Geri

   

 

 

İleri

 

باب ما يلحقه النكير من قبل راويه

النكير اسم للإنكار أي يلحقه إنكار من قبل المروي عنه ويسمى راويا باعتبار نقله الحديث عن النبي عليه السلام أو عن غيره ومن قبل عينه باعتبار نقل السامع عنه وفي الصحاح النكير والإنكار تغير المنكر فكأن المروي عنه بالطعن والتكذيب يغير المنكر الذي ارتكبه الراوي على زعمه

قوله أما إذا أنكره المروي عنه الرواية فقد اختلف السلف فيه ذكر الاختلاف في هذا الفصل مطلقا وهو على وجهين أما إن أنكر المروي عنه إنكار جاحد مكذب بأن قال ما رويت لك هذا الحديث قط أو كذبت علي أو أنكره إنكار متوقف بأن قال لا أذكر أني رويت لك هذا الحديث أو لا أعرفه ونحو ذلك ففي الوجه الأول يسقط العمل به بلا خلاف لأن كل واحد من الأصل والفرع مكذب للآخر فلا بد من كذب واحد غير معين وهو موجب للقدح في الحديث ولكن لا يقدح ذلك في عدالتهما للتيقن بعدالة كل واحد ووقوع الشك في زوالها فلا يترك اليقين بالشك كبينتين متكافئتين متعارضتين لم تقبلا ولم تسقط عدالتهما وفائدته تظهر في قبول رواية كل واحد منهما في غير ذلك الخبر كذا في عامة نسخ الأصول وذكر في القواطع إذا جحد المروي عنه وكذب بالحديث سقط الحديث هكذا ذكره الأصحاب وأقول يجوز أن لا يسقط لأنه قال ما قال بحسب ظنه

وإن قال ما رويته أصلا فيعارضه قول الراوي إنه سمعه منه وكل واحد منهما ثقة ويجوز أن يكون المروي عنه رواه ثم نسيه فلا يسقط رواية الراوي بعد أن يكون ثقة

وأما في الوجه الثاني فقد اختلف فيه فذهب الشيخ أبو الحسن الكرخي وجماعة من أصحابنا وأحمد بن

(٣/٩٢)

حنبل في رواية عنه إلى أن العمل يسقط به كما في الوجه الأول وهو مختار القاضي الإمام والشيخين وبعض المتكلمين وذهب مالك والشافعي وجماعة من المتكلمين إلى أنه لا يسقط العمل به كما لو لم ينكر وما قيل إن على قياس قول علمائنا ينبغي أن لا يبطل الخبر بإنكار راوي الأصل وعلى قول زفر يبطل بناء على أن زوج المعتدة لو قال أخبرتني أن عدتها قد انقضت وقد أنكرت المرأة الإخبار فعندنا يجوز العمل به بعد إنكارها حتى يحل له التزوج بأختها وأربع سواها وعند زفر رحمه اللّه لا يبقى معمولا به إلا في حقها حتى حل له نكاح الأخت والأربع ولم يحل لها التزوج بزوج آخر وهو غير صحيح لأن جواز نكاح الأخت والأربع له باعتبار ظهور انقضاء العدة في حقه بقوله لكونه أمينا في الإخبار عن أمر بينه وبين ربه لا لاتصال الخبر بها وإسناده إليها ولهذا لو قال انقضت عدتها ولم يضف الخبر إليها كان الحكم كذلك في الصحيح من الجواب كذا قال شمس الأئمة رحمه اللّه

واحتج من قبله بما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم صلى بنا صلاة العصر فسلم في ركعتين فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان وفي القوم أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال يا رسول اللّه أقصرت الصلاة أم نسيت فقال كل ذلك لم يكن فقال قد كان بعض ذلك فأقبل على الناس فقال أحق ما يقوله ذو اليدين فقالا نعم فقام وأتم صلاته أربع ركعات والاستدلال به أن النبي عليه السلام رد حديث ذي اليدين ثم لم يرد حديثه حتى عمل بقول الناس أو بقول أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما بناء على خبره فلو لم يبق حجة بعد الرد لما عمل به عليه السلام

(٣/٩٣)

هكذا ذكر في نسخة من أصول الفقه وأظنها للشيخ

قال الواقدي اسم ذي اليدين عمرو بن عبد ود وقيل اسمه عبد عمرو بن نضلة وقيل اسمه ذو الشمالين استشهد يوم بدر وقال القتبي ذو الشمالين الذي استشهد يوم بدر غير ذي اليدين واسم ذو اليدين عمير بن عبد عمرو وقال القتبي سمي بذلك لأنه كان يعمل بيديه جميعا وقيل لقبه الخرباق وبأن حال كل واحد منهما محتملة فإن حال المدعي يحتمل السهو والغلط وحال المنكر يحتمل النسيان والغفلة إذ النسيان قد يروي شيئا لغيره ثم ينسى بعد مدة فلا يتذكره أصلا وكل واحد منهما عدل ثقة فكان مصدقا في حق نفسه ولا يبطل ما ترجح من جهة الصدق في خبر الراوي بعدالته بنسيان الآخر كما لا يبطل بموته وجنونه فحل للراوي الرواية

وهذا بخلاف الشهادة على الشهادة فإن الأصل إذا أنكر لا يحل للفرع الشهادة لأن مبناها على التحميل فإذا أنكر الأصل سقط التحميل وبقي العلم فلا يحل له الشهادة فأما الرواية فمبنية على السماع دون التحميل

ألا ترى أنه لو سمع الحديث ولم يحمله المحدث ولم يعلم بسماعه حل للسامع الرواية عنه فإذا أنكرها والمدعي مصدق في حق نفسه بقي السماع فحل له الرواية كذا في شرح التقويم واحتج من رده بما روي عن عمار بن ياسر أنه قال لعمر رضي اللّه عنهما وكان لا يرى التيمم للجنب أما تذكر إذ كنا في إبل يعني إبل الصدقة وفي بعض الروايات في سرية فأجنبت فتمعكت في التراب أي تمرغت فصليت فذكرت ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تمسح بهما وجهك وذراعيك فلم يرفع عمر رضي اللّه عنه رأسه ولم يقبل روايته مع أنه كان عدلا لأنه روى عنه شهود الحادثة ولم يتذكر هو ما رواه وكان لا يرى التيمم للجنب بعد ذلك وبأن بتكذيب العادة يرد الحديث بأن كان الخبر غريبا في حادثة مشهورة

(٣/٩٤)

فبتكذيب الراوي أولى لأن تكذيبه أدل على الوهن من تكذيب العادة لأنه يدور عليه وهو تكذيب صريحا وذلك تكذيب دلالة والصريح راجح على الدلالة وحقيقة المعنى فيه أن الخبر إنما يكون حجة ومعمولا به بالاتصال بالرسول صلى اللّه عليه وسلم وبإنكار الراوي ينقطع الاتصال لأن إنكاره حجة في حقه فينتفي به رواية الحديث أو يصير هو مناقضا بإنكاره ومع التناقض لا تثبت الرواية وبدون الرواية لا يثبت الاتصال فلا يكون حجة كما في الشهادة على الشهادة وبأنه إذا لم يتذكر بالتذكير كان مغفلا ورواية المغفل لا تقبل وبأن أكثر ما في الباب أن يصدق كل واحد منهما في حق نفسه فيحل للراوي أن يعمل به ولا يحل لغيره لتحقق الانقطاع في حق غيره بتكذيب المروي عنه

وأما حديث ذي اليدين فليس بحجة لأنه محمول على أن النبي عليه السلام تذكر أنه ترك الشفع من الصلاة لأنه معصوم عن التقرير على الخطأ يعمل بعلمه لا بإخبار أحد

ألا يرى أنه لو لم يتذكر واحد بقولهما لكان هذا تقليدا منه فإنه لما لم يتذكر لا يحصل له العلم والعمل بدون العلم بناء على قول الغير تقليدا وتقليده للأنبياء غير جائز فكيف يجوز لغير الأنبياء أو تذكر غفلته عن حاله لشغل

قلب اعترض فيعرف عن غيره وعلى هذا يجوز أن يقال في الخبر إن راوي الأصل ينظر في نفسه فإن كان رأيه يميل إلى غلبة نسيان أو كانت عادته ذلك في محفوظاته قبل رواية غيره عنه وإن كان رأيه يميل إلى جهله أصلا بذلك الخبر رده وقلما ينسى الإنسان شيئا ضبطه نسيانا لا يتذكر بالتذكير والأمور تبنى على الظواهر لا على النوادر كذا في التقويم

قوله والحاكي يحتمل النسيان جواب عن قولهم النسيان محتمل من المروي عنه يعني كما يتوهم نسيان الأصل بعد المعرفة يتوهم نسيان الفرع وغلطه فإن الإنسان قد يسمع حديثا فيحفظه ولا يحفظ من سمع منه ويظن أنه سمعه من فلان وقد سمعه من غيره وإذا كان كذلك يثبت المعارضة لتساويهما في الاحتمال فلم يثبت

أحدهما يدل عليه أن الإنسان كما يعلم بسماعه عن أمر يقين يعلم بتركه الرواية عن سبب يقين فلا فرق بينهما بوجه كذا في التقويم أيضا لكن هذا إنما يستقيم فيما إذا كان إنكار الأصل إنكار جحود والخصوم قد سلموا فيه أنه مردود فأما إذا كان إنكاره إنكار متوقف وهو الذي وقع التنازع فيه فلا يستقيم لأن الفرع عدل جازم بروايته عن الأصل والأصل ليس بمكذب له لأنه يقول لا أدري فلا يكون الاحتمال في الفرع مثل الاحتمال في الأصل بل الاحتمال في الأصل أقوى فلا يتحقق المعارضة فوجب قبول رواية الفرع حينئذ لحصول غلبة الظن بصدقه وسلامته عن المعارضة

وذكر في المحصول في هذه المسألة أن

(٣/٩٥)

راوي الفرع إما أن يكون جازما بالرواية أو لا يكون فإن كان جازما فالأصل إما أن يكون جازما بالإنكار أو لا يكون فإن كان الأول فقد تعارضا فلا يقبل الحديث وإن كان الثاني فإما أن يقول الأغلب على الظن أني رويته أو الأغلب أني ما رويته أو الأمران على السواء أو لا يقول شيئا من ذلك ويشبه أن يكون الخبر مقبولا في كل هذه الأقسام لكون الفرع جازما وإن كان الفرع غير جازم بل يقول أظن أني سمعته منك فإن جزم الأصل أبى ما رويته لك تعين الرد وإن قال أظن أني ما رويته لك تعارضا والأصل العدم وإن ذهب إلى سائر الأقسام فالأشبه قبوله والضابط أنه إذا كان قول الأصل معادلا لقول الفرع تعارضا وإذا ترجح

أحدهما على الآخر فالمعتبر هو الراجح

قوله ومثال ذلك أي مثال الحديث الذي أنكره المروي عنه حديث ربيعة بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قضى بشاهد ويمين فإن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال لقيت سهيلا فسألته عن رواية ربيعة عنه هذا الحديث فلم يعرفه وكان يقول بعد ذلك حدثني ربيعة عني فأصحابنا لم يقبلوا هذا الحديث لانقطاعه بإنكار سهيل وتمسك به بعض من قبل هذا النوع فقال لما قال سهيل حدثني ربيعة عني وشاع وذاع ذلك بين أهل العلم ولم ينكر عليه أحد فكان ذلك إجماعا منهم على قبوله وهذا فاسد لأنه ليس فيه ما يدل على وجوب العمل به غايته أنه يدل على جواز أن يقول الأصل بعد النسيان حدثني الفرع عني وهو لا يستلزم وجوب العمل به ولا جوازه

قوله ومثل حديث عائشة روى سليمان بن موسى لعبد الملك بن بنذر عن محمد بن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل الحديث

فذكر ابن جريج أنه سأل عنه ابن شهاب فلم يعرفه كذا ذكره يحيى بن معين عن ابن أبي علية عن ابن جريج فلما رده المروي عنه وهو الزهري لم يقم به الحجة عند أبي حنيفة وأبي يوسف ويجوز أن

(٣/٩٦)

يكون قول محمد رحمه اللّه في هذا الأصل على خلاف قولهما كما دل عليه مسألة الشاهدين شهدا على القاضي يقضيه وهو الظاهر ويجوز أن يكون على وفاق قولهما إلى أنه لم يجوز النكاح بغير ولي لأحاديث أخر ورد فيه مثل

قوله عليه السلام لا تنكح المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تنكح نفسها

وقوله عليه السلام كل نكاح لم يحضره أربع فهو سفاح خاطب وولي وشاهدا عدل

وقوله عليه السلام لا نكاح إلا بولي ونحوها إلا أن تلك الأحاديث عندهما غير معمول بها لمعارضتها بأحاديث أخر مثل ما روى ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها وما روي عن علي رضي اللّه عنه أن امرأة زوجت ابنتها برضاها فجاء أولياؤهما فخاصموها إلى علي فأجاز النكاح

وقوله عليه السلام ليس للولي مع الثيب أمر وغيرها من الأحاديث التي ذكرت في الأسرار وشرح الآثار والمبسوط ورأيت في نسخة نقلا عن خط الشيخ الإمام سيف الحق والدين الباخرزي رحمه اللّه أن مدار حديث أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها على سليمان بن موسى الدمشقي صاحب المناكير ضعفه محمد بن إسماعيل ثم السؤال إذا كان بمعنى الالتماس يتعدى إلى مفعوليه بنفسه يقال سألته الرغيف وإذا كان بمعنى الاستفسار يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بعن قال اللّه تعالى ويسألونك عن الجبال واسألهم عن القرية فعرفت بهذا أن كلمة عن في

قوله عن الزهري لم يقع موقعها وأن الضمير في

قوله وسأله ابن جريج كما وقع في بعض النسخ لا وجه له بل الصواب وسأل ابن جريج الزهري عن هذا الحديث

(٣/٩٧)

قوله ومثال ذلك أي مثال إنكار المروي عنه في غير الأحاديث ما روي أن أبا يوسف كان يتوقع من محمد رحمهما اللّه أن يروي عنه كتابا فصنف محمد كتاب الجامع الصغير وأسنده إلى أبي حنيفة بواسطة أبو يوسف رحمهم اللّه فلما عرض على أبي يوسف استحسنه

وقال حفظ أبو عبد اللّه إلا مسائل خطأه في روايتها عنه فلما بلغ ذلك محمدا قال بل حفظتها ونسي هو فلم يقبل أبو يوسف شهادة محمد على نفسه لما لم يذكره ولم يعتمد على إخباره عنه وصحح ذلك محمد أي أصر على ما روي ولم يرجع عنه بإنكاره فهذا يدل على أن عند محمد رحمه اللّه لا يسقط الخبر بإنكار المروي عنه وهو الظاهر من مذهبه واختلف في عدد تلك المسائل فقيل هي ثلاث وقيل هي أربع وقيل ست والاختلاف محمول على الاختلاف العرض وجميعها مذكور في أول شرح الجامع الصغير للمصنف رحمه اللّه

قوله وأما إذا عمل بخلافه عمل الراوي بخلاف الحديث الذي رواه أو فتواه بخلافه لا يخلو من أن يكون قبل روايته الحديث وقبل بلوغه إياه أو بعد البلوغ قبل الرواية أو بعد الرواية ولا يخلو كل واحد من أن يكون خلافا بيقين أي لا يحتمل أن يكون مرادا من الخبر بوجه أو لا يكون فإن كان قبل الرواية وقبل بلوغه إياه لا يوجب ذلك جرحا في الحديث بوجه لأن الظاهر أن ذلك كان مذهبه وأنه ترك ذلك الخلاف بالحديث ورجع إليه فيحمل عليه إحسانا للظن

ألا ترى أن بعض أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورضي عنهم كانوا يشربون الخمر بعد تحريمها قبل بلوغه إياهم معتقدين إباحتها فلما بلغهم انتهوا عنه حتى نزل قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح الآية وإن كان العمل أو الفتوى منه بخلاف الحديث بعد الرواية أو بعد بلوغه إياه وذلك خلاف يقين فإن ذلك أي الخلاف جرح فيه أي في الحديث لأن خلافه إن كان حقا بأن خالف للوقوف على أنه منسوخ أو ليس بثابت وهو الظاهر من حاله فقد بطل الاحتجاج به أي بالحديث لأن المنسوخ أو ما هو ليس بثابت ساقط العمل والاعتبار

وإن كان خلافه باطلا بأن خالف لقلة المبالاة والتهاون بالحديث أو لغفلة أو نسيان فقد سقطت به روايته لأنه ظهر أنه لم يكن عدلا وكان فاسقا أو ظهر أنه كان مغفلا وكلاهما مانع من قبول الرواية فإن قيل إنه إنما صار فاسقا بالخلاف مقتصرا عليه فلا يقدح ذلك في قبول ما روي قبله كما لو مات أو جن بعد الرواية قلنا قد بلغ الحديث إلينا بعدما ثبت فسقه

(٣/٩٨)

ولا بد في الرواية من الإسناد إليه فكان بمنزلة ما إذا رواه في الحل وهذا لأن العدالة أمر باطن لا يوقف عليه إلا بالاستدلال بالاحتراز عن محظور دينه فإذا لم يحترز ظهر أنها لم تكن ثابتة وقد روي عن غير واحد من أهل العلم مثل أحمد بن حنبل وابن المبارك وغيرهما أنه إن كذب في خبر واحد وجب إسقاط جميع ما تقدم من حديثه وهذا بخلاف الموت والجنون لأن الحياة والعقل كانا ثابتين قطعا فلا يظهر الموت والجنون عدمهما وإن لم يعرف تاريخه أي لا يعلم أنه عمل بخلافه قبل البلوغ إليه والرواية أو بعد واحد منها لا يسقط الاحتجاج به لأن الحديث حجة في الأصل بيقين وقد وقع الشك في سقوطه لأنه إن كان الخلاف قبل الرواية والبلوغ إليه كان الحديث حجة وإن كان بعد الرواية والبلوغ لم يكن حجة فوجب العمل بالأصل ويحمل على أنه كان قبل الرواية لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه

قوله وذلك مثل حديث عائشة أي الحديث الذي عمل الراوي بخلافه بعد الرواية مثل حديث عائشة الذي ذكره في الكتاب فإنها زوجت بنت أخيها حفصة بنت عبد الرحمن المنذر بن زبير وعبد الرحمن كان غائبا بالشام فلما قدم غضب وقال أمثلي يصنع به هذا ويفتات عليه فقالت عائشة رضي اللّه عنها أوترغب عن المنذر ثم قالت للمنذر لتملكن عبد الرحمن أمرها فقال المنذر إن ذلك بيد عبد الرحمن فقال عبد الرحمن ما كنت أرد أمرا قضيتيه فقرت حفصة عنده فلما رأت عائشة رضي اللّه عنها أن تزويجها بنت أخيها بغير أمره جائز ورأت ذلك العقد مستقيما حتى أجازت فيه التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح وثبوته استحال أن يكون ترى ذلك مع صحة ما روت فثبت فساد ما روي عن الزهري في ذلك كذا في شرح الآثار وذكر في غيره فلما أنكحت فقد جوزت نكاح المرأة نفسها دلالة لأن العقد لما انعقد بعبارة غير المتزوجة من النساء فلأن ينعقد بعبارتها أولى فيكون فيه عمل بخلاف ما روت أو يقال لما أنكحت فقد اعتقدت جواز نكاحها بغير إذن وليها بالطريق الأولى لأن من لا يملك النكاح لا يملك الإنكاح بالطريق الأولى ومن ملك الإنكاح ملك النكاح بالطريق الأولى

(٣/٩٩)

قوله ومثل حديث ابن عمر في رفع اليدين روى جابر عن سالم بن عبد اللّه أنه رفع يديه حذاء منكبيه في الصلاة حين افتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه فسأله جابر عن ذلك فقال رأيت ابن عمر رضي اللّه عنهما يفعل ذلك

وقال رأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم يفعل ذلك ثم روي عنه من فعله بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم خلاف ذلك على ما قال مجاهد صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى فعمله بخلاف ما روي لا يكون إلا بعد ثبوت نسخه فلا يقوم به الحجة فإن قيل ما ذكر مجاهد معارض بما ذكر طاوس أنه رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روي عنه عن النبي عليه السلام قلنا يجوز أنه فعل ذلك كما رواه طاوس قبل العلم بنسخه ثم تركه بعدما علم به وفعل ما ذكره عنه مجاهد وهكذا ينبغي أن يحمل ما روي عنهم وينفى عنهم الوهم حتى يتحقق ذلك وإلا سقط أكبر الروايات إليه أشير في شرح الآثار

قوله وأما عمل الراوي ببعض محتملاته أي محتملات الحديث بأن كان اللفظ عاما فعمل بخصوصه دون عمومه أو كان مشتركا أو بمعنى المشترك فعمل بأحد وجوهه فذلك رد منه لسائر الوجوه لكن لا يثبت الجرح في الحديث بهذا أي بعمل الراوي ببعض محتملاته وتعيينه ذلك لأن الحجة هي الحديث وبتأويله لا يتغير ظاهر الحديث واحتماله للمعاني لغة وتأويله لا يكون حجة على غيره كما لا يكون اجتهاده حجة في حق غيره فوجب عليه التأمل والنظر فيه فإن اتضح له وجه وجب عليه اتباعه وذلك أي الحديث الذي عمل الراوي ببعض محتملاته مثل حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا ليس في الحديث بيان ما وقع التفرق عنه فيحتمل أن يكون المراد منه التفرق بالأقوال فإن البائع إذا قال بعت والمشتري إذا قال اشتريت فقد تفرقا بذلك

(٣/١٠٠)

القول وانقطع ما كان لكل واحد منهما من خيار إبطال كلامه بالرجوع وإبطال كلام صاحبه بالرد وعدم القبول

وهذا التأويل منقول عن محمد رحمه اللّه ويحتمل التفرق بالأبدان وهو على وجهين

أحدهما أن الرجل إذا قال بعت عبدي بكذا فللمخاطب أن يقبل ما لم يفارق صاحبه فإذا افترقا لم يكن له أن يقبل وهو منقول عن أبي يوسف رحمه اللّه

والثاني ثبوت الخيار لكل واحد منهما بعد انعقاد البيع قبل أن يفترقا بدنا فإذا تفرقا سقط الخيار ويسمى ذلك خيار المجلس فحمل هذا الحديث راويه وهو ابن عمر رضي اللّه عنهما على الوجه الأخير ولهذا كان إذا بايع رجلا وأراد أن لا يقيله قام يمشي ثم يرجع وهذا الحديث في احتمال هذه المعاني المختلفة المذكورة بمنزلة المشترك وإن لم يكن مشتركا لفظا فلا يبطل هذا الاحتمال بتأويله وكان للمجتهد أن يحمله على وجه آخر بما اتضح له من الدليل

ومن ذلك أي من هذا القبيل حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من بدل دينه فاقتلوه أي دين الحق فكلمة من عامة تتناول الرجال والنساء وقد خصه الراوي بالرجال على ما روى أبو حنيفة رحمه اللّه بإسناده عن ابن عباس رضي اللّه عنهما لا تقتل المرتدة فلم يعمل الشافعي رحمه اللّه بتخصيصه لأن تخصيصه ليس بحجة على غيره وكان الشيخ أراد بإيراد هذا الحديث أن الشافعي رحمه اللّه يوافقنا في هذا الأصل إلا أنه خالفنا في حديث خيار المجلس وأثبت خيار المجلس لدلالة ظاهر الحديث عليه لا لتأويل ابن عمر كما خصصنا حديث ابن عباس رضي اللّه عنهم بالرجال لنهي النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قتل النساء مطلقا من غير فصل بين المرتدة وغيرها لا لتخصيص ابن عباس رضي اللّه عنهما هذا الحديث بالرجال والامتناع عن العمل به أي بالحديث مثل العمل بخلافه حتى يخرج به عن كونه حجة لأن ترك العمل بالحديث الصحيح حرام كما أن العمل بخلافه حرام والمراد بالامتناع هو أن لا يشتغل بالعمل بما يوجبه الحديث ولا بما يخالفه من الأفعال الظاهرة كما إذا لم يشتغل بالصلاة في وقت الصلاة ولا بشيء آخر حتى مضى الوقت كان هذا امتناعا عن أداء الصلاة لا عملا بخلافه ولو اشتغل بالأكل والشرب في وقت الصوم كان هذا عملا بخلافه إلا أن كليهما في التحقيق واحد لأن الترك فعل فكان الاشتغال به كالاشتغال بفعل آخر فيكون عملا بالخلاف أيضا ولهذا ذكر

(٣/١٠١)

شمس الأئمة رحمه اللّه ترك ابن عمر رضي اللّه عنهما العمل بحديث رفع اليدين في القبيلين

ورأيت في المعتمد لأبي الحسين البصري أنه حكى عن بعض أصحاب أبي حنيفة وغيرهم أن الراوي للحديث العام إذا خصه أو تأوله وجب المصير إلى تأويله وتخصيصه لأنه لمشاهدة النبي صلى اللّه عليه وسلم أعرف بمقاصده وقال أبو الحسن الكرخي المصير إلى ظاهر الخبر أولى ومنهم من جعل التمسك بظاهر الخبر أولى من تأويل الراوي إذا كان تأويله بخلاف ظاهر الخبر وإن كان تأويله أحد محتملي الظاهر حملت الرواية عليه وهو ظاهر مذهب الشافعي رحمه اللّه لأنه حمل ما رواه ابن عمر رضي اللّه عنهما من حديث الافتراق على افتراق الأبدان لأنه مذهب ابن عمر رضي اللّه عنهما وقيل إن لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه إلا أنه علم قصد النبي عليه السلام إلى ذلك التأويل ضرورة وجب المصير إلى تأويله وإن لم يعلم ذلك بل جواز أن يكون صار إلى ذلك التأويل لنص أو قياس وجب النظر في ذلك الوجه فإن اقتضى ما ذهب إليه الراوي وجب المصير إليه وإلا فلا وكذلك إذا علم أنه صار إلى ذلك التأويل لنص جلي لا مساغ للاجتهاد في خلافه وتأويله فإنه يلزم المصير إلى تأويل كما لو صرح بالرواية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك التأويل وإن كان الخبر مجملا وبينه الراوي فإن بيانه أولى واللّه أعلم

(٣/١٠٢)