Geri

   

 

 

İleri

 

باب محل الخبر

أي المحل الذي يقبل فيه خبر الواحد وكان يجب أن يقال فباب بالفاء للزومها في جواب أما لكن المشايخ قد تركوها كثيرا في كلامهم نظرا منهم إلى حصول المقصود وهو فهم المعنى ثم خبر الواحد لما لم يفد اليقين لا يكون حجة فيما يرجع إلى الاعتقاد لأنه مبني على اليقين وإنما كان حجة فيما قصد فيه العمل فقسم الشيخ ذلك على ما ذكر في الكتاب

قوله فمثل عامة شرائع العبادات أي مثل الشرائع التي هي من فروع الدين لا من أصوله سواء كانت ابتداء عبادة أو بناء عليها فإن خبر الواحد فيها حجة عند الجمهور وزعم بعض العلماء أنه لا يقبل فيما هو ابتداء عبادة ويقبل فيما هو فرع عليها فلا يقبل خبر الواحد مثلا في ابتداء نصاب الفصلان والعجاجيل لأنه أصل وابتداء عبادة ويقبل في النصاب الزائد على خمس أواق لأنه فرع وبناء على الأول ووجهه أن أصل العبادة من أركان الدين وقواعده فلا يجوز إثباته بدليل فيه شبهة فأما ما هو بناء عليه فيجوز أن يثبت بالقياس ووجه ما ذهب إليه العامة أن المقصود من العبادة المبتدأة لما كان هو العمل يجوز أن يثبت بالدليل الموجب للعمل كما يثبت ما هو مبني عليها به إذ الدلائل الموجبة للعمل بخبر الواحد لا يفصل بين ما هو ابتداء عبادة وبين ما هو فرع عليها والصحابة رضي اللّه عنهم كانوا يتقبلون أخبار الآحاد في الجميع من غير فصل وما شاكلها أي من الشرائع التي ليست بعبادة كالوضوء أو معنى العبادة فيها تابع كالعشر أو ليس بخالص كصدقة الفطر والكفارات وخبر الواحد فيها حجة لأن العبادة يجب مع الشبهات فيثبت

(٣/٤٠)

بخبر الواحد على ما قلنا أي بشرط رعاية ما قلنا من شرائطه من العدالة وعدم مخالفته الكتاب إلى آخر ما ذكرنا من غير اشتراط شيء آخر

وشرط بعضهم العدد أيضا فقالوا لا تقبل فيها إلا رواية العدلين استدلالا بأن النبي عليه السلام لم يقبل خبر ذي اليدين حتى شهد له غيره وأبو بكر رضي اللّه عنه لم يقبل خبر المغيرة في الجدة حتى شهد له محمد بن مسلمة ولم يعمل عمر بخبر أبي موسى رضي اللّه عنهما في الاستئذان وهو

قوله سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثة فلم يؤذن له فلينصرف حتى روى معه أبو سعيد الخدري رضي اللّه عنه واعتبار بالشهادة بل أولى لأن الرواية تقتضي شرعا عاما والشهادة شرعا خاصا فإذا لم يقبل قول الواحد في حق الإنسان الواحد فلأن لا يقبل في حق كل الأمة كان أولى

والحق أن العدد ليس بشرط كما ذهب إليه العامة لأن الأصل في قبول خبر الواحد إجماع الصحابة وأنهم قد عملوا بأخبار الآحاد من غير اشتراط عدد فإن أبا بكر عمل بخبر رواه بلال رضي اللّه عنهما وعمل عمر رضي اللّه عنه بخبر رواه حمل بن مالك في الجنين وبخبر عبد الرحمن رضي اللّه عنه في المجوس وعمل علي رضي اللّه عنه بخبر المقداد في المذي وعملوا جميعا بخبر عائشة رضي اللّه عنها في التقاء الختانين ولأن المعتبر فيه رجحان جانب الصدق لا انتفاء تهمة الكذب وذلك حاصل عند انعدام العدد ووجود الشرائط المذكورة وليس لزيادة العدد تأثير في انتفاء تهمة الكذب واشتراطه في الشهادة بالنص غير معقول المعنى فلا يلحق به غيره ألا ترى أنه لا يعتبر في الرواية سائر ما يعتبر في الشهادة من الحرية والذكورة والبصر وعدم القرابة فلا يعتبر العدد أيضا

وأما عدم اعتبار النبي عليه السلام خبر ذي اليدين فلقيام التهمة لأن الحادثة كانت في محفل عظيم والواجب في مثلها الاشتهار

وكذا ما نقل عن الصحابة من اعتبار العدد في بعض الصور فلقيام تهمة فيها أيضا مختصة بها فطلبوا العدد للاحتياط لا للاشتراط كما أن عليا رضي اللّه عنه كان يحلف الراوي للتهمة ثم عمل بخبر أبي بكر رضي اللّه عنه بدون التحليف لانتفاء التهمة فثبت أن ذلك كان بطريق الاحتياط ولو كان شرط لروعي في جميع الصور كما في باب الشهادة

(٣/٤١)

قوله فأما القسم الثاني إلى آخره ذهب جمهور العلماء إلى أن إثبات الحدود بأخبار الآحاد جائز وهكذا نقل عن أبي يوسف رحمه اللّه في الأمالي وهو اختيار أبي بكر الجصاص وأكثر أصحابنا

وذهب أبو الحسن الكرخي إلى أنه لا يجوز وإليه مال المصنف وشمس الأئمة على ما يدل عليه سياق كلامهما وهو مذهب أبي عبد اللّه البصري من المتكلمين تمسك الفريق الأول بأن الحدود شرع عملي من الشرائع فجاز إثباتها بخبر الواحد كسائر الشرائع وتحقق الشبهة في خبر الواحد غير مانع عن قبوله في هذا الباب كتحقق الشبهة في البينات لا يمنع من ذلك وهو معنى

قوله خبر الواحد يفيد من العلم ما يصح العمل به ألا ترى أنها يثبت بدلالة النص فإن الرجم في حق غير ماعز ثابت بالدلالة مع أن الدلالة دون الصريح لأنها غير ثابتة بالنظم ولبقاء الاحتمال فيها حتى ترجح الصريح عليها فعرفنا أن مجرد الاحتمال غير معتبر في هذا الباب واحتج الفريق الثاني بأن مبنى الحدود على الإسقاط بالشبهات بالنص وخبر الواحد فيه شبهة بالاتفاق فلا يجوز إثباتها به كما لا يجوز بالقياس فأما إثباتها بالبينات فجوز بالنص الموجب للعلم على خلاف القياس وهو قوله تعالى فاستشهدوا عليهن أربعة منكم وقد انعقد الإجماع على ذلك أيضا فكان ثبوتها مضافا إلى النص والإجماع فيجوز ومن رجح القول الأول قال خبر الواحد صار حجة بدلائل موجبة للعلم أيضا من إجماع الصحابة وسائر الدلائل التي مر تقريرها فكان مثل الشهادة من غير فرق فيثبت به الحدود ألا ترى أن القصاص يثبت بخبر الواحد فإن علماءنا تمسكوا في قتل المسلم بالذمي بخبر مرسل وهو ما روي أن النبي عليه السلام أقاد مسلما بكافر وقال أنا أحق بمن وفى ذمته

وثبت قتل الجماعة بالواحد بأثر عمر رضي اللّه عنه وهو دون خبر الواحد ولما ثبت القصاص به يثبت الحدود أيضا لأنه لا فرق بينهما من حيث إن كل واحد يسقط بالشبهة فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن يثبت بالقياس أيضا لأن وجوب العمل به ثابت بدلائل موجبة للعلم أيضا على ما يأتي بيانها إن شاء اللّه عز وجل وقد اتفق أصحابنا أنها لا يثبت

(٣/٤٢)

به قلنا عدم الثبوت به باعتبار أن العقوبة إنما تجب مقدرة مكيفة بحسب كل جناية ولا مدخل للرأي في معرفة ذلك فامتنع إثباتها به بخلاف خبر الواحد فإنه كلام صاحب الشرع وإليه إثبات كل حكم فيجب قبوله ثم استوضح القول الأخير وأكده بقوله ألا ترى أن أبا حنيفة رحمه اللّه لم يوجب الحد في اللواطة بالقياس يعني على الزنا بجامع أن في كل واحد منهما قضاء الشهوة بسفح الماء في محل مشتهى محرم من كل وجه ولا بالخبر الغريب وهو

قوله عليه السلام اقتلوا الفاعل والمفعول به

وقوله عليه السلام ارجموا الأعلى والأسفل وأجابوا عنه بأنه إنما لم يعمل بهذا الحديث لأن الصحابة رضي اللّه عنهم تركوا الاحتجاج به مع اختلافهم في حكم اللواطة فدل على زيافته

قوله

وأما القسم الثالث وهو الذي فيه إلزام محض من حقوق العباد عند الإمكان متصل بقوله والعدد وهو احتراز عما لا يطلع عليه الرجال مثل البكارة والولادة والعيوب التي بالنساء في مواضع لا يطلع عليها الرجال فإن شهادة النساء فيها مقبولة من غير اشتراط عدد وإن اشترط لفظ الشهادة وقيام الأهلية بالولاية يعني يكون أهلا للشهادة بأن يكون له ولاية على نفسه ليتعدى إلى غيره وذلك بالعقل والبلوغ والحرية مع سائر شرائط الأخبار من العدالة والضبط لما فيها أي في هذه الحقوق من محض الإلزام متعلق بقوله وقيام الأهلية بالولاية ودليل عليه

قوله وتوكيدا لها عطف عليه من حيث المعنى أي ولتوكيدها كقوله تعالى لتركبوها وزينة وهو دليل على اشتراط لفظ الشهادة والعدد وبيانه أن هذه الحقوق لما كانت من قبيل الإلزامات لا بد من أن يكون الخبر المثبت لهذه الحقوق ملزما ولا شك أن الإلزام من باب الولاية إذ الولاية تنفذ القول على الغير شاء الغير أو أبى والإلزام بهذه المثابة فإذا لا بد من أن يكون المخبر من أهل الولاية ليصلح خبره للإلزام

(٣/٤٣)

وذلك بالعقل والبلوغ والحرية فلهذا شرطنا الأهلية بالولاية ولما حصل معنى الإلزام في الخبر بعد وجود شرائطه كان ينبغي أن لا يشترط العدد ولفظ الشهادة فيه كما في القسم الأول فقال إنما شرع اللفظ والعدد على سبيل التوكيد فإن المصير إلى التزوير والاشتغال بالحيل من الناس في هذه الحقوق ظاهر فشرط الشرع العدد ولفظ الشهادة توكيدا للخبر الذي هو حجة وتقليلا للحيل وهما قد يصلحان للتوكيد فإن العلم في أداء الشهادة شرط كما قال علي رضي اللّه عنه إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع

ولفظة الشهادة في إفادة العلم أبلغ لأنها مأخوذة من الشاهدة التي هي المعاينة وهي أبلغ أسباب العلم فلذلك اختص هذا الخبر به توكيدا وكذا في زيادة العدد أيضا معنى التوكيد لأن طمأنينة القلب إلى قول المثنى أظهر وإن لم ينتف احتمال الكذب عنه لأن الواحد يميل إلى الواحد عادة وقلما يتفق الاثنان على الميل إلى الواحد في حادثة واحدة إليه أشار شمس الأئمة رحمه اللّه

وذكر القاضي الإمام في التقويم أن اشتراط العدد واللفظ باعتبار أن الشهادة شرعت حجة لفصل منازعة ثابتة كانت بين اثنين بخبرين صحيحين متعارضين من الدعوى والإنكار فلم يقع الفصل لجنسه خبرا بل بنوع خبر ظهرت مزيته في التوكيد على غيره من يمين أو شهادة ثم ضرب احتياط بزيادة العدد

وذكر الشيخ في بعض مصنفاته أنه لا تأثير لزيادة العدد في زيادة الصدق إلا أن القاضي لما احتاج إلى إثبات أحد الخبرين عند المنازعة وإبطال الآخر بذلك الخبر احتاج إلى زيادة تأكيد فيه فشرط الشرع العدد تأكيدا بخلاف القياس أو لمعنى معقول وهو أن خبر كل واحد من المتخاصمين صحيح في نفسه محتمل للصدق فإذا أتى المدعي بشاهد فقد تقوى صدقه ولكن صدق المنكر قد تقوى أيضا بشهادة الأصل له وهو براءة الذمة فاستويا في الصدق فاحتيج إلى الترجيح بشاهد آخر بخلاف حقوق اللّه تعالى لأن المقصود فيها ظهور الصدق فإذا ظهر الصدق بقول الواحد يلزم السامع الانقياد لأمر اللّه تعالى لأن المخبر يصير موجبا له فإذا لم يكن فيه إيجاب لا يشترط فيه زيادة تأكيد ألا ترى أن من روى قول النبي عليه السلام لا صلاة إلا بقراءة ليس في صيغة لفظ الراوي إيجاب بل إخبار عن النبي عليه السلام فإذا ثبت صدقه لزم كل سامع موجبه بأمر اللّه تعالى والدليل على صحة الفرق بينهما أن الخبر يلزم كل سامع من غير قضاء والحقوق لا تلزم بقول الشاهد ما لم يقض بها فتبين بهذا أن

قوله من محض الإلزام احتراز عن القسم الأول ويجوز أن يكون احترازا عن القسم الخامس أو عنهما جميعا

(٣/٤٤)

وقوله لما يخاف متعلق بتوكيدا لها

وقوله صيانة للحقوق المعصومة متعلق بمجموع

قوله توكيدا لها لما يخاف فيها من كذا يعني المجوز للتأكيد احتمال التزوير والتلبيس والمعنى الموجب له بناء على هذا الاحتمال صيانة الحقوق المعصومة وهو نظير التوكيد في قولك جاءني زيد نفسه فإن المعنى المجوز له احتمال مجيء خبره أو كتابه والمعنى الحامل عليه رفع الالتباس عن السامع وذلك مما يطول ذكره أي مثال هذا القسم كثير والشهادة بهلال الفطر من هذا القسم باعتبار أن الناس ينتفعون بالفطر فكان الفطر من حقوقهم

وكذا يلزمهم الامتناع عن الصوم في وقت الفطر لقوله عليه السلام ألا لا تصوموا الحديث فكان فيه معنى الإلزام أيضا وإذا كان كذلك يشترط فيه العدد ولفظة الشهادة والحرية وسائر شرائط الشهادة ولا يلزم عليه ما إذا قبل الإمام شهادة الواحد في هلال رمضان وأمر الناس بالصوم فصاموا ثلاثين يوما ولم يروا الهلال فإنهم يفطرون على ما روى ابن سماعة عن محمد رحمهما اللّه لأن الصوم الفرض لا يكون أكثر من ثلاثين يوما وهذا فطر بشهادة الواحد لأنا نقول الفطر غير ثابت بشهادة وإن كانت تفضي إليه بل بحكم الحاكم فإنه لما حكم بدخول شهر رمضان وأمر الناس بالصوم كان من ضرورته الحكم بانسلاخ رمضان بعد مضي ثلاثين يوما فكان نظير شهادة القابلة على النسب فإنها تقبل وإن أفضت إلى استحقاق الميراث على أن الحسن قد روى عن أبي حنيفة رحمهما اللّه أنهم لا يفطرون وإن أكملوا العدة بدون التيقن بانسلاخ رمضان أخذا بالاحتياط في الجانبين كذا في المبسوط

قوله فوقع في قلبه أي في قلب السامع صدق المخبر حل للسامع العمل وهو الاشتغال بالتصرف بهذا الخبر فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقبل هدية الطعام من البر التقي وغيره وكان يشتري من الكافر والمعاملات بين الناس في الأسواق من لدن رسول اللّه عليه السلام إلى يومنا هذا ظاهرة لا يخفى على أحد أنهم لا يشترطون العدالة فيمن يعاملونه وأنهم يعتمدون خبر كل مميز يخبرهم بذلك لما في اشتراط العدالة فيه من الحرج البين كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه ثم هذا القيد وهو

قوله فوقع في قلبه صدقه لازم فإن الشيخ ذكر في شرح المبسوط فيمن علم بجارية لرجل ورأى آخر يبيعها مدعيا للوكالة في ذلك أن القائل إن كان عدلا لا بأس بأن يصدقه على ذلك ويشتريها منه وإن كان غير

(٣/٤٥)

ثقة إن كان أكبر رأيه أنه صادق فكذا الجواب وإن كان أكثر رأيه أنه كاذب يمتنع عنه وإن استوى الوجهان يمتنع أيضا لأنه لم يثبت ما يقول وهكذا ذكر شمس الأئمة أيضا فقيل في هذه المسألة إن سأل ذا اليد فقال إني قد اشتريتها منه أو وهبها لي أو تصدق بها علي أو وكلني ببيعها فإن كان ثقة فلا بأس بأن يصدقه على ذلك ويشتريها منه ويطأها وإن كان غير ثقة إلا أن أكبر رأيه أنه فيه صادق فكذلك أيضا لأن أكبر الرأي إذا انضم إلى خبر الفاسق يتأيد به وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يعرض لشيء من ذلك لأن أكبر الرأي فيما لا توقف على حقيقته كاليقين فإن قيل قد ذكر الشيخ في الباب المتقدم أن تحكيم الرأي ليس بلازم في خبر الفاسق في الهدايا والوكالات وما ذكر هاهنا يدل على اشتراطه وهذا يتراءى لي تناقصا فما وجه التقصي عنه

قلنا ذكر محمد رحمه اللّه في كراهية الجامع الصغير في الرجل رأى جارية الغير في يد آخر يبيعها وأخبرها البائع أن فلانا وكله ببيعها وسعه أن يبتاعها ويطأها ولم يذكر تحكيم الرأي فقال أبو جعفر رحمه اللّه في كشف الغوامض يجوز أن يكون المذكور في كتاب الاستحسان تفسيرا لهذا فيكون معناه وسعه أن يبتاعها إذا كان أكبر رأيه أنه صادق ويجوز أن يوفق بين الروايتين فإن المذكور في كتاب الاستحسان في هذه المسألة وأمثالها فإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يسع له أن يشتريها منه ولم يقل لا يسعه فيحمل على الاستحباب والمذكور في الجامع وسعه أن يبتاعها ويطأها فيحمل على الرخصة ويجوز أن يكون في المسألة روايتان هذا حاصل كلامه فنخرج ما ذكر في الكتاب على الوجه الثاني والثالث ظاهر فكان المذكور في الباب المتقدم أصل الجواب والمذكور هاهنا احتياطا واستحبابا أو المذكور هناك على إحدى الروايتين والمذكور هاهنا على الرواية الأخرى فأما تخريجه على الوجه الأول فالمذكور أولا على تقدير عدم تسليم الحمل وإجرائه على الظاهر والمذكور ثانيا على تقدير تسليمه يعني لو أجرى لفظ الجامع على ظاهره ولم يشترط التحكيم فالفرق بين إخبار الفاسق بنجاسة الماء وإخباره بالوكالة والهدية ونحوهما ما ذكر في ذلك الباب ولكن جواب المسألة على الحقيقة ما ذكر هاهنا فإن الشيخ ذكر في شرح هذه المسألة أن خبر الواحد حجة في المعاملات لأن في ذلك ضرورة ولذلك جعلنا خبر الفاسق حجة في هذا الباب لكنه يحكم رأيه في الفاسق بخلاف العدل واللّه أعلم

قوله وذلك لوجهين أي ثبوت هذا القسم بخبر كل مميز وسقوط اشتراط العدالة وغيرها فيه لوجهين

أحدهما عموم الضرورة الداعية إلى سقوط شرط العدالة وسائر

(٣/٤٦)

الشرائط سوى التمييز فإن الإنسان قلما يجد العدل الحر البالغ المسلم في كل زمان ومكان ليبعثه إلى وكيله أو غلامه فلو شرط في هذا القسم ما شرط في الأقسام المتقدمة لتعطلت المصالح وفيه حرج عظيم فسقط للضرورة لأن لها أثرا في التخفيف بخلاف القسم الأول فإن شرط العدالة فيه لم يسقط لما بينا من عدم تحقق الضرورة فيه إذ في العدول الذين تلقوا نقل الأخبار كثرة وقد يتمكن السامع من الرجوع إلى دليل آخر يعمل به إذا لم يصح الخبر عنده وهو القياس الصحيح وبخلاف الإخبار بنجاسة الماء وطهارته فإن الضرورة فيه ليست مثلها فيما نحن فيه على ما مر تقريره

وذكر في المبسوط في مسألة الإخبار بنجاسة الماء إن كان المخبر فاسقا فله أن يتوضأ بذلك الماء لعدم ترجح الصدق في خبره فإن اعتبار دينه وإن دل على صدقه في خبره فاعتبار تعاطيه وارتكابه ما يعتقد الحرمة فيه دليل على كذبه في خبره فيتحقق المعارضة بينهما ولهذا وجب التثبت في خبره والأصل في الماء هو الطهارة فيتمسك به ويتوضأ وهذا بخلاف المعاملات فإنه يجوز الأخذ فيها بخبر الفاسق لتحقق الضرورة وعدم دليل يتمسك به سوى الخبر

والثاني وهو الموعود بيانه في ذلك الباب أن الخبر هاهنا أي في هذا القسم غير ملزم أي ليس فيه شيء من معنى الإلزام لأن العبد والوكيل يباح لهما الإقسام على التصرف من غير أن يلزمهما ذلك فلا يشترط فيه ما شرط للإلزام من العدالة وغيرها إذ العدالة شرطت ليترجح جانب الصدق في الخبر فيصلح أن يكون ملزما

وكذا العدد ولفظ الشهادة شرطا لتأكيد الإلزام فيما تحققت فيه منازعة وخصومة فلا وجه لاشتراطهما عند المسالمة وانقطاع الإلزام ثم الوجه الأول يدل على سقوط اشتراط العدالة إذا كان المبلغ رسولا فأما إذا كان فضوليا فينبغي أن يكون على الاختلاف المذكور في القسم الخامس لانتفاء الضرورة في حقه إلا أن الوجه الثاني يدل على سقوط اشتراطها في حق الفضولي أيضا بالاتفاق لأن الاختلاف في حقه في ذلك القسم إنما نشأ من جهة كونه ملزما وهذا القسم خلا عن معنى الإلزام فهذه فائدة الجمع بين الوجهين

قوله بخلاف أمور الدين مثل طهارة الماء ونجاسته فإن شرط العدالة فيها لم يسقط لأن فيها معنى الإلزام من وجه باعتبار أن السامع يلزمه الطهارة بالماء إذا أخبر بطهارته ويلزمه التحرز إذا أخبر بنجاسته وليس فيها معنى الإلزام من وجه باعتبار أنه لا يجبر عليه بل يفوض إلى اختياره بخلاف حقوق العباد وكذا الحل والحرمة وإذا كان كذلك لا بد من اعتبار أحد شرطي الشهادة ليكون ملزما من وجه وقد سقط اعتبار العدد بالاتفاق فتعين اعتبار العدالة

(٣/٤٧)

قلت وهذا الفرق إنما يستقيم إذا لم يجعل تحكيم الرأي شرطا في قبول خبر الفاسق في المعاملات كذا في الباب المتقدم وحمل ما ذكر هاهنا على الاستحباب فأما إذا جعل شرطا فيه وحمل المذكور هاهنا على ظاهره فلا لاستواء الموضعين في اشتراط التحكيم وتوقف القبول فيهما عليه فلا يتأتى الفرق

قوله ولهذا الأصل وهو أن ما فيه إلزام محض من حقوق العباد يشترط فيه شرائط الشهادة لم تقبل شهادة الواحد بالرضاع في النكاح بأن تزوج امرأة فأخبره مسلم ثقة أو امرأة أنهما ارتضعا من امرأة واحدة وفي ملك اليمين بأن اشترى أمة فأخبره عدل أنها أخته من الرضاع وبالحرية أي في ملك اليمين بأن أخبره عدل أنها حر الأبوين بل يشترط شهادة رجلين أو رجل وامرأتين وقال مالك رحمه اللّه يقبل في الرضاع قول المرأة الواحدة إذا كانت ثقة

وكذا روي عن عثمان رضي اللّه عنه لحديث ابن أبي مليكة أن عقبة بن الحارث تزوج بنت أبي إهاب فجاءت امرأة سوداء وأخبرت أنها أرضعتهما فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأعرض عنه ثم ذكر ثانيا فأعرض عنه ثم ثالثا فقال فارقها إذا فقال إنها سوداء يا رسول اللّه قال كيف وقد قيل وفي بعض الرويات ففرق رسول اللّه عليه السلام بينهما وحجتنا في ذلك حديث عمر رضي اللّه عنه لا يقبل في الرضاع إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولأن هذه شهادة تقوم لإبطال الملك لأن الحرمة لا تقبل الفضل عن زوال الملك في باب النكاح فلا يتم الحجة فيه إلا بشاهدين كالعتق والطلاق وهو معنى

قوله لما فيه أي في ثبوت الرضاع والحرية أو في قبول شهادة الواحد من إلزام حق العباد أي إلزام إبطال حق العباد وحديث عقبة دليلنا فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعرض عنه في المرة الأولى والثانية فلو كانت الحرمة ثابتة لما فعل ذلك ثم لما رأى منه طمأنينة القلب إلى قولها حيث كرر السؤال أمره أن يفارقها احتياطا على وجه التنزه وإلى التنزه أشار بقوله عليه السلام كيف وقد قيل والزيادة المروية غير ثابتة عندنا

وهذا بخلاف الطعام والشراب حيث تثبت الحرمة هناك بخبر الواحد العدل ولم تثبت هاهنا لأن الحل أو الحرمة فيما سوى البضع مقصود بنفسه لما كان يثبت الحل بدون ملك المحل حتى لو قال لغيره كل طعامي هذا أو توضأ بمائي هذا أو اشربه وسعه أن يفعل ذلك وتثبت الحرمة مع قيام الملك كالعصير إذا تخمر وكمن اشترى لحما فأخبره عدل أنه

(٣/٤٨)

ذبيحة مجوسي يحرم عليه تناوله ولا يسقط ملكه حتى لم يكن له حق الرجوع على بائعه وإذا كان كذلك كان الإخبار به إخبارا بأمر ديني وقول الواحد فيه ملزم فأما في الوطء فالحل أو الحرمة يثبت حكما للملك وزواله لا مقصودا حتى لو قال لآخر طأ جاريتي هذه قد أذنت لك فيه أو قالت له ذلك حرة في نفسها لم يحل له الوطء لعدم ثبوت الملك به وقول الواحد في إبطال الملك ليس بحجة فكذلك في الحل الذي يبتنى عليه ولأن في الوطء معنى الإلزام على الغير لأن المنكوحة يلزمها الانقياد للزوج في الاستفراش والمملوكة يلزمها الانقياد لمولاها وخبر الواحد لا يكون حجة في إبطال الاستحقاق الثابت لشخص على شخص فأما حل الطعام والشراب فليس فيه استحقاق حق على أحد يبطل بثبوت الحرمة بل هو أمر ديني وخبر الواحد في مثله حجة كذا في المبسوط

قوله ولهذا أي ولأن ما فيه الإلزام المحض من حقوق العباد لا يقبل فيه خبر الواحد بل يشترط العدد وفي غير موضع الإلزام يقبل لم يقبل خبر الواحد العدل في موضع المنازعة لأنه موضع الإلزام ويقبل في موضع المسالمة مثل الوكالات ونحوها لخلوه عن معنى الإلزام وعلى ذلك أي على هذا الأصل وهو اعتبار المنازعة والمسالمة بنى محمد رحمه اللّه مسائل في آخر كتاب الاستحسان فقال لو أن رجلا علم أن جارية لرجل يدعيها ثم رآها في آخر يبيعها ويزعم أنها قد كانت في يد فلان وأنه كان يدعيها غير أنها كانت لي وإنما أمرته بذلك لأمر خفته وصدقته الجارية بذلك والرجل البائع مسلم ثقة فلا بأس بشرائها منه ولو لم يقل هذا ولكنه قال ظلمني وغصبني فأخذتها منه لم ينبغ أن يعرض لها بشراء ولا قبول إن كان المخبر ثقة أو غير ثقة لأن في الفصل الأول أخبر عن حال مسالمة ومواضعة كانت بينهما فيعتمد خبره إذا كان ثقة وفي الفصل الثاني أخبر عن حال منازعة بينهما في غصب الأول منه واسترداد هذا منه فلا يكون خبره حجة فإن قال إنه كان ظلمني وغصبني ثم رجع عن ظلمه فأقر لي بها ودفعها إلي فإن كان عنده ثقة فلا بأس بشرائها منه وقبول

قوله لأنه أخبر عن حال مسالمة وهي إقراره له بها ودفعها إليه وكذلك إن قال خاصمته إلى القاضي فقضى لي بالبينة وبالنكول وأخذها منه فدفعها إلي أو قال قضى لي بها فأخذتها من منزله بإذنه أو بغير إذنه لأنه أخبر أن أخذه كان بقضاء

(٣/٤٩)

القاضي أو أن القاضي دفعها إليه وهو بمنزلة حال مسالمة معنى لأن كل ذي دين يكون مستسلما لقضاء القاضي وإن قال قضى لي بها فجحدني قضاءه فأخذتها لم ينبغ له أن يشتريها منه لأنه لما جحد القضاء جاءت المنازعة فإنما أخبر بالأخذ في حال المنازعة وخبر الواحد فيها لا يكون حجة لما فيها من الإلزام

ونظير تغير الحكم بتغير العبارة ما إذا قدم رجل ليقتل بالخشب فقال اقتلوني بالسيف يأثم ولو قال لا تقتلوني بالخشب لا يأثم ولو قدم الأب والابن للقتل فقال الأب قدموا ابني لأحتسب بالصبر على قتله يأثم ولو قال لا تقدموني على ابني لا يأثم فعرفنا أن بتغير العبارة قد يتغير الحكم مع اتحاد المقصود ولهذا قبلنا أي ولأن في موضع المسالمة يجوز الاعتماد على خبر الواحد قبلنا خبر المخبر في الرضاع الطارئ على النكاح بأن تزوج صغيرة فأخبر ثقة أنها قد ارتضعت من أمه أو أخته أو الموت أو الطلاق بأن غاب رجل عن امرأته فأخبره مسلم ثقة أنها قد ماتت أو أخبرها مسلم ثقة أن زوجها قد مات أو طلقها ثلاثا يجوز الاعتماد على خبره ويحل للزوج التزوج بأربع سواها أو بأختها وللمرأة التزوج بزوج آخر بعد انقضاء العدة لأنه ليس في الحرمة الطارئة بالرضاع أو الفرقة الطارئة بالموت أو الطلاق معنى المنازعة

بخلاف ما إذا أخبر أن النكاح كان فاسدا بسبب رضاع متقدم أو ردة قائمة عند العقد من الرجل أو المرأة لأن في الحرمة المقارنة معنى المنازعة إذ إقدام كل واحد على مباشرة العقد تصريح بثبوت الحل فلذلك اعتبر فيه شرائط الشهادة

قوله والشهادة بهلال رمضان من هذا القسم

الرابع لا خلاف أن خبر الواحد يقبل في هلال رمضان لحديث عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما

أن الناس أصبحوا يوم الشك على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقدم أعرابي وشهد برؤية الهلال فقال عليه السلام أتشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه فقال نعم فقال عليه السلام اللّه أكبر يكفي المسلمين أحدهم فصام وأمر الناس أن يصوموا بشهادته ولا خلاف أيضا في اشتراط الإسلام والبلوغ وعدم اشتراط الحرية والذكورة ولكنهم اختلفوا في اشتراط العدالة ففي ظاهر الرواية هي شرط وذكر الطحاوي رحمه اللّه أن شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان مقبولة عدلا كان أو غير عدل لانتفاء التهمة من خبره هذا لأنه يلزمه من الصوم ما

(٣/٥٠)

يلزم غيره ووجه الظاهر أن هذا أمر من أمور الدين ولهذا يكتفى فيه بخبر الواحد وخبر الفاسق في باب الدين غير مقبول بمنزلة رواية الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

فكأن الشيخ بقوله من القسم الرابع اختار مذهب الطحاوي لأن في هذا القسم لا يشترط العدالة كما مر بيانه وإنما جعله من هذا القسم باعتبار أن خبره ليس بملزم للصوم بل الموجب هو النص وجعله شمس الأئمة من القسم الأول حتى يشترط فيه العدالة وهو الأصح لأن الصوم ليس من حقوق العباد ليكون من القسم الرابع بل هو أمر ديني إلا أنه يشترط فيه الإسلام والبلوغ بالإجماع كما في القسم الأول ولو كان من القسم الرابع لم يشترط ذلك والشهادة على هلال الأضحى كالشهادة على هلال رمضان فيما روي عن أبي حنيفة رحمه اللّه في النوادر لتعلق أمر ديني به وهو ظهور وقت الحج الذي هو محض حق اللّه تعالى وفي ظاهر الرواية كهلال الفطر لأن فيه منفعة للناس بالتوسع بلحوم الأضاحي في اليوم العاشر

قوله

وأما القسم الخامس وهو الذي فيه إلزام من وجه دون وجه من حقوق العباد فمثل عزل الوكيل وحجر المأذون وسائر الصور المذكورة في الكتاب وسيأتي بيان الوجهين فيها والإخبار بالشرائع وإن لم يكن من حقوق العباد لكنه ألحق بها لما سنذكره ففي هذا كله إذا كان المبلغ وكيلا أو رسولا ممن إليه الإبلاغ بأن قال الموكل أو المولى أو الشريك أو رب المال أو الإمام أو الأب وكلتك بأن تخبر فلانا بالعزل والحجر ونحوهما وأرسلتك إلى فلان لتبلغ عني إليه هذا الخبر لم يشترط فيه العدالة بالاتفاق فإن عبارة الرسول كعبارة المرسل وكذا عبارة الوكيل في هذا كعبارة الموكل إذ الوكيل في هذه الصورة كالرسول وإن اختلفا في غيرها ثم في الموكل والمرسل لا يشترط العدالة فكذا فيمن قام مقامهما وإن كان المخبر فضوليا فلا بد من اشتراط العدالة عند أبي حنيفة رحمه اللّه بلا خلاف بين مشايخنا

فأما إذا أخبره فضوليان فقد اختلفوا في اشتراط العدالة على

قوله قال بعضهم يشترط كما لو كان المخبر واحدا وقال بعضهم لا تشترط العدالة في المثنى وإنما وقع الاختلاف لاشتباه لفظ الكتاب أي المبسوط فإن محمدا رحمه اللّه ذكر في المأذون الكبير إذا حجر المولى على عبده وأخبره بذلك من لم يرسله مولاه لم يكن حجرا في قياس قول أبي حنيفة حتى يخبره رجلان أو رجل عدل يعرفه العبد فالفريق الأول قالوا معناه رجلان عدل أو رجل عدل فإن

قوله عدل يصلح نعتا للواحد

(٣/٥١)

والمثنى والجماعة والمذكر والمؤنث باعتبار كونه مصدرا

قال عليه السلام لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ولم يقل عدلين ووجهه أن خبر الفاسقين كخبر الفاسق الواحد في أنه لا يصلح ملزما وإن التوقف يجب فيه فلا يكون لزيادة العدد فائدة والفريق الثاني قالوا القيد المذكور يختص بالواحد والمثنى على الإطلاق كما يدل عليه ظاهر اللفظ وهو الأصح وذلك لأن لزيادة العدد تأثيرا في سكون القلب كما أن للعدالة تأثيرا فيه بل تأثير العدد أقوى فإن القاضي لو قضى بشهادة الواحد لا ينفذ ولو قضى بشهادة الفاسقين ينفذ وإن كان على خلاف السنة ثم إذا وجدت العدالة بدون العدد يثبت المخبر به فكذلك إذا وجد العدد دون العدالة ثم لا بد لاشتراط العدد أو العدالة من تكذيب المخبر له ولا بد لثبوت المخبر به من أن يكون الخبر صدقا على الحقيقة فإذا أخبر بالعزل مثلا رجل عدل أو رجلان عدلان أو غير عدلين يثبت العزل بالإجماع صدقه الوكيل أو لم يصدقه إذا ظهر صدق المخبر

وإن كان المخبر واحدا غير عدل وكذبه الوكيل لا ينعزل عند أبي حنيفة رحمه اللّه وإن ظهر صدق الخبر وعندهما ينعزل إذا ظهر صدقه وإن صدقه ينعزل بالإجماع وهذا في الوكالة التي لم يتعلق بها حق الغير حتى ينفرد الموكل بعزله أما إذا تعلق بها حق الغير كالوكالة الثابتة في عقد الرهن فلا ينعزل وإن أخبره بذلك عدلان

قوله ويحتمل كذا يعني أن العدد أو العدالة شرط عنده ويحتمل أن يكون سائر شرائط الشهادة من الذكورة والحرية والبلوغ شرطا مع أحد هذين الشرطين حتى لو كان المخبر واحدا عدلا يشترط أن يكون رجلا حرا بالغا عاقلا

وكذا إذا كان اثنين غير عدلين فعلى هذا لا يقبل خبر العبد والمرأة والصبي أصلا وإن وجدت العدالة أو العدد لعدم سائر الشرائط وإنما قال يحتمل لأن محمدا لم يذكرها في المبسوط نفيا وإثباتا

وأما عندهما فإن الكل سواء أي القسم الخامس والرابع سواء فيثبت العزل والحجر بقول كل مميز كالتوكيل والإذن لأنه أي هذا القسم من باب المعاملات يعني ما خلا الإخبار بالشرائع فوجب أن لا يتوقف على شرائط الشهادة كالقسم الرابع وهذا لأن للناس في باب المعاملات ضرورة توكيلا وعزلا على ما يعرض لهم الحاجات فلو شرطت العدالة في الخبر عنها لضاق الأمر على الناس فلم يشترط دفعا للحرج كذا في الأسرار

(٣/٥٢)

فأما الإخبار بالشرائع وإن لم يكن من المعاملات فقد ألحق بها لأن الضرورة قد تحققت في حقه إذ لو توقف على العدالة يؤدي إلى الحرج وتفويت المصلحة لأن انتقال العدول من دار الإسلام إلى دار الحرب قلما يكون فلهذه الضرورة ألحق بالمعاملات ولكن أبا حنيفة رحمه اللّه قال إنه أي القسم الخامس من جنس الحقوق اللازمة دون الجائزة والحقوق اللازمة هي التي تلزم على الغير ولا ينفرد بإبطالها والجائزة على خلافها لأنه أي الموكل أو المولى يلزمه أي الوكيل أو العبد حكما بالعزل أو الحجر ثم فسر ذلك الحكم بقوله يلزمه فيه العهدة من لزوم عقد يعني في الوكيل فإنه إذا انعزل يقتصر الشراء عليه ويلزم عليه عهدته أو فساد عمل يعني في الحجر على العبد فإنه كان نافذ التصرف وبالحجر يخرج تصرفاته من الصحة إلى الفساد فمن هذا الوجه كان هذا القسم من قبيل الإلزامات ومن وجه يشبه سائر المعاملات لأن الموكل أو المولى أو من بمعناهما متصرف في حقه بالعزل والحجر والفسخ كما هو متصرف في حقه بالتوكيل والإذن والإجارة إذ لكل واحد من هؤلاء ولاية المنع من التصرف كما له ولاية الإطلاق وكذا الإخبار بالشرائع في المسلم الذي لم يهاجر لأنه من حيث إن الشرائع لم تكن ثابتة في حقه قبل الإخبار حتى لم يلحقه ضمان ولا إثم بتركها وقد ثبت الوجوب في حقه بعد الإخبار كان ملزوما ومن حيث إن وجوبها مضاف إلى الشرع والتزامه أو أمره لا يكون ملزما فثبت أن هذا القسم أخذ شبها من أصلين ثم شبه الإلزام يوجب اشتراط العدالة والعدد وشبه المعاملات يوجب سقوطهما فشرطنا

أحدهما وأسقطنا الآخر توفيرا على الشبهين حظهما

قال شمس الأئمة رحمه اللّه خبر الفاسق في هذا القسم غير معتبر عند أبي حنيفة رحمه اللّه إذا أنشأ الخبر من عنده لأن فيه معنى اللزوم فإنه يلزمه الكف عن التصرف إذا أخبره بالحجر والعزل ويلزمها النكاح إذا سكتت بعد العلم والكف عن طلب الشفعة إذا سكت بعد العلم وخبر الفاسق لا يصلح ملزما لأن التوقف في خبر الفاسق ثابت بالنص ومن ضرورته أن لا يكون ملزما بخلاف الرسول فإن عبارته كعبارة المرسل ثم بالمرسل حاجة إلى تبليغ ذلك وقلما يجد عدلا يستعمله في الإرسال إلى عبده ووكيله فأما الفضولي فمتكلف لا حاجة به إلى هذا التبليغ والسامع غير محتاج إليه أيضا لأن معه دليلا يعتمد للتصرف إلى أن يبلغه ما يرفعه فلهذا شرطنا العدالة في الخبر في هذا القسم ولم يشترط العدد لأن اشتراطهما لأجل منازعة متحققة وهي غير موجودة هاهنا وذكر شمس الأئمة في شرح المأذون الكبير

(٣/٥٣)

واختلفوا على قول أبي حنيفة رحمه اللّه في الذي أسلم في دار الحرب إذا أخبره فاسق بوجوب الصلاة عليه هل يلزمه القضاء باعتبار خبره فمنهم من يقول ينبغي أن لا يجب القضاء عندهم جميعا لأن هذا من أخبار الدين والعدالة فيها شرط بالاتفاق وأكثرهم على أنه على الخلاف كالحجر والعزل قال والأصح عندي أنه يلزمه القضاء هاهنا لأن من يخبره فهو رسول رسول اللّه عليه السلام بالتبليغ قال النبي عليه السلام نضر اللّه امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها

وفي حديث آخر ألا فليبلغ الشاهد الغائب وخبر الرسول بمنزلة كلام المرسل ولا يشترط فيه العدالة فكذا هذا ولا يدخل على هذا رواية الفاسق الأخبار لأن هناك لا يظهر رجحان جانب الصدق في خبره وبذلك يتبين كون المخبر به حقا وهاهنا نحن نعلم أن ما أخبر به حق فيثبت حكمه في حق من أخبره الفاسق به حتى يلزمه القضاء فيما يتركه بعد ذلك

قوله والتزكية من القسم الرابع عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما اللّه يعني في حق سقوط شرط العدد لا في حق سقوط شرط العدالة فإن محمدا نص في الجامع الصغير في كتاب القضاء على أن المزكي الواحد إن كان عدلا أمضى شهادة الشاهدين بقول هذا الواحد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما اللّه وقد نص في المبسوط أيضا على أنه يشترط أن يكون المترجم عدلا مسلما بلا خلاف وحكم المترجم والمزكي واحد في جميع الأحكام ولهذا عد شمس الأئمة رحمه اللّه التزكية من القسم الأول على قولهما وهو أصح لأن وجوب القضاء على القاضي من حقوق الشرع لا من حقوق العباد وقال محمد هو أي المذكور وهو التزكية من القسم الثالث حتى يشترط فيها سائر شرائط الشهادة سوى لفظة الشهادة لأن المذكي بمعنى الشاهد فإنه يلزم القضاء على القاضي بالشهادة وهذا آكد ما يكون من الإلزام فيشترط العدد لطمأنينة القلب ألا ترى أنه يعتبر فيها ما يعتبر في الشهادة من الحرية والعدالة والإسلام فكذا العدد إلا أنه لا يشترط لفظة الشهادة لأن اشتراطها ليس لمعنى الإلزام بل يثبت بالنص بخلاف القياس أو لمعنى الزجر عن الشهادة بالباطل بقوله اشهد فإنه بمنزلة

قوله احلف والمدعي يأتي بالشهود

(٣/٥٤)

فلاحتمال المواضعة والتلبيس بينهم شرطنا لفظة الشهادة

وأما المذكي فيختاره القاضي فينعدم في حقه مثل هذه التهمة فلا يشترط في حقه لفظة الشهادة ولكنهما قالا المذكي مخبر بخبر ديني فلا يكون العدد فيه شرطا كما في رواية الإخبار والدليل عليه أنه لا يعتبر لفظة الشهادة ولا مجلس القاضي ولو كان في معنى الشهادة لشرط فيه ما اختص به الشهادة وإذا لم يجعل بمنزلة الشهادة فيه ففي العدد أولى لأن العدد أمر مؤكد غير معقول لأن خبر الواحد والاثنين في العلم والعمل سواء واشتراط العدالة والإسلام بمنزلة اشتراطهما في رواية الإخبار واشتراط الحرية لأنه يلزم الغير ابتداء من غير أن يلتزم شيئا فكان من باب الولاية والرق ينفي الولاية على الغير بخلاف رواية الإخبار فإنه يلتزم ذلك بنفسه ثم يتعدى إلى غيره فلا يشترط الحرية وكذا المرأة الواحدة تكفي لذلك كما في رواية الإخبار ولكن رجل أو رجل وامرأتان أوثق لأنه إلى الاحتياط أقرب كذا في المبسوط

وذكر في شرح أدب القاضي للخصاف أن العدد شرط في تزكية العلانية عند الكل وإن كان لا يشترط في تزكية السر عندهما لأنها في معنى الشهادة لاختصاصها بمجلس القاضي فيشترط فيها العدد ولهذا لم يشترط أهلية الشهادة لتزكية السر حتى إن الرجل إذا عدل أباه أو ابنه أو المرأة عدلت زوجها أو العبد عدل مولاه صح وتشترط في تزكية العلانية حتى أن من كان من أهل الشهادة كان من أهل التعديل في العلانية وإلا فلا وفيه أيضا قال أبو يوسف رحمه اللّه أجيز في التزكية سرا تزكية العبد والمرأة والمحدود في القذف والأعمى إذا كانوا عدولا لأن ذلك خبر وخبر هؤلاء مقبول في باب الدين

وأما التزكية علانية فلا تقبل إلا ممن كان من أهل الشهادة لما قلنا ثم ما ذكرنا في تزكية الشاهد أما في تزكية الراوي فلا شك أن عندهما لا يشترط العدد لأن الشهادة آكد في الرواية فلما لم يشترط العدد في تزكية الشهادة لا يشترط في تزكية الرواية بالطريق الأولى

وأما عند محمد رحمه اللّه فيحتمل أن يكون كذلك أيضا لأن العدد إنما شرط في تزكية الشاهد لوجود معنى الإلزام فيها باعتبار استحقاق المدعي القضاء على القاضي بالشهادة ولم يوجد ذلك في تزكية الراوي بل هي أخبار فلا يشترط العدد في قبوله كنص الرواية ومن الأصوليين من شرط العدد في تعديل الراوي والشاهد جميعا اعتبارا بالشهادة ومنهم من شرطه في تعديل الشاهد دون الراوي إلحاقا للتعديل الذي هو شرط بمشروطه في كل باب والعدد شرط في الشهادة دون الرواية فكذا بالملحق بهما واللّه أعلم

(٣/٥٥)