وهو دليل الخصوص لا لعدم التكلم بالدليل الموجب فأما القول بعدم التكلم مع وجوده حقيقة فغير معقول ولا نظير له ثم المعارضة قد تقع بجنس الأول وبخلاف جنسه كما في المعارضات بين الحجج كلها وإنما الشرط لصحة المعارضة أن يكون بين المتعارضين تدافع وقد وجد فإن صدر الكلام للإيجاب والاستثناء للنفي أو على العكس فيتدافع الحكم في قدر المعارضة فإن كان من جنس الأول بطل بقدر المعارضة بلا اعتبار معنى وإن كان من خلاف جنسه احتيج إلى اعتبار المعنى كما يقولون إن عقد الارتهان عقد استيفاء للدين فإن كان الرهن من جنس الدين يصير عين الرهن مستوفى بالدين عند حلول الأجل وإن كان من خلاف جنسه يصير المعنى منه مستوفى إذا هلك أو بيع بالدين على أصلي كذا في الأسرار قوله واحتج أصحابنا بالنص والإجماع والدليل المعقول أيضا فقوله أيضا راجع إلى الإجماع والدليل المعقول لا إلى النص فإن الخصم لم يمسك به أو معناه أن أصحابنا احتجوا بحجج ثلاث كما أنه تمسك بشبه ثلاث أما النص فقوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما أنه تعالى استثنى الخمسين عن الألف في الإخبار عن لبث نوح في قومه قبل الطوفان فلو كان عمل الاستثناء بطريق المعارضة لما استقام الاستثناء في الأخبار ولاختص بالإيجاب كدليل الخصوص وذلك لأن صحة الخبر بناء على وجود المخبر به في الزمان الماضي والمنع بطريق المعارضة إنما يتحقق في الحال لا في الزمان الماضي وكذا في الإخبار عن أمر في المستقبل لا يتصور المنع بطريق المعارضة أيضا لأنه ليس بموجود فثبت أن جعله معارضا لا يستقيم في الأخبار لأن التكلم لما بقي بحكمه لا (٣/١٩٢) يقبل الامتناع بمانع بخلاف الإيجاب لأنه إثبات في الحال فإذا عارضه مانع يحتمل أن لا يثبت ألا ترى أنه لو ثبت حكم الألف بجملته في قوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة ثم عارضه الاستثناء في الخمسين لزم كونه نافيا لما أثبته أو لا فلزم الكذب في أحد الأمرين إما الأول أو الثاني تعالى اللّه عن ذلك ولزم أيضا إطلاق اسم الألف على ما دونه واسم الألف لا ينطلق على ما دونه بوجه وقوله فبقاء التكلم بحكمه في الخبر لا يقبل الامتناع لمانع جواب عن قوله فامتناع الحكم مع قيام التكلم سائغ وأما الإجماع فهو أن أهل اللغة قاطبة أي جميعا قالوا إن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا كما قالوا الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وإذا ثبت الوجهان أي ما قالوا إنه استخراج وتكلم بالباقي وإنه إثبات ونفي وجب الجمع بينهما لأنه هو الأصل فقلنا إنه استخراج وتكلم بالباقي بوضعه أي بحقيقته وإثبات ونفي بإشارة لأن الإثبات والنفي غير مذكورين في المستثنى قصدا لكن لما كان حكمه على خلاف حكم المستثنى منه ثبت ذلك ضرورة الاستثناء لأن حكم الإثبات يتوقف بالاستثناء كما يتوقف بالغاية فإذا لم يبق بعده ظهر النفي لعدم علة الإثبات فسمي نفيا مجازا ومعنى الاستخراج أنه يستخرج به بعض نص الكلام عن أن يكون موجبا ويجعل الكلام عبارة عما وراء المستثنى لا أنه يستخرج به بعض حكم الجملة بعد ثبوت الكلام وهذا لأن الاستثناء بيان بالاتفاق وإنما يكون بيانا إذا جعل المستثنى غير ثابت من الأصل كالتخصيص لما كان بيانا لم يكن المخصوص ثابتا من الأصل إلا أن الاستثناء تعرض للكلام فيتبين به أن بعضه غير ثابت والتخصيص تعرض للحكم بنص آخر بخلافه قوله أحدها أي أحد وجوه المعقول أن ما يمنع الحكم بطريق المعارضة يستوي فيه البعض والكل كالنسخ فإن نسخ الكل جائز كنسخ البعض ولم يستو البعض والكل هاهنا فإن الاستثناء المستغرق باطل كما ذكرنا فعرفنا أنه ليس بمعارضة وتصرف في الحكم بل هو تصرف في الكلام بجعله عبارة عما وراء المستثنى ألا ترى أنه لو تصور بعد الاستثناء بقاء شيء يجعل الكلام عبارة عنه صح الاستثناء وإن لم يبق من الحكم شيء (٣/١٩٣) بأن قال عبيدي أحرار إلا سالما وبزيعا وفرقدا وليس له عبد سواهم أو قال نسائي طوالق إلا زينب وعمرة وفاطمة وليس له امرأة غيرهن فإن الاستثناء يصح ولو كان تصرفا في الحكم بطريق المعارضة لم يصح لأنه يصير استثناء الكل من الكل ولا يلزم على ذكرنا دليل الخصوص فإنه يعمل بطريق المعارضة ثم لم يستو البعض والكل فيه حتى جاز تخصيص البعض ولم يجز تخصيص الكل لأنه إنما يعمل بطريق المعارضة باعتبار سنة النسخ ومن هذا الوجه استوى فيه الكل والبعض حتى جاز نسخ الكل كنسخ البعض ولكنه بيان باعتبار شبه الاستثناء ولا يستقيم أن يكون بيانا بعد تخصيص الكل فلذلك امتنع تخصيصه والثاني أي من وجوه المعقول أن دليل المعارضة ما يستقل بنفسه أي يستبد في إفادة المعنى ولا يفتقر إلى شيء آخر مثل دليل الخصوص لأنه إذا لم يستقل لا يصلح دافعا للحكم الثابت بالكلام المستقل والاستثناء قط لا يستقل بنفسه يعني على المذهبين بمنزلة الغاية لافتقاره في إفادة المعنى بأول الكلام أما عندنا فلأن قوله إلا مائة لا تفيد شيئا بدونه وأما عند الشافعي فلأنه لو قال ابتداء إلا مائة فإنها ليست علي لا يكون مفيدا أيضا وإذا كان كذلك لا يصلح أن يكون معارضا لفوات شرط المعارضة وهو تساوي المتعارضين في ذاتيهما في القوة بخلاف دليل الخصوص فإنه لاستقلاله بنفسه يصلح أن يكون معارضا وعبارة بعض المشايخ أن الاستثناء لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بصدر الكلام فكان تبعا لغيره والتبع لا يعارض الأصل بالإجماع وقوله ولكنه أي الاستثناء جواب عما يقال لما كان غير مستقل بنفسه ولم يصلح معارضا ينبغي أن لا يكون له تأثير في الكلام بل يثبت موجب أول الكلام قبل التكلم به ولا يتوقف عليه فقال لما لم يكن مستقلا بنفسه وكان قائما بالأول بمنزلة جزء منه والحكم ببعض الجملة قبل تمامها لا يجوز لأن الكلام يتم بآخره وبه يتبين مقصود المتكلم كما لا يجوز الحكم ببعض الكلمة قبل تمامها احتمل الكلام التوقف على آخره ليتبين المراد بأوله خصوصا إذا احتمل التغير بآخره كالتعليق بالشرط وقوله احتمل مسند إلى الضمير الراجع إلى الكلام معنى فإن الجملة في قوله ببعض الجملة في تأويل الكلام والكلام في قوله وقف أول الكلام من قبيل إقامة المظهر مقام المضمر أي لما لم يجز الحكم ببعض الكلام حتى يتم احتمل (٣/١٩٤) الكلام وقف أوله على آخره وهذا أي ما ذكرنا من الدلائل لإبطال طريقة الخصم وهي أن الاستثناء يعمل بالمعارضة لا لإثبات المدعى قوله والثالث أي الوجه الثالث من المعقول لتصحيح ما قلنا أي لإثبات المدعى وهو أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وبيان ذلك أي هذا الوجه هو أن التكلم بدون أن يكون له حكم أصلا أو يكون منعقد الحكم سائغ أي جائز كما جاز امتناع الحكم بعد الانعقاد لمعارض وقوله و لا انعقاد له بحكمه أصلا تأكيد لقوله ولا حكم له أصلا وقوله مثل طلاق الصبي وإعتاقه يتصل بقوله سائغ يعني قد يسقط حكم الكلام بعد الانعقاد بالمعارضة وقد ينعقد للحكم أصلا مثل طلاق الصبي والمجنون وإعتاقهما فإنهما لم ينعقدا للحكم أصلا وإذا كان كذلك جاز أن يكون الاستثناء من قبيل الممتنع لمعارض كما قاله الشافعي ومن قبيل ما لا انعقاد له للحكم أصلا كما قلنا فوجب الترجيح وذلك فيما قلنا بيانه أي بيان الترجيح أن الاستثناء متى جعل معارضا في الحكم كما قاله الخصم لزم إثبات ما ليس من محتملات اللفظية وذلك لا يجوز فإنه إذا جعل معارضا بقي التكلم بحكمه أي مع حكمه أو منعقدا لحكمه في صدر الكلام ثم لا يبقى من الحكم إلا بعضه بالاستثناء وذلك البعض الباقي لا يصلح حكما لكل التكلم بصدر الكلام لأن دلالته على تمام مسماه بالوضع لا على بعضه بل لا يحتمل غير مسماه أصلا في بعض المواضع كأسماء الأعداد فإن اسم الألف مثلا لا يقع على غيره بطريق الحقيقة ولا يحتمله أيضا بطريق المجاز فلا يجوز إطلاقه على تسعمائة أصلا ومتى جعل تكلما بالباقي بقيت صورة التكلم في المستثنى غير موجب لحكمه وهو جائز من غير لزوم فساد فكان القول به أولى وذكر في كتب بعض أصحابنا وأظنه مصنف الشيخ بهذه العبارة وهي أن الكلام قد يسقط حكمه بطريق المعارضة وقد لا ينعقد بحكمه فيتأمل أن إلحاق الاستثناء بأيهما أولى فنقول ما قلناه أولى لأنه عمل بالحقيقة وما قاله الخصم عمل بالمجاز وبيانه أن الألف اسم لعدد معلوم لا يحتمل غيره فلو قلنا بأن الحكم بقدر المستثنى يسقط بطريق (٣/١٩٥) المعارضة مع أن الكلام منعقد في نفسه ولا يوجب الألف بل يوجب تسعمائة يؤدي إلى العمل بالمجاز فإن تسعمائة غير الألف حقيقة فكان إطلاق اسم الألف عليه إطلاقا لاسم الكل على البعض ولو جعلنا الاستثناء مانعا عن التكلم بقدر المستثنى بحكمه كان هذا عملا بالحقيقة لأنه يصير كأنه لم يتكلم بالألف وأنه قال لفلان علي تسعمائة إلا أن قوله تسعمائة مختصر من الكلام والألف مع الاستثناء مطول وهذا التقرير يشير إلى أن الألف لا يحتمل غيره بطريق الحقيقة ولكنه يحتمل بطريق المجاز وإليه أشير في المفتاح أيضا فقد ذكر فيه في فصل الاستثناء أن استعمال المتكلم للعشرة في التسعة مجاز إلا واحدا قرينة المجاز لكن ما ذكرناه أولا أولى لأن أسماء الأعداد نصوص في مدلولاتها غير محتملة لغير مسمياتها كالأسماء الأعلام على ما مر غير مرة إذا كان كلمة فرد كمن وما ونحوهما أو اسم جنس كالرجل ونحوه فلذلك أي لفساد كون البعض حكما لكل الكلام بطل كون الاستثناء معارضا وقوله فجعل تكلما بالباقي تقريب يعني وإذا لم يمكن أن يجعل معارضا جعل تكلما بالباقي فكان أي التكلم بما يدل المطلوب طريقا في اللغو يطول مرة وهي ما إذا قرن بالكلام الاستثناء ويقصر أخرى يعني صار للعدد الذي هو تسع مئين مثلا عبارتان طويلة وهي ألف إلا مائة وقصيرة وهي تسعمائة وجعل الإيجاب والنفي بإشارته أي ثابتا بإشارته وفي بعض النسخ وجعل للإيجاب والنفي أي جعل الاستثناء للإيجاب والنفي بإشارته وهو الأصح وقد عرفت أن الثابت بالإشارة وإن كان ثابتا بنظم الكلام لكنه من قبيل الثابت بدلالة التزام لا بطريق القصد فكان مجازا والأول حقيقة لأنه بطريق الوضع بيانه أي بيان أن الإيجاب والنفي ثبتا بإشارته أن الأول موجب الكلام الأول ينتهي بالمستثنى والإثبات بالعدم ينتهي والعدم بالوجود ينتهي لأن كل واحد منهما مناف للآخر فيلزم من تحقق أحدهما انتفاء الآخر ضرورة فإذا قال الرجل جاءني القوم إلا زيدا كان الصدر إثباتا للمجيء على وجه العموم قوله إلا زيدا انتهى ذلك الإثبات إذ (٣/١٩٦) لولاه لكان مجاوزا إلى زيد كما أن بالغاية ينتهي أصل الكلام وكذا لو قال ما جاءني إلا زيد كان الصدر نفيا للمجيء على سبيل العموم فبقوله إلا زيد ينتهي ذلك النفي إذ لولاه لكان متعديا إلى زيد فإذا انتهى موجب الكلام الأول بالاستثناء كالليل ينتهي بوجود النهار وعكسه كان الاستثناء بمعنى الغاية فإذا كان الوجود غاية للأول أي لموجب أول الكلام إذا كان نفيا أو العدم غاية إذا كان الصدر إثباتا لم يكن بد من إثبات الغاية ليتناهى الأول فكان الاستثناء من النفي إثباتا ومن الإثبات نفيا لا محالة لكن بحكم أنه غاية لا لأنه موجب للنفي أو للإثبات قصدا وهذا أي كونه نفيا أو إثباتا بالطريق الذي قلنا ثابت لغة أي ثابت بدلالة اللغة فكان مثل صدر الكلام أي فكان الاستثناء في دلالته على النفي والإثبات مثل صدر الكلام في دلالته على موجبه من حيث إن كل واحد منهما ثابت لغة فلذلك صح إجماعهم على أنه من النفي إثبات ومن الإثبات نفي إلا أن الأول أي موجب صدر الكلام ثابت قصدا وهذا أي كون الاستثناء نفيا أو إثباتا ليس بثابت قصدا فكان إشارة أي ثابتا بإشارة الكلام قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه فأما قول أهل اللغة الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي فإطلاق على ظاهر الحال مجازا لا حقيقة لأنك إذا قلت لفلان علي ألف درهم إلا عشرة لم تجب العشرة كما لو بقيتها ولكن عدم الوجوب على المقر ليس بنص ناف للوجوب عليه بل لعدم دليل الوجوب وكما قالوا ذلك فقد قالوا إنه تكلم بالباقي بعد الثنيا فلا بد من الجمع بينهما فيجعل الأول مجازا وهذا حقيقة قوله ولذلك اختير في التوحيد كذا أي ولكون موجب صدر الكلام ثابتا قصدا وكون الاستثناء نفيا أو إثباتا إشارة اختير في التوحيد لا إله إلا اللّه ليكون الإثبات أي الإقرار بالوحدانية بطريق الإشارة ونفي الألوهية عن غير اللّه بطريق القصد بأن يكون الاستثناء غاية للنفي فينتهي المستثنى منه بوجود تلك الغاية فيتحقق الإثبات إشارة والنفي قصدا لأن الأصل في التصديق القلب يعني التصديق بالقلب هو الأصل في الإيمان والإقرار باللسان شرط لإجراء الأحكام أو ركن زائد على ما مر بيانه في باب بيان حسن المأمور به فاختير في البيان أي في الإقرار الذي ليس بمقصود أصلي الإشارة التي ليست (٣/١٩٧) بمقصودة فإن قيل إن النفي باللسان غير مقصود أيضا بل الأصل فيه القلب كالإثبات وقد اختير فيه النفي قصدا فينبغي أن يكون في الإثبات كذلك أيضا قلنا إنما اختير النفي قصدا إنكارا لدعوى الخصوم فإن بعض الناس ادعوا الألوهية لغير اللّه واشركوا به غيره فاختير النفي باللسان قصدا ردا لدعواهم ولهذا ابتدئ بالنفي لأنه أهم فأما الكل فقد أقروا بألوهية اللّه عز وجل كما أخبر اللّه جل جلاله بقوله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن اللّه فيكتفى بالإثبات بالإشارة إليه لعدم النزاع فيه ثم جعل الاستثناء في كلمة التوحيد غاية للنفي إنما يستقيم إذا جعل صدر الكلام نفيا لمطلق الألوهية لكن لو جعل نفيا للألوهية من غير اللّه لا يصح جعله غاية لأن النفي لا ينتهي بالاستثناء حينئذ بل يبقى على ما كان قبل الاستثناء ويكون على هذا الوجه استثناء منقطعا بمنزلة قوله تعالى إخبارا فإنهم عدو لي إلا رب العالمين فيكون الإثبات قصدا أيضا فأما قوله لا عالم إلا زيد فنفي لوصف العلم عاما وقوله إلا زيد توقيت له بمنزلة الغاية ومقتضى التوقيت عدم الموقت بعد الوقت وعدمه يثبت بضده فلما كان نفي العلم موقتا إلى زيد ينتهي بوجود العلم في زيد فكان النفي عن غيره مقصودا وإثبات العلم له إشارة وذلك لأن هذا الكلام رد لزعم من يزعم أن غير زيد موصوف بالعلم ولا ينكر علم زيد بل يقر بكونه عالما فكان نفي العلم هو المقصود لأنه هو المتنازع فيه فالمتكلم بقوله لا عالم إلا زيد نفى العلم عن غيره قصدا وأثبت العلم له إشارة فإن قيل لما جعل الاستثناء بمنزلة الغاية ينبغي أن ينتهي الحظر في قوله إن خرجت إلا بإذني بالإذن مرة كما في قوله إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك قلنا الاستثناء في قوله إلا بإذني من الخروج الذي هو مصدر كلامه بدلالة حرف الإلصاق أي لا تخرجي خروجا إلا خروجا ملصقا بإذني فيكون جميع الخروجات الموصوفة غاية لا خرجة واحدة منها فلا ينتهي الحظر بالإذن مرة فأما في قوله إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك فالغاية مطلق الإذن إذا وجد انتهى الحظر لا محالة وفرق بعضهم بأن الاستثناء في قوله إلا بإذني داخل على الخروج لا على الحظر والخروج فعل غير ممتد فلا يصلح الاستثناء غاية له لأن الغاية إنما تدخل فيما يمتد فأما الاستثناء في قوله إلا أن آذن لك فداخل على الحظر والحظر مما يمتد فيصلح غاية له فلذلك ينتهي بالإذن مرة (٣/١٩٨) قوله والاستثناء نوعان لما فرغ من إقامة الدليل على مدعاه شرع في بيان تخريج الفروع وذكر له مقدمة فقال الاستثناء نوعان أي ما أطلق عليه لفظ الاستثناء نوعان حقيقة وهو الاستثناء المتصل وتفسيره ما ذكرنا يعني قوله الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا ومجاز وهو المنفصل ويسمى منقطعا فجعل مبتدأ أي بمنزلة نص مبتدأ حكمه بخلاف الأول يعمل به بنفسه لا تعلق له بأول الكلام إلا من حيث الصورة وقوله مجازا نصب على التمييز والمراد أن إطلاق اسم الاستثناء على هذا النوع بطريق المجاز وإن كان اللفظ لا ينقاد له لأن جعل مسند إلى الضمير الراجع إلى المنفصل أي جعل الاستثناء المنفصل مبتدأ فكان قوله مجازا تميزا عن الجملة أي جعل المنفصل مبتدأ من الكلام بطريق المجاز لا بطريق الحقيقة فينصرف المجازية إلى كونه مبتدأ من الكلام لا إلى كونه استثناء والمراد هو الباقي دون الأول وكان من حق الكلام أن يقال فجعل مبتدأ وجعل استثناء مجازا وعبارة شمس الأئمة رحمه اللّه الاستثناء حقيقة ما بينا وما هو مجاز منه فهو الاستثناء المنقطع بمعنى لكن أو بمعنى العطف قوله تعالى قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين أي كل ما عبدتموه أنتم وعبده آباؤكم الأقدمون وهم الذين ماتوا في سالف الدهر فإني أعاديهم وأجتنب عبادتهم وتعظيمهم إلا رب العالمين فإني أعبده وأعظمه كذا في التيسير وذكر في المطلع أي ما عبادة من عبد هذه الأصنام إلا عبادة أعداء له لأنهم يعودون على عابديهم ضدا في الآخرة كما قال تعالى سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ولأن المغري على عبادتها الشيطان الذي هو أعدى أعداء الإنسان وإنما قال عدو لي ولم يقل لكم فرضا للمسألة في نفسه على معنى أني فكرت في هذا الأمر فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولا وبنى عليها تدبير أمره لينظروا فيقولوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون أدعى إلى القبول وأبعث على الاستماع ولم تكن هذه المثابة لو قال عدو لكم لأن التعريض يبلغ في التأثير في المنصوح له ما لا يبلغ التصريح لأنه يتأمل فيه فربما قاده التأمل إلى التقبل والعدو يقع على الجمع لأن ضرر العدو وإن كان واحدا لكثير إلا رب العالمين استثناء منقطع كأنه قال لكن رب العالمين الذي من صفته كيت وكيت فإنه تعالى ليس منهم قال الزجاج ويجوز أن يكون القوم عبدوا الأصنام مع (٣/١٩٩) اللّه عز وجل فقال إن جميع من عبدتم عدو لي إلا رب العالمين لأنهم سووا آلهتهم باللّه تعالى فأعلمهم أنه قد تبرأ مما يعبدون إلا اللّه عز وجل فإنه لم يتبرأ من عبادته وهذا قول مقاتل وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا قوله وكذلك لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما أي ومثل قوله تعالى فإنهم عدو لي إلا رب العالمين قوله عز وجل لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما في أن الاستثناء فيه منقطع أيضا لأن السلام ليس من جنس اللغو واللغو ما يلغى من الكلام أي يسقط والتأثيم ما يؤثم فيه أي لا يسمعون في الجنة ما يلغى من الكلام ولا ما يؤثم فيه من الهذيان والتفسيق إلا قيلا أي لكن يسمعون فيها قولا سلاما سلاما هما بدلان من قيلا بدليل قوله لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما أو مفعول بهما لقيلا بمعنى إلا أن يقولوا سلاما سلاما ومعنى التكرير أنهم يفشون السلام بينهم فيسلمون سلاما بعد سلام أو يسلم عليهم الملائكة سلاما بعد سلام ويجوز أن يكون معنى الآية إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك فهو من قبيل قوله ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ودار السلام هي دار السلامة من الآفات وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام والتبجيل لأهلها كذا في الكشاف والمطلع قوله وقوله تعالى إلا الذين تابوا استثناء منقطع ذهب بعض مشايخنا منهم القاضي الإمام أبو زيد رحمهم اللّه إلى أن هذا استثناء منقطع وتقريره من وجهين أحدهما وهو المذكور في الكتاب أن التائبين غير داخلين في صدر الكلام وهو قوله تعالى وأولئك هم الفاسقون لأن التائب من قام به التوبة وليس فيه صفة الفسق والفاسق من قام به وصف الفسق وليس فيه وصف التوبة فلا يكون التائب فاسقا فلا يكون داخلا تحت الصدر لولا الاستثناء فلم يكن الاستثناء حقيقة فكان منقطعا والثاني أن حقيقة الاستثناء لبيان أن المستثنى لم يدخل تحت الجملة أصلا ولولا الاستثناء لكان داخلا كقولك جاءني القوم إلا زيدا لم يدخل زيد في حكم المجيء أصلا ولولا الاستثناء (٣/٢٠٠) لكان داخلا والتائبون هم القاذفون فهم الذين كانوا فسقة فكانوا داخلين في الفاسقين ألبتة وبالتوبة لم يخرجوا من أن يكونوا قاذفين فلا يمكن حمل الاستثناء على الحقيقة فيجعل منقطعا بمعنى لكن أي لكن إن تابوا فاللّه يغفر لهم وإذا كان كذلك لا يتغير شيء مما ثبت بصدر الكلام من وجوب الحدود والشهادة ووصف الفسق بالاستثناء إلا أن التوبة والفسق متنافيان فيتغير بها وصف الفسق لاستحالة بقاء الشيء مع ما ينافيه لا للاستثناء فأما التوبة فليست بمنافية لرد الشهادة كالعبد العدل الثابت لا يقبل شهادته وكالنساء المنفردات العادلات لا تقبل شهادتهن فلذلك بقي مردود الشهادة كما كان وقوله فكان معناه إلا أن يتوبوا يعني لما لم يمكن استخراج التائبين عن صدر الكلام لكونهم داخلين فيه يحمل الاستثناء على التوقيت فكان معناه إلا أن يتوبوا أي حين يتوبوا وإذا حمل على التوقيت لم يكن استثناء حقيقة لأن بالتوقيت يتقرر موجب صدر الكلام ولا يخرج منه شيء وفي الاستثناء الحقيقي لا بد من أن يكون المستثنى خارجا من الصدر أي غير داخل فيه على وجه لولاه لكان داخلا وذكر في بعض نسخ أصول الفقه للشيخ أن معناه ولكن الذين تابوا وهكذا ذكر الإمام السرخسي والقاضي الإمام أبو زيد وهو الأقرب إلى الصواب وذهب أكثرهم إلى أنه استثناء متصل لأن الحمل على الحقيقة واجب مهما أمكن فجعلوه استثناء حال بدلالة الثنيا فإنها تقتضي المجانسة وحملوا الصدر على عموم الأحوال أي أضمروا فيه الأحوال فقالوا التقدير وأولئك هم الفاسقون في جميع الأحوال أي حال المشافهة والغيبة وحضور القاضي وحضور الناس وغيبتهم وحال الثبات والإصرار على القذف وحال الرجوع والتوبة إلا في حال التوبة ثم على التقديرين لا تعلق له برد الشهادة لأنه إن جعل استثناء متصلا يكون استثناء عن الجملة الأخيرة ولا ينصرف إلى ما سبق ذكره في عطف الجمل بعضها على بعض ولا يصرف الاستثناء إلى الجميع عندنا بل يقتصر على الأخيرة لأنه إنما وجب رجوع الاستثناء إلى ما قبله ليصح ضرورة عدم استقلاله بنفسه وقد اندفعت بالرجوع إلى الأخيرة فلا حاجة إلى صرفه إلى غيرها لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها وإن جعل استثناء منقطعا فكذلك لأنه حينئذ يكون كلاما مبتدأ فيعمل بالمعارضة إن أمكن ولا معارضة له إلا في وصف الفسق على ما بينا فثبت أنه لا تعلق له برد الشهادة قال شمس الأئمة رحمه اللّه ولئن كان محمولا على الحقيقة فهو استثناء بعض الأحوال أي وأولئك هم الفاسقون في جميع الأحوال إلا أن يتوبوا فيكون هذا الاستثناء توقيتا بحال ما قبل التوبة فلا تبقى صفة الفسق بعد التوبة لانعدام الدليل الموجب لا لمعارض مانع كما توهمه الخصم (٣/٢٠١) قوله وكذلك قوله تعالى إلا أن يعفون أي ومثل قوله تعالى إلا الذين تابوا قوله عز اسمه إلا أن يعفون فإنه استثناء حال أيضا إذ لا يمكن استخراج العفو الذي هو حالهن عن نصف المفروض حقيقة لعدم المجانسة فيحمل الصدر على عموم الأحوال أي لهن نصف ما فرضتم أو عليكم نصف ما فرضتم في جميع الأحوال أي في حال الطلب والسكوت وحال الكبر والصغر والجنون والإفاقة إلا في حالة العفو إذا كانت العافية من أهله بأن كانت عاقلة بالغة فكان تكلما بالباقي نظرا إلى عموم الأحوال وقال القاضي الإمام رحمه اللّه هو استثناء منقطع لأنه يبين أن النصف لم يكن واجبا إذا جاء العفو بل سقوطه بالعفو بتصرف طارئ فكان الاستثناء منقطعا لا أنه لم يدخل في الصدر بالاستثناء قوله وكذلك أي ومثل قوله تعالى إلا أن يعفون قوله عليه السلام إلا سواء بسواء في أنه استثناء حال أيضا لأن حمل الكلام على حقيقته واجب ما أمكن ولا يمكن استخراج المساواة من الطعام فيحمل صدر الكلام على ما يجانس المستثنى منه ليتحقق الاستثناء حقيقة والمستثنى حال وهي المساواة فيحمل الصدر على عموم الأحوال فصار كأنه قيل لا تبيعوا الطعام بالطعام في جميع الأحوال من المفاضلة والمجازفة والمساواة إلا في حالة المساواة ولا يتحقق هذه الأحوال إلا في الكثير وهو ما يدخل تحت الكيل لأن المراد من المساواة هو المساواة في الكيل إذ المشترى في الطعام ليس إلا الكيل بالإجماع وبدليل قوله عليه السلام كيلا بكيل وبدليل العرف فإن الطعام لا يباع إلا كيلا وبدليل الحكم فإن إتلاف ما دون الكيل في الطعام لا يوجب المثل بل يوجب القيمة لفوات المسمى والمفاضلة والمجازفة مبنيتان على الكيل أيضا إذ المراد من المفاضلة رجحان أحدهما على الآخر كيلا والمراد من المجازفة عدم العلم بتساويهما أو بتفاضلهما مع احتمال المساواة والمفاضلة فثبت بما ذكرنا أن صدر الكلام لم يتناول القليل الذي لا يدخل تحت الكيل لعدم جريان هذه الأحوال فيه فلا يصح الاستدلال به على حرمة بيع الحفنة بالحفنة أو الحفنتين فإن قيل لا نسلم أن هذا استثناء متصل بل هو استثناء منقطع لاستحالة استخراج المساواة التي هي معنى من العين فيكون معناه لكن إن جعلتموهما سواء بسواء فبيعوا أحدهما بالآخر فيبقى الصدر متناولا للقليل والكثير وقولكم العمل بالحقيقة أولى مسلم ولكن إذا لم يتضمن العمل بها مجازا آخر وقد تضمن هنا لأنه لا يمكن حمله على الحقيقة إلا بإضمار الأحوال في صدر الكلام والإضمار من أبواب المجاز ولئن سلمنا أن حمله على الحقيقة أولى فلا نسلم أنه يحتاج فيه إلى إضمار الأحوال في صدر الكلام لأنه يمكن أن يجعل المستثنى الطعام الموصوف بالمساواة أي لا (٣/٢٠٢) تبيعوا الطعام بالطعام متساويين كانا أو غير متساويين إلا الطعام المتساوي بالطعام المتساوي فبقي القليل داخلا في عموم صدر الكلام وهو بيع الطعام بالطعام غير متساويين ولئن سلمنا أنه استثناء حال وأنه يجب إدراج الأحوال في صدر الكلام فلا نسلم أن الأحوال منحصرة على الثلاث المذكورة بل العلة من أحواله كالمفاضلة والمجازفة أي لا تبيعوا الطعام بالطعام في جميع الأحوال من القلة والكثرة والمفاضلة والمجازفة والمساواة إلا في حالة المساواة فيبقى القليل داخلا في الصدر قلنا حمل الكلام على الحقيقة واجب فلا يجوز حمله على المنقطع الذي هو مجاز من غير ضرورة قولهم حمله على الحقيقة يتضمن مجازا آخر قلنا قد قام الدليل على هذا المجاز وهو الإضمار فوجب العمل به فأما المجاز الذي ذكرتم فلم يقم عليه دليل فترجحت الحقيقة عليه ألا ترى أن استثناء الدينار والكر من الدراهم جاز بالاتفاق وأن استثناء الثوب والعبد جائز منها عند الخصم ولا وجه لصحته إلا الإضمار أي إلا مقدار مالية كذا فثبت أن حمله على المتصل مع الإضمار أولى من حمله على المنقطع وقولهم هو استثناء عين لا استثناء حال قلنا هو استثناء بيع الطعام في هذه الحالة لا استثناء عين وقولهم لا نسلم انحصار الأحوال في الثلاث قلنا إنما حكمنا بانحصارها في الثلاث لأنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام بالطعام والطعام إذا ذكر مقرونا بالبيع أو الشراء يراد به الحنطة ودقيقها ويؤيده ما روي في رواية أخرى لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء ولهذا قالوا إذا حلف لا يشتري طعاما أنه لا يحنث بشراء الشعير والفاكهة وإنما يحنث بشراء الحنطة ودقيقها وكذا لو وكله بشراء طعام فاشترى فاكهة يصير مشتريا لنفسه وسوق الطعام عندهم اسم لسوق الحنطة ودقيقها ويسمى ما يباع فيه غير الحنطة سوق الشعير وسوق الفواكه وأنه من أبواب اللسان لا من فقه الشريعة ثم البيع لا يجزئ باسم الطعام أو الحنطة فإن الاسم يتناول الحبة الواحدة ولا يبيعها أحد ولو باعها لم يجز لأنها ليست بمال متقوم فعرفنا أن المراد منه ما صار متقوما ولا يعرف مالية الطعام إلا بالكيل فيثبت وصف الكيل بمقتضى النص ويصير كأنه قيل لا تبيعوا الطعام المكيل بالطعام المكيل إلا سواء بسواء وإذا كان كذلك انحصر الأحوال فيما ذكرنا وهو معنى قوله وذلك أي عموم الأحوال لا يستقيم إلا في المقدر وهو الذي يدخل تحت الكيل يوضحه أنه إنما يدرج في المستثنى منه ما يناسب المستثنى بوصف خاص لا بوصف عام فإنك إذا قلت ليس في الدار إلا زيد يدرج في الكلام إنسان لا حيوان ولا شيء فهنا إنما يدرج ما يناسب المساواة في الكيل وهو المفاضلة والمجازفة لا القلة التي هي بمنزلة الحيوان والشيء في تلك الصورة وذكر (٣/٢٠٣) شمس الأئمة رحمه اللّه في أصول الفقه أن قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء استثناء لبعض الأحوال أي لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا حالة التساوي في الكيل فيكون توقيتا للنهي بمنزلة الغاية وثبت بهذا النص أن حكم الربا الحرمة الموقتة في المحل دون المطلقة وإنما يتحقق الحرمة الموقتة في المحل الذي يقبل المساواة في الكيل فأما في المحل الذي لا يقبل المساواة لو ثبت إنما ثبت حرمة مطلقة وذلك ليس من حكم هذا النص فلهذا لا يثبت حكم الربا في القليل وفي المطعوم الذي لا يكون مكيلا أصلا قوله واتفق أصحابنا إلى آخره استثناء الثوب والغنم من الدراهم استثناء منقطع باتفاق من أصحابنا ويجعل إلا فيه بمعنى لكن لمناسبة بينهما من حيث الاستدراك لأن استخراج الثوب من الدراهم غير متصور حقيقة لأن الألف لا يتناول الثوب صورة وهو ظاهر ولا معنى لأن الثوب لا يناسب الدراهم في وصف خاص فجعل نفيا مبتدأ لا تعلق له بالدراهم كأنه قال إلا ثوبا فإنه ليس علي أو لكن الثوب ليس علي ونفيه أي نفي الثوب لا يؤثر في الألف أي في وجوبه لعدم تعلقه به كما في قولك جاءني القوم إلا حمارا لا يؤثر الاستثناء في القوم بوجه لعدم التعلق ألا ترى أنه لو صرح بالنفي بأن قال لكن ليس له علي ثوب لا يمنع ذلك عن وجوب جميع الألف عليه فاللفظ الذي لا يدل على النفي أولى أن لا يمنع لأن الدلالة دون الصريح وأما إذا استثنى المقدر وهو الذي له مقدر في العرف أو الشرع مثل المكيل أو الموزون والعدد المتقارب من خلاف جنسه أي من مقدر آخر من خلاف جنس المستثنى منه بأن قال لفلان علي ألف درهم إلا دينارا أو فلسا أو إلا كر حنطة فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه هو صحيح أي هذا الاستثناء صحيح وهو الاستحسان وقال محمد رحمه اللّه لا يصح وهو القياس والمراد بالصحة وعدمها كون الاستثناء مؤثرا في المستثنى منه بالمنع وعدم تأثيره فيه لا عدم صحة التلفظ به لغة كاستثناء الكل من الكل فإن التلفظ بالاستثناء المنقطع صحيح لغة بلا خلاف لما قلنا من الأصل وهو أن استخراجه لا يصح فجعل نفيا مبتدأ وبيانه أن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا وبيانه أن المستثنى لم يدخل تحت الجملة ولا يتصور ذلك إلا فيما يكون المستثنى داخلا تحت الجملة لولا الاستثناء وخلاف الجنس لا يدخل تحت الصدر فلا يتصور استخراجه وبيان أنه لم يكن داخلا (٣/٢٠٤) فيجعل الاستثناء منقطعا بمعنى لكن أي لكن الدينار أو كر الحنطة ليس علي فلا يؤثر نفيه في الألف كما في استثناء الثوب والشاة فهذا بيان وجه القياس وقوله فلم ينقص من النقص الذي هو معتدلا من النقصان أي لم ينقص هذا الاستثناء من الألف شيئا وأما وجه الاستحسان فهو أن المقدرات جنس واحد في المعنى باعتبار أنها تصلح ثمنا حتى لو اشترى عبدا بكر موصوف من الحنطة أو بكذا منا من الدهن أو بكذا من الجوز جاز البيع ويتعين الكر أو الدهن أو الجوز ثمنا وتجب أيضا في الذمة ما هو مال وما ليس بمال حالة ومؤجلة ويجوز استقراضها فصار الجنس واحدا من حيث الثبوت في الذمة ثبوتا صحيحا ولكن الصور مختلفة فإن الدينار غير الدراهم والكر غيرهما فلا يمكن أن يجعل استخراجا باعتبار الصورة وتكلما بالباقي باعتبار المعنى فيمتنع الوجوب بقدر الدينار أو الكر من الألف وقد قلنا إن الاستثناء تكلم بالباقي معنى لا صورة فإن صورة التكلم بالألف قد وجدت بلا شبهة ولكن من حيث المعنى صار كأنه قال علي تسعمائة في قوله علي ألف إلا مائة وإذا كان الاستثناء استخراجا وتكلما بالباقي معنى لا صورة صح استثناء الكر من الألف لأنه استخراج معنوي أيضا وإذا صح استثناؤه بقي المعنى أي معنى صدر الكلام وهو قوله علي ألف في القدر المستثنى وهو الكر تسمية الدراهم بلا معنى يعني صار كأنه تكلم بالدراهم من الألف بقدر مالية الكر من غير أن يكون لذلك المقدار من الدراهم معنى كما في الاستثناء من الجنس وذلك أي بقاء صدر الكلام تسمية بلا معنى في القدر المستثنى هو معنى حقيقة الاستثناء فإن في الاستثناء الحقيقي وهو قوله علي ألف إلا مائة بقي التكلم بالألف في حق المائة المستثناة تسمية من حيث الصورة لا من حيث المعنى فلذلك أي فلأن استثناء الكر من الدراهم مثل استثناء بعضها منها معنى بطل قدره أي قدر المستثنى من الأول وهو المستثنى منه بخلاف ما ليس بمقدر من الأموال مثل الثوب والشاة ونحوهما لأن المعنى أي معنى المستثنى والمستثنى منه مختلف (٣/٢٠٥) كاختلاف صورتهما فإن الثوب ليس من جنس الأول وجوبا فإنه لا يجب في الذمة إلا بطريق خاص وهو السلم فلا يصح استخراجه أي استخراج ما ليس بمقدر من الدراهم لانتفاء المجانسة صورة ومعنى وأما ما اعتبره الشافعي رحمه اللّه من معنى المالية لإثبات المجانسة فذلك معنى عام لا يجوز اعتباره إذ لو اعتبر مثله أدى إلى جواز استثناء كل شيء من كل شيء باعتبار معنى الوجود وذلك باطل فكذا هذا وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه الفرق في الأسرار بهذه العبارة وهي أنه إذا قال لفلان علي ألف درهم إلا درهما فعين الدرهم بمعناها مستخرجة عن الألف فصح الاستثناء حقيقة وإذا قال إلا دينارا أو قفيز حنطة صح الاستثناء عن صفة الوجوب للدراهم فإن الجملة قبل الاستثناء دراهم واجبة والمكيلات والموزونات في حق الوجوب في الذمة جنس واحد يجب في الذمة على الإطلاق من غير تقييد بسبب خاص بالإتلاف والالتزام والمداينات جميعا فسقط الوجوب من الدراهم بقدر ما استثنى منها من الحنطة فلا يمكن بيان القدر إلا بالمعنى فاعتبر به كما قاله الشافعي فأما إذا قال إلا ثوبا فالثياب ليست من جنس الدراهم عينا ولا وجوبا لأنها لا تجب في الذمة إلا سلما فلم يمكن أن يجعل استخراجا لا في حق عين الدراهم ولا وجوبها فبقي ما مضى على ما كان قبل الاستثناء وصار مجازا بمعنى ولكن ليس له ثوب علي قوله وعلى هذا الأصل وهو أن البيان المغير لا يصح إلا موصولا قلنا إذا قال لفلان علي أو قبلي ألف درهم وديعة فإنه يصدق إن وصل ولا يصدق إن فصل وعند الشافعي رحمه اللّه يصدق وإن فصل لأن الألف يحتمل الغصب والوديعة فكان بمنزلة المشترك أو المجمل فكان قوله وديعة بيان تفسير فيصح موصولا ومفصولا كما إذا قال هي زيوف وقلنا قوله وديعة بيان مغير لا مفسر لأن قوله علي ألف درهم حقيقة الإقرار بوجوب نفس الألف عليه ولكنه يحتمل الإقرار بوجوب الحفظ عليه مجازا بطريق حذف المضاف أي على حفظ ألف درهم أو بطريق إطلاق اسم المحل على الحال كقولك جرى النهر وسال الميزاب لأن الدراهم محل الحفظ الواجب بالعقد فكان قوله وديعة لبيان أن الواجب في ذمته حفظها وإمساكها إلى أن يؤديها إلى صاحبها لا أصل المال وتغييرا لما اقتضاه حقيقة الكلام من وجوب أصل المال ورجوعه عما أقر به (٣/٢٠٦) قوله وكذلك أي ومثل قوله لفلان علي ألف درهم وديعة في كونه مبنيا على البيان المغير قوله أسلمت إلي إلى آخره وقوله يصدق بشرط الوصل استحسانا يوهم أنه لا يصدق في القياس وإن وصل لأن قوله ولكني أو إلا أني لم أقبضها رجوع كما في قوله دفعت إلي إلا أني لم أقبض في قول أبي يوسف رحمه اللّه والرجوع لا يصح موصولا ومفصولا فيكون قوله استحسانا متعلقا بيصدق ولكنه ليس بمتعلق به بل هو متعلق بقوله بشرط الوصل يعني اشتراط الوصل للتصديق استحسان والقياس أن لا يشترط الوصل بل يصدق وصل أم فصل فإنه ذكر في المبسوط في هذه الألفاظ أن القول قوله إذا وصل لأن أول كلامه إقرار بالعقد وهو القرض والسلم الوديعة والعطية فكان قوله لم أقبضها بيانا لا رجوعا وإن قال ذلك مفصولا فالقول قوله أيضا في القياس لما بينا أنه إقرار بالعقد فكان هذا وقوله ابتعت من فلان بيعا سواء يوضحه أنه أقر بفعل الغير فإنه أضاف الفعل بهذه الألفاظ إلى المقر له فيكون القول قوله في إنكار القبض الموجب للضمان عليه وفي الاستحسان لا يقبل قوله لأن حقيقة هذه الألفاظ تقتضي تسليم المال إليه فإن القرض لا يكون إلا بالقبض وكذا السلف والسلف أخذ عاجل بآجل وكذا الإعطاء فعل لا يتم إلا بالقبض فكان كلامه إقرارا بالقبض على احتمال أن يكون هذه الألفاظ عبارات عن العقد مجازا فإن الإسلام كما يطلق على تسليم المال يطلق على عقد السلم يقال أسلم فلان إلى فلان عشرة في كذا ولم يسلم إليه رأس المال ويقال فلان أقرض فلانا عشرة دراهم ولم يدفع إليه يريدون به العقد وكذا الإيداع والإعطاء فكان قوله لم أقبض بيان تغيير فيصح موصولا لا مفصولا وإذا قال دفعت إلي عشرة دراهم أو نقدتني لكني أو إلا أني لم أقبض فكذلك الجواب عند محمد رحمه اللّه يعني يصدق فيه واصلا لا فاصلا لأن النقد والدفع والإعطاء سواء فيجوز أن يستعار النقد والدفع للعقد كالإعطاء إطلاقا لاسم المسبب على السبب ولأن الدفع إليه عبارة عن التسليم إليه والقبض شرط لنفاذ حكم التسليم وتمامه فصار قوله إلا أني لم أقبض استثناء لبعض ما تكلم به فيصح موصولا وقال أبو يوسف رحمه اللّه لا يصدق أصلا لأنهما أي النقد والدفع اسمان مختصان بالتسليم والفعل لأنهما لم يطلقا على غير الفعل أصلا وليس في الشرع عقد يسمى دفعا أو نقدا فلا يتناولان العقد حقيقة ولا مجازا فكان قوله إلا أني لم أقبض أو لكني لم أقبض رجوعا لا بيانا فلا يقبل موصولا ولا مفصولا فأما الإعطاء فهبة أي استعمل بمعنى الهبة يقال (٣/٢٠٧) عقد الهبة وعقد العطية ولو قال أعطيتك هذا يصير هبة فيصلح أن يستعار للعقد فكان قوله إلا أني لم أقبض فيه بيانا لا رجوعا وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه في الأسرار في تقرير هذه المسألة أن الدفع عبارة عن التسليم وقوله إلي عبارة عن الوصول فهما كلمتان تحت كل واحدة منهما ضرب إقرار فإذا استثني أحدهما بعينه لم يصح كما إذا قال لفلان علي درهم ودرهم إلا درهما وكذلك نقدتني عبارة عن فعل نقد يتعدى إليه كقولك ضربتني ولو قال ضربتك إلا أنه لم يصل إليك أو قذفتك إلا إني لم أضف إليك لم يكن استثناء بل إبطالا لأصل ما تكلم به لأن الباقي لا يبقى قذفا إياه لأن الفعل المتعدي لا يبقى بدون المتعدى إليه بخلاف الإعطاء لأنه عبارة عن عقد الهبة وكذلك الإسلام عبارة عن عقد السلم والعقد يتعدى إلى الآخر قبل القبض حتى إذا حلف لا يهب له فوهب ولم يسلم حنث وكذلك السلم وكذلك الإيداع عقد استحفاظ وأنه عقد معه قبل التسليم إليه ونظيره ما إذا قال بعتك عبدي بألف إلا أنك لم تقبله لم يصح لأن البيع لا يكون بيعا إلا بقبول ولو قال لامرأته طلقتك أمس على ألف فلم تقبلي كان القول قول الزوج لأنه يتم بغير قبول إنما القبول شرط النفاذ قوله وإذا أقر بالدراهم قرضا أو ثمن بيع احترز به عما إذا أقر بالدراهم غصبا أو وديعة وقال هي زيوف فإنه يصدق وصل أم فصل بلا خلاف لأنه ليس للغصب الوديعة موجب في الجياد دون الزيوف ولكن الغاصب يغصب ما يجد والمودع يودع غيره ما يحتاج إلى الحفظ فلم يكن في قوله هي زيوف تغيير أول كلام فيصح موصولا ومفصولا وعما إذا أطلق ولم يبين السبب فقال علي درهم زيف فإنه يصدق إذا وصل بالاتفاق عند بعض مشايخنا لأن صفة الجودة إنما تصير مستحقة بمقتضى عقد التجارة عند أبي حنيفة رحمه اللّه على ما تبين فإذا لم يصرح في كلامه بجهة التجارة لا تصير صفة الجودة مستحقة عليه فيحمل كلامه على جهة يصح ذلك منه فأما إذا بين جهة القرض أو البيع وقال هي زيوف فهو على الخلاف فنبين كل فصل على حدة فنقول إذا قال لفلان علي ألف درهم ثمن بيع إلا أنها زيوف يصدق عند أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه إن وصل ولا يصدق إن فصل لأن الزيوف من جنس الدراهم حتى حصل بها الاستيفاء في الصرف والسلم وكذا نقد بلدة أخرى سوى بلدتهما يكون زيف بلدهما فكان قوله إلا أنها زيوف وقوله إلا أنها نقد بلد كذا سواء فيكون بيانا من هذا الوجه (٣/٢٠٨) فينبغي أن يصح موصولا ومفصولا لأنه يشابه بيان المشترك ويصير كقوله له علي كر حنطة من ثمن بيع أو قرض ثم قال هو ردي يصدق وإن فصل إلا أن فيه تغييرا لما اقتضاه أول الكلام من حيث العادة لأن بياعات الناس تكون بالجياد دون الزيوف فكانت الدراهم للجياد بمنزلة الحقيقة العرفية وللزيوف بمنزلة المجاز فيصح التغيير إليها موصولا كقوله لفلان علي ألف درهم إلا أنها وزن خمسة وقال أبو حنيفة رحمه اللّه لم يصدق في دعوى الزيافة وصل أم فصل ويلزمه الجياد لأن الزيافة اسم لعيب وغش فيها ثبت بعارض صنعة والبيع موجبه سلامة البدل المستحق به عن العيب فيصير دعوى الزيافة من المشتري دعوى أمر عارض يخالف موجب العقد فلا تصح كما لو ادعى البائع أن المبيع معيب وقد كان المشتري عالما به لم يقبل قوله في ذلك إذا أنكره المشتري وهذا لأن دعواه العيب رجوع عما أقر به لأن إقراره بالعقد مطلقا التزام ما هو مقتضى مطلق العقد وهو السلامة عن العيب فبقوله كان معيبا يصير راجعا عن الإقرار لا يصح موصولا كان أم مفصولا وهذا بخلاف قوله إلا أنه نقد بلد كذا لأن تسمية النقد لا تكون دعوى عيب لأن النقد اسم للرايج بل يكون ذكر تنويع وما للبيع موجب في نوع بعينه من النقود بل يتعين نقد بلدهما عند الإطلاق بحكم العرف لا بموجب العقد فإذا عين نقدا آخر لم يعتبر العرف كما في ابتداء الشراء إذا أطلق يلزمه نقد البلد وإذا سمى نقدا آخر لزمه ما سمى فأما الزيافة فاسم لخلل في النقد أينما كان بخلاف قوله علي كر حنطة إلا أنه رديء لأن الرداءة في الحنطة ذكر نوع لا ذكر عيب كالهندي والحبشي والتركي في العبيد لأن الحنطة تخلق جيدة وردية ووسطا كما يخلق العبد ذميما وحسنا ووسطا والعيب ما يخلو عنه أصل الفطرة التي هي أساس في الأصل ألا ترى أنه لو قال بعتك هذه الحنطة وأشار إليها والمشتري كان رآها فوجد ردية ولم يكن علمها لم يكن له خيار الرد بالعيب ولو قال بعتك بهذه الدراهم وأشار إليها وهي زيوف استحق مثلها جيادا لا زيافة فيها ولو كانت النقود مختلفة وما أشار إليها نقد فوقه نقد آخر استحق مثلها من ذلك لا مما هو فوقه فعلم أن الزيافة عيب فكان بمنزلة ما لو قال بعتك هذه الجارية وهي معيبة فإن المشتري يستحقها غير معيبة وبخلاف قوله إلا أنها وزن خمسة لأنه استثناء لبعض القدر وما للبيع موجب في قدر فكان بمنزلة قوله إلا مائة كذا في الأسرار قال الشيخ أبو الفضل الكرماني رحمه اللّه فهما نظرا إلى العرف فوجدا الزيافة كثيرة الوجود عرفا واستعمالا وأبو (٣/٢٠٩) حنيفة رحمه اللّه نظر إلى الأصل فقال الأصل هو السلامة فلا يعرض عنه إلا إذا صار مهجورا من كل وجه فهذا أقرب إلى الحقيقة وما قالاه أقرب إلى الفقه باعتبار العرف وأما إذا قال له علي ألف درهم من قرض إلا أنها زيوف فهو على الخلاف أيضا في ظاهر الرواية لأن المستقرض مضمون بالمثل فكان هو وثمن البيع سواء والاستقراض متعامل بين الناس كالبيع وذلك في الجياد عادة وذكر في غير رواية الأصول عن أبي حنيفة رحمه اللّه أن هاهنا يصدق إذا وصل لأن المستقرض إنما يصير مضمونا على المستقرض بالقبض فهو بمنزلة الغصب ولو أقر بألف درهم غصب وقال هي زيوف كان القول قوله فكذلك هاهنا إلا أن هاهنا لا يصدق إذا فصل ما فيه من شبه البيع من حيث المعاملة بين الناس بخلاف الغصب كذا في المبسوط كدعوى الأجل في الدين بأن قال له علي ألف درهم مؤجل أو علي درهم من ثمن متاع باعنيه وأجلني إلى كذا يقبل قوله في الآجل إذا أنكره الطالب لأن الأصل في الدين الحلول والأجل إنما يثبت بعارض الشرط فكان ادعاء الأجل رجوعا لا بيانا ودعوى الخيار في البيع بأن أقر بدين من ثمن بيع على أنه فيه بالخيار ثلاثة أيام وكذبه صاحبه أو أقر البائع ببيع شيء على أنه بالخيار فيه ثلاثة أيام وكذبه المشتري لم يثبت الخيار لأن مقتضى مطلق البيع اللزوم والخيار يثبت بعارض فمن ادعى تغييره باشتراط الخيار لا يقبل قوله إلا بحجة وكان راجعا عما أقر به لا مبينا قوله وإذا قال لفلان علي ألف درهم هذه المسألة من المسائل المبنية على بيان التغيير عندهما وبيانها أنه إذا قال علي ألف درهم من ثمن جارية باعنيها إلا أني لم أقبضها لم يصدق عند أبي حنيفة رحمه اللّه إذا كذبه المقر له في قوله لم أقبضها سواء صدقه في الجهة بأن يقول نعم كان الألف عليه ثمن جارية ولكنه قد قبضها أو كذبه في الجهة بأن يقول ما بعتك جارية ولكن الألف الذي عليك من قرض أو غصب أو ادعى الألف مطلقا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه إن صدق المقر له المقر في الجهة بأن قال الألف من ثمن البيع صدق المقر في قوله لم أقبضها وصل أم فصل لأن قوله لفلان علي ألف درهم إقرار بوجوب المال عليه وقوله له من ثمن كذا بيان لسبب الوجوب فإذا صدقه المقر له في هذا السبب يثبت بتصادقهما ثم المال بهذا السبب يكون واجبا قبل القبض لأن الثمن يجب بنفس البيع ولا يسقط بغيبة الجارية بإباق ولا غيره وإنما يتأكد بالقبض فصار البائع مدعيا عليه تسليم المعقود عليه وهو منكر لذلك فجعلنا قول (٣/٢١٠) المنكر في إنكار القبض وإن كذب المقر له المقر في الجهة بأن قال الألف عليه من جهة أخرى سوى البيع صدق المقر في قوله لم أقبضها إذا وصل ولم يصدق إذا فصل لأن قوله لم أقبض تغيير لمقتضى مطلق الكلام لأن مقتضى الكلام الأول أن يكون مطالبا بالمال في الحال ولكن على احتمال أن لا يكون مطالبا به حتى تحضر الجارية فإن الإنسان قد يشتري جارية بألف فتأبق فيبقى الثمن عليه ولا يطالب به وقد يشتري جارية غائبة ببلدة أخرى فيصح ولا يؤمر بتسليم الثمن حتى تحضر الجارية وقد يكون الألف ثمنا وغير ثمن فكان قوله غير أنى لم أقبضها مغيرا للأصل فإنه يبطل المطالبة الواجبة بنفس العقد إلى أن تحضر الجارية وبيانا لمحتمل الكلام فإن كون المبيع غير مقبوض أحد محتملي البيع لا من العوارض كشرط الخيار والأجل فكان قوله لم أقبض بيانا مغيرا إلى هذا النوع من الاحتمال فيصحح موصولا لا مفصولا ولا يقال إن جارية لا يشار إليها هالكة وثمن الهالكة لا يكون عليه إلا بعد القبض فيصير إقرارا بالقبض لأنا نقول إن جارية لا يشار إليها آبقة فزيادة صفة الهلاك لا تثبت إلا بدلالة أخرى ولا دلالة هاهنا سوى أنها غير مشار إليها كذا في الأسرار فالحاصل أنهما جعلاه بيانا محضا إذا صدقه المقر له في الجهة لأن الاتفاق وقع على وجوبه بجهة ولا يجب تسليم الثمن إلا إذا كان المبيع مقبوضا ولم يوجد الإقرار بالقبض وإن كذبه في الجهة كان بيانا مغيرا على معنى أن الحكم لا بد له من سبب وقضية مطلق الإقرار تستدعي أن يكون مطالبا به وباعتبار بيان السبب هو غير مطالب فكان بيانا بمعنى التغيير كذا في إشارات الأسرار ولأبي حنيفة رحمه اللّه أن هذا أي قوله لم أقبضها رجوع عما أقر به وليس ببيان فلا يصح موصولا ولا مفصولا وبيانه أنه أقر بوجوب ثمن جارية بغير عينها عليه وثمن المبيع الذي لا يعرف أثره أي لا يكون معينا لا يكون واجبا إلا بعد القبض لأن ما لا يكون معينا فهو في حكم المستهلك إذ لا طريق إلى التوصل إليه فإنه ما من مبيع يحضره إلا وللمشتري أن يقول المبيع غير هذا وتسليم الثمن لا يجب إلا بإحضار المعقود عليه فعرفنا أنه في حكم المستهلك وثمن المبيع المستهلك لا يكون واجبا إلا بعد القبض فكأنه أقر بالقبض ثم رجع عنه يوضحه أنه أقر بالمال وادعى لنفسه أجلا لا إلى غاية معلومة وهو إحضار المبيع ولا طريق للبائع إلى ذلك ولو ادعى أجل شهر أو نحو ذلك لم يصدق وصل أم فصل وإذا ادعى أجلا مؤبدا أولى أن يكون مصدقا في ذلك كذا في المبسوط وذكر القاضي الإمام رحمه اللّه في الأسرار أن المطالبة بالثمن موجب العقد كنفس (٣/٢١١) الوجوب ولا تتأخر إلا بعارض يعترض على البيع أو يقارنه من تأجيل أو غيبة للمبيع كنفس الملك لا يتأخر إلا بعارض نحو شرط الخيار فيصير المقر ببيان ما يتأخر عنه المطالبة وهو قوله لم أقبضها مدعيا أمرا عارضا يرفع موجب العقد بعد ما لزمه موجبه بالإقرار بالبيع فلا يصدق كما لو ادعى الأجل في الثمن وإذا لم يصدق بقي مطالبا بالثمن ولا يجب المطالبة والجارية غائبة إلا بعد القبض صار مقرا بالقبض بخلاف ما إذا قال لفلان علي ألف درهم من ثمن هذه الجارية إلا أني لم أقبضها فإنه يصدق وصل أم فصل لأن هذا البيان لا يغير موجب العقد ولا يتأخر به عن المطالبة وإنما يتأخر بإنكار الآخر البيع وامتناعه عن التسليم إليه فأما لو صدقه على البيان فيطالب المشتري بتسليم الثمن أولا ثم قبض الجارية وهاهنا لو صدقه ما بقيت مطالبة على المشتري ما لم تحضر الجارية ولا يلزم ما إذا قال غصبت من فلان ألف درهم إلا أنها ستوقة فإنه يصدق إذا وصل لأن الغصب كما يرد على الدراهم الجيدة يرد على الدراهم الستوقة موجبة ضمان المغصوب فكان قوله إلا أنها ستوقة استثناء لبعض ما كان يلزمه بالإطلاق وهو الحقيقة فخرجت وبقي المجاز لا رجوعا عما أقر وكان بمنزلة قوله إلا مائة وكذلك قوله لفلان علي ألف درهم وديعة مصدق إذا وصل لأنه بين أنه أراد بقوله علي التزام الحفظ لا العين وكلمة علي كلمة تتناولهما جميعا بحكم شمول الكلمة لا بحكم الشرع فما للشرع حكم متعلق بكلمة علي في لزوم قدر بعينه وإنما اللزوم بحكم اللغة ومن حكم اللغة أن المستثنى لا يدخل تحت الجملة إنكارا على ما عليه اللغة فأما فيما نحن فيه فالسلامة عن العيب ووجوب المطالبة بالثمن حكم شرعي ثبت للبيع لا يتغير شرعا إلا بمعنى عارض وبدون العارض لا يتصور تغيره فلا يكون التغير بدعوى العارض إنكارا من الأصل بل يكون دعوى قوله والثابت بالدلالة مثل الثابت بالصريح يعني لما دل إقراره بوجوب الثمن بمقابلة جارية بكرة على القبض صار كأنه صرح بالإقرار بالقبض بأن قال علي ألف من ثمن جارية قبضتها فكان قوله بعد ذلك لم أقبضها رجوعا لا بيانا فيبطل فإن قيل إنما يعتبر الدلالة إذا لم يعارضها صريح بخلافها وهاهنا قد صرح بآخر كلامه أنه لم يقبض فلا يثبت بالدلالة شيء في مقابلته كالضرورة إذا حج بنية النفل يكون متنفلا لا مفترضا لسقوط الدلالة بمقابلة الصريح على ما مر بيانه قلنا إنما يبطل الدلالة بالصريح إذا كانا (٣/٢١٢) في زمان واحد ليتحقق التدافع فيترجح الصريح على الدلالة فأما إذا كانا في زمانين فلا تدافع فيثبت موجب كل واحد منهما كما إذا حج ضرورة بنية النفل ثم حج في سنة أخرى بمطلق النية يكون مفترضا في الثانية دلالة وهاهنا ثبت القبض بأول كلامه دلالة ولكن لا يمكن اعتبار الصريح لأنه ليس في وسعه إبطال ما ثبت بالإقرار كما لو صرح بالقبض ثم قال لم أقبض فيبطل الثاني ضرورة حتى لو كان في وسعه إبطال الأول ثبت موجب الصريح بأن منع من التقاط الثمار الساقطة تحت الأشجار ترتفع الإباحة الثابتة دلالة إذ في وسعه رفعها وإبطالها قوله وعلى هذا الأصل أي على الاستثناء بنيت مسألة إيداع الصبي وهو إضافة المصدر إلى أحد المفعولين وحذف الآخر أي إيداع الصبي شيئا والخلاف فيما إذا أودع مالا سوى العبد والأمة صبيا عاقلا محجورا عليه فاستهلكه لا يضمن عند أبي حنيفة ومحمد ويضمن عند أبي يوسف والشافعي رحمهم اللّه فإن هلك بغير صنعه لا ضمان عليه بالإجماع وإن قصر في الحفظ وإن كان مأذونا له في التجارة أو قبل الوديعة بإذن وليه فاستهلكها فهو ضامن بالإجماع وإن كان الوديعة عبدا أو أمة فقتله فالدية على عاقلته بالإجماع وإن كان الصبي غير عاقل فقد ذكر في بعض شروح الجامع الصغير أن الخلاف في العاقل وغير العاقل سواء فإن محمدا رحمه اللّه ذكر المسألة في الوديعة ولم يذكر وقد عقل وذكر القاضي الإمام فخر الدين وصدر الإسلام والإمام التمرتاشي في شروح الجامع الصغير والإمام الإسبيجابي رحمهم اللّه في المبسوط أن الخلاف فيما إذا كان عاقلا فإن لم يكن عاقلا فلا يضمن في قولهم جميعا وذكر الشيخ المصنف رحمه اللّه في شرح الجامع الصغير أن الخلاف في الصبي الذي يعقل فأما الذي لا يعقل فيجب أن يضمن بالإجماع لأن تسليطه هدر وفعله معتبر وجه قول أبي يوسف والشافعي رحمهما اللّه أن إيداعه من باب الاستثناء لأن إثبات يد الغير على المال وتسليطه عليه يتنوع نوعين قد يكون للاستحفاظ وقد يكون لغيره من الإباحة والتمليك والتوكيل ونحوها فإذا نص على الإيداع بقوله احفظه كان بيانا أنه أراد بالتسليط التمكين للحفظ لا غير وإن غير الاستحفاظ مستثنى مما تناوله مطلق التسليم لأن الاستثناء يبين أن مراد المتكلم ما وراء المستثنى وهاهنا بهذه المثابة فكان استثناء معنى وفي بعض النسخ كان مستثنيا أي كان المودع بقوله احفظ مستثنيا لغير الاستحفاظ مما تناوله مطلق التسليط (٣/٢١٣) والاستثناء من المتكلم تصرف منه على نفسه مقصور عليه غير متناول لحق الغير لأنه بيان المراد مما تكلم به وفي ولايته ذلك فلا يعتبر لصحته حال المخاطب أو ثبوت ولاية له عليه بل باستثنائه يخرج ما وراء الاستحفاظ من هذا التسليط ولا يثبت به إلا الاستحفاظ ثم لم يتعد إلى الصبي لعدم ولايته عليه فيسقط ويصير كالمعدوم أيضا وبعد ما عدم كلا النوعين الاستحفاظ لعدم الولاية وغير الاستحفاظ للاستثناء معنى صار كأن التسليط على المال لم يوجد أصلا وكأنه ألقاه على قارعة الطريق بالاستحفاظ من الصبي فإذا استهلكه كان بعد ضامنا لأنه ضمان فعل لا ضمان عقد فيستوي فيه الصبي والبالغ كما لو استهلكه قبل الإيداع وكما لو كانت الوديعة عبدا فقتله الصبي فإنه يضمن ولا يقال لما مكن الصبي من المال مع علمه أنه لا يحفظه ويتلفه كان تسليطا كما لو قرب الشحم إلى الهرة وقال لها لا تأكلي فإنه يكون تسليطا على الاستهلاك ويلغو نهيه لأنا نقول الاختلاف في صبي يعقل الحفظ لا في صبي لا يعقله ألا ترى أن هذا الصبي لو بلغ أو أجازه الولي صار مودعا ولو كان الخطاب مع من لا يعقل لكان يلغو ولا يصح بالبلوغ والإجازة وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما اللّه ليس هذا أي ليس هذا الإيداع من باب الاستثناء يعني قوله احفظ ليس باستثناء لغير الاستحفاظ لأن التسليط فعل يوجد من المسلط بنقل اليد إلى الغير لا قول فلا يصح استثناء ما وراء الاستحفاظ منه لأن الاستثناء يجري في الألفاظ لا في الأفعال ولا لفظ هاهنا يستثنى منه شيء على أن هذا الفعل وهو التسليط والدفع مطلق لا عام لأن العموم لا يجري في الأفعال فلا يصح تنويعه إلى نوعين وبناء الاستثناء عليه ولئن سلمنا أنه عام فلا يمكن جعل كلامه استثناء منه حقيقة لأن قوله احفظ كلام ليس من جنس الفعل ولا بد لحقيقة الاستثناء من المجانسة كذا قيل وللخصم أن يقول على هذا الحرف أنا لا أجعل قوله احفظ مستثنى من الفعل بل أجعل قوله احفظ دلالة على أنه استثناء غير الاستحفاظ من هذا الفعل معنى وليس في ذلك عدم مجانسة كما ترى فيصير ذلك في باب المعارضة أي يصير قوله احفظ معارضا لفعل التسليط يعني لو جعل احفظ استثناء لجعل استثناء منقطعا يعمل بطريق المعارضة فلا بد من تصحيحه شرعا لتعارضه أي من تصحيح قوله أودعتك هذا الشيء فاحفظه لتعارض ذلك الفعل لأن (٣/٢١٤) ما كان بطريق المعارضة يعتمد الصحة شرعا كدليل الخصوص إنما يكون معارضا إذا صح في نفسه شرعا ولم يوجد في حق الصبي لأن صحته بكون المخاطب من أهل الالتزام بالعقد وذلك في حق البالغ دون الصبي فيبقى التسليط مطلقا في حق الصبي والدليل عليه أن الصبي لو ضيع الوديعة لا يضمن بأن رأى إنسانا يأخذها أو دله على أخذها والبالغ يضمن بمثله فعرفنا أن المعارض صحيح في حق البالغ دون الصبي ويحتمل أن يكون الواو في قوله والفعل وقوله والمستثنى للحال أي التسليط فعل فلا يصح استثناء ما وراء الاستحفاظ منه حقيقة والحال أن هذا الفعل مطلق لا عام وأن المستثنى من خلاف جنس المستثنى منه ولما لم يمكن جعله استثناء حقيقيا لهذه الموانع يجعل استثناء منقطعا معارضا للمستثنى منه إن أمكن ولا يصح جعله معارضا أيضا لما ذكر فيبقى الفعل تسليطا مطلقا فلا يجب الضمان وصار هذا أي كون هذا الاستثناء معارضا مثل قول الشافعي في الاستثناء الحقيقي فإنه يجعله معارضا كما جعلنا الاستثناء المنقطع معارضا واحتج محمد رحمه اللّه في الأصل بأنه صبي وقد سلطه على الاستهلاك حين دفعه إليه قال شمس الأئمة رحمه اللّه وفي تفسير التسليط نوعان من الكلام أحدهما أنه تسليط باعتبار العادة فإن عادة الصبيان إتلاف المال لقلة نظرهم في عواقب الأمور فهو لما مكنه من ذلك مع علمه بحاله يصير كالآذن له بالإتلاف وبقوله احفظ لا يخرج من أن يكون آذنا لأنه إنما يخاطب بهذا من لا يحفظ فهو كمقدم الشعير بين يدي الحمار وقوله له لا تأكل بخلاف العبد والأمة لأنه ليس من عادة الصبيان القتل لأنهم يهابون القتل ويفرون منه فلا يكون إيداعه تسليطا على القتل باعتبار عادتهم وهذا بخلاف الدواب فإن من عادتهم إتلاف الدواب ركوبا فيثبت التسليط في الدابة بطريق العادة والأصح أن يقول معنى التسليط تحويل يده في المال إليه فإن المالك باعتبار يده كان متمكنا من استهلاكه فإذا حول يده إليه كان ممكنا له من استهلاكه بالغا كان المودع أو صبيا إلا أنه بقوله احفظ قصد أن يكون هذا التحويل مقصورا على الحفظ وهذا صحيح في حق البالغ باطل في حق الصبي لأنه التزام بالعقد والصبي ليس من أهله فيبقى التسليط على الاستهلاك بتحويل اليد إليه مطلقا فإن قيل هذا تسليط وتمكين حسي والمعتبر هو التمكين شرعا وذلك يكون بالملك ولم يوجد قلنا بالتمكين والتسليط حسا يحصل الرضاء بالإتلاف وذلك كاف ثم نقول المالك تمكن بيد حقيقة تفرعت على الملك وعين ما كان يتمكن به شرعا نقلت إلى المودع والنقل في الملك إن لم يوجد ففي اليد المتفرعة عن الملك قد وجد واليد تقبل (٣/٢١٥) الفصل عن الملك كملك الثمرة تقبل الفصل عن ملك الشجرة وإذا ثبت أن اليد التي كانت للمالك انتقلت إليه يتمكن منه شرعا بخلاف العبد والأمة فإن المالك باعتبار يده ما كان متمكنا من قبل الآدمي فتحويل اليد إليه لا يكون تسليطا على قتله ولأن الإيداع من المالك تصرف في ملكه والمملوك في حكم الدم مبقى على أصل الحرية فلا يتناوله الإيداع والتسليط ثبت باعتباره بخلاف ما لو قال اقتل عبدي فقتله فإنه لا يضمن لأن ذلك استعمال والاستعمال وراء التسليط فإن بعد الاستعمال إذا لحقه ضمان يرجع على المستعمل وبعد التسليط يسقط حق المسلط في التضمين لرضاه به ولا يثبت لأحد حق الرجوع عليه ولهذا قلنا في هذا الموضع إن الصبي المستهلك إذا ضمن للمستحق لا يرجع على المودع بخلاف ما لو قال له أتلفه فذاك استعمال للصبي بالأمر ألا ترى أنه لو كان عبدا صار عاصيا بالاستعمال بأمره وهذا تسليط له بمنزلة قوله أبحت لك أن تأكل هذا الطعام إن شئت ولو قال ذلك فأكله الصبي لم يضمن ولو جاء مستحق وضمنه لم يرجع على الذي قال له ذلك فهذا مثله كذا في المبسوط وغيره فإن قيل لو أودع رجلا مالا فأتلفه صبيه ضمن والإيداع عنده إيداع عند من يدخل في عياله قلنا لأن القبول من المودع قبول على نفسه وعلى من يدخل في عياله أيضا كما يكون من رب الوديعة إيداعا إياه ومن يدخل في عياله فيصير الصبي على هذا مودعا بإذن وليه فيصير في حكم البالغ قوله وعلى هذا الأصل وهو أن الاستثناء تكلم بالباقي أن البيع يقع على النصف أي نصف العبد بالألف وإنما دخل أي الاستثناء في المبيع وهو العبد لا في الثمن وهو الألف لأن الكناية تنصرف إلى ما هو المقصود في الكلام والمقصود هاهنا هو المبيع ولأنه ابتدأ في صدر كلامه بذكر المبيع والابتداء يقع بالأهم فكان هو المقصود فينصرف الضمير والاستثناء إليه لا إلى الألف والكلام المقيد بالاستثناء عبارة عما وراء المستثنى فصار كأنه قال بعت نصفه بألف درهم وقوله على أن لي نصفه شرط معارض يعني صدر الكلام يتناول جميع العبد (٣/٢١٦) وقوله على أن لي نصفه ليس باستثناء بل هو عامل بطريق المعارضة للأول وهو يصلح معارضا لأنه كلام مستبد بنفسه وموجبه على خلاف الأول كذا في بعض الشروح فيتبين بالمعارضة أنه جعل الإيجاب في نصفه للمخاطب وفي نصفه لنفسه وذلك صحيح منه إذا كان مفيدا وقد أفاد هاهنا تقسيم الثمن على المستثنى والمستثنى منه ولو لم يدخل النصف المشروط لنفسه في البيع لصار بيعا بالحصة ابتداء وأنه لا يجوز ولصار قبول العقد في غير المبيع شرطا لانعقاد العقد في المبيع وهو شرط فاسد فيفسد به البيع أيضا ولا يمكن التقسيم فعرفنا أن في الدخول فائدة فوجب القول به كما في مسألة شراء مال المضاربة من المضارب وذكر في بعض الشروح أن في قوله شرط معارض إشارة إلى أن كل الشروط ليست بمعارضة بل هي مانعة للعلة من العمل كما عرف ولكن هذا شرط معارض لأن عمل كلمة على يخالف عمل أن وقد بينا ذلك في مسألة التعليق بالشرط ألا ترى أنه لو قال بعتك إن كان لي نصفه لا يجوز العقد قوله وعلى هذا الأصل وهو أن الاستثناء بيان تغيير قلنا إذا وكل بالخصومة والمسألة على وجوه أحدها أن يوكله بالخصومة من غير تعرض لشيء آخر فيصير وكيلا بالإنكار بالإجماع وبالإقرار في مجلس عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللّه وفي غير مجلس الحكم أيضا عند أبي يوسف رحمه اللّه وقد مر بيانه في باب أحكام الحقيقة والمجاز والثاني أن يوكله بالخصومة غير جائز الإقرار عليه أو على أن لا يقر عليه بطل هذا الاستثناء عند أبي يوسف خلافا لمحمد رحمهما اللّه كذا ذكر الشيخ في شرح الجامع الصغير كما ذكر هاهنا وذكر في المبسوط أن الاستثناء يصح في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف رحمه اللّه أنه لا يصح لأن من أصله أن صحة الإقرار باعتبار أن الوكيل قام مقام (٣/٢١٧) الموكل فيملك ما كان الموكل مالكا له لا باعتبار أنه من الخصومة والموكل يملك الإقرار بنفسه في مجلس القضاء وفي غير مجلس القضاء فكذا الوكيل وإذا كان كذلك يصير الإقرار على الموكل ثابتا للوكيل حكما للوكالة لا مقصودا فلا يصح استثناؤه بقوله غير جائز الإقرار ولا إبطاله بالمعارضة بقوله على أن لا يقر علي لأن من شروط صحة الاستثناء ثبوت المستثنى مقصودا بصدر الكلام ليمكن جعل الكلام بعد الاستثناء تكلما بالباقي فإذا ثبت حكما وتبعا لا يصح استثناؤه كما لو وكله بالبيع على أن لا يقبض الوكيل الثمن أو لا يسلم المبيع كان الاستثناء باطلا وكذلك استثناء أطراف الحيوان في البيع لا يجوز لأنها تدخل في العقد تبعا لا مقصودا وقد نص في الهداية أن ما يجوز إيراد العقد عليه بانفراده يجوز استثناؤه وهذا لأن صحة الإقرار لما ثبت حكما للوكالة ما دامت الوكالة باقية كان حكمها باقيا لأن الشيء إذا بقي بقي بحكمه ولأن الاستثناء تصرف لفظي فيقتصر عمله على ما يتناوله اللفظ ولا يعمل فيما ثبت بطريق الحكم إلا بنقض الوكالة أي لا يملك إبطال إقراره عليه إلا بأن ينقض الوكالة بالعزل لأنه لما ثبت حكما للوكالة ينتقض بانتقاضها وقال محمد رحمه اللّه وهو ظاهر الرواية استثناؤه جائز وللخصم أن لا يقبل هذا الوكيل لأنه لما جاز استثناء الإقرار لا يمكنه الوصول إلى حقه إلا بإقامة البينة وربما لا يتمكن من ذلك فلا يفيده مخاصمته فكان له أن لا يقبل ولجواز الاستثناء وجهان أحدهما أن الخصومة تتناول الإقرار عملا بمجازها لأن الخصومة لما كانت مهجورة شرعا صار التوكيل بالخصومة توكيلا بالجواب مجازا لأن توكيله إنما يصح شرعا بما يملكه الموكل بنفسه والذي تيقن بأنه مملوك للموكل الجواب لا الإنكار فإنه إذا عرف المدعي محقا لا يملك الإنكار شرعا وتوكيله بما لا يملك لا يجوز شرعا فحملناه على هذا النوع من المجاز كالعبد المشترك بين اثنين يبيع أحدهما نصفه مطلقا ينصرف بيعه إلى نصيبه خاصة لتصحيح عقده وإذا صار توكيلا بالجواب يدخل فيه الإقرار والإنكار لأن الإقرار جواب تام كالإنكار ثم هذا المجاز انقلب حقيقة شرعية بدلالة الديانة فإنها تحمله على الجواب الواجب وتمنعه عن الإنكار عند معرفته المدعي محقا وصارت الحقيقة وهي الخصومة كالمجاز فلما استثنى الإقرار تبين أنه صرف الكلام من الحقيقة التي هي مطلق الجواب إلى المجاز وهو الإنكار والخصومة وقيد التوكيل به وتقييد الإطلاق تغيير له بلا شبهة فكان استثناء الإقرار بيانا مغيرا فيصح (٣/٢١٨) موصولا ويجب أن لا يصح مفصولا إلا أن يعزل الوكيل عن الوكالة فحينئذ يسقط الإقرار ببطلان الوكالة وقوله أصلا لدفع وهم من يتوهم أن الإقرار يسقط بعزله عن الإقرار وإن لم يسقط بالاستثناء منفصلا كمن وكل رجلا ببيع عبدين لا يصح استثناء أحدهما منفصلا ويصح عزله عن بيع أحدهما عينا فقال لا يسقط الإقرار هاهنا بعزله عنه كما لا يسقط بالاستثناء منفصلا لأن الإقرار ثبت له حكما للوكالة فما لم يعزله عن الوكالة لا يسقط الإقرار والوجه الثاني أن صحة إقرار الوكيل باعتبار ترك حقيقة اللفظ إلى نوع من المجاز إذ الإقرار مسالمة وليس بخصومة فهو بقوله غير جائز الإقرار تبين أن مراده حقيقته اللغوية وهي الخصومة لا مطلق الجواب الذي هو مجاز بمنزلة بيع أحد الشريكين نصف العبد شائعا من النصيبين لا ينصرف إلى نصيبه خاصة عند التنصيص عليه بخلاف ما إذا أطلق فلم يكن هذا استثناء حقيقة بل كان بيان تقرير فيصح موصولا ومفصولا والثالث أن يوكله بالخصومة غير جائز الإنكار عليه وقد اختلف فيه فقال بعضهم لا يصح استثناء الإنكار بالاتفاق لأنه يؤدي إلى تعطيل اللفظ فإن فيه إبطال حقيقته ومجازه فإن حقيقته المنازعة وهي تحصل بالإنكار ومجازه الجواب وهو يشمل الإقرار والإنكار فباستثناء الإنكار تعذر العمل بهما جميعا فيبطل وقال بعضهم هو على الخلاف أيضا وهو الأصح لأنه لما صار عبارة عن الجواب والجواب يشمل الإنكار والإقرار جميعا صح استثناء الإنكار كما يصح استثناء الإقرار وينبغي أن يشترط الوصل لأنه تقييد للإطلاق وهذا معنى قوله على الطريق الأول لمحمد ولا يستقيم تخريجه على الطريق الثاني لأنه ليس عملا بالحقيقة بوجه وذكر في المبسوط ولو استثنى الإنكار فقال غير جائز الإنكار علي صح عند محمد خلافا لأبي يوسف رحمهما اللّه لأن إنكار الوكيل قد يضر الموكل بأن كان المدعي وديعة أو بضاعة فأنكر الوكيل لم يسمع منه دعوى الرد والهلاك بعد صحة الإنكار ويسمع ذلك منه قبل الإنكار فإذا كان إنكاره قد يضر الموكل صح استثناؤه الإنكار كما يصح استثناؤه الإقرار والرابع أن يقول وكلتك بالخصومة غير جائز الإقرار والإنكار قالوا لا يصح هذا التوكيل أصلا وحكي عن القاضي الإمام صاعد النيسابوري أنه قال يصح (٣/٢١٩) ويصير الوكيل وكيلا بالسكوت في مجلس الحكم حتى يسمع عليه البينة والخامس أن يوكله بالخصومة جائز الإقرار عليه يصير وكيلا بالخصومة والإقرار جميعا عندنا خلافا للشافعي رحمه اللّه ثم التوكيل بالإقرار صحيح ولا يصير الموكل مقرا عندنا إليه أشار محمد في باب الوكالة بالصلح وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه اللّه أن معنى التوكيل بالإقرار هو أن يقول للوكيل وكلتك أن تخاصم وتذب علي فإذا رأيت مذمة تلحقني بالإنكار واستصوبت الإقرار فأقر علي فإني قد أجزت لك كذا في المغني واللّه أعلم (٣/٢٢٠) باب بيان الضرورة أي البيان الذي يقع بسبب الضرورة فكأنه أضاف الحكم إلى سببه بما لم يوضع له وهو السكوت نوع منه ما هو في حكم المنطوق أي النطق يدل على حكم المسكوت فكان بمنزلة المنطوق وقوله بدلالة حال المتكلم مجاز أي بدلالة حال الساكت المشاهد وكأنه لما جعل سكوته بمنزلة الكلام سمى نفسه متكلما ضرورة الدفع أي دفع الغرور كان بيانا بصدر الكلام لا بمحض السكوت يعني لم يحصل هذا البيان بمجرد السكوت عن نصيب الأب بل بدلالة صدر الكلام وهو قوله تعالى فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه يصير نصيب الأب كالمنصوص عليه عند ذكر نصيب الأم كأنه قيل فلأمه الثلث ولأبيه ما بقي قوله ونظير ذلك أي مثال هذا النوع من المسائل ما إذا بين رب المال نصيب المضارب من الربح ولم يبين نصيب نفسه بأن قال خذ هذا المال مضاربة على أن لك من الربح نصفه جاز العقد قياسا واستحسانا لأن المضارب هو الذي يستحق بالشرط وإنما الحاجة إلى بيان نصيبه خاصة وقد حصل ولو بين نصيب نفسه من الربح ولم يبين نصيب (٣/٢٢١) المضارب فقال خذ هذا المال مضاربة على أن لي نصف الربح ولم يسم للمضارب شيئا جاز العقد استحسانا وفي القياس لا يجوز لأنه لم يبين ما هو المحتاج إليه وهو نصيب المضارب من الربح وإنما ذكر ما لا يحتاج إليه وهو نصيب نفسه لأنه لا يستحق بالشرط وليس من ضرورة اشتراط النصف له اشتراط ما بقي للمضارب فإن ذلك مفهوم والمفهوم ليس بحجة للاستحقاق ومن الجائز أن يكون مراده اشتراط بعض الربح لعامل آخر يعمل معه بخلاف ما إذا بين نصيب المضارب خاصة لأنه ذكر ما يحتاج إلى ذكره وهو بيان نصيب من يستحق بالشرط ووجه الاستحسان أن عقد المضاربة عقد شركة في الربح والأصل في المال المشترك أنه إذا بين نصيب أحد الشريكين كان ذلك بيانا في حق الآخر أن له ما بقي كما بينا في قوله تعالى وورثه أبواه فلأمه الثلث فها هنا لما دفع المال إليه مضاربة كان ذلك تنصيصا على الشركة بينهما في الربح وهو معنى قوله بالشركة الثابتة بصدر الكلام فإذا قال على أن لي نصف الربح صار كأنه قال ولك ما بقي فصح العقد كما لو صرح بذلك وهذا عمل بالمنصوص لا بالمفهوم وهو المراد من قوله هو في حكم المنطوق قوله وعلى هذا حكم المزارعة أيضا يعني إذا لم يسم نصيب صاحب البذر وسمى نصيب العامل بأن قال على أن لك ثلث الخارج فهو جائز قياسا واستحسانا لأن من لا بذر من قبله إنما يستحق بالشرط فلا بد من بيان نصيبه ليثبت الاستحقاق له بالشرط فأما صاحب البذر فيستحق بملكه البذر فلا ينعدم استحقاقه بترك البيان في نصيبه وإن سمى نصيب صاحب البذر ولم يسم ما للآخر بأن قال على أن لي ثلثي الخارج وسكت عن نصيب المزارع ففي القياس لا يجوز لأنهم ذكروا ما لا حاجة إلى ذكره وتركوا ما يحتاج إليه لصحة العقد ومن لا بذر من قبله يستحق بالشروط فبدونه لا يستحق شيئا وفي الاستحسان الخارج مشترك بينهما والتنصيص على نصيب أحدهما يكون بيانا أن الباقي للآخر فكأن صاحب البذر قال على أن لي ثلثي الخارج ولك ثلثه كذا في المبسوط قوله وأما النوع الثاني وهو السكوت الذي يكون بيانا بدلالة حال المتكلم فمثل (٣/٢٢٢) سكوت صاحب الشرع عند أمر يعاينه من قول أو فعل عن التغيير يدل خبر مبتدإ محذوف أي هو يدل على الحقيقة مثل ما شاهد من بياعات ومعاملات كان الناس يتعاملونها فيما بينهم ومآكل ومشارب وملابس كانوا يستديمون مباشرتها فأقرهم عليها ولم ينكرها عليهم فدل أن جميعها مباح في الشرع إذ لا يجوز من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يقر الناس على منكر محظور فإن اللّه تعالى وصفه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله عز ذكره يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فكان سكوته بيانا أن ما أقرهم عليه داخل في المعروف خارج عن المنكر وذكر في في بعض نسخ أصول الفقه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا علم بفعل أو قول صدر عن مكلف وسكت عنه وقرره ولم ينكر عليه مع كونه قادرا على الإنكار فلا يخلو إما أن يكون من الأفعال والأقوال التي سبق من النبي عليه السلام النهي عنها وتحريمها ومن المباشر الإصرار عليها واعتقاد إباحتها أو لا يكون كذلك فإن كان الأول كسكوته عند رؤيته كافرا يمشي إلى كنيسة عن الإنكار فلا يدل على جواز ذلك الفعل ولا على كون النهي منسوخا بالاتفاق وإن كان الثاني فقد اختلف فيه قال قوم إن لم يسبقه تحريم فتقريره دل على الجواز ونفي الحرج وإن سبقه تحريم فتقريره يدل على النسخ وذهبت طائفة إلى أن تقريره لا يدل على الجواز والنسخ متمسكين بأن السكوت وعدم الإنكار محتمل إذ من الجائز أنه عليه السلام سكت لعلمه بأنه لم يبلغه التحريم فلم يكن الفعل عليه إذ ذاك حراما أو سكت لأنه أنكر عليه مرة فلم ينجح فيه الإنكار وعلم أن إنكاره ثانيا لا يفيد فلم يعاود وأقره على ما كان عليه وإذا كان كذلك لا يصلح دليلا على الجواز والنسخ وحجة الفريق الأول أن سكوته عليه السلام لو لم يدل على الجواز إن لم يسبق تحريم وعلى النسخ إن سبق لزم ارتكاب محرم وهو باطل وذلك لأن الفعل أو القول الصادر لو لم يكن جائزا لكان التقرير عليه والسكوت عن الإنكار مع القدرة عليه حراما في حق غير النبي فكيف في حقه مع قوله عليه السلام الساكت عن الحق شيطان أخرس وفيه أيضا تأخير البيان عن وقت الحاجة لأن السكوت عن الباطل يوهم الجواز أو النسخ وأنه غير جائز بالإجماع إلا عند من يجوز تكليف المحال وقولهم يحتمل أنه لم يبلغه التحريم فاسد لأن عدم بلوغ التحريم إليه غير مانع من الإنكار والإعلام بأن تلك الفعل أو القول حرام بل الإعلام بالتحريم واجب حتى لا يعود إليه ثانيا وإلا كان السكوت موهما عدم التحريم أو النسخ وكذا إذا بلغه التحريم ولم ينزجر بالإنكار مرة مع كونه مسلما (٣/٢٢٣) متبعا للنبي عليه السلام يجب تجديد الإنكار دفعا للتوهم المذكور وهذا بخلاف اختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم لأنهم غير متبعين له ولا معتقدين تحريم ذلك فلا يتوهم نسخ ذلك بسكوت النبي عليه السلام عن الإنكار عليهم قوله ويدل في موضع الحاجة إلى كذا لا يخلو عن اشتباه لأن ضمير يدل إن رجع إلى ما رجع إليه ضمير يدل الأول لانعطافه عليه بواسطة الواو على معنى أن سكوت النبي عليه السلام يدل على الحقيقة وعلى البيان في موضع الحاجة إليه لا يطابقه المثال المذكور وهو سكوت الصحابة وإن جعل ضميره لمطلق السكوت كما هو مراد المصنف يأباه العطف إذ لا بد في العطف من تقدير ما قدر في المعطوف عليه في المعطوف ولو قرئ مثل بالنصب على معنى أن سكوت النبي عليه السلام يدل على كذا مثل دلالة سكوت الصحابة عليه لا يستقيم أيضا لأن فيه اعتبار سكوت النبي عليه السلام بسكوتهم وهو قلب الأصل ولو جعل مثل معطوفا على مثل الأول بغير واو وهو جائز عند بعض النحاة على ما هو المذكور في التيسير وقد بينا ذلك في أول الكتاب لاستقام وصار موافقا لعبارة شمس الأئمة رحمه اللّه حيث قال وأما النوع الثاني فنحو سكوت صاحب الشرع إلى أن قال وكذلك سكوت الصحابة المغرور من يطأ امرأة معتمدا على ملك يمين أو نكاح على ظن أنها حرة فتلد منه ثم تستحق وولده هذا حر بالقيمة فإن يزيد بن عبد اللّه بن فسيط قال أبقت أمة فأتت بعض القبائل فانتمت إلى بعض قبائل العرب وتزوجها رجل من بني عذرة فنثرت وأبطنها ثم جاء مولاها فرفع ذلك إلى عمر رضي اللّه عنه فقضى بها لمولاها وقضى على أبي الأولاد أن يفدي أولاده الغلام بالغلام والجارية بالجارية أي الغلام بقيمة الغلام والجارية بقيمة الجارية فإن الحيوان ليس بمضمون بالمثل في الشرع وهكذا روي عن علي رضي اللّه عنه في فضل الشراء وكان ذلك بمحضر عامة الصحابة رضي اللّه عنهم فكان بمنزلة الإجماع منهم ثم إنهم حكموا برد الجارية على مولاها وبكون الولد حرا بالقيمة وبوجوب العقر وسكتوا عن بيان قيمة منفعة بدل ولد المغرور ووجوبها للمستحق على المغرور فيكون سكوتهم دليلا على أن المنافع لا تضمن بالإتلاف المجرد عن العقد وعن شبهة العقد بدلالة حالهم لأن المستحق جاء طالبا حكم الحادثة وهو جاهل بما هو واجب له وكانت هذه الحادثة أولى حادثة وقعت بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما لم يسمعوا فيه نصا فكان يجب عليهم البيان بصفة الكمال والسكوت بعد وجوب البيان دليل النفي كذا قال شمس الأئمة رحمه اللّه وما أشبه ذلك أي وما أشبه تقويم منفعة بدون الولد من تقويم منافع الجارية المستحقة وخدمتها وإكسائها فإنهم لما سكتوا عن بيان حكمها (٣/٢٢٤) مع الحاجة إليه كان بيانا أنها ليست بمتقومة أو ما أشبه ذلك من سكوتهم في تقدير الحيض عما فوق العشرة مع أنه موضع الحاجة إلى البيان توجب ذلك أي توجب كونه بيانا وهو الحياء الضمير راجع إلى الحال وتذكيره باعتبار تذكير الخبر أي تلك الحال هي الحياء على ما أشارت إليه عائشة رضي اللّه عنها في قولها إن البكر لتستحيي يا رسول اللّه فجعل سكوتها دليلا على جواب يحول الحياء بينها وبين التكلم به وهو الإجازة التي يكون فيها إظهار الرغبة في الرجال وكذلك النكول أي ومثل سكوت البكر وهو امتناع المدعى عليه عن الحلف بعد توجه اليمين عليه من نكل القرن إذا تأخر عن محاربة صاحبه جعل بيانا أي إقرارا بوجوب المدعى به عليه عند أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه لحال في الناكل وهو أي تلك الحال امتناعه عن أداء ما لزمه مع القدرة عليه وهو اليمين فإنها قد لزمته بقوله عليه السلام واليمين على من أنكر فلا يكون امتناعه عن أدائها بعد الوجوب مع القدرة عليه إلا للاحتراز عن الوقوع في أمر أعظم منه وهو اليمين الكاذبة إذ المسلم لا يمتنع عن أداء الواجب إلا لأمر أعظم منه على ما يدل عليه حاله فيكون إقرارا بهذه الدلالة إلا أن أبا حنيفة رحمه اللّه لم يجعله إقرارا لأن الامتناع كما يدل على الاحتراز عن اليمين الكاذبة يدل على الاحتراز عن نفس اليمين والفداء عنها اقتداء بالصحابة وعملا بظاهر قوله تعالى ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم وإنما وجبت عليه اليمين لمعنى في غيرها وهو رعاية حق المدعي لا لذاتها ويحصل ذلك المعنى ببدل ما ادعى له فيحمل امتناعه عن اليمين على اختيار البذل والفداء لا الإقرار والامتناع عن أداء الواجب إذ الوجوب منتف على تقدير البذل احترازا عن نسبته إلى الكذب كان نفيا للباقين لحال فيه يعني كان تخصيصه الأكبر وسكوته عن دعوة الآخرين نفيا للباقين بدلالة حال فيه وهي أن الإقرار بنسب ولد هو منه واجب وأن نفي نسب ولد ليس منه عن نفسه واجب أيضا فإذا سكت عن بيان نسب الآخرين بعدما وجب عليه الإقرار بثبوته لو كانا منه كان دليل النفي لأنه موضع الحاجة إلى البيان فيجعل ذلك كالتصريح بالنفي ولا يقال إن الجارية صارت أم ولد بدعوة الأكبر فينبغي أن يثبت نسب الآخرين بالسكوت لأنهما ولدا أم ولد لأنا نقول إنما يثبت نسب ولد أم الولد بالسكوت إذا لم يقارنه نفي وهاهنا قد دل السكوت على النفي بدلالة حاله كما ذكرنا فلا يثبت به النسب (٣/٢٢٥) قوله وأما الثالث وهو السكوت الذي جعل بيانا ضرورة دفع الغرور فمثل المولى إذا رأى عبده يبيع ويشتري فسكت عن النهي كان سكوته إذنا له في التجارة عندنا وقال الشافعي رحمه اللّه لا يكون إذنا لأن سكوته عن النهي محتمل قد يكون للرضاء بتصرفه وقد يكون لفرط الغيظ وقلة الالتفات إلى تصرفه لعلمه أنه محجور عن ذلك شرعا والمحتمل لا يكون حجة كمن رأى إنسانا يبيع ماله فسكت ولم ينهه لا ينفذ ذلك التصرف بسكوته والدليل عليه أن هذا التصرف الذي يباشره لا ينفذ بسكوت المولى فإنه إذا رآه يبيع شيئا من ملكه لا ينفذ هذا التصرف فكيف يصير مأذونا في سائر التصرفات فالحاجة إلى رضاه مسقط لحق المولى عن مالية رقبته وذلك لا يحصل بالسكوت كمن رأى آخر يتلف ماله فسكت لا يسقط الضمان بسكوته وهذا بخلاف سكوت البكر فإن ذلك محتمل ولكن قام الدليل الموجب لترجيح الرضاء فيه وهو أن لها عند تزويج المولى كلامين لا ونعم والحياء يحول بينها وبين نعم لما بينا ولا يحول بينها وبين لا فكان سكوتها دليلا على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك ولا يوجد مثل لا لك ها هنا فلا يترجح جانب الرضاء وكذلك سكوت الشفيع عن الطلب فإنه لا حق للشفيع قبل الطلب وإنما له أن يثبت حقه بالطلب فإذا لم يطلب لم يثبت حقه وهاهنا حق المولى في مالية الرقبة ثابت وإنما الحاجة إلى الرضاء المسقط لحقه ونحن نقول لو لم يكن سكوت المولى عن النهي إذنا له بالتجارة أدى إلى الضرر والغرور ودفعهما واجب لقوله عليه السلام لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وقوله عليه السلام من غشنا فليس منا وذلك لأن الناس يعاملون العبد ولا يمتنعون منها عند حضور المولى إذا كان ساكتا فإذا لحقه ديون ثم قال المولى كان عبدي محجورا عليه بتأخر الديون إلى وقت عتقه ولا يدري متى يعتق وهل يعتق أو لا يعتق فيكون آتوا حقوقهم ويلحقهم فيه من الضرر ما لا يخفى ويصير المولى غارا لهم فلدفع الضرر والغرور جعلنا سكوته بمنزلة الإذن له في التجارة والسكوت محتمل كما قال ولكن دليل العرف يرجح جانب الرضاء فالعادة أن من لا يرضى بتصرف عبده يظهر النهي إذا رآه يتصرف ويؤدبه على ذلك وربما يستحق عليه ذلك شرعا لدفع الضرر والغرور فبهذا الدليل رجحنا جانب الرضا لدفع الضرر عن المشتري والدليل عليه أنه بعدما أذن له في أهل سوقه لو حجر عليه في بيته لم يصح حجره لدفع الضرر والغرور (٣/٢٢٦) فلما سقط اعتبار حجره نصا لدفع الضرر فلأن يسقط احتمال عدم الرضاء من سكوته لدفع الضرر عن الناس كان أولى وقوله هذا التصرف بسكوت المولى لا ينفذ قلنا لأن في هذا التصرف إزالة ملك المولى عما يبيعه وفي إزالة ملكه ضرر متحقق للحال فلا يثبت بسكوته وليس في ثبوت الإذن ضرر متحقق على المولى في الحال فقد يلحقه الدين وقد لا يلحقه ولو لم يثبت الإذن به لتضرر الناس الذي يعاملونه وكذا لا يثبت الرضاء بالسكوت إذا رأى إنسانا يتلف ماله لأن الضرر متحقق في الحال وسكوته لا يكون دليل التزام الضرر حقيقة قوله وكذلك سكوت الشفيع جعل ردا لهذا المعنى أي ومثل سكوت المولى سكوت الشفيع عن طلب الشفعة بعد العلم بالبيع جعل ردا للشفعة لهذا المعنى وهو دفع الغرور عن المشتري فإنه يحتاج إلى التصرف في المشترى فإذا لم يجعل سكوت الشفيع عن طلب الشفعة إسقاطا لها فإما أن يمتنع المشتري من التصرف أو ينقض الشفيع عليه تصرفه فلدفع الضرر والغرور جعلنا ذلك كالتنصيص منه على إسقاط الشفعة وإن كان السكوت في أصله غير موضوع للبيان بل هو ضده كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه ولأن الشفعة شرعت لدفع ضرر الدخيل عن نفسه فإذا سكت فقد رضي بالتزام الضرر على نفسه قوله وأما النوع الرابع وهو السكوت الذي جعل بيانا لضرورة الكلام فكذا والخلاف ليس في هذا الأصل فإن الشافعي رحمه اللّه يوافقنا في أن السكوت يجعل بيانا لصيرورة الكلام كما في عطف الجملة الناقصة على الكاملة وكما في عطف العدد المفسر على المبهم إنما الخلاف في هذه المسألة فعندنا هي مبنية على هذا الأصل وعنده ليست بمبنية عليه وجه قول الشافعي رحمه اللّه وهو القياس أنه أبهم الإقرار بالمائة وقوله ودرهم ليس بتفسير له لأنه عطف عليه بحرف الواو والعطف لم يوضع للتفسير لغة ألا ترى أن من شرط صحة العطف المغايرة حتى لم يجز عطف الشيء على نفسه ومن شرط صحة التفسير أن يكون عين المفسر فإن الدراهم في قوله عشرة دراهم عين العشرة لا غيرها فكيف يصلح العطف مفسرا يوضحه أن المعطوف وهو الدرهم واجب عليه مثل المعطوف عليه وهو المائة ولو كان تفسيرا لها لم يجب به شيء كما لو قال مائة درهم لأن الوجوب بالمفسر لا بالتفسير وإذا لم يصلح العطف مفسرا بقيت المائة مجملة (٣/٢٢٧) فيكون القول بالمفسر لا بالتفسير وإذا لم يصلح العطف مفسرا بقيت المائة مجملة فيكون القول قوله في بيانها كما في قوله مائة وثوب ومائة وشاة ومائة وعبد بخلاف قوله على مائة وثلاثة دراهم لأنه عطف أحد العددين المبهمين على الآخر ثم فسره بالدراهم فينصرف التفسير إليهما لحاجة كل واحد منهما إلى التفسير كما لو قال مائة وثلاثة أثواب ألا ترى أنه لا يلزمه بقوله دراهم زيادة على المذكور ويلزمه بقوله ودرهم زيادة على المائة لما قلنا وجه قولنا وهو الاستحسان أن هذا أي قوله ودرهم أو دينار جعل بيانا عادة ودلالة أي عرفا واستدلالا وقيل العادة يستعمل في الأفعال والعرف يستعمل في الأقوال كما في قوله لا أضع قدمي أما العادة فلأن حذف المعطوف عليه أي حذف تفسير المعطوف عليه وتمييزه في العدد متعارف إذا كان في المعطوف دليل عليه بأن كان مفسرا بقول الرجل بعت هذا منك بمائة وعشرة دراهم وبمائة وعشرين درهما أي بمائة درهم وعشرة دراهم وبمائة درهم وعشرين درهما وفائدة إيراد النظيرين جواز حذف مميز المائة سواء كان مميز المعطوف بلفظ الفرد أو بلفظ الجمع وبمائة ودرهم ودرهمين على السواء يعني كما يقال بمائة وعشرة دراهم وبمائة وعشرين درهما ويراد بالجميع الدراهم يقال أيضا بمائة ودرهم وبمائة ودرهمين ويراد بالكل الدراهم من غير فرق فلما صلح عطف الدرهم على المائة في البيع مفسرا لها باعتبار العرف كما صلح عطف العدد المفسر لذلك يصلح عطفه عليها مفسرا لها في الإقرار أيضا كما صلح عطف العدد المفسر لذلك وليس كذلك أي كعطف الدراهم على المائة عطف ما ليس بمقدر مثل الثوب والشاة عليها فإن عطفه ليس بمفسر لها لأن ما ليس بمقدر لا يثبت دينا في الذمة مثل ثبوت ما هو مقدر يعني الموجب للحذف كثرة الاستعمال التي هي من أسباب التخفيف وهي إنما تتحقق في المقدر الذي يثبت دينا في الذمة حالا ومؤجلا لأنه لما ثبت دينا في الذمة كثر العقود والمبايعات به فأما غير المقدر فلم يوجد فيه كثرة الاستعمال لأنه لما لم يجب دينا في الذمة إلا في عقد خاص وهو السلم أو فيما هو في معناه وهو البيع بالثياب الموصوفة مؤجلا لم يقع العقود والمعاملات به وبكثرة الوجوب في الذمة في المعاملات (٣/٢٢٨) جاز الحذف وصار العطف مفسرا فإذا لم يوجد بقيت المائة مجملة فيرجع في تفسيرها إليه وحاصله أن جواز الحذف ودلالة المعطوف عليه بكثرة الاستعمال وهي توجد في المقدر دون غيره وأما الدلالة فلأن المعطوف مع المعطوف عليه بمنزلة شيء واحد كالمضاف مع المضاف إليه بدليل اتحادهما في الإعراب واشتراكهما في الخبر والشرط إذا كان المعطوف ناقصا حقيقة أو تقديرا على ما مر بيانه ولهذا لم يحل الذبيحة إذا قيل بسم اللّه ومحمد رسول اللّه بالجر لحصول الاشتراك في التسمية وكذا العطف يقتضي المجانسة حتى لم يجز عطف الاسم على الفعل وكذا عكسه ثم المضاف إليه يعرف المضاف حتى صار الدار والعبد في قولك دار فلان وعبد فلان معرفا بالمضاف إليه فكذا المعطوف إذا صلح للتعريف يعرف المعطوف عليه أي يرفع إبهامه باعتبار أنهما كشيء واحد وقوله فإذا صلح العطف أي المعطوف للتعريف صح الحذف في المضاف إليه معناه صح حذف المضاف إليه في المعطوف عليه بدلالة العطف فإن المحذوف في قوله علي مائة ودرهم والدرهم المضاف إليه أي على مائة درهم ودرهم والعطف أي المعطوف إذا كان من المقدرات صلح للتعريف يعني صلاحية المعطوف لتعريف المعطوف عليه وتفسيره ودلالته على المحذوف إنما يثبت إذا كان المعطوف من المقدرات التي تثبت ديونا في الذمة على الإطلاق ليطابق قوله علي مائة فإن موجبه اللزوم في الذمة على الإطلاق فأما إذا لم يكن مقدرا مثل الثوب فإنه لا يثبت دينا في الذمة إلا في السلم والفرس مائة لا يثبت دينا في المبايعات أصلا فلا يصلح دليلا على المحذوف وتفسيرا للمائة لأن قوله علي مائة عبارة عما يثبت في الذمة مطلقا ثبوتا صحيحا ليس وما ليس بمقدر كذلك فلهذا لا يصير المعطوف عليه مفسرا بالمعطوف وتبين بما ذكرنا أنا لم نجعل المعطوف تفسيرا للمائة حقيقة بل جعلناه دليلا على المحذوف الذي هو تفسير وتمييز للمائة فلا يلزم علينا ما ذكر الخصم أن من شرط التفسير أن يكون عين المفسر والمعطوف ليس كذلك وذكر في الأسرار في تقرير هذه المسألة أن الأصل في العطف هو الشركة بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر كقولك جاء زيد وعمرو وهذه طالق وهذه والتفسير للمجمل (٣/٢٢٩) يجري مجرى الخبر على الابتداء لتوقف فهم المقصود عليه توقفه على الخبر فيقتضي صحة العطف الشركة بين المعطوف والمعطوف عليه فيما هو تفسير كما يقتضي الشركة فيما هو خبر كما لو أخر التفسير عن العددين جميعا فإنه إذا أخره أو جعل العدد بنفسه مفسرا سواء في أنه يصير عددا مفسرا فأما إذا قال لفلان علي مائة وثوب فقوله وثوب ليس بمفسر لأن الثياب مختلفة القدر والجنس كقوله مائة إلا أنه أقل جهالة فلم يلتحق بما وضع تفسيرا أو خبرا عن الجملة بل كان هذا إلى القياس أقرب والمسألة الأولى إلى التفسير المصرح به أقرب فاستحسن الرد إلى التفسير فيها لأن الجملتين أضيفتا إلى الدراهم فإن قوله علي مائة جملة ظرفية وقوله وثلاثة جملة أخرى ظرفية ناقصة عطفت على الأولى وقد أضيفتا جميعا إلى الدراهم فصار لفظ الدراهم بيانا لهما لكونهما مفتقرين إلى البيان قوله وقد قال أبو يوسف روى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما اللّه في قوله لفلان علي مائة وثوب أو مائة وشاة أنه يجعل بيانا للمائة فيكون الكل من الثياب والشياه والقول في بيان جنسها قول المقر لأنا إنما جعلنا المعطوف تفسيرا للمعطوف عليه باعتبار الاتحاد كما ذكرنا فكل جملة أي كل مال مجتمع يحتمل القسمة أي قسمة الجمع وهي أن يقسم الجميع قسمة واحدة بطريق الخبر ولا يحتاج إلى قسمة أخرى فهي محتملة للاتحاد لأن قسمة القاضي جبرا لا تقع إلا فيما هو متحد الجنس والثوب والشاة من هذا القبيل كالمكيل والموزون فيمكن أن يجعل المفسر منه تفسيرا للمبهم بدلالة العطف الموجب للاتحاد كالدرهم والدينار فلذلك أي فلاحتمال الاتحاد جعل قوله وثوب أو شاة بيانا للمائة بخلاف قوله مائة وعبد فإنه مما لا يحتمل القسمة مطلقا فلا يتحقق فيه معنى الاتحاد بسبب العطف فلا يصير المجمل بالمعطوف فيه مفسرا كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه في أصول الفقه والمبسوط (٣/٢٣٠) وهذا الفرق مشكل فإن عنده يقسم الرقيق قسمة جمع وهي أن يقسم الجميع واحدة بطريق الجبر ولا يحتاج إلى قسمة أخرى كالثياب والغنم فينبغي أن يساوي العبد الثوب في صيرورته بيانا للمائة بالعطف وأجيب بأن قولهما في الرقيق أنها تحتمل القسمة مؤول بما إذا اتفق رأي المتقاسمين على القسمة فيقسم القاضي بناء عليه ولا يكون هذا قسمة حقيقة بل يكون تبعا كذا ذكر في بعض الشروح منقولا عن شرح الجامع الصغير الحسامي ولكنه مخالف للروايات الظاهرة في المبسوط والهداية وغيرهما إذ المذكور فيها أن الرقيق إذا كانوا جنسا واحدا تقسم قسمة جمع عندهما بطلب بعض الشركاء وإن أبى البعض وأجيب أيضا بأن على هذه الرواية يحتمل أن يكون أبو يوسف موافقا لأبي حنيفة رحمهما اللّه في أن الرقيق لا يقسم قسمة جمع ويحتمل أنه أراد أن الثوب والغنم يقسمان قسمة جمع بالاتفاق فيتحقق فيهما الاتحاد والرقيق لا يقسم هذه القسمة بالاتفاق بل هي على الخلاف فلا يثبت بمثلها الاتحاد واللّه أعلم (٣/٢٣١) باب بيان التبديل وهو النسخ تكلم الأصوليون في معنى النسخ لغة فقيل معناه الإزالة يقال نسخت الشمس الظل أي أزالته ورفعته ونسخ الريح الآثار إذا محتها ونسخ الشيب الشباب أي أعدمه وإليه أشار الشيخ في الكتاب بقوله ومعنى التبديل أن يزول شيء فيخلفه غيره إلى آخره وقيل معناه النقل وهو تحويل الشيء من مكان إلى مكان أو حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه يقال نسخت النحل العسل إذا نقلته من خلية إلى أخرى ومنه تناسخ المواريث لانتقالها من قوم إلى قوم ومنه نسخت الكتاب لما فيه من مشابهة النقل بتحصيل مثل ما في أحد الكتابين في الآخر ثم قيل هي مشترك بين المعنيين لأنه أطلق عليهما والأصل في الإطلاق هو الحقيقة وقيل هو حقيقة في الإزالة مجاز في الآخر لأنه لم يستعمل إلا في المعنيين وليس حقيقة في النقل لأن في قوله نسخت الكتاب لم يوجد النقل حقيقة فتعين كونه حقيقة في الآخر تفاديا عن كثرة المجاز وقيل على العكس لأن قوله نسخت الكتاب إن كان حقيقة فهو المطلوب وإن كان مجازا فلا يكون مستعارا من الإزالة لأنه غير مزال ولا مشابه فتعين أن يكون مستعارا من النقل لمشابهته إياه وإذا كان مستعارا منه كان النقل حقيقة فكان مجازا في الآخر دفعا للاشتراك والأولى في الشرع أن يكون بمعنى الإزالة لأن نقل الحكم الذي هو منسوخ إلى ناسخه لا يتصور وأما الإزالة وهي الإبطال والإعدام فمتصور وذكر في الميزان أنه اسم عرفي عند بعضهم فإن ما هو معناه وهو الرفع والإزالة لا يتحقق في النسخ الشرعي فكان الاستعمال عرفا فيكون الاسم منقولا كاسم الصلاة للأفعال المعهودة لما لم يكن فيها (٣/٢٣٢) معنى الاسم اللغوي يكون اسما منقولا لا اسما شرعيا فكذا هذا وقال بعضهم هو اسم شرعي لأن فيه معنى لغويا وهو الإزالة من وجه على ما يذكر واختلفوا في معناه شريعة أيضا أي في حده فقيل هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه وإنما اختير لفظ الخطاب دون النص ليشمل اللفظ والفحوى وغير ذلك مما يجوز النسخ به وفيه احتراز عن الموت ونحوه من الأعذار الدالة على ارتفاع الأحكام الزائلة بها مع تراخيها عنها وكونها بحيث لولاها لكانت الأحكام الزائلة بها مستمرة وقيد بالخطاب المتقدم احترازا عن الخطاب الدال على ارتفاع الأحكام العقلية الثابتة قبل ورود الشرع فإن ابتداء إيجاب العبادات في الشرع يزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا لأنه لم يزل حكم خطاب وقيد بقوله على وجه لولاه لكان ثابتا احترازا عما إذا ورد الخطاب بحكم موقت نحو قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل وبعد انتهاء ذلك الوقت ورد الخطاب بحكم مناقض للأول كما لو ورد عند غروب الشمس وكلوا واشربوا فإنه لا يكون نسخا للأول لأنا لو قدرنا انتفاء الثاني لم يكن الأول مستمرا بل كان منتهيا بالغروب وقوله مع تراخيه احتراز عن الخطاب المتصل كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية لأنه يكون بيانا لا نسخا وقيل هو الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا وإنما زيد لفظ المثل لأن صاحب هذا الحد يقول تحقيق الرفع في الحكم ممتنع لأن المرفوع إما حكم ثابت أو ما لا ثبات له والثابت لا يمكن رفعه وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه فدل أن النسخ هو رفع مثل الحكم الثابت لا رفع عينه أو بيان مدة الحكم وقيل هو الخطاب الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول وقيل هو الخطاب الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخر عن مورده وزيفت هذه الحدود بأنها مع كونها تعريفات للناسخ لا للنسخ نفسه لأن الخطاب دليل النسخ والطريق المعرف له لا نفسه غير مطردة لأن العدل إذا قال نسخ حكم كذا يكون هذا القول خطابا ولفظا دالا على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم وزواله ظهور انتفاء شرط دوامه وانتهاء أمده ولا يكون نسخا بالإجماع وغير منعكسة لوجود النسخ بفعل النبي عليه السلام وهو ليس بخطاب ولهذا زاد بعضهم فقال هو إزالة مثل الحكم الثابت بقول منقول عن اللّه تعالى أو عن رسوله عليه السلام أو فعل منقول عن رسوله عليه السلام مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا ويندفع الأول بأن يقال المراد من (٣/٢٣٣) الخطاب خطاب الشارع لا خطاب غيره فإن الخطاب إذا أطلق في مثل هذا الموضع يراد به خطاب الشارع لا كلام غيره على أنا لا نسلم أن كلام العدل دال على ما ذكرتم بل كلامه يدل على خطاب من الشارع دال على ارتفاع الحكم وكذا وكذا فلذلك لا يسمى نسخا والثاني بأن يقال فعله عليه السلام يدل على خطاب من اللّه تعالى دال على ارتفاع الحكم إذ ليس للرسول ولاية رفع الأحكام الشرعية من تلقاء نفسه فيكون فعله معرفا للخطاب الدال على ارتفاع الحكم ومختار بعض المتأخرين أنه عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر فقيد بالشرعي احترازا عن العقلي فإن رفع الأحكام العقلية الثابتة قبل ورود الشرع التي يعبر عنها بالمباح بحكم الأصل بدليل شرعي متأخر لا يسمى نسخا بالإجماع وبدليل شرعي احترازا عن الرفع بالموت وبقوله متأخرا احترازا عن التقييد بالغاية والاستثناء ونحوهما على ما بينا وقيل لا حاجة إلى هذا القيد لأنه لما قال رفع الحكم خرج التقييد بالغاية ونحوها لأن الخطاب المتصل بالخطاب الأول ليس برافع لحكم الخطاب الأول بل هو بيان وإتمام لمعناه بعد ثبوته وتقييد له بمدة وشرط ونحو ذلك وذكر صاحب الميزان والحد الصحيح أن يقال هو بيان انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي في تقدير أوهامنا استمراره لولاه بطريق التراخي ونعني بالحكم المحكوم لا الحكم الذي هو صفة أزلية للّه تعالى قال ولا يلزم عليه الموقت صريحا لأنه ليس في وهمنا استمراره ولا التخصيص فإنه بيان أنه غير مراد من الأصل لا أنه انتهاء بعد الثبوت قال وما قالوا من الإزالة والرفع غير صحيح لأن ما ثبت من الحكم في الماضي لا يتصور بطلانه وما في المستقبل لم يثبت بعد فكيف يبطل قلت وهذه التعريفات كلها ليست بجامعة لأن الرفع بطريق الإنساء نسخ عند الجمهور حيث أوردوا في كتبهم نظير نسخ التلاوة والحكم جميعا ما رفع من صحف إبراهيم بالإنساء وما رفع من القرآن بالإنساء مثل ما روي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة ثم إنه لم يدخل في هذه الحدود لأن الإنساء ليس بخطاب رافع ولا دليل شرعي ولا بيان لشيء فإذا لا بد من زيادة تصير بها جامعة مثل أن يقال هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي أو بإنساء وهكذا في كل حد وهذا عند من جعل هذا القسم نسخا فأما عند من لم يجعله نسخا كالرفع بالموت والجنون مستدلا بأنه عطف على (٣/٢٣٤) النسخ في قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها والعطف يدل على المغايرة فلا حاجة إلى زيادة قوله هذا أي التبديل أصل هذه الكلمة هي النسخ حتى صارت أي حقيقتها وهي التبديل تشبه الإبطال من حيث كان التبديل أي المبدل وهو الناسخ وجود الخلف الزوال أي زوال المنسوخ وهذا هو معنى الإبطال فإن المبطل للشيء يخلف زواله وهو أي النسخ في حق صاحب الشرع بيان محض لانتهاء الحكم الأول ليس فيه معنى الرفع لأنه كان معلوما عند اللّه تعالى أنه ينتهي في وقت كذا بالناسخ فكان الناسخ بالنسبة إلى علمه تعالى مبينا للمدة لا رافعا إلا أنه أطلقه أي لم يبين توقيته الحكم المنسوخ حين شرعه فكان ظاهره البقاء في حق البشر لأن إطلاق الأمر بشيء يوهمنا بقاء ذلك على التأبيد من غير أن نقطع القول به في زمن الوحي فصار الحاصل أن معنى النسخ عند الشيخ هو التبديل والإبطال لغة وكذلك شرعا بالنسبة إلى علم العباد لكنه بالنسبة إلى علم صاحب الشرع بيان محض لمدة الحكم قال صاحب الميزان هذا غير مستقيم لأنه يؤدي إلى القول بتعدد الحقوق والحق عندنا واحد في الشرعيات والعقليات جميعا وأجيب عنه بأن الحق واحد بالنسبة إلى صاحب الشرع فأما بالنسبة إلى العباد فمتعدد حتى وجب على كل مجتهد العمل باجتهاده ولا يجوز له تقليد غيره وهاهنا الحق بالنسبة إلى صاحب الشرع واحد وهو كونه بيانا لا رفعا وإبطالا لأنه أي المقتول ميت بأجله أي بانقضاء أجله بلا شبهة عند أهل السنة إذ لا أجل له سواه كما نص اللّه تعالى بقوله فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون والموت الذي حصل فيه بخلق اللّه تعالى كما حصل في الميت حتف أنفه لا بفعل القاتل على ما عرف في مسألة المتولدات وفي حق القاتل تبديل وتغيير أي إبطال وقطع للحياة بالموت لأنه هو المباشر لسبب الموت حتى وجب عليه القصاص إن كان عمدا والدية على عاقلته إن كان خطأ قوله والنسخ في أحكام الشرع جائز صحيح اختلف المسلمون وأهل الكتاب في جواز النسخ فأجازه عامة المسلمين سوى قوم لا اعتبار بخلافهم وفرق النصارى كلها وافترقت اليهود في ذلك على ثلاث فرق كذا ذكر في الميزان وغيره فذهبت فرقة منهم (٣/٢٣٥) وهم العيسوية إلى جوازه عقلا وسمعا وهم الذين يعترفون برسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم لكن إلى العرب خاصة لا إلى الأمم كافة وذهبت فرقة أخرى منهم إلى امتناعه عقلا وسمعا وذهبت الفرقة الثالثة إلى جوازه عقلا وامتناعه سمعا وزاد عبد القاهر البغدادي فرقة أخرى فقال وزعمت فرقة أخرى من اليهود أنه يجوز نسخ الشيء بما هو أشد منه وأثقل على جهة العقوبة للمكلفين إذا كانوا لذلك مستحقين فكان المراد من قول الشيخ وقالت اليهود بفساده الفرقة الثانية والثالثة دون الجميع وقد أنكر بعض المسلمين النسخ مثل أبي مسلم عمرو بن بحر الأصبهاني فإنه لم يجوز النسخ في شريعة واحدة وأنكر وقوعه في القرآن والمراد بعض من انتحل الإسلام وزعم أنه مسلم لا أنه يكون مسلما على الحقيقة فإن إنكار النسخ مع صحة عقد الإسلام لا يتصور فتبين به أن قوله وقد أنكر بعض المسلمين النسخ لا ينافي قوله النسخ جائز عند المسلمين أجمع وذكر في القواطع أن الأصوليين قد ذكروا الخلاف في هذا مع طائفة من اليهود وفرقة من المسلمين ونسبوه إلى أبي مسلم محمد بن بحر الأصبهاني وهو رجل معروف بالعلم وإن كان يعد من المعتزلة وله كتاب كثير في التفسير وكتب كثيرة فلا أدري كيف وقع هذا الخلاف منه ومن خالف في هذا من أهل الإسلام فالكلام معه أن نريه وجود النسخ في القرآن مثل نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة ووجوب التربص حولا على المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ووجوب ثبات الواحد للعشرة بثباته للاثنين والوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث وغير ذلك مما لا يحصى فإن لم يعترف كان مكابرة واستحق أن لا يتكلم معه ويعرض عنه وإن قال قد كان كذلك ولكن لا أسميه نسخا كان هذا نعتا لفظيا ولزم أن يقال إن رفع شرع ما قبلنا بشرعنا لا يكون نسخا أيضا وهذا لا يقوله مسلم أما من رده توقيفا أي نصا لا عقلا فقد احتج بما يروى عن موسى صلوات اللّه عليه أنه قال تمسكوا بالسبت أي بالعبادة في السبت والقيام بأمرها ما دامت السموات والأرض (٣/٢٣٦) وزعموا أن هذا مكتوب في التوراة عندهم وزعموا أنه بلغهم بالطريق الموجب للعلم وهو التواتر عن موسى عليه السلام أنه قال إن شريعتي لا تنسخ وأنه قال تمسكوا بشريعتي ما دامت السموات والأرض وأنه قال أنا خاتم النبيين قالوا وإذا ثبت ذلك من قوله عندنا لم يجز لنا تصديق من ادعى نسخ شريعته كما أنكم لما زعمتم أن نبيكم قال لا نبي بعدي وقال أنا خاتم النبيين لم تصدقوا من ادعى بعد ذلك نسخ شريعته وبهذا الطريق طعنوا في رسالة محمد صلى اللّه عليه وقالوا لا يجوز تصديقه من أجل العمل بالسبت ولا يجوز أن يأتي بمعجزة تدل على صدقه وأما من أنكره ورده عقلا فقد احتج بوجوه من الشبه أحدها وهو المذكور في الكتاب أن الأمر بالشيء يدل على حسن المأمور به والنهي عن الشيء يدل على قبح المنهي عنه والنسخ يدل على ضده أي نسخ كل واحد من الأمر والنهي يدل على ضد ما دل عليه الأمر والنهي فإن نسخ الأمر يكون بالنهي ونسخ النهي بالأمر أو بالإباحة فيقتضي أن ما أمر به لحسنه كان قبيحا في ذاته وما نهي عنه لقبحه كان حسنا في نفسه أو غير قبيح والشيء الواحد لا يكون حسنا وقبيحا فكان القول بجواز النسخ مؤديا إلى القول بجواز البداء على اللّه عز وجل وذلك كفر لأن البداء ينشأ من الجهل بعواقب الأمور فإنه عبارة عن الظهور بعد الخفاء من قولهم بدا لهم الأمر الفلاني إذا ظهر بعد خفائه وقوله تعالى وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا أي ظهر لهم بعد الخفاء وتعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا والثاني أن الخطاب المنسوخ حكمه على زعمكم إما أن يكون دالا على التأقيت أو التأبيد وعلى التقديرين يمتنع قبول الخطاب النسخ أما إذا كان موقتا فلأن ارتفاع الحكم فيما بعد الغاية ليس بنسخ لانتهائه بانتهاء ذلك الوقت وشرط النسخ أن لا يكون كذلك وإن كان دالا على التأبيد فكذلك إذ لو قبل النسخ مع التأبيد يلزم التناقص بالإخبار بأنه مؤبد وغير مؤبد ويؤدي أيضا إلى نفي الوثوق بتأبيد حكم بناء على احتمال النسخ ويستلزم ذلك أن لا يبقى لنا وثوق بوعد اللّه ووعيده ولا بشيء من الظواهر اللفظية ولا يخفى ما فيه من اختلال الشريعة والنجاء قول الباطنية إليها ويؤدي أيضا إلى جواز نسخ شريعتكم وأنتم لا تقولون به (٣/٢٣٧) والثالث أنه لو جاز النسخ الذي هو رفع الحكم لكان رفعه قبل وجوده أو بعد وجوده أو معه وارتفاعه قبل وجوده أو بعده باطل لكونه معدوما في الحالين ورفع المعدوم ممتنع وارتفاعه مع وجوده أجدر بالبطلان لاستحالة اجتماع النفي والإثبات في شيء واحد لاستلزامه كونه موجودا ومعدوما في حالة واحدة وهو محال ومن أنكر جوازه ووقوعه ممن انتحل الإسلام تمسك بأن النسخ إبطال وهو ينافي الكتاب لقوله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلا يجوز وإذا لم يجز في الكتاب لم يجز في السنة لعدم القائل بالفصل ولمنافاتها الإبطال كالكتاب ودليلنا على جوازه بل على وجوده المستلزم لجوازه عقلا من حيث السمع أن نكاح الأخوات كان مشروعا في شريعة آدم عليه السلام وبه حصل التناسل وقد ورد في التوراة أن اللّه تعالى أمر آدم بتزويج بناته من بنيه وكذا الاستمتاع بالجزء كان حلالا لآدم عليه السلام فإن زوجته حواء كانت مخلوقة من ضلعه على ما نطق به الخبر ثم انتسخ ذلك بغيره من الشرائع حتى لا يجوز لأحد أن يتزوج أخته وأن يستمتع بعض منه بنكاح نحو ابنته وكذا الجمع بين الأختين كان مشروعا في شريعة يعقوب عليه السلام وأنه جمع بين الأختين فقد ذكر في التوراة أنه خطب الصغرى فقال أبوهما ليس من سنة بلدنا أن تزوج الصغرى قبل الكبرى فتزوجهما معا ثم حرم الجمع في حكم التوراة وكذا العمل في السبت كان مباحا قبل شريعة موسى عليه السلام لاتفاقهم على أن السبت مختص بشريعته ثم انتسخت تلك الإباحة بشريعة موسى عليه السلام وكذا ترك الختان كان جائزا في شريعة إبراهيم ثم انتسخ بالوجوب في شريعة موسى عليه السلام حيث أوجبه عليهم يوم ولادة الطفل فتبين بما ذكرنا أنه لا وجه إلى إنكاره ولكنهم يقولون على الأول لا نسلم أن آدم أمر بتزويج بناته اللاتي كن في زمانه وحينئذ تحريم ذلك في شريعة من بعده لا يكون نسخا لكونه رفع مباح الأصل إذ لم يؤمر من بعده به حتى يكون تحريمه عليهم نسخا ولئن سلمنا كونه مأمورا بتزويج بناته مطلقا لكن يجوز أن يكون ذلك الأمر مقيدا بظهور شرع من بعده وعلى هذا لا يكون تحريمه ذلك على من بعده نسخا لانتهاء أمد الحكم الأول بظهور شريعة من بعده كما أن إباحة الإفطار بالليالي لا تكون نسخا لإيجاب الصوم إلى الليل وعلى الثاني لا نسلم أن حل الاستمتاع بالجزء ثبت على الإطلاق في شريعته بل أحل له ذلك في حق حواء خاصة حتى لم يحل له التزوج بسائر بناته ولا لأحد من بنيه أن (٣/٢٣٨) يتزوج بنت نفسه فلم يكن تحريم البنت على غيره نسخا لحل الاستمتاع بالجزء إذا لم يثبت ذلك في حق غيره بل كان الحل منتهيا بوفاته كانتهاء الصوم بالليل وعلى الباقي أن الجمع والعمل بالسبت والختان كان مباحا بحكم الأصل وتحريم مباح الأصل ليس بنسخ وأجيب عن الأول بأن الأصل في كل شريعة ثبوتها على الإطلاق وبقاؤها إلى أن يوجد المزيل وعدم اختصاصها بقوم دون قوم إلا بمخصص فلا يثبت والتقييد بالاحتمال بل يحتاج إلى دليل ولم يوجد ولا يقال لا يصح التمسك بالأصل فيما نحن فيه لأن هذه مسألة علمية فلا يكتفى فيها بالدليل الظني لأنا نقول قد ثبت بالتواتر أمر آدم عليه السلام بتزويج بناته من بنيه ولم ينقل تقييد وتخصيص فوجب إجراؤه ولا يقدح فيه الاحتمال الذي ذكرتم لكونه غير ناشئ عن دليل وبمثله لا يخرج الدليل القطعي إلى الظن على ما مر بيانه غير مرة قال الغزالي رحمه اللّه لو صار الدليل ظنيا بكل احتمال لم يبق دليل قطعي لتطرق الاحتمال إلى جميع العقليات من دلائل التوحيد والنبوة وغيرها وعن الثالث بأن رفع الإباحة الأصلية نسخ عندنا لأن الناس لم يتركوا سدى في زمان فالإباحة والتحريم ثبتا في جميع الأشياء بالشرائع في الأصل فكان رفعها رفعا لحكم شرعي فكان نسخا لا محالة فأما الاعتراض الثاني فلا محيص عنه إن ثبت الاختصاص الذي ذكروه كما دل عليه الظاهر قوله والدليل المعقول أن النسخ كذا يعني لو وقت الشارع حكما في ابتداء شرعه إلى غاية بأن قال شرعت الحكم الفلاني إلى الوقت الفلاني لصح ذلك من غير لزوم قبح وبداء فكذا إذا بين أمده متراخيا عن زمان شرعه بالنسخ لأن النسخ ليس في الحقيقة إلا بيان مدة الحكم التي هي غيب عن العباد لهم فلا يكون هذا من البداء في شيء وبيانه أي بيان أن النسخ بيان المدة لا بداء أنا إنما يجوز النسخ في حكم يجوز أن يكون موقتا بعدما شرع وأن يكون مؤبدا ويحتمل البقاء بعدما شرع والعدم احتمالا على السواء وإنما تعرض للاحتمالين لأن النسخ توقيت بالنسبة إلى الماضي وإعدام بالنسبة إلى المستقبل والأمر المطلق في حياته للإيجاب لا للبقاء أي الأمر الوارد في حياة النبي عليه السلام يقتضي كون المأمور به واجبا من غير أن يتعرض لبقائه أصلا بل البقاء بعد الثبوت لعدم الدليل المزيل فكان ثابتا باستصحاب الحال لا بدليل يوجبه وهو الأمر السابق لأن (٣/٢٣٩) الأمر لا دلالة له على البقاء لغة لأنه لطلب الفعل والائتمار لا لغيره وكذا الوجود ليس بعلة للبقاء ولهذا صح أن يقال وجد ولم يبق فلا يكون البقاء من مواجب الأمر السابق بوجه وإذا كان كذلك لم يكن دليل النسخ متعرضا لحكم الدليل الأول بوجه أي لم يكن مبطلا له بوجه لاقتصار عمله على حالة البقاء وهو ليس من أحكام الدليل الأول إلا ظاهرا أي إلا من حيث الظاهر وهو تقرر بقائه في أوهامنا باعتبار الظاهر لولا الناسخ وهو الحكمة البالغة بلا شبهة أي بيان المدة بالنسخ من باب الحكمة البالغة نهايتها لا من باب البداء لأن شرعية الأحكام لمنافع تعود إلى العباد إذ الشارع منزه عن نفع وضرر يعود إليه وقد يتبدل المنفعة بتبدل الأزمان والأحوال ولا يعلم بذلك إلا العليم الخبير الحكيم القدير جل جلاله فكان تبديل الحكم بناء على تبديل الأحوال من باب الحكمة لا من باب البداء قوله بمنزلة الإحياء متعلق بقوله للإيجاب لا للبقاء أو بجميع ما تقدم أي إحياء الشريعة بالأمر وشرع الحكم ابتداء بمنزلة إحياء الشخص وإيجاده من العدم فإن حكم الأحياء الحياة وأثر الإيجاد الوجود لا البقاء بل البقاء بعدم أسباب الفناء بإبقاء هو غير الإيجاد وكأن أو سقط من قلم الناسخ في هذا الكلام بدليل ما ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه ثم البقاء بعد ذلك بإبقاء اللّه تعالى إياه أو بانعدام سبب الفناء وما ذكر الشيخ في شرح التقويم بل البقاء بدليل آخر أو بعدم ما يعدمه وهو أسباب الفناء أو معناه أن البقاء بعدم أسباب الفناء وعدمها بسبب إبقاء اللّه تعالى إياه فإنه إذا أراد إبقاءه لم يوجد أسباب الفناء قوله بإبقاء هو غير الإيجاد لأن الإبقاء إثبات البقاء والإيجاد إثبات الوجود وقد بينا أن البقاء غير الوجود حتى صح قولنا وجد ولم يبق فكان الإبقاء غير الإيجاد لو كان من أفعال العباد إلا أن الغيرية لا تجري في صفات اللّه تعالى حقيقة على ما عرف فكان تسمية الإبقاء غير الإيجاد توسعا باعتبار تغاير الأمارة وهو كالرمي الواحد يسمى جرحا وقتلا وكسرا إذا تحققت هذه الآثار منه وإن كان القتل غير الجرح والكسر وله أجل معلوم أي لهذا الموجود مدة معلومة عند اللّه تعالى لبقائه غيب عن العباد فكان الإفناء والإماتة بيانا محضا لمدة بقاء الحياة التي كانت معلومة عند الخالق حين خلقه وإن كان غيبا عنا وهذا (٣/٢٤٠) لا يدل على البداء والجهل بعواقب الأمور ولم يتطرق إليه قبح وهذا أي النسخ مثله أي مثل الإفناء أيضا فلا يكون بداء وجهلا قوله هذا حكم بقاء المشروع في حياة النبي عليه السلام كأنه جواب عما يقال يلزم على ما ذكرت أن لا يكون الأحكام الباقية إلى يومنا هذا مقطوعا بها لبناء بقائها على الاستصحاب الذي ليس بحجة وانقطاع بقائها عن الدلائل المثبتة لها فقال هذا أي بقاء الحكم باستصحاب الحل حكم بقاء المشروع في حياة النبي عليه السلام لاحتمال ورود النسخ في كل زمان فأما بعد وفاته عليه السلام فقد صار البقاء ثابتا بدليل يوجبه وهو أن لا نسخ بدون الوحي وقد انسد بابه بوفاته عليه السلام فإنه قد ثبت بالنص القاطع أنه خاتم النبيين وأن لا نبي بعده فصار البقاء يقينا لا يحتمل الزوال أصلا بمنزلة موجود نص على بقائه أبدا كالجنة وأهلها هذا تقرير كلام الشيخ وحاصله أن النسخ بيان المدة في الحقيقة فلا يكون بداء وذكر الأصوليون وجها آخر في جواز النسخ عقلا وهو أن المخالف لا يخلو إما أن يكون ممن لا يعتبر المصالح في أفعال اللّه تعالى كما هو مذهب الأشعرية وعامة أهل الحديث ويقول له أن يفعل ما يشاء كما يشاء بحكم المالكية من غير نظر إلى حكمة ومصلحة أو يكون ممن يعتبر الغرض والحكمة في أفعاله كما هو مذهب عامة المتكلمين فإن كان الأول فنقول لا يمتنع على اللّه تعالى أن يأمر بفعل في وقت وينهى عنه في وقت آخر كما أمر بصوم رمضان ونهى عن صوم يوم الفطر للقطع بأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال عقلا وما نعني بالجواز العقلي إلا ذلك نبينه أنه إذا جاز أن يطلق الأمر والمراد إلى أن يعجز عنه بمرض أو غيره جاز أيضا أن يطلق والمراد إلى أن ينسخه غيره وإذا جاز أن لا يوجب شيئا برهة من الزمان ثم يوجبه جاز أيضا أن يوجبه برهة من الزمان ثم ينسخه وإن كان الثاني فكذلك إذ لا يمتنع أن يعلم اللّه تعالى استلزام الأمر بالفعل في وقت معين لمصلحة واستلزام النهي عنه في وقت آخر لمصلحة أخرى إذ المصالح كما تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال تختلف باختلاف الأزمان والأوقات واعتبر هذا بأمر الطبيب للمريض بدواء خاص في وقت لمصلحة ونهيه عنه في وقت آخر لمصلحة أخرى يوضحه أنه تعالى لو نص على التوقيت بأن قال حرم عليكم العمل في السبت ألف سنة ثم هو مباح عليكم بعد ذلك كان حسنا ودالا على انتهاء حكمة التحريم بعد انتهاء المدة ولم يكن بداء فكذلك عند إطلاق اللفظ في التحريم ثم النسخ بعد ذلك وهو بمنزلة (٣/٢٤١) تبديل الصحة بالمرض والغناء بالفقر وعكسهما إذ يجوز أن يكون كل واحد منها مصلحة في وقت دون وقت وبمنزلة تقلب أحوال الإنسان من الطفولية والبلوغ والشباب والكهولة والشيخوخة فإن ذلك كله تصريف الأمور على ما توجبه الحكمة ويدعو إليه المصلحة وامتحان العباد وابتلاؤهم وقتا بعد وقت بما هو خير لهم وأدعى إلى صلاحهم والجواب عن قولهم الخطاب المنسوخ حكمه إما أن يكون دالا على التأبيد أو على التوقيت إلى آخره هو أنه ليس بدال على التوقيت ولا على التأبيد صريحا بل هو مطلق يحتمل التأبيد إن لم يرد عليه ناسخ والتوقيت إن ورد عليه ذلك فإذا ورد تبين أنه كان موقتا وهذا التوقيت يسمى نسخا وعن قولهم لو جاز النسخ لكان قبل وجوده أو بعده أو معه إلى آخر ما ذكروا أن المراد من رفع الحكم أن التكليف الذي كان ثابتا بعد أن لم يكن زال بالناسخ كما يزول بالموت لكونه سببا من جهة المخاطب لقطع تعلق الخطاب عنه كما أن النسخ سبب من جهة المخاطب لقطع تعلقه عنه وليس المراد من الدفع أن الفعل الذي هو متعلق الحكم يرتفع لينتهض ما ذكرتم من التقسيم وأما دعواهم التوقيف فباطل لأنه قد ثبت بالدليل القطعي عندنا تحريف كتابهم فلم يبق نقلهم عنه حجة ولهذا لم يجز الإيمان بالتوراة التي في أيديهم اليوم بل يجب الإيمان بالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكيف يصح نقلهم تأبيد شريعة موسى عليه السلام وقد ثبت رسالة رسل بعد موسى عليه السلام بالآيات المعجزة والدلائل القاطعة ولأن شرط التواتر لم يوجد في نقل التوراة إذ لم يبق من اليهود عدد التواتر في زمن بخت نصر فإنهم وافقوا أصحاب التواريخ أنه لما استولى على بني إسرائيل قتل رجالهم وسبى ذراريهم إلى أرض بابل وأحرق أسفار التوراة حتى لم يبق فيهم من يحفظ التوراة وزعموا أن اللّه تعالى ألهم عزيرا التوراة بعد خلاصه من أسر بخت نصر وقد روى أحبارهم أن عزيرا كتب ذلك في آخر عمره وعند حضور أجله دفعه إلى تلميذ له ليقرأه على بني إسرائيل فأخذوا التوراة عن ذلك التلميذ ونقول الواحد لا يثبت التواتر وزعم بعضهم أن ذلك التلميذ قد زاد فيها شيئا وحذف منها فكيف يوثق بما هذا سبيله والدليل عليه أن نسخ التوراة ثلاث نسخة في أيدي العتابية ونسخة في أيدي السامرية ونسخة في أيدي النصارى وهذه النسخ الثلاث مختلفة متفاوتة ذكر فيها أعمار الدنيا وأهلها على التفاوت ففي نسخة السامرية زيادة ألف سنة وكثير على ما في نسخة العتابية وفي التوراة التي في النصارى زيادة بألف وثلثمائة سنة وفيها أيضا الوعد بخروج المسيح (٣/٢٤٢) وخروج العربي صاحب الجمل وارتفاع تحريم السبت عند خروجهما فثبت أن التوراة التي في أيديهم ليست بموثوق بها وأن ما نقلوه من تأبيد شريعة موسى وتأبيد تحريم السبت افتراء على موسى عليه السلام وقيل أول من وضع لهم ذلك ابن الراوندي ليعارض به دعوى الرسالة من محمد عليه السلام وأقرب قاطع في بطلانه أن أحدا من أحبار اليهود لم يحتج به على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع حرصهم على دفع قوله ولو كان ذلك صحيحا عندهم لقضت العادة بالاحتجاج به على النبي صلى اللّه عليه وسلم ولو فعلوا ذلك لاشتهر منهم كما اشتهر سائر أمورهم وأما قوله تعالى لا يأتيه الباطل الآية فتأويله أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب اللّه تعالى ما يبطله ولا يأتيه من بعده ما يبطله واللّه أعلم (٣/٢٤٣) باب بيان محل النسخ لما ثبت أن النسخ بيان مدة الحكم في الحقيقة وإن كان رفعا له في الظاهر لا بد من أن يكون محله حكما يحتمل المدة والوقت أي يحتمل أن يكون موقتا إلى غاية وأن لا يكون كذلك احتمالا على السواء ليكون النسخ بيانا لمدته وذلك أي كونه محتملا للتوقيت يحصل بوصفين أي بمعنيين أحدهما أن يكون الحكم الذي ورد عليه النسخ محتملا في نفسه للوجود والعدم أي محتمل أن يكون مشروعا وأن لا يكون مشروعا إذ لو لم يحتمل أن يكون مشروعا كالكفر لاستمر عدم شرعيته والنسخ لا يجري في المعدوم ولو لم يحتمل أن لا يكون مشروعا كالإيمان باللّه تعالى وصفاته لاستمر شرعيته ضرورة فلا يجري فيه النسخ أيضا لأن النسخ توقيت ورفع وذلك مناف لما لزم استمرار وجوده والثاني أن لا يكون ذلك الحكم بحيث يلحق به ما ينافي المدة والوقت أي ما ينافي بيان المدة بالنسخ يعني لم يلتحق به بعد أن كان في نفسه محتملا للوجود والعدم ما يمتنع لخوف النسخ الذي هو بيان مدة المشروعية به أما الأول وهو الذي لا يحتمل النسخ باعتبار فوات الوصف الأول وإليه أشير في قوله وإذا كان بخلافه لم يحتمل النسخ فبيانه أن الصانع جل جلاله بجميع أسمائه أي مع جميعها مثل الرحمن والرحيم والعليم والحكيم وصفاته مثل العلم والقدرة والحياة التي هي من صفات الذات والخلق والرزق والإحياء والإماتة التي هي من صفات الفعل عند الأشعرية قديم دائم أزلا وأبدا فلا يحتمل شيء من أسمائه وصفاته النسخ بحال أي بوجه من الوجوه ولهذا لا يجوز أن يكون الإيمان باللّه تعالى وصفاته غير مشروع بحال أعني في حال الإكراه وغيرها (٣/٢٤٤) الحاصل أن النسخ لا يجري في واجبات العقول وإنما يجري في جائزاتها ولهذا لم يجوز جمهور العلماء النسخ في مدلول الخبر ماضيا كان أو مستقبلا لأن تحقق المخبر به في خبر من لا يجوز عليه الكذب والخلف من الواجبات والنسخ فيه يؤدي إلى الكذب والخلف فلا يجوز وقال بعض المعتزلة والأشعرية بجوازه في الخبر مطلقا إذا كان مدلوله متكررا والإخبار عنه عاما كما لو قال عمرت زيدا ألف سنة ثم بين أنه أراد به تسعمائة أو قال لأعذبن الزاني أبدا ثم قال أردت به ألف سنة لأنه إذا كان كذلك كان الناسخ مبينا أن المراد بعض ذلك المدلول كما في الأوامر والنواهي بخلاف ما إذا لم يكن متكررا نحو قوله أهلك اللّه زيدا ثم قوله ما أهلكه لأن ذلك يقع دفعة واحدة فلو أخبر عن إعدامه وإيجاده جميعا كان تناقضا ومنهم من فصل بين الماضي والمستقبل فمنعه في الماضي وجوزه في المستقبل لأن الوجود المتحقق في الماضي لا يمكن رفعه بخلاف المستقبل لأنه يمكن منعه من الثبوت واستدل عليه بظاهر قوله تعالى يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وبقوله تعالى ثلة من الأولين وقليل من الآخرين فإنه نسخ بعد سؤال الرسول عليه السلام بقوله عز ذكره ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وبقوله تعالى لآدم إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى فإنه نسخ بقوله تعالى فبدت لهما سوأتهما وبظواهر آيات الوعيد مثل قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها من يعمل سوءا يجز به ومن يعص اللّه ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وغيرها فإنها نسخت بقوله تعالى إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وكل ذلك إخبار والصحيح هو القول الأول لما بينا أن النسخ توقيت ولا يستقيم ذلك في الخبر بحال فإنه لا يقال اعتقدوا الصدق في هذا الخبر إلى وقت كذا ثم اعتقدوا خلافه بعد ذلك فإنه هو البداء والجهل الذي يدعيه اليهود في أصل النسخ ونحن لا نسلم صحة إرادة تسعمائة من لفظ الألف ولا صحة ورود النسخ على ما التحق به تأبيد ما نبين فأما قوله تعالى يمحو اللّه ما يشاء ويثبت فقد قيل معناه ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله أو يتركه غير منسوخ وقيل يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل ويثبت غيره والكلام فيه واسع المجال وقوله تعالى وثلة من الآخرين ليس بناسخ شيئا لأنه لم يرفع حكما ثبت في الآية الأولى إذ الحكم في القليل المذكور فيها ثابت كما كان إلا أنه ألحق بهم (٣/٢٤٥) فرق أخرى بعد نزول الآية بتضرعهم أو بدعاء الرسول عليه السلام ثم أخبر عنهم بقوله وثلة من الآخرين وقيل الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين وعن الحسن سابقو الأمم أكثر من سابقي أمتنا وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمة وكذا قوله تعالى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى من باب القيد والإطلاق لا من باب النسخ وكذا آيات الوعيد كلها مقيدة أو مخصوصة على ما عرف في مسألة تخليد أصحاب الكبائر وهذا إذا كان الخبر في غير الأحكام الشرعية فإن كان في الأحكام الشرعية فهو والأمر والنهي سواء حتى لو أخبر اللّه تعالى أو رسوله عليه السلام بالحل مطلقا في شيء ثم ورد الخبر بعده بالحرمة ينتسخ الأول بالثاني قوله وأما الذي ينافي أي الحكم الذي ينافي النسخ من الأحكام لفوات الوصف الثاني وهو عدم لحوق ما ينافي بيان المدة مع وجود الوصف الأول وهو كونه محتملا للوجود والعدم فثلاثة أما التأبيد صريحا فمثل قوله تعالى خالدين فيها أبدا وصف أهل الجنة بالخلود أي بالإقامة فيها وهو مطلق يقبل الزوال فلما اقترن به الأبد صار بحال لا يقبل الزوال لأن فيها بعد التنصيص على التأبيد بيان التوقيت فيه بالنسخ لا يكون إلا على وجه البداء وظهور الغلط واللّه تعالى متعال عنه ومثل قوله عز وجل وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة قال قتادة والربيع ومقاتل والكلبي هم أهل الإسلام من أمة محمد عليه السلام اتبعوا دين المسيح وصدقوا بأنه رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فواللّه ما اتبعه من دعاه ربا ومعنى الفوقية هاهنا الغلبة بالحجة في كل الأحوال وبها وبالسيف حين أظهر محمدا عليه السلام وأمته على الدين كله كذا في المطلع وفي الكشاف ومتبعوه هم المسلمون لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلف الشرائع دون الذين كذبوه من اليهود وكذبوا عليه من النصارى وعن ابن زيد فوق الذين كفروا أي فوق اليهود فلا يكون لهم مملكة كما للنصارى ثم هذا وإن كان توقيتا إلى يوم القيامة في الظاهر فهو تأبيد في الحقيقة لأن المؤمنين ظاهرون على الكافرين يوم القيامة لقوله تعالى والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة فإذا كان متبعوه ظاهرين في الدنيا التي هي موضع غلبة الكفار كانوا غالبين يوم القيامة الذي هو محل غلبة المؤمنين فكانوا غالبين أبدا ضرورة وهذا من قبيل قول عمر رضي اللّه عنه نعم الرجل (٣/٢٤٦) صهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه يعني لو لم يكن خائفا من اللّه تعالى لم يصدر عنه معصية فكيف يصدر إذا خافه ولا يقال لا يصح إيراد هذين المثالين هاهنا لأنهما من الإخبار لا من الأحكام وامتناع النسخ فيهما باعتبار ذلك لا بالتأبيد لأنا نقول المقصود إيراد النظير للتأبيد نصا ولم يوجد في الأحكام تأبيد صريح وقد حصل المقصود بإيرادهما فلذلك أوردهما ومن القسم الثاني تأبيد الجنة والنار لأن أهلهما لما كانوا مؤبدين فيهما كانتا مؤبدتين ضرورة والثالث واضح مثل أن يقول الشارع أذنت لكم أن تفعلوا كذا إلى سنة أو قال أحللت هذا الشيء عشر سنين أو مائة سنة فإن المنع عنه قبل مضي تلك المدة لا يجوز لأنه يكون من البداء والغلط والنسخ المؤدي إليه باطل قال القاضي الإمام رحمه اللّه وليس لهذا القسم مثال من المنصوصات شرعا ولا يلزم عليه مثل قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض لأن المقصود شرعية حرمة القربان في حالة الحيض وشرعية إباحة الأكل والشرب في الليل وهي ليست بموقتة بل هي ثابتة على الإطلاق واعلم أن الأصوليين اختلفوا في هذا الفصل فذهب الجمهور منهم إلى جواز نسخ ما لحقه تأبيد أو توقيت من الأوامر والنواهي وهو مذهب جماعة من أصحابنا وأصحاب الشافعي وهو اختيار صدر الإسلام أبي اليسر وذهب أبو بكر الجصاص والشيخ أبو منصور والقاضي الإمام أبو زيد والشيخان وجماعة من أصحابنا إلى أنه لا يجوز ولا خلاف أن مثل قوله الصوم واجب مستمر أبدا لا يقبل النسخ لتأدية النسخ فيه إلى الكذب والتناقض تمسك الفريق الأول بأن الخطاب إذا كان بلفظ التأبيد فغايته أن يكون دالا على ثبوت الحكم في جميع الأزمان لعمومه ولا يمتنع أن يكون المخاطب مع ذلك مريدا لثبوت الحكم في بعض الأزمان دون البعض كما في الألفاظ العامة لجميع الأشخاص وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع ورود الناسخ المعرف لمراد المخاطب ولذلك لو فرضنا ذلك لم يلزم عليه محال تنبيه إن في العرف قد يراد بلفظ التأبيد المبالغة لا الدوام كقول القائل لازم فلانا أبدا وفلان يكرم الضيف أبدا واجتنب فلانا أبدا إلى غير ذلك فيجوز أن يكون كذلك في استعمال الشرع ويتبين بلحوق الناسخ به أن المراد منه المبالغة لا (٣/٢٤٧) الدوام ولأنه لا خفاء أن قوله صوموا أبدا مثلا لا يربوا في الدلالة على تعيين الوقت والتنصيص على قوله صم غدا فكما جاز نسخ هذا قبل الغد لما سنبين جاز نسخ الآخر أيضا وتمسك الفريق الثاني بأن نسخ الخطاب المقيد بالتأبيد أو التوقيت يؤدي إلى التناقض والبداء لأن معنى التأبيد أنه دائم والنسخ يقطع الدوام فيكون دائما غير دائم وصاحب الشرع منزه عن ذلك فلا يجوز القول بنسخه كما لو قيل الصوم دائم مستمر أبدا يوضحه أن التأبيد بمنزلة التنصيص على كل وقت من أوقات الزمان بخصوصه والنسخ لا يجري فيه بالاتفاق فكذا فيما نحن فيه والدليل عليه أن التأبيد يفيد الدوام والاستمرار قطعا في الخبر كما في تأبيد أهل الجنة والنار حتى إن من قال بجواز فناء الجنة والنار وأهلهما وحمل قوله تعالى خالدين فيها أبدا على المبالغة ينسب إلى الزيغ والضلال فكذا في الأحكام إذ لا فرق في دلالة اللفظ على الدوام لغة في الصورتين وقولهم لا يمتنع أن يكون المخاطب مريدا لبعض الأزمان دون البعض كما في الألفاظ العامة غير صحيح لأن ذلك إنما يصح إذا اتصل قرينة بالكلام نطقية أو غير نطقية دالة على المراد من غير تأخر عنه فإذا خلا الكلام عن مثل هذه القرينة كان دالا على معناه الحقيقي قطعا لما مر فكان ورود النسخ عليه من باب البداء ضرورة فلا يجوز وليس هذا كجريان النسخ في اللفظ المتناول للأعيان فإن النسخ فيه لا يؤدي إلى أنه أريد به البعض بقرينة متأخرة بل الحكم ثبت في حق الكل ثم انقطع في حق البعض بالناسخ فكان هذا البعض بمنزلة ما لو ثبت الحكم في حقه بنص خاص ثم انقطع بناسخ فإن قيل قد يجوز تخصيص اللفظ العام متأخرا وليس ذلك إلا بيان أنه أريد به البعض بقرينة متأخرة قلنا ذلك ليس بتخصيص عندنا بل هو نسخ على ما بينا فأما من جعله تخصيصا فقد بنى ذلك على أن موجب العام ظني عنده وأن التخصيص بيان مقرر فيجوز متأخرا وقد تقدم الكلام فيه والفريق الأول لم يسلموا لزوم البداء والتناقض لأن الأمر المقيد بالتأبيد مثل قوله صم رمضان أبدا يوجب أن يكون جميع الرمضانات في المستقبل متعلق الوجوب ولا يلزم من تعلق الوجوب بالجميع استمرار الوجوب مع الجميع فإذا لا يلزم من صم رمضان أبدا الإخبار بكون الصوم مؤبدا مستمرا حتى يلزم من نفي الاستمرار بالنسخ التناقض والبداء كما لو كان الوقت معينا بأن قال صم رمضان هذه السنة ثم نسخه قبل مجيئه إذ لا منافاة بين إيجاب صوم رمضان وانقطاع التكليف عنه قبله بالنسخ (٣/٢٤٨) كانقطاع التكليف عنه قبله بالموت ويكون التأبيد معلقا بشرط عدم النسخ أي افعلوا أبدا إن لم أنسخه عنكم كما كان قوله افعل كذا في وقت كذا مقيدا بشرط عدم النسخ أي افعل كذا في ذلك الوقت إن لم أنسخه عنك هذا حاصل كلام الفريقين ولا طائل في هذا الخلاف إذ لم يوجد في الأحكام حكم مقيد بالتأبيد أو التوقيت قد نسخ شرعيته بعد ذلك في زمان الوحي ولا يتصور وجوده بعد فلا يكون فيه كثير فائدة قوله فصار الذي لا يحتمل النسخ أربعة أقسام ما لا يحتمل إلا وجها واحدا وهو الوجود وما يحتمل الوجود والعدم وقد التحق به تأبيد نصا أو دلالة أو توقيت وهو حكم مطلق احترازا عن المقيد بالتأبيد أو التوقيت يحتمل التوقيت احترازا عما لا يحتمله كالإيمان باللّه تعالى وصفاته لم يجب بقاؤه بدليل يوجب البقاء احترازا عن الشرائع التي قبض عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو صفة بعد صفة كالشراء يثبت به الملك دون البقاء يعني أنه يوجب الملك في المبيع للمشتري ولا يوجب إبقاءه له بل بقاؤه بدليل آخر مبق أو بعدم الدليل المزيل وكذا يوجب الثمن للبائع في ذمة المشتري ولا يوجب بقاءه له في ذمته قوله فينعدم الحكم إلى آخره تقريب وجواب عن كلام اليهود الذين ادعوا لزوم البداء والتناقض في النسخ يعني لما لم يكن بقاء الحكم بدليل موجب للبقاء بل بعدم الدليل المزيل كان عدم الحكم عند ورود الناسخ لعدم سببه أي بسبب بقائه وهو عدم الدليل المزيل لتبدل ذلك العدم بوجود الناسخ لا أن يكون الناسخ بنفسه متعرضا له بالإبطال والإزالة ليلزم منه البداء والتناقض كما زعموا بل عدمه لعدم سببه كالحياة تنعدم بعدم سببها لا بالموت ونظيره خروج شهر ودخول آخر فإن الأول ينتهي به لا أن يكون الثاني مزيلا له فكذا الحكم الأول ينتهي بالناسخ لا أن يكون الناسخ مزيلا فلا يكون تناقضا وبداء أو المراد من السبب المعنى الداعي إلى شرعيته يعني انعدم الحكم لعدم المعنى الداعي إليه لا بالناسخ كانتهاء شرعية إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة بانتهاء سببه وهو ضعف المسلمين وحصول إعزاز الدين به فإن تأليفهم على الإسلام بإعطاء المال ودفع أذاهم عن المسلمين به كان إعزازا للدين في ذلك الزمان فلما قوي أمر الإسلام كان (٣/٢٤٩) إعطاؤهم دنية في الدين لا إعزازا له فانتهى بانتهاء سببه وإذا كان كذلك لا يكون النسخ بداء ولا تناقضا لعدم تعرض الناسخ للحكم الأول أصلا ولا مستلزما لاجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في حالة واحدة كما زعموا بل يلزم منه اجتماعهما في شيء واحد في حالتين وذلك ليس بمستحيل إذ من شرطه اتحاد المكان والزمان جميعا قوله فإن قيل هذا سؤال يرد على قوله ولا يصير الشيء الواحد حسنا وقبيحا في حالة واحدة وتقريره أنكم أنكرتم في النسخ لزوم اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في حالة واحدة وقد وجد ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام فإنه أمر بذبح الولد ثم نسخ ذلك بذبح الشاة بدليل أن ذبح الولد قد حرم بعد ذلك فصار الذبح منهيا عنه مع قيام الأمر حتى وجب ذبح الشاة فداء عنه ولا شك أن النهي عن ذبح الولد الذي به ثبت الانتساخ كان دليلا على قبحه وقيام الأمر بالذبح دليل على حسنه وفيه اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في وقت واحد فأجاب عنه وقال لا نسلم أن الحكم الذي كان ثابتا انتسخ بذبح الشاة وكيف يقال ذلك وقد سماه اللّه تعالى محققا رؤياه بقوله جل جلاله قد صدقت الرؤيا أي حققت ما أمرت به بل نقول المحل الذي أضيف إليه الذبح وهو الولد لم يحله الحكم على طريق الفداء كما نص اللّه تعالى عليه بقوله وفديناه بذبح عظيم على معنى أن هذا الذبح تقدم على الولد في قبول الذبح المضاف إلى الولد إذ الفداء في اللغة اسم لما يقوم مقام الشيء في قبول المكروه المتوجه عليه يقال فديتك نفسي أي قبلت ما توجه عليك من المكروه وكذلك من رمى سهما إلى غيره فتقدم على المرمى إليه آخر وقبل ذلك السهم يقال فداه بنفسه مع بقاء خروج السهم من الرامي إلى المحل الذي قصده ولما سميت الشاة فداء علم أن الذبح المضاف إلى الولد أقيم في الشاة وصارت الشاة قائمة مقام الولد في قبول الذبح مع بقاء الأمر مضافا إلى الولد فيصير محل إضافة السبب الولد ومحل قبول الحكم الشاة ولهذا قال عليه السلام أنا ابن الذبيحين وما ذبحا حقيقة بل فديا بالقربان ولكن لما كان القربان قائما مقام الولد صار الولد بذبحه مذبوحا حكما وإذا ثبت أن ذلك كان بطريق (٣/٢٥٠) الفداء كان هو ممتثلا للحكم الثابت بالأمر فلا يستقيم القول بالنسخ فيه لأن ذلك يبتني على النهي الذي هو ضد الأمر ولا تصور لاجتماعهما في شيء واحد في وقت واحد فتبين به أن الحسن والقبح لم يجتمعا في شيء واحد لانتفاء النهي الموجب للقبح الناسخ للأمر بل نفى الأمر كما كان موجبا للحسن إلا أن الفعل انتقل إلى الشاة لما قلنا قوله وكان ذلك ابتلاء كأنه جواب عما يقال ما الحكمة في إضافة إيجاب الذبح إلى الولد إذا لم يتحقق فعل الذبح فيه فقال كان ذلك ابتلاء في حق الخليل عليه السلام حتى يظهر منه الانقياد والاستسلام والصبر على ما به من حرقة القلب على ولده وفي حق الولد بالمجاهدة والصبر على معرة الذبح إلى حال المكاشفة واستقر حكم الأمر عند المخاطب وهو إبراهيم عليه السلام في آخر الحال على أن المبتغى أي المطلوب منه أي من الأمر في حق الولد أن يصير قربانا بهذه الجهة وهي نسبة الذبح إليه بأن يقال ذبيح اللّه لا أن يصير قربانا بحقيقة القتل مكرما خبر آخر ليصير أي وأن يصير مكرما بالفداء الحاصل لمعرة الذبح اللام متعلقة بالحاصل وضمن الحاصل معنى الدافع أي بالفداء الذي حصل دافعا لمعرة الذبح أي لشدته أو بالفداء الذي حصل لأجل دفع معرته مبتلى خبر آخر له أيضا أي وأن يصير مبتلى بالصبر والمجاهدة إلى حالة المكاشفة وهي حالة الفداء فإنه صبر إلى هذه الحالة وقال لأبيه يا أبت افعل ما تؤمر وإليه أشار اللّه تعالى بقوله فلما أسلما وتله للجبين فتبين أنه ليس بنسخ وقد سمي أي ذبح الشاة فداء في الكتاب أي في كتاب اللّه تعالى في قوله وفديناه بذبح عظيم والفداء اسم لما يكون واجبا بالسبب الموجب للأصل فثبت أن النسخ لم يكن لعدم ركنه وهو كونه بيانا لانتهاء الحكم الأول لأن الحكم الأول وهو وجوب الذبح باق بعد صيرورة الشاة فداء وإذا لم يكن نسخا لم يلزم اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في زمان واحد لما ذكرنا فإن قيل لا نسلم أن ذبح الشاة وجب بحكم الأمر بالذبح المضاف إلى الولد لأن أحدا لا يفهم من الأمر بذبح الولد ذبح الشاة بل نسخ ذلك الأمر بأمر مبتدأ مضاف إلى الشاة وانتهى نهايته كما ذهب إليه عامة الأصوليين وتبين أنه كان مأمورا بالاشتغال (٣/٢٥١) بمقدمات الذبح وهو قدر ما أتى به على ما قال تعالى فلما أسلما وتله للجبين ألا ترى أنه لما ائتمر بذلك القدر سماه اللّه تعالى محققا للرؤيا والدليل عليه أنه قال إني أرى في المنام أني أذبحك وهذا ينبئ عن الاشتغال بمقدمة الذبح لا عن الاشتغال بحقيقته إذ لو كان مأمورا بحقيقته لكان ينبغي أن يقول إني أرى في المنام أني ذبحتك إلا أن الشاة سميت فداء لتصورها بصورة الفداء وهو أن ذبحها كان عقيب الذبح المضاف إلى الولد قلنا لا يمكن إثبات أمر آخر وهو غير مذكور في القرآن ولو جعلنا الشاة مذبوحة بأمر مبتدأ لا يكون فداء لما ذكرنا أن الفداء ما يقبل مكروها متوجها على غيره فمتى أقيم حكم الأمر في الولد وحصل الائتمار لا تكون الشاة قابلة مكروها متوجها عليه فلا تكون فداء ولأنه إنما رأى في المنام ذبح الولد مقدمة الذبح فلا يجوز حمله على أنه كان مأمورا بمقدماته لأن فيه مخالفة النص ونسبة إبراهيم وولده عليهما السلام إلى أنهما اعتقدا وجوب ما لا يحل وهو ذبح الولد وإنما لم يقل ذبحتك لأنه ينبئ عن فعل ماض قد تم ووقع الفراغ عنه وما رأى في المنام ذلك وإنما رأى مباشرة فعل الذبح فتكون العبارة عنه أذبحك لأن مثله ينبئ عن الحال فأما تسميته مصدقا للرؤيا فلأنه باشر فيما وسعه من أسباب الذبح وإمرار السكين على محل الذبح بطريق المبالغة مرارا وهذا هو مباشرة فعل الذبح من العبد فصار به ذابحا محققا لما أمر به فلذلك صح قوله تعالى قد صدقت الرؤيا فأما حصول حقيقة الذبح فلم يكن في وسعه إذ المتولدات تحدث بخلق اللّه تعالى على أنا نسلم نسخ محلية الذبح في الولد بصيرورة الشاة فداء عنه ولكن لا نسلم انتساخ الأمر والإضافة بل نقول بعد صيرورة الشاة فداء بقي الأمر مضافا إلى ولد حرام ذبحه وحكم ذلك الأمر وجوب ذبح الشاة وبقي الولد محلا لإضافة الإيجاب إليه وقد انتسخت محلية الفعل لا محلية الإضافة كذا في الأسرار والطريقة البرغرية واللّه أعلم (٣/٢٥٢) باب بيان الشرط اعلم أن للنسخ شروطا بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه أما المتفق عليه فكون الناسخ والمنسوخ حكمين شرعيين فإن العجز والموت كل واحد يزيل التعبد الشرعي ولا يسمى نسخا وكذا إزالة الحكم العقلي بالحكم الشرعي لا يسمى نسخا وكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ متأخرا عنه فإن الاستثناء والغاية لا يسميان نسخا وقد تضمن التعريفات المذكورة للنسخ هذه الشروط وأما المختلف فيه فاشتراط كون الناسخ والمنسوخ من جنس واحد واشتراط البدل للمنسوخ واشتراط كونه أخف من المنسوخ أو مثله فإنها شرط لصحة النسخ عند قوم على ما سيأتيك بيانها بعد ومن الشروط المختلف فيها التمكن من الفعل الذي تضمنه هذا الباب فهو ليس بشرط لصحته عند أكثر الفقهاء وعامة أصحاب الحديث وذهب جماهير المعتزلة إلى أنه شرط وإليه ذهب بعض أصحابنا وأبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد بن حنبل ومعنى التمكن من الفعل أن يمضي بعدما وصل الأمر إلى المكلف زمان يسع الفعل المأمور به قوله وحاصل الأمر أي حاصل الخلاف أن حكم النسخ عندنا بيان لمدة عمل القلب والبدن تارة ولعمل القلب بانفراده وهو العقد أخرى وعمل القلب هو المحكم في هذا أي اشتراط التمكن من الاعتقاد وكون النسخ بيانا لمدته هو الأمر الأصلي الذي لا يحتمل السقوط والتغير لأنه لازم على كل التقادير والآخر أي التمكن من العمل من الزوائد أي يحتمل أن يكون النسخ بيانا للمدة فيه ويحتمل أن لا يكون وهذا بمنزلة التصديق والإقرار في الإيمان فإن الأول ركن أصلي دائم لا يحتمل السقوط بحال والثاني ركن زائد (٣/٢٥٣) لا يشترط دوامه ويسقط في بعض الأحوال وعندهم هو أي النسخ بيان مدة العمل بالبدن أي بيان مدة الحكم في حق العمل بالبدن وذلك لا يتحقق إلا بعد الفعل أو التمكن منه حكما لأن الترك بعد التمكن منه تفريط من العبد فلا ينعدم به معنى بيان مدة حكم العمل بالنسخ وصورة المسألة على وجهين أحدهما أن يرد الناسخ بعد التمكن من الاعتقاد قبل دخول وقت الواجب كما إذا قيل في رمضان حجوا هذه السنة ثم قيل في آخره لا تحجوا أو قيل صوموا ثم قيل قبل انفجار الصبح لا تصوموا والثاني أن يرد بعد دخول وقته قبل انقضاء زمان يسع الواجب كما إذا قيل لإنسان اذبح ولدك فبادر إلى أسبابه فقبل إحضار الكل قيل له لا تذبحه أو شرع في الصوم في قوله صم غدا فقيل له قبل انقضاء اليوم لا تصم هكذا ذكر في الميزان وعامة نسخ أصول الفقه قال صاحب الميزان هذه مسألة مشكلة ودلائل الخصوم ظاهرة لو بنيت المسألة على أن حكم الأمر وجوب الفعل إذ وجوب الفعل في زمان لا يتمكن فيه من الفعل تكليف ما لا يطاق وكذا لو بنيت على وجوب الاعتقاد لأنه يقال يجب عليه اعتقاد فعل واجب أو غير واجب والأول باطل لأن الفعل لا يجب بالإجماع وإيجاب اعتقاد ما ليس بواجب واجبا محال من الشرع وكذا إيجاب اعتقاد فعل غير واجب محال أيضا ولكن المسألة مبنية على أن الأمر صحيح وإن لم يتعلق به وجوب الفعل ولا وجوب الاعتقاد حقيقة عند اللّه تعالى فإن أمر اللّه تعالى أزلي عندنا وتعلقه بالمأمور يقتضي أن يكون فيه فائدة في الجملة فإن الأمر بما لا يريد اللّه تعالى وجوده جائز عندنا لفائدة الوجوب في الجملة فكذا إذا لم يرد به الوجوب أيضا لكن فيه نوع فائدة يصح الأمر وهاهنا كذلك فإن المأمور إذا كان لا يعلم بحدوث النسخ ويبني الأمر على ظاهر الأمر في حق وجوب العمل يعتقده ظاهرا ويعزم على الأداء ويهيئ أسبابه ويظهر الطاعة من نفسه فيتحقق الابتلاء إن كان اللّه تعالى عالما بأنه لا يجب عليه الفعل وهذا في الأمر بذبح الولد أظهر فإنه لما اشتغل بأسباب الذبح وانقاد لحكم اللّه تعالى الثابت ظاهرا تعظيما لأمره يظهر منه الطاعة فكان النسخ مفيدا في حق المأمور وصحة الأمر لفائدة المأمور لا غير أو لما حسن منه العزم والاعتقاد واشتغل بأسبابه اجتزئ بذلك منه بفضل اللّه تعالى وكرمه وجعل قائما مقام حقيقة الفعل في حق الثواب فيصير كأن النسخ ورد بعد وجود الفعل تقديرا هذا طريق تخريج هذه المسألة قوله قالوا أي الخصوم إنما يشترط التمكن من العمل لأن العمل بالبدن هو (٣/٢٥٤) المقصود بكل أمر ونهي نصا أي العمل هو المقصود بكل أمر والمنع من العمل هو المقصود بكل نهي لأن صيغة الأمر والنهي بصريحهما تدلان على وجوب الفعل والمنع عنه لدلالتهما على المصدر لا على العزم والقصد والمنع منه فيقتضي كون الفعل والامتناع عنه هو المقصود بالأوامر والنواهي حسن الفعل بالأمر وقبحه بالنهي يعني لما كان الفعل هو المأمور به والمنهي عنه اقتضى ذلك أن يكون نفس الفعل حسنا إذا ورد الأمر به وذاته قبيحا إذا ورد النهي عنه والنسخ قبل التمكن من الفعل يؤدي إلى اجتماعهما في شيء واحد في وقت واحد لأنه إذا أمر بشيء في وقت دل ذلك على حسن ذلك الشيء في ذلك الوقت وإذا نهي عن ذلك الشيء في ذلك الوقت دل على قبحه في ذلك الوقت لكون الحسن والنسخ من ضرورات الأمر والنهي وقد علمت أن اجتماعهما في وقت واحد لشيء واحد محال فكان القول بجواز النسخ الذي يؤدي إليه فاسدا وكان هذا النسخ من باب البداء والغلط الذي هو على صاحب الشرع محال نبينه أن الشارع إذا أمر في صبيحة يوم بأداء ركعتين عند غروب الشمس بطهارة ثم عند الزوال نهى عن أدائهما عند الغروب بطهارة كان الأمر والنهي متناولا فعلا واحدا على وجه واحد في وقت واحد وقد صدر عن مكلف واحد إلى مكلف واحد وفي تناول النهي لما تناوله الأمر على الحد الذي تناوله دليل على البداء والغلط لأنه إنما ينهى عما أمر بفعله إذا ظهر له من حال المأمور ما لم يكن معلوما له حين أمر به لعلمنا أنه بالأمر إنما طلب من المأمور اتحاد الفعل بعد التمكن منه لا قبله إذ التكليف لا يكون إلا بحسب الوسع والبداء على اللّه تعالى لا يجوز قالوا ولا معنى لقولكم إن صحة الأمر مبنية على الإفادة وقد أفاد اعتقاد الوجوب والعزيمة على الفعل فيجوز نسخه ولا يلزم منه بداء لأن المسألة مصورة فيما إذا كان النهي تناول عين المأمور به والأمر تناول الفعل فلو جوزنا نسخه قبل وقت الفعل لم يبق للأمر فائدة فيما وضع الأمر له فأما اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل فليس الأمر بموضوع لهما فلا يدل الأمر عليهما بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز أيضا لأن قوله افعلوا لا يصلح عبارة عن اعزموا واعتقدوا بوجه فثبت أن الأمر أمر بالفعل لا غير فكان النسخ قبل وقت الفعل مؤديا إلى سقوط الفائدة عن الأمر وإلى البداء والحجة لعامة العلماء السنة والدليل المعقول أما السنة كما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر بخمسين صلاة ليلة المعراج ثم نسخ ما زاد على الخمس وكان ذلك نسخا قبل التمكن من الفعل إلا أنه كان بعد عقد القلب عليه فدل وقوعه على الجواز وزيادة فإن قيل هذا خبر غير ثابت والمعتزلة ينكرون المعراج (٣/٢٥٥) أصلا ومن أقر به منهم ومن غيرهم يقولون لم يرو في حديث المعراج ذكر نسخ خمسين صلاة بخمس صلوات وذلك شيء زاده القصاص فيه كما زادوا غيره والدليل عليه أنه لا بد فيه من التمكن من الاعتقاد وكان الأمر بخمسين صلاة على ما زعمتم للأمة لا للنبي عليه السلام خاصة ولم يوجد التمكن من الاعتقاد للأمة لأنه لا يتصور قبل العلم ولئن سلمنا أنه ثابت فهو مخالف للدليل العقلي الذي بينا ومن شرط قبول الخبر أن لا يخالف الدليل العقلي ولئن سلمنا أنه ليس بمخالف له فلا نسلم أن ذلك كان فرضا بطريق العزم بل فوض ذلك إلى رأي رسوله ومشيئته فإذا اختار الخمس تقرر الفرض قلنا الحديث ثابت مشهور تلقته الأمة بالقبول وهو في معنى التواتر فلا وجه إلى إنكاره وأهل النقل وناقدوا الحديث كما رووا أصل المعراج رووا فرض خمسين صلاة ونسخها بخمس وذلك مذكور في الصحيحين وغيرهما من كتب الأحاديث فوجب قبوله كما وجب قبول أصل المعراج ولم يجز القول بكونه من زيادات القصاص قال عبد القاهر البغدادي وليس إنكار القدرية المعراج إلا كإنكارهم خبر الرؤية والقدر وأخبار الشفاعة وعذاب القبر والحوض والميزان والخبر صحيح لا يرد بطعن مخالفة من أهل الأهواء كما لم يرد خبر المسح على الخفين بطعن الروافض والخوارج فيه وكما لم يرد خبر الرجم بإنكار الخوارج الرجم وهو ليس بمخالف للدليل العقلي على ما نبينه وقولهم لم يوجد التمكن من الاعتقاد في حق الأمة فاسد لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الأصل لهذه الأمة وقد وجد منه عقد القلب على ذلك قال أبو اليسر رحمه اللّه ظهر في الانتهاء أن المبتلى بالقبول والاعتقاد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم دون أمته وإنه كان مبتلى بالقبول في حق نفسه وفي حق أمته فإنه عليه السلام يجوز أن يبتلى بأمته كما يبتلى بنفسه لتوفر شفقته على أمته كشفقة الأب على الولد والأب يبتلى بالولد كما يبتلى بنفسه وقولهم لم يكن ذلك فرضا عزما كلام فاسد لأنه ثبت في الحديث أنه سأل التخفيف على أمته غير مرة وكان موسى عليهما السلام يحثه على ذلك وما زال يسأل ذلك ويجيبه ربه إليه حتى انتهى لخمس فقيل له لو سألت التخفيف أيضا فقال أنا أستحي فتبين أن ذلك لم يكن مفوضا إلى اختياره بل كان نسخا على وجه التخفيف بسؤاله بعد الفرضية وقد تمسك عامة الأصوليين بقصة إبراهيم عليه السلام فإن الأمر بذبح الولد قد نسخ قبل التمكن من الفعل بطريق التحويل إلى الشاة كنسخ التوجه من بيت المقدس إلى الكعبة وقد مر الكلام فيه قوله ولأن النسخ بيان للدليل المعقول وتقريره أن النسخ جائز بالإجماع بعد (٣/٢٥٦) وجود جزء من الفعل أو مدة تصلح للتمكن من جزء منه يعني إذا أمر بالفعل مطلقا بأن قيل افعلوا كذا في مستقبل أعماركم يجوز نسخه بالنهي عنه بعد وجود أصل الفعل الذي هو جزء مما تناوله مطلق الأمر أو بعد مضي جزء من الزمان يسع أصل الفعل ولولا النسخ لكان الأمر متناولا جميع العمر وليس المراد منه أن الأمر إذا ورد بفعل مثل أن يقال صلوا ركعتين أو صوموا غدا فبعد أداء جزء من الصلاة أو جزء من الصوم أو بعد مضي زمان يسع جزءا من الصلاة والصوم يجوز نسخه بالإجماع على ما يوهم ظاهر الكلام لأن ذلك من الصور المتنازع فيها بل المراد ما ذكرنا لأن الأدنى يصلح مقصودا يعني إنما صح النسخ بعد ما ذكرنا لأن الأدنى أي أدنى ما ينطبق عليه اسم ذلك الفعل يصلح أن يكون مقصودا بالابتلاء ولا يؤدي ذلك النسخ إلى البداء والجهل بعاقبة الأمر فكذا عقد القلب على حسن المأمور به وحقيته أي وجوبه وثبوته يصلح أن يكون مقصودا بالابتلاء منفصلا عن الفعل أي بدون الفعل وكان النسخ بعد عقد القلب على الحكم وحقيته قبل التمكن من الفعل بيانا أن المراد كان عقد القلب عليه إلى هذا الوقت واعتقاد الفرضية فيه دون مباشرة العمل وهذا في الحقيقة استدلال بجواز أصل النسخ على جوازه قبل التمكن من الفعل وعبارة بعض المشايخ فيه أن الدليل لما قام على جواز النسخ دل ذلك على جوازه قبل وقت الفعل إذ لا فرق بين أن ينسخ قبل وقت الفعل أو بعد وقته لأنه يجوز أن يكون المراد بالأمر اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل إذا حضر وقته ويكون الابتلاء بهذا القدر وهذا ابتلاء صحيح لأن الإيمان رأس الطاعات فيجوز أن يبتلي اللّه تعالى عباده بقبول هذه العبادة إيمانا ولا يلزم منه البداء والدليل عليه أن الأمر كما يسقط عن المأمور بنسخه يسقط عنه بموته وعجزه عن الفعل ثم إذا لم يكن مستحيلا أن يؤمر بالشيء ثم لا يصل إلى فعله بعارض من عجز يحول بينه وبين المأمور به أو موت يقطعه عنه وقد يؤمر المسلم بقتل الكافر فيتوجه إليه بسيفه ثم يقتل قبل أن يصل إليه أو يصيبه آفة تحول دون قصده لا يستحيل أن لا يصل إلى فعله بعارض النسخ أيضا يوضحه أنه لو قرن البيان صريحا بالأمر بأن قال افعل كذا في وقت كذا إن لم أنسخه عنك صح ذلك واستقام كما لو قال افعل في وقت كذا إن تمكنت منه وتكون الفائدة في الحال هي القبول بالقلب واعتقاد الحقية فكذلك يصح بعد الأمر بطريق النسخ (٣/٢٥٧) قوله ولأن الفعل لا يصير قربة دليل آخر على صلاحية الاعتقاد مقصودا بدون الفعل وهو يتضمن إبطال قول الخصم أن الفعل هو المقصود لا غير وبيانه أن الفعل لا يصير قربة أي سبب نيل الثواب إلا بعزيمة القلب بالاتفاق ولقوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات وعزيمة القلب قد تصير قربة بدون الفعل بدليل قوله عليه السلام من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة الحديث والفعل في احتمال السقوط فوق العزيمة فإن الإقرار الذي هو فعل يحتمل السقوط وكذا الطاعات التي هي من أفعال الجوارح مع كونها من أركان الإيمان عند قوم تحتمل السقوط بعوارض والتصديق الذي هو عزيمة القلب لا يحتمل السقوط بحال ولهذا كان ترك العزيمة أي ترك الاعتقاد كفرا وترك العمل فسقا فإذا كان كذلك أي كان الشأن كما ذكرنا صلح أن يكون عقد القلب مقصودا بالابتلاء دون الفعل لكونه أهم ولا يكون ذلك بداء ألا ترى أن الواحد منا قد يأمر عبده بشيء ومقصوده من ذلك أن يظهر عند الناس حسن طاعته وانقياده له ثم ينهاه عن ذلك بعد حصول هذا المقصود قبل أن يتمكن من مباشرة الفعل ولا يجعل ذلك دليل البداء وإن كان الآمر ممن يجوز عليه البداء فلأن لا يجعل النسخ قبل التمكن من الفعل بعد عزم القلب واعتقاد الحقية موهما للبداء في حق من لا يجوز عليه البداء أولى قوله ألا ترى أن غير الحسن لا يثبت توضيح لصلاحية الاعتقاد مقصودا وجواب عن لزوم اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد يعني لا يثبت حقيقة الحسن للفعل المأمور به بالتمكن من الفعل قبل وجوده لأن الحسن صفة له فلا يتحقق قبل وجوده ولا بد للنسخ من تحقق المأمور به ليكون الناسخ بيانا لانتهاء حسنه ومثبتا لقبح ما يتصور من أمثاله في المستقبل ثم لما جاز النسخ بالإجماع بعد التمكن من الفعل قبل حصول حقيقته لا بد من أن يكون صحته مبنية على كون الاعتقاد مقصودا بالأمر كالفعل ليصلح الناسخ بيانا لانتهاء حسنه إذ لم يصلح أن يكون بيانا لانتهاء حسن الفعل لاستحالة انتهاء الشيء قبل وجوده ولما جاز ذلك بعد التمكن لما ذكرنا ولم يلزم منه بداء واجتماع الحسن والقبح في شيء واحد جاز قبل التمكن أيضا لوجود هذا المعنى (٣/٢٥٨) وقوله وقول القائل كذا جواب عن قولهم الفعل هو المقصود أي إذا قال افعلوا على سبيل الطاعة يكون أمرا بعقد القلب كما هو أمر بالفعل لأن الطاعة لا يتصور بدون عقد القلب على حقية المأمور به فكان الأمر موجبا للعقد والفعل جميعا فيجوز أن يكون أحد الأمرين وهو العقد مقصودا لازما لكونه أهم والآخر وهو الفعل مترددا بين أن يكون مقصودا وبين أن لا يكون كذلك وتبين بما ذكرنا أن الفعل بعينه ليس بمقصود في أوامر اللّه تعالى بل المقصود هو الابتلاء ولا يحصل الابتلاء إلا بكون وجوب الاعتقاد من مواجب الأمر ولهذا لو فعل المأمور به ولم يعتقد وجوبه لا يصح فعله فكان هو مقصودا لازما بخلاف أوامر العباد فإن المقصود منها ليس إلا طلب الفعل لأنها لا تكون بطريق الابتلاء وإنما تكون لجر النفع وذلك يحصل بالفعل لا بعقد القلب فإن قيل الابتلاء كما يحصل بوجوب العقد يحصل بوجوب الفعل فكان كلاهما مقصودا قلنا نعم من حيث الظاهر كلاهما مقصود ولكن تبين بالنسخ المراد كان هو الابتلاء بالاعتقاد كما إذا نسخ بعد الفعل مرة وقد كان الأمر مطلقا يتبين أن الابتلاء كان بالفعل مرة أو مدة الفعل كانت مقصورة على هذا الزمان وإن كان مطلق الأمر يتناول الأزمنة كلها بدليل أنه لو لم يرد النسخ وجب الفعل في الأزمنة كلها بقضية الأمر واللّه أعلم (٣/٢٥٩) |