Geri

   

 

 

İleri

 

٣-٢  الجزء الثاني الفلاسفة

الفلسفة باليونانية‏:‏ محبة الحكمة‏.‏

والفيلسوف هو‏:‏ فيلا وسوفا وفيلا هو المحب وسوفا‏:‏ الحكمة أي هو‏:‏ محب الحكمة‏.‏

والحكمة‏:‏ قولية وفعلية‏:‏ أما الحكمة القولية وهي العقلية أيضاً فهي كل ما يعقله العاقل بالحد وما يجري مجراه مثل الرسم‏.‏

وبالبرهان وما يجري مجراه مثل الاستقراء‏.‏

فيعبر عنه بهما‏.‏

وأما الحكمة الفعلية‏:‏ فكل ما يفعله الحكيم لغاية كمالية‏.‏

فالأولي الأزلي لما كان هو‏:‏ الغاية والكمال فلا يفعل فعلاً لغاية دون ذاته وإلا فيكون الغاية والكمال هو الحامل والأول محمول وذلك محال‏.‏

فالحكمة في فعله وقعت تبعاً لكمال ذاته وذلك هو الكمال المطلق في الحكمة وفي فعل غيره من المتوسطات وقعت مقصوداً للكمال المطلوب وكذلك في أفعالنا‏.‏

ثم إن الفلاسفة اختلفوا في الحكمة القولية العقلية اختلافاً لا يحصى كثرة والمتأخرون منهم خالفوا الأوائل في أكثر المسائل‏.‏

وكانت مسائل الأولين محصورة في الطبيعيات والإلهيات وذلك هو الكلام في الباري تعالى والعالم ثم زادوا فيها الرياضيات‏.‏

وقالوا‏:‏ العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ علم ما وعلم كيف وعلم كم‏.‏

فالعلم الذي يطلب فيه ماهيات الأشياء هو العلم الإلهي والعلم الذي يطلب فيه كيفيات الأشياء هو العلم الطبيعي والعلم الذي يطلب فيه كميات الأشياء هو العلم الرياضي سواء كانت الكميات مجردة عن المادة أو كانت مخالطة بعد‏.‏

فأحدث بعدهم أرسطوطاليس الحكيم‏:‏ علم المنطق وسماه تعليمات وإنما هو جرده من كلام القدماء وإلا فلم تخل الحكمة عن قوانين المنطق قط‏.‏

وربما عدها آلهة العلوم لا من جملة العلوم فقال‏:‏ الموضوع في العلم الإلهي هو الوجود المطلق ومسائله‏:‏ البحث عن أحوال الوجود من حيث هو وجود‏.‏

والموضوع في العلم الطبيعي هو الجسم ومسئله‏:‏ البحث عن أحوال الجسم من حيث هو جسم‏.‏

والموضوع في العلم الرياضي هو الأبعاد والمقادير وبالجملة‏:‏ الكمية من حيث إنها مجردة عن المادة ومسائله‏:‏ البحث عن أحوال الكمية من حيث هي كمية‏.‏

والموضوع في العلم المنطقي هو المعاني التي في ذهن الإنسان من حيث يتأدى بها إلى غيرها من العلوم ومسائله‏:‏ البحث عن أحوال تلك المعاني من حيث هي كذلك‏.‏

قالت الفلاسفة‏:‏ ولما كانت السعادة هي المطلوبة لذاتها وإنما يكدح الإنسان لنيلها والوصول إليها وهي لا تنال بالحكمة فالحكمة تطلب إما ليعمل بها وإما لتعلم فقط فانقسمت الحكمة إلى قسمين‏:‏ عملي وعلمي‏.‏

ثم منهم من قدم العملي على العلمي ومنهم من أخر كما سيأتي‏.‏

فالقسم العملي هو عمل الخير والقسم العلمي هو علم الحق‏.‏

قالوا‏:‏ وهذان القسمان مما يوصل إليه بالعقل الكامل والرأي الراجح غير أن الاستعانة في القسم العملي منه بغيره أكثر‏.‏

والأنبياء عليهم السلام أيدوا بإمداد روحانية تقريراً للقسم العلمي ولطرف ما من القسم العملي‏.‏

فغاية الحكيم هو أن يتجلى لعقله كل الكون ويتشبه بالإله الحق تعالى وتقدس بغاية الإمكان‏.‏

وغاية النبي أن يتجلى له نظام الكون فيقدر على ذلك مصالح العامة حتى يبقى نظام العالم وتنظيم مصالح العباد وذلك لا يتأتى إلا بترغيب وترهيب وتشكيل وتخييل‏.‏

فكل ما ورد به أصحاب الشرائع والملل‏:‏ مقدر على ما ذكرناه عند الفلاسفة إلا من أخذ علمه من مشكاة النبوة فإنه ربما بلغ إلى حد التعظيم لهم وحسن الاعتقاد في كمال درجتهم‏.‏

ومنهم‏:‏ حكماء العرب وهم شرذمة قليلون لأن أكثر حكمهم‏:‏ فلتات الطبع وخطرات الفكر وربما قالوا بالنبوات‏.‏

ومنهم‏:‏ حكماء الروم وهم منقسمون إلى القدماء الذين هم أساطين الحكمة وإلى المتأخرين منهم وهم‏:‏ المشاءون وأصحاب الرواق وأصحاب أرسطوطاليس وإلى فلاسفة الإسلام الذين هم حكماء العجم وإلا كانت متلقاة من النبوات‏:‏ إما من الملة القديمة وإما من سائر الملل‏.‏

غير أن الصابئة كانوا يخلطون الحكمة بالصبوة‏.‏

فنحن نذكر مذاهب الحكماء القدماء‏:‏ من الروم واليونانيين على الترتيب الذي نقل في كتبهم ونعقب ذلك بذكر سائر الحكماء إن شاء اللّه تعالى‏.‏

فإن الأصل في الفلسفة والمبدأ في الحكمة للروم وغيرهم كالعيال لهم‏.‏

٣-٢-١ الباب الأول‏ الحكماء السبعة الذين هم أساطين الحكمة

من الملطية وساميا وأثينية وهي بلادهم‏.‏

وأما أسماؤهم فهي‏:‏ تاليس الملطي وأنكساغورس وأنكسيمانس وانبادقليس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون‏.‏

وتبعهم جماعة من الحكماء مثل‏:‏ فلوطرخيس وبقراط وديمقريطيس والشعراء والنساك‏.‏

وإنما يدور كلامهم في الفلسفة على ذكر وحدانية الباري تعالى وإحاطته علماً بالكائنات كيف هي وفي الإبداع وتكوين العالم وأن المبادئ الأول‏‏:‏ ما هي وكم هي وأن المعاد‏:‏ ما هو ومتى هو‏.‏

وربما تكلموا في الباري تعالى بنوع حركة وسكون‏.‏

وقد أغفل المتأخرون من فلاسفة الإسلام ذكرهم وذكر مقالاتهم رأساً إلا نكتة شاذة نادرة ربما اعترت على أبصارهم وأفكارهم أشاروا إليها تزييفاً‏.‏

ونحن تتبعناها نقلاً وتعقبناها نقداً وألقينا زمام الاختيار إليك‏:‏ في المطالعة والمناظرة بين كلام الأوائل والأواخر‏.‏

رأي تاليس وهو أول من تفلسف في ملطية‏.‏

قال‏:‏ إن للعالم مبدعاً لا تدرك صفته العقول من جهة هويته وإنما يدرك من جهة آثاره وهو الذي لا يعرف اسمه فضلاً عن هويته إلا من نحو‏:‏ أفاعيله وإبداعه وتكزينه الأشياء‏.‏

فلسنا ندرك له اسماً من نحو ذاته بل من نحو ذاتنا‏.‏

ثم قال‏:‏ إن القول الذي لا مراد له‏:‏ هو أن البدع كان ولا شيء مبدع فأبدع الذي أبدع ولا صورة له عنده في الذات لأن قبل الإبداع إنما هو فقط وإذا كان هو فقط فليس يقال حينئذ‏:‏ جهة وجهة حتى يكون هو وصورة أو حيث حتى يكون هو وذو صورة‏.‏

والوحدة الخالصة تنافي هذين الوجهين‏.‏

والإبداع هو‏:‏ تأييس ما ليس بأيسي وإذا كان هو مؤيس الآيسيات والتأييس لا من شيء متقادم فمؤيس الأشياء لا يحتاج إلى أن يكون عنده صورة الأيسي بالايسية وإلا فقد لزمه إن كانت الصورة عنده أن يكون منفرداً عن الصورة التي عنده فيكون هو وصورة وقد بينا أنه قبل الإبداع إنما هو فقط‏.‏

وأيضاً‏:‏ فلو كانت الصورة عنده‏:‏ أكانت مطابقة للموجود الخارج أم غير مطابقة‏.‏

فإن كانت مطابقة فلتتعدد الصور بعدد الموجودات ولتكن كلياتها مطابقة للكليات وجزئياتها مطابقة للجزئيات ولتغيير بتغيرها كما تكثرت بتكثرها‏.‏

وكل ذلك محال لأنه ينافي الوحدة الخالصة‏.‏

وإن لم تطابق الموجود الخارج فليست إذاً صورة عنه بل إنما هي شيء آخر‏.‏

قال‏:‏ لكنه أبدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والمعلومات كلها فانبعث من كل صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأول‏ فمحل الصور ومنبع الموجودات كلها هو ذات وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسي إلا وفي ذات العنصر صورة له ومثال عنه‏.‏

قال‏:‏ ومن كمال ذات الأول‏ الحق أنه أبدع مثل هذا العنصر فما يتصوره العامة في ذاته تعالى أن فيها الصور يعني صور المعلومات فهو مبدعه ويتعالى الأول‏ الحق بوحدانيته وهويته عن أن يوصف بما يوصف به مبدعه‏.‏

ومن العجب أنه نقل عنه أن المبدع الأول‏ هو الماء قال‏:‏ الماء قابل لكل صورة ومنه أبدع الجواهر كلها‏:‏ من السماء والأرض وما بينهما وهو علة كل مبدع وعلة كل مركب من العنصر الجسماني‏.‏

فذكر أن من جمود الماء تكونت الأرض ومن إحلاله تكون الهواء ومن صفوة الهواء تكونت النار ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل فيها إليه‏.‏

قال‏:‏ والماء ذكر والأرض أنثى وهما يكونان سفلا والنار ذكر والهواء أنثى وهما يكونان علواً‏.‏

وكان يقول‏:‏ إن هذا العنصر الذي هو أول وهو آخر أي هو المبدأ وهو الكمال هو عنصر الجسمانيات والجرميات لا أنه عنصر الروحانيات البسيطة‏.‏

ثم إن هذا العنصر له صفو وكدر فما كان من صفوه فإنه يكون جسماً وما كان من كدره فإنه يكون جرماً‏.‏

فالجرم يدثر والجسم لا يدثر‏.‏

والجرم كثيف ظاهر والجسم لطيف باطن‏.‏

وفي النشأة الثانية‏ يظهر الجسم ويدثر الجرم وكان يقول‏:‏ إن فوق السماء عوالم مبدعة لا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار ولا يقدر العقل أن يقف على إدراك ذلك الحسن والبهاء وهي مبدعة من عنصر لا يدرك غوره ولا يبصر نوره والمنطق والنفس والطبيعة تحته ودونه وهو الدهر المحصن من نحو آخره لا من نحو أوله وإليه تشتاق العقول والأنفس وهو الذي سميناه الديمومة والسرمد والبقاء في حد النشأة الثانية‏‏.‏

فظهر بهذه الإشارات أنه إنما أراد بقوله‏:‏ الماء هو المبدع الأول‏ أي هو مبدأ التركيبات الجسمانية لا المبدأ الأول‏ في الموجودات العلوية لكنه لما اعتقد أن العنصر الأول‏ هو قابل كل صورة أي منبع الصور كلها فأثبت في العالم الجسماني له مثالاً يوازيه في قبول الصور كلها ولم يجد عنصراً على هذا النهج مثل الماء فجعله المبدع الأول‏ في المركبات وأنشأ منه الأجسام والأجرام السماوية والأرضية‏.‏

وفي التوراة في السفر الأول‏ منها أن مبدأ الخلق هو جوهر خلقه اللّه تعالى ثم نظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان فخلق منه السموات وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال‏.‏

وكأن تاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية‏.‏

والذي أثبته من العنصر الأول‏ الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية إذ فيه جميع أحكام المعلومات وصور جميع الموجودات والخبر عن الكائنات‏.‏

والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش‏:‏ وكان عرشه على الماء‏.‏

رأي انكساغورس وهو أيضاً من أهل ملطية رأي في الوحدانية مثل ما رأى تاليس وخالفه في المبدأ الأول‏‏.‏

قال إن مبدأ الموجودات هو جسم أول متشابه الأجزاء وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس ولا ينالها العقل منها كون الكون كله العلوي منه والسفلي لأن المركبات مسبوقة بالبسائط والمختلفات أيضاً مسبوقة بالمتشابهات‏.‏

أليست المركبات كلها إنما امتزجت وتركبت من العناصر وهي بسائط متشابهة الأجزاء وأليس الحيوان والنبات وكل ما يغتذي فإنما يغتذي من أجزاء متشابهة أو غير متشابهة فتجتمع في المعدة فتصير متشابهة ثم تجري في العروق والشرايين فتستحيل أجزاء مختلفة مثل الدم واللحم والعظم‏.‏

وحكي عنه أيضاً أنه وافق سائر الحكماء في المبدأ الأول‏‏:‏ إنه العقل الفعال‏.‏

غير أنه خالفهم في قوله إن الأول‏ الحق تعالى ساكن غير متحرك‏.‏

وسنشرح القول في السكون والحركة له تعالى ونبين اصطلاحهم في ذلك‏.‏

وحكى فرفوريوس عنه أنه قال‏:‏ إن أصل الأشياء جسم واحد موضوع الكل لا نهاية له ولم يبين ما ذلك الجسم أهو من العناصر أم خارج عن ذلك قال‏:‏ ومنه تخرج جميع الأجسام والقوة الجسمانية والأنواع والأصناف‏.‏

وهو أول من قال بالكمون والظهور حيث قدر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول‏ وإنما الوجود ظهورها من ذلك الجسم نوعاً وصنفاً ومقداراً وشكلاً وتكاثفاً وتخلخلاً كما تظهر السنبلة من الحبة الواحدة والنخلة الباسقة من النواة الصغيرة والإنسان الكامل الصورة من النطفة المهينة والطير من البيض فكل ذلك ظهور عن كمون وفعل عن قوة وصورة عن استعداد مادة‏.‏

وإنما الإبداع واحد ولم يكن بشيء آخر سوى ذلك الجسم الأول‏‏.‏

وحكي عنه انه قال‏:‏ كانت الأشياء ساكنة ثم إن العقل رتبها ترتيباً على أحسن نظام فوضعها مواضعها من عال ومن سافل ومن متوسط ثم من متحرك ومن ساكن ومن مستقيم في الحركة ومن دائر ومن أفلاك متحركة على الدوام ومن عناصر متحركة على الاستقامة‏.‏

وهذه كلها بهذا الترتيب مظهرات لما في الجسم الأول‏ من الموجودات‏.‏

ويحكى عنه أن المرتب هو الطبيعة وربما يقول‏:‏ المرتب هو الباري تعالى‏.‏

وإذا كان المبدأ الأول‏ عنده ذلك الجسم فمقتضى مذهبه أن يكون المعاد إلى ذلك الجسم‏.‏

وإذا كانت النشأة الأولى‏ هي الظهور فيقتضي أن تكون النشأة الثانية‏ هي الكمون‏.‏

وذلك قريب من مذهب من يقول بالهيولى الأولى‏ التي حدثت فيها الصور إلا أنه أثبت جسماً غير متناه بالفعل هو متشابه الأجزاء وأصحاب الهيولى لا يثبتون جسماً بالفعل‏.‏

وقد رد عليه الحكماء المتأخرون في إثباته جسماً مطلقاً لم يعين له صورة سماوية أو عنصرية وفي نفيه النهاية عنه وفي قوله بالكمون والظهور وفي بيانه سبب الترتيب وتعيينه المرتب‏.‏

وإنما عقبت مذهبهم برأي تاليس لأنهما من أهل ملطية ومقاربان في إثبات العنصر الأول‏ والصور فيه متمثلة والجسم الأول‏ والموجودات فيه كاملة‏.‏

وحكى أرسطوطاليس عنه‏:‏ أن الجسم الذي تكون منه الأشياء غير قابل للكثرة‏.‏

قال وأومأ إلى أن الكثرة جاءت من قبل الباري تعالى وتقدس‏.‏

رأي أنكسيمانس وهو الملطيين المعروف بالحكمة المذكور بالخير عندهم‏.‏

قال‏:‏ إن الباري تعالى أزلي لا أول له ولا آخر‏:‏ هو مبدأ الأشياء ولا بدء له‏:‏ هو المدرك من خلقه أنه هو فقط وأنه لا هوية تشبهه وكل هوية مبدعة منه‏:‏ هو الواحد ليس كواحد الأعداد لأن واحد الأعداد يتكثر وهو لا يتكثر‏.‏

وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علمه الأول‏ والصور عنده بلا نهاية‏.‏

قال‏:‏ ولا يجوز في الباري تعالى إلا أحد قولين إما أن نقول‏:‏ إنه أبدع ما في علمه وإما أن نقول‏:‏ إنما أبدع أشياء لا يعلمها وهذا من قول المستشنع‏.‏

وإن قلنا أبدع ما في علمه فالصور أزلية بأزليته وليس تتكثر ذاته بتكثر المعلومات ولا تتغير بتغيرها‏.‏

قال‏:‏ أبدع بوحدانيته صورة العنصر ثم صورة العقل انبعثت عنها ببدعة الباري تعالى‏.‏

فرتب العنصر في العقل ألوان الصور على قدر ما فيها من طبقات الأنوار وأصناف الآثار وصارت تلك الطبقات صوراً كثيرة دفعة واحدة كما تحدث الصور في المرآة الصقيلة بلا زمان ولا ترتيب بعض على بعض غير أن الهيولى لا تحتمل القبول دفعة واحدة إلا بترتيب وزمان فحدثت تلك الصور فيها على الترتيب‏.‏

ولم يزل الأمر كذلك في العالم بعد العالم على قدر طبقات تلك العوالم حتى قلت أنوار الصور في الهيولى وقلت الهيولى وصارت منها هذه الصورة الرذلة الكثيفة التي لم تقبل نفساً روحانية ولا نفساً حيوانية ولا نباتية‏.‏

وكل ما هو على قبول حياة وحس فهو يعد في آثار تلك الأنوار‏.‏

وكان يقول‏:‏ إن هذا العالم يدثر ويدخله الفساد والعدم من أجل أنه سفل تلك العوالم وثفلها ونسبتها إليه نسبة اللب إلى القشر والقشر يرمى‏.‏

قال‏:‏ وإنما ثبات هذا العالم بقدر ما فيه من قليل نور ذلك العالم وإلا لما ثبت طرفة عين ويبقي ثباته إلى أن يصفي العقل جزءه الممتزج به وإلى أن تصفي النفس جزءها المختلط فيه‏.‏

فإذا صفي الجزءان عنه دثرت أجزاء هذا العالم‏.‏

فسدت وبقيت مظلمة قد عدمت ذلك القليل من النور فيها وبقيت الأنفس الدنسة الخبيثة في هذه الظلمة بلا نور ولا سرور ولا روح ولا راحة ولا سكون ولا سلوة‏.‏

ونقل عنه أيضاً أن أول الأوائل من المبدعات هو الهواء ومنه تكون جميع ما تكون في العالم من الأجرام العلوية والسفلية‏.‏

قال‏:‏ ما كون من صفو الهواء المحض لطيف روحاني لا يدثر ولا يدخل عليه الفساد وليقبل الدنس والخبث وما كون من كدر الهواء كثيف جسماني يدثر ويدخله الفساد ويقبل الدنس والخبث‏.‏

فما فوق الهواء من العوالم فهو من صفوه وذلك عالم الروحانيات وما دون الهواء من العوالم فهو من كدره وذلك من عالم الجسمانيات وهو كثير الأوساخ والأوار يتشبث به من سكن إليه فيمنعه من أن يرتفع علواً ويتخلص منه من لم يسكن إليه فيصعد إلى عالم كثير اللطافة دائم السرور‏.‏

ولعله جعل الهواء أول الأوائل لموجودات العالم الجسماني كما جعل العنصر أول الأوائل لموجودات العالم الروحاني‏.‏

وهو على مثال مذهب تاليس إذ أثبت العنصر والماء في مقابلته‏.‏

وهو قد أثبت العنصر والهواء في مقابلته ونزل العنصر منزلة القلم الأول‏ والعقل منزلة اللوح القابل لنقش الصور ورتب الموجودات على ذلك الترتيب‏.‏

وهو أيضاً من مشكاة النبوة اقتبس وبعبارات القوم التبس‏.‏

رأي انبادقليس وهو من الكبار عند الجماعة دقيق النظر في العلوم رقيق الحال في الأعمال‏.‏

وكان في زمن داود النبي عليه السلام‏ مضى إليه وتلقى منه العلم واختلف إلى لقمان الحكيم واقتبس منه الحكمة ثم عاد إلى يونان وأفاد‏.‏

قال‏:‏ إن الباري تعالى لم تزل هويته فقط وهو العلم المحض وهو الإرادة المحضة وهو الجود والعزة والقدرة والعدل والخير والحق لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء بل هي هو وهو‏:‏ هذه كلها‏.‏

مبدع فقط لا أنه أبدع من شيء ولا أن شيئاً كان معه‏.‏

فأبدع الشيء البسيط الذي هو أول البسائط المعقول وهو العنصر الأول‏‏.‏

ثم كثر الأشياء المبسوطة من ذلك المبدع البسيط الواحد الأول‏ ثم كون المركبات من المبسوطات‏.‏

وهو مبدع الشيء واللاشيء‏:‏ العقلي والفكري والوهمي أي مبدع المتضادات والمتقابلات‏:‏ المعقولة والخيالية والحسية‏.‏

وقال‏:‏‏ إن الباري تعالى أبدع الصور لا بنوع إرادة مستأنفة بل بنوع أنه علة فقط وه العلم والإرادة‏.‏

فإذا كان المبدع إنما أبدع الصور بنوع أنه علة لها فالعلة ولا معلول وإلا فالمعلول مع العلة معية بالذات فإن جاز أن يقال إن معلولاً مع العلة فالمعلول حينئذ ليس هو غير العلة وأن يكون المعلول ليس أولي بكونه معلولاً من العلة ولا العلة بكونها علة أولي من المعلول فالمعلول إذا تحت العلة وبعدها والعلة علة العلل كلها أي علة كل معلول تحتها فلا محالة أن المعلول لم يكن مع العلة بجهة من الجهات البتة وإلا فقد بطل اسم العلة والمعلول‏.‏

فالمعلول الأول‏ هو العنصر والمعلول الثاني هو بتوسطه العقل والثالث بتوسطهما النفس وهذه بسائط ومتوسطات وما بعدها مركبات‏.‏

وذكر أن المنطق لا يعبر عما عند العقل لأن العقل أكبر من المنطق من أجل أنه بسيط والمنطق مركب والمنطق يتجزأ والعقل يتحد ويحد فيجمع المتجزئآت‏.‏

فليس للمنطق إذاً أن يصف الباري تعالى إلا صفة واحدة وذلك أنه هو ولا شيء من هذه العوالم بسيط ولا مركب‏.‏

فإذا كان هو ولاشيء فقد كان الشيء واللاشيء مبدعين‏.‏

ثم قال أنبادقليس‏:‏ العنصر الأول‏ بسيط من نحو ذات العقل الذي هو دونه وليس هو بسيطاً مطلقاً أي واحداً بحتاً من نحو ذات العلة فلا معلول إلا وهو مركب تركيباً عقلياً أو حسياً فالعنصر في ذاته مركب من المحبة والغلبة وعنهما أبدعت الجواهر البسيطة الروحانية والجواهر المركبة الجسمانية فصارت المحبة والغلبة صفتين أو صورتين للعنصر مبدأين لجميع الموجودات فانطبعت الروحانيات كلها على المحبة الخالصة والجسمانيات كلها على الغلبة والمركبات منهما على طبيعتي المحبة والغلبة والازدواج والتضاد وبمقدارهما في المركبات تعرف مقادير الروحانيات في الجسمانيات‏.‏

قال‏:‏ ولهذا المعنى ائتلفت المزدوجات بعضها ببعض نوعاً بنوع وصنفاً بصنف واختلفت المتضادات فتنافر بعضها عن بعض نوعاً عن نوع وصنفاً عن صنف‏.‏

فما كان فيها من الائتلاف والمحبة فمن الروحانيات وما كان فيها من الاختلاف والغلبة فمن الجسمانيات وقد يجتمعان في نفس واحدة بإضافتين مختلفتين‏.‏

وربما أضاف المحبة إلى المشتري والزهرة والغلبة إلى زحل والمريخ فكأنهما تشخصتا بالسعدين والنحسين‏.‏

ولكلام أنبادقليس مساق آخر قال‏:‏ إن النفس النامية قشر للنفس البهيمية الحيوانية والنفس الحيوانية قشر للنفس المنطقية والمنطقية قشر للعقلية وكل ما هو أسفل فهو قشر لما هو أعلى والأعلى لبه‏.‏

وربما يعبر عن القشر واللب بالجسد والروح فيجعل النفس النامية جسداً للنفس الحيوانية وهذه روحاً لها وعلى ذلك حتى ينتهي إلى العقل‏.‏

وقال‏:‏‏ لما صور العنصر الأول‏ في العقل ما عنده من الصور المعقولة الروحانية وصور العقل في النفس ما استفاد من العنصر‏:‏ صورت النفس الكلية في الطبيعة الكلية ما استفادت من العقل فحصلت قشور في الطبيعة لا تشبهها ولا هي شبيهة بالعقل الروحاني اللطيف‏.‏

فلما نظر العقل إليها وأبصر الأرواح واللبوب في الأجسام والقشور‏:‏ ساح عليها من الصور الحسنة الشريفة البهية وهي صور النفوس المشاكلة للصور العقلية اللطيفة الروحانية حتى يدبرها ويتصرف فيها بالتمييز بين القشور واللبوب فيصعد باللبوب إلى عالمها فكانت النفوس الجزئية أجزاء للنفس الكلية كأجزاء الشمس المشرقة على منافذ البيت والطبيعة الكلية معلولة للنفس وفرق بين الجزء وبين الطبيعة فالجزء غير المعلول‏.‏

ثم قال‏:‏ وخاصية النفس الكلية المحبة لأنها لما نظرت إلى العقل وحسنه وبهائه أحبته حب وامق عاشق لمعشوقه فطلبت الاتحاد به وتحركت نحوه‏.‏

وخاصية الطبيعة الكلية العذبة لأنها لما توحدت لم يكن لها نظر وبصر تدرك بهما النفس والعقل وتعشقهما بل انبجست منها قوى متضادة‏:‏ أما في بسائطها فمتضادات الأركان وأما في مركباتها فمتضادات القوى المزاجية والطبيعية والنباتية والحيوانية‏.‏

والطبيعية تمردت عليها لبعدها من العلة بكونها معلولة عن كلياتها وطاوعتها الأجزاء النفسانية مغترة بعالمها الغرار الغدار فركنت إلى لذات حسية‏:‏ من مطعم مري ومشرب هني وملبس طرى ومنكح شهى‏.‏

ونسيت ما قد طبعت عليه من ذلك البهاء والحسن والكمال الروحاني النفساني العقلي فلما رأت النفس الكلية تمردها واغترارها أهبطت إليها جزءاً من أجزائها هو أزكى وألطف وأشرف من هاتين النفسين البهيمية والنباتية ومن تلك النفوس المغترة بهما فيكسر النفسين عن تمردهما ويحبب إلى النفوس المغترة عالمها ويذكرها بما نسيت ويعلمها ما جهلت ويطهرها مما تدنست فيه ويزكيها عما تنجست به‏.‏

وذلك الجزء الشريف هو النبي المبعوث في كل دور من الأدوار فيجري على سنن العقل والعنصر الأول‏ من رعاية المحبة والغلبة فيتألف بعض النفوس بالحكمة والموعظة الحسنة‏.‏

ويشدد على بعضها بالقهر والغلبة‏.‏

فتارة يدعو باللسان من جهة المحبة لطفاً وتارة يدعو بالسيف من جهة الغلبة عنفاً فيخلص النفوس الجزئية الشريفةالتى اغترت بتمويهات النفسين المزاجيتين عن التمويه الباطل والتسيل الزائل الفائل‏.‏

وربما يكسو النفسين السافلتين كسوة النفس الشريفة فتنقلب الصفة الشهوية إلى المحبة فتغلب محبة الخير والحق والصدق وتنقلب الصفة الغضبية إلى الغلبة فتغلب الشر والباطل والكذب فتصعد النفس الجزئية الشريفة إلى عالم الروحانيين بهما جميعاً فتكونان جسداً لها في ذلك العالم كما كانتا جسداً لها في هذا العالم‏.‏

وقد قيل‏:‏ إذا كانت الدولة والجد لأحد أحبه أشكاله فيغلب بمحبتهم له أضداده‏.‏

ومما نقل عن أنبادقليس أنه قال‏:‏ العالم مركب من الأسطقسات الأربعة فانه ليس وراءها شئ ابسط منها وان الأشياء كامنة بعضها في بعض‏.‏

وأبطل الكون والاستحالة والنمو

وقال‏:‏‏ الهواء لا يستحيل ناراً ولا الماء هواء ولكن ذلك بتكاثف وتخلخل وبكمون وظهور وتركب وتحلل‏.‏

وإنما التركب في المركبات بالمحبة يكون والتحلل في المتحللات بالغلبة يكون‏.‏

ومما نقل عنه أيضاً‏:‏ انه تكلم في الباري تعالى بنوع حركة وسكون فقال‏:‏ أنه متحرك بنوع سكون لأن العقل والعنصر متحركان بنوع سكون وهو مبدعهما ولا محالة أن المبدع أكبر لأنه علة كل متحرك وساكن‏.‏

وشايعه على هذا الرأي فيثاغورس ومن بعده من الحكماء‏.‏

إلى أفلاطون‏.‏

وأما زينون الأكبر وديمقريط والشاعريون فصاروا إلى أنه تعالى متحرك وقد سبق النقل عن أن كسا غورس أنه قال‏:‏ هو ساكن لا يتحرك لأن الحركة لا تكون إلا محدثة ثم قال‏:‏ إلا أن يقولوا‏:‏ إن تلك الحركة فوق هذه الحركة كما أن ذلك السكون فوق هذا السكون‏.‏

وهؤلاء ما عنوا بالحركة والسكون النقلة عن مكان واللبث في مكان ولا بالحركة التغيير والاستحالة ولا بالسكون ثبات الجوهر والدوام على حالة واحدة فإن الأزلية والقدم تنافي هذه المعاني كلها‏.‏

ومن يحترز ذلك الاحتراز عن التكثر فكيف يجازف هذه المجازفة في التغيير‏!‏ فأما الحركة والسكون في العقل والنفس فإنما عنوا بهما الفعل والانفعال وذلك أن العقل لما كان موجوداً كاملاً بالفعل قالوا‏:‏ هو ساكن واحد مستغن عن حركة يصير بها فاعلاً والنفس لما كانت ناقصة متوجهة إلى الكمال قالوا‏:‏ هي متحركة طالبة درجة العقل‏.‏

ثم قالوا‏:‏ العقل ساكن بنوع حركة أي هو في ذاته كامل بالفعل فاعل يخرج النفس من القوة إلى الفعل‏.‏

والفعل نوع حركة في سكون والكمال نوع سكون في حركة أي هو كامل ومكمل غيره‏.‏

فعلى هذا المعنى يجوز على قضية مذهبهم إضافة الحركة والسكون إلى الباري تعالى‏.‏

ومن العجب أن مثل هذا الاختلاف قد وجد في أرباب الملل حتى صار بعض إلى أنه تعالى مستقر في مكان ومستو على مكان وذلك إشارة إلى السكون وصار بعض إلى أنه يجيء ويذهب وينزل ويصعد وذلك عبارة عن الحركة إلى أنه يحمل على معنى صحيح لائق بجناب القدس حقيق بحلال الحق‏.‏

ومما نقل عن أنبادقليس في أمر المعاد أنه قال‏:‏ يبقى هذا العالم على الوجه الذي عهدناه من النفوس التي تشبثت بالطبائع والأرواح التي تعلقت بالشباك حتى تستغيث في آخر الأمر إلى النفس الكلية التي هي كلها فتتضرع النفس إلى العقل ويتضرع العقل إلى الباري تعالى فيسيح الباري تعالى على العقل ويسيح العقل على النفس وتسيح النفس على هذا العالم بكل نورها فتستضئء الأنفس الجزئية وتشرق الأرض بنور ربها حتى تعاين الجزئيات كلياتها فتتخلص من الشبكة فتتصل بكلياتها وتستقر في عالمها‏:‏ مسرورة محبورة‏:‏ ومن لم يجعل اللّه له نوراً فما له من نور‏.‏

رأي فيثاغورس ابن منسارخس من أهل ساميا‏.‏

وكان في زمان سليمان النبي ابن داود عليهما السلام‏.‏

قد أخذ الحكمة من معدن النبوة‏.‏

وهو الحكيم الفاضل ذو الرأي المتين والعقل الرصين‏.‏

يدعى‏:‏ أنه شاهد العوالم العلوية بحسه وحدسه وبلغ في الرياضة إلى أن سمع حفيف الفلك ووصل إلى مقام الملك

وقال‏:‏‏ ما سمعت شيئاً قط ألذ من حركاتها ولا رأيت شيئاً أبهى من صورها وهيئاتها‏.‏

قوله في الإلهيات‏.‏

قال‏:‏ إن الباري تعالى واحد لا كالآحاد ولا يدخل في العدد ولا يدرك من جهة العقل ولا من جهة النفس فلا الفكر العقلي يدركه ولا المنطق النفسي يصفه فهو فوق الصفات الروحانية غير مدرك من نحو ذاته وإنما يدرك بآثاره وصنائعه وأفعاله‏.‏

وكل عالم من العوالم يدركه بقدر الآثار التي تظهر في صنعته فينعته ويصفه بذلك القدر الذي يخصه من صنعته فالموجودات في العالم الروحاني قد خصت بآثار خاصة روحانية فتنعنه من حيث تلك الآثار والموجودات في العالم الجسماني قد خصت بآثار خاصة جسمانية فتنعته من حيث تلك الآثار‏.‏

ولا نشك أن هداية الحيوان مقدرة على الآثار التي جبل الحيوان عليها وهداية الإنسان مقدرة على الآثار التي فطر الإنسان عليها‏.‏

فكل يصفه من نحو ذاته ويقدسه عن خصائص صفاته‏.‏

ثم قال‏:‏ الوحدة تنقسم إلى وحدة غير مستفادة من الغير وهي‏:‏ وحدة الباري تعالى‏:‏ وحدة الإحاطة بكل شيء‏:‏ وحدة الحكم على كل شيء‏:‏ وحدة تصدر عنها الآحاد في الموجودات والكثرة فيها وإلى وحدة مستفادة من الغير وذلك وحدة المخلوقات‏.‏

وربما يقولون‏:‏ الوحدة على الإطلاق تنقسم إلى وحدة قبل الدهر ووحدة مع الدهر ووحدة بعد الدهر وقبل الزمان ووحدة مع الزمان‏.‏

فالوحدة التي هي قبل الدهر هي وحدة الباري تعالى والوحدة التي هي مع الدهر هي وحدة العقل الأول‏ والوحدة التي هي بعد الدهر وقبل الزمان هي وحدة النفس والوحدة التي هي مع الزمان هي وحدة العناصر والمركبات‏.‏

وربما يقسم الوحدة قسمة أخرى فيقول‏:‏ الوحدة تنقسم إلى وحدة بالذات وإلى وحدة بالعرض‏.‏

فالوحدة بالذات يئست إلا للمبدع للكل الذي منه تصدر الوجدانيات في العدد والمعدود والوحدة بالعرض تنقسم إلى ما هو مبدأ العدد وليس داخلاً في العدد وإلى ما هو مبدأ للعدد وهو داخل فيه‏:‏ فالأول كالواحدية للعقل الفعال لأنه لا يدخل في العدد والمعدود والثاني‏‏ ينقسم إلى ما يدخل فيه كالجزء له فإن الاثنين إنما هو مركب من واحدين وكذلك كل عدد فهو مركب من آحاد لا محالة وحيثما ارتقى العدد إلى أكثر نزلت نسبة الوحدة إليه إلى أقل وإلى ما يدخل فيه كاللازم له لا كالجزء فيه وذلك لأن كل عدد أو معدود لن يخلو قط عن وحدة تلازمه فإن الاثنين والثلاثة في كونهما أثنين وثلاثة واحدة وكذلك المعدودات من المركبات والبسائط واحدة‏:‏ إما في الجنس أو في النوع أو في الشخص كالجوهر في أنه جوهر على الإطلاق والإنسان في أنه إنسان والشخص المعين مثل زيد في أنه ذلك الشخص بعينه واحد فلم تنفك الوحدة من الموجودات قط‏.‏

وهذه وحدة مستفادة من وحدة الباري تعالى تلزم الموجودات كلها وإن كانت في ذواتها متكثرة‏.‏

وإنما شرف كل موجود بغلبة الوحدة فيه فكل ما هو أبعد من الكثرة فهو أشرف وأكمل‏.‏

ثم إن لفيثاغورس رأياً في العدد والمعدود قد خالف فيه جميع الحكماء قبله وخالفه فيه من بعده وهو أنه جرد العدد عن المعدود تجريد الصورة عن المادة وتصوره موجوداً محققاً وجرد الصورة وتحققها‏.‏

وقال‏:‏‏ مبدأ الموجودات هو العدد وهو أول مبدع أبدعه الباري تعالى‏.‏

فأول العدد هو الواحد وله اختلاف رأي في أنه هل يدخل في العدد أم لا كما سبق وميله الأكثر إلى أنه لا يدخل في العدد فيبتدئ العدد من اثنين‏.‏

ويقولون هو منقسم إلى زوج وفرد فالعدد البسيط الأول‏ اثنان والزوج البسيط الأول‏ أربعة وهو المنقسم بمتساويين ولم يجعل الاثنين زوجاً فإنه لو انقسم لكان إلى واحدين وكان الواحد داخلا في العدد ونحن ابتدأنا في العدد من اثنين والزوج قسم من أقسامه فكيف يكون نفسه‏.‏

والفرد البسيط الأول‏ ثلاثة قال‏:‏ وتتم القسمة بذلك وما وراءه فهو قسمة القسمة فالأربعة هي نهاية العدد وهي الكمال وعن هذا كان يقسم بالرباعية‏:‏ لا وحق الرباعية التي هي تدبر أنفسنا‏:‏ الني هي أصل الكلام‏.‏

وما وراء ذلك فهو‏:‏ زوج الفرد وزوج الزوج وزوج الزوج والفرد‏.‏

ويسمي الخمسة عدداً دائراً فإنها إذا ضربتها في نفسها أبداً عادت الخمسة من الرأس‏.‏

ويسمي الستة عدداً تاماً فإن أجزائها مساوية لجملتها‏.‏

والسبعة عدداً كاملاً فإنها مجموع الزوج والفرد وهي نهاية أخرى‏.‏

والثمانية مبتدأة‏:‏ مركبة من زوجين‏.‏

والتسعة من ثلاثة أفراد وهي نهاية أخرى‏.‏

والعشرة من مجموع العدد من الواحد إلى الأربعة وهي نهاية أخرى‏.‏

فللعدد أربع نهايات‏:‏ أربعة وسبعة وتسعة وعشرة‏.‏

ثم يعود إلى الواحد فيقول‏:‏ أحد عشر ويعد‏.‏

والتركيبات فيما وراء الأربعة على أنحاء ستة‏:‏ فالخمسة على مذهب من لا يرى الواحد داخلاً في العدد فهي مركبة من عدد وفرد وعلى مذهب من يرى ذلك فهي مركبة من فرد وزوجين‏.‏

وكذلك الستة على الأول‏ فمركبة من فردين أو عدد وزوج وعلى الثاني فمركبة من ثلاثة أزواج‏.‏

والسبعة على الأول‏ فمركبة من فرد وزوج وعلى الثاني فمركبة من فرد وثلاثة أزواج‏.‏

والثمانية على الأول‏ فمركبة من زوجين وعلى الثاني فمركبة من أربعة أزواج‏.‏

والتسعة على الأول‏ فمركبة من ثلاثة أفراد وعلى الثاني فمركبة من فرد وأربعة أزواج‏.‏

والعشرة على الأول‏ فمركبة من عدد وزوجين أو زوج وفردين وعلى الثاني فما يحسب من الواحد إلى الأربعة وهو النهاية والكمال‏.‏

ثم الأعداد الأخرى فقياسها هذا القياس‏.‏

قال‏:‏ وهذه هي أصول الموجودات‏.‏

ثم إنه ركب العدد على المعدود والمقدار على المقدور فقال‏:‏ المعدود الذي فيه اثنينية وهو أصل المعدودات ومبدؤها هو العقل باعتبار أن فيه اعتبارين‏:‏ اعتباراً من حيث ذاته وأنه ممكن الوجود بذاته واعتباره من حيث مبدعه وأنه واجب الوجود به فقابله الاثنان‏.‏

والمعدود الذي فيه ثلاثية هو النفس إذ زاد على الاعتبارين اعتباراً ثالثاً‏.‏

والمعدود الذي فيه أربعة هو الطبيعة إذ زاد على الثلاثة رابعاً‏.‏

وثم النهاية أعني نهاية المبادئ وما بعدها المركبات فما من موجود مركب إلا وفيه من العناصر والنفس والعقل شئ إما عين أو أثر حتى ينتهي إلى السبعة فيقدر المعدودات على ذلك وينتهي إلى العشرة ويعد العقل والنفوس التسعة بأفلاكها التي هي أبدانها وعقولها المفارقة كالجوهر وتسعة أعراض‏.‏

وبالجملة إنما يتعرف حال الموجودات من العدد والمقادير الأول‏ ويقول‏:‏ الباري تعالى عالم بجميع المعلومات على طريق الإحاطة بالأسباب التي هي الأعداد المقادير وهي لا تختلف فعلمه لا يختلف‏.‏

وربما يقول‏:‏ المقابل للواحد هو العنصر الأول‏ - كما قال أنكسيمانسو يسميه الهيولي الأولي وذلك هو الواحد المستفادلا الواحد الذي هو كالاحادو هو‏:‏ واحد كل‏:‏ تصدر عنه كل كثرة وتستفيد الكثرة منه الوحدة التي تلازم الموجودات ولا تفارقها البتة كما قررنا‏.‏

وذكر إن العنصر انفراد بوحدته ثم أفاضها على الموجودات فلا يوجد موجود إلا وفيه من وحدته حظ على قدر استعداده ثم من هداية العقل حظ على قدر قبوله ثم من قوة النفس حظ على قدر تهيئته‏.‏

وعلى ذلك آثار المبادئ في المركبات فإن كل مركب لا يخلو عن مزاج ما وكل مزاج لا يعرى عن اعتدال ما وكل اعتدال عن كمال أو قوة كمال‏:‏ إما طبيعي إلي هو مبدأ الحركة وإما عن كمال نفساني هو مبدأ الحس‏.‏

فإذا بلغ المزاج الإنساني إلى حد قبول هذا الكمال‏:‏ أفاض عليه العنصر وحدته والعقل هدايته والنفس نطقه وحكمته‏.‏

قال‏:‏ ولما كانت التأليفات الهندسية مرتبة على المعادلات العددية عددناها أيضاً من المبادئ‏.‏

فصارت طائفة من الفيثاغوريين إلى أن المبادئ هي التأليفات الهندسية على مناسبات عددية ولهذا صارت المتحركات السماوية ذات حركات متناسبة لحنية هي أشرف الحركات وألطف التأليفات‏.‏

ثم تعد من ذلك إلى الأقوال حتى صارت طائفة منهم إلى أن المبادئ هي الحروف والحدود المجردة عن المادة وأوقعوا الألف في مقابلة الواحد والباء في مقابلة الاثنين‏.‏

إلى غير ذلك من المقابلات‏.‏

ولست أدري‏!‏ على أي لسان ولغة قدروها فإن الألسن يختلف باختلاف الأمصار والمدن أو على أي وجه من التركيب فإن التركيبات أيضاً مختلفة‏.‏

فالبسائط من الحروف مختلف فيها والمركبات كذلك ولا كذلك العدد فإنه لا يختلف أصلاً‏.‏

وصارت جماعة منهم إلى أن مبدأ الجسم هو الأبعاد الثلاثة والجسم مركب عنها وأوقعوا النقطة في مقابلة الواحد والخط في مقابلة الاثنين والسطح في مقابلة الثلاثة والجسم في مقابلة الأربعة‏.‏

وراعوا هذه المقابلات في تراكيب الأجسام وتضاعيف الأعداد‏.‏

ومما ينقل عن فيثاغورس‏:‏ أن الطبائع أربعة والنفوس التي فينا أيضاً أربعة‏:‏ العقل والعلم والرأي والحواس‏.‏

ثم ركب فيه العدد على المعدود‏.‏

والروحاني على الجسماني‏.‏

قال الرئيس أبو علي الحسين بن سينا‏:‏ وأمثل ما يحمل عليه هذا القول أن يقال‏:‏ كون الشيء واحداً غير كونه موجوداً أو إنساناً وهو في ذاته أقدم منهما فالحيوان الواحد لا يحصل واحداً إلا وقد تقدمه معنى الوحدة الذي صارا به واحداً ولولاه لم يصح وجوده فإذاً هو‏:‏ الأشرف‏:‏ الأبسط‏:‏ الأول‏ وهذه صورة العقل فالعقل يجب أن يكون الواحد من هذه الجهة والعلم دون ذلك في الرتبة لأنه بالعقل ومن العقل فهو كالاثنين الذي يفتقر إلى الواحد ويصدر منه وكذلك العلم يؤول إلى العقل‏.‏

ومعنى الظن والرأي عدد السطح والحس عدد المصمت‏:‏ أن السطح لكونه ذا ثلاث جهات هو طبيعة الظن الذي هو أعم من العلم مرتبة وذلك لأن العلم يتعلق بمعوم معين والظن والرأي ينجذب إلى الشيء ونقيضه والحس أعم من الظن فهو المصمت أي الجسم له أربع جهات‏.‏

ومما نقل عن فيثاغورس‏:‏ أن العالم إنما ألف من اللحوم البسيطة الروحانية‏.‏

ويذكر أن الأعداد الروحانية غير منقطعة بل أعداد متحدة تتجزأ من نحو العقل ولا تتجزأ من نحو الحواس‏.‏

وعد عوالم كثيرة‏:‏ فمنه عالم هو سرور محض في أصل الإبداع وابتهاج وروح في وضع الفطرة ومنه عالم هو دونه‏.‏

ومنطقها ليس مثل منطق العوالم العالية فإن المنطق قد يكون باللحون الروحانية البسيطة وقد يكون باللحون الروحانية المركبة‏.‏

والأول يكون سرورها دائماً غير منقطع‏.‏

ومن اللحون ما هو بعد ناقص في التركيب لأن المنطق بعد لم يخرج إلى العقل فلا يكون السرور بغاية الكمال لأن اللحن ليس بغاية الاتفاق‏.‏

وكل عالم فهو دون الأول‏ بالرتبة وتتفاضل العوالم بالحسن والبهاء والرتبة‏.‏

والأخير ثقل العوالم وثفلها وسفلها ولذلك لم يجتمع كل الاجتماع ولم تتحد الصورة بالمادة كل الاتحاد وجاز على كل جزء منه الانفكاك عن الجزء الآخر إلا أن فيه نوراً قليلاً من النور الأول‏ فلذلك النور وجد فيه نوع ثبات ولولا ذلك لم يثبت طرف عين وذلك النور القليل‏:‏ جسم النفس والعقل الحامل لهما في هذا العالم‏.‏

وذكر أن الإنسان بحكم الفطرة واقع في مقابلة العالم كله وهو عالم صغير والعالم إنسان كبير ولذلك صار حظه من النفس والعقل أوفر فمن أحسن تقويم نفسه وتهذيب أخلاقه وتزكية أحواله أمكنه أن يصل إلى معرفة العالم وكيفية تأليفه ومن ضيع نفسه ولم يقم بمصالحها من التهذيب والتقويم خرج من عداد العدد والمعدود وانحل عن رباط القدر والمقدور وصار ضياعاً هملاً‏.‏

وربما يقول‏:‏ النفس الإنسانية تأليفات عددية أو لحنية ولهذا ناسبت النفس مناسبات الألحان والتذت بسماعها وطاشت وتوجدت باستماعها وجاشت‏.‏

ولقد كانت قبل اتصالها بالأبدان قد أبدعت من تلك التأليفات العددية الأولى‏ ثم اتصلت بالأبدان فإن كانت التهذيبات الخلقية على تناسب الفطرة وتجردت النفوس عن المناسبات الخارجة‏:‏ اتصلت بعالمها وانخرطت في سلكها على هيئة أجمل وأكمل من الأول‏ فإن التأليفات الأولى‏ قد كانت ناقصة من وجه حيث كانت بالقوة وبالرياضة والمجاهدة في هذا العالم بلغت إلى حد الكمال خارجة من حد القوة إلى حد الفعل‏.‏

قال‏:‏ والشرائع التي وردت بمقادير الصلوات والزكوات وسائر العبادات‏.‏

هي لإيقاع هذه المناسبات في مقابلة تلك التأليفات الروحانية‏.‏

وربما يبالغ في تقرير التأليف حتى يكاد يقول‏:‏ ليس في العالم سوى التأليف والأجسام والأعراض تأليفات والنفوس والعقول تأليفات‏.‏

ويعسر كل العسر تقرير ذلك‏!‏ نعم‏!‏ تقدير التأليف على المؤلف والتقدير على المقدر أمر يهتدي إليه ويعول عليه‏.‏

وكان خرينوس وزينون الشاعر‏:‏ متابعين لفيثاغورس على رأيه في المبدع والمبدع‏.‏

إلا أنهما قالا‏:‏ الباري تعالى أبدع النفس والعقل دفعة واحدة ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما وفي بدء ما أبدعهما‏:‏ أبدعهما لا يموتان‏.‏

ولا يجوز عليهما الدثور والفناء‏.‏

وذكرا أن النفس إذا كانت طاهرة زكية من كل دنس‏:‏ صارت في العالم الأعلى إلى مسكنها الذي يشاكلها ويجانسها وكان الجسم الذي هو من النار والهواء جسمها في ذلك العالم مهذباً من كل ثقل وكدر فأما الجرم الذي من الماء والأرض فإن ذلك يدثر ويفنى لأنه غير مشاكل للجسم السماوي لأن الجسم السماوي لطيف لا وزن له ولا يلمس‏.‏

فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم لأنه أشد روحانية وهذا العالم لا يشاكل الجسم بل الجرم يشاكله‏.‏

فكل ما هو مركب والأجزاء النارية والهوائية عليه أغلب كانت الجسمية أغلب وكل ما هو مركب والأجزاء المائية والأرضية عليه أغلب كانت الجرمية أغلب‏.‏

وهذا العالم عالم الجرم وذلك العالم عالم الجسم‏.‏

فالنفس في ذلك العالم تحشر في بدن جسماني لا جرماني دائماً لا يجوز عليه الفناء والدثور ولذته تكون دائمة لا تملها الطباع والنفوس‏.‏

وقيل لفيثاغورس‏:‏ لم قمت بإبطال العالم قال‏:‏ لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان فإذا بلغها سكنت حركته‏.‏

وأكثر اللذات العلوية هي التأليفات اللحنية وذلك كما يقال‏:‏ التسبيح والتقديس غذاء الروحانيين وغذاء كل موجود هو مما خلق منه ذلك الموجود‏.‏

وأما هيراقليطس وأباسيس فقد كانا من الفيثاغوريين وقالا‏:‏ إن مبدأ الموجودات هو النار فما تكاثف منها وتحجر فهو الأرض وما تحلل من الأرض بالنار صار ماء وما تخلخل من الماء بالنار صار هواء وما تخلخل من الهواء بحرارة النار صار ناراً‏.‏

فالنار مبدأ وبعدها الارض وبعدها الماء وبعدها الهواء وبعدها النار‏.‏

والنار هي المبدأ وإليها المنتهي فمنها التكون وإليها الفساد‏.‏

وأما أبيقورس الذي تفلسف في أيام ديمقريطيس فكان يرى أن مبادىء الموجودات أجسام تدرك عقلاً وهي كانت تتحرك من الخلاء في الخلاء وزعم أن الخلاء لا نهاية له وكذلك الأجسام لا نهاية لها إلا أن لها ثلاثة أشياء‏:‏ الشكل والعظم والثقل‏.‏

وديمقريطيس كان يرى أن لها شيئين‏:‏ الشكل والعظم فقط‏.‏

وذكر أن تلك الأجسام لا تتجزأ أي لا تنفعل ولا تتكثر وهي معقولة أو متوهمة غير محسوسة فاصطكت تلك الأجزاء في حركاتها اضطراراً واتفاقاً فحصل من اصطكاكها صور هذا العالم وأشكالها وتحركت على أنحاء من جهات التحرك‏.‏

وذلك هو الذي يحكي عنهم‏:‏ أنهم قالوا بالاتفاق فلم يثبتوا لها صانعا أوجب الاصطكاك وأوجد هذه الصور‏.‏

وهؤلاء قد أثبتوا الصانع وأثبتوا سبب حركات تلك الجواهر‏.‏

وأما اصطكاكها فقد قالوا فيها بالاتفاق فلزمهم حصول العالم بالاتفاق والخبط‏.‏

وكان لفيثاغورس تلميذان رشيدان‏:‏ يدعى

أحدهما‏‏‏‏:‏ فلنكس ويعرف بمرزنوش قد دخل فارس ودعا الناس إلى حكمة قيثاغورس وأضاف حكمته إلى مجوسية القوم‏.‏

ويدعى الآخر‏:‏ قلانوس دخل الهند ودعا الناس إلى حكمة فيثاغورس أيضاً وأضاف حكمته إلى برهمية القوم‏.‏

إلا أن المجوس كما يقال أخذوا جسمانية قوله والهند أخذوا روحانية قوله‏.‏

ومما أخبر عنه فيثاغورس وأوصى به‏:‏ قال‏:‏ إني عانيت هذه العوالم العلوية بالحس بعد الرياضة البالغة وارتفعت عن عالم الطبائع إلى عالم النفس وعالم العقل فنظرت إلى ما فيها من الصور المجردة وما لها من الحسن والبهاء والنور وسمعت ما لها من اللحون الشريفة والأصوات الشجية الروحانية‏.‏

وقال‏:‏‏ إن ما في هذا العالم يشتمل على مقدار يسير من الحسن لكونه معلول الطبيعة وما فوقه من العوالم أبهى وأشرف وأحسن إلى أن يصل الوصف إلى عالم النفس والعقل فيقف فلا يمكن المنطق وصف ما فيها من الشرف والكرم والحسن والبهاء‏.‏

فليكن حرصكم واجتهادكم على الاتصال بذلك العالم حتى يكون بقاؤكم ودوامكم طويلاً بعد ما نالكم من الفساد والدثور وتصيرون إلى عالم هو‏:‏ حسن كله وبهاء كله وسرور كله وعز وحق كله‏.‏

ويكون سروركم لذتكم دائمة غير منقطعة‏.‏

وقال‏:‏‏ من كانت الوسائط بينه وبين مولاه أكثر فهو في رتبة العبودية أنقص‏.‏

وإذا كان البدن مفتقراً في مصالحه إلى تدبير الطبيعة وكانت الطبيعة مفتقرة في تأدية أفعالها إلى تدبير النفس وكانت النفس مفتقرة في اختيارها الأفضل إلى إرشاد العقل ولم يكن فوق العقل فاتح إلا الهداية الإلهية‏.‏

فبالحري أن يكون المستعين بصريح العقل في كافة المصارف مشهوداً له بفطنة الاكتفاء بمولاه وأن يكون التابع لشهوة البدن المنقاد لدواعي الطبيعة المواتي لهوى النفس‏.‏

بعيداً من مولاه ناقصاً في رتبته‏.‏

رأي سقراط سقراط بن سفر نيسقوس الحكيم الفاضل الزاهد‏:‏ من أهل أثينية‏.‏

وكان قد اقتبس الحكمة من فيثاغورس وأرسالاوس واقتصر من أصنافها على الإلهيات والأخلاقيات واشتغل بالزهد ورياضة النفس وتهذيب الأخلاق وأعرض عن ملاذ الدنيا واعتزل إلى الجبل وأقام في غاربه‏.‏

ونهى الرؤساء الذين كانوا في زمانه عن الشرك وعبادة الأوثان فثورا عليه الغاغة وألجأوا ملوكهم إلى قتله فحبسه الملك ثم سقاه السم‏.‏

وقضيته معروفة‏.‏

قال سقراط‏:‏ إن الباري تعالى لم يزل هوية فقط وهو جوهر فقط‏.‏

وإذا رجعنا إلى حقيقة الوصف والقول فيه‏:‏ وجدنا المنطق والعقل قاصرين عن إكتناه ووصفه وحقيقته وتسميته وإدراكه لأن الحقائق كلها من تلقاء جوهره فهو المدرك حقاً والواصف لكل شيء وصفاً والمسمى لكل موجود اسماً فكيف يقدر المسمى أن يسميه اسماً وكيف يقدر المحاط أن يحيط به وصفاً‏!‏ فنرجع فنصفه من جهة آثاره وأفعاله وهي أسماء وصفات إلا أنها ليست من الأسماء الواقعة على الجوهر المخبرة عن حقيقته وذلك مثل قولنا‏:‏ إله أي واضع كل شيء وخالق أي مقدر كل شيء وعزيز أي ممتنع أن يضام وحكيم أي محكم أفعاله على النظام‏.‏

وكذلك سائر الصفات‏.‏

وقال‏:‏‏ إن علمه وقدرته وجوده وحكمته‏.‏

بلا نهاية ولا يبلغ العقل أن يصفها ولو وصفها لكانت متناهية‏.‏

فألزم عليه‏:‏ إنك تقول‏:‏ إنها بلا نهاية ولا غاية وقد نرى الموجودات متناهية‏!‏ فقال‏:‏ إنما تناهيها بحسب احتمال القوابل لا بحسب القدرة والحكمة والجود ولما كانت المادة لم تحتمل صوراً بلا نهاية فتناهت الصور لا من جهة بخل في الواهب بل لقصور في المادة‏.‏

وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت‏:‏ ذاتاً وصورة وحيزاً ومكاناً إلا أنها لا تتناهى زماناً في آخرها إلا من نحو أولها وإن لم يتصور بقاء شخص فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص ببقاء الأنواع وذلك بتجدد أمثالها ليستحفظ الشخص ببقاء النوع ويستبقي النوع بتجدد الأشخاص فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية ولا الحكمة تقف على غاية‏.‏

ثم إن من مذهب سقراط‏:‏ أن أخص ما يوصف به الباري تعالى هو كونه‏:‏ حياً قيوماً لأن‏:‏ العلم والقدرة والجود والحكمة‏:‏ تندرج تحت كونه حياً والحياة صفة جامعة للكل‏.‏

والبقاء والسرمد والدوام وحفظ النظام في العالم‏:‏ تندرج تحت كونه قيوماً والقيومية صفة جامعة للكل‏.‏

وربما يقول‏:‏ هو حي ناطق من جوهره أي من ذاته وحياتنا ونطقنا لا من جوهرنا ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد ولا يتطرق إلى حياته ونطقه تعالى وتقدس‏.‏

وحكى فلوطرخيس في المبادئ أنه قال‏:‏ أصول الأشياء ثلاثة وهي‏:‏ العلة الفاعلة والعنصر والصورة فاللّه تعالى هو الفاعل والعنصر هو الموضوع الأول‏ للكون والفساد والصورة جوهر لا جسم‏.‏

وقال‏:‏‏ الطبيعة أمة للنفس والنفس أمة للعقل والعقل أمة للمبدع الأول‏ من أجل أن أول مبدع أبدعه المبدع الأول‏ صورة العقل‏.‏

وقال‏:‏‏ المبدع لا غاية له ولا نهاية وما ليس له نهاية ليس له شخص وصورة‏.‏

وقال‏:‏‏ اللانهاية في سائر الموجودات لو تحققت لكان لها صورة واقعة ووضع وترتيب وما تحقق له صورة ووضع وترتيب‏:‏ صار متناهياً فالموجودات ليست بلا نهاية والمبدع الأول‏ ليس بذي نهاية ليس على أنه ذاهب في الجهات بلا نهاية كما يتخيله الخيال والوهم بل لا يرتقي إليه الخيال حتى يصفه بنهاية ولا نهاية فلا نهاية له من جهة العقل إذ ليس يحده ولا من جهة الحس فليس يحده‏.‏

فهو ليس له نهاية فليس له شخص وصورة خيالية وجودية حسية أو عقلية‏:‏ تعالى وتقدس‏.‏

ومن مذهب سقراط‏:‏ أن النفوس الإنسانية كانت موجودة قبل وجود الأبدان على نحو من أنحاء الوجود‏:‏ إما متصلة بكلها وإما متمايزة بذواتها وخواصها فاتصلت بالأبدان استكمالا واستدامة والأبدان قوالبها وآلاتها فتبطل الأبدان و ترجع النفوس إلى كليتها‏.‏

وعن هذا وكان يخوف بالملك الذي حبسه‏:‏ أنه يريد قتله قال‏:‏ إن سقراط في حب والملك لا يقدر إلا على كسر الحب فالحب يكسر ويرجع الماء إلى البحر‏.‏

ولسقراط أقاويل في مسائل الحكمة العلمية والعملية‏.‏

ومما اختلف فيه فيثاغورس وسقراط‏:‏ أن الحكمة قبل الحق أم الحق قبل الحكمة وأوضح القول فيه بأن الحق أعم من الحكمة إلا أنه قد يكون جلياً وقد يكون خفياً‏.‏

وأما الحكمة فهي أخص من الحق إلا أنها لا تكون إلا جلية فإذاً‏:‏ الحق مبسوط في العالم مشتمل على الحكمة المستفيضة في العالم والحكمة موضحة للحق ولسقراط أيضاً الغاز ورموز ألقاها إلى تلميذه أرسجانس وجلها في كتاب فاذن‏.‏

ونحن نوردها مرسلة معقودة‏:‏ منها قوله‏:‏ عندما فتشت عن علة الحياة ألفيت الموت وعندما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة‏.‏

ومنها‏:‏ اسكت عن الضوضاء التي في الهواء وتكلم بالليالي حيث لا تكون أعشاش الخفافيش وأسدد الخمس الكوي ليضيء مسكن العلة وأملا الوعاء طيباً وأفرغ الحوض المثلث من القلال الفارغة وأحبس على باب الكلام وأمسك مع الحضرة اللجام الرخو لئلا تغضب فترى نظام الكواكب ولا تؤكل الأسود الذئب ولا تجاوز الميزان ولا تسوطن النار بالسكين ولا تجلس على المكيال ولا تشم التفاحة وأمت الحي تحيي بموته وكن قاتله بالسكين المزينة لوالديه واحذر الأسود ذا الأربع ومن جهة العلة كن أرنباً وعند الموت لا تكن نملة وعندما تذكر دوران الحياة أمت الميت لتكون ذاكراً وكن صديق مفضض ولا تكن صديق شرطي ولا تكن مع أصدقائك قوساً ولا تنعس على أبواب أعدائك واثبت على ينبوع واحد متكئاً على يمينك وينبغي أن تعلم أنه ليس زمان من الأزمنة يفقد فيه زمان الربيع وافحص عن ثلاث سبل فإذا لم تجدها فارض بأن تنام لها نوم المستغرق واضرب الأترجة بالرمانة واقتل العقرب بالصوم وإن أحببت أن تكون ملكاً فكن حمار وحش وليست السبعة بأكمل من الواحد وبالإثني عشر اقتن اثني عشر وازرع بالأسود واحصد بالأبيض ولا تسلبن الإكليل ولا تهتكه ولا تقفن راضياً بعدمك للخير وأنت موجود ذلك لك في أربعة وعشرين مكاناً وإن سألك سائل أن تعطيه من هذا الغذاء فميزه وإن كان مستحقاً للغذاء المريء فأعطه وإن احتاج إلى غذاء يمينك فاصنعه لأن اللون الذي يطلب كذلك من كمال الغذاء فهو للبالغين‏.‏

وقال‏:‏‏ يكفي من تأجج النار نورها‏.‏

وقال له رجل‏:‏ من أين لك أن هذا المشار إليه واحد فقال إني لأعلم أن الواحد بالإطلاق غير محتاج إلى الثاني فمتى فرضته قريناً للواحد كنت كواضع ما لا يحتاج غليه البتة إلى جانب ما لا بد منه البتة‏.‏

وقال‏:‏‏ الإنسان له مرتبة واحدة من جهة حده وثلاث مراتب من جهة هيئته‏.‏

وقال‏:‏‏ للقلب آفتان الغم والهم فالغم يعرض منه النوم والهم يعرض منه السهر‏.‏

وقال‏:‏‏ الحكمة إذا أقبلت خدمت الشهوات العقول وإذا أدبرت حدمت العقول الشهوات‏.‏

وقال‏:‏‏ لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم‏.‏

وقال‏:‏‏ ينبغي أن تغتم بالحياة وتفرح بالموت لأنا نحيا لنموت‏.‏

ونموت لنحيا‏.‏

وقال‏:‏‏ قلوب المغرقين في المعرفة بالحقائق منابر الملائكة وبطون المتلذذين بالشهوات قبور الحيوانات الهالكة‏.‏

وقال‏:‏‏ النفس الناطقة جوهر بسيط ذو سبع قوى يتحرك بها حركة مفردة وحركات مختلفة‏.‏

فأما حركتها المفردة فإذا تحركت نحو ذاتها ونحو العقل وأما حركاتها المختلفة فإذا تحركت نحو الحواس الخمس‏.‏

واليونانيون بنوا ثلاثة أبيات على طوالع مقبولة‏:‏

أحدهما‏‏‏‏:‏ بيت بأنطاكية على جبلها وكانوا يعظمونه ويقربون القرابين فيه وقد خرب‏.‏

والثاني‏‏ من جملة الأهرام التي بمصر‏:‏ بيت كانت فيه أصنام تعبد وهي التي نهاهم سقراط عن عبادتها‏.‏

والثالث‏:‏ بيت المقدس الذي بناه داود وأتمه سليمان عليهما السلام ويقال‏:‏ إن سليمان هو الذي بناه والمجوس يقولون‏:‏ إن الضحاك بناه وقد عظمه اليونانيون تعظيم أهل الكتاب إياه‏.‏

رأي أفلاطون الإلهي أفلاطون بن أرسطن بن أرسطوقليس‏:‏ من أثينية وهو آخر المتقدمين الأوائل الأساطين معروف بالتوحيد والحكمة‏.‏

ولد في زمان أردشير بن دارا في سنة ست عشرة‏‏ من ملكه وفي سنة ست وعشرين من ملكه كان حدثاً متعلماً يتلمذ لسقراط ولما اغتيل سقراط بالسم ومات‏:‏ قام مقامه وجلس على كرسيه‏.‏

وقد أخذ العلم من سقراط وطيماوس والغريبين‏:‏ غريب أثينية وغريب الناطس وضم إليه العلوم الطبيعية والرياضية‏.‏

وحكى عنه قوم ممن شاهده وتلمذ له مثل أرسطو طاليس وطيماوس وثاوفرسطيس‏.‏

أنه قال‏:‏ إن للعالم محدثاً مبدعاً أزلياً واجباً بذاته عالما بجميع معلوماته على نعت الأسباب الكلية كان قي الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل إلا مثالاً عند الباري تعالى ربما يعبر عنه بالهيولى وربما يعبر عنه بالعنصر ولعله يشير إلى صور المعلومات في علمه تعالى‏.‏

قال‏:‏ فأبدع العقل الأول‏ وبتوسطه النفس الكلية وقد انبعثت عن العقل انبعاث الصورة في المرآة وبتوسطهما العنصر‏.‏

ويحكى عنه‏:‏ أن الهيولى التي هي موضوع الصور الحسية غير ذلك العنصر‏.‏

ويحكى عنه‏:‏ أنه أدرج الزمان في المبادئ وهو الدهر وأثبت لكل موجود مشخص في العالم الحسي‏:‏ مثالاً غير مشخص في العالم العقلي ويسمى ذلك‏:‏ المثل الأفلاطونية‏.‏

فالمبادئ الأول‏ بسائط والمثل مبسوطات والأشخاص مركبات فالإنسان المركب المحسوس جزئي ذلك الإنسان المبسوط المعقول وكذلك كل نوع من الحيوان والنبات والمعادن‏.‏

وقال‏:‏‏ والموجودات في هذا العالم آثار الموجودات في ذلك العالم ولا بد لكل أثر من مؤثر يشابهه نوعاً من المشابهة‏.‏

قال‏:‏ ولما كان العقل الإنساني من ذلك العالم أدرك من المحسوس مثالاً منتزعاً من المادة معقولاً يطابق المثال الذي في عالم العقل بكليته ويطابق الموجود الذي في عالم الحس بجزئيته‏.‏

ولولا ذلك لما كان لما يدركه العقل مطابقاً مقابلاً من خارج فما يكون مدركاً لشيء يوافق إدراكه حقيقة المدرك‏.‏

وقال‏:‏‏ والعالم عالمان‏:‏ عالم العقل وفيه المثل العقلية والصور الروحانية وعالم الحس وفيه الأشخاص الحسية والصور الجسمانية كالمرآة المجلوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات فإن الصور فيها مثل الأشخاص وكذلك العنصر في ذلك العالم مرآة لجميع صور هذا العالم يتمثل فيه جميع الصور كلها غير أن الفرق‏:‏ أن المنطبع في المرآة ة الحسية صور خيالية يرى أنها موجودة تتحرك بحركة الشخص وليس في الحقيقة كذلك وأن المتمثل في المرآة العقلية صور حقيقية روحانية هي موجودة بالفعل تحرك الأشخاص ولا تتحرك فنسبة الأشخاص إليها كنسبة الصور في المرآة إلى الأشخاص فلها الوجود الدائم ولها الثبات القائم وهي تتمايز في حقائقها تمايز الأشخاص في ذواتها‏.‏

قال‏:‏ وإنما كانت هذه الصور موجودة كلية دائمة باقية لأن كل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علم الأول‏ الحق والصور عنده بلا نهاية ولو لم تكن الصور معه في أزليته في علمه لم تكن لتبقى ولو لم تكن دائمة بدوامها لكانت تدثر بدثور الهيولى ولو كانت تدثر مع دثور الهيولى لما كانت على رجاء ولا خوف ولكن لما صارت الصور الحسية على رجاء وخوف استدل به على بقائها وإنما تبقى إذا كانت لها قال‏:‏ وإذا اتفقت العقلاء على أن هناك حساً ومحسوساً وعقلاً ومعقولاً وشاهدنا بالحس جميع المحسوسات وهي محدودة ومحصورة بالزمان والمكان فيجب أن نشاهد بالعقل جميع المعقولات وهي غير محدودة ومحصورة بالزمان والمكان فتكون مثلاً عقلية‏.‏

ومما يثبته أفلاطون موجودات محققة بهذا التقسيم‏!‏ قال‏:‏ إنا نجد النفس تدرك أمور البسائط والمركبات ومن المركبات أنواعها وأشخاصها ومن البسائط ما هي هيولانية وهي التي تعرى عن الموضوع وهي رسوم الجزئيات مثل‏:‏ النقطة والخط والسطح والجسم التعليمي‏.‏

قال‏:‏ وهذه الأشياء أشياء موجودة بذواتها وكذلك توابع الجسم مفردة مثل‏:‏ الحركة والزمان والمكان والأشكال فإنا نلحظها بأذهاننا بسائط مرة ومركبة مرة أخرى ولها حقائق في ذواتها من غير حوامل ولا موضوعات‏.‏

ومن البسائط‏:‏ ما ليست هي هيولانية مثل‏:‏ الوجود والوحدة والجوهر‏.‏

والعقل يدرك القسمين جميعاً متطابقين عالمين متقابلين‏:‏ عالم العقل وفيه المثل العقلية التي تطابقها الأشخاص الحسية وعالم الحس وفيه المتمثلات الحسية التي تطابقها المثل العقلية‏.‏

فأعيان ذلك العالم آثار في هذا العالم وأعيان هذا العالم آثار في ذلك العالم وعليه وضع الفطرة والتقدير ولهذا الفصل شرح وتقرير‏.‏

وجماعة المشائين وأرسطوطاليس لا يخالفونه في إثبات هذا المعنى الكلي إلا أنهم يقولون‏:‏ هو معنى في العقل موجود في الذهن والكلي من حيث هو كلي لا وجود له في الخارج عن الذهن إذ لا يتصور أن يكون شيء واحد ينطبق على زيد وعلى عمرو وهو في نفسه واحد‏.‏

وأفلاطون يقول‏:‏ ذلك المعنى الذي أثبته في العقل يجب أن يكون له شيء يطابقه في الخارج فينطبق عليه وذلك هو المثال الذي في العقل وهو جوهر لا عرض إذ تصور وجوده لا في موضوع وهو متقدم على الأشخاص الجزئية تقدم العقل على الحس وهو تقدم ذاتي وشرفي معاً‏.‏

وتلك المثل هي مبادئ الموجودات الحسية‏:‏ منها بدأت وإليها تعود‏.‏

ويتفرع على ذلك أن النفوس الإنسانية التي هي متصلة بالأبدان اتصال تدبير وتصرف‏:‏ كانت موجودة قبل وجود الأبدان وكان لها نحو من أنحاء الوجود العقلي وتمايز بعضها عن بعض تمايز الصور المجردة عن المادة بعضها عن بعض‏.‏

وخالفه في ذلك تلميذه أرسطوطاليس ومن بعده من الحكماء

وقالوا‏:‏ أن النفوس حدثت مع حدوث الأبدان‏.‏

وقد رأيت في كلام أرسطوطاليس كما ستأتي حكايته أنه ربما يميل إلى مذهب أفلاطون‏:‏ في كون النفوس موجودة قبل وجود الأبدان إلا أن نقل المتأخرين ما قدمنا ذكره‏.‏

وخالفه أيضاً في حدوث العالم‏:‏ إن أفلاطون يحيل وجود حوادث لا أول لها لأنك إذا قلت حادث فقد أثبت سبق الأزلية لكل واحد وما ثبت لكل واحد يجب أن يثبت للكل‏.‏

قال‏:‏ وأن صورها لا بد وأن تكون حادثة لكن الكلام في هيولاها وعنصرها‏.‏

فأثبت عنصراً قبل وجودها فظن بعض العقلاء أنه حكم عليه بالأزلية والقدم وهو إذ أثبت واجب الوجود لذاته وأطلق لفظ الإبداع على العنصر فقد أخرجه عن الأزلية بذاته بل يكون وجوده بوجود واجب الوجود كسائر المبادئ التي ليست زمانية ولا وجودها ولا حدوثها حدوث زماني‏.‏

فالبسائط حدوثها إبداعي غير زماني والمركبات حدوثها بوسائط البسائط حدوث زماني‏.‏

وقال‏:‏‏ إن العالم لا يفسد فساداً كلياً‏.‏

ويحكى عنه في سؤاله عن طيماوس‏:‏ ما الشيء الذي لا حدوث له وما الشيء الحادث وليس بباق وما الشيء الموجود بالفعل وهو أبدأ بحال واحدة‏.‏

وإنما يعنى بالأول وجود الباري تعالى وبالثاني وجود الكائنات الفاسدات التي لا تثبت على حالة واحدة‏.‏

وبالثالث وجود المبادئ والبسائط التي لا تتغير‏.‏

ومن أسئلته‏:‏ ما الشيء الكائن ولا وجود له وما الشيء الموجود ولا كون له‏.‏

وإنما يعنى بالأول الحركة المكانية والزمان لأنه لم يؤهله لاسم الوجود ويعنى بالثاني الجواهر العقلية التي هي فوق الزمان والحركة والطبيعة وحق لها اسم الوجود إذ لها السرمد والبقاء والدهر‏.‏

ويحكى عنه أنه قال‏:‏ إن الأسطقسات لم تزل تتحرك حركة مشوهة مضطربة غير ذات نظام وإن الباري تعالى نظمها ورتبها فكان هذا العالم‏.‏

وربما عبرة عن الأسطقسات بالأجزاء اللطيفة

وقيل‏:‏ إنه عنى بها الهيولى الأزلية العارية عن الصور حتى اتصلت الصور والأشكال بها فترتبت وانتظمت‏.‏

ورأيت في راموز له أنه قال‏:‏ إن النفوس كانت في عالم الذكر مغتبطة مبتهجة بعالمها وما فيه من الروح والبهجة والسرور فأهبطت إلى هذا العالم حتى تدرك الجزئيات وتستفيد ما ليس لها بذاتها بواسطة القوى الحسية فسقطت رياشها قبل الهبوط فهبطت حتى يستوي ريشها وتطير إلى عالمها بأجنحة مستفادة من هذا العالم وحكى ارسطوطاليس عنه‏:‏ أنه أثبت المبادئ خمسة أجناس‏:‏ الجوهر والاتفاق والاختلاف والحركة والسكون‏.‏

ثم فسر كلامه فقال‏:‏ أما الجوهر فنعني به الوجود وأما الاتفاق فلأن الأشياء متفقة بأنها من اللّه تعالى وأما الاختلاف فلأنها مختلفة في صورها وأما الحركة فلأن لكل شيء من الأشياء فعلاً خاصاً‏.‏

وذلك نوع من الحركة لا حركة النقلة وإذا تحرك نحو الفعل وفعل فله سكون بعد ذلك لا محالة‏.‏

قال‏:‏ وأثبت البخت أيضاً مبدأً سادساً وهو نطق عقلي وناموس لطبيعة الكل وقال جرجيس‏:‏ إنه قوة روحانية مدبرة للكل وبعض الناس يسميه‏:‏ جداً وزعم الرواقيون‏:‏ أنه نظام لعلل الأشياء وللأشياء المعلولة‏.‏

وزعم بعضهم‏:‏ أن علل الأشياء ثلاثة‏:‏ المشتري والطبيعة والبخت‏.‏

وقال أفلاطون‏:‏ إن في العالم طبيعة عامة تجمع الكل وفي كل واحد من المركبات طبيعة خاصة وحد الطبيعة بأنها‏:‏ مبدأ الحركة والسكون في الأشياء أي مبدأ التغير وهي قوة سارية في الموجودات كلها تكون السكنات والحركات بها فطبيعة الكل محركة الكل‏.‏

والمحرك الأول‏ يجب أن يكون ساكناً وإلا تسلسل القول فيه إلى ما لا نهاية له‏.‏

حكي أرسطو طاليس في مقالة الألف الكبرى من كتاب ما بعد الطبيعة‏:‏ أن أفلاطون كان يختلف في حداثته إلى أقراطيلوس فكتب عنه ما روى عن هرقليطس‏:‏ أن جميع الأشياء المحسوسة فاسدة وأن العلم لا يحيط بها‏.‏

ثم اختلف بعده إلى سقراط وكان مذهبه طلب الحدود دون النظر في طبائع المحسوسات وغيرها فظن أفلاطون أن نظر سقراط في غير الأشياء المحسوسة لأن الحدود ليست للمحسوسات لأنها إنما تقع على أشياء دائمة كلية أعني‏:‏ الأجناس‏.‏

والأنواع‏.‏

فعند ذلك‏:‏ سمى أفلاطون الأشياء الكلية صوراً لأنها واحدة ورأى أن المحسوسات لا تكون إلا بمشاركة الصور‏.‏

إذاً‏:‏ كانت الصور رسوماً ومثالات لها‏.‏

متقدمة عليها‏.‏

وإنما وضع سقراط الحدود مطلقاً لا باعتبار المحسوس وغير المحسوس‏.‏

وأفلاطون ظن أنه وضعها لغير المحسوسات فأثبتها مثلاً عامة‏.‏

وقال أفلاطون في كتاب النواميس‏:‏ إن الأشياء التي لا ينبغي للإنسان أن يجهلها منها‏:‏ أن له صانعاً وأن صانعه يعلم أفعاله‏.‏

وذكر‏:‏ أن اللّه تعالى إنما يعرف بالسلب أي‏:‏ لا شبيه له ولا مثاله‏.‏

أنه أبدع العالم من لا نظام إلى نظام وأن كل مركب فهو إلى الانحلال وأنه لن يسبق العالم زمان ولم يبدع عن شيء‏.‏

ثم إن الأوائل اختلفوا في الإبداع والمبدع‏:‏ هل هما عبارتان عن معبر واحد أم للإبداع نسبة إلى المبدع ونسبة إلى المبدع وكذلك في الإرادة‏:‏ إنها المراد أم المريد على حسب اختلاف متكلمي الإسلام في‏:‏ الخلق والمخلوق والإرادة‏:‏ إنها‏:‏ خلق أم مخلوقة أم صفة في الخالق‏.‏

قال انكساغورس بمذهب فلوطرخيس‏:‏ إن الإرادة ليست هي غير المراد ولا غير المريد وكذلك الفعل لأنهما لا صورة لهما ذاتية وإنما يقومان بغيرهما‏.‏

فالإرادة‏:‏ مرة تكون مستبطنة في المريد ومرة ظاهرة في المراد وكذلك الفعل‏.‏

وأما أفلاطون وأرسطوطاليس فلا يقبلان هذا القول وقالا‏:‏ إن صورة الإرادة وصورة الفعل قائمتان وهما أبسط من صورة المراد كالقاطع للشيء هو المؤثر وأثره في الشيء والمقطوع هو المؤثر فيه القابل للأثر والمؤثر فيه هو الأثر وهو محال فصورة المبدع فاعلة وصورة المبدع مفعولة وصورة الإبداع متوسطة بين الفاعل والمفعول‏.‏

فللفعل‏:‏ صورة وأثر فصورته من جهة المبدع‏.‏

وأثره من جهة المبدع‏.‏

والصورة من جهة المبدع في حق الباري تعالى ليست زائدة على ذاته حتى يقال صورة إرادة وصورة باري مفترقتان بل هي حقيقة واحدة‏.‏

وأما برمنيدس الأصغر فإنه أجاز قولهم في الإرادة ولم يجزه في الفعل

وقال‏:‏‏ إن الإرادة تكون بلا توسط من الباري تعالى‏:‏ فأجاز ما وصفوه‏.‏

وأما الفعل فيكون بتوسط منه وليس ما هو بلا توسط كالذي يكون بتوسط بل الفعل قط لن يتحقق إلا بتوسط الإرادة ولا ينعكس‏.‏

وأما الأولون مثل‏:‏ تاليس وأبندقليس فقد قالوا الإرادة من جهة المبدع هي المبدع ومن جهة المبدع هي المبدع‏.‏

وفسروا هذا بأن الإرادة من جهة الصورة هي المبدع ومن جهة الأثر هي المبدع‏.‏

ولا يجوز أن يقال إنها من جهة الصورة هي المبدع لأن صورة الإرادة عند المبدع قبل أن يبدع فغير جائز أن تكون ذات صورة الشيء الفاعل هي المفعول بل من جهة أثر ذات الصورة هي المفعول‏.‏

ومذهب أفلاطون وأرسطوطاليس هذا بعينه‏.‏

وفي الفصل انغلاق‏.‏

 ٣-٢-٢الباب الثاني الحكماء الأصول الحكماء الأصول الذين هم من القدماء

إلا أنا لم نجد لهم رأياً في المسائل المذكورة غير حكم مرسلة عملية أوردناها لئلا تشذ مذاهبهم عن القسمة ولا يخلو الكتاب عن تلك الفوائد‏.‏

فمنهم الشعراء الذين يستدلون بشعرهم‏.‏

وليس شعرهم على وزن وقافية ولا الوزن والقافية ركن في الشعر عندهم بل الركن في الشعر عندهم إيراد المقدمات المخيلة فحسب‏.‏

ثم قد يكون الوزن والقافية معينين في التخيل‏.‏

فإن كانت المقدمة التي نوردها في القياس الشعري مخيلة فقط تمحض القياس شعرياً وإن انضم إليها قول إقناعي يقينياً تركبت المقدمة من معينين شعري وإقناعي وإن كان الضميم إليه قولاً يقينياً تركبت المقدمة من شعري وبرهاني‏.‏

ومنهم النساك ونسكهم وعبادتهم عقلية لا شرعية ويقتصر ذلك على تهذيب النفس عن الأخلاق الذميمة وسياسة المدينة الفاضلة التي هي الجنة الإنسانية‏.‏

وربما وجدنا لبعضهم رأياً في بعض المسائل المذكورة أعني‏:‏ المبدع والإبداع وأنه عالم وأن أول ما أبدعه ماذا وأن المبادئ كم هي وأن المعاد كيف يكون‏.‏

وصاحب الرأي الموافق للأوائل المذكورين أوردنا اسمه وذكرنا مقالته وإن كانت كالمكروه‏.‏

نبتدئ بهم ونجعل فلوطرخيس مبدأ آخر‏.‏

رأي فلوطرخيس قيل إنه أول من شهر بالفلسفة‏.‏

ونسبت إليه المحكمة‏.‏

تفلسف بمصر‏.‏

ثم سار إلى ملطية وأقام بها‏.‏

وقد يعد من الأساطين‏.‏

قال‏:‏ إن الباري تعالى لم يزل بالأزلية التي هي أزلية الأزليات وهو مبدع فقط‏.‏

وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته عنده أي كانت معلومة له‏.‏

فالصور عنده بلا نهاية أي المعلومات بلا نهاية‏.‏

قال‏:‏ ولو لم تكن الصور عنده ومعه لما كان إبداع ولا بقاء للمبدع ولو لم تكن باقية دائمة لكانت تدثر بدثور الهيولى ولو كان ذلك كذلك لارتفع الرجاء والخوف ولكن لما كانت الصور باقية دائمة ولها الرجاء والخوف‏:‏ كان ذلك دليلاً على أن الصور أزلية في علمه تعالى‏.‏

 

قال‏:‏ ولا وجه إلا القول بأحد الأقوال‏:‏ إما أن يقال‏:‏ الباري تعالى لا يعلم شيئاً البتة وهذا من المحال الشنيع وأما أن يقال‏:‏ يعلم بعض الصور دون بعض وهذا من النقص الذي لا يليق بكمال الجلال وإما أن يقال‏:‏ يعلم جميع الصور والمعلومات وهذا هو الرأي الصحيح‏.‏

ثم قال‏:‏ إن أصل المركبات هو الماء فإنه إذا تخلخل صافياً وجد ناراً وإذا تخلخل وفيه بعض الثقل صار هواء وإذا تكاثف تكاثفاً مبسوطاً بالغاً صار أرضاً‏.‏

وحكى فلوطرخيس أن هيرقليطس زعم أن الأشياء إنما انتظمت بالبخت وجوهر البخت هو نطق عقلي ينفذ في الجوهر الكلي‏.‏

واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

رأي أكسنوفانس كان يقول‏:‏ إن المبدع الأول‏ هو آنية أزلية دائمة ديمومة القدم لاتدرك بنوع صفة منطقية ولا عقلية مبدع كل صفة وكل نعت نطقي وعقلي فإذا كان هذا هكذا فقولنا‏:‏ إن صور ما في هذا العالم المبدعة لم تكن عنده أو كانت أو كيف أبدع ولم أبدع‏.‏

محال لأن العقل مبدع والمبدع مسبوق بالمبدع والمسبوق لا يدرك السابق أبداً فلا يجوز أن يصف المسبوق السابق‏.‏

بل نقول‏:‏ إن المبدع أبدع كيفما أحب وكيفما شاء فهو هو ولا شيء معه‏.‏

قال‏:‏ وهذه الكلمة أعنى‏:‏ هو ولا شيء بسيطاً ولا مركباً معه وهو مجمع كل ما نطلبه من العلم لأنك إذا قلت ولا شيء معه فقد نفيت عنه‏:‏ أزلية الصورة والهيولى وكل مبدع من صورة وهيولى وكل مبدع من صورة فقط‏.‏

ومن قال أن الصور أزلية مع آنيته فليس هو فقط بل هو وأشياء كثيرة فليس هو مبدع للصور بل كل صورة إنما أظهرت ذاتها فعند إظهارها ذاتها ظهرت هذه العوالم‏.‏

وهذه أشنع ما يكون من القول‏.‏

وكان تيرز والقادميون يقولان‏:‏ ليست أوائل البتة ولا معقول قبل المحسوس بحال فلا مثل بدعة الأشياء مثل الذي يفرخ من ذاته بلا حدث ولا فعل ظهر فلا يزال يخرجه من القوة إلى الفعل حتى يوجد فيكمل فنحسه وندركه وليس شيء معقول البتة‏.‏

والعالم دائم لا يزول ولا يفنى فإن المبدع لا يجوز أن يفعل فعلاً يدثر إلا وهو داثر مع دثور فعله وذلك محال‏.‏

رأي زينون الأكبر زينون الأكبر ابن ماوس‏:‏ من أهل قنطس‏.‏

كان يقول‏:‏ إن المبدع الأول‏ كان في علمه صورة إبداع كل جوهر وصورة دثور كل جوهر فإن علمه غير متناه والصور التي فيه من حيث الإبداع غير متناهية وكذلك صور الدثور غير متناهية فالعوالم تتجدد في كل حين وفي كل دهر فما كان منها مشاكلاً لنا أدركنا حدود وجوده ودثوره بالحواس والعقل وما كان غير مشاكل لنا لم ندركه إلا أنه ذكر وجه التجدد فقال‏:‏ إن الموجودات باقية دائرة‏:‏ أما بقاؤهما فبتجدد صورها وأما دثورها فبدثور الصورة الأولى‏ عند تجدد الأخرى‏.‏

وذكر أن الدثور قد يلزم الصورة والهيولى معاً‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إن الشمس والقمر والكواكب تستمد القوة من جوهر السماء فإذا تغيرت السماء تغيرت النجوم أيضاً‏.‏

ثم هذه الصور كلها‏:‏ بقاؤها ودثورها في علم الباري تعالى والعلم يقتضي بقاءها دائماً وكذلك الحكمة تقتضي ذلك لأن بقاءها على هذه الحال أفضل‏.‏

والباري تعالى قادر على أن يفني العوالم يوماً ما إن أراد‏.‏

وهذا الرأي و وقد مال إليه الحكماء المنطقيون الجدليون دون الإلهيين‏.‏

وحكى فلوطرخيس أن زينون كان يزعم أن الأصول هي اللّه عز وجل والعنصر فقط فاللّه هو العلة الفاعلة والعنصر هو المنفعل‏.‏

حكمه‏:‏ قال‏:‏ أكثروا من الإخوان فإن بقاء الإخوان كما أن شفاء الأبدان بالأدوية‏.‏

وقيل‏:‏ رأى زينون فتى على شاطئ البحر محزوناً يتلهف على الدنيا فقال له‏:‏ يا فتى‏!‏ ما يلهفك على الدنيا لو كنت في غاية الغنى وأنت راكب لجة البحر قد انكسرت السفينة وأشرفت على الغرق كانت غاية مطلوبك النجاة وتفوت كل ما في يدك قال‏:‏ نعم قال‏:‏ لو كنت ملكاً على الدنيا وأحاط بك من يريد قتلك‏:‏ كان مرادك النجاة من يده وتفوت كل ملكك قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فأنت الغني وأنت الملك الآن فتسلى الفتى‏.‏

وقال لتلميذه‏:‏ كن بما تأتي من الخير مسروراً وبما تجتنب من الشر محبوراً‏.‏

وقيل له‏:‏ أي الملوك أفضل‏:‏ ملك اليونانيين أم ملك الفرس قال‏:‏ من ملك غضبه وشهوته‏.‏

وسئل عد أن هرم‏:‏ ما حالك قال‏:‏ هو ذا أموت قليلا قليلا على مهل‏.‏

وقيل له‏:‏ إذا مت‏!‏ من يدفنك‏.‏

قال‏:‏ من يؤذيه نتن جيفتي‏.‏

وسئل‏:‏ ما لذي يهرم قال‏:‏ الغضب والحسد وأبلغ منهما الغم‏.‏

وقال‏:‏‏ الفلك تحت تدبيره‏.‏

ونعى إليه ابنه فقال‏:‏ ما ذهب ذلك على إنما ولدت ولداً يموت وما ولدت ولداً لا يموت‏.‏

وقال‏:‏‏ لا تخف موت البدن ولكن يجب عليك أن تخاف موت النفس‏.‏

فقيل له‏:‏ لما قلت خف موت النفس والنفس الناطقة عندك لا تموت فقال‏:‏ إذا انتقلت النفس الناطقة من حد النطق إلى حد البهيمية وإن كان جوهرها لا يبطل فقد ماتت من العيش العقلي‏.‏

وقال‏:‏‏ أعط الحق من نفسك فإن الحق يخصمك إن لم تعطه حقه‏.‏

وقال‏:‏‏ محبة المال وتد الشر لأن سائر الآفات تتعلق بها ومحبة الشرف وتد العيوب لأن سائر العيوب متعلقة بها‏.‏

وقال‏:‏‏ أحسن مجاورة النعم فتنعم بها ولا تسيء بها فتسيء بك‏.‏

وقال‏:‏‏ إذا أدركت الدنيا الهارب منها جرحته وإذا أدركها الطالب لها قتلته‏.‏

وقيل له وكان لا يقتي إلا قوت يومه‏:‏ إن الملك يبغضك فقال‏:‏ وهل يحب الملك من هو أغنى منه‏.‏

وسئل‏:‏ بأي شيء يخالف الناس في هذا الزمان البهائم فقال‏:‏ بالشرور‏.‏

قال‏:‏ وما رأينا العقل قط إلا خادماً للجهل وفي رواية للسجزي إلا خادماً للجد والفرق بينهما ظاهر فإن الطبيعة ولوازمها إذا كانت مستولية على العقل‏:‏ استخدمه الجهل وإذا كان ما قسم للإنسان من الخير والشر فوق تدبيره العقلي‏:‏ كان الجد مستخدماً للعقل ويعظم جد الإنسان ما يعقل وليس يعظم العقل ما يجد ولهذا‏!‏ خيف على صاحب الجد ما لم يخف على صاحب العقل‏.‏

والجد‏:‏ أصم أخرس لا يفقه ولا ينقه وإنما هو ريح تهب وبرق يلمع ونار تلوح وصحو يعرض وحلم يمتع‏.‏

وهذا اللفظ أولى فإنه عمم الحكم فقال ما رأينا العقل قط وقد يعرض للعقل أن يرى ولا يستخدمه الجهل وذلك هو الأكثر‏.‏

وقال زينون‏:‏ في الجرادة خلقة سبعة جبابرة‏:‏ رأسها راس فرس وعنقها عنق ثور وصدرها صدر أسد وجناحها جناح رأي ديمقريطيس وشيعته كان يقول في المبدع الأول‏‏:‏ إنه ليس هو العنصر فقط ولا العقل فقط بل الأخلاط الأربعة وهي الاسطقسات‏:‏ أوائل الموجودات كلها ومنها أبدعت الأشياء البسيطة كلها دفعة واحدة وأما المركبة فإنها كونت دائمة داثرة إلا أن ديمومتها بنوع ودثورها بنوع‏.‏

ثم إن العالم بجملته باق غير داثر لأنه ذكر أن هذا العالم متصل بذلك العالم الأعلى كما أن عناصر هذه الأشياء متصلة بلطيف أرواحها الساكنة فيها‏.‏

والعناصر وإن كانت تدثر في الظاهر فإن صفوها من الروح البسيط الذي فيها فإذا كان كذلك فليس يدثر إلا من جهة الحواس فأما من نحو العقل فإنه ليس يدثر فلا يدثر هذا العالم إذا كان صفوها فيه وصفوه متصل بالعوالم البسيطة‏.‏

وإنما شنع عليه الحكماء من جهة قوله‏:‏ إن أول مبدع هو العناصر وبعدها أبدعت البسائط الروحانية فهو يرتقي من الأسفل إلى الأعلى ومن الأكدر إلى الأصفى‏.‏

ومن شيعته فليوخوس إلا أنه خالفه في المبدع الأول‏ وقال بقول سائر الحكماء غير أنه قال‏:‏ إن المبدع الأول‏ هو مبدع الصورة فقط دون الهيولى فإنها لم تزل مع المبدع‏.‏

فأنكروا عليه

وقالوا‏:‏ إن الهيولى لو كانت أزلية قديمة‏:‏ لما قبلت الصور ولما تغيرت منحال إلى حال ولما قبلت فعل غيرها إذ الأزلي لا يتغير‏.‏

وهذا الرأي مما كان يعزى إلى أفلاطون الإلهي والرأي في نفسه مزيف والعزوة إليه غير صحيحة‏.‏

ومما نقل عن ديمقريطيس وزينون الأكبر وفيثاغورث أنهم كانوا يقولون‏:‏ إن الباري تعالى متحرك بحركة فوق هذه الحركة الزمانية‏.‏

وقد أشرنا إلى المذهبين وبينما المراد بإضافة الحركة والسكون إلى اللّه تعالى‏.‏

ونزيده شرحا من احتجاج كل فريق على صاحبه‏.‏

قال أصحاب السكون‏:‏ إن الحركة لا تكون أبداً إلا ضد السكون والحركة لا تكون إلا بنوع زمان إما ماض وإما مستقبل والحركة لا تكون إلا مكانية إما منتقلة وإما مستوية ومن المستوية تكون الحركة المستقيمة والحركة المعوجة والمكانية تكون مع الزمان فلو كان الباري تعالى متحركاً لكان داخلاً في الدهر والزمان‏.‏

قال أصحاب الحركة‏:‏ إن حركته أعلى من جميع ما ذكرتموه وهو مبدع الدهر والمكان وإبداعه ذلك هو يعنى بالحركة‏.‏

واللّه أعلم‏.‏

رأي فلاسفة أقاديما كانوا يقولون‏:‏ إن كل مركب ينحل ولا يجوز أن يكون مركباً من جوهرين متفقين في جميع الجهات وإلا فليس بمركب فإذا كان هذا هكذا فلا محالة أنه إذا انحل المركب رحل كل جوهر فاتصل بالأصل الذي كان منه فما كان منها بسيطاً روحانياً لحق بعالمه الروحاني البسيط والعالم الروحاني باق غير داثر ويرجع حتى يصل إلى ألطف من كل لطيف فإذا لم يبق من اللطافة شيء اتحد باللطيف الأول‏ المتحد به فيكونان متحدين إلى الأبد وإذا اتحدت الأواخر بالأوائل وكان الأول‏ هو أول مبدع ليس بينه وبين مبدعه جوهر آخر متوسط فلا محالة أن ذلك المبدع الأول‏ متعلق بنور مبدعه فيبقى خالداً دهر الدهور‏.‏

وهذا الفصل أيضاً قد نقل عنهم وهو يتعلق بالمعاد لا بالمبدأ وهؤلاء يسمون‏:‏ مشائي أقاديما وأما المشاءون المطلق فهم‏.‏

أهل لوقيون وكان أفلاطون يلقن الحكمة ماشياً تعظيماً لها وتابعه على ذلك أرسطوطاليس‏.‏

ويسمى هو وأصحابه‏:‏ المشائين‏.‏

وأصحاب الرواق هم أهل المظال‏.‏

وكان لأفلاطون تعليمات‏:‏ تعليم كليس وهو الروحاني الذي لا يدرك بالبصر ولكن بالفكر اللطيف وتعليم كأيس وهو الهيولانيات‏.‏

واللّه الموفق للصواب‏.‏

رأي هرقل الحكيم كان يقول‏:‏ إن الباري تعالى هو النور الحق الذي لا يدرك من جهة عقولنا لأنها أبدعت من ذلك النور الأول‏ الحق وهو اسم اللّه حقاً وهو اسم اللّه باليونانية حقاً‏.‏

إنها تدل عليه إنه مبدع الكل‏.‏

وهذا الاسم عندهم شريف جداً‏.‏

وكان يقول‏:‏ إن بدء الخلق وأول شيء أبدع والذي هو أول لهذه العوالم هو المحبة والمنازعة‏.‏

وقال هرقل‏:‏ السماء كرة متحركة من ذاتها والأرض مستديرة ساكنة جامدة بذاتها ة الشمس حللت كل ما فيها من الرطوبة فاجتمعت فيها فصار البحر والذي حجرت الشمس ونفذت فيه حتى لم تذر فيه شيئاً من الرطوبة صار منه‏:‏ الحصى والحجارة والجبل وما لم تنفذ فيه الشمس أكثر ولم تنزع عنه الرطوبة كلها فهو التراب‏.‏

وكان يقول إن السماء في النشأة الأخرى تصير بلا كواكب لأن الكواكب تهبط سفلاً حتى تحيط بالأرض وتلتهب فيصير متصلاً ببعضها البعض حتى تكون كالدائرة وحول الأرض وإنما يهبط منها ما كان من أجزائها ناراً محصنة ويصعد منها ما كان نوراً محصناً فتبقى النفوس الشريرة الدنسة الخبيثة في هذا العالم الذي أحاط به النار إلى الأبد في عقاب السرمد وتصعد النفوس الشريفة الخالصة الطيبة إلى العالم الذي تمحض نوراً وبهاءً وحسناً في ثواب السرمد‏.‏

وهناك‏:‏ الصور الحسان لذات البصر والألحان الشجية لذات السمع ولأنها أبدعت بلا توسط مادة وتركب اسطقسات فهي‏:‏ جواهر شريفة روحانية نورانية‏.‏

وقال‏:‏‏ إن الباري تعالى يمسح تلك الأنفس في كل دهر مسحة فيتجلى لها حتى تنظر إلى نوره المحض الخارج من جوهره الحق فحينئذ يشتد عشقها وشوقها ونورها ومجدها‏.‏

فلا تزال كذلك دائماً إلى الأبد‏.‏

رأي أبيقورس خالف الأوائل في الأوائل‏.‏

قال المبادئ اثنان‏:‏ الخلاء والصورة أما الخلاء فمكان فارغ وأما الصورة فهي فوق المكان والخلاء ومنها أبدعت الموجودات وكل ما كون منها فإنه ينحل إليها فمنها المبدأ وإليها المعاد‏.‏

وربما يقول‏:‏ الكل يفسد وليس بعد الفراق حساب ولا قضاء ولا مكافئة ولا جزاء بل كلها تضمحل وتدثر‏.‏

والإنسان كالحيوان مرسل مهمل في هذا العالم‏.‏

والحالات التي ترد على الأنفس في هذا العالم كلها من تلقائها على قدر حركاتها وأفاعيلها فإن فعلت خيراً وحسناً فيرد عليها سرور الفرح وإن فعلت شراً وقبيحاً فيرد عليها حزن وترح‏.‏

وإنما سرور كل نفس بالأنفس الأخرى وكذا حزنها مع الأنفس الأخرى‏.‏

بقدر ما يظهر لها من أفاعيل‏.‏

وتبعه جماعة من التناسخية على هذا الرأي حكم سولون الشاعر وكان عند الفلاسفة من الأنبياء العظام بعد هرمس وقبل سقراط وأجمعوا على تقديمه والقول بفضائله‏.‏

قال سولون لتلميذه‏:‏ تزود من الخير وأنت مقبل خير لك من أن تتزود منه وأنت مدبر‏.‏

وقال‏:‏‏ من فعل خيراً فليتجنب ما خالفه وإلا دعي شريراً‏.‏

وقال‏:‏‏ إذا عرضت عليك فكرة سوء فادفعها عن نفسك ولا ترجع باللائمة على غيرك لكن ما رأيك بما أحدث عليك‏.‏

وقال‏:‏‏ إن فعل الجاهل في خطابه أن يذم غيره وفعل طالب الأدب أن يذم نفسه وفعل الأديب أن لا يذم نفسه ولا غيره‏.‏

وقال‏:‏‏ إذا انكب الدن وأريق الشراب وانكسر الإناء‏.‏

فلا تغتم بل قل‏:‏ كما أن الأرباح لا تكون إلا فيما يباع ويشترى كذلك الخسرانات لا تكون إلا في الموجودات فانفي الغم والخسارة عنك فإن لكل ثمناً وليس يجيء بالمجان‏.‏

وسئل‏:‏ أيما أحمد في الصبا‏:‏ الحياء أم الخوف قال‏:‏ الحياء لأن الحياء يدل على العقل والخوف يدل على المقة والشهوة‏.‏

وقال لابنه دع المزاح فإن المزاح لقاح الضغائن‏.‏

وسأله رجل فقال‏:‏ هل ترى أن أتزوج أم أدع قال‏:‏ أي الأمرين فعلت ندمت عليه‏.‏

وسئل‏:‏ أي شيء أصعب على الإنسان قال‏:‏ أن يعرف عيب نفسه وأن يمسك عما لا يتكلم به‏.‏

ورأى رجلاً عثر فقال له‏:‏ لأن تعثر برجلك خير من أن تعثر بلسانك‏.‏

وسئل‏:‏ ما الحياة فقال‏:‏ التمسك بأمر اللّه تعالى‏.‏

وسئل‏:‏ ما النوم فقال‏:‏ النوم موتة خفيفة والموت نومة طويلة‏.‏

وقال‏:‏‏ ليكن اختارك من الأشياء حديثها‏.‏

ومن الإخوان أقدمهم‏.‏

وقال‏:‏‏ أنفع العلم ما أصابته الفكرة وأقله نفعاً ما قلته بلسانك‏.‏

وقال‏:‏‏ ينبغي أن يكون المرء‏:‏ حسن الشكل في صغره وعفيفاً عند إدراكه وعدلاً في شبابه وذا رأي في كهلولته وحافظاً للستر عند الفناء حتى لا تلحقه الندامة‏.‏

وقال‏:‏‏ ينبغي للشاب أن يستعد لشيخوخته مثل ما يستعد الإنسان للشتاء من البرد الذي يهجم عليه‏.‏

وقال‏:‏‏ يا بني‏!‏ احفظ الأمانة تحفظك وصنها حتى تصان‏.‏

وقال‏:‏‏ جوعوا إلى الحكمة واعطشوا إلى عبادة اللّه تعالى قبل أن يأتيكم المانع منهما‏.‏

وقال لتلامذته‏:‏ لا تكرموا الجاهل فيستخف بكم ولا تتصلوا بالأشرار فتعدوا فيهم ولا تعتمدوا الغنى إن كنتم تلامذة الصدق ولا تهملوا أمر أنفسكم في أيامكم ولياليكم ولا تستخفوا بالمساكين في جميع أوقاتكم‏.‏

وكتب إليه بعض الحكماء يستوصفه أمر عالمي العقل والحس فقال‏:‏ أما عالم العقل فدار ثبات وسئل‏:‏ ما فضل علمك على علم غيرك قال‏:‏ معرفتي بأن علمي قليل‏.‏

وقال‏:‏‏ أخلاق محمودة وجدتها في الناس إلا أنها إنما توجد في قليل‏:‏ صديق يحب صديقه غائباً كمحبته حاضراً وكريم يكرم الفقراء كما يكرم الأغنياء ومقر بعيوبه إذا ذكرت وذاكر يوم نعيمه في يوم بؤسه ويوم بؤسه في يوم نعيمه وحافظ لسانه عند غضبه‏.‏

وآمر بالمعروف دائماً‏.‏

حكم أوميروس الشاعر وهو من الكبار القدماء الذي يجريه أفلاطون وأرسطوطاليس في أعلى المراتب‏.‏

ويستدل بشعره لما كان يجمع فيه إتقان المعرفة ومتانة الحكمة وجودة الرأي وجزالة اللفظ فمن ذلك قوله‏:‏ لا خير في كثرة الرؤساء وهذه كلمة وجيزة تحتها معان شريفة لما في كثرة الرؤساء من الاختلاف الذي يأتي على حكمة الرئاسة بالإبطال ويستدل بها أيضاً في التوحيد لما في كثرة الآلهة من المخالفات التي تكر على حقيقة الإلهية بالإفساد‏.‏

وفي الحكمة‏:‏ لو كان أهل بلد كلهم رؤساء لما كان رئيس البتة ولو كان أهل بلد كلهم رعية لما كانت رعية البتة‏.‏

ومن حكمه قال‏:‏ إني لأعجب من الناس‏!‏ إذ كان يمكنهم الإقتداء باللّه تعالى فيدعون ذلك الإقتداء بالبهائم‏!‏ قال له تلميذه‏:‏ لعل هذا إنما يكون لأنهم قد رأوا أنهم يموتون كما تموت البهائم فقال له‏:‏ بهذا السبب يكثر تعجبي منهم‏!‏ من قبل أنهم يحسون بأنهم لابسون بدناً ميتاً

وقال‏:‏‏ من يعلم أن الحياة لنا مستعبدة والموت معتق مطلق‏.‏

آثر الموت على الحياة‏.‏

وقال العقل نحوان‏:‏ طبيعي وتجريبي وهما مثل الماء والأرض وكما أن النار تذيب كل صامت وتخلصه وتمكن من العمل فيه كذلك العقل يذيب الأمور ويخلصها ويفصلها ويعدها للعمل‏.‏

ومن لم يكن لهذين النحوين فيه موضع فإن خير أموره له قصر العمر‏.‏

وقال‏:‏‏ إن الإنسان الخير أفضل من جميع ما على الأرض والإنسان الشرير أخس وأوضع من جميع ما على الأرض‏.‏

وقال‏:‏‏ لن‏:‏ تنبل واحلم‏:‏ تعز ولا تكن معجباً‏:‏ فتمتهن واقهر شهوتك فإن الفقير من انحط إلى شهواته‏.‏

وقال‏:‏‏ الدنيا دار تجارة والويل لمن تزود عنها الخسارة‏.‏

وقال‏:‏‏ الأمراض ثلاثة أشياء‏:‏ الزيادة والنقصان في الطبائع الأربع وما تهيجه الأحزان فشفاء الزائد والناقص في الطبائع الأدوية وشفاء ما تهيجه الأحزان كلام الحكماء والإخوان‏.‏

وقال‏:‏‏ العمى خير من الجهل لأن أصعب ما يخاف من العمى التهور في بئر ينهد منه الحسد والجبل يتوقع منه هلاك الأبد‏.‏

وقال‏:‏‏ مقدمة المحمودات الحياء ومقدمة المذمومات القحة‏.‏

وقال إيرقليطس‏:‏ إن أوميروس الشاعر لما رأى تضاد الموجودات دون فلك القمر قال‏:‏ يا ليته هلك التضاد من هذا العالم ومن الناس والسادة يعني النجوم واختلاف طبائعها وأراد بذلك أن يبطل التضاد والاختلاف حتى يكون هذا العالم المتحرك المنتقل داخلاً في العالم الساكن الدائم الباقي‏.‏

ومن مذهبه‏:‏ أن بهرام يعني الريح واقع الزهرة فتولدت من بينهما طبيعة هذا العالم‏.‏

وقال‏:‏‏ إن الزهرة علة التوحد والاجتماع وبهرام علة التفرق والاختلاف والتوحد ضد التفرق فلذلك صارت الطبيعة ضداً‏:‏ تركب وتنقص وتوحد وتفرق‏.‏

وقال‏:‏‏ الحظ شيء أظهره العقل بوساطة العلم فلما قابل النفس عشقته بالعنصر‏.‏

هذه حكمه‏.‏

وأما مقطعات أشعاره فمنها‏:‏ قال‏:‏ ينبغي للإنسان أن يفهم الأمور الإنسانية‏.‏

إن الأدب للإنسان ذخر لا يسلب‏.‏

ارفع من عمرك ما يحزنك‏.‏

إن أمور العالم تعلمك العلم‏.‏

إن كنت ميتاً فلا تحقر عداوة من لا يموت‏.‏

كل ما يمتاز في وقته يفرح به‏.‏

إن الزمان يبين الحق وينيره‏.‏

اذكر نفسك أبداً‏:‏ أنك إنسان‏.‏

إن كنت إنساناً فافهم كيف تضبط غضبك‏.‏

إذا نالتك مضرة فاعلم أنك كنت أهلها‏.‏

اطلب رضاء كل أحد لإرضار نفسك فقط‏.‏

إن الضحك في غير وقته هو ابن عم انتقم من الأعداء نقمة لا تضرك‏.‏

كن حسن الجرأة ولا تكن متهوراً‏.‏

إن كنت ميتاً فلا تذهب مذهب من لا يموت‏.‏

إن أردت أن تحيا فلا تعمل عملاً يوجب الموت‏.‏

إن الطبيعة كونت الأشياء بإرادة الرب تعالى‏.‏

من لا يفعل شيئاً في الشر فهو إلهي‏.‏

آمن باللّه فإنه يوفقك في أمورك‏.‏

إن مساعدة الأشرار في أفعالهم كفر باللّه‏.‏

إن المغلوب من قاتل اللّه والبخت‏.‏

اعرف اللّه واعقل الأمور الإنسانية‏.‏

إذا أراد اللّه خلاصك عبرت البحر على البادية‏.‏

إن العقل الذي يناطق اللّه لشريف‏.‏

إن قوام السنة بالرئيس‏.‏

إن لفيف الناس وإن كانت لهم قوة فليس لهم عقل‏.‏

إن السنة توجب كرامة الوالدين مثل كرامة الإله‏.‏

رأي ان‏:‏ والديك آلهة لك‏.‏

إن الأب هو من ربي لا من ولد‏.‏

إن الكلام في غير وقته يفسد العمر كله‏.‏

إذا حضر البخت تمت الأمور‏.‏

إن سنن الطبيعة لا تتعلم‏.‏

إن اليد تغسل اليد والإصبع الإصبع‏.‏

ليكن فرحك بما تدخره لنفسك دون ما تدخره لغيرك يعني بالمدخر لنفسه العلم والحكمة والمدخر لغيره المال‏.‏

وقال‏:‏‏ الكرم يحمل ثلاثة عناقيد‏:‏ عنقود الالتذاذ وعنقود الشكر وعنقود الشيم‏.‏

خير أمور العالم الحسي أوساطها وخير أمور العالم العقل أفضلها‏.‏

وقيل‏:‏ إن وجود الشعر في أمة يونان كان قبل الفلسفة وإنما أبدعه أوميروس‏.‏

وتاليس كان بعده بثلاثمائة واثنتين سنة‏.‏

وأول فيلسوف كان منهم‏:‏ في سنة تسعمائة وإحدى وخمسين من وفاة موسى عليه السلام‏ وهذا ما أخبر به كورفس في كتابه وذكر فورفوريوس أن تاليس ظهر في سنة ثلاث وعشرين ومائة من ملك بختنصر‏.‏

حكم بقراط بقراط واضع الطب‏.‏

الذي قال بفضله الأوائل والأواخر‏.‏

وكان أكثر حكمته في الطب وشهرته به فبلغ خبره إلى بهمن ابن اسفنديار بن كشتاسب فكتب إلى فيلاطس ملك قوه وهو بلد من بلد اليونانيين يأمر بتوجيه بقراط إليه وأمر له بقناطير من الذهب فأبى ذلك وتأبى عن الخروج إليه ضناً بوطنه وقومه‏.‏

وكان لا يأخذ على المعالجة أجرة من الفقراء وأوساط الناس وقد شرط أن يأخذ من الاغنياء أحد ثلاثة أشياء‏:‏ طوقاً‏.‏

وإكليلاً أو سواراً‏.‏

من ذهب‏.‏

فمن حكمه إن قال‏:‏ استهينوا بالموت فإن مرارته في خوفه‏.‏

وقيل له‏:‏ أي العيش خير قال‏:‏ الأمن مع الفقر خير من الغنى مع الخوف‏.‏

وقال‏:‏‏ الحيطان والبروج لا تحفظ المدن ولكن تحفظها آراء الرجال وتدبير الحكماء‏.‏

وقال‏:‏‏ يداوي كل عليل بعقاقير أرضه فإن الطبيعة متطلعة إلى هوائها ونازعة إلى غذائها‏.‏

ولما حضرته الوفاة قال‏:‏ خذوا جامع العلم مني‏:‏ من كثر نومه ولانت طبيعته ونديت جلدته‏.‏

طال عمره‏.‏

وقال‏:‏‏ لو خلق الإنسان من طبيعة واحدة لما مرض لأنه لم يكن هناك شيء يضادها فيمرض‏.‏

ودخل على عليل فقال له‏:‏ أنا والعلة وأنت فإن أعنتني عليها بالقبول لما تسمع مني‏:‏ صرنا اثنين وانفرد العلة فقينا عليها والاثنان إذا اجتمعا على واحد غلباه‏.‏

وسئل‏:‏ ما بال الإنسان أثور ما يكون بدنه إذا شرب الدواء قال‏:‏ مثل ذلك مثل البيت أكثر ما يكون غبارا إذا كنس‏.‏

وحديث ابن الملك‏:‏ أنه عشق جارية من حظايا أبيه فنهك بدنه واشتدت علته فأحضر بقراط فجس نبضه ونظر إلى تفسرته فلم ير أثر علة فذكراه حديث العشق فرآه يهش لذلك ويطرب فاستخبر الحال من حاضنته فلم يكن عندها خبر وقالت‏:‏ ما خرج قط من الدار فقال‏:‏ بقراط للملك‏:‏ مر رئيس الخصيان بطاعتي فأمره بذلك فقال‏:‏ أخرج علي النساء فخرجن وبقراط واضع إصبعه على نبض الفتى فلما خرجت الحظية اضطرب عرقه‏.‏

وطار قلبه وحار طبعه فعلم بقراط أنها المعينة لهواه فصار بقراط إلى الملك‏.‏

وقال له‏:‏ ابن الملك قد عشق من الوصول إليها صعب قال الملك‏:‏ ومن ذاك قال‏:‏ هو يحب حليلتي قال‏:‏ انزل عنها ولك عنها بدل فتحازن بقراط ووجم‏:‏

وقال‏:‏‏ هل رأيت أحداً كلف أحداً طلاق امرأته ولا سيما الملك في عدله ونصفته يأمرني بمفارقة حليلتي ومفارقتها مفارقة روحي قال الملك‏:‏ إني أوثر ولدي عليك وأعوضك من هو احسن منها فامتنع حتى بلغ الأمر إلى التهديد بالسيف قال بقراط‏:‏ إن الملك لا يسمى عدلاً حتى ينتصف من نفسه ما ينتصف من غيره أرأيت لو كانت العشيقة حظية الملك‏!‏ قال‏:‏ يا بقراط‏!‏ عقلك أتم من معرفتك‏!‏ ونزل عنها لابنه وبرئ الفتى من مرضه ذلك‏.‏

وقال بقراط‏:‏ إياك أن تأكل إلا ما تستمرئ وأما مالا تستمرئ فإنه يأكلك‏.‏

وقيل لبقراط‏:‏ لم يثقل الميت قال‏:‏ لأنه كان اثنين‏:‏ أحدهما‏‏ خفيف رافع والآخر ثقيل واضع فلما انصرف أحدهما‏‏ وهو الخفيف الرافع ثقل الثقيل الواضع‏.‏

وقال‏:‏‏ الجسد يعالج جملة على خمسة أضرب‏:‏ ما في الرأس بالغرغرة وما في المعدة بالقيء وما في البدن بإسهال البطن وما بين الجلدين بالعرق وما في العمق وداخل العروق بإرسال الدم‏.‏

وقال الصفراء بيتها المرارة وسلطانها في الكبد والبلغم بيته المعدة وسلطانه في الصدر والسوداء بيتها الطحال وسلطانها في القلب والدم بيته القلب وسلطانه في الرأس‏.‏

وقال لتلميذ له‏:‏ ليكن أفضل وسيلتك إلى الناس محبتك لهم والتفقد لأمورهم ومعرفة حالهم واصطناع المعروف إليهم‏.‏

ويحكى عن بقراط قوله المعروف‏:‏ العمر قصير والصناعة طويلة والوقت ضيق والزمان جديد والتجربة خطر والقضاء عسر‏.‏

وقال لتلاميذه‏:‏ اقسموا الليل والنهار ثلاثة أقسام‏:‏ فاطلبوا في القسم الأول‏ العقل الفاضل واعملوا في القسم الثاني بما أحرزتم من ذلك العقل ثم عاملوا في القسم الثالث من لا عقل له وانهزموا من الشر ما استطعتم‏.‏

وكان له ابن لا يقبل الأدب فقالت له امرأته‏:‏ إن ابنك هو منك فأدبه فقال لها‏:‏ هو مني طبعاً ومن غيري نفساً فما أصنع به‏.‏

وقال‏:‏‏ ما كان كثيراً فهو مضاد للطبيعة فلتكن الأطعمة والأشربة والنوم والجماع والتعب‏.‏

قصداً‏.‏

وقال‏:‏‏ إن صحة البدن إذا كانت في الغاية كان أشد خطراً‏.‏

وقال‏:‏‏ إن الطب هو حفظ الصحة بما يوافق الأصحاء ودفع المرض بما يضاده‏.‏

وقال‏:‏‏ من سقى السم من الأطباء وألقى الجنين ومنع الحمل واجترأ على المريض‏.‏

فليس من شيعتي وله أيمان معروفة على هذه الشرائط‏.‏

وكتبه معروفة كثيراً في الطب‏.‏

وقال في الطبيعة‏:‏ إنها القوة التي تدبر الجسم من الإنسان فتصوره من النطفة إلى تمام الخلقة خدمة للنفس في إتمام هيكلها ولا تزال هي المدبرة له غذاء من الثدي وبعده مما به قوامه من الأغذية‏.‏

ولها ثلاث قوى‏:‏ المولدة والمربية والحافظة‏.‏

ويخدم الثلاث أربع قوى‏:‏ الجاذبة حكم ديمقريطيس وهو من الحكماء المعتبرين في زمان بهمن بن اسفنديار وهو وبقراط كانا في زمان واحد قبل أفلاطون وله آراء في الفلسفة وخصوصاً في مبادئ الكون والفساد‏.‏

وكان أرسطوطاليس يؤثر قوله على قول أستاذه أفلاطون الإلهي وما أنصف‏.‏

قال ديمقريطيس‏:‏ إن الجمال الظاهر يشبه به المصورون بالأصباغ ولكن الجمال الباطن لا يشبه به إلا من هو له بالحقيقة وهو مخترعه ومنشئه‏.‏

وقال‏:‏‏ ليس ينبغي أن تعد نفسك من الناس ما دام الغيظ يفسد رأيك ويتبع شهوتك‏.‏

وقال‏:‏‏ ليس ينبغي أن يمتحن الناس في وقت ذلتهم بل في وقت عزتهم وملكهم ومنا أن الكير يمتحن به الذهب كذلك الملك يمتحن به الإنسان فيتبين خيره وشره‏.‏

وقال‏:‏‏ ينبغي أن تأخذ في العلوم بعد أن تنفي عن نفسك العيوب وتعودها الفضائل فإنك إن لم تفعل هذا لم تنتفع بشيء من العلوم‏.‏

وقال‏:‏‏ من أعطى أخاه المال فقد أعطاه خزائنه ومن أعطاه علمه ونصيحته فقد وهب له نفسه‏.‏

وقال‏:‏‏ لا ينبغي أن تعد النفع الذي فيه الضرر العظيم نفعاً ولا الضرر الذي فيه النفع العظيم

وقال‏:‏‏ مثل من قنع بالاسم كمثل من قنع عن الطعام بالرائحة‏.‏

وقال‏:‏‏ عالم معاند خير من جاهل منصف‏.‏

وقال‏:‏‏ ثمرة الغرة التواني وثمرة التواني الشقاء وثمرة الشقاء ظهور البطالة وثمرة البطالة‏:‏ السفه والعبث والندامة والحزن‏.‏

وقال‏:‏‏ يجب على الإنسان أن يطهر قلبه من المكر والخديعة كما يطهر بدنه من أنواع الخبث‏.‏

وقال‏:‏‏ لا تطمع أحداً أن يطأ عقبك اليوم فيطأك غداً‏.‏

وقال‏:‏‏ لا تكن حلواً جداً لئلا تبلع ولا مراً جداً لئلا تلفظ‏.‏

وقال‏:‏‏ ذنب الكلب يكسب له الطعام وفمه يكسب له الضرب‏.‏

وكان بأثينية نقاش غير حاذق فأتى ديمقريطيس‏.‏

وقال‏:‏‏ جصص بيتك فاصوره قال‏:‏ صوره أو لا حتى أجصصه‏.‏

وقال‏:‏‏ مثل العلم مع من لا يقبل وإن قبل لا يعمل كمثل دواء مع سقيم وهو لا يداوي به‏.‏

وقيل له‏:‏ لا تنظر فغمض عينيه قيل له‏:‏ لا تسمع فسد أذنيه قيل له‏:‏ لا تتكلم فوضع يده على شفتيه قيل له‏:‏ لا تعلم قال‏:‏ لا أقدر‏.‏

وإنما أراد به‏:‏ أن البواطن لا تندرج تحت الاختيار فأشار إلى ضرورة السر واختيار الظاهر‏.‏

ولما كان الإنسان مضطر الحدوث كان معزول الولاية عن قلبه وهو بقلبه أكبر منه بسائر جوارحه فلهذا لم يستطع أن يتصرف في أصله لاستحالة أن يكون الفاعل أصله‏.‏

ولهذا الكلام شرح آخر وهو أنه أراد التمييز بين العقل والحس فإن الإدراك العقلي لا يتصور الانفكاك عنه وإذا حصل لن يتصور نسيانه بالاختيار والإعراض عنه بخلاف الإدراك الحسي‏.‏

وهذا يدل على أن العقل ليس من جنس الحس ولا النفس من حيز البدن‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن الاختيار في الإنسان مركب من افعالين‏:‏ أحدهما‏‏ انفعال نقيصة والثاني‏‏ انفعال تكامل وهو إلى الانفعال الأول‏ أميل بحكم الطبيعة والمزاج والآخر ضعيف فيه إلا إذا وصل إليه مدد من جهة العقل والتمييز والنطق فمتى وقف هذا المدد من القوة الاختيارية كانت الغلبة للانفعال الآخر ولولا تركب الاختيار عن هذين الانفعالين أو انقسامه إلى هذين الوجهين لتأتى للإنسان جميع ما يقصده بالاختيار بلا مهلة ولا ترجح ولا هنية ولا تريح ولا استشارة ولا استخارة‏.‏

وهذا الرأي الذي رآه هذا الحكيم‏:‏ لم أجد أحداً أبه له ولا عثر عليه أو حكم به وأومأ إليه‏.‏

واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

حكم أوقليدس وهو أول من تكلم في الرياضيات وأفرده علماً نافعاً في العلوم منقحاً للخاطر ملقحاً للفكر‏.‏

وكتابه معروف باسمه وكذلك حكمته‏.‏

وقد وجدنا له حكماً متفرقة فأوردناها على سوق مرامنا وطرد كلامنا‏.‏

فمن ذلك قوله‏:‏ الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية‏.‏

وقال له رجل يتهدده‏:‏ إني لا آلو جهداً في أن أفقدك حياتك قال أوقليدس‏:‏ وأنا لا آلو جهداً في أن أفقدك غضبك‏.‏

وقال‏:‏‏ كل أمر تصرفنا فيه وكانت النفس الناطقة هي المقدرة له فهو داخل في الأفعال الإنسانية وما لم تقدره النفس الناطقة فهو داخل في الأفعال البهيمية‏.‏

وقال‏:‏‏ من أراد أن يكون محبوبه محبوبك وافقك على ما تحب فإذا اتفقتما على محبوب واحد صرتما إلى الاتفاق‏.‏

وقال‏:‏‏ إفزع إلى ما يشبه الرأي العام التدبيري العقلي واتهم ما سواه‏.‏

وقال‏:‏‏ كل ما أستطيع خلعه ولم يضطر إلى لزومه المرء فلم الإقامة على مكروهه‏.‏

وقال‏:‏‏ الأمور جنسان‏:‏ أحدهما‏‏ يستطاع خلعه والمصير إلى غيره والآخر منهما غير سائغ في الرأي‏.‏

وقال‏:‏‏ إن كانت الكائنات من المضطرة فما الاهتمام بالمضطر إذ لا بد منه وإن كانت غير مضطرة فلم الهم فيما يجوز الانتقال عنه

وقال‏:‏‏ الصواب إذا كان عاماً كان أفضل لأن الخاص يقع بالتحري وتلقاء أمر ما‏.‏

وقال‏:‏‏ العمل على الإنصاف ترك الإقامة على المكروه

وقال‏:‏‏ إذا لم يضطرك إلى الإقامة عليه شيء فإن أقمت رجعت باللائمة عليك‏.‏

وقال‏:‏‏ الحزم هو العمل على أن لا تثق بالأمور التي في الإمكان عسرها ويسرها‏.‏

وقال‏:‏‏ كل فائت وجدت في الأمور منه عوضاً أو أمكنك اكتساب مثله فما الأسف على فوته وإن لم يكن منه عوض ولا يصاب له مثل فما الأسف على ما لا سبيل إلى مثله والإمكان في دعه‏.‏

وقال‏:‏‏ لما علم العاقل أنه لا ثقة بشيء من أمر الدنيا‏:‏ ألقى منها ما منه بد واقتصر على ما لا بد منه وعمل فيما يوثق به بأبلغ ما قدر عليه

وقال‏:‏‏ إذا كان الأمر تمكنا فيه التصرف فوقع بحال ما تحب فاعتده رحاً وإن وقع بحال ما تكره فلا تحزن فإنك قد كنت عجلت فيه على غير ثقة بوقوعه على ما تحب‏.‏

وقال‏:‏‏ لم أر أحداً إلا ذاما للدنيا وأمورها إذ هي على ما هي من التغير والتنقل فالمستكثر منها يلحقه أن يكون أشد اتصالا بما يذم وإنما يذم الإنسان ما يكره والمستقل منها مستقل مما يكره وإذا أستقل مما يكره كان ذلك أقرب إلى ما يحب‏.‏

وقال‏:‏‏ أسوأ الناس حالا من لا يثق بأحد لسوء ظنه ولا يثق به أحد لسوء فعله‏.‏

وقال‏:‏‏ الجشع بين شرين فالإعدام يخرجه إلى السفه والجدة تخرجه إلى الأشر‏.‏

وقال‏:‏‏ لا تعن أخاك على أخيك في خصومة فإنهما يصطلحان عن قليل وتكتسب المذمة‏.‏

حكم بطلميوس وهو صاحب المجسطى الذي تكلم في هيئات الفلك واخرج علم الهندسة من القوة إلى الفعل‏.‏

فمن حكمه أنه قال‏:‏ ما أحسن الإنسان أن يصبر عما اشتهى وأحسن منه أن لا يشتهي إلا ما ينبغي‏.‏

وقال‏:‏‏ الحليم الذي إذا صدق صبر لا الذي إذا قذف كظم‏.‏

وقال‏:‏‏ لمن يغني الناس ويسأل أشبه بالملوك ممن يستغني بغيره ويسأل‏.‏

وقال‏:‏‏ لان يستغني الإنسان عن الملك أكرم له من أن يستغني به‏.‏

وقال‏:‏‏ موضع الحكمة من قلوب الجهال كموقع الذهب والجوهر من ظهر الحمار‏.‏

وسمع جماعة من أصحابه وهم حول سرادقه يقعون فيه ويثلبونه فهز رمحاً كان بين يديه ليعلموا

وقال‏:‏‏ العلم من موطنه كالذهب في معدنه‏:‏ لا يستنبط إلا بالدءوب والتعب والكد والنصب ثم يجب تخليصه بالفكر كما يخلص الذهب بالنار‏.‏

وقال بطلميوس‏:‏ دلالة القمر في الأيام أقوى‏.‏

ودلالة الشمس والزهرة في الشهور أقوى ودلالة المشتري وزحل في السنين أقوى‏.‏

ومما ينقل عنه أنه قال‏:‏ نحن كائنون في الزمن الذي يأتي بعد وهذا رمز إلى المعاد إذ الكون والوجود الحقيقي‏:‏ ذلك الكون والوجود في ذلك العالم‏.‏

حكم أهل المظال ومنهم خروسيبس وزينون وقولهما الخالص‏:‏ إن الباري تعالى المبدع الأول‏‏:‏ واحد محض هو إن فقط أبدع العقل والنفس دفعة واحدة ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما وفي بدء ما أبدعهما أبدعهما جوهرين لا يجوز عليهما الدثور والفناء‏.‏

وذكروا‏:‏ أن للنفس جرمين‏:‏ جرم من النار والهواء وجرم من الماء والأرض فالنفس متحدة بالجرم الذي من النار والهواء والجرم الذي من النار والهواء متحد بالجرم الذي من الماء والأرض والنفس تظهر أفاعيلها في ذلك الجرم وذلك الجرم ليس له طول ولا عرض ولا قدر مكاني وباصطلاحنا سميناه جسماً وأفاعيل النفس فيه نيرة بهية ومن الجسم إلى الجرم ينحدر‏:‏ النور والحسن والبهاء‏.‏

ولما ظهرت أفاعيل النفس عندنا بمتوسطين كانت أظلم ولم يكن لها نور شديد‏.‏

وذكروا‏:‏ أن النفس إذا كانت طاهرة زكية استخصت الأجزاء النارية والهوائية وهي جسمها واستصحبت في ذلك العالم جسماً روحانياً نورانياً علوياً طاهراً مهذباً من كل ثقل وكدر‏.‏

وأما الجرم الذي من الماء والأرض فيدثر ويفنى لأنه غير مشاكل للجسم السماوي لأن ذلك الجسم خفيف لطيف لا وزن له ولا يلمس وإنما يدرك من البصر فقط كما تدرك الأشياء الروحانية من العقل فألطف ما يدرك الحس البصري من الجواهر هي النفسانية وألطف ما يدرك من إبداع الباري تعالى الآثار التي عند العقل‏.‏

وذكروا أن النفس ما هي مستطيعة ما خلاها الباري تعالى أن تفعل وإذا ربطها فليست بمستطيعة كالحيوان الذي إذا خلاه مدبره أعني الإنسان كان مستطيعاً في كل ما دعي إليه وتحرك إليه وإذا ربطه لم يقدر حينئذ أن يكون مستطيعاً‏.‏

وذكروا‏:‏ أن دنس النفس وأوساخ الجسد إنما تكون لازمة للإنسان من جهة الأجزاء وأمات التطهير والتهذيب فمن جهة الكل لأنه إذا انفصلت النفس الكلية إلى النفس الجزئية والعقل الجزئي من العقل الكلي‏:‏ غلظت وصارت من حيز الجرم لأنها كلما سفلت اتحدت بالجرم والجرم من حيز الماء والأرض وهما ثقيلان يذهبان سفلاً وكلما اتصلت النفس الجزئية بالنفس الكلية والعقل الجزئي بالعقل الكلي‏:‏ ذهبت علواً لأنها تتحد بالجسم والجسم من حيز النار والهواء وكلاهما لطيفان يذهبان علواً‏.‏

وهذان الجرمان مركبان وكل واحد منهما من جوهرين‏.‏

واجتماع هذين الجرمين يوجب الاتحاد شيئاً واحداً عند الحس البصري فأما عند الحواس الباطنة وعند العقل فليست شيئاً واحداً فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم لأنه أشد روحانية ولأن هذا العالم ليس مشاكلاً له ولا مجانساً له والجرم مشاكل ومجانس لهذا العالم فصار لجرم أظهر من الجسم لمجانسة هذا العالم وتركيبه وصار الجسم مستبطناً في الجرم لأن هذا العالم غير مشاكل له وغير مجانس له‏.‏

فإما في ذلك العالم فالجسم ظاهر على الجرم لأن ذلك العالم‏:‏ عالم الجسم لأنه مجانس ومشاكل له ويكون لطيف الجرم الذي هو من لطيف الماء والأرض المشاكل لجوهر النار والهواء مستبطناً في الجسم كما كان الجسم مستبطناً في هذا العالم في الجرم‏.‏

فإذا كان هذا فيما ذكروا هكذا كان ذلك الجسم باقياً دائماً لا يجوز عليه الدثور ولا الفناء ولذته دائمة لا تملها النفوس ولا العقول ولا ينفد ذلك السرور والحبور‏.‏

ونقلوا عن أفلاطون أستاذهم‏:‏ لما كان الواحد لا بدء له صار‏:‏ نهاية كل متناه وإنما صار الواحد لا نهاية له لأنه لا بدء له لا أنه لا بدء لهلأنه لا نهاية

وقال‏:‏‏ ينبغي للمرء أن ينظر كل يوم إلى وجهه في المرآة فإن كان قبيحاً‏:‏ لم يفعل قبيحاً فيجمع بين قبيحين وإن كان حسناً‏:‏ لم يشنه بقبيح‏.‏

وقال‏:‏‏ إنك لن تجد الناس إلا أحد رجلين‏:‏ إما مؤخراً في نفسه قدمه حظه أو مقدماً في نفسه آخره دهره فارضى بما أنت فيه اختياراً وإلا رضيت اضطراراً‏.‏

 ٣-٢-٣الباب الثالث متأخرو حكماء اليونان

وهم الحكماء الذين تلوهم في الزمان وخالفوهم في الرأي مثل أرسطو طاليس ومن تابعه على رأيه مثل‏:‏ الإسكندر الرومي والشيخ اليوناني وديوجانس الكلبي‏.‏

وغيرهم وكلهم على رأى أرسطو طاليس في المسائل التي تفرد بها عن القدماء‏.‏

ونحن نذكر من آرائه ما يتعلق بغرضنا‏:‏ من المسائل التي شرع فيها الأوائل وخالفهم المتأخرون‏.‏

ونحصرها في ست عشرة‏‏ مسألة‏.‏

وباللّه التوفيق‏.‏

رأى أرسطو طاليس بن نبقو ماخوس من أهل أسطاخرا‏.‏

وهو المقدم المشهور والمعلم الأول‏ والحكيم المطلق‏.‏

عندهم‏.‏

وكان مولده في أول سنة من ملك أردشير بن دارا فلما أتت عليه سبع عشرة‏‏ سنة أسلمه أبوه إلى المؤدب أفلاطون فمكث عنده نيفاً وعشرين سنة‏.‏

وإنما سموه المعلم الأول‏ لأنه واضع التعاليم المنطقية ومخرجها من القوة إلى الفعل وحكمه حكم واضع النحو وواضع العروض فإن نسبة المنطق إلى المعاني التي في الذهن كنسبة النحو إلى الكلام والعروض إلى الشعر‏.‏

وهو واضع لا بمعنى أنه لم تكن المعاني مقومة بالمنطق قبله فقومها بل بمعنى أنه جرد آلته عن المادة فقومها تقريبا إلى أذهان المتعلمين حتى يكون كالميزان عندهم يرجعون إليه عند اشتباه الصواب بالخطأ والحق بالباطل‏.‏

إلا أنه أجمل القول فيه إجمال الممهدين وفصله المتأخرون تفصيل الشارحين‏.‏

وله حق السبق وفضيلة التمهيد‏.‏

وكتبه في الطبيعيات والإلهيات والأخلاق معروفة ولها شروح كثيرة‏.‏

ونحن اخترنا في نقل مذهبه شرح ثامسطيوس الذي اعتمده مقدم المتأخرين ورئيسهم أبو علي بن سينا وأوردنا نكتاً من كلامه في الإلهيات وأحلنا باقي مقالاته في المسائل على نقل المتأخرين إذ لم يخالفوه في رأي ولا نازعوه في حكم بل هم كالمقلدين له المتهالكين عليه وليس الأمر على ما مالت ظنونهم إليه‏.‏

المسألة

الأولى‏‏:‏ في إثبات واجب الوجود الذي هو المحرك الأول‏‏.‏

قال في كتاب أولوجيا من حرف اللام‏:‏ إن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب‏:‏ اثنان طبيعيان وواحد غير متحرك‏.‏

قال‏:‏ إنا وجدنا المتحركات على اختلاف جهاتها ة أوضاعها ولا بد لكل متحرك من محرك فإما أن يكون المحرك متحركاً فيتسلسل القول فيه ولا يتحصل وإلا فيستند إلى محرك غير متحرك‏.‏

ولا يجوز أن يكون فيه معنى ما بالقوة فإنه يحتاج إلى شئ آخر يخرجه من القوة إلى الفعل إذ هو لا يتحرك من ذاته من القوة إلى الفعل فالفعل إذا أقدم من القوة وما بالفعل أقدم على ما بالقوة‏.‏

وكل جائز وجوده ففي طبيعته معنى ما بالقوة وهو الإمكان والجواز فيحتاج إلى واجب به يجب وكذلك كل متحرك فيحتاج إلى محرك فواجب الوجود بذاته‏:‏ ذات وجودها غير مستفاد من وجود غيره وكل موجود فوجوده مستفاد عنه بالفعل‏.‏

وجائز الوجود له في نفسه وذاته الإمكان وذلك إذا أخذته بلا شرط وإذا أخذته بشرط علته فله الوجوب وإذا أخذته بشرط لا علية فله الامتناع‏.‏

المسألة

الثانية‏‏:‏ في أن واجب الوجود‏.‏

أخذ أرسطو طاليس يوضح أن المبدأ الأول‏ واحد من حيث إن العالم واحد ويقول‏:‏ إن الكثرة بعد الاتفاق في الحد ليست إلا في كثرة العنصر وأما ما هو بالآنية الأولى‏ فليس له عنصر لأنه تمام قائم بالفعل‏.‏

لا يخالط القوة فإذاً المحرك الأول‏ واحد بالكلمة والعدد أي بالاسم والذات‏.‏

قال‏:‏ فمحرك العالم واحد لأن العالم واحد‏.‏

هذا نقل ثامسطيوس‏.‏

وأخذ من نصر مذهبه يوضح أن المبدأ الأول‏ واحد من حيث إنه واجب الوجود لذاته قال‏:‏ ولو كان كثيراً لحمل واجب الوجود عليه وعلى غيره بالتواطؤ فيشملها جنساً وينفصل أحدهما‏‏ عن الآخر نوعاً فتتركب ذاته من جنس وفصل فتسبق أجزاء المركب على المركب سبقاً بالذات فلا يكون واجباً بذاته‏.‏

ولأنه لو لم يكن هو بعينه واجب الوجود لذاته لا لشيء عنه بل لأمر خارج عنه واجب بذاته لكان واجب الوجود بذلك الأمر الخارج فلم يكن واجباً بذاته‏.‏

هذا‏:‏ خلف‏.‏

المسألة الثالثة‏ في أن واجب الوجود لذاته‏:‏ عقل لذاته وعاقل ومعقول لذاته عقل من غيره أو لم يعقل‏.‏

أما أنه عقل فلأنه مجرد عن المادة منزه عن اللوازم المادية فلا تحتجب ذاته عن ذاته‏.‏

وأما أنه عاقل لذاته فلأنه مجرد لذاته‏.‏

وأما أنه معقول لذاته فلأنه غير محجوب عن ذاته بذاته أو بغيره‏.‏

قال‏:الأول‏ يعقل ذاته ثم من ذاته يعقل كل شيء فهو يعقل العالم العقلي دفعة واحدة من غير احتياج إلى انتقال وتردد من معقول إلى معقول وأنه ليس يعقل الأشياء على أنها أمور خارجة عنه فيعقلها منها كحالنا عند المحسوسات بل يعقلها من ذاته وليس كونه عاقلاً وعقلاً‏:‏ بسبب وجود الأشياء المعقولة حتى يكون وجودها قد جعله عقلاً بل الأمر بالعكس أي عقله للأشياء جعلها موجودة‏.‏

وليس للأول شيء يكمله فهو الكامل لذاته المكمل لغيره فلا يستفيد وجوده من وجود كمالاً‏.‏

وأيضاً فإنه لو كان يعقل الأشياء من الأشياء لكان وجودها متقدماً على وجوده ويكون جوهره في نفسه وفي قوامه وفي طباعه‏:‏ أن يقبل معقولات الأشياء من الأشياء فيكون في طباعه ما هو بالقوة من حيث يكمل بما هو خارج عنه حتى يقال‏:‏ لولا ما هو خارج عنه لم يكن له ذلك المعنى وكان فيه عدمها فيكون الذي له في طباع نفسه وباعتبار نفسه من غير إضافة إلى غيره أن يكون عادماً للمعقولات ومن شأنه أن يكون له ذلك فيكون باعتبار نفسه مخالطاً للإمكان والقوة‏.‏

وإذ فرضنا أنه لم يزل ولا يزال موجوداً بالفعل فيجب أن يكون له من ذاته الأمر الأكمل الأفضل لا من غيره‏.‏

قال‏:‏ وإذا عقل ذاته‏:‏ عقل ما يلزمها لذاتها بالفعل وعقل كونه مبدأ وعقل كل ما يصدر عنه على ترتيب الصدور عنه وإلا فلم يعقل ذاته بكنهها‏.‏

قال‏:‏ وإن كان ليس يعقل بالفعل فما الشيء الكريم الذي له وهو الكون الناقص كماله‏!‏ فيكون حاله كحال النائم وإن كان يعقل الأشياء من الأشياء فتكون الأشياء متقدمة عليه بتقدم ما يقبله ذاته وإن كان يعقل الأشياء من ذاته فهو المرام والمطلب‏.‏

وقد يعبر عن هذا الغرض بعبارة أخرى تؤدي قريباً من هذا المعنى فيقول‏:‏ إن كان جوهره العقل وأن يعقل فإما أن يعقل‏.‏

ذاته أو غيره فإن كان يعقل شيئاً آخر فما هو في حد ذاته غير مضاف إلى ما يعقله وهل لهذا المعتبر بنفسه فضل وجلال مناسب لأن يعقل بأن يكون بعض الأحوال أن يعقل له أفضل من أن لا يعقل أو بأن لا يعقل يكون له أفضل من أن يعقل‏.‏

فإنه لا يمكن القسم الآخر‏:‏ وهو أن يكون يعقل الشيء الآخر افضل من الذي له في ذاته من حيث هو في ذاته شيء يلزمه أن يعقل فيكون فضله وكماله بغيره‏.‏

وهذا محال‏.‏

المسألة الرابعة‏ في أن واجب الوجود لا يعتريه تغير وتأثر من غيره بأن يبدع أو يعقل‏.‏

قال‏:‏ الباري تعالى عظيم الرتبة جداً غير محتاج إلى غيره ولا متغير بسبب من غيره‏:‏ سواء كان التغير زمانياً أو كان تغيراً بأن ذاته تقبل من غيره أثراً وإن كان دائماً في الزمان‏.‏

وإنما لا يجوز له أن يتغير كيفما كان لأن انتقاله إنما يكون إلى الشر لا إلى الخير لأن كل رتبة غير رتبته فهي دون رتبته وكل شيء يناله ويوصف به فهو دون نفسه ولا يكون أيضاً مناسباً للحركة خصوصاً إن كانت بعدية زمانية‏.‏

وهذا معنى قوله‏:‏ إن التغير‏:‏ إلى الشيء الذي هو شر‏.‏

وقد ألزم على كلامه‏:‏ أنه إذا كان الأول‏ يعقل أبداً ذاته فإنه يتعب ويكل ويتغير ويتأثر‏.‏

وأجاب ثامسطيوس عن هذا بأنه إنما لا يتعب لأنه يعقل ذاته وكما لا يتعب من أن يحب ذاته فإنه لا يتعب من أن يعقل ذاته‏.‏

قال أبو الحسين بن عبد اللّه بن سينا‏:‏ ليست العلة أنه لذاته يعقل‏.‏

أو لذاته يجب بل لأنه ليس مضاداً لشيء في الجوهر العاقل فإن التعب هو أذى يعرض لسبب خروج عن الطبيعة وإنما يكون ذلك إذا كانت الحركات التي تتوالى مضادت لمطلوب الطبيعة فأما الشىء الملائم اللذيذ المحض الذي ليس فيه منافاة بوجه فلم يجب أن يكون تكرره متعباً‏.‏

المسألة الخامسة‏ في أن واجب الوجود حي بذاته باق بذاته أي كامل في أن يكون بالفعل مدركاً لكل شيء نافذ الأمر في كل شيء‏.‏

وقال‏:‏‏ إن الحياة التي عندنا يقترن بها من إدراك خسيس وتحريك خسيس وأما هناك فالمشار إليه بلفظ الحياة‏:‏ هو كون العقل التام بالفعل الذي يتعقل من ذاته كل شيء وهو باق الدهر أزلي فهو حي بذاته باق بذاته‏.‏

عالم بذاته‏.‏

وإنما ترجع جميع صفاته إلى ما ذكرنا من غير تكثر ولا تغير في ذاته‏.‏

المسألة السادسة‏ في أنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد‏.‏

قال‏:‏ الصادر الأول‏ هو العقل الفعال لأن الحركات إذا كانت كثيرة ولكل متحرك فيجب أن يكون عدد المحركات بحسب عدد المتحركات فلو كانت المحركات والمتحركات تنسب إليه لا على ترتيب أول وثان بل جملة واحدة لتكثرت جهات ذاته بالنسبة إلى محرك محرك ومتحرك متحرك فتكثر بذاته‏.‏

وقد أقمنا البرهان على أنه واحد من كل وجه فلن يصدر عن الواحد من كل وجه إلا واحد وهو العقل الفعال‏.‏

وله في ذاته وباعتبار ذاته إمكان الوجود وباعتبار علته وجوب الوجود فتتكثر ذاته لا من جهة علته فيصدر عنه شيئان ثم يزيد التكثر في الأسباب فتتكثر المسببات والكل ينسب إليه‏.‏

المسألة السابعة‏ في عدد المفارقات‏.‏

قال‏:‏ إذا كان عدد المتحركات مرتباً على عدد المحركات فتكون الجواهر المفارقة كثيرة على ترتيب‏:‏ أول وثان فلكل كرة متحركة محرك مفارق غير متناهي القوة يحرك كما يحرك المشتهي والمعشوق ومحرك آخر مزاول للحركة فيكون صورة للجرم السماوي فالأول عقل مفارق والثاني‏‏ نفس مزاول فالمحركات المفارقة تحرك على أنها مشتهاة معشوقة والمحركات المزاولة تحرك على أنها مشتهية عاشقة‏.‏

ثم يطلب عدد المحركات من عدد حركات الأكر‏.‏

وذلك شيء لم يكن ظاهراً في زمانه وإنما ظهر بعد‏.‏

والأكر تسع لما دل الرصد عليها فالعقول المفارقة عشرة‏‏‏:‏ تسعة منها مدبرات النفوس التسعة المزاولة وواحد هو العقل الفعال‏.‏

المسألة الثامنة‏ في أن الأول‏ مبتهج بذاته‏.‏

قال أرسطوطاليس‏:‏ اللذة في المحسوسات هو الشعور بالملائم وفي المعقولات الشعور بالكمال الواصل إليه من حيث يشعر به‏.‏

فالأول مغتبط بذاته ملتذ بها لأنه يعقل ذاته على كمال حقيقتها وشرفها وإن جل عن أن ينسب إليه لذة انفعالية‏.‏

بل يجب أن يسمي ذلك‏:‏ بهجة وعلاء وبهاء‏.‏

كيف ونحن نلتذ بإدراك الحق ونحن مصروفون عنه مردودون في قضاء حاجات خارجة عما يناسب حقيقتنا التي نحن بها ناس وذلك لضعف عقولنا وقصورنا في المعقولات وانغماسنا في الطبيعة البدنية لكنا نتوصل على سبيل الاختلاس فيظهر لنا اتصال بالحق الأول‏ فيكون كسعادة عجيبة في زمان قليل جداً وهذه الحال له أبداً وهو لنا غير ممكن لأنا مذنبون ولا يمكننا أن نشيم تلك البارقة الإلهية إلا خطفه وخلسة‏.‏

المسألة التاسعة‏‏ في صدور نظام الكل وتربيته عنه‏.‏

قال‏:‏ قد بينا أن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب‏:‏ اثنان طبيعيان وواحد غير متحرك‏.‏

وقد بينا القول في الواحد غير المتحرك وأما الاثنان الطبيعيان فهما‏:‏ الهيولى والصورة أو العنصر والصورة وهما مبدأ الأجسام الطبيعية‏.‏

وأما العدم فيعد من المبادئ بالعرض لا بالذات‏.‏

فالهيولى جوهر قابل للصورة والصورة معنى ما يقترن بالجوهر فيصير به نوعاً كالجزء المقوم له لا كالعرض الحال فيه والعدم ما يقابل الصورة فإنا متى توهمنا أن الصورة لم تكن فيجب أن يكون في الهيولى عدم الصورة‏.‏

والعدم المطلق مقابل للصورة المطلقة والعدم الخاص مقابل للصورة الخاصة‏.‏

قال‏:‏ وأول الصورة التي تسبق إلى الهيولى هي الأبعاد الثلاثة فتصير جرماً ذا طول وعرض وعمق وهي الهيولى الثانية‏ وليست بذات كيفية‏.‏

ثم تلحقها الكيفيات الأربع التي هي الحرارة والبرودة الفاعلتان والرطوبة واليبوسة المنفعلتان فتصير الأركان والأسطقسات الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض وهي الهيولى الثالثة‏‏.‏

ثم تتكون منها المركبات التي تلحقها الأعراض والكون والفساد ويكون بعضها هيولى بعض‏.‏

قال‏:‏ وإنما رتبنا هذا الترتيب في العقل والوهم خاصة دون الحس وذلك أن الهيولى عندنا لم تكن معراة عن الصورة قط فلم نقدر في الوجود جوهراً مطلقاً قابلاً للأبعاد ثم لحقته الأبعاد ولا جسماً عارياً عن هذه الكيفيات ثم عرض له ذلك وإنما هو عند نظرنا هو أقدم بالطبع وأبسط في الوهم والعقل‏.‏

ثم أثبت طبيعة خامسة وراء هذه الطبائع لا تقبل الكون والفساد ولا يطرأ عليها الاستحالة والتغير وهي طبيعة السماء‏.‏

وليس يعني بالخامسة طبيعة من جنس هذه الطبائع بل معنى ذلك أن طبائعها خارجة عن هذه‏.‏

ثم هي كلها على تركيبات يختص كل تركيب خاص بطبيعة خاصة ويتحرك بحركة خاصة‏.‏

ولكل متحرك محرك مزاول ومحرك مفارق‏.‏

والمتحركات أحياء ناطقون والحيوانية والناطقية لها بمعنى آخر وإنما يحمل ذلك عليها وعلى الإنسان بالاشتراك‏.‏

فترتيب العالم كله علوية وسفلية على نظام واحد وصار النظام في الكل‏:‏ محفوظاً بعناية المبدأ الأول‏ على أحسن ترتيب وأحكم قوام متوجهاً إلى الخير‏.‏

وترتيب الموجودات كلها في طباع الكل على موع نوع ليس على ترتيب المساواة فليس حال السباع كحال الطير ولا حالها كحال النبات ولا حال النبات كحال الحيوان‏.‏

قال‏:‏ وليس مع هذا التفاوت منقطعاً بعضها عن بعض بحيث لا ينسب بعضها إلى بعض بل هناك مع الاختلاف اتصال وإضافة جامعة للكل تجمع الكل إلى الأصل الأول‏ الذي هو المبدأ لفيض الجود والنظام في الوجود على ما يمكن في طباع الكل أن يترتب عنه‏.‏

قال‏:‏ وترتيب الطباع في الكل كترتيب المزل الواحد من الأرباب والأحرار والعبيد والبهائم والسباع فقد جمعهم صاحب المنزل ورتب لكل واحد منهم مكاناً خاصاً وقدر له عملاً خاصاً‏.‏

ليس قد أطلق لهم أن يعملوا ما شاءوا وأحبوا فإن ذلك يؤدي إلى تشويش النظام‏.‏

فهم وإن اختلفوا في مراتبهم وانفصل بعضهم عن بعض بأشكالهم وصورهم‏:‏ منتسبون إلى مبدأ واحد صادرون عن رأيه وأمره مصرفون تحت حكمه وقدره فكذلك تجري الحال في العالم بأن يكون هناك أجزاء أول مفردة متقدمة لها أفعال مخصوصة مثل السماوات ومحركاتها ومدبراتها وما قبلها منن العقل الفعال‏.‏

وأجزاء مركبة متأخرة تجري أكثر أمورها على الاتفاق المخلوط بالطبع المسألة العاشرة في أن النظام في الكل متوجه إلى الخير والشر واقع في القدر بالعرض‏.‏

قال‏:‏ لما اقتضت الحكمة الإلهية نظام العالم على أحسن إحكام وإتقان لا لإرادة وقصد أمر في السافل حتى يقال‏:‏ إنما أبدع العقل مثلاًلغرض في السافل حتى يفيض مثلاً على السافل فيضاً بل لأمر أعلى من ذلك وهو أن ذاته أبدع ما أبدع لذاته لا لعلة ولا لغرض فوجدت الموجودات كاللوازم واللواحق ثم توجهت إلى لخير لأنها صادرة عن أصل الخير وكان المصير في كل حال إلى رأس واحد‏.‏

ثم ربما يقع شر وفساد من مصادمات في الأسباب السافلة دون العالية التي كلها خير مثل المطر الذي لم يخلق إلا خيراً ونظاماً للعالم فيتفق أن يخرب به بيت عجوز فإن وقع كان ذلك واقعاً بالعرض لا بالذات أو بأن لا يقع شر جزئي في العالم لا تقتضي الحكمة أن لا يوجد خير كلي فإن فقدان المطر أصلاً شر كلي وتخريب بيت عجوز شر جزئي والعالم للنظام الكلي لا الجزئي فالشر إذاً‏:‏ واقع في القدر بالعرض‏.‏

وقال‏:‏‏ إن الهيولى قد لبست الصور على درجات ومراتب وإنما يكون لكل درجة ما تحتمله في نفسها دون أن يكون في الفيض الأعلى إمساك عن بعض وإفاضة على بعض‏.‏

فالدرجة الأولى‏ احتمالها على نحو أفضل والثاني‏‏ة دون ذلك‏.‏

والذي عندنا من العناصر دون الجميع لأن كل ماهية من ماهيات هذه الأشياء إنما تحتمل ما تستطيع أن تلبس من الفيض على النحو الذي هيئت له ولذلك تقع العاهات والتشويهات في الأبدان لما يلزم من ضرورة المادة الناقصة التي لا تقبل الصورة على كمالها الأول‏ والثاني‏‏‏.‏

قال‏:‏ إنا لم نجز الأمور على هذا المنهاج ألجأتنا الضرورة إلى أن نقع في محالات فيها من قبلنا كالثنوية وغيرهم‏.‏

المسألة الحادية عشرة‏‏‏ في كون الحركات سرمدية وأن الحوادث لم تزل‏.‏

قال‏:‏ إن صدور الفعل عن الحق الأول‏ إنما يتأخر لا بزمان بل بحسب الذات‏.‏

والفعل ليس مسبوقاً بعدم بل هو مسبوق بذات الفاعل فقط‏.‏

ولكن القدماء لما أرادوا أن يعبروا عن العلية افتقروا إلى ذكر القبيلة وكانت القبيلة في اللفظ تتناول الزمان وكذلك في المعنى عند من لم يتدرب فأوهمت عباراتهم أن فعل الأول‏ الحق فعل زماني وأن تقدمه تقدم زماني‏.‏

قال‏:‏ ونحن أثبتنا أن الحركات تحتاج إلى محرك غير متحرك‏.‏

ثم نقول‏:‏ الحركات لا تخلو‏:‏ إما ان تكون لم تزل أو تكون قد حدثت بعد أن لم تكن وقد كان المحرك لها موجوداً بالفعل قادراً ليس يمانعه مانع من أن تكون عنه ولا حدث حادث في حال ما أحدثها فرغبه وحمله على الفعل إذاً‏:‏ كان جميع ما يحدث إنما يحدث عنه وليس شيء غيره يعوقه أو يرغبه‏.‏

ولا يمكن أن يقال‏:‏ قد كان لا يقدر أن يكون عنه مقدور فقدر أو لم يرد فأراد أو لم يعلم فعلم فإن ذلك كله يوجب الاستحالة ويوجب أن يكون شيئاً آخر غيره هو الذي أحاله‏.‏

وإن قلنا‏:‏ إنه منعه مانع يلزم أن يكون السبب المانع أقوى والاستحالة والتغير عن المانع حركة أخرى استدعت محركاً‏.‏

وبالجملة‏:‏ كل سبب ينسب إليه الحادث في زمان حدوثه بعد جوازه في زمان قبله وبعده فإن ذلك السبب جزئي خاص أوجب حدوث تلك الحادثة التي لم تكن قبل ذلك وإلا فالإرادة الكلية والقدرة الشاملة والعلم الواسع العام‏:‏ ليس يختص بزمان دون زمان بل نسبته إلى الأزمان كلها نسبة واحدة فلا بد لكل حادث من سبب حادث ويتعالى عنه الواحد الحق الذي لا يجوز عليه التغيير والاستحالة‏.‏

قال‏:‏ وإذا كان لا بد من محرك للمحركات ومن حامل للحركات‏:‏ تبين أن المحرك سرمدي والحركات سرمدية فالمتحركات سرمدية‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن حامل الحركة وهو الجسم لم يحدث لكنه تحرك عن سكون‏:‏ وجب أن يعثر على السبب الذي يغير من السكون إلى الحركة‏.‏

فإن قلنا‏:‏ إن ذلك الجسم حدث فقد تقدم حدوث الجسم حدوث الحركة‏.‏

فقد بان‏:‏ أن الحركة والمتحرك والزمان الذي هو عاد للحركة‏:‏ أزلية سرمدية‏.‏

والحركات إما مستقيمة وإما مستديرة والاتصال لا يكون إلا للمستديرة لأن المستقيم ينقطع والاتصال أمر ضروري للأشياء الأزلية فإن الذي يسكن ليس بأزلي والزمان متصل لأنه لا يمكن أن يكون قطعاً مبتورة فيجب من ذلك أن تكون هي أزلية فيجب أن يكون محرك هذه الحركة المستديرة أيضاً أزلياً إذ لا يكون ما هو أخس علة لما هو أفضل ولا فائدة في محركات ساكنة غير محركة كالصور الأفلاطونية فلا ينبغي أن يضع هذه الطبيعة بلا فعل فتكون متعطلة غير قادرة أن تحيل وتحرك‏.‏

المسألة الثانية‏ عشرة‏‏ في كيفية تركب العناصر‏.‏

حكى فرفوريوس عنه أنه قال‏:‏ كل موجود ففعله مثل طبيعته فما كانت طبيعته بسيطة ففعله بسيط‏.‏

واللّه تعالى واحد بسيط ففعل اللّه تعالى واحد بسيط وكذلك فعله الاجتلاب إلى الوجود فإنه موجود‏.‏

لكن الجوهر لما كان وجوده بالحركة كان بقاؤه أيضاً بالحركة وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون موجوداً من ذاته بمنزلة الوجود الأول‏ الحق لكن من التشبه بذلك الأول‏ الحق‏.‏

وكل حركة تكون‏:‏ إما أن تكون مستقيمة أو مستديرة فالحركة المستقيمة يجب أن تكون متناهية والجوهر يتحرك في الأقطار الثلاثة التي هي‏:‏ الطول والعرض والعمق‏:‏ على خطوط مستقيمة حركة متناهية فيصير بذلك جسماً‏.‏

وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها حركة بلا نهاية ولا يسكن في وقت من الأوقات إلا أنه ليس يمكن أن يتحرك بأجمعه حركة على الاستدارة وذلك أن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه‏:‏ كالنقطة فانقسم قال‏:‏ وكل جسم يتحرك فيماس جسماً ساكناً وفي طبيعته قبول التأثير منه أحدث سخونة فيه وإذا سخن‏:‏ لطف وانحل وخف فكانت طبيعة النار تلي الفلك المتحرك‏.‏

والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار فتكون حركته أقل فلا يتحرك بأجمعه لكن جزء منه فيسخن دون سخونة النار وهو الهواء‏.‏

والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك له فهو بارد لسكونه ورطب لمجاورة الهواء الحار الرطب ولذلك انحل قليلاً وهو الماء‏.‏

والجسم الذي في الوسط فإنه بعد في الغاية عن الفلك ولم يستفد من حركته شيئاً ولا قبل منه تأثيراً فيبس وبرد وهو الأرض‏.‏

وإذا كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها عن بعض‏.‏

وتختلط‏:‏ يتولد عنها أجسام مركبة وهي المركبات المحسوسات التي هي‏:‏ المعادن والنبات والحيوان والإنسان‏.‏

ثم يختص بكل نوع طبيعة خاصة تقبل فيضاً خاصاً على ما قدر الباري جلت قدرته‏.‏

المسألة الثالثة‏ عشرة‏‏ في الآثار العلوية‏.‏

قال أرسطوطاليس‏:‏ الذي يتصاعد من الأجسام السفلية إلى الجو ينقسم قسمين‏:‏

أحدهما‏‏‏‏:‏ أدخنة نارية بإسخان الشمس وغيرها‏.‏

والثاني‏‏‏:‏ أبخرة مائية فتصعد إلى الجو وقد صحبتها أجزاء أرضية فتتكاثف وتجتمع بسبب ريح أو غيرها فتصير ضباباً أو سحاباً فتصادفها برودة فتعصر ماءً وثلجاً وبرداً فتنزل إلى مركز الماء وذلك لاستحالة الأركان بعضها عن بعض فكما أن الماء يستحيل هواء فيصعد كذلك الهواء يستحيل ماء فينزل‏.‏

ثم الرياح والأدخنة إذا احتقنت في خلال السحاب واندفعت مرة سمع لها صوت وهو الرعد ويلمع من اصطكاكها وشدة صدمتها ضياء وهو البرق‏.‏

وقد يكون من الأدخنة ما تكون الهنية على مادتها أغلب فيشتعل فيصير شهاباً ثاقباً وهي الشهب‏.‏

ومنها ما يحترق في الهواء فيتحجر فينزل‏:‏ حديداً أو حجراً‏.‏

ومنها ما يحترق ناراً فيدفعها دافع فينزل صاعقة‏.‏

من المشتعلات ما يبقى فيه الاشتعال ووقف تحت كوكب ودارت به النار الدائرة بدوران الفلك فكان ذنباً له‏.‏

وربما كان عريضاً فرئي كأنه لحية كوكب وربما وقع صقيل الظاهر من السحاب صور اليرات وأضواؤها كما يقع على المرائي والجدران الصقيلة فيرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها وصفائها وكدورتها في‏:‏ هالة وقوس قزح وشموس وشهب والمجرة‏.‏

وذكر أسباب كل واحد من هذه في كتابه المعروف بالآثار العلوية والسماء والعالم وغيرهما‏.‏

المسألة الرابعة‏ عشرة‏‏ في النفس الإنسانية الناطقة واتصالها بالبدن‏.‏

قال‏:‏ النفس الإنسانية ليست بحسم ولا قوة في جسم وله في إثباتها مآخذ‏:‏ منها الاستدلال على أما الأول‏ فقال‏:‏ لا نشك أن الحيوان يتحرك إلى جهات مختلفة حركة اختيارية إذ لو كانت حركاته طبيعية أو قسرية‏:‏ لتحركت إلى جهة واحدة لا تختلف البتة فلما تحركت إلى جهات متضادة‏:‏ علم أن حركاته اختيارية‏.‏

والإنسان مع أنه مختار في حركاته كالحيوان إلا أنه يتحرك لمصالح عقلية يراها في عاقبة كل أمر فلا تصدر عنه حركاته إلا إلى غرض وكمال وهو في معرفته في عاقبة كل حال‏.‏

والحيوان ليست حركاته بطبعه على هذا النهج فيجب أن يتميز الإنسان بنفس خاص كما تميز الحيوان عن سائر الموجودات بنفس خاص‏.‏

وأما الثاني وهو المعول عليه قال‏:‏ إنا لا نشك أنا نعقل ونتصور أمراً معقولاً صرفاً مثل المتصور من الإنسان أنه إنسان كلي يعم جميع أشخاص النوع ومحل هذا المعقول جوهر ليس بحسم ولا قوة في جسم أو صورة لجسم فإنه إن كان جسماً فإما أن يكون محل الصورة المعقولة منه طرفاً منه لا ينقسم أو جملته المنقسمة‏.‏

وبطل أن يكون طرفاً منه غير منقسم فإنه لو كان كذلك لكان المحل كالنقطة التي لا تميز لها في الوضع عن الخط فإن الطرف نهاية الخط والنهاية لا يكون لها نهاية أخرى وإلا تسلسل القول فيه فتكون النقط متشافعة ولكل نهاية وذلك محال‏.‏

وإن كل محل المعقول من الجسم شيئاً ينقسم‏.‏

فيجب أن ينقسم المعقول بانقسام محله ومن المعقولات ما لا ينقسم البتة فإن ما ينقسم يجب أن يكون شيئاً كالشكل والمقدار‏.‏

والإنسانية الكلية المتصورة في الذهن ليست كشكل قابل للقطع ولا كمقدار قابل للفصل‏.‏

فتبين أن النفس ليست بجسم ولا قوة في جسم ولا صورة في جسم‏.‏

المسألة الخامسة‏ عشرة‏‏ في وجه اتصالها بالبدن ووقت اتصالها‏.‏

قال‏:‏ إذا تحقق أنها ليست بجسم لم تتصل بالبدن اتصال انطباع فيه ولا حلول فيه بل اتصلت به اتصال تدبير وتصرف‏.‏

وإنما حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده قال‏:‏ لأنها لو كانت موجودة قبل وجود الأبدان لكانت متكثرة بذواتها وإما متحدة‏.‏

وبطل الأول‏ فإن المتكثر إما أن يكون بالماهية والصورة وقد فرضناها متفقة في النوع لا اختلاف فيها فلا تكثر فيها ولا تمايز‏.‏

وإما أن تكون متكثرة من جهة النسبة إلى العنصر والمادة المتكثرة بالأمكنة والأزمنة‏.‏

وهذا محال أيضاً فإنا إذا فرضناها قبل البدن ماهية مجردة لا نسبة لها إلى مادة دون مادة وهي من حيث إنها ماهية لا اختلاف فيها وأن الأشياء التي ذواتها معان تتكثر تنوعاتها بالحوامل والقوابل والمنفعلات عنها وإذا كانت مجردة فمحال أن يكون بينها مغايرة وكاثرة‏.‏

ولعمري إنها تبقى بعد البدن متكثرة فإن الأنفس قد وجد كل منها ذاتاً منفردة باختلاف موادها التي كانت وباختلاف أزمنة حدوثها وباختلاف هيئات وملكات حصلت عند الاتصال بالبدن فهي حادثة مع حدوث البدن تصيره نوعاً كسائر الفصول الذاتية وباقية بعد مفارقة البدن بعوارض معينة له‏:‏ لم توجد تلك العوارض قبل اتصالها بالبدن‏.‏

وبهذا الدليل‏:‏ فارق أستاذه‏.‏

وفارق قدماءه‏.‏

وقد وجد في أثناء كلامه ما يدل على أنه يعتقد أن النفس كانت موجودة قبل وجود الأبدان‏.‏

فحمل بعض مفسري كلامه قوله ذلك على أنه أراد به الفيض والصور الموجودة بالقوة في واهب الصور كما يقال‏:‏ إن النار موجودة في الحجر والشجر أو الإنسان موجود في النطفة والنخلة موجودة في النواة والضياء موجود في الشمس‏.‏

ومنهم من أجراه على ظاهره وحكم بالتمييز بين النفوس بالخواص التي لها

وقال‏:‏‏ اختصت كل نفس إنسانية بخاصية لم يشاركها فيها غيرها فليست متفقة بالنوع أعني‏:‏ النوع الأخير‏.‏

ومنهم من حكم بالتمييز بالعوارض التي هي مهيأة نحوها وكما أنها تتمايز بعد الاتصال بالبدن بأنها كانت متميزة في المادة‏:‏ كذلك تتمايز بأنها ستكون متمايزة بالأبدان والصنائع والأفعال واستعداد كل نفس لصنعة خاصة أو علم خاص فتنهض هذه فصولاً ذاتية أو عوارض لازمة لوجودها‏.‏

المسألة السادسة‏ عشرة‏‏ في بقائها بعد البدن وسعادتها في العالم العقلي‏.‏

قال‏:‏ إن النفوس الإنسانية إذا استكملت قوتي العلم والعمل تشبهت بالإله سبحانه وتعالى وو صلت إلى كمالها وإنما هذا التشبه بقدر الطاقة يكون إما بحسب الاستعداد وإما بحسب الاجتهاد فإذا فارق البدن اتصل بالروحانيين وانخرط في سلك الملائكة المقربين‏.‏

ويتم له التذاذ والابتهاج‏.‏

وليس كل لذة فهي جسمانية فإن تلك اللذات نفسانية عقلية وهذه اللذة الجسمانية تنتهي إلى حد ويعرض للملتذ سآمة وكلال وضعف وقصور‏.‏

إن تعدى عن الحد المحدود بخلاف اللذات العقلية فإنها حيثما ازدادت‏:‏ ازداد الشوق والحرص والعشق‏.‏

إليها‏.‏

وكذلك القول في الآلام النفسانية فإنها تقع بالضد مما ذكرنا‏.‏

ولم يحقق المعاد إلا للأنفس ولم يثبت حشراً ولا نشراً ولا إحلالاً لهذا الرباط المحسوس من العالم ولا إبطالاً لنظامه كما ذكره القدماء‏.‏

فهذه نكت كلامه استخرجناها من مواضع مختلفة وأكثرها من شرح ثامسيطيوس وكلام الشيخ أبي على بن سينا الذي يتعصب له وينصر مذهبه ولا يقول من القدماء إلا به‏.‏

وسنذكر طريقة ابن سينا عند ذكر فلاسفة الإسلام إن شاء اللّه تعالى‏.‏

ونحن الآن ننقل كلمات حكمية لأصحاب أرسطوطاليس ومن نسج على منواله بعده دون الآراء العلمية إذ لا خلاف بينهم في الآراء والعقائد‏.‏

ووجدت كلمات وفصولاً للحكيم أرسطوطاليس من كتب متفرقة فنقلتها على الوجه الذي وجدت وإن كان في بعضها ما يدل على أن رأيه على خلاف ما نقله ثامسيطيوس واعتمده ابن سينا‏:‏ منها في حدوث العالم قال‏:‏ الأشياء المحمولة أعني الصور المتضادة فليس يكون أحدهما‏‏ من صاحبه بل يجب أن يكون بعد صاحبه قيتعاقبان على المادة فقد بان أن الصورة تدثر وتبطل‏.‏

وإذا دثر معنى وجب أن يكون له بدء لأن الدثور غاية وهو أحد الجنبين‏:‏ يدل على أن جائياً جاء به‏.‏

فقد صح أن الكون حادث لا من شيء وأن الحامل لها غير ممتنع الذات من قبولها وحمله إياها وهي ذات بدء وغاية يدل على أن حواملها ذو بدء وغاية وأنه حادث لا من شيء ويدل على محدث لا بدء له ولا غاية لأن الدثور آخر والآخر ما كان له أول فلو كانت الجواهر والصور لم يزالا فغير جائز استحالتهما لأن الاستحالة دثور الصورة التي بها كان شيء‏.‏

وخروج الشيء من حد إلى حد ومن حال إلى حال يوجب دثور الكيفية وتردد المستحيل في الكون والفساد يدل على دثوره وحدوث أحواله يدل على ابتدائه وابتداء جزئه يدل على بدء كله وواجب إن قبل بعض ما في العالم الكون والفساد أن يكون كل العالم قابلاً له وكان له بدء يقبل الفساد وآخر يستحيل إلى كون فالبدء والغاية يدلان على مبدع‏.‏

وقد سأل بعض الدهرية أرسطوطاليس

وقال‏:‏‏ إذا كان لم يزل ولاشيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه فقال له‏:‏ لم غير جائزة عليه لأن لم تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة له من معل فوقه ولا علة فوقه وليس بمركب فتحمل ذاته العلل فلم عنه منتفية فإنما فعل ما فعل لأنه جواد فقيل‏:‏ فيجب أن يكون فاعلاً لم يزل قال‏:‏ معنى لم يزل أن لا أول وفعل يقتضي أولاً واجتماع ما لا أول له وذو أول في القول والذات محال متناقص قيل له‏:‏ فهل يبطل هذا العالم قال‏:‏ نعم قيل فإذا أبطله بطل الجود قال‏:‏ سيبطله ليصوغه الصيغة التي لا تحتمل الفساد لأن هذه الصيغة تحتمل الفساد‏.‏

تم كلامه ويعزى هذا الفصل إلى سقراطيس قاله لبقراطيس وهو بكلام الماء أشبه‏.‏

ومما نقل عن أرسطوطاليس تحديده العناصر الأربعة قال‏:‏ الحار‏:‏ ما خلط بعض ذوات الجنس ببعض وفرق بين بعض ذوات الجنس من بعض‏.‏

وقال‏:‏‏ البارد‏:‏ ما جمع بين ذوات الجنس وغير ذوات الجنس لأن البرودة إذا جمدت الماء حتى يصير جليداً‏:‏ اشتملت على الأجناس المختلفة من الماء والنبات وغيرهما‏.‏

قال‏:‏ والرطب‏:‏ العسير الانحصار من ذاته اليسير الانحصار من ذات غيره واليابس‏:‏ اليسير الإنحصار من ذاته العسير الانحصار من ذات غيره والحدان الأولان يدلان على الفعل والآخران يدلان على الانفعال‏.‏

ونقل أرسطوطاليس عن جماعة من الفلاسفة‏:‏ أن مبادئ الأشياء هي العناصر الأربعة‏.‏

وعن بعضهم‏:‏ أن المبدأ الأول‏ هو ظلمة وهاوية وفسره بفضاء وخلاء وعماية‏.‏

وقد أثبت قوم من النصارى تلك الظلمة وسموها‏:‏ الظلمة الخارجة‏.‏

ومما خالف أرسطو طاليس أستاذه أفلاطون‏:‏ أن أفلاطون قال‏:‏ من الناس من يكون طبعه مهيأ لشيء لا يتعداه فخالفه

وقال‏:‏‏ إذا كان الطبع سليماً صلح لكل شيء‏.‏

وكان أفلاطون يعتقد أن النفوس الإنسانية أنواع يتهيأ كلل نوع لشيء ما لا يتعداه وأرسطوطاليس يعتقد أن النفوس الإنسانية نوع واحد وإذا تهيأ صنف لشيء‏:‏ تهيأ له كل النوع‏.‏

واللّه الموفق‏.‏

حكم الإسكندر الرومي وهو ذو القرنين الملك وليس هو المذكور في القرآن بل هو ابن فيلبوس الملك‏.‏

وكان مولده في السنة الثالثة‏ عشرة‏‏ من ملك دارا الأكبر‏.‏

سلمه أبوه إلى أرسطوطاليس الحكيم المقيم بمدينة إينياس فاقام عنده خمس سنين يتعلم منه الحكمة والأدب حتى بلغ أحسن المبالغ ونال من الفلسفة ما لم ينله سائر تلاميذه فاسترده والده حين استشعر من نفسه علة خاف منها فلما وصل إليه جدد العهد له وأقبل عليه واستولت عليه العلة فتوفي منها واستقل الإسكندر بأعباء الملك‏.‏

فمن حكمه أنه سأله معلمه وهو في المكتب إن أفضي إليك هذا الأمر يوماً ما فأين تضعني قال‏:‏ بحيث تضعك طاعتك في ذلك الوقت‏.‏

وقيل له‏:‏ إنك تعظم مؤد بك أكثر تعظيمك والدك‏!‏ قال‏:‏ لأن أبي كان سبب حياتي الفانية ومؤدبي هو سبب حياتي الباقية وفي رواية‏:‏ لأن أبي كان سبب حياتي ومؤدبي سبب تجويد حياتي وفي رواية‏:‏ لأن أبي كان سبب كوني ومؤدبي كان سبب نطقي‏.‏

وقال أبو زكريا الصيمري‏:‏ لو قيل لي هذا لقلت‏:‏ لأن أبي كان قضى وطراً بالطبيعة التي اختلفت بالكون والفساد ومؤدبي أفادني العقل الذي به انطلقت إلى ما ليس فيه كون ولا فساد‏.‏

وجلس الإسكندر يوماً فلم يسأله أحد حاجة فقال لأصحابه‏:‏ واللّه ما أعد هذا اليوم من أيام عمري في ملكي قيل‏:‏ ولم أيها الملك قال لأن الملك هذا اليوم من أيام عمري في ملكي قيل‏:‏ ولم أيها الملك قال لأن الملك لا يوجد التلذذ به إلا بالجود على السائل وإغاثة الملهوف ومكافأة المحسن وإلا بإنالة الراغب وإسعاف الطالب‏.‏

وكتب إليه أرسطوطاليس في كلام طويل‏.‏

اجمع في سياستك بين‏:‏ بدار لا حدة فيه وريث لا غفلة معه وامزج كل شكل بشكله حتى يزداد قوة وعزة عن ضده حتى يتميز لك بصورته وصن وعدك عن الخلف فإنه شين وشب وعيدك بالعفو فإنه زين وكن عبداً للحق فإن عبد الحق حر وليكن وكدك الإحسان إلى جميع الخلق ومن الإحسان وضع الإساءة في موضعها‏.‏

وأظهر لأهلك أنك منهم ولا صحابك أنك بهم ولرعيتك أنك لهم‏.‏

وتشاور الحكماء في أن يسجدوا له إجلالاً وتعظيماً فقال‏:‏ لا سجود لغير بارئ الكل بل يحق له السجود على من كساه بهجة الفضائل‏.‏

وأغلظ له رجل من أهل أثينية فقام إليه بعض قواده ليقابله بالواجب فقال له الإسكندر‏:‏ دعه‏:‏ لا تنحط إلى دناءته ولكن ارفعه إلى شرفك‏.‏

وقال الإسكندر‏:‏ من كنت تحب الحياة لأجله فلا تستعظم الموت بسببه‏.‏

وقيل له‏:‏ إن روشنك امرأتك‏:‏ بنت دارا الملك وهي من أجمل النساء فلو قربتها إلى نفسك‏!‏ قال‏:‏ أكره أن يقال‏:‏ غلب الإسكندر دارا وغلبت روشنك الإسكندر‏.‏

وقال‏:‏‏ من الواجب على أهل الحكمة أن يسرعوا إلى قبول اعتذار المذنبين وأن يبطئوا عن العقوبة‏.‏

وقال‏:‏‏ سلطان العقل على باطن العاقل أشد تحكماً من سلطان السيف على ظاهر الأحمق‏.‏

وقال‏:‏‏ ليس الموت بألم للنفس بل للجسد‏.‏

وقال‏:‏‏ إن نظم جميع ما في الأرض شبيهة بالنظم السماوي لأنها أمثال له بحق‏.‏

وقال‏:‏‏ العقل لا يألم في طلب معرفة الأشياء بل الجسد يألم ويسأم‏.‏

وقال‏:‏‏ النظر في المرآة يرى رسم الوجه وفي أقاويل الحكماء يرى رسم النفس‏.‏

ووجدت في عضده صحيفة فيها‏:‏ قلة الاسترسال إلى الدنيا أسلم والاتكال على القدر أروح وعند حسن الظن تقر العين ولا ينفع مما هو واقع التوقي‏.‏

وقال بعضهم عنه‏:‏ إنه أخذ يوماً تفاحة فقال‏:‏ ما ألطف قبول هذه الهيولى الشخصية لصورتها وانفعالها لما تؤثر الطبيعة فيها من الأوضاع الروحانية‏:‏ من تركيب بسيط وبسط مركب حسب تمثيل النفس لها كل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل وإله الكل‏.‏

ولو قيل‏:‏ وألطف منها قبول هذه النفس الإنسانية لصورتها العقلية وانفعالها لما تؤثر النفس الكلية فيها من العلوم الروحانية‏:‏ من تركيب بسيط وبسط مركب حسب تمثيل العقل لها وكل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل وإله الكل‏.‏

وسأله أطوسايس الكلي أن يعطيه ثلاث حبال فقال الإسكندر‏:‏ ليست هذه عطية ملك فقال الكلبي‏:‏ أعطني مائة رطل من الذهب فقال‏:‏ ولا هذه مسألة كلبي‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كنا عند شبر المنجم إذا وصل إلينا الإسكندر الملك فأقامنا في جوف الليل وأدخلنا بستاناً له ليرينا النجوم فجعل شبر يشير إليها بيده ويسير حتى سقط في بئر فقال‏:‏ من تعاطى علم ما فوقه بلى بجهل ما تحته‏.‏

وقال السعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه لأنا إذا عرفناه أطلنا يومه وأطرنا نومه‏.‏

وقال استقلل كثير ما تعطى واستكثر قليل ما تأخذ فإن قرة عين الكريم فيما يعطي ومسرة اللئيم فيما يأخذ‏.‏

ولا تجعل الشحيح أميناً ولا الكذاب صفياً فإنه لا عفة مع شح ولا أمانة مع كذب‏.‏

وقال‏:‏‏ الظفر‏:‏ بالحزم والحزم‏:‏ بإحالة الرأي وإحالة الرأي‏:‏ بتحصين الأسرار‏.‏

ولما توفي الإسكندر برومية المدائن‏:‏ وضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية وكان قد عاش اثنتين وثلاثين سنة وملك اثنتي عشرة‏‏ سنة وندب جماعة من الحكماء لندبته‏.‏

فقال بليموس‏:‏ هذا يوم عظيم العبرة‏:‏ أقبل من شره ما كان مدبراً وأدبر من خيره ما كان مقبلاً فمن كان باكياً على من زال ملكه فليبكه‏.‏

وقال ميلاطوس‏:‏ خرجنا إلى الدنيا جاهلين وأقمنا فيها غافلين وفارقناها كارهين‏.‏

وقال زينون الأصغر‏:‏ يا عظيم الشأن‏!‏ ما كنت إلا ظل سحاب اضمحل لما أظل فما تحس لملكك أثراً ولا نعرف له خيراً‏.‏

وقال أفلاطون الثاني‏:‏ أيها الساعي المغتصب‏!‏ جمعت ما خذلك وتوليت ما تولى عنك فلزمتك أوزاره وعاد على غيرك مهنئوه وثماره‏.‏

وقال فوطس‏:‏ ألا تتعجبون ممن لم يعظنا اختياراً حتى وعظنا بنفسه اضطراراً‏!‏‏.‏

وقال مسطورس‏:‏ قد كنا ب الأمس نقدر على الاستماع ولا نقدر على القول واليوم نقدر على القول فهل نقدر على الاستماع‏.‏

وقال ثاون‏:‏ انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام كيف انجلى‏.‏

وقال سوس‏:‏ كم قد أمات هذا الشخص لئلا يموت فمات فكيف لم يدفع عن نفسه بالموت‏.‏

وقال حكيم‏:‏ طوى الأرض العريضة فلم يقنع حتى طوى منها في ذراعين‏.‏

وقال آخر‏:‏ ما سافر الإسكندر سفراً بلا أعوان ولا آلة ولا عدة‏.‏

غير سفره هذا‏.‏

وقال آخر‏:‏ ما ارغبنا فيما فارقت وأغفلنا عما عاينت‏.‏

وقال آخر‏:‏ لم يؤدينا بكلامه كما أدبنا بسكوته‏.‏

وقال آخر‏:‏ من يرى هذا الشخص فليتق وليعلم أن الديون هكذا قضاؤها‏.‏

وقال آخر‏:‏ قد كان بالأمس طلعته علينا حياة واليوم النظر إليه سقيم‏.‏

وقال آخر‏:‏ قد كان يسأل عما قبله ولا يسال عما بعده‏.‏

وقال آخر‏:‏ الآن تضطرب الأقاليم لأن مسكنها قد سكن‏.‏

وقال آخر‏:‏ الآن وقت الانصراف لأن الأشخاص يتوجهون من دار إلى دار واللّه تعالى يبقى ولا يفنى‏.‏

حكم ديوجانس الكلبي وكان حكيماً فاضلاً متقشفاً لا يقتني شيئاً ولا يأوي إلى منزل وكأنه من قدرية الفلاسفة لما يوجد في مدارج كلامه من الميل إلى القدر‏.‏

قال‏:‏ ليس اللّه تعالى علة الشرور بل اللّه تعالى علة الخيرات والفضائل والجود والعقل‏.‏

جعلها بين خلقه فمن كسبها وتمسك بها نالها لأنه لا يدرك الخيرات إلا بها‏.‏

وسأله الإسكندر يوماً فقال‏:‏ بأي شيء يكتسب الثواب قال‏:‏ بأفعال الخيرات وإنك لتقدر أيها الملك أن تكتسب في يوم واحد ما لا تقدر الرعية أن تكسبه في دهرها‏.‏

وسأله عصبة من أهل الجهل‏:‏ ما غذاؤك قال‏:‏ ما عفتم يعني الحكمة‏.‏

قالوا‏:‏ فما عفت قال‏:‏ ما استطبتم يعني الجهل‏.‏

قالوا‏:‏ كم عبد لك قال‏:‏ أربابكم يعني‏:‏ الغضب والشهوة والأخلاق الرديئة الناشئة منهما‏.‏

وقالوا له يوماً‏:‏ ما أقبح صورتك‏!‏ قال‏:‏ لم أملك الخلقة الذميمة فألام عليها‏.‏

ولا ملكتم الخلقة الحسنة فتحمدوا عليها وأما ما صار في ملكي وأتى عليه تدبيري فقد استكملت تزيينه وتحسينه بغاية الطوق وقاصية الجهد واستكملتم شين ما في ملككم‏.‏

قالوا‏:‏ فما الذي في الملك من التزيين والتهجين قال‏:‏ أما التزيين فعمارة الذهن بالحكمة‏.‏

وجلاء العقل بالأدب وقمع الشهوة بالعفاف وردع الغضب بالحلم وقطع الحرص بالقنوع وإماتة الحسد بالزهد وتذليل المرح بالسكون ورياضة النفس حتى تصير مطية قد ارتاضت فتصرفت حيث صرفها فارسها في طلب العليات وهجر الدنيات‏.‏

ومن التهجين‏:‏ تعطيل الذهن من الحكمة وتوسيخ العقل بضياع الأدب وإثارة الشهوة بأتباع الهوى وإضرام الغضب بالانتقام وإمداد الحرص بالطلب‏.‏

وقدم إليه رجل طعاماً وقال له‏:‏ استكثر منه فقال‏:‏ عليك بتقديم الأكل وعلينا باستعمال العدل‏.‏

وقال زمام العافية بيد البلاء ورأس السلامة تحت جناح العطب وباب الأمن مستور بالخوف فلا تكون في حال من هذه الثلاث غير متوقع لضدها‏.‏

وقيل له‏:‏ مالك لا تغضب قال‏:‏ أما غضب الإنسانية فقد أغضبه وأما غضب البهيمة فقد تركته لترك الشهوة البهيمة‏.‏

واستدعاه الملك الإسكندر يوماً إلى مجلسه فقال للرسول‏:‏ قل له‏:‏ إن الذي منعك من المصير إلينا هو الذي منعنا من المصير إليك منعك استغناؤك عني بسلطانك ومنعني استغنائي عنك بقناعتي‏.‏

وعابته امرأة يونانية بقبح الوجه ودمامة الصورة فقال‏:‏ منظر الرجال بعد المخبر ومخبر النساء بعد المنظر فخجلت وتابت‏.‏

ووقف عليها الإسكندر يوماً فقال له‏:‏ ما تخافني قال‏:‏ أنت خير أم شرير قال‏:‏ بل خير قال‏:‏ فما لخوفي من الخير معنى بل يجب على رجاؤه‏.‏

وكان لأهل مدينة من بلاد اليونان صاحب جيش جبان وطبيب لم يعالج أداً إلا قتله فظهر عليهم عدو ففزعوا إليه فقال‏:‏ اجعلوا طبيبكم صاحب لقاء العدو واجعلوا صاحب جيشكم طبيب‏.‏

وقال‏:‏‏ اعلم أنك ميت لا محالة فاجتهد أن تكون حياً بعد موتك لئلا تكون لميتتك ميتة ثانية‏.‏

وقال كما أن الأجسام تعظم في العين في اليوم الضباب كذلك تعظم الذنوب عند الإنسان في حال الغضب‏.‏

وسئل عن العشق فقال‏:‏ هو اختيار صادف نفساً فارغة‏.‏

ورأى غلاماً معه سراج فقال له‏:‏ تعلم من أين تجيء هذه النار فقال له الغلام‏:‏ إن أخبرتني إلى أين تذهب أخبرتك من أين تجيء فأعياه وأفحمه بعد أن لم يكن يقوى عليه أحد‏.‏

ورأى امرأة قد حملها الماء فقال‏:‏ على هذا المعنى جرى المثل‏:‏ دع الشر يغسله الشر‏.‏

ورأى امرأة تحمل ناراً فقال‏:‏ نار على نار وحامل شر من محمول‏.‏

ورأى امرأة متزينة في ملعب لم تخرج لترى ولكن لتري‏.‏

ورأى نساءً يتشاورن فقال‏:‏ على هذا جرى المثل‏:‏ هو ذا الثعبان يستقرض من الأفاعي سماً‏.‏

ورأى جارية تتعلم الكتابة فقال‏:‏ يسقي هذا السهم سماً ليرمى به يوماً ما‏.‏

ورأى امرأة ضاحكة فقال‏:‏ لو كنت تدركين الموت لما كنت ضاحكة أبداً‏.‏

وقال للاسكندر يوماً وكان يقربه ويدنيه ويأنس بكلامه‏:‏ أيها الملك‏!‏ قد آمنت بالفقر فليكن غناك اقتناء الحمد وابتغاء المجد‏.‏

حكم الشيخ اليوناني وله رموز وأمثال‏.‏

منها قوله‏:‏ إن أمك رءوم لكنها فقيرة رعناء وإن أباك لحدث لكنه جواد مقدر يعني بالأم الهيولى وبالأب الصورة وبالرءوم انقيادها وبالفقر احتياجها إلى الصورة وبالرعونة قلة ثباتها على ما تحصل عليه وأما حداثة الصورة‏:‏ أي هي مشرقة لك بملابسة الهيولى وأما جودها‏:‏ أي النقص لا يعتريها من قبل ذاتها فإنها جواد لكن من قبل قبول الهيولى فإنها إنما تقبل على تقديرها‏.‏

وهذا ما فسر به رمزه ولغزه‏.‏

وحمل الأم على الهيولى صحيح مطابق للمعنى وليس حمل الأب على الصورة بذلك الوضوح بل حمله على العقل الفعال الجواد الواهب للصور على قدر استعدادات القوابل أظهر‏.‏

وقال‏:‏‏ لك نسبان‏:‏ نسب إلى أبيك ونسب إلى أمك‏.‏

أنت بأحدهما أشرف وبالآخر أوضع فانتسب في ظاهرك وباطنك إلى من أنت به أشرف وتبرأ في ظاهرك وباطنك ممن أنت فيه أوضع فإن الولد الفسل يحب أمه أكثر مما يحب أباه وذلك دليل وذلك دليل على دخل العرق وفساد المحتد‏.‏

قيل‏:‏ أراد بذلك‏:‏ الهيولى والصورة أو البدن والنفس أو الهيولى والعقل الفعال‏.‏

وقال‏:‏‏ قد ارتفع إليك خصمان منك يتنازعان فيك‏:‏ أحدهما‏‏ محق والآخر مبطل فاحذر أن تقضي بينهما بغير الحق فتهلك أنت‏.‏

والخصمان‏:‏ أحدهما‏‏ العقل والثاني‏‏ الطبيعة‏.‏

وقال‏:‏‏ كما أن البدن الخالي من النفس يفوح منه نتن الجيفة كذلك النفس الخالية من الأدب يحس نقصها بالكلام والأفعال‏.‏

وقال‏:‏‏ الغائب المطلوب في طي الشاهد الحاضر‏.‏

وقال أبو سليمان السجزي مفهوم هذا الإطلاق أن كل ما هو عندنا بالحس ها هنا فهو بالعقل لنا هناك‏.‏

إلا أن الذي عندنا ظل ذاك ولأن من شاء الظل أنه كما يريك الشيء الذي هو ظله مرة فاضلاً عما هو عليه ومرة قالصاً عما هو به ومرة على قدره‏.‏

عرض الحسبان والتوهم وصارا مزاحمين لليقين والتحقيق فينبغي أن تكون عنايتنا بطلب البقاء الأبدي والوجود السرمدي أتم وأظهر وأبقى وأبلغ فبالحق‏:‏ ما كان الغائب طي الشاهد وبتصفح هذا الشاهد يصح ذلك الغائب‏.‏

وقال الشيخ اليوناني‏:‏ النفس جوهر كريم شريف يشبه دائرة قد دارت على مركزها غير أنها دائرة لا بعد لها ومركزها هو العقل وكذلك العقل هو كدائرة قد استدارت على مركزها وهو الخير الأول‏ المحض‏.‏

غير أن النفس والعقل وإن كانا دائرتين لكن دائرة العقل لا تتحرك أبداً بل هي ساكنة ذاتية شبيهة بمركزها وأما دائرة النفس فإنها تتحرك على مركزها وهو العقل حركة الاستكمال‏.‏

على أن دائرة العقل وإن كانت دائرة شبيهة بمركزها لكنها تتحرك حركة الاشتياق لأنها تشتاق إلى مركزها وهو الخير الأول‏‏.‏

وأما دائرة العالم السفلى فإنها تدور حول النفس وإليها تشتاق وإنما تتحرك بهذه الحركة الذاتية شوقاً إلى النفس كشوق النفس إلى العقل وشوفق العقل إلى الخير المحض الأول‏ ولأن دائرة هذا العالم جرم والجرم يشتاق إلى الشيء الخارج منه ويحرص على أن يصير إليه فيعانقه فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة أن يصير إليه فيعانقه فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة لأنه يطلب النفس من جميع النواحي لينالها فيستريح إليها ويسكن عندها‏.‏

وقال‏:‏‏ ليس للمبدع الأول‏ صورة ولا حلية مثل صور الأشياء العالية ولا مثل صور الأشياء السافلة ولا له قوة مثل قواها لكنه فوق كل صورة وحلية وقوة لأنه مبدعها بتوسط العقل‏.‏

وقال‏:‏‏ المبدع الحق ليس شيئاً من الأشياء وهو جميع الأشياء لأن الأشياء منه وقد صدق الأفاضل الأوائل في قولهم‏:‏ مالك الأشياء كلها هو الأشياء كلها إذ هو علة كونها بآنيته فقط وعلة شوقها إليه‏.‏

وهو خلاف الأشياء كلها وليس فيه شئ مما أبدعه ولا يشبه شيئاً منه ولو كان كذلك لما كان علة الأشياء كلها وإذا كان العقل واحداً من الأشياء فليس فيه عقل ولا صورة ولا حلية‏.‏

أبدع الأشياء بآنيته فقط وبآنيته يعلمها ويحفظها ويدبرها‏.‏

لا بصفة من الصفات وإنما وصفناه بالحسنات والفضائل لأنه علتها وأنه الذي جعلها في الصور فهو مبدعها‏.‏

قال‏:‏ وإنما تفاضلت الجواهر العالية العقلية لاختلاف قبولها من النور الأول‏ جل وعز فلذلك صارت ذوات مراتب شتى‏:‏ فمنها ما هو أول في المرتبة ومنها ما هو ثان ومنها ما هو ثالث فاختلفت الأشياء بالمراتب والفصول لا بالمواضع والأماكن وكذلك الحواس تختلف بأماكنها

وقال‏:‏‏ المبدع ليس بمتناه لا كأنه جثة بسيطة وإنما عظم جوهره بالقوة والقدرة لا بالكمية والمقدار فليس للأول صورة ولا حلية ولا شكل فلذلك صار محبوباً معشوقاً تشتاقه الصور العالية والسافلة وإنما اشتاقت إليه صور جميع الأشياء لأنه أبدعها وكساها من وجوده حلية الوجود‏.‏

وهو قديم دائم على حاله لا يتغير والعاشق يحرص على أن يصير إليه ويكون معه وللمعشوق الأول‏ عشاق كثيرون وقد يفيض عليهم كلهم من نوره من غير أن ينقص منه شيء لأنه ثابت قائم بذاته لا يتحرك‏.‏

وأما المنطق الجزئي فإنه لا يعرف الشيء إلا معرفة جزئية وشوق العقل الأول‏ إلى المبدع الأول‏ أشد من شوق سائر الأشياء لأن الأشياء كلها تحته وإذا اشتاق إليه العقل لم يقل للعقل لم صرت مشتاقاً إلى الأول‏ إذ العشق لا علة له‏.‏

وأما المنطق الذي يختص بالنفس قيفحص عن ذلك ويقول‏:‏ إن الأول‏ هو المبدع الحق وهو الذي لا صورة له وهو مبدع الصور فالصور كلها تحتاج إليه وتشتاق إليه وذلك أن كل صورة تطلب مصورها ة تحن إليه‏.‏

وقال‏:‏‏ إن الفاعل الأول‏ أبدع الأشياء كلها بغاية الحكمة‏.‏

لا يقدر أحد أن ينال علل كونها ولم كانت على الحال التي هي الآن عليها ولا أن يعرفها كنه معرفتها ولم صارت الأرض في الوسط ولم كانت مستديرة ولم تكن مستطيلة ولا منحرفة إلا أن يقول‏:‏ إن الباري صيرها كذلك وإنما كانت بغاية الحكمة الواسعة لكل حكمة‏.‏

وكل فاعل يفعل بروية وفكرة لا بآنيته فقط بل يفصل فيه فلذلك يكون فعله لا بغاية الثقافة والإحكام‏.‏

والفاعل الأول‏ لا يحتاج في إبداع الأشياء إلى روية وفكر وذلك أنه ينال العلل بلا قياس بل يبدع الأشياء ويعلم عللّها قبل الروية والفكر‏.‏

والعلل والبرهان والعلم والقنوع‏.‏

و سائر ما أشبه ذلك‏:‏ إنما كانت أجزاء وهو الذي أبدعها وكيف يستعين بها وهي لم تكن بعد‏!‏‏.‏

حكم ثاوفرسطيس كان هذا الرجل من كبار تلامذة أرسطوطاليس وكبار أصحابه واستخلفه على كرسي حكمته بعد وفاته وكانت المتفلسفة في عهده تختلف إليه وتقتبس منه‏.‏

وله كتب الشروح الكثيرة والتصانيف المعتبرة وبالخصوص في الموسيقات‏.‏

فمما يؤثر عنه أنه قال‏:‏ الإلهية لا تتحرك ومعناه لا تتغير ولا تتبدل‏:‏ لا في الذات ولا سنة الأفعال‏.‏

وقال‏:‏‏ السماء مسكن الكواكب والأرض مسكن الناس على أنهم مثل وشبه لما في السماء فهم الآباء والمدبرون ولهم نفوس وعقول مميزة ليس لها أنفس نباتية فلذلك لا تقبل الزيادة ولا النقصان‏.‏

وقال‏:‏‏ الغناء فضيلة في المنطق أشكلت على النفس وقصرت عن تبيين كنهها فأبرزتها لحونا وأثارت بها شجونا وأضمرت في عرضها فنونا وفتونا‏.‏

وقال‏:‏‏ الغناء شئ يخص النفس دون الجسد فيشغلها عن مصالحها‏.‏

كما أن لذة المأكول والمشروب شيء يخص الجسم دون النفس‏.‏

وقال‏:‏‏ إن النفوس إلى اللحون إذا كانت محجبة أشد إصغاء منها إلى ما قد تبين لها وظهر معناه عندها‏.‏

وقال‏:‏‏ إن العقل نحوان‏:‏ أحدهما‏‏ مطبوع والآخر مسموع فالمطبوع منه كالأرض والمسموع منه كالبذر والماء فلا يخلص للعقل المطبوع عمل دون أن يرد عليه العقل المسموع فينبهه من نومه ويطلقه من وثاقه ويقلقه من مكانه كما يستخرج البذر والماء ما في قعر الأرض‏.‏

وقال‏:‏‏ الحكمة غنى النفس والمال غنى البدن وطلب غنى النفس أولى لأنها إذا غنيت بقيت والبدن إذا غني فنى وغنى النفس ممدود وغنى البدن محدود‏.‏

وقال‏:‏‏ ينبغي للعاقل أن يداري الزمان مداراة رجل لا يسبح في الماء الجاري إذا وقع‏.‏

وقال لا يغبطن بسلطان من غير عدل ولا بغنى من غير حسن تدبير ولا ببلاغة من غير صدق منطق ولا بجود في غير إصابة موضع ولا بأدب من غير أصالة رأي ولا بحسن عمل في غير حينه‏.‏

شبه برقلس في قدم العالم إن القول في قدم العالم وأزلية الحركات بعد إثبات الصانع والقول بالعلة

الأولى‏‏:‏ إنما شهر بعد أرسطوطاليس لأنه خالف القدماء صريحاً وأبدع هذه المقالة على قياسات ظنها حجة وبرهاناً فنسج على منواله من كان من تلامذته وصرحوا القول فيه مثل الأسكندر الإفروديسي وثامسطيوس وفورفوريوس‏.‏

وصنف فورقلس المنتسب إلى أفلاطونفي هذه المسألة كتاباً وأورد فيه هذه الشبه وإلا فالقدماء إنما أبدوا فيه ما نقلناه سالفاً‏.‏

الشبهة

الأولى‏‏:‏ قال‏:‏ إن الباري تعالى جواد بذاته وعلة وجود العالم جوده وجوده قديم لم يزل فيلزم أن يكون وجود العالم قديماً لم يزل‏.‏

قال‏:‏ ولا يجوز أن يكون مرة جواداً ومرة غير جواد فإنه يوجب التغير في ذاته فهو جواد لذاته لم يزل‏.‏

قال‏:‏ ولا مانع من فيض جوده إذ لو كان مانع لما كان من ذاته بل من غيره وليس لواجب الوجود لذاته حامل على شيء ولا مانع من شيء‏.‏

الشبهة

الثانية‏‏:‏ قال‏:‏ ليس يخلو الصانع من أن يكون لم يزل صانعاً بالفعل أو لم يزل صانعاً بالقوة فإن كان الأول‏ فالمصنوع معلول لم يزل وإن كان الثاني فما بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج ومخرج الشيء من القوة إلى الفعل غير ذات الشيء فيجب أن يكون له مخرج من خارج يؤثر فيه وذلك ينافي كونه صانعاً مطلقاً لا يتغير ولا يتأثر‏.‏

الشبهة الثالثة‏‏:‏ قال‏:‏ كل علة لا يجوز عليها التحرك والاستحالة فإنما تكون علة من جهة ذاتها لا من جهة الانتقال من غير فعل إلى فعل وكل علة من جهة ذاتها فمعلومها من جهة ذاتها وإذا كانت ذاتها لم تزل فمعلومها لم يزل‏.‏

الشبهة الرابعة‏‏:‏ قال‏:‏ إن الزمان لا يكون موجوداً إلا مع الفلك ولا الفلك إلا مع الزمان لأن الزمان هو العاد لحركات الفلك‏.‏

ثم لا يجوز أن يقال متى وقبل إلا حين يكون الزمان ومتى وقبل أبدى فالزمان أبدى فحركات الفلك أبدية فالفلك أبدى‏.‏

الشبهة الخامسة‏‏:‏ قال‏:‏ إن العالم حسن النظام كامل القوام وصانعه جواد خير ولا ينقض الجيد الحسن إلا شرير وصانعه ليس بشرير وليس يقدر على نقضه غيره فليس ينتقض أبداً وما لا ينتقض أبداً كان سرمداً‏.‏

الشبهة السادسة‏‏:‏ قال‏:‏ لما كان الكائن لا يفسد إلا بشيء غريب يعرض له ولم يكن شيء غريب عن العالم خارجاً منه يجوز أن يعرض فيفسد‏:‏ ثبت أنه لا يفسد وما لا يتطرق إليه

الشبهة السابعة‏‏:‏ قال‏:‏ إن الأشياء التي هي في المكان الطبيعي لا تتغير ولا تتكون ولا تفسد وإنما تتغير وتتكون وتفسد إذا كانت في أماكن غريبة فتتجاذب إلى أماكنها كالنار التي في أجسادنا تحاول الانفصال إلى مركزها فينحل الرباط فيفسد إذ الكون والفساد إنما يتطرق إلى المركبات لا إلى البسائط التي هي أركان في أماكنها‏.‏

ولكنها هي بحالة واحدة وما هو بحال واحدة فهو أزلي‏.‏

الشبهة الثامنة‏‏:‏ قال‏:‏ العقل والنفس والأفلاك تتحرك على الاستدارة والطبائع تتحرك إما عن الوسط وإما إلى الوسط على الاستقامة وإذا كان كذلك كان التفاسد في العناصر إنما هو لتضاد حركاتها والحركة الدورية لا ضد لها فلم يقع فيها فساد‏.‏

قال‏:‏ وكليات العناصر إنما تتحرك على استدارة وإن كانت الأجزاء منها تتحرك على الاستقامة فالفلك وكليات العناصر لا تفسد وإذا لم يجز أن يفسد العالم لم يجز أن يتكون‏.‏

وهذه الشبهات هي التي يمكن أن يقال عليها فتنقص وفي كل واحدة منها نوع مغالطة وأكثرها تحكمات‏.‏

وقد أقرت لها كتاباً أوردت فيه‏:‏ شبهات أرسطوطاليس وهذه وتقريرات أبي علي ابن سينا ونقضتها على قوانين منطقية‏.‏

فليطلب ذلك‏.‏

ومن المتعصبين لبرقلس من مهد له عذرا في ذكر هذه الشبهات

وقال‏:‏‏ إنه كان يناطق الناس وكان أهل زمانه الذين يناطقونه جسمانيين وإنما دعاه إلى ذكر هذه الأقوال مقاومتهم إياه فخرج من طريق الحكمة والفلسفة من هذه الجهة لأن من الواجب على الحكيم أن يظهر العلم على طرق كثيرة يتصرف فيها كل ناظر بحسب نظره ويستفيد منها بحسب فكره واستعداده فلا يجد على قوله مسلخاً ولا يصيب مقالاً ولا مطعناً لأن برقلس لما كان يقول بدهر هذا العالم وإنه باق لا يدثر وضع كتاباً في هذا المعنى فطالعه من لم يعرف طريقته ففهموا منه جسمانية قوله دون روحانيته فنقضوه على مذهب الدهرية‏.‏

وفي هذا الكتاب يقول‏:‏ لما اتصلت العوالم بعضها ببعض وحدثت القوى الواصلة فيها وحدثت المركبات من العناصر‏:‏ حدثت قشور واستنبطت لبوب فالقشور داثرة واللبوب قائمة دائمة لا يجوز الفساد عليها لأنها بسيطة وحيدة القوى فانقسم العالم إلى عالمين‏:‏ عالم الصفوة واللب وعالم الكدورة والقشر فاتصل بعضه ببعض وكان آخر هذا العالم من بدء ذلك العالم فمن وجه‏:‏ لم يكن بينهما فرق فلم يكن هذا العالم داثراً إذ كان متصلاً بما ليس يدثر ومن وجه‏:‏ دثرت القشور وزالت الكدرة وكيف تكون القشور غير داثرة ولا مضمحلة وما لم تزل القشور باقية كانت اللبوب خافية‏!‏ وأيضاً‏:‏ فإن هذا العالم مركب والعالم الأعلى بسيط وكل مركب ينحل حتى يرجع إلى البسيط الذي تركب منه وكل بسيط باق دائماً غير مضمحل ولا متغير‏.‏

قال الذي يذب عن برقلس‏:‏ هذا الذي نقل عنه هو المنقول عن مثله بل الذي أضاف إليه هذا القول الأول‏ لا يخلو من أحد أمرين‏:‏ إما أنه لم يقف على مرامه للعلة التي ذكرنا فيما سلف وإما لأنه كان محسوداً عند أهل زمانه لكونه بسيط الفكر واسع النظر ساير القوى وكانوا أولئك أصحاب أوهام وخيالات فإنه يقول في موضع من كتابه‏:‏ إن الأوائل منها تكونت العوالم وهي باقية لا تدثر ولا تضمحل وهي لازمة الدهر ماسكة له إلا أنها من أول لا يوصف بصفة ولا يدرك بنعت ونطق لأن صور الأشياء كلها منه وتحته وهي الغاية والمنتهى التي ليس فوقها جوهر هو أعظم منها إلا الأول‏ الواحد وهو الأحد الذي قوته أخرجت هذه الأوائل وقدرته أبدعت هذه المبادئ‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إن الحق لا يحتاج إلى أن يعرف ذاته لأنه حق حقاً بلا حق وكل حق حقاً فهو تحته إنما هو حق حقاً إذ حققه الموجب له الحق فالحق هو الجوهر الممد للطباع الحياة والبقاء وهو أفاد هذا العالم بدءاً وبقاء بعد دثور قشوره وزكي البسيط الباطن من الدنس الذي كان فيه قد علق فيه

وقال‏:‏‏ إن هذا العالم إذا اضمحلت قشوره وذهب دنسه وصار بسيطاً روحانياً بقي بما فيه من الجواهر الصافية النورانية في حد المراتب الروحانية مثل العوالم العلوية التي بلا نهاية وكان هذا واحداً منها وبقي جوهر كل قشر ودنس وخبث ويكون له أهل يلبسه لأنه غير جائز أن تكون الأنفس الطاهرة التي لا تلبس القشور والأدناس مع الأنفس الكثيرة القشور في عالم واحد وإنما يذهب من هذا العالم ما ليس من جهة المتوسطات الروحانية وما كان القشر والدنس عليه أغلب فأما ما كان من الباري تعالى بلا متوسط أو كان من متوسط بلا قشر‏:‏ فإنه لا يضمحل‏.‏

قال‏:‏ وإنما يدخل القشر على الشيء من غير المتوسطات فيدخل عليه بالعرض لا بالذات وذلك إذا كثرت المتوسطات وبعد الشيء عن الإبداع الأول‏ لأنه حيثما قلت المتوسطات في الشيء‏:‏ كان أنور وأقل قشوراً ودنساً وكلما قلت القشور والدنس كانت الجواهر أصفى والأشياء أبقى‏.‏

ومما ينقل عن برقلس أنه قال‏:‏ إن الباري تعالى عالم بالأشياء كلها‏:‏ أجناسها وأنواعها وأشخاصها‏.‏

وخالف بذلك أرسطوطاليس فإنه قال‏:‏ يعلم أجناسها وأنواعها دون أخاصها الكائنة الفاسدة فإن علمه يتعلق بالكليات دون الجزئيات كما ذكرنا‏.‏

ومما ينقل عنه في قدم العالم قوله‏:‏ لن يتوهم حدوث العالم إلا بعد أن يتوهم أنه لم يكن فأبدعه الباري تعالى في الحالة التي لم يكن‏.‏

وفي الحالة التي لم يكن لا يخلو من حالات ثلاث‏:‏ إما أن الباري لم يكن قادراً فصار قادراً وذلك محال لأنه قادر لم يزل وإما أنه لم يرد فأراد وذلك محال أيضاً لأنه مريد لم يزل وإما أنه لم تقتض الحكمة وجوده وذلك محال أيضاً لأن الوجود أشرف من العدم على الإطلاق‏.‏

فإذا بطلت هذه الجهات الثلاث‏:‏ تشابهاً في الصفة الخاصة وهي القدم على أصل المتكلم وكان القدم بالذات له دون غيره وإن كانا معا في الوجود‏.‏

واللّه الموفق‏.‏

رأي ثامسطيوس وهو الشارح لكلام الحكيم أرسطوطاليس وإنما يعتمد شرحه إذ كان أهدى القوم إلى إشارته ورموزه وهو على رأي أرسطوطاليس في جميع ما ذكرنا من إثبات العلة الأولى‏ واختار من المذاهب في المبادئ قول من قال‏:‏ إن المبادئ ثلاثة‏:‏ الصورة والهيولي والعدم وفرق بين العدم المطلق والعدم الخاص فإن عدم صورة بعينها عن مادة تقبلها مثل عدم السيفية عن الحديد ليس كعدم السيفية عن الصوف فإن هذه المادة لا تقبل هذه الصورة أصلا‏.‏

وقال‏:‏‏ إن الأفلاك حصلت من العناصر الأربعة لا أن العناصر حصلت من الأفلاك ففيها نارية وهوائية ومائية وأرضية إلا أن الغالب على الأفلاك هو النارية كما أن الغالب على المركبات السفلية هو الأرضية‏.‏

والكواكب نيران مشتعلة حصلت تراكيبها على وجه لا يتطرق إليها الانحلال لأنها لا تقبل الكون والفساد والتغير والاستحالة وإلا فالطبائع واحدة‏.‏

والفرق يرجع إلى ما ذكرنا‏.‏

ونقل ثامسطيوس عن أرسطوطاليس وثاون وأفلاطون وثاوفرسطيس وفرفوريوس وفلوطرخيس وهو رأيه‏:‏ أن في العالم أجمع طبيعة واحدة عامة وكل نوع من أنواع النبات والحيوان مختص بطبيعة خاصة وحدوا الطبيعة العامة بأنها مبدأ الحركات في الأشياء والسكون فيها على الأمر الأول‏ من ذواتها وهي علة الحركة في المتحركات وعلة السكون في الساكنات‏.‏

وزعموا‏:‏ أن الطبيعة هي التي تدبر الأشياء كلها في العالم حيوانه ونباته ومواته تدبيراً طبيعياً وليست هي حية ولا قادرة ولا مختارة ولكن لا تفعل إلا حكمة وصواباً وعلى نظم صحيح وترتيب محكم‏.‏

قال ثامسطيوس‏:‏ قال أرسطوطاليس في مقالة اللام‏:‏ إن الطبيعة تفعل ما تفعل من الحكمة والصواب وإن لم تكن حيواناً لأنها ألهمت من سبب هو أكرم منها وأوماً إلى أن السبب هو اللّه عز وجل‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إن الطبيعة طبيعتان‏:‏ طبيعة هي مستعلية على الكون والفساد بكليتها وجزئيتها يعني الفلك والنيرات وطبيعة يلحق جزئياتها الكون والفساد لا كلياتها يريد بالجزئيات الأشخاص وبالكليات الأسطقسات‏.‏

رأي الإسكندر الأفروديسي وهو من كبار الحكماء رأياً وعلماً‏.‏

وكلامه أمتن ومقالته أرصن‏.‏

وافق أرسطوطاليس في جميع آرائه وزاد عليه في الاحتجاج على أن الباري تعالى عالم بالأشياء كلها كلياتها وجزئياتها ومما انفرد به أن قال‏:‏ كل كوكب ذو نفس وطبع وحركة من جهة نفسه وطبعه ولا يقبل التحريك من غيره أصلاً بل إنما يتحرك بطبعه واختياره إلا أن حركاته لا تختلف أبداً لأنها دورية‏.‏

وقال‏:‏‏ لما كان الفلك محيطاً بما دونه وكان الزمان جارياً عليه لأن الزمان هو العاد للحركات أو هو عدد الحركات ولما لم يكن يحيط بالفلك شئ آخر ولا كان الزمان جارياً عليه‏.‏

لم يجز أن يفسد الفلك ويكون فلم يكن قابلاً للكون والفساد وما لم يقبل الكون والفساد كان قديماً أزلياً‏.‏

وقال في كتابه في النفس‏:‏ إن الصناعة تتقبل الطبيعة‏.‏

وإن الطبيعة لا تتقبل الصناعة‏.‏

وقال‏:‏‏ للطبيعة لطف وقوة وإن أفعالها تفوق في البراعة واللطف كل أعجوبة يتلطف فيها بصناعة من الصناعات‏.‏

وقال في ذلك الكتاب‏:‏ لا فعل للنفس دون مشاركة البدن حتى التصور بالعقل فإنه مشترك بينهما وأومأ إلى أنه لا يبقى للنفس بعد مفارقتها قوة أصلاً حتى القوة العقلية‏.‏

وخالف بذلك أستاذه أرسطوطاليس فإنه قال‏:‏ الذي يبقى مع النفس من جميع مالها من القوة هي القوة العقلية فقط ولذاتها في ذلك العالم مقصورة على اللذات العقلية فقط إذ لا قوة لها دون ذلك فتحس وتلتذ بها‏.‏

والمتأخرون يثبتون بقاءها على هيئات أخلاقية استفادتها من مشاركة البدن لتستعد بها لقبول هيئات ملكية في ذلك العالم‏.‏

رأي فرفوريوس وهو أيضاً على رأي أرسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه وهو الشارح لكلام أرسطو أيضاً وإنما يعتمد شرحه إذ كان أهدى القوم إلى إشاراته وجميع ما ذهب إليه‏.‏

ويدعى أن الذي يحكى عن أفلاطون من القول بحدوث العالم غير صحيح‏:‏ قال في رسالته إلى أبانوا‏:‏ وأما ما قذف به أفلاطون عندكم من أنه يضع للعالم ابتداء زمانياً فدعوى كاذبة وذلك أن أفلاطون ليس يرى أن للعالم ابتداء زمانياً لكن ابتداء على جهة العلة ويزعم أن علة كونه ابتداؤه‏.‏

وقد أرى أن المتوهم عليه في قوله‏:‏ إن العالم مخلوق وإنه حدث لا من شئ وإنه خرج من لا نظام إلى نظام‏.‏

وقد أخطأ وغلط وذلك أنه لا يصح دائماً أن كل عدم أقدم من الوجود فيما علة وجود شئ آخر غيره ولا كل سوء نظام أقدم من النظام‏.‏

وإنما يعني أفلاطون‏:‏ أن الخالق أظهر العالم من العدم إلى الوجود وإن وجد أنه لم يكن من ذاته لكن سبب وجوده من الخالق‏.‏

قال‏:‏ وقال في الهيولى‏:‏ إنها قابل للصور وهي كبيرة وصغيرة وهما في الموضوع والحد واحد ولم يبين العدم كما ذكره أرسطو طاليس إلا أنه قال‏:‏ الهيولى لا صورة لها فقد علم أن عدم الصورة في الهيولى‏.‏

وقال‏:‏‏ إن المركبات كلها إنما تتكون بالصور على سبيل التغير وتفسد بخلو الصور عنها‏.‏

وزعم فرفوريوس‏:‏ أن من الأصول الثلاثة التي هي الهيولى والصورة والعدم‏:‏ أن كل جسم إما ساكن وإما متحرك وههنا شيء يكون ما يتكون ويحرك الأجسام وكل ما كان واحداً بسيطاً ففعله واحد بسيط وكل ما كان كثيراً مركباً فأفعاله كثيرة مركبة وكل موجود ففعله مثل طبيعته ففعل اللّه بذاته فعل واحد بسيط وباقي أفعاله يفعلها بمتوسط مركب‏.‏

قال‏:‏ وكل ما كان موجوداً فله فعل من الأفعال مطابق لطبيعته ولما كان الباري تعالى موجوداً ففعله الخاص هو الإجتلاب إلى الوجود ففعل فعلاً واحداً وحرك حركة واحدة وهو الإجتلاب إلى شبهة يعني الوجود‏.‏

ثم إما يقال‏:‏ كان المفعول معدوماً يمكن أن يوجد وذلك هو طبيعة الهيولى بعينها فيجب أن يسبق الوجود طبيعة ما قابلة للوجود‏.‏

وإما أن يقال‏:‏ لم يكن معدوماً ما يمكن أن يوجد بل أوجده عن لا شيء وأبدع وجوده من غير توهم شيء سبقه وهو ما يقوله الموحدون‏.‏

قال‏:‏ فأول فعل فعله هو الجوهر إلا أن كونه جوهراً وقع بالحركة فوجب أن يكون بقاؤه جوهراً بالحركة وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون بذاته بمنزلة الوجود الأول‏ لكن من التشبه بذلك الأول‏‏.‏

وكل حركة تكون فإما أن تكون على خط مستقيم وإما على الاستدارة فتحرك الجوهر بهاتين الحركتين‏.‏

ولما كان وجود الجوهر بالحركة وجب أن يتحرك الجوهر في جميع الجهات التي يمكن فيها الحركة فيتحرك جميع الجوهر في جميع الجهات حركة مستقيمة على جميع الخطوط وهي ثلاثة‏:‏ الطول والعرض والعمق إلا أنه لم يكن له أن يتحرك على هذه الخطوط بلا نهاية إذ ليس يمكن فيما هو بالفعل أن يكون بلا نهاية فتحرك الجوهر في هذه الأقطار الثلاثة حركة متناهية على خطوط مستقيمة وصار بذلك جسماً‏.‏

وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها أن يتحرك بأجمعه حركة على الاستدارة لأن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه فعند ذلك انقسم الجوهر فتحرك بعضه على الاستدارة وسكن بعضه في الوسط‏.‏

قال‏:‏ وكل جسم يتحرك فيماس جسماً ساكناً في طبيعته فبول التأثير منه حركه معه وإذا حركه سخن وإذا سخن لطف وانحل وخف‏.‏

فكانت النار تلي الفلك‏.‏

والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار فتكون حركته أقل فلا يتحرك لذلك بأجمعه لكن جزء منه فيسخن دون سخونة النار‏.‏

وهو الهواء‏.‏

والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك فهو بارد لسكونه وحار حرارة يسيرة بمجاورته الهواء ولذلك انحل قليلاً‏.‏

وهو الماء‏.‏

وأما الجسم الذي يلي الماء في الوسط فلأنه بعد في الغاية عن الفلك ولم يستفد من حركته شيئاً ولا قبل منه تأثيراً‏:‏ سكن وبرد‏.‏

وهذه هي الأرض‏.‏

وإذا كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها من بعض اختلطت وتولد عنها أجسام مركبة‏.‏

وهذه هي الأجسام المحسوسة‏.‏

وقال‏:‏‏ الطبيعة تفعل بغير فكر ولا عقل ولا إرادة ولكنها ليست تفعل بالبخت والاتفاق والخبط بل لا تفعل إلا ماله نظم وترتيب وحكمة وقد تفعل شيئاً من أجل شيء كما تفعل البر لغذاء الإنسان وتهيئ أعضائه لما يصلح له‏.‏

وقد قسم فرفوريوس مقالة أرسطو طاليس في الطبيعة خمسة أقسام‏:‏ أحدها العنصر والثاني‏‏ الصورة والثالث المجتمع منهما كالإنسان والرابع الحركة الجاذبة في الشيء بمنزلة حركة النار الكائنة الموجودة فيها إلى فوق والخامس الطبيعة العامة للكل لأن الجزئيات لا يتحقق وجودها إلا عن كل يشملها‏.‏

ثم اختلفوا في مركزها‏:‏ فمن الحكماء من صار إلى أنها فوق الكل وقال آخرون إنها دون الفلك قالوا‏:‏ والدليل على وجودها أفعالها وقواها المنبثة في العالم الموجبة للحركات والأفعال كذهاب النار والهواء إلى فوق وذهاب الماء والأرض إلى تحت فعلم يقيناً أنه لولا قوى فيها أوجبت تلك الحركات وكانت مبدأ لها لم توجد فيها وكذلك ما يوجد في النبات والحيوان من قوة الغذاء وقوة النمو والنشوء‏.‏

 ٣-٢-٤الباب الرابع المتأخرون من فلاسفة الإسلام

مثل‏:‏ يعقوب بن إسحاق الكندي‏.‏

وحنين بن أسحاق‏.‏

ويحيى النحوي‏.‏

وأبي الفرج المفسر‏.‏

وأبي سليمان السجزي‏.‏

وأبي سليمان محمد ابن معشر المقدسي‏.‏

وأبي بكر ثابت بن قرة الحراني‏.‏

وأبي تمام يوسف بن محمد النيسابوري‏.‏

وأبي زيد أحمد بن سهل البلخي‏.‏

وأبي محارب الحسن بن سهل ابن محارب القمي‏.‏

وأحمد بن الطيب السرخسي‏.‏

وطلحة بن محمد النسفي‏.‏

وأبي حامد أحمد بن محمد الإسفزاري‏.‏

وعيسى بن علي بن عيسى الوزير‏.‏

وأبي علي أحمد ابن محمد بن مسكويه‏.‏

وأبي زكريا يحيى بن عدي الصيمري‏.‏

وأبي الحسن محمد ابن يوسف العامري‏.‏

وأبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي‏.‏

وغيرهم‏.‏

وإنما علامة القوم أبو علي الحسين بن عبد اللّه بن سينا قد سلكوا كلهم طريقة أرسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين‏.‏

ولما كانت طريقة ابن سينا أدق عند الجماعة ونظره في الحقائق أغوص‏:‏ اخترت نقل طريقته من كتبه على إيجاز واختصار كأنها‏:‏ عيون كلامه ومتون مرامه‏.‏

وأعرضت عن نقل طرق الباقين ابن سينا كلامه في المنطق قال أبو علي الحسين بن عبد اللّه بن سينا‏:‏ العلم إما تصور وإما تصديق‏.‏

أما التصور فهو العلم الأول‏ وهو أن تدرك أمراً ساذجاً من غير أن تحكم عليه بنفي أو إثبات مثل تصورنا ماهية الإنسان‏.‏

وأما التصديق فهو أن تدرك أمراً وأمكنك أن تحكم عليه بنفي أو إثبات مثل تصديقنا بأن للكل مبدأ‏.‏

وكل واحد من القسمين منه أولى ومنه ما هو مكتسب‏.‏

فالتصور المكتسب إنما يستحصل بالحد وما يجري مجراه والتصديق المكتسب إنما يستحصل بالقياس وما يجري مجراه فالحد والقياس آلتان بهما تحصل المعلومات التي لم تكن حاصلة فتصير معلومة بالرؤية‏.‏

وكل واحد منهما منه ما هو حقيقي ومنه ما هو دون الحقيقي ولكنه نافع منفعة بحسبه ومنه ما هو باطل مشتبه بالحقيقي‏.‏

والفطرة الإنسانية غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف إلا أن تكون مؤيدة من عند اللّه عز وجل فلا بد إذاً للناظر من آلة قانونية تعصمه مراعاتها عن أن يضل في فكره وذلك هو الغرض من المنطق‏.‏

ثم إن كل واحد من الحد والقياس فمؤلف من معان معقولة بتأليف محدود فيكون لها مادة منها ألفت وصورة بها التأليف والفساد قد يعرض من إحدى الجهتين وقد يعرض من جهتيهما معاً‏.‏

فالمنطق هو الذي نعرف به‏:‏ من أي المواد والصور يكون الحد الصحيح والقياس السديد الذي يوقع يقيناً ومن أيها ما يوقع عقداً شبيهاً باليقين ومن أيها ما يوقع ظناً غالباً ومن أيها ما يوقع مغالطة وجهلاً وهذه فائدة المنطق‏.‏

ثم لما كانت المخاطبات النظرية بألفاظ مسموعة والأفكار العقلية بأقوال عقلية فتلك المعاني التي في الذهن من حيث يتأدى بها إلى غيرها كانت موضوعات المنطق‏.‏

ومعرفة أحوال تلك المعاني مسائل علم المنطق‏.‏

وكان المنطق بالنسبة إلى المعقولات على مثال النحو بالنسبة إلى الكلام والعروض إلى الشعر فوجب على المنطقي أن يتكلم في الألفاظ أيضاً من حيث تدل على المعاني‏.‏

واللفظ يدل على المعنى من ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها بالمطابقة والثاني‏‏ بالتضمن والثالث بالالتزام‏.‏

وهو ينقسم إلى مفرد ومركب فالمفرد ما يدل على معنى وجزء من أجزائه لا يدل على جزء من أجزاء ذلك المعنى بالذات‏:‏ أي حين هو جزء له والمركب هو الذي يدل على معنى وله أجزاء منها يلتئم مسموعه ومن معانيها يلتئم معنى الجملة‏.‏

والمفرد ينقسم إلى كلي‏.‏

وجزئي والكلي هو الذي يدل على كثيرون بمعنى واحد متفق ولا يمنع نفس مفهومه عن الشركة فيه والجزئي هو ما يمنع نفس مفهومه ذلك‏.‏

ثم الكلي ينقسم إلى ذاتي وعرضي والذاتي هو الذي يقوم ماهية ما يقال عليه والعرضى هو الذي لا يقوم ماهية سواء كان غير مفارق في الوجود والوهم أو مفارقاً بين الوجود أو غير بين الوجود له‏.‏

ثم الذاتي ينقسم إلى ما هو مقول في جواب ما هو وهو اللفظ المفرد الذي يتضمن جميع المعاني الذاتية التي يقوم الشيء بها وفرق بين المقول في جواب ما هو وبين الداخل في جواب ما هو‏.‏

وإلى ما هو مقول في جواب أي شئ هو وهو الذي يدل على معنى تتميز به أشياء مشتركة في معنى واحد تميزاً ذاتياً‏.‏

وأما العرضى فقد يكون ملازماً في الوجود والوهم وبه يقع تمييز أيضاً لا ذاتياً وقد يكون مفارقاً‏.‏

وفرق بين العرضى والعرض الذي هو قسيم الجوهر‏.‏

وأما رسوم الألفاظ الخمسة التي هي‏:‏ الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام‏:‏ فالجنس يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق الذاتية في جواب ما هو‏.‏

والنوع يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالعدد في جواب ما هو إذا كان نوع الأنواع وإذا كان نوعاً متوسطاً فهو المقول على كثيرين مختلفين في جواب ما هو ويقال عليه قول آخر في جواب ما هو بالشركة‏.‏

وينتهى الإرتقاء إلى جنس لا جنس فوقه وإن قدر فوق الجنس أمر أعم منه فيكون العموم بالتشكيك والنزول إلى نوع لا نوع تحته وإن قدر دون النوع صنف أخص فيكون الخصوص بالعوارض‏.‏

ويرسم الفصل بأنه الكلي الذاتي الذي يقال به على نوع تحت جنسه‏:‏ بأنه أي شيء هو‏.‏

وترسم الخاصة بأنها هي الكلي الدال على نوع واحد في جواب أي شيء هو لا بالذات‏.‏

ويرسم العرض العام بأنه الكلي المفرد الغير الذاتي ويشترك في معناه كثيرون ووقوع العرض على هذا وعلى الذي هو قسيم الجوهر وقوع بمعنيين مختلفين‏.‏

في المركبات‏:‏ الشيء إما عين موجودة وإما صورة مأخوذة عنه في الذهن ولا يختلفان في النواحي والأمم‏.‏

وإما لفظة تدل على الصورة التي في الذهن وأما كتابة دالة على اللفظ ويختلفان في الأمم‏.‏

فالكتابة دالة على اللفظ واللفظ دال على الصورة في الذهن وتلك الصورة دالة على الأعيان الموجودة‏.‏

مبادئ القول‏:‏ إما اسم وإما كلمة وإما أداة‏.‏

فالاسم لفظ مفرد يدل على معنى من غير أن يدل على زمان وجود ذلك المعنى والكلمة لفظ مفرد يدل على معنى وعلى الزمان الذي فيه ذلك المعنى موضوع ما غير معين والأداة لفظ مفرد إنما يدل على معنى يصح أن يوضع أو يحمل بعد أن يقترن باسم أو كلمة وإذا ركبت اللفظ تركيباً يؤدي إلى معنى فحينئذ يسمى قولاً‏.‏

ووجوه التركيبات مختلفة وإنما يحتاج المنطقي إلى تركيب خاص وهو أن يكون بحيث يتطرق إليه التصديق والتكذيب‏.‏

فالقضية هي‏:‏ كل قول فيه نسبة بين شيئين بحيث يتبعه حكم صدق أو كذب والحملية منها‏:‏ كل قضية فيها النسبة المذكورة بين شيئين ليس في كل منهما هذه النسبة بين شيئين فيهما هذه النسبة من حيث هي مفصلة والمتصلة من الشرطية‏:‏ هي التي توجب أو تسلب لزوم قضية لأخرى من القضايا الشرطية والمنفصلة منها‏:‏ ما توجب أو تسلب عناد قضية لأخرى من القضايا الشرطية‏.‏

والإيجاب هو إيقاع هذه النسبة وإيجادها وفي الحملية هو الحكم بوجود محمول لموضوع والسلب هو رفع هذه النسبة الوجودية وفي الحملية هو الحكم بلا وجود محمول لموضوع‏.‏

والمحمول هو المحكوم به والموضوع هو المحكوم عليه‏.‏

والمخصوصة قضية حملية موضوعها شيء جزئي والمهملة قضية حملية موضوعها كلي ولكن لم يبين أن الحكم في كله أو في بعضه ولابد أنه في البعض وشك في أنه في الكل فحكمه حكم الجزئي والمحصورة هي التي موضوعها كلي والحكم عليه مبين أنه في كله أو بعضه وقد تكون موجبة وسالبة‏.‏

والسور هو اللفظ الذي يدل على مقدار الحصر ككل ولا واحد وبعض ولا كل‏.‏

والقضيتان المتقابلتان هما اللتان تختلفان بالسلب والإيجاب وموضوعهما ومحمولهما واحد‏:‏ في المعنى والإضافة والقوة والفعل والجزء والكل والمكان والزمان والشرط‏.‏

والتناقض هو التقابل بين قضيتين في الإيجاب والسلب تقابلاً يجب عنه لذاته أن يقتسما الصدق والكذب ويجب أن يراعى فيه الشرائط المذكورة‏.‏

والقضية البسيطة هي التي موضوعها ومحمولها اسم محصل والمعدولة هي التي موضوعها أو محمولها غير محصل كقولنا‏:‏ زيد هو غير بصير والعدمية هي التي محمولها أخس المتقابلين أي دل على عدم شيء من شأنه أن يكون للشيء أو لنوعه أو لجنسه مثل قولنا‏:‏ زيد جائر‏.‏

ومادة القضايا هي حالة للمحمول بالقياس إلى الموضوع يجب بها لا محالة أن يكون له دائماً في كل وقت في إيجاب أو سلب أو غير دائم له في إيجاب ولا سلب‏.‏

وجهات القضايا ثلاث‏:‏ واجب ويدل على دوام الوجود وممتنع ويدل على دوام العدم وممكن ويدل على لا دوام وجود ولا عدم‏.‏

والفرق بين الجهة والمادة‏:‏ أن الجهة لفظة مصرح بها تدل على أحد هذه المعاني والمادة حالة للقضية في ذاتها غير مصرح بها وربما تخالفاً كقولك زيد يمكن أن يكون حيواناً فالمادة واجبة والجهة ممكنة‏.‏

والممكن يطلق على معنين‏:‏ أحدهما‏‏ ما ليس بممتنع وعلى هذا‏:‏ الشيء إما ممكن وإما ممتنع وهو الممكن العامي والثاني‏‏ ما ليس بضروري في الحالتين أعني الوجود والعدم وعلى هذا‏:‏ الشيء إما واجب وإما ممتنع وإما ممكن وهو الممكن الخاصي‏.‏

ثم إن الواجب والممتنع بينهما غاية الخلاف مع إتفاقهما في معنى الضرورة فإن الواجب هو ضروري الوجود بحيث لو قدر عدمه لزم منه محال والممتنع ضروري العدم بحيث لو قدر وجوده لزم منه محال والممكن الخاصي هو ما ليس بضروري الوجود والعدم‏.‏

والحمل الضروري على أوجه ستة تشترك كلها في الدوام‏:‏ الأول‏ أن يكون الحمل دائماً لم يزل ولا يزال والثاني‏‏ أن يكون الحمل دائماً ما دامت ذات الموضوع موجودة لم تفسد وهذان هما المستعملان والمرادان إذا قيل إيجاب أو سلب ضروري والثالث أن يكون الحمل دائماً ما دامت ذات الموضوع موصوفة بالصفة التي جعلت موضوعة معها والرابع أن يكون الحمل موجوداً وليس له ضرورة بلا هذا الشرط والخامس أن تكون الضرورة وقتاً ما معيناً لابد منه والسادس أن تكون الضرورة وقتاً ما غير معين‏.‏

ثم إن ذوات الجهة قد تتلازم طرداً وعكساً وقد لا تتلازم فواجب أن يوجد يلزمه‏:‏ ممتنع أن لا يوجد وليس يمكن بالمعنى العامي أن لا يوجد ونقائض هذه متعاكسة‏.‏

وقس عليه سائر الطبقات‏.‏

وكل قضية فإما ضرورية وإما ممكنة وإما مطلقة فالضرورية مثل قولنا‏:‏ كل ب أ بالضرورة‏:‏ أي كل واحد مما يوصف بأنه ب دائماً أو غير دائم فذلك الشيء دائماً ما دامت عين ذاته موجودة يوصف بأنه أ‏.‏

والممكنة هي التي حكمها من إيجاب أو سلب غير ضروري‏.‏

والمطلقة فيها رأيان‏:‏ أحدهما‏‏ أنها التي لم يذكر فيها جهة ضرورة للحكم أو إمكان للحكم بل أطلق إطلاقاً والثاني‏‏ ما يكون الحكم فيها موجوداً لا دائماً بل وقتاً ما وذلك الوقت إما ما دام الموضوع موصوفاً بما وصف به أو ما دام المحمول محكموماً به أو في وقت معين ضروري أو في وقت ضروري غير معين‏.‏

وأما العكس فهو تصيير الموضوع محمولاً والمحمول موضوعاً مع بقاء السلب والإيجاب بحالة والصدق والكذب بحالة والسالبة الكلية تنعكس مثل نفسها وأما السالبة الجزئية فلا تنعكس والموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية والموجبة الجزئية تنعكس مثل نفسها‏.‏

في القياس ومبادئه وأشكاله ونتائجة‏:‏ المقدمة‏:‏ قول يوجب شيئاً لشيء أو يسلب شيئاً عن شيء‏:‏ جعلت جزء قياس‏.‏

والحد‏:‏ ما تنحل إليه المقدمة من جهة ما هي مقدمة‏.‏

والقياس‏:‏ هو قول مؤلف من أقوال إذا وضعت لزم عنها بذاتها قول آخر غيرها اضطراراً وإذا كان بيناً لزومه يسمى قياساً كاملاً وإذا احتاج إلى بيان فهو غير كامل‏.‏

والقياس ينقسم إلى اقتراني واستثنائي والاقتراني أن يكون ما يلزمه ليس هو ولا نقيضه مقولاً فيه بالفعل بوجه ما والاستثنائي أن يكون ما يلزمه هو أو نقيضه مقولاً فيه بالفعل‏.‏

والاقتراني إنما يكون عن مقدمتين يشتركان في حد ويفترقان في حدين فتكون الحدود ثلاثة ومن شأن المشترك فيه أن يزول عن الوسط ويربط ما بين الحدين الآخرين فيكون ذلك هو اللازم ويسمى نتيجة فالمكرر يسمي حداً أوسط والباقيان طرفين والذي يريد أن يصير محمول اللازم يسمى الطرف الأكبر والذي يريد أن يكون موضوع اللازم يسمى الطرف الأصغر والمقدمة التي فيها الطرف الأكبر تسمى الكبرى والتي فيها الطرف الأصغر تسمى الصغرى وتأليف الصغرى والكبرى يسمى قرينة وهيئة الاقتران تسمى شكلاً والقرينة التي يلزم عنها لذاتها قول آخر تسمى قياساً واللازم ما دام لم يلزم بعد بل يساق إليه القياس يسمى مطلوباً وإذا لزم يسمى نتيجة‏.‏

والحد الأوسط إن كان محمولاً في مقدمة وموضوعاً في الأخرى يسمى ذلك الاقتران شكلاً أولاً وإن كان محمولاً فيهما يسمى شكلاً ثانياً وإن كان موضوعاً فيهما يسمى شكلاً ثالثاً‏.‏

وتشترك الأشكال كلها في أنه لا قياس عن جزئيتين وتشترك ما خلا الكائنة عن الممكنات في أنه لا قياس عن سالبتين ولا عن صغرى سالبة كبراها جزئية‏.‏

والنتيجة تتبع أخس المقدمتين في الكم والكيف‏.‏

وشريطة الشكل الأول‏ أن تكون كبراه كلية وصغراه موجبة‏.‏

وشريطة الشكل الثاني أن تكون الكبرى فيه كلية وإحدى المقدمتين مخالفة للأخرى في الكيف ولا ينتج إذا كانت المقدمتان ممكنتين أو مطلقتين الإطلاق الذي لا ينعكس على نفسه كلتيهما وشريطة الشكل الثالث أن تكون الصغرى موجبة ثم لا بد من كلية في كل شكل‏.‏

وليرجع في المختلطات إلى تصانيفه‏.‏

وأما القياسات الشرطية بقضاياها فاعلم أن الإيجاب والسلب ليس يختص بالحمليات بل وفي الاتصال والانفصال فإنه كما أن الدلالة على وجود الحمل إيجاب في الحمل كذلك الدلالة على وجود الاتصال إيجاب في المتصل والدلالة على وجود الانفصال إيجاب في المنفصل وكذلك السلب وكل سلب فهو إبطال الإيجاب ورفعه‏.‏

وكذلك يجري فيهما الحصر والإهمال‏.‏

وقد تكون القضايا كثيرة والمقدمة واحدة‏.‏

والاقتران من المتصلات أن يجعل مقدم أحدهما‏‏ تالي الآخر فيشتركان في التالي أو يشتركان في المقدم وكذلك على قياس الأشكال الحملية و الشرائط فيها واحدة والنتيجة شرطية تحصل من اجتماع المقدم والتالي اللذين هما كالطرفين‏.‏

والاقترانيات من المنفصلات فلا تكون في جزء تام بل تكون في جزء غير تام وهو جزء تال أو مقدم‏.‏

والاستثنائية مؤلفة من مقدمتين إحداهما شرطية والأخرى وضع أو رفع لأحد جزأيها ولا يجوز أن تكون حملية وشرطية وتسمى المستثناة‏.‏

والمستثناة من قياس فيه شرطية متصلة إن كان الاستثناء من المقدم فيجب أن يكون عين المقدم لينتج عين التالي وإن كان من التالي فيجب أن يكون نقيضه لينتج نقيض المقدم واستثناء نقيض المقدم وعين التالي لا ينتج شيئاً‏.‏

وأما إذا كانت الشرطية منفصلة فإن كانت ذات جزئين فقط موجبتين فأيهما استثنيت عينه أنتج نقيض الباقي وأيهما استثنيت نقيضه أنتج عين الباقي وأما القياسات المركبة فهي ما إذا حللت أفرادها كان ما ينتج كل واحد منها شيئاً آخر إلا أن نتائج بعضها مقدمات لبعض وكل نتيجة فإنها تستتبع عكسها وعكس نقيضها وجزاها وعكس جزئها إن كان لها عكس والمقدمات الصادقة تنتج نتيجة صادقة ولا ينعكس فقد تنتج المقدمات الكاذبة نتيجة صادقة‏.‏

والدور‏:‏ أن تأخذ النتيجة وعكس إحدى المقدمتين فتنتج المقدمة الثانية‏ وإنما يمكن إذا كانت الحدود في المقدمات متعاكسة متساوية‏.‏

وعكس القياس‏:‏ هو أن تأخذ مقابل النتيجة بالضد أو النقيض وتضيفه إلى إحدى المقدمتين فينتج مقابل النتيجة الأخرى‏:‏ احتيالاً في الجدل‏.‏

وقياس الخلف‏:‏ هو الذي يبين فيه المطلوب من جهة تكذيب نقيضه فيكون هو بالحقيقة مركباً من قياس اقتراني وقياس استثنائي‏.‏

والمصادرة على المطلوب الأول‏‏:‏ هو أن يجعل المطلوب نفسه مقدمة في قياس يراد فيه إنتاجه وربما تكون في قياس واحد وربما تبين في قياسات وحيثما كان أبعد كان من القبول أقرب‏.‏

والاستقراء‏:‏ هو حكم على كلي لوجود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي إما كلها وإما أكثرها‏.‏

والتمثيل‏:‏ هو الحكم على شيء معين لوجود ذلك الحكم في شيء آخر معين أو أشياء على أن ذلك الحكم كلي على المتشابه فيه فيكون المحكوم عليه هو المطلوب والمنقول منه الحكم هو المثال والمعنى المتشابه فيه هو الجامع‏.‏

وحكم الرأي‏:‏ مقدمة محمودة كلية في أن كذا كائن أو غير كائن وصواب أم خطأ‏.‏

والدليل‏:‏ قياس إضماري حده الأوسط شيء إذا وجد للأصغر تبعه وجود شيء آخر للأصغر دائماً كيف كان ذلك التبع‏.‏

والقياس الفراسي شبيه بالدليل من وجه وبالتمثيل من وجه‏.‏

في مقدمات القياس من جهة ذواتها وشرائط البرهان‏:‏ المحسوسات هي أمور أوقع التصديق بها الحس والمجربات هي أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس والمقبولات آراء أوقع التصديق بها قول من يوثق بصدقه فيما يقول إما لأمر سماوي يختص به أو لرأي وفكر قوي تميز به والوهميات آراء أوجب اعتقادها قوة الوهم التابعة للحس والذائعات آراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها شهادة الكل والمظنونات آراء يقع التصديق بها لا على الثبات بل يخطر إمكان نقضها بالبال ولكن الذهن يكون إليها أميل والمتخيلات هي مقدمات ليست تقال ليصدق بها بل لتخيل شيئاً على أنه شيء آخر على سبيل المحاكات والأوليات هي قضايا تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب أوجب التصديق بها والبرهان قياس مؤلف من يقينيات لإنتاج يقيني‏.‏

واليقينيات‏:‏ إما أوليات وما جمع منها وإما تجربيات وإما محسوسات‏.‏

وبرهان اللم‏:‏ هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي في النتيجة في الوجود والذهن جميعاً‏.‏

وبرهان الإن‏:‏ هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق به والمطالب أربعة‏:‏ هل مطلقاً هو تعرف حال الشيء في الوجود أو العدم مطلقاً وهل مقيداً وهو تعرف وجود الشيء على حال ما أو ليس‏.‏

ما‏:‏ يعرف التصور وهو إما بحسب الاسم أي ما المراد باسم كذا وهذا يتقدم كل مطلب وإما بحسب الذات أي ما الشيء في وجوده وهو يعرف حقيقة الذات ويتقدمه الهل المطلق‏.‏

لم‏:‏ يعرف العلة بجواب هل وهو إما علة التصديق فقط وإما علة نفس الوجود‏.‏

وإما أي فهو بالقوة داخل في الهل المقيد وإنما يطلب التمييز إما بالصفات الذاتية وإما بالخواص‏.‏

والأمور التي يلتئم منها أمر البراهين ثلاثة‏:‏ موضوعات ومسائل ومقدمات‏.‏

فالموضوعات يبرهن فيها والمسائل يبرهن عليها والمقدمات يبرهن بها ويجب أن تكون صادقة يقينية ذاتية وتنتهي إلى مقدمات أولية مقولة على الكل كلية وقد تكون ضرورية إلا على الأمور المتغيرة التي هي في الأكثر على حكم ما فتكون أكثرية وتكون عللاً لوجود النتيجة فتكون مناسبة الحمل الذاتي يقال على وجهين‏:‏ أحدهما‏‏ أن يكون المحمول مأخوذاً في حد الموضوع والثاني‏‏ أن يكون الموضوع مأخوذاً في حد المحمول‏.‏

المقدمة الأولية على وجهين‏:‏ أحدهما‏‏ أن التصديق بها حاصل في أول العقل والثاني‏‏ من جهة أن المناسب هو أن لا تكون المقدمات فيه من علم غريب‏.‏

الموضوعات هي التي توضع في العلوم فيبرهن على أعراضها الذاتية‏.‏

المسائل هي القضايا الخاصة بعلم علم المشكوك فيها المطلوب برهانها‏.‏

والبرهان يعطي حكم اليقين الدائم وليس في شيء من الفاسدات عقد دائم فلا برهان عليها ولا برهان أيضاً على الحد لأنه لا بد حينئذ من حد أوسط مساو للطرفين لأن الحد والمحدود متساويان وذلك الأوسط لا يخلو‏:‏ إما أن يكون حداً آخر أو يكون رسماً أو خاصة‏.‏

فأما الحد الآخر فإن السؤال في اكتسابه ثابت فإن اكتسب بحد ثالث فالأمر ذاهب إلى غير نهاية وإن اكتسب بالحد الأول‏ فذلك دور وإن اكتسب بوجه آخر غير البرهان فلم لا يكتسب به هذا الحد على أنه لا يجوز أن يكون لشيء واحد حدان تامان على ما سنوضح بعد وإن كانت الواسطة غير حد فكيف صار ما ليس بحد أعرف وجوداً للمحدود من الأمر الذاتي المقوم له وهو الحد وأيضاً فإن الحد لا يكتسب بالقسمة فإن القسمة تضع أقساماً ولا تحمل من الأقسام شيئاً بعينه إلا أن يوضع وضعاً من غير أن يكون للقسمة فيه مدخل وأما استثناء نقيض قسم ليبقى القسم الداخل في الحد فهو إبانة الشيء بما هو مثله أو أخفى منه فإنك إذا قلت‏:‏ لكن ليس الإنسان غير ناطق فهو إذاً ناطق‏:‏ لم تكن أخذت في الاستثناء شيئاً أعرف من النتيجة وأيضاً فإن الحد لا يكتسب من حد الضد فليس لكل محدود ضد ولا أيضاً حد أحد الضدين أولى بذلك من حد الضد الآخر والاستقراء لا يفيد علماً كلياً فكيف يفيد الحد لكن الحد يقتنص بالتركيب وذلك بأن تعمد إلى الأشخاص التي لا تنقسم وتنظر من أي جنس هي من العشرة فتأخذ جميع المحولات المقومة لها التي في ذلك الجنس وتجمع العدة منها بعد أن تعرف أيها الأول‏ وأيها الثاني فإذا جمعنا هذه المحولات ووجدنا منها شيئاً مساوياً للمحدود من وجهين فهو الحد‏:‏ أحدهما‏‏ المساواة في الحمل والثاني‏‏ المساواة في المعنى وهو أن يكون دالاً على كمال حقيقة ذاته لا يشذ منه شيء فإن كثيراً ما يميز الذات يكون قد أخل ببعض الأجناس أو ببعض الفصول فيكون مساوياً في الحمل ولا يكون مساوياً في المعنى وبالعكس ولا يلتفت في الحد إلى أن يكون وجيزاً بل ينبغي أن تضع الجنس القريب فيه باسمه أو بحده ثم تأتي بجميع الفصول الذاتية فإنك إذا تركت بعض الفصول فقد تركت بعض الذات‏.‏

والحد‏:‏ عنوان للذات وبيان لها فيجب أن يقوم في النفس صورة معقولة مساوية للصورة الموجودة بتمامها فحينئذ يعرض أن يتميز أيضاً المحدود ولا حد في الحقيقة لما لا وجود له وإنما ذلك قول يشرح الاسم فالحد إذاً‏:‏ قول دال على الماهية والقسمة معينة في الحد خصوصاً إذا كانت بالذاتيات ولا يجوز تعريف الشيء بما هو أخفى منه ولا بما هو مثله في الجلاء والخفاء ولا بما لا يعرف الشيء إلا به‏.‏

في الأجناس العشرة‏:‏ الجوهر‏:‏ هو ما وجود ذاته ليس في موضوع أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه بالفعل لا بتقويمه‏.‏

الكم‏:‏ هو الذي يقبل لذاته المساواة واللا مساواة والتجزؤ وهو إما أن يكون متصلاً إذ يوجد لأجزائه بالقوة حد مشترك تتلاقى عنده وتتحد به كالنقطة للخط وإما أن يكون منفصلاً لا يوجد لأجزائه ذلك لا بالقوة ولا بالفعل كالعدد والمتصل قد يكون ذا وضع وقد يكون عديم الوضع وذو الوضع هو الذي يوجد لأجزائه اتصال وثبات وإمكان أن يشار إلى كل واحد منها‏:‏ أنه أين هو من الآخر فمن ذلك ما يقبل القسمة في جهة واحدة وهو الخط ومنه ما يقبل في جهتين متقاطعتين على قوائم وهو الشطح ومنه ما يقبل في ثلاث جهات قائم بعضها على بعض وهو الجسم‏.‏

 

والمكان أيضاً ذو وضع لأنه الشطح الباطن من الحاوي وأما الزمان فهو مقدار للحركة إلا أنه ليس من وضع إذ لا توجد أجزاؤه معاً وإن كان له اتصال إذ ماضيه ومستقبله يتحدان بطرف الآن وأما العدد فهو بالحقيقة الكم المنفصل‏.‏

ومن المقولات العشرة‏:‏ الإضافة وهي المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر وليس له وجود غيره مثل الأبوة بالقياس إلى النبوة لا كالأب فإن له وجوداً يخصه كالإنسانية‏.‏

وأما الكيف فهو كل هيئة قارة في جسم لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة للجسم إلى خارج ولا نسبة واقعة في أجزائه ولا لجملته اعتباراً يكون ذا جزء مثل البياض والسواد‏.‏

وهو إما أن يكون مختصاً بالكم من جهة ما هو كم كالتربيع بالسطح والاستقامة بالخط والفردية بالعدد وإما أن لا يكون مختصاً به‏.‏

وغير المختص به‏:‏ إما أن يكون محسوساً تنفعل عنه الحواس ويوجد بانفعال الممتزجات فالراسخ منه مثل صفرة الذهب وحلاوة العسل يسمى كيفيات انفعاليات وسريع الزوال منه وإن كان كيفية بالحقيقة فلا يسمى كيفية ومنه ما لا يكون محسوساً‏:‏ فإما أن يكون استعدادات إنما تتصور في النفس بالقياس إلى كمالات فإن كل استعداد للمقاومة وإباء للانفعال سمي قوة طبيعية كالمصحاحية والصلابة وإن كان استعداداً لسرعة الإذعان والانفعال سمي‏:‏ لا قوة طبيعية مثل الممراضية واللين‏.‏

وإما أن تكون في أنفسها كمالات لا يتصور أنها استعدادت لكمالت أخرى وتكون مع ذلك غير محسوسة بذاتها فما كان ثابتاً منها يسمى ملكة مثل العلم والصحة وما كان سريع الزوال سمي حالاً مثل غضب الحليم ومرض المصحاح‏.‏

وفرق بين الصحة والمصحاحية فإن المصحاح قد لا يكون صحيحاً والممراض قد يكون صحيحاً‏.‏

ومن جملة العشرة‏:‏ الأين وهو كون الجوهر في مكانه الذي يكون فيه‏:‏ ككون زيد في السوق ومتى وهو كون الجوهر في زمانه الذي يمون فيه مثل كون هذا الأمر أمس والوضع وهو كون الجسم بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الانحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان إن كان في مكان مثل القيام والقعود وهو في المعنى غير الوضع المذكور في باب الكم والملك ولست أحصله ويشبه أن يكون‏:‏ كون الجوهر في جوهر يشمله وينتقل بانتقاله مثل التلبس والتسلح والفعل وهو نسبة الجوهر إلى أمر موجود منه في غيره غير قار الذات بل لا يزال يتجدد ويتصرم كالتسخين والتبريد والانفعال وهو نسبة الجوهر إلى حالة فيه بهذه الصفة مثلا لتقطع والتسخن‏.‏

والعلل أربع‏:‏ يقال علة للفاعل ومبدأ الحركة مثل النجار للكرسي ويقال علة للمادة وما يحتاج أن يكون حتى تكون ماهية الشيء مثل الخشب ويقال علة للصورة في كل شيء يكون فإنه ما لم تقترن الصورة بالمادة لم يتكون ويقال علة للغاية والشيء الذي نحوه ولأجله الشيء مثل الكن للبيت‏.‏

وكل واحدة من هذه إما قريبة أو بعيدة وإما بالقوة أو بالفعل وإما بالذات وإما بالعرض وإما خاصة أو عامة‏.‏

والعلل الأربع قد تقع حدوداً وسطى في البراهين لإنتاج قضايا محمولاتها أعراض ذاتية‏.‏

وأما العلتان الفاعلية والقابلية فلا يجب من وضعهما وضع المعلول وإنتاجه ما لم يقترن بذلك ما يدل على صيرورتهما علة بالفعل‏.‏

واللّه الموفق‏.‏

في تفسير ألفاظ يحتاج إليها المنطقي‏:‏ الظن‏:‏ الحق أنه‏:‏ رأى في شيء أنه كذا ويمكن أن لا يكون كذا‏.‏

والعلم‏:‏ اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا بواسطة توجبه والشيء كذلك في ذاته وقد يقال علم لتصور الماهية بتحديد‏.‏

والعقل‏:‏ اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا طبعاً بلا واسطة كاعتقاد المبادئ الأولى‏ للحد‏.‏

وألذه‏:‏ قوة للنفس معدة نحو اكتساب العلم‏.‏

والذكاء‏:‏ قوة استعداد لحدس‏.‏

والحدس حركة النفس إلى إصابة الحد الأوسط إذا وضع المطلوب أو إصابة الحد الأكبر إذا أصيب الأوسط وبالجملة سرعة انتقال الذهن من معلوم إلى مجهول‏.‏

والحس‏:‏ إنما يدرك الجزئيات الشخصية‏.‏

والذكر والخيال‏:‏ يحفظان ما يؤديه الحس على شخصيته أما الخيال فيحفظ الصورة وأما الذكر فيحفظ المعنى المأخوذ وإذا تكرر الحس صار ذكراً وإذا تكرر الذكر كان تجربة‏.‏

والفكر‏:‏ حركة ذهن الإنسان نحو المبادئ ليصير منها إلى المطالب‏.‏

والصناعة‏:‏ ملكة نفسانية تصدر عنها أفعال إرادية بغير روية‏.‏

والحكمة‏:‏ خروج النفس الإنساني إلى كماله الممكن في جزأي العلم والعمل‏:‏ أما في جانب العلم فأن يكون متصوراً للموجودات كما هي ومصدقاً للقضايا كما هي وأما في جانب العمل فأن يكون قد حصل له الخلق الذي يسمى العدالة والملكة الفاضلة‏.‏

والفكر العقلي ينال الكليات مجردة والحس والخيال على العقل ثم العقل يفعل التمييز‏.‏

ولكل واحد من هذه المعاني معونة في صواحبها في قسمي‏:‏ التصور والتصديق‏.‏

يجب أن نحصر المسائل التي تختص بهذا العلم في عشر مسائل‏:‏ المسألة الأولى‏ منها‏:‏ في موضوع هذا العلم وجملة ما يتظر فيه والتنبيه على الوجود وأقسامه‏.‏

إن لكل علم موضوعاً ينظر فيه فيبحث عن أحواله وموضوع العلم الإلهي هو الوجود المطلق ولو أحقه التي له بذاته ومبادئه وينتهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم وفيه بيان مبادئها‏.‏

وجملة ما ينظر فيه هذا العلم هو أقسام الوجود وهي‏:‏ الواحد والكثير ولواحقهما والعلة والمعلول والقديم والحادث والتام والناقص والفعل والقوة وتحقيق المقولات العشر‏:‏ ويشبه أن يكون انقسام الوجود إلى المقولات انقساماً بالفصول وانقسامه إلى الوحدة والكثرة وأخواتهما انقساماً بالأعراض‏.‏

والوجود يشمل الكل شمولاً بالتشكيك لا بالتواطؤ ولهذا لم يصلح أن يكون جنساً فإنه في بعضها أولى وأول وفي بعضها لا أولى ولا أول وهو أشهر من أن يحد أو يرسم ولا يمكن أن يشرح بغير الاسم لأنه مبدأ أول لكل شئ فلا شرح له بل صورته تقوم في النفس بلا توسط شئ‏.‏

وينقسم نوعاً من القسمة إلى واجب بذاته وممكن بذاته والواجب بذاته ما إذا اعتبر ذاته فقط وجب وجوده والممكن بذاته ما إذا اعتبر لذاته لم يجب وجوده وإذا فرض غير موجود لم يلزم منه محال‏.‏

ثم إذا عرض على القسمين عرضاً حملياً الواحد والكثير كان الواحد أولى بالواجب والكثير أولى بالجائز وكذلك العلة والمعلول والقديم والحادث والتام والناقص والفعل والقوة والغنى والفقر‏.‏

كان أحسن الأسماء أولى بالواجب بذاته ولما لم تتطرق إليه الكثرة بوجه لم يتتطرق إليه التقسيم بل توجه إلى الممكن بذاته فانقسم إلى جوهر وعرض وقد عرفناهما برسميهما‏.‏

وأما نسبة أحدهما‏‏ إلى الآخر فهو أن الجوهر محل مستغن في قوامه عن الحال فيه والعرض حال فيه غير مستغن في قوامه عنه فكل ذات لم تكن في موضوع ولا قوامها به فهو جوهر وكل ذات قوامها في موضوع فهو عرض‏.‏

وقد يكون الشيء في المحل ويكون مع ذلك جوهراً لا في موضوع إذا كان المحل القريب الذي هو فيه متقوماً به وليس متقوماً بذاته ثم مقوماً له ونسميه صورة وهذا هو الفرق بينهما وبين العرض‏.‏

وكل جوهر ليس في موضوع فلا يخلو‏:‏ إما أن لا يكون في محل أصلاً أو يكون في محل لا يستغنى في القوام عنه ذلك المحل‏.‏

فإن كان في محل بهذه الصفة فإنا نسميه صورة مادية وإن لم يكن في محل أصلاً فإما أن يكون محلاً بنفسه لا تركيب فيه أولا يكون فإن كان محلاً بنفسه فإنا نسميه الهيولى المطلقة وإن يكن فإما أن يكون مركباً مثل أجسامنا المركبة من مادة ومن صورة جسمية وإما أن لا يكون‏.‏

وما ليس بمركب فلا يخلو‏:‏ إما أن يكون له تعلق ما بالأجسام أو لم يكن له تعلق فما له تعلق نسميه نفساً وما ليس له تعلق فنسميه عقلاً‏.‏

وأما أقسام العرض فقد ذكرناها وحصرها بالقسمة الضرورية متعذر‏.‏

المسألة

الثانية‏‏:‏ في تحقيق الجوهر الجسماني وما يتركب منه وأن المادة الجسمانية لا تتعرى عن الصورة وأن الصورة متقدمة على المادة في مرتبة الوجود‏.‏

اعلم أن الجسم ليس جسماً بأن فيه أبعاداً ثلاثة بالفعل فإنه ليس يجب أن يكون في كل جسم نقط أو خطوط بالفعل وأنت تعلم أن الكرة لا قطع فيها بالفعل والنقط والخطوط قطوع‏.‏

بل الجسم إنما هو جسم لأنه بحيث يصلح أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة كل واحد منها قائم على الآخر ولا يمكن أن تكون فوق ثلاثة فالذي يفرض فيه أولاً هو الطول والقائم عليه العرض والقائم عليهما في الحد المشترك هو العمق وهذا المعنى منه هو صورة الجسمية‏.‏

وأما الأبعاد المحدودة التي تقع فيه فليست صورة له بل هي من باب الكم وهي لواحق لا مقومات ولا يجب أن يثبت شيء منها له بل مع كل تشكيل يتجدد عليه يبطل كل بعد متحدد كان فيه وربما اتفق في بعض الأجسام أن تكون لازمة له لا تفارق ملازمة أشكالها وكما أن الشكل لاحق فكذلك ما يتحدد بالشكل وكما أن الشكل لا يدخل في تحديد جسميته فكذلك الأبعاد المتحددة فالصورة الجسمية موضوعة لصناعة الطبيعيين أو داخله فيها والأبعاد المتحددة موضوعة لصناعة التعالميين أو داخلة فيها‏.‏

ثم الصورة الجسمية طبيعة وراء الاتصال يلزمها الاتصال وهي بعينها قابلة للانفصال‏.‏

ومن المعلوم أن قابل الاتصال والانفصال أمر وراء الاتصال والانفصال فإن القابل يبقى بطريان أحدهما‏‏ والاتصال لا يبقى بعد طريان الانفصال‏.‏

وظاهر أن هنا جوهراً غير الصورة الجسمية هو الهيولى الذي يعرض لها الانفصال والاتصال معاً وهي تقارن الصورة الجسمية فهي التي تقبل الاتحاد بالصورة الجسمية فتصير جسماً واحداً بما يقومها وذلك هو الهيولى أو المادة‏.‏

والمادة لا يجوز أن تفارق الصورة الجسمية وتقوم موجودة بالفعل‏:‏ والدليل عليه من وجهين‏:‏

أحدهما‏‏‏‏:‏ أنا لو قدرناها مجردة لا وضع لها ولا حيز ولا أنها تقبل الانقسام فإن هذه كلها صور ثم قدرنا أن الصورة صادقتها‏:‏ فإما أن تكون صادقتها دفعة أعني المقدار المحصل يحل فيها دفعة لا على تدريج أو تحرك إليها المقدار والاتصال على تدريج‏.‏

فإن حل فيها دفعة ففي اتصال المقدار بها يكون قد صادفها حيث انضاف إليها فيكون لا محالة صادفها وهو في الحيز الذي هو فيه فيكون ذلك الجوهر متحيزاً وقد فرض غير متحيز البتة‏.‏

وهذا خلف‏.‏

ولا يجوز أن يكون التحيز قد حصل له دفعة واحدة مع قبول المقدار ولأن المقدار يوافيه في حيز مخصوص وإن حل فيها المقدار والاتصال على انبساط وتدريج وكل ما من شأنه أن ينبسط فله جهات وما له جهات فهو ذو وضع فيكون ذلك الجوهر ذا وضع وقد فرض غير ذي وضع البتة‏.‏

وهذا خلف‏.‏

فتعين أن المادة لن تتعرى عن الصورة قط وأن الفصل بينهما فصل بالعقل فقط‏.‏

والدليل الثاني‏:‏ أنا لو قدرنا للمادة وجوداً خاصاً متقوماً غير ذي كم ولا جزء باعتبار نفسه ثم يعرض عليه الكم فيكون ما هو متقوم بأنه لا جزء له ولا كم يعرض أن يبطل عنه ما يتقوم به بالفعل لو رود عارض عليه فيكون حينئذ للمادة صورة عارضة بها تكون واحدة بالقوة والفعل وصورة أخرى بها تكون غير واحدة بالفعل فيكون بين الأمرين شيء مشترك هو القابل للأمرين من شأنه أن يصير مرة ليس في قوته أن ينقسم ومرة في قوته أن ينقسم‏.‏

ولنفرض الآن أن هذا الجوهر قد صار بالفعل أثنين ثم صارا شيئاً واحداً بأن خلعا صورة الأثنينية فلا يخلو‏:‏ أما إن اتحدا وكل واحد منهما موجود فهما اثنان لا واحد وإن اتحدا وأحدهما معدوم والآخر موجود فالمعدوم كيف يتحد بالموجود وإن عدما جميعاً بالاتحاد وحدث شيء واحد ثالث فهما غير متحدين بل فاسدان وبينهما وبين الثالث مادة مشتركة وكلامنا في نفس المادة لا في شيء ذي مادة فالمادة الجسمية لا توجد مفارقة للصورة وإنها إنما تقوم بالفعل بالصورة‏.‏

ولا يجوز أن يقال‏:‏ إن الصورة بنفسها موجودة بالقوة وإنما تصير بالفعل بالمادة لأن جوهر الصورة هو الفعل وما بالقوة محله المادة والصورة وإن كانت لا تفارق الهيولى فليست تقوم بالهيولى بل بالعلة المفيدة إياها للّهيولى وكيف يتصور أن تقوم الصورة بالهيولى وقد أثبت أنها علتها والعلة لا تتقوم بالمعلول وفرق بين الذي يتقوم به الشيء وبين الذي لا يفارقه فإن المعلول لا يفارق العلة وليس علة لها‏.‏

فما يقوم الصورة أمر مباين لها مفيد الوجود وما يقوم الهيولى أمر ملاق لها وهو الصورة‏.‏

وأول الموجودات في استحقاق الوجود الجوهر المفارق الغير المجسم الذي يعطي صورة الجسم وصورة كل موجود ثم الصورة ثم الجسم ثم الهيولى وهي وإن كانت سبباً للجسم فإنها ليست بسبب يعطي الوجود بل سبب يقبل الوجود فإنه محل لنيل الوجود وللجسم وجودها وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل منها‏.‏

ثم العرض أولى بالوجود فإن أولى الأشياء بالوجود هو الجوهر ثم الأعراض وفي الأعراض ترتيب في الوجود أيضاً‏.‏

المسألة الثالثة‏‏:‏ في أقسام العلل وأحوالها وفي القوة والفعل وفي إثبات الكيفيات في الكمية وإن الكيفيات أعراض لا جواهر‏.‏

وقد بينا في المنطق أن العلل أربع وتحقيق وجودها ههنا أن نقول‏:‏ المبدأ والعلة يقال لكل ما يكون قد استتم له وجوده في نفسه ثم حصل منه وجود شيء آخر ونقوم به ثم لا يخلو ذلك‏:‏ إما أن يكون كالجزء لما هو معلول له وهذا على وجهين‏:‏ إما أن يكون جزءاً ليس يجب عن حصوله بالفعل أن يكون ما هو معلول له موجوداً بالفعل وهذا هو العنصر ومثاله الخشب للسرير فإنك تتوهم الخشب موجوداً ولا يلزم من وجوده وحده أن يحصل السرير بالفعل بل المعلول موجود فيه بالقوة‏.‏

وإما أن يكون جزءاً يجب عن حصوله بالفعل وجود المعلول له بالفعل وهذا هو الصورة ومثاله الشكل والتأليف للسرير‏.‏

وإن لم يكن كالجزء لما هو معلول له‏:‏ فإما أن يكون مبايناً أو ملاقياً لذات المعلول والملاقى‏:‏ فإما أن ينعت به المعلول وإما أن ينعت بالمعلول وهذان هما في حكم الصورة والهيولى‏.‏

وإن كان مبايناً‏:‏ فإما أن يكون الذي منه الوجود وليس الوجود لأجله وهو الفاعل وإما أن لا يكون منه الوجود بل لأجله الوجود وهو الغاية‏.‏

والغاية تتأخر في حصول الوجود وتتقدم سائر لعلل في السببية وفرق بين السببية والوجود في الأعيان فإن المعنى له وجود في الأعيان ووجود في النفس وأمر مشترك وذلك الأمر المشترك هو السببية والغاية بما هي سبب فإنها تتقدم وهي علة العلل في أنها علل وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر وإذا لم تكن العلة الفاعلية هي بعينها الغاية‏.‏

كان الفاعل متأخراً في السببية عن الغاية‏.‏

ويشبه أن يكون الحاصل عند التمييز هو أن الفاعل الأول‏ والمحرك الأول‏ في كل شيء هو الغاية وإن كانت العلة الفاعلية هي الغاية بعينها استغنى عن تحريك الغاية فكان نفس ما هو فاعل نفس ما هو محرك من غير توسط‏.‏

وأما سائر العلل فإن الفاعل والقابل قد يتقدمان المعلول بالزمان‏.‏

وأما الصورة فلا تتقدم بالزمان البتة بل بالرتبة والشرف لأن القابل أبداً مستفيد والفاعل مفيد‏.‏

وقد تكون العلة علة للشيء بالذات‏.‏

وقد تكون بالعرض‏.‏

وقد تكون علة قريبة وقد تكون علة بعيدة وقد تكون علة لوجود الشيء فقط وقد تكون علة لوجوده ولدوام وجوده فإنه إنما يحتاج إلى الفاعل لوجوده وفي حال وجوده لا لعدمه السابق وفي حال عدمه فيكون الموجد الذي هو موجد للوجود والموجود هو الذي يوصف بأنه موجد فكما أنه في حال ما هو موجود يوصف بأنه موجد كذلك الحال في كل حال فكل موجد محتاج إلى موجد مقيم لوجوده لولاه لعدم‏.‏

وأما القوة والفعل فالقوة تقال لمبدأ التغير في آخر من حيث إنه آخر وهو إما في المنفعل وهي القوة الانفعالية وإما في الفاعل وهي القوة الفعلية‏:‏ وقوة المنفعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد كقوة الماء على قبول الشكل دون قوة الحفظ وفي الشمع قوة عليهما جميعاً وفي الهيولى الأولى‏ قوة الجميع ولكن بتوسط شيء دون شيء وقوة الفاعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد كقوة النار على الإحراق فقط وقد تكون على أشياء كثيرة كقوة المختارين وقد يكون في الشيء قوة على شيء ولكن بتوسط شيء دون شيء والقوة الفعلية المحدودة إذا لاقت القوة المنفعلة حصل منها الفعل ضرورة وليس كذلك في غيرها مما يستوي فيه الأضداد وهذه القوة ليست هي التي يقابلها لما بالفعل فإن هذه تبقى موجودة عندما يفعل والثاني‏‏ة إنما تكون موجودة مع عدم الفعل‏.‏

وكل جسم صدر عنه فعل ليس بالعرض ولا بالقسر فإنه يفعل بقوة ما فيه أما الذي بالإرادة والاختيار فظاهر وأما الذي ليس بالاختيار فلا يخلو‏:‏ إما أن يصدر عن ذاته بما هو ذاته أو عن قوة في ذاته أو عن شيء مباين فغن صدر عن ذاته بما هو جسم فيجب أن تشاركه سائر الأجسام وإذا تميز عنها بصدور ذلك الفعل عنه فلمعنى في ذاته زائد على الجسمية وإن صدر عن شيء مباين فلا يخلو إما أن يكون جسماً أو غير جسم فإن كان جسماً فالفعل عنه بقسر لا محالة وقد فرض بلا قسر هذا خلف‏.‏

وإن لم يكن جسماً فتأثر الجسم عن ذلك المفارق غما أن يكون لكونه جسماً أو لقوة فيه ولا يجوز أن يكون بكونه جسماً وقد أبطلناه فتعين أنه لقوة فيه هي مبدأ صدور ذلك الفعل عنه وذلك هو الذي نسميه القوة الطبيعية وهي التي تصدر عنها الأفاعيل الجسمانية من التحيزات إلى أماكنها والتشكيلات الطبيعية وإذا خليت وطباعها لم يجز أن يحدث منها زوايا مختلفة بل ولا زاوية فيجب أن تكون كرة وإذا صح وجود الكرة صح وجود الدائرة‏.‏

المسألة الرابعة‏‏:‏ في المتقدم والمتأخر والقديم والحادث وإثبات المادة لكل متكون‏.‏

التقدم قد يقال بالطبع وهو أن يوجد الشيء وليس الآخر بموجود ولا يوجد الآخر إلا وهو موجود كالواحد والاثنين وقد يقال بالزمان كتقدم الأب على الابن ويقال بالرتبة وهو الأقرب إلى المبدأ الذي عين كالمتقدم في الصف الأول‏ أن يكون أقرب إلى الإمام ويقال بالكمال والشرف كتقدم العالم على الجاهل ويقال بالعلية لأن للعلة استحقاقاً للوجود قبل المعلول وهما بما هما ذاتان ليس يلزم فيهما خاصية التقدم والتأخر ولا خاصية المعية ولكن بما متضايفان وعلة ومعلول وإن أحدهما‏‏ لم يستفد الوجود من الآخر والآخر استفاد الوجود منه فلا محالة كان المفيد متقدماً والمستفيد متأخراً بالذات‏.‏

وإذا رفعت العلة ارتفع المعلول لا محالة وليس إذا ارتفع المعلول ارتفعت بارتفاعه العلة بل إن صح فقد كانت العلة ارتفعت أولى بعلة أخرى حتى ارتفع المعلول‏.‏

واعلم بأن الشيء إذا كان كما يكون محدثاً بحسب الزمان كذلك قد يكون محدثاً بحسب الذات فإن الشيء إذا كان له في ذاته أن لا يجب له وجود بل هو باعتبار ذاته ممكن الوجود مستحق للعدم لولا علته‏.‏

والذي بالذات يجب وجوده قبل الذي من غير الذات فيكون لكل معلول في ذاته أولاً أنه ليس تم عن العلة وثانياً أنه أيس فيكون كل معلول محدثاً‏:‏ أي مستفيداً الوجود من غيره وإن كان مثلاً في جميع الزمان موجوداً مستفيداً لذلك الوجود عن موجد فهو محدث لأن وجوده من بعد لا وجوده بعدية بالذات وليس حدوثه إنما هو آن من الزمان فقط بل هو محدث في الدهر كله ولا يمكن أن يكون حادثاً بعد ما لم يكن في زمانه إلا وقد تقدمت المادة فإنه قبل وجوده ممكن الوجود وإمكان الوجود إما أن يكون معنى معدوماً أو معنى موجوداً ومحال أن يكون معدوماً فإن المعدوم قبل والمعدوم مع‏:‏ واحد وهو قد سبقه الإمكان والقبل المعدوم موجود مع وجوده فهو إذاً معنى موجود وكل معنى موجود فإما قائم لا في موضوع أو قائم في موضوع وكل ما هو قائم لا في موضوع فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافاً وإمكان الوجود إنما هو وا ه وبالإضافة إلى ما هو إمكان وجود له فهو إذاً معنى في موضوع وعارض لموضوع‏.‏

ونحن نسميه قوة الوجود ونسمي حامل قوة الوجود الذي فيه قوة وجود الشيء موضوعاً وهيولى ومادة وغير ذلك‏.‏

فإذاً‏:‏ كل حادث فقد تقدمته المادة كما تقدمه الزمان‏.‏

المسالة الخامسة‏‏:‏ في الكلي والواحد ولواحقهما‏.‏

قال‏:‏ المعنى الكلي بما هو طبيعة ومعنى كالإنسان بما هو إنسان شيء وبما هو واحد أو كثير خاص أو عام شيء آخر بل هذه المعاني عوارض تلزمه لا من حيث هو إنسان بل من حيث هو في الذهن أو في الخارج‏.‏

وإذا قد عرفت ذلك فقد يقال كلي للإنسانية بلا شرط وهو بهذا الاعتبار موجود بالفعل في الأشياء وهو محمول على كل واحد لا على أنه واحد بالذات ولا على أنه كثير‏.‏

وقد يقال كلي للإنسانية بشرط أنها مقولة على كثيرين وهو بهذا الاعتبار ليس موجوداً بالفعل في الأشياء‏.‏

فبين ظاهر أن الإنسان الذي اكتنفته الأعراض المشخصة لم تكتنفه أعراض شخص آخر حتى يكون ذلك بعينه في شخص زيد وعمرو فلا كلي عام في الوجود بل الكلي العام بالفعل إنما هو في العقل وهو الصورة التي في العقل كنقش واحد تنطبق عليه صورة وصورة‏.‏

ثم الواحد يقال لما هو منقسم من الجهة التي قيل له منها أنه واحد ومنه ما لا ينقسم في الجنس ومنه ما لا ينقسم في النوع ومنه ما لا ينقسم بالعرض العام كالغراب والقار في السود ومنه ما لا ينقسم بالمناسبة كنسبة العقل إلى النفس‏.‏

ومنه ما لا ينقسم في العدد ومنه ما لا ينقسم في الحد‏.‏

والواحد بالعدد‏:‏ إما أن يكون فيه كثرة بالفعل فيكون واحداً بالتركيب والاجتماع وإما أن لا يكون ولكن فيه كثرة بالقوة فيكون واحداً بالاتصال وإن لم يكن فيه ذلك فهو الواحد بالعدد على الإطلاق‏.‏

والكثير يكون على الإطلاق وهو العدد الذي بازاء الواحد كما ذكرنا والكثير بالإضافة هو الذي يترتب بإزائه القليل فأقل العدد اثنان‏.‏

وأما لواحق الواحد‏:‏ فالمشابهه وهي اتحاد في الكيفية والمساواة وهي اتحاد في الكمية والمجانسة اتحاد في الجنس والمشاكلة اتحاد في النوع والموازاة اتحاد في وضع الأجزاء والمطابقة اتحاد في الأطراف واللّهو هو حال بين اثنين جعلا اثنين في الوضع يصير بها بينهما اتحاد بنوع ما ويقابل كل واحد منهما من باب الكثير مقابل‏.‏

المسألة السادسة‏‏:‏ في تعريف واجب الوجود بذاته وأنه لا يكون بذاته وبغيره معاً وانه لا كثرة في ذاته بوجه وإنه خير محض وحق محض وأنه واحد من وجوه شتى ولا يجوز أن يكون اثنان واجبي الوجود وفي إثبات واجب الوجود بذاته‏.‏

قال‏:‏ واجب الوجود معناه أنه ضروري الوجود وممكن الوجود معناه أنه ليس فيه ضرورة لا في وجوده ولا في عدمه‏.‏

ثم إن واجب الوجود قد يكون بذاته وقد لا يكون بذاته‏.‏

والقسم الأول‏ هو الذي وجوده لذاته لا لشيء آخر والثاني‏‏ هو الذي وجوده لشيء آخر أي شيء كان ولوضع ذلك الشيء صار واجب الوجود مثل الأربعة واجبة الوجود لا بذاتها ولكن عند وضع أثنين واثنين ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معاً فإنه إن رفع ذلك الغير لم يخل‏:‏ إما أن يبقى وجوب وجوده أو لم يبق فإن بقي فلا يكون واجباً بغيره وإن لم يبق فلا يكون واجباً بذاته فكل ما هو واجب الوجود بغيره فهو ممكن الوجود بذاته فإن وجوب وجوده تابع لنسبة ما وهي اعتبار غير اعتبار نفس ذات الشيء فاعتبار الذات وحدها‏:‏ إما أن يكون مقتضياً لوجوب الوجود وقد أبطلناه وإما أن يكون مقتضياً لامتناع الوجود وما امتنع بذاته لم يوجد بغيره وإما أن يكون مقتضياً لإمكان الوجود وهو الباقي‏.‏

وذلك إنما يجب وجوده بغيره لأنه إن لم يجب كان بعد ممكن الوجود لم يترجح وجوده على عدمه ولا يكون بين هذه الحالة والأولى فرق فإن قيل‏:‏ تجددت حالة فالسؤال عنها كذلك‏.‏

ثم واجب الوجود بذاته لا يجوز لذاته مبادئ تجتمع فيتقوم منها واجب الوجود‏:‏ لا أجزاء كمية ولا أجزاء حد سواء كانت كالمادة والصورة أو كانت على وجه آخر بأن تكون أجزاء القول الشارح لمعنى اسمه‏:‏ يدل كل واحد منها على شيء هو في الوجود غير الآخر بذاته وذلك لأن كل ما هذا صفته فذات كل جزء منه ليس هو ذات الآخر ولا ذات المجتمع وقد وضح أن الأجزاء بالذات أقدم من الكل فتكون العلة الموجبة للوجود علة للأجزاء ثم للكل ولا يكون شيء منها بواجب الوجود‏.‏

وليس يمكننا أن نقول‏:‏ إن الكل أقدم بالذات من الأجزاء فهو إما متأخر وإما معاً فقد اتضح أن واجب الوجود ليس بحسم ولا مادة في جسم ولا صورة في جسم ولا مادة معقولة لقبول صورة معقولة ولا صورة معقولة في مادة معقولة ولا قسمة له‏:‏ لا في الكم ولا في المبادئ ولا في القول فهو واجب الوجود في جميع جهاته إذ هو واحد من كل وجه فلا جهة وجهة‏.‏

وأيضاً فإن قدر أن يكون واجباً من جهة ممكناً من جهة كان إمكانه متعلقاً بواجب فلم يكن واجب الوجود بذاته مطلقاً فينبغي أن يتفطن من هذا لأن واجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود له منتظر بل كل ما هو ممكن له فهو واجب له فلا له إرادة منتظرة ولا علم منتظر ولا طبيعة ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة وهو خير محض وكمال محض‏.‏

والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجود كل شيء والشر لا ذات له بل هو إما عدم جوهر أو عدم صلاح حال للجوهر فالوجود خيرية وكمال الوجود كمال الخيرية والوجود الذي لا يقارنه عدم لا عدم جوهر ولا عدم حال للجوهر بل هو دائم بالفعل فهو خير محض والممكن بذاته ليس خيراً محضاً لأن ذاته تحتمل العدم وواجب الوجود هو حق محض لأن حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له فلا أحق إذاً من واجب الوجود‏.‏

وقد يقال حق أيضاً لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقاً فلا أحق بهذه الصفة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقاً ومع صدقه دائماً ومع دوامه لذاته لا لغيره‏.‏

وهو واحد محض لأنه لا يجوز أن يكون نوع واجب الوجود لغير ذاته لأن وجود نوعه له بعينه‏:‏ إما أن تقتضيه ذات نوعه أو لا تقتضيه ذات نوعه بل تقتضيه علة فإن كان وجود نوعه مقتضى ذات نوعه لم يوجد إلا له وإن كان لعلة فهو معلول فهو إذاً تام في وحدانيته وواحد من جهة تمامية وجوده وواحد من جهة أن حده له وواحد من جهة أنه لا ينقسم إلا بالكم ولا بالمبادئ المقومة له ولا بأجزاء الحد وواحد من جهة أن لكل شيء وحدة محضة وبها كمال حقيقته الذاتية وواحد من جهة أن مرتبته من الوجود وهو وجوب الوجود ليس إلا له فلا يجوز إذاً أن يكون أيمان كل واحد منهما واجب الوجود بذاته فيكون وجوب الوجود مشتركاً فيه على أن يكون جنساً أو عارضاً ويقع الفصل بشيء آخر إذ يلزم التركيب في ذات كل واحد منهما‏.‏

بل ولا تظن أنه موجود وله ماهية وراء الوجود كطبيعة الحيوان واللون مثلاً الجنسين اللذين يحتاجان إلى فصل وفصل حتى يتقررا في وجودهما لأن تلك الطبائع معلولة وإنما يحتاجان لا في نفس الحيوانية واللونية المشتركة بل في الوجود‏.‏

وههنا‏:‏ فوجوب الوجود هو الماهية وهو مكان الحيوانية التي لا تحتاج إلى فصل في أن يكون حيواناً بل في أن يكون موجوداً‏.‏

ولا تظن أن واجبي الوجود لا يشتركان في شيء ما كيف وهما يشتركان في وجوب الوجود ويشتركان في البراءة عن الموضوع فإن كان واجب الوجود يقال عليهما بالاشتراك فكلامنا ليس في منع كثرة اللفظ والاسم بل في معنى واحد من معاني ذلك الاسم وإن كان بالتباطؤ فقد حصل معنا عام عموم لازم أو عموم جنس وقد بينا استحالة هذا‏.‏

وكيف يكون عموم وجوب الوجود لشيئين على سبيل اللوازم التي تعرض من خارج واللوازم معلولة وإما إثبات واجب الوجود فليس يمكن إلا ببرهان إن وهو الاستدلال الممكن على الواجب فنقول‏:‏ كل جملة من حيث أنها جملة سواء كانت متناهية أو غير متناهية إذا كانت مركبة من ممكنات فإنها لا تخلو‏:‏ إما أن تكون واجبة بذاتها أو ممكنة بذاتها فإن كانت واجبة الوجود بذاتها وكل واحد منها ممكن الوجود يكون واجب الوجود يتقوم ببمكنات الوجود هذا خلف‏.‏

وإن كانت ممكنة الوجود بذاتها فالجملة محتاجة في الوجود إلى مفيد للوجود فإما أن يكون المفيد خارجاً عنها أو داخلاً فيها فإن كان داخلاً فيها فيكون واحداً منها واجب الوجود وكائن كل واحد منها ممكن الوجود هذا خلف‏.‏

فتعين أن المفيد يجب أن يكون خارجاً عنها وذلك هو المطلوب‏.‏

المسألة السابعة‏‏:‏ في أن واجب الوجود عقل وعاقل ومعقول وأنه يعقل ذاته والأشياء وصفاته قال‏:‏ العقل يقال على كل مجرد عن المادة وإذا كان مجرداً بذاته عن المادة فهو عقل لذاته واجب الوجود مجرد بذاته عن المادة فهو عقل لذاته‏.‏

وبما يعتبر له أن هويته مجردة لذاته فهو معقول لذاته وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة فهو عاقل لذاته وكونه عاقلاً ومعقولاً لا يوجب أن يكون اثنين في الذات ولا اثنين في الاعتبار فإنه ليس تحصيل الأمرين إلا أنه له ماهية مجردة وأنه ماهية مجردة ذاته له وههنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني في عقولنا والغرض المحصل هو شيء واحد‏.‏

وكذلك عقلنا لذاتنا هو نفس الذات وإذا عقلنا شيئاً فلسنا نعقل أن نعقل بعقل آخر لأن ذلك يؤدي إلى التسلسل‏.‏

ثم لما لم يكن جمال وبهاء فوق جمال وبهاء لماهية عقلية صرفة وخيرية محضة بريئة عن المواد وأنحاء النقص واحدة من كل جهة ولم يسلم ذلك بكنهه إلا لواجب الوجود فهو الجمال المحض والبهاء المحض وكل جمال وبهاء وملائم وخير فهو محبوب معشوق وكلما كان الإدراك أشد اكتناهاً والمدرك أجمل ذاتاً فحب القوة المدركة له وعشقها له والتذاذها به كان أشد وأكثر فهو أفضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك وهو عاشق لذاته ومعشوق لذاته عشق من غيره أو لم يعشق‏.‏

وأنت تعلم أن إدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس لأن العقل إنما يدرك الأمر الباقي ويتحد به ويصير هو هو ويدركه بكنهه لا بظاهره ولا كذلك الحس فاللذة التي لنا بأن نعقل فوق اللذة التي لنا بأن نحس لكنه قد يعرض أن تكون القوة الدراكة لا تستلذ بالملائم لعوارض كالمرور يستمر العسل لعارض‏.‏

واعلم أن واجب الوجود ايس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء وإلا فذاته إما متقومة بما يعقل أو عارض لها أن يعقل وذلك محال بل كما أنه مبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها‏.‏

والموجودات الكائنة الفسدة بأنواعها أولاً وبتوسط ذلك بأشخاصها ولا يجوز أن يكون عاقلاً لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحد من الصورتين يبقى مع الثانية‏ فيكون واجب الوجود متغير الذات بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو فعلي كلي ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض‏.‏

وأما كيفية ذلك فلأنه إذا عقل ذاته وعقل أنه مبدأ كل موجود عقل أوائل الموجودات وما يتولد عنها‏.‏

ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة ما واجباً بسببه فتكون الأسباب بمصادماتها تتأذى إلى أن يوجد عنها الأمور الجزئية‏.‏

فالأول يعلم الأسباب ومطابقاتها فيعلم ضرورة ما تتأذى إليه وما بينها من الأزمنة وما لها من العادات فيكون مدركاً للأمور الجزئية من حيث هي كلية أعني من حيث لها صفات وإن تخصصت بها شخصاً فبالإضافة إلى زمان متشخص أو حال متشخصة‏.‏

وكونه يعقل ذاته ونظام الخير الموجود في الكل ونفس مدركة من الكل هو سبب لوجود الكل ومبدأ له وإبداع وإيجاد ولا يستبعد هذا فإن الصورة المعقولة التي تحدث فينا تصير سبباً للصورة الموجودة الصناعية ولو كانت بنفس وجودها كافية لأن تتكون منها الصورة الصناعية دون آلات وأسباب لكان المعقول عندنا هو بعينه الإرادة والقدرة وهو العقل المقتضى لوجوده فواجب الوجود ليس إرادته وقدرته مغايرة لعلمه‏.‏

لكن القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلا هو مبدأ الكل‏:‏ لا مأخوذاً عن الكل ومبدأ بذاته لا متوقفاً على غرض وذلك هو الإرادة وهو جواد بذاته وذلك هو بعينه قدرته وإرادته وعلمه فالصفات منها ما هو بهذه الصفة أي أنه موجود مع هذه الأضافة ومنها ما له هذا الوجود مع سلب فمن لم يتحاش عن إطلاق لفظ الجوهر لم يعن به إلا هذا الوجود مع سلب الكون في موضوع‏.‏

وهو واحد أي مسلوب عنه القسمة بالكم أو القول أو مسلوب عنه الشريك وهو عقل وعاقل ومعقول أي مسلوب عنه جواز مخالطة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما وهو أول أي مسلوب عنه الحدوث مع إضافة وجوده إلى الكل وهو مريد أي واجب الوجود مع عقليته أي سلب المادة عنه مبدأ لنظام الخير كله وهو جواد أي هو بهذه الصفة بزيادة سلب أي لا ينحو غرضاً لذاته‏:‏ فصفاته إما إضافية محضة وإما سلبية محضة وإما مؤلفة من إضافة وسلب‏:‏ وذلك لا يوجب تكثراً في ذاته‏.‏

قال‏:‏ وإذا عرفت انه واجب الوجود وأنه مبدأ لكل موجود فما يجوز عنه يجب أن يوجد وذلك لأن الجائز أن يوجد وأن لا يوجد إذا تخصص بالوجود منه احتاج إلى مرجح لجانب الوجود والمرجح إذا كان على الحال التي كان عليها قبل الترجيح ولم يعرض البتة شيء فيه ولا مباين عنه يقتضي الترجيح في هذا الوقت دون وقت قبله أو بعده وكان الأمر على ما كان عليه لم يكن مرجحاً إذا كان التعطل عن الفعل والفعل عنده بمثابة واحدة فلا بد وأن يعرض له شيء وذلك لا يخلو‏:‏ إما أن يعرض في ذاته وذلك يوجب التغيير وقد قدمنا أن واجب الوجود لا يتغير ولا يتكثر وإما أن يعرض مبايناً عن ذاته والكلام في ذلك المباين كالكلام في سائر الأفعال‏.‏

قال‏:‏ والعقل الصريح الذي لم يكذب يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها واحدة وهي كما كانت وكان لا يوجد عنها شيء فيما قبل وهي الآن كذلك فالآن لا يوجد عنها شيء فإذا صار الآن يوجد عنها شيء فقد حدث أمر لا محالة‏:‏ من قصد أو إرادة أو طبع أو قدرة أو تمكن أو غرض ولأن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب وإذا كانت هذا الذات موجودة ولا ترجح ولا يجب عنها الترجح ثم رجح فلا بد من حادث موجب للترجيح في هذه الذات وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كانت قبل ولم تحدث لها نسبة أخرى فيكون الأمر بحالة ويكون الإمكان إمكاناً صرفاً بحاله وإذا حدثت لها نسبة فقد حدث أمر ولا بد من أن يحدث في ذاته أو مبايناً عن ذاته وقد بينا استحالة ذلك‏.‏

وبالجملة فإنا نطلب النسبة الموقعة لوجود كل حادث في ذاته أو مباين عن ذاته ولا نسبة أصلاً فيلزم أن لا يحدث شيء أصلاً وقد حدث فعلم أنه إنما حدث بإيجاب من ذاته وأنه سبقه لا بزمان ووقت ولا تقدير زمان بل سبقاً ذاتياً من حيث إنه هو الواجب لذاته وكل ممكن بذاته فهو محتاج إلى الواجب لذاته‏.‏

فالممكن مسبوق بالواجب فقط والمبدع مسبوق بالمبدع فقط‏.‏

لا بالزمان‏.‏

المسألة الثامنة‏‏:‏ في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وفي ترتيب وجود العقول والنفوس والأجرام العلوية وأن المحرك القريب للسماويات نفس والمبدأ الأبعد عقل وحال تكون الأسطقسات عن العلل‏.‏

إذا صح أن واجب الوجود بذاته واحد من جميع جهاته فلا يجوز أن يصدر عنه إلا واحد ولو لزم عنه شيئان متباينان بالذات والحقيقة لزوماً معاً فإنما يلزمان عن جهتين مختلفتين في ذاته ولو كانت الجهتان لازمتين لذاته فالسؤال في لزومهما ثابت حتى يكونا من ذاته فتكون ذاته منقسمة بالمعنى وقد منعناه وبينا فساده فتبين أن أول الموجودات عن الأول‏ واحد بالعدد وذاته وماهيته وحدة لا ما في مادة وقد بينا أن كل ذات لا في مادة فهي عقل‏.‏

وأنت تعلم أن في الموجودات أجساماً وكل جسم ممكن الوجود في حيز نفسي وأنه يجب بغيره وعلمت أنه لا سبيل إلى أن يكون عن الأول‏ بغير واسطة وعلمت أن الواسطة واحدة فبالحري أن تكون عنها المبدعات الثانية‏ والثالثة‏‏ وغيرها بسبب إثنينية فيها ضرورة‏.‏

فالمعلول الأول‏ ممكن الوجود بذاته وواجب الوجود بالأول ووجوب وجوده بأنه عقل وهو يعقل ذاته ويعقل الأول‏ ضرورة وليست هذه الكثرة له من الأول‏ فإن إمكان وجوده له بذاته لا بسبب الأول‏ بل له من الأول‏ وجوب وجوده ثم كثرة أنه يعقل الأول‏ ويعقل ذاته كثرة لازمة لوجوب وجوده عن الأول‏ وهذه كثرة إضافية ليست في أول وجوده وداخلة في مبدأ قوامه ولولا هذه الكثرة لكان لا يمكن أن يوجد منها إلا وحدة ولا كان يتسلسل الوجود من وحدات فقط فما كان يوجد جسم‏.‏

فالعقل الأول‏ يلزم عنه بما يعقل الأول‏ وجود عقل تحته وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك وكماله وهي النفس وبطبيعة إمكان الوجود الخاصية له المندرجة فيما يعقله لذاته وجود جرمية الفلك الأعلى المندرجة في جملة ذات الفلك الأعلى بنوعه وهو الأمر المشارك للقوة‏.‏

فيما يعقل الأول‏ يلزم عنه عقل وبما يختص بذاته على جهتيه الكثرة الأولى‏ بجزأيها أعني المادة والصورة والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها‏:‏ كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالعقل الذي يحاذي صورة الفلك‏.‏

وكذلك الحال في عقل عقل وفلك فلك‏.‏

إلا أن ينتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا‏.‏

وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق فإنه إن لزم كثرة عن العقول فبسبب المعاني التي فيها من الكثرة وقولنا هذا ليس ينعكس حتى يكون كل عقل فيه هذه الكثرة فتلزم كثرته هذه المعلولات ولا هذه العقول متفقة الأنواع حتى يكون مقتضى معانيها متفقاً‏.‏

ومن المعلوم أن الأفلاك كثيرة فوق العدد الذي في المعلول الأول‏ فليس يجوز أن يكون مبدؤها واحداً هو المعلول الأول‏ ولا أيضاً يجوز أن يكون كل جرم متقدم منها علة للتأخر لأن الجرم بما هو جرم مركب من مادة وصورة فلو كان علة لجرم لكان بمشاركة المادة‏.‏

والمادة لها طبيعة عدمية والعدم ليس مبدأ للوجود فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ للوجود فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ لجرم ولا يجوز أن يكون مبدؤها قوة نفسانية هي صورة الجرم وكماله إذ كل نفس لكل فلك فهي كماله وصورته ليس جوهراً مفارقاً وإلا كان عقلاً وأنفس الأفلاك إنما تصدر عنها أفعالها في أجسام أخرى بوساطة أجسامها ومشاركتها‏.‏

وقد بينا أن الجسم من حيث هو جسم لا يكون مبدأ لجسم ولا يكون متوسطاً بين نفس ونفس‏.‏

ولو أن نفساً كانت مبدأ لنفس بغير توسط الجسم فلها انفراد قوام من دون الجسم وليست النفس الفلكية كذلك فلا تفعل شيئاً ولا تفعل حسماً فإن النفس متقدمة على الجسم في المرتبة والكمال‏.‏

فتعين أن للأفلاك مبادئ غير جرمانية وغير صور للأجرام والجميع مشترك في مبدأ واحد وهو الذي نسميه المعلول الأول‏ والعقل المجرد‏.‏

ويختص كل فلك بمبدأ خاص فيه ويلزم دائماً عقل من عقل حتى تتكون الأفلاك بأجرامها ونفوسها وعقولها وينتهي بالفلك الأخير ويقف حيث يمكن أن تحدث الجواهر العقلية منقسمة متكثرة بالعدد لتكثر الأسباب‏.‏

فكل عقل هو أعلى في المرتبة فإنه المعني فيه وهو أنه بما يعقل الأول‏ يجب عنه وجود عقل آخر دونه‏.‏

وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه فأما جرم الفلك فمن حيث إنه يعقل بذاته الممكن لذاته‏.‏

وأما نفس الفلك فمن حيث إنه يعقل ذاته الواجب بغيره‏.‏

ويستبقي الجرم بتوسط النفس الفلكية فإن كل صورة فهي علة لكون مادتها بالفعل‏.‏

والمادة بنفسها لا قوام لها كما أن الإمكان نفسه لا وجود له‏.‏

وإذا استوفت الكرات السماوية عددها لزم بعدها وجود الأسطقسات ولما كانت الأجسام الأسطقسية كائنة فاسدة وجب أن يكون مبادئها متغيرة فلا يكون ما هو عقل محض وحده سبباً لوجودها ولما كانت لها مادة مشتركة وصور مختلفة فيها وجب أن يكون اختلاف صورها مما تعين فيه اختلف في أحوال الأفلاك واتفاق مادتها مما تعين فيه اتفاق في أحوال الأفلاك فالأفلاك لما اتفقت في طبيعة اقتضاء الحركة المستديرة كما تبين كان مقتضاها وجود المادة ولما اختلفت في أنواع الحركات كان مقتضاها تهيؤ المادة للصور المختلفة‏.‏

ثم إن العقول المفارقة بل آخرها الذي يلينا هو الذي يفيض عنه بمشاركة الحركات السماوية شئ فيه رسم صور العالم الأسفل من جهة الانفعال كما أن في ذلك العقل رسم الصور على جهة الفعل ثم يفيض منه الصور فيها بالتخصيص بمشاركة الأجرام السماوية فيكون إذا خصص هذا الشيء تأثير من التأثيرات السماوية بلا واسطة جسم عنصري أو بواسطة تجعله على استعداد خاص به بعد العام الذي كان في جوهره‏:‏ فاض عن هذا المفارق صورة خاصة‏.‏

وارتسمت في تلك المادة‏.‏

وأنت تعلم أن الواحد لا يخصص الواحد من حيث كل واحد منهما واحد بأمر دون أمر يكون له إلا أن يكون هناك مخصصات مختلفة وهي معدات المادة‏.‏

والمعد‏:‏ هو الذي يحدث منه في المستعد أمر ما تصير مناسبته لشيء بعينه أولي من مناسبته لشيء آخر ويكون هذا الإعداد مرجحاً لوجود ما هو أولي منه من الأوائل الواهبة للصور‏.‏

ولو كانت المادة على التهيؤ الأول‏ تشابهت نسبتها إلى الصندين فلا يجب أن يختص بصورة دون صورة‏.‏

قال‏:‏ والأشبه أن يقال إن المادة التي تحدث بالشركة يفيض عليها من الأجرام السماوية‏:‏ إما عن أربعة أجرام‏.‏

أو عن عدة منحصرة في أربع أو عن جرم واحد تكون له نسب مختلفة انقساماً من الأسباب منحصرة في أربع فتحدث منها العناصر الأربعة وانقسمت بالخفة والثقل فما هو الخفيف المطلق فميله إلى الفوق وما هو الثقيل المطلق فميله إلى الأسفل وما هو الخفيف والثقيل بالإضافة فبينهما‏.‏

وأما وجود المركبات من العناصر فبتوسط الحركات السماوية وسنذكر أقسامها وتوابعها‏.‏

وأما وجود الأنفس الإنسانية التي تحدث مع حدوث الأبدان ولا تفسد فإنها كثيرة مع وحدة النوع‏.‏

والمعلول الأول‏ الواحد بالذات فيه معان متكثرة بها تصدر عنه العقول والنفوس كما ذكرنا ولا يجوز أن تكون تلك المعاني كثيرة متفقة النوع والحقائق حتى تصدر عنها كثرة متفقة النوع فإنه يلزم أن تكون فيه مادة يشترك فيها وصور تتخالف وتتكثر بل فيه معان مختلفة الحقائق يقتضي كل معنى شيئاً غير ما يقتضيه الآخر في النوع فلم يلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر‏.‏

فالنفوس الأرضية كائنة عن المعلول الأول‏ بتوسط علة أو علل أخرى وأسباب من الأمزجة والمواد وهي غاية ما ينتهي إليها في الإبداع‏.‏

ونبتدئ القول في الحركات وأسبابها ولوازمها‏:‏ أعلم أن الحركة لا تكون طبيعية للجسم والجسم على حالته الطبيعية وكل حركة بالطبع فلحالة مفارقة للطبع غير طبيعية إذ لو كان شيء من الحركات مقتضي طبيعة الشيء لما كان باطل الذات مع بقاء الطبيعة بل الحركة إنما تقتضيها الطبيعة لوجود حال غير طبيعية إما في الكيف وإما في الكم وإما في المكان وإما في الوضع وإما في مقولة أخرى‏.‏

والعلة في تجدد حركة بعد حركة تجدد الحال الغير الطبيعية وتقدير البعد عن الغاية فإذا كان الأمر كذلك لم تكن حركة مستديرة عن طبيعة وإلا كانت عن حال غير طبيعية إلى حال طبيعية إذا وصلت إليها سكنت ولم يجز أن يكون فيها بعينها قصد إلى تلك الحالة الغير الطبيعية لأن الطبيعة ليست تفعل باختيار بل على سبيل التسخير فإن كانت الطبيعة تحرك على الاستدارة فهي تحرك لا محالة‏:‏ إما عن أين غير طبيعي أو وضع غير طبيعي هرباً طبيعياً عنه وكل هرب طبيعي عن شيء فمحال أن يكون هو بعينه قصداً طبيعياً إليه‏.‏

والحركة المستديرة ليست تهرب عن شيء إلا وتقصده فليست إذاً طبيعية إلا أنها قد تكون بالطبع وإن لم تكن قوة طبيعية كانت شيئاً بالطبع وإنما تحرك بتوسط الميل الذي فيه‏.‏

ونقول‏:‏ إن الحركة معنى متجدد السبب وكل شطر منه مختص بسبب فإنه لا ثبات له‏.‏

ولا يجوز أ يكون عن معنى ثابت البتة وحده ولو كان فيجب أن يلحقه ضرب من تبدل الأحوال فالثابت من جهة ما هو ثابت لا يكون عنه إلا ثابت فالإرادة العقلية الواحدة لا توجب البتة حركة فإنها مجردة عن جميع أصناف التغير والقوة العقلية حاضرة المعقول دائماً ولا يفرض فيها الانتقال من معقول إلى معقول إلا مشاركاً للتخيل والحس فلا بد للحركة من مبدأ قريب‏.‏

والحركة المستديرة مبدؤها القريب نفس في الفلك تتحد تصوراتها وإراداتها وهي كمال جسم الفلك وصورته ولو كانت قائمة بنفسها من كل وجه لكانت عقلاً محضاً لا يتغير ولا ينتقل ولا يخالط ما بالقوة بل نسبتها إلى الفلك نسبة النفس الحيوانية التي لنا إلينا إلا أن لها أن اعقل بوجه ما تعقلاً مشوباً بالمادة‏.‏

وبالجملة أوهامها أو ما يشبه الأوهام صادقة وتخيلاتها أو ما يشبه التخيلات حقيقية كالفعل العقلي فينا والمحرك الأول‏ لها غير مادي أصلاً وإنما تتحرك عن قوة غير متناهية والقوة التي للنفس متناهية لكنها بما تعقل الأول‏ فيسيح عليها نوره دائماً صارت قوتها غير متناهية فكانت الحركات المستديرة أيضاً غير متناهية‏.‏

والأجرام السماوية لما لم يبق في جوهرها أمر ما بالقوة أعني في كمها وكيفها تركبت صورتها في مادتها على وجه لا يقبل التحليل ولكن عرض لها في وضعها وأينها ما بالقوة إذ ليس شيء من أجزاء مدار فلك أو كوكب أولي لأن يكون ملاقياً له أو لجزئه من جزء آخر فمتى كان في جزء بالفعل فهو في جزء آخر بالقوة‏.‏

والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل كمال ولم يكن هذا ممكناً للجرم السماوي بالعدد فحفظ بالنوع والتعاقب فصارت الحركة حافظة لما يكون من هذا الكمال ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال ومبدأ الشوق هو ما يعقل منه‏.‏

فنفس الشوق إلى التشبه بالأول من حيث هو بالفعل تصدر عنه الحركات الفلكية صدور الشيء عن التصور المرجب له وإن كان غير مقصود في ذاته بالقصد الأول‏ لأن ذلك تصور لما بالفعل فيحدث عنه طلب لما بالفعل ولا يمكن لما بالشخص فيكون بالتعاقب ثم يتبع ذلك التصور تصورات جزئية على سبيل الانبعاث إلى المقصود الأول‏ وتتبع تلك التصورات الحرمات المنتقل بها في الأوضاع وهي كأنها عبادة ملكية أو فلكية‏.‏

وليس من شرط الحركة الإرادية أن تكون مقصودة في نفسها بل إذا كانت القوة الشوقية تشتاق نحو أمر يسيح منها تأثير تتحرك له الأعضاء فتارة تتحرك على النحو الذي يوصل به إلى الغرض وتارة على نحو آخر متشابه وإذا بلغ الالتذاذ بتعقل المبدأ الأول‏ وبما يدرك منه على نحو عقلي أو نفساني شغل ذلك عن كل شيء ولكن ينبعث منه ما هو أدون منه في المرتبة وهو الشوق إلى الأشبه به بقدر الإمكان‏.‏

فقد عرفت أن الفلك متحرك بطبعه ومتحرك بالنفس ومتحرك بقوة عقلية غير متناهية وتميزت عندك كل حركة عن صاحبتها وعرفت أن المحرك الأول‏ لجملة السماء واحد ولكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصه ومتشوق معشوق يخصه‏.‏

فأول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى‏ وهي على قول من تقدم بطليموس كرة الثوابت وعلى قول بطليموس كرة خارجة عنها محيطة بها ير مكوكبة وبعد ذلك محرك الكرة التي تلي الأولى‏ ولكل واحدة مبدأ خاص وللكل مبدأ فلذلك تشترك الأفلاك في دوام الحركة وفي الاستدارة‏.‏

ولا يجوز أن يكون شيء منها لأجل الكائنات السافلة لا قصد حركة ولا قصد جهة حركة ولا تقدير سرعة وبطء بل ولا قصد فعل البتة لأجلها وذلك أن كل قصد فيكون من أجل المقصود ويكون أنقص وجوداً من المقصود لأن كل ما لأجله شيء آخر فهو أتم وجوداً من الآخر ولا يجوز أن يستفاد الوجود الأكمل من الشيء الأخس فلا يكون البتة إلى معلول قصد صادق وإلا كان القصد معطياً ومفيداً لوجود ما هو أكمل وإنما يقصد بالواجب شيء يكون القصد مهيئاً له ومفيد وجوده شيء آخر وكل قصد ليس عبثاً فإنه يفيد كمالاً ما لقاصد لو لم يقصد لم يكن ذلك الكمال‏.‏

ومحال أن يكون المعلول المستكمل وجوده بالعلة يفيد العلة كمالاً لم يكن فالعالي إذاً لا يريد أمراً لأجل السافل وإنما يريده لما هو أعلى منه وهو التشبه بالأول بقدر الإمكان‏.‏

ولا يجوز أن يكون الغرض تشبهاً بجسم من الأجسام السماوية وإن كان تشبه السافل بالعالي إذ لو كان كذلك لكانت الحركة من نوع حركة ذلك الجسم ولم يكن مخالفاً له أو أسرع في كثير من الواضع‏.‏

ولا يجوز أن يكون الغرض شيئاً يوصل إليه بالحركة بل شيئاً مباسناً غير جواهر الأفلاك من موادها وأنفسها‏.‏

وبقي أن يكون لكل واحد من الأفلاك شوق تشبه بجوهر عقلي مفارق يخصه وتختلف الحركات وأفعالها وأحوالها اختلافها الذي لها لأجل ذلك وإن كنا لا نعرف كيفيتها وكميتها‏.‏

وتكون العلة الأولى‏ متشوق الجميع بالاشتراك وهذا نعنى قول القدماء‏:‏ إن للكل محركاً واحداً معشوقاً ولكل كرة محركاً يخصها ومعشوقاً يخصها فيكون إذاً لكل فلك نفس محركة تعقل الخير ولها بسبب الجسم تخيل أي تصور للجزئيات وإرادة لها ثم يلزمها حركات ما دونها لزوماً بالقصد الأول‏ حتى تنتهي آلة حركات الفلك الذي يلينا ومدبرها العقل الفعال‏.‏

ويلزم الحركات السماوية حركات العناصر على مثال تناسب حركات الأفلاك وتعد تلك الحركات موادها لقبول الفيض من العقل الفعال فيعطيها صورها على قدر استعداداتها كما قررنا‏.‏

فقد تبين لك أسباب الحركات ولوازمها وستعلم بواقيها في الطبيعيات‏.‏

المسألة التاسعة‏‏‏:‏ في العناية الأزلية وبيان دخول الشر في القضاء‏.‏

قال‏:‏ العناية هي كون الأول‏ عالماً لذاته بما عليه الوجود من نظام وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان وراضياً به على النحو المذكور فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ في الإمكان فيفيض منه ما يعثله نظاماً وخيراً على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضاناً على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان فهذا هو معنى العناية‏.‏

والخير يدخل في القضاء الإلهي دخولاً بالذات لا بالعرض والشر بالعكس منه وهو على وجوه‏:‏ فيقال شر لمثل النقص الذي هو الجهل والضعف والتشويه في الخلقة ويقال شر لمثل الألم والغم ويقال شر لمثل الشرك والظلم والرياء وبالجملة الشر بالذات هو العدم ولا كل عدم بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته‏.‏

والشر بالعرض هو المعدم والحابس للكمال عن مستحقه والشر بالذات ليس بأمر حاصل إلا أن يخبر عن لفظه ولو كان له حصول ما لكان الشر العام‏.‏

وهذا الشر يقابله الوجود على كماله الأقصى بأن يكون بالفعل وليس فيه ما بالقوة أصلاً فلا يلحقه شر‏.‏

وأما الشر بالعرض فله وجود ما وإنما يلحق ما في طباعه أمر ما بالقوة وذلك لأجل المادة‏.‏

فيلحقها لأمر يعرض لها في نفسها وأول وجودها‏:‏ هيئة من الهيئات المانعة لاستعدادها الخاص للكمال الذي توجهت إليه فتجعلها أردأ مزاجاً وأعصى جوهراً لقبول التخطيط والتشكيل والتقويم فتشوهت الخلقة وانتقصت البنية لا لأن الفاعل قد حرم بل لأن المنفعل لم يقبل‏.‏

وأما الأمر الطارئ من خارج فأحد شيئين‏:‏ إما مانع للمكمل وإما مضاد ماحق للكمال‏.‏

مثال الأول‏‏:‏ وقوع سحب كثيرة وتركمها وإظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال‏.‏

ومثال الثاني‏:‏ حبس البرد للنبات المصيب لكماله في وقته حتى يفسد الاستعداد الخاص‏.‏

ويقال شر للأفعال المذمومة ويقال شر لمبادئها من الأخلاق مثال الأول‏‏:‏ الظلم والرياء ومثال الآني‏:‏ الحقد والحسد‏.‏

ويقال شر للآلام والغموم ويقال شر لنقصان كل شيء عن كماله‏.‏

والضابط لكله إما عدم وجود وإما عدم كمال‏.‏

فنقول‏:‏ الأمور إذا توهمت موجودة فإما تمتنع أن تكون إلا خيراً على الإطلاق أو شراً على الإطلاق أو خيراً من وجه وشراً من وجه وهذا القسم إما أن يتساوى الخير والشر أو الغالب فيه أحدهما‏‏‏‏.‏

أما الخير المطلق الذي لا شر فيه فقد وجد في الطباع والخلقة وأما الشر المطلق الذي لا خير فيه أو الغالب فيه أو المساوي فلا وجود له أصلاً‏.‏

فبقي ما الغالب في وجوده الخير وليس يخلو عن شر والأحرى به أن يوجد فإن لا كونه أعظم شراً من كونه فواجب أن يفيض وجوده من حيث يقيض منه الوجود لئلا يفوت الخير الكلي لوجود الشر الجزئي‏.‏

وأيضاً فلو امتنع وجود ذلك القدر من الشر امتنع وجود أسبابه التي تؤدي إلى الشر بالعرض وكان فيه أعظم خلل في نظام الخير الكلي بل وإن لم نلتفت إلى ذلك وصيرنا التفاتنا إلى ما ينقسم إليه الإمكان في الوجود من أصناف الموجودات المختلفة في أحوالها فكان الوجود المبرأ من الشر من كل وجه قد حصل وبقي نمط من الوجود إنما يكون على سبيل أن لا يوجد إليه ويتبعه ضرر وشر مثل النار فإن الكون إنما يتم بأن يكون فيه نار ولن يتصور حصولها إلا على وجه تحرق وتسخن ولم يكن بد من المصادمات الحادثة أن تصادف النار ثوب فقير ناسك فيحترق والأمر الدائم والأكثري حصول الخير من النار فأما الدائم فلأن أنواعاً كثيرة لا تستحفظ على لدوام إلا بوجود النار وأما الأكثر فلان أكثر الأشخاص والأنواع في كنف السلامة من الاحتراق فما كان يحسن أن تترك المنافع الأكثرية والدائمة لأعراض شرية أقلية فأريدت الخيرات الكائنة عن مثل هذا الأشياء إرادة أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال‏:‏ إن اللّه تعالى يريد الأشياء ويريد الشر أيضاً على الوجه الذي بالعرض فالخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض وكل بقدر‏.‏

والحاصل أن الكل إنما رتبت فيه القوى الفعالة والمنفعلة‏:‏ السماوية والأرضية‏:‏ الطبيعية والنفسانية بحيث يؤدي إلى النظام الكلي مع استحالة أن تكون هي على ما هي عليه ولا تؤدي إلى شرور فيلزم من أحوال العالم بعضها بالقياس إلى بعض أن يحدث في نفس‏:‏ صورة اعتقاد رديء أو كفر أو شر آخر ويحدث في بدن‏:‏ صورة قبيحة مشوهة ولو لم يكن كذلك لم يكن النظام الكلي يثبت فلم يعبأ ولم يلتفت إلى اللوازم الفاسدة التي تعرض بالضرورة‏.‏

وقيل‏:‏ خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وكل ميسر لما خلق له‏.‏

المسألة العاشرة‏:‏ في المعاد وإثبات سعادات دائمة للنفوس وإشارة إلى النبوة وكيفية الوحي والإلهام‏.‏

ولنقدم على الخوض فيها أصولاً ثلاثة‏:‏ الأصل الأول‏‏:‏ أن لكل قوة نفسانية لذة وخيراً يخصها وأذى وشراً يخصها وحيثما كان المدرك أشد إدراكاً وأفضل ذاتاً والمدرك أكمل وجوداً وأشرف ذاتاً وأدوم ثباتاً فاللذة أبلغ وأوفر‏.‏

الأصل الثاني‏:‏ أنه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما بحيث يعلم أن المدرك لذيذ ولكن لا يتصور كيفيته ولا يشعر به فلم يشتق إليه ولم يفزع نحوه فيكون حال المدرك حال الأصم والأعمى الملتذين برطوبة اللحن وملاحة الوجه من غير شعور وتصور وإدراك‏.‏

الأصل الثالث‏:‏ أن الكمال والأمر الملائم قد يتيسر للقوة الدراكة وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضده أو تكون القوة ممنوة بضد ما هو كمالها فلا تحس به كالمريض والمرور فإذا فنقول بعد تمهيد الأصول‏:‏ إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصير عالما عقلياً مرتسماً فيها صورة الكل والنظام المعقول في الكل والخير الفائض من واهب الصور على الكل مبتدئاً من المبدأ‏.‏

وسالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة ثم الروحانية المتعلقة نوعا ما بالأبدان ثم الأجسام العلوية بهيئآتها وقواها ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله فتصير عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير والبهاء والحق ومتحداً به ومنتقشاً بمثاله ومنخرطاً في سلكه وصائرا من جوهره وهذا الكمال لا يقاس بسائر الكمالات وجوداً ودواماً ولذة وسعادة بل هذه اللذة أعلى من اللذات الحسية وأعلى من الكمالات الجسمانية بل لا مناسبة بينهما في الشرف والكمال‏.‏

وهذه السعادة لا تتم له إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس وتهذيب الأخلاق‏.‏

والخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية وذلك باستعمال التوسط بين الخلقتين المضادتين لا بأن يفعل أفعال التوسط بل بأن يحصل ملكة التوسط بين الخلقتين المضادتين فيحصل في القوى الحيوانية هيئة الإذعان وفي القوى الناطقة هيئة الاستعلاء‏.‏

ومعلوم أن ملكتي الإفراط والتفريط هما من مقتضيات القوى الحيوانية فإذا قويت حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانية قد رسخت فيها من شأنها أن تجعلها قوية العلاقة مع البدن شديدة الانصراف إليه‏.‏

وأما ملكة التوسط فهي من مقتضيات الناطقة فإذا قويت قطعت العلاقة من البدن فسعدت السعادة الكبرى‏.‏

ثم للنفوس مراتب في اكتساب هاتين القوتين أعني العلمية والعملية والتقصير فيهما فكم ينبغي أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات والتخلق بالأخلاق الحسنة حتى يجاوز الحد الذي في مثله يقع في الشقاوة الأبدية‏.‏

وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤبد وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤقت قال‏:‏ فليس يمكنني أن أنص عليه إلا بالتقريب وليته سكت عنه وقد قيل‏:‏ فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد قال‏:‏ وأطن أن ذلك أن يتصور نفس الإنسان المبادئ المفارقة تصوراً حقيقياً ويصدق بها تصديقاً يقيناً لوجودها عنده بالبرهان ويعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى ويتقرر عنده هيئة الكل ونسب أجزائه بعضها إلى بعض والنظام الآخذ من المبدأ الأول‏ إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه ويتصور العناية وكيفيتها ويتحقق أن الذات المتقدمة للكل أي وجود يخصها وأية وحدة تخصها‏:‏ وأنها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثر وتغير بوجه وكيف ترتيب نسب الموجودات إليها‏.‏

وكلما ازداد استبصاراً ازداد للسعادة استعداداً وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون قد أكد العلاقة مع ذلك العالم فصار له شوق وعشق إلى ما هناك يصده عن الالتفات إلى ما خلفه جملة‏.‏

ثم إن النفوس والقوى الساذجة ساذجيتها واستقرت فيها هيئات صحيحة إقناعية وملكات حسنة خلقية سعدت بحسب ما اكتسبت أما إذا كان الأمر بالضد من ذلك أو حصلت أوائل الملكة العلمية وحصل لها شوق قد تبع رأياً مكتسباً إلى كمال حالها فصدها عن ذلك عائق مضاد فقد يبقى الشقاء الأبدي وهؤلاء إما مقصرون في السعي لتحصيل الكمال الإنساني وإما معاندون متعصبون لآراء فاسدة مضادة للآراء الحقيقية والجاحدون أسوأ حالا‏.‏

والنفوس البله أدنى من الخلاص من فطانة بتراء لكن النفوس إذا فارقت وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة على مثل ما يخاطب به العامة ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم لا كمال فتسعد تلك السعادة ولا عدم كمال فتشقى تلك الشقاوة بل جميع هيئآتهم النفسانية متوجهة إلى الأسفل منجذبة إلى الأجسام ولابد لها من تخيل ولابد للتخيل من أجسام‏.‏

قال‏:‏ فلابد لها من أجرام سماوية تقوم بها القوة المتخيلة فتشاهد ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخروية وتكون الأنفس الرديئة أيضاً تشاهد العقاب المصور لهم في الدنيا وتقاسيه فإن الصورة الخيالية ليست تضعف عن الحسية بل تزداد تأثيراً كما تشاهد في المنام وهذه هي السعادة والشقاوة بالقياس إلى الأنفس الخسيسة‏.‏

وأما الأنفس المقدسة فإنها تبعد عن مثل هذه الأحوال وتتصل لكمالها بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقية ولو كان بقي فيها أثر من ذلك اعتقادي أو خلقي تأذت به وتخلفت عن درجة عليين إلى أن ينفسخ عنها‏.‏

قال‏:‏ والدرجة الأعلى فيما ذكرناه لمن له النبوة إذ في قواه النفسانية خصائص ثلاث نذكرها في الطبيعيات فيها يسمع كلام اللّه تعالى ويرى ملائكته المقربين وقد تحولت على صور يراها‏.‏

وكما أن الكائنات ابتدأت من الأشرف فالأشرف حتى ترقت في الصعود إلى العقل الأول‏ ونزلت في الانحطاط إلى المادة وهي الأخس كذلك النفوس ابتدأت من الأخس حتى بلغت النفس الناطقة وترقت إلى درجة النبوة‏.‏

ومن المعلوم أن نوع الإنسان محتاج إلى اجتماع ومشاركة في ضروريات حاجاته مكتفياً بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضاً مكتفياً به ولا تتم تلك الشركة إلا بمعاملة ومعاوضة يجريان بينهما يفرغ كل واحد منهما عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير‏.‏

ولا بد في المعامل من سنة وعدل ولا بد من سان ومعدل ولا بد من أن يكون بحيث يخاطب الناس ويلزمهم السنة فلا بد من أن يكون إنساناً‏.‏

ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون ويرى كل واحد منهم ما له عدلاً وما عليه ظلماً فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الإنسان أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار والحاجبين‏.‏

فلا يجوز أن تكون العناية الأولى‏ تقتضي أمثال تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي أسها‏.‏

ولا يجوز أن يكون المبدأ الأول‏ والملائكة بعده يعلم تلك ولا يعلم هذا ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الأمر الممكن وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجوده ومبني على وجوده موجود‏!‏‏.‏

فلا بد إذاً من نبي هو إنسان متميز من بين سائر الناس بآيات تدل على أنها من عند ربه تعالى‏:‏ يدعوهم إلى التوحيد ويمنعهم من الشرك ويسن لهم الشرائع والأحكام ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن التباغض والتحاسد ويرغبهم في الآخرة وثوابها ويضرب لهم للسعادة والشقاوة أمثالاً تسكن إليها نفوسهم وأما الحق فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً وهو أن ذلك شيء لا عين رأته ولا أذن سمعته ثم تكريره عليهم العبادات ليحصل لهم بعده تذكر المعبود بالتكرير‏.‏

والمذكرات إما حركات وإما إعدام حركات تفضي إلى حركات فالحركات كالصلوات وما في معناها وأعدام الحركات كالصيام ونحوه وإن لم يكن لهم هذه المذكرات تناسوا جميع ما دعاهم إليه مع انقراض قرن أو قرنين‏.‏

وينفعهم ذلك أيضاً في المعاد منفعة عظيمة فإن السعادة في الآخرة بتنزيه النفس عن الأخلاق الرديئة والملكات الفاسدة فيتقرر لها بذلك هيئة الانزعاج عن البدن وتحصل لها ملكة التسلط عليه فلا تنفعل عنه وتستفيد منه ملكة الالتفات إلى جهة الحق والإعراض عن الباطل وتصير شديدة الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند اللّه تعالى وكان مع اعتقاده ذلك يلزمه في كل فعل أن يتذكر اللّه ويعرض عن غيره لكان جديراً بأن يفوز من هذا الزكاء بحظ فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي من عند اللّه تعالى وبإرسال اللّه تعالى وواجب في الحكمة الإلهية إرساله وأن جميع ما سنه فإنما هو ما وجب من عند اللّه أن يسنه وأنه متميز عن سائر الناس بخصائص بالغة وواجب الطاعة بآيات ومعجزات دلت على صدقه‏!‏‏.‏

وسيأتي شرح ذلك في الطبيعيات‏.‏

لكنك تحدس مما سلف آنفاً‏:‏ أن اللّه تعالى كيف رتب النظام في الموجودات وكيف سخر الهيولى مطيعة للنفوس بإزالة صورة وإثبات صورة وحيثما كانت النفوس الإنسانية أشد مناسبة للنفوس الفلكية بل وللعقل الفعال كان تأثيرها في الهيولى أشد وأغرب وقد تصفو النفس صفاء شديداً لاستعداد ما للاتصال بالعقول المفارقة فيفيض عليها من العلوم ما لا يصل بالتقليب والإحالة من حال إلى حال وبالقوة الثانية‏ يخبر عن غيب ويكلمه ملك‏.‏

فيكون ما للأنبياء عليهم السلام‏:‏ وحياً وما للأولياء‏:‏ إلهاماً‏.‏

وها نحن نبتدأ القول في الطبيعيات المنقولة عن الشيخ الرئيس أبي على ابن سينا‏.‏

في الطبيعيات قال أبو علي ابن سينا‏:‏ إن للعلم الطبيعي موضوعاً ينظر فيه وفي لواحقه كسائر العلوم وموضوعه‏:‏ الأجسام الموجودة بما هي واقعة في التغير وبما هي موصوفة بأنحاء الحركات والسكونات وأما مبادئ هذا العلم كمثل تركب الأجسام عن المادة والصورة والقول في حقيقتهما ونسبة كل واحد منهما إلى الثاني‏.‏

فقد ذكرناها في العلم الإلهي‏.‏

والذي يختص من ذلك التركب بالعلم الطبيعي هو أن تعلم أن الأجسام الطبيعية منها أجسام مركبة من أجسام إما متشابهة الصور كالسرير وإما مختلفتها كبدن الإنسان ومنها أجسام مفردة‏.‏

والأجسام المركبة لها أجزاء موجودة بالفعل متناهية وهي تلك الأجسام المفردة التي منها تركبت وأما الأجسام المفردة فليس لها في الحال جزء بالفعل وفي قوتها أن تتجزأ أجزاء غير متناهية كل منها أصغر من الآخر‏.‏

والتجزؤ إما بتفريق الاتصال وإما باختصاص العرض ببعض منه وإما بالتوهم وإذا لم يكن أحد هذه الثلاثة فالجسم المفرد لا جزء له بالفعل‏.‏

قال‏:‏ ومن أثبت الجسم مركباً من أجزاء لا تتجزأ بالفعل فبطلانه لأن كل جزء مس جزءاً فقد شغله بالمس وكل ما شغل شيئاً بالمس فإما أن يدع فراغاً عن شغله لجهة أو لا يدع فإن ترك فراغاً فقد تجزأ الممسوس وإن لم يترك فراغاً فلا يتأتى أن يماسه آخر غير المماس الأول‏ وقد ماسه آخر‏.‏

هذا خلف‏.‏

وكذلك في كل جزء موضوع على جزأين متصل وغيره‏.‏

من تركيب المربعات منها لمساواة الأقطار والأضلاع ومن جهة مسامتات الظل والشمس‏.‏

دلائل على أن الجزء الذي لا يتجزأ البتة‏:‏ محال وجوده‏.‏

فنتكلم بعد هذه المقدمة في مسائل هذا العلم‏.‏

ونحصرها في ست مقالات‏.‏

المقالة الأولى‏ في لواحق الأجسام الطبيعية مثل الحركة والسكون والزمان والمكان والخلاء والتناهي والجهات والتماس والالتحام والاتصال والتتالي‏.‏

أما الحركة‏:‏ فتقال على تبدل حال قارة في الجسم يسيراً على سبيل الاتجاه نحو شيء والوصول إليه هو بالقوة أو بالفعل فيجب أن تكون الحركة مفارقة الحال ويجب أن يقبل الحال التنقص والتزيد ويكون باقياً غير متشابه الحال في نفسه وذلك مثل السواد والبياض والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والطول والقصر والقرب والبعد وكبر الحجم وصغره فالجسم إذا كان في مكان فتحرك فقد حصل فيه كمال وفعل أول يتوصل به إلى كمال وفعل ثان هو الوصول فهو في المكان الأول‏ بالفعل وفي المكان الثاني بالقوة فالحركة‏:‏ كمال أول لما بالقوة من جهة ما هو بالقوة ولا يكون وجودها إلا في زمان بين القوة المحصنة والفعل المحض وليست من الأمور التي تحصل بالفعل حصولاً قاراً مستكملاً وقد ظهر أنها في كل أمر يقبل التنقص والتزيد وليس شيء من بجواهر كذلك فإذاً‏:‏ لا شيء من الحركات في الجوهر‏.‏

وكون الجوهر وفساده ليس بحركة بل هو أمر يكون دفعة‏.‏

وأما الكمية فلأنها تقبل التزيد والتنقص فخليق أن يمون فيها حركة كالنمو والذبول والتخلخل والتكاثف‏.‏

وأما الكيفية فما يقبل منها التنقص والتزيد والاشتداد كالتبيض والتسود فيوجد فيه الحركة‏.‏

وأما المضاف فأبداً عارض لمقولة من البواقي في قبول التنقص والتزيد فإذا أضيفت إليه حركة فذلك بالحقيقة لتلك المقولة‏.‏

وأما الأين فإن وجود الحركة فيه ظاهر وهو النقلة‏.‏

وأما متى فإن وجوده للجسم بتوسط الحركة فكيف يكون فيه الحركة ولو كان ذلك لكان لمتى متى آخر‏.‏

وأما الوضع فإن فيه حركة على رأينا خاصة كحركة الجسم المستدير على نفسه إذ لو توهم المكان المطيف به معدوماً لما امتنع كونه متحركاً‏.‏

ولو قدر ذلك في الحركة المكانية لامتنع ومثاله في الموجودات‏:‏ الجرم الأقصى الذي ليس وراءه جسم‏.‏

والوضع يقبل التنقص والاشتداد فيقال‏:‏ انصب وأنكس‏.‏

وأما الملك فإن تبدل الحال فيه تبدل أولاً في الأين فإذاً الحركة فيه بالعرض‏.‏

وأما أن يفعل فتبدل الحال فيه بالقوة أو العزيمة أو الآلة فكانت الحركة في قوة الفاعل أو عزيمته أو آلته أولاً وفي الفعل بالعرض‏.‏

على أن الحركة إن كانت خروجاً عن هيئة فهي عن هيئة قارة وليس شيء من الأفعال كذلك فإذاً‏:‏ لا حركة بالذات إلا‏:‏ في الكم والكيف والأين والوضع وهو كون الشيء بحيث لا يجوز أن يكون على ما هو عليه من أينه وكمه وكيفه ووضعه قبل ذلك ولا بعده‏.‏

والسكون‏:‏ هو عدم هذه الصورة في ما من شأنه أن توجد فيه وهذا العدم له معنى ما ويمكن أن يرسم وفرق بين عدم القرنين في الإنسان وهو السلب المطلق عقداً وقولاً وبين عدم المشي له فهو حالة مقابلة للمشي توجد عند ارتفاع علة المشي وله وجود ما بنحو من الأنحاء وله علة ثم اعلم أن كل حركة توجد في الجسم فإنما توجد لعلة محركة إذ لو تحرك بذاته وبما هو جسم لكان كل جسم متحركاً فيجب أن يكون المحرك معنى زائداً على هيولى الجسمية وصورتها ولا يخلو‏:‏ إما أن يكون ذلك المعنى في الجسم وإما أن لا يكون فإن كان المحرك مفارقاً فلا بد لتحريكه من معنى في الجسم قابل لجهة التحريك والتغيير‏.‏

ثم المتحرك لمعنى في ذاته يسمى متحركاً بذاته وذلك إما أن تكون العلة الموجودة فيه يصح عنها أن تحرك تارة ولا تحرك أخرى فيسمى متحركاً بالاختيار وإما أن لا يصح فيسمى متحركاً بالطبع‏.‏

والمتحرك بالطبع لا يجوز أن يتحرك وهو على حالته الطبيعية لأن كل ما اقتضاه طبيعة الشيء لذاته ليس يمكن أن يفارقه إلا والطبيعة قد فسدت‏.‏

وكل حركة تتعين في الجسم فإنها يمكن أن تفارق والطبيعة لم تبطل لكن الطبيعة إنما تقتضي الحركة للعود إلى حالتها الطبيعية فإذا عادت ارتفع الموجب للحركة وامتنع أن يتحرك فيكون مقدار الحركة على مقدار البعد من الحالة الطبيعية‏.‏

وهذه الحركة ينبغي أن تكون مستقيمة إن كانت في المكان لأنها لا تكون إلا لميل طبيعي وكل ميل طبيعي فعلى أقرب مسافة وكل ما هو على أقرب المسافة فهو على خط مستقيم فالحركة المكانية المستديرة ليست طبيعية ولا الحركة الوضعية فإن كل حركة طبيعية فإنها لهرب عن حالة غير طبيعية ولا يجوز أن يكون فيه قصد طبيعي بالعود إلى ما فارقه بالهرب إذ لا اختيار لها وقد تحقق العود فهي إذاً غير طبيعية فهي إذاً عن اختيار وإرادة ولو كانت عن قسر فلا بد أن ترجع إلى الطبع أو الاختيار‏.‏

وأما الحركات في أنفسها فيتطرق غليها الشدة والضعف فيتطرق إليها الشرعة والبطء لا بتخلل سكنات‏.‏

وهي قد تكون واحدة بالجنس إذا وقعت في مقولة واحدة أو في جنس واحد من الأجناس التي تحت تلك المقولة وقد تكون واحدة بالنوع وذلك إذا كانت ذات جهة مفروضة عن جهة واحدة إلى جهة واحدة في نوع واحد وفي زمان مساو مثل تبييض ما يتبيض وقد تكون واحدة بالشخص وذلك إذا كانت عن متحرك واحد بالشخص في زمان واحد ووحدتها بوجود الاتصال فيها‏.‏

والحركات المتفقة في النوع لا تتضاد‏.‏

وأما تطابق الحركات فيعني بها التي يجوز أن يقال لبعضها أسرع من بعض أو أبطأ أو مساو والأسرع هو الذي يقطع شيئاً مساوياً لما يقطعه الآخر في زمان اقصر وضده الأبطأ والمساوي معلوم‏.‏

وقد يكون التطابق بالقوة وقد يكون بالفعل وقد يكون بالتخيل‏.‏

وأما تضاد الحركات فإن الضدين هما اللذين موضوعهما واحد وهما ذاتان يستحيل أن يجتمعا فيه وبينهما غاية الخلاف فتضاد الحركات ليس بتضاد الأطراف والجهات فعلى هذا لا تضاد بين الحركة المستقيمة والحركة المستديرة المكانية لأنهما لا يتضادان في الجهات بل المستديرة لا جهة فيها بالفعل لأنها متصل واحد فالتضاد في الحركات المكانية المستقيمة يتصور فالهابطة ضد الصاعدة والمتيامنة ضد المتياسرة‏.‏

وأما التقابل بين الحركة والسكون فهو تقابل العدم والملكة وقد بينا أن ليس كل عدم هو السكون بل هو عدم ما من شأنه أن يتحرك ويختص ذلك بالمكان الذي تتأتى فيه الحركة‏.‏

والسكون في المكان المقابل إنما يقابل الحركة عنه لا الحركة إليه بل ربما كان هذا السكون استكمالاتها‏.‏

وإذا عرفت ما ذكرناه سهل عليك معرفة الزمان بأن تقول‏:‏ كل حركة تفرض في مسافة على مقدار من السرعة وأخرى معها على مقدارها وابتدأتا معاً فإنهما يقطعان المسافة معاً وإن ابتدأت إحداهما ولم تبتدئ الأخرى ولكن تركتا الحركة معاً فإن إحداهما تقطع دون ما تقطعه الأولى‏‏.‏

وإن ابتدأ معه بطيء واتفقا في الأخذ والترك وجد البطيء قد قطع أقل والسريع أكثر وكان بين أخذ السريع الأول‏ وتركه إمكان قطع مسافة معينة بسرعة معينة وأقل منها ببطء معين وبين أخذ السريع الثاني وتركه إمكان أقل من ذلك بتلك السرعة المعينة‏.‏

يكون هذا الإمكان طابق جزءاً من الأول‏ ولم يطابق جزءاً مقتضياً وكان من شأن هذا الإمكان التقضي لأنه لو ثبت للحركات بحال واحدة لكانت تقطع المتفقات في السرعة أي وقت ابتدأت وتركت مسافة واحدة بعينها ولما كان إمكان أقل من إمكان فوجد في هذا الإمكان زيادة ونقصان يتعينان فكان ذا مقدار مطابق للحركة فإذاً ههنا مقدار للحركات مطابق لها‏.‏

وكل ما طابق الحركات فهو متصل ويقتضي الاتصال تجدده وهو الذي نسمبه‏:‏ الزمان‏.‏

ثم هو لا بد وأن يكون في مادة ومادته الحركة فهو مقدار الحركة‏.‏

وإذا قدرت وقوع حركتين مختلقتين في العدم كان هناك إمكانان مختلفان بل مقداران مختلفان‏.‏

وقد سبق أن الإمكان والمقدار لا يتصور إلا في موضوع فليس الزمان محدثاً حدوثاً زمانياً بحيث يسبقه زمان لأن كلامنا في ذلك الزمان بعينه وإنما حدوثه حدوث إبداع لا يسبقه إلا مبدعه‏.‏

وكذلك ما يتعلق به الزمان ويطابقه فالزمان متصل يتهيأ أن ينقسم بالتوهم فإذا قسم ثبتت منه آنات وانقسم إلى الماضي والمستقبل وكونهما فيه ككون أقسام العدد في العدد وكون الآن فيه كالوحدة في العدد وكون المتحركات فيه ككون المعدودات في العدد‏.‏

والدهر هو المحيط بالزمان‏.‏

وأقسام الزمان ما فصل منه بالتوهم كالساعات والأيام والشهور والأعوام‏.‏

وأما المكان فيقال مكان‏:‏ لشيء يكون محيطاً بالجسم ويقال‏:‏ لشيء يعتمد عليه الجسم‏.‏

والأول هو الذي يتكلم فيه الطبيعي وهو حاو للمتمكن مفارق له عند الحركة ومساو له وليس هو شيئاً في المتمكن وكل هيولى وصورة فهو منن المتمكن فليس إذا المكان إذاً بهيولى وصورة ولا الأبعاد التي يدعى أنها مجردة عن المادة قائمة بمكان الجسم المتمكن لا مع امتناع خلوها كما يراه قوم ولا مع جواز خلوها كما يظنه مثبتو الخلاء‏.‏

ونقول في نفي الخلاء‏:‏ إن فرض خلاء خال فليس هو لا شيئاً محضاً بل هو ذات ما له كم لأن كل خلاء يفرض فقد يوجد خلاء آخر أقل منه أو اكثر ويقبل التجزؤ في ذاته‏.‏

والمعدوم واللا شيء ليس يوجد هكذا فليس الخلاء لا شيء فهو ذو كم‏.‏

وكل كم فإما متصل وإما منفصل والمنفصل لذاته عديم الحد المشترك بين أجزائه وقد تقرر في الخلاء حد مشترك فهو إذاً متصل الأجزاء منحازها في جهات فهو إذاً كم ذو وضع قابل للأبعاد الثلاثة كالجسم الذي يطابقه وكأنه جسم تعليمي مفارق للمادة‏.‏

فنقول‏:‏ الخلاء المقدر إما أن يكون موضوعاً لذلك المقدار أو يكون الوضع والمقدار جزأين من الخلاء والأول باطل فإنه إذا رفع المقدار في التوهم‏:‏ كان الخلاء وحده بلا مقدار بنفسه لا لمقدار حله وإن كان الخلاء مجموع مادة ومقدار فالخلاء إذا جسم فهو ملاء‏.‏

وأيضاً فإن كل شيء يقبل الاتصال والانفصال فهو ذو مادة مشتركة قابلة لهما كما بينا والخلاء لا مادة له فلا يجوز عليه الانفصال والاتصال ونقول‏:‏ إن التمانع محسوس بين الجسمين وليس التمانع من حيث المادة لأن المادة من حيث إنها مادة لا انحياز لها عن الأجزاء وإنما ينحاز الجسم عن الجسم لأجل صورة البعد فطباع الأبعاد تأبى التداخل وتوجب المقاومة والتنحي‏.‏

وأيضاً فإن بعداً لو دخل فإما أن يكونا جميعاً فهما أزيد من الواحد وكل ما هو عظيم وهو أزيد فهو أعظم‏.‏

وإن عدما جميعاً‏.‏

أو وجد أحدهما‏‏ وعدم الآخر فليس مداخلة‏.‏

فإذا قيل‏:‏ ونقول في نفي اللانهاية عن الجسم‏:‏ إن كل موجود الذات ذا وضع وترتيب فهو متناه إذ لو كان غير متناه فإما أن يكون غير متناه من الأطراف كلها أو غير متناه من طرف‏.‏

فإن كل غير متناه من طرف أمكن أن يفصل منه من الطرف المتناهي جزء بالتوهم قيوجد ذلك المقدار مع ذلك الجزء شيئاً على حدة إما أن يكونا بحيث يمتدان معاً متطابقين في الامتداد فيكون الزائد والناقص متساويين وهذا محال وإما أن لا يمتد بل يقصر عنه فيكون متناهياً والفصل أيضاً كان متناهياً فيكون المجموع متناهياً فالأصل متناه‏.‏

وأما إذا كان غير متناه من جميع الأطراف فلا يبعد أن يفرض ذا مقطع تتلاقى عليه الأجزاء ويمون طرفاً ونهاية ويكون الكلام في الأجزاء والجزأين كالكلام في الأول‏‏.‏

وبهذا يتأتى البرهان على أن العدد المترتب الذات الموجود بالفعل متناه وأن ما لا يتناهى بهذا الوجه هو الذي إذا وجد وفرض أنه يحتمل زيادة ونقصاناً وجب أن يلزم ذلك محال‏.‏

وأما إذا كانت أجزاؤه لا تتناهى وليست معاً وكانت في الماضي والمستقبل فغير ممتنع وجودها واحداً قبل آخر أو بعده لاحقاً أو كانت ذات عدد مرتب في الوضع ولا الطبع فلا مانع عن وجوده معاً وذلك أن ما لا يترتب له في الوضع أو الطبع فلن يحتمل الانطباق وما لا وجود له معاً فهو فيه أبعد ونقول في إثبات التناهي في القوى الجسمانية ونفي التناهي عن القوى غير الجسمانية‏:‏ قال‏:‏ الأشياء التي يمتنع فيها وجود غير المتناهي بالفعل فليس يمتنع فيها من جميع الوجوه فإن العدد لا يتناهى أي بالقوة وكذلك الحركات لا تتناهى بالقوة لا القوة التي تخرج إلى الفعل بل بمعنى أن الأعداد يتأتى أن تتزايد فلا تقف عند نهاية أخيرة‏.‏

واعلم أن القوى تختلف في الزيادة والنقصان بالنسبة إلى شدة ظهور الفعل عنها أو إلى عدة ما يظهر عنها أو إلى مدة بقاء الفعل وبينها فرقان بعيدان فإن جل ما يكون زائداً بنوع الشدة يكون ناقصاً بنوع المدة‏.‏

وكل قوة حركت أشد فمدة حركتها أقصر وعدة حركتها أكثر ولا يجوز أن تكون قوة غير متناهية بحسب اعتبار الشدة لأن ما يظهر من الأحوال القابلة لها لا يخلو‏:‏ إما أن يقل الزيادة على ما ظهر فيكون متناهياً يجوز عليه زيادة في آخره وإما أن لا يقبل فهو النهاية في الشدة فكل قوة جسمانية متجزئة ومتناهية‏.‏

وأما الكلام في الجهات فمن المعلوم أنا لو فرضنا خلاء فقط أو أبعاداً أو جسماً غير متناه فلا يمكن أن يكون للجهات المختلفة بالنوع وجود البتة فلا يكون فوق وسفل ويمين ويسار وقدام وخلف فالجهات إنما تتصور في أجسام متناهية فتكون الجهات أيضاً متناهية ولذلك يتحقق إليها إشارة‏.‏

ولذاتها اختصاص وانفراد عن جهة أخرى‏.‏

وإذا كانت الأجسام كرية فيكون تحدد الجهات على سبيل المحيط والمحاط والتضاد فيها على سبيل المركز والمحيط‏.‏

وإذا كان الجسم المحدد محيطاً كفى لتحديد الطرفين لأن الإحاطة تثبت المركز فتثبت غاية البعد منه وغاية القرب من غير حاجة إلى جسم آخر‏.‏

وأما إن فرض محاطاً لم تتحدد به وحده الجهات لأن القرب يتحدد به والبعد منه يتحدد بجسم آخر إذ لا خلاء وذلك ينتهي لا محالة إلى محيط‏.‏

ويجب أن تكون الأجسام المستقيمة الحركة لا يتأخر عنها وجود الجهات لأمكنتها وحركاتها بل الجهات تحصل بحركاتها فيجب أن يكون الجسم الذي تتحدد الجهات إليه جسماً متقدماً عليه وتكون إحدى الجهات بالطبع وسائر الجهات لا تكون واجبة في الأجسام بما هي أجسام بل بما هي حيوانات فتتميز فيها جهة القدام الذي إليه الحركة الاختيارية واليمين الذي منه مبدأ القوة والفوق إما بقياس فوق العالم والسفل محدودان بطرفي البعد الذي الأولى‏ أن يسمى طولاً واليمين واليسار بما الأولى‏ أن يسمى عرضاً والقدام والخلف بما الأولى‏ أن يسمى عمقاً‏.‏

المقالة الثانية‏ في الأمور الطبيعية وغير الطبيعية للأجسام‏.‏

من المعلوم أن الأجسام تنقسم إلى بسيطة ومركبة وأن لكل جسم حيزاً ما ضرورة فلا يخلو‏:‏ إما أن يكون كل حيز له طبيعياً أو منافياً لطبيعته أو لا طبيعياً ولا منافياً أو بعضه طبيعياً وبعضه منافياً‏.‏

وبطل أن يكون كل حيز له طبيعياً لأنه يلوم منه أن يكون مفارقة كل مكان له خارجاً عن طبعه أو التوجه إلى كل مكان له ملائماً لطبعه وليس الأمر كذلك فهو خلف‏.‏

وبطل أن يكون كل حيز منافياً لطبعه لأنه يلزم منه أن لا يسكن جسم البتة بالطبع ولا يتحرك أيضاً وكيف يسكن أو يتحرك بالطبع وكل مكان مناف لطبعه‏.‏

وبطل أن يكون كل مكان لا طبيعياً ولا منافياً لأنا إذا اعتبرنا الجسم على حالته وقد ارتفع عنه القواسر والعوارض فحينئذ لا بد له من حيز يختص به ويتحيز إليه وذلك هو حيزه الطبيعي فلا يزول عنه إلا بقسر قاسر‏.‏

وتعين القسم الرابع‏:‏ لأن بعض الأحياز له طبيعي وبعضها غير طبيعي‏.‏

وكذلك نقول في الشكل‏:‏ إن لكل جسم شكلاً ما بالضرورة لتناهي حدوده وكل شكل فإما طبيعي له أو بقسر قاسر وإذا ارتفعت القواسر في التوهم واعتبرت الجسم من حيث هو جسم وكان في نفسه متشابه الأجزاء فلا بد أن يكون شكله كرياً لأن فعل الطبيعة في المادة واحد متشابه فلا يمكن أن يفعل في جزء زاوية وفي جزء خطاً مستقيماً أو منحنياً فينبغي أن يتشابه الأجزاء فيجب أن يكون الشكل كرياً‏.‏

وأما المركبات فقد تكون أشكالها غير كرية لاختلاف أجزائها‏.‏

فالأجسام السماوية كلها كرية‏.‏

وإذا تشابهت أجزاؤها وقواها كان حيزها الطبيعي وجهتها واحدة فلا يتصور أرضا في وسطين في عالمين ولا ناران في أفقين بل لا يتصور عالمان لأنه قد ثبت أن العالم بأسره كري الشكل فلو قدر كريان أحدهما‏‏ بجنب الآخر كان بينهما خلاء ولا يتصلان إلا بجزء واحد لا ينقسم وقد تقدم استحالة الخلاء‏.‏

وأما الحركة فمن المعلوم أن كل جسم اعتبر ذاته من غير عارض بل من حيث هو جسم في حيز فهو إما أن يكون متحركاً وإما أن يكون ساكناً وذلك ما نعنيه بالحركة الطبيعية والسكون الطبيعي فنقول‏:‏ إن كان الجسم بسيطاً كانت أجزاؤه متشابهة وأجزاء ما يلاقيه وأجزاء مكانه كذلك فلم يكن بعض الأجزاء أولى بأن يختص بعض أجزاء المكان من بعض فلم يجب أن يكون شيء منها له طبيعياً فلا يمتنع أن يكون على غير ذلك الوضع بل في طباعه أن يزول عن ذلك الوضع أو الأين بالقوة وكل جسم لا ميل له في طبعه فلا يقبل الحركة عن سبب خارج فبالضرورة في طباعه حركة ما إما لكله وإما لأجزائه حتى يكون متحركاً في الوضع بحركة الأجزاء وإذا‏:‏ صح أن كل قابل تحريك ففيه مبدأ ميل ثم لا يخلو إما أن يكون على الاستقامة أو على الاستدارة‏.‏

والأجسام السماوية لا تقبل الحركة المستقيمة كما سبق فهي متحركة على الاستدارة وقد بينا استناد حركاتها إلى مبادئها‏.‏

وأما الكيف فنقول أولاً‏:‏ إن الأجسام السماوية ليست موادها مشتركة بل هي مختلفة بالطبع كما أن صورها مختلفة ومادة الواحدة منها لا يصلح أن تتصور بصورة الأخرى ولو أمكن ذلك كذلك لقبلت الحركة المستقيمة وهو محال‏.‏

فلها طبيعة خامسة مختلفة بالنوع بخلاف طبائع العناصر فإن مادتها مشتركة وصورها مختلفة وهي تنقسم إلى حار يابس كالنار وإلى حار رطب كالهواء وإلى بارد رطب كالماء وإلى بارد يابس كالأرض وهذه أعراض فيها لا صور ويقبل الاستحالة بعضها إلى بعض ويقبل النمو والذبول ويقبل الآثار من الأجسام السماوية‏.‏

وأما الكيفيات فالحرارة والبرودة فاعلتان فالحار هو الذي يغير جسماً آخر بالتحليل والخلخلة بحيث يألم الحاس منه والبارد هو الذي يغير جسماً بالتعقيد والتكثيف بحيث يألم الحاس منه‏.‏

وأما الرطوبة واليبوسة فمنفعلتان فالرطب هو سهل القبول للتفريق والجمع والتشكيل والدفع واليابس هو عسر القبول لذلك‏.‏

فبسائط الأجسام المركبة تختلف وتتمايز بهذه القوى الأربع ولا يوجد شيئاً منها عديماً لواحدة من هذه‏.‏

وليست هذه صوراً مقومة للأجسام لكنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع من خارج ظهر منها في أجرامها حر أو برد ورطوبة ويبس كما أنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع ظهر منها إما سكون أو ميل وحركة فلذلك قيل قوة طبيعية وقيل النار حارة بالطبع والسماء متحركة بالطبع‏.‏

فعرفت الأحياز الطبيعية والأشكال الطبيعية والحركات الطبيعية والكيفيات الطبيعية‏.‏

وعرفت أن إطلاق الطبيعية عليها بأي وجه فنقول بعد ذلك‏:‏ إن العناصر قابلة للاستحالة والتغير وبينها مادة مشتركة والاعتبار في ذلك بالمشاهدة فإنا نرى الماء العذب انعقد حجراً جلمد والحجر يكلس فيعود رماداً ويرام بالحيلة حتى يصير ماء فالمادة مشتركة بين الماء والأرض‏.‏

ونشاهد هواء صحواً يغلظ دفعة فيستحيل أكثره أو كله ماء وبرداً وثلجاً ونضع الجمد في كوز صفر فنجد من الماء المجتمع على سطحه كالقطر ولا يمكن أن يكون ذلك بالرشح لأنه ربما كان ذلك حيث لا يماسه الجمد وكان فوق مكانه ثم لا نجد مثله إذا كان حاراً والكوز مملوءا ويجتمع مثل ذلك داخل الكوز حيث لا يماسه الجمد وقد يدفن القدح في جمد محفور حفراً مهندماً ويسد رأسه عليه فيجتمع فيه ماء كثير وإن وضع في الماء الحار الذي يغلي مدة واستد رأسه لم يجتمع شيء وليس ذلك إلا لأن الهواء الخارج أو الداخل قد استحال ماء فبين الماء والهواء مادة مشتركة‏.‏

وقد يستحيل الهواء ناراً وهو ما نشاهد من آلات حاقنة مع تحريك شديد على صورة المنافخ فيكون ذلك الهواء بحيث يشتعل في الخشب وغيره وليس ذلك على طريق الانجذاب لأن النار لا تتحرك إلا على سبيل الاستقامة إلى العلو ولا على طريق الكمون إذ من المستحيل أن يكون في ذلك الخشب من النار الكامنة ما له ذلك القدر الذي في الجمرة ولا يحترق والكمون أجمع لها والمنتشر أضعف تأثيراً من المجتمع فتعين أنه هواء اشتعل ناراً فبين النار والهواء مادة مشتركة‏.‏

ونقول‏:‏ إن العناصر قابلة للكبر والصغر والتكاثف والتخلخل فيصير جسم أكبر من جسم من غير زيادة من خارج ويصير أصغر من غير نقصان فبين الكبير والصغير مادة مشتركة إذ قد تحقق أن المقدار عرض في الهيولى والكبر والصغر أعراض في الكميات‏.‏

وقد نشاهد ذلك إذا أغلي الماء انتفخ وتخلخل والخمر ينتفخ في الدن حتى يتصعد عند الغليان وكذلك القمقمة الصياحة وهي إذا كانت مسدودة الرأس مملوءة بالماء وأوقدت النار تحتها انكسرت وتصدعت ولا سبب له إلا أن الماء صار أكثر مما كان ولا جائز من الماء ولا خلاء فيه ولا جائز أن يقال‏:‏ إن النار طلبت جهة الفوق بطبعها فإنه كان ينبغي أن ترفع الإناء وتطيره لا أن تكسره وإذا كان الإناء صلباً خفيفاً كان رفعه أسهل من كسره فتعين أن السبب انبساط الماء في جميع الجوانب ودفعه سطح الإناء إلى الجوانب فيتفتق الموضع الذي كان أضعف وله أمثلة أخرى تدل على أن المقدار يزيد وينقص‏.‏

ونقول‏:‏ إن العناصر قابلة للتأثيرات السماوية‏:‏ غما آثار محسوسة مثل نضج الفواكه ومد البحار وأظهرها الضوء والحرارة بواسطة الضوء والتحريك إلى فوق بتوسط الحرارة والشمس ليست بحارة ولا متحركة إلى فوق وإنما تأثيراتها معدات للمادة في قبول الصورة من واهب الصور وقد يكون للقوى الفلكية تأثيرات خارجة من العنصريات وإلا فكيف يبرد الأفيون أقوى مما يبرد الماء والجزء البارد فيه مغلوب بالتركيب مع الأضداد وكيف يفعل ضوء الشمس في عيون العشي والنبات بأدنى تسخين ما لا تفعله النار بتسخين يكون فوقه‏.‏

فتبين أن العناصر كيف قبلت الاستحالة والتغير والتأثير‏.‏

وتبين ما لها بالعنصر والجوهر‏.‏

المقالة الثالثة‏ في المركبات والآثار العلوية‏.‏

قال ابن سينا‏:‏ إن العناصر الأربعة عساها أن لا توجد كلياتها صرفة بل يكون فيها اختلاط ويشبه أن تكون النار أبسطها في موضعها ثم الأرض أما النار فلأن ما يخالطها يستحيل إليها لقوتها وأما الأرض فلأن نفوذ قوى ما يحيط بها في كليتها بأسرها كالقليل وعسى أن يكون باطنها القريب من المركز يقرب من البساطة ثم الأرض على طبقات‏:‏ الطبقة الأولى‏ القريبة من المركز والثانة الطين والثالثة‏‏ بعضها ماء وبعضها طين جففته الشمس وهو البر‏.‏

والسبب في أن الماء غير محيط بالأرض أن الأرض تنقلب ماء فتحصل وهدة والماء يستحيل أرضاً فتحصل ربوة والأرض صلب وليس بسيال كالماء والهواء حتى ينصب بعض أجزائه إلى بعض ويتشكل بالاستدارة‏.‏

وأما الهواء فهو أربع طبقات‏:‏ طبقة تلي الأرض فيها مائية من البخارات وحرارة لأن الأرض تقبل الضوء من الشمس فتحمي فتتعدى الحرارة إلى ما يجامرها وطبقة لا تخلو عن رطوبة بخارية ولكن أقل حرارة وطبقة هي هواء صرف صاف وطبقة دخانية لأن الأدخنة ترتفع إلى الهواء وتقصد مركز النار فتكون كالمنتشر في السطح الأعلى من الهواء إلى أن تتصعد فتحترق‏.‏

وأما النار فإنها طبقة واحدة ولا ضوء لها بل هي كالهواء المشف الذي لا لون له وإن رئي لون للنار فهي بما يخالطها من الدخان صارت ذات لون‏.‏

ثم فوق النار الأجرام العالية الفلكية والعناصر بطبقاتها طوعها والكائنات الفاسدات تتولد من تأثيراتها‏.‏

والفلك وإن لم يكن حاراً ولا بارداً فإنه ينبعث منه في الأجرام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض منه إليها ونشاهد هذا من إحراق شعاعه المنعكس على المرائي ولو كان سبب الإحراق حرارة الشمس دون شعاعه لكان كل ما هو أقرب إلى العلو أسخن بل سبب الإحراق التفاف الشعاع الشمسي المسخن لما يلتف به فيسخن الهواء فالفلك إذاً هيج بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية الأرضية‏.‏

والبخار أقل مسافة وأثار شيئاً بين الغبار والدخان من الأجسام المائية الأرضية‏.‏

والبخار أقل مسافة في صعوده من الدخان لأن الماء إذا سخن كان حاراً رطباً‏.‏

والأجزاء الأرضية إذا سخنت ولطفت كانت حارة يابسة والحار الرطب أقرب إلى طبيعة الهواء والحار اليابس أقرب إلى طبيعة النار‏.‏

والبخار لا يجاوز مركز الهواء بل إذا وافى منقطع تاثير الشعاع برد وكثف والدخان يتعدى حيز الهواء حتى يوافي تخوم النار وإذا احتبستا فيهما حدثت كائنات أخر‏.‏

فالدخان إذا وافى حيز النار اشتغل وإذا اشتعل فربما سعى فيه الاشتعال فرئي كأنه كوكب يقذف به وربما احترق وثبت فيه الاحتراق فرئيت العلامات الهائلة الحمر والسود ز ربما كان غليظاً ممتداً وثبت فيه الاشتعال ووقف تحت كوكب ودارت به النار بدوران الفلك وكان ذنباً له وربما كان عريضاً فرئي كأنه لحية كوكب وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب المذكور فانضغطت مشتعلة وإن بقي شيء من الدخان في تضاعيف الغيم وبرد صار ريحاً وسط الغيم يتحرك عنه بشدة يحصل منه صوت يسمى الرعد وإن ناراً مضيئة تسمى البرق وإن كان المشتعل كثيفاً ثقيلاً محرقاً اندفع بمصادمات الغيم إلى جهة الأرض فيسمى صاعقة ولكنها نار لطيفة تنفذ في الثياب والأشياء الرخوة وتنصدم بالأشياء الصلبة كالذهب والحديد فيذيبه حتى يذيب الذهب في الكيس ولا يحرق الكيس ويذيب ذهب المراكب ولا يحرق السير‏.‏

ولا يخلو برق عن رعد لأنهما جميعاً عن الحركة ولكن البصر أحد فقد يرى البرق ولا ينتهي صوت الرعد إلى السمع وقد يرى متقدماً ويسمع متأخراً‏.‏

وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جداً ويتراكم ويكثر مدده في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحاباً والقاطر مطراً ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعاً وينزل كما لو يوافيه برد الليل سريعاً قبل أن يتركم سحاباً وهذا هو الطل وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب فنزل وكان ثلجاً وربما جمد البخار غير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل فنزل وكان صقيعاً وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات ماء فكان برداً وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب وفي الربيع وهو داخل السحاب وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة وربما تكاثف في الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحاباً واستحال مطراً‏.‏

ثم ربما وقع على صقيل الظاهر من السحاب صور النيرات وأضواؤها كما يقع في المرائي والجدران الثقيلة فيرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها وبعدها من المرئي وصفائها وكدورتها واستوائها ورعشتها وكثريها وقلتها فيرى هالة وقوس قزح وشموس وشهب‏.‏

 

فالهالة تحدث على انعكاس البصر عن الرش المطيف بالنير إلى النير حيث يكون الغمام المتوسط لا يخفي النير فيرى دائرة كأنها منطقة محورها الخط الواصل بين الناظر وبين النير وما في داخلها ينفذ عن البصر إلى النير ونوره الغالب على أجزاء الرش يجعله كأنه غير موجود وكأن الغيم هناك هواء شفاف‏.‏

وأما القوس فإن الغمامة يكون في خلاف جهة النير فتنعكس الزوايا عن الرش إلى النير لا بين الناظر والنير بل الناظر أقرب إلى النير منه إلى المرآة فتقع الدائرة التي هي كالمنطقة أبعد من الناظر إلى النير فإن كانت الشمس على الأفق كان الخط المار بالناظر والنير على بسيط الأفق وهو المحور فيجب أن يكون سطح الأفق يقسم المنطقة بنصفين فيرى القوس نصف دائرة فإن ارتفعت الشمس انخفض الخط المذكور فصار الظاهر في المنطقة الموهومة أقل من نصف دائرة وأما تحصيل الألوان على الجهة الشافية فإنه لم يستبن بعد‏.‏

والسحب ربما تفرقت وذابت فصارت ضباباً وربما اندفعت بعد التطلف إلى أسفل فصارت رياحاً وربما هاجت الرياح لاندفاع بعضها من جانب إلى جهة وربما هاجت لانبساط الهواء بالتخلخل عند جهة واندفاعه إلى أخرى وأكثر ما يهيج البرد الدخان المتصعد المجتمع الكثير ونزوله فإن مبادئ الرياح فوقانية وربما عطفها مقاومة الحركة الدورية التي تتبع الهواء العالي فانعطفت رياحاً والسموم ما كان منها محترقاً‏.‏

وأما الأبخرة داخل الأرض فتميل إلى جهة فتبرد فتستحيل ماء فيصعد بالمد فيخرج عيوناً وإن لم تدعها السخونة تبرد وكثرت وغلظت فلم تنفذ في مجاري مستحصفة فاجتمعت واندفعت مرة فزلزلت الأرض فخسفت وقد تحدث الزلزلة من تساقط أعالي وهدة في باطن الأرض فيموج بها الهواء المحتقن وإذا احتبست الأبخرة في باطن الجبال والكهوف فيتولد منها الجواهر إذا وصل إليها من سخونة الشمس وتأثير الكواكب حظ وذلك بحسب اختلاف المواضع والأزمان والمواد‏.‏

فمن الجواهر ما هو قابل للإذابة والطرق كالذهب والفضة ويمون قبل أن يصلب زئبقاً ونفطاً وانطراقها لحياة رطوبتها ولعصيانها الجمود التام‏.‏

ومنها ما لا يقبل ذلك‏.‏

وقد تتكون من عناصر أكوان أيضاً بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجاً أكثر اعتدالاً من المعادن فيحصل في المركب قوة عادية وقوة نامية وقوة مولدة وهذه القوى متمايزة بخصائصها‏.‏

المقالة الرابعة‏‏:‏ في النفوس وقواها‏.‏

اعلم أن النفس كجنس واحد ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها النباتية‏:‏ وهي الكمال الأول‏ لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتولد ويربو ويغتذي والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذي قيل إنه غذاؤه‏:‏ ويزيد فيه مقدار ما يتحلل أو أكثر أو أقل‏.‏

والثاني‏‏ النفس الحيوانية‏:‏ وهي الكمال الأول‏ لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة‏.‏

والثالث النفس الإنسانية‏:‏ وهي الكمال الأول‏ لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية‏.‏

وللنفس النباتية قوى ثلاث وهي‏:‏ القوة الغاذية‏:‏ وهي القوة التي تحيل جسماً آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه والقوة المنمية‏:‏ وهي قوة تزيد في الجسم الذي هي فيه بالجسم المتشبه به زيادة في أقطاره طولاً وعرضاً وعمقاً بقدر الواجب ليبلغ به كماله في النشوء والقوة المولدة‏:‏ وهي التي تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزءاً هو شبيه له بالقوة فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشابه به من التخليق والتمزيج ما يصير شبيهاً به بالفعل‏.‏

فللنفس النباتية ثلاث قوى‏.‏

وللنفس الحيوانية قوتان محركة ومدركة والمحركة على قسمين إما محركة بأنها باعثة وإما محركة بأنها فاعلة‏.‏

والباعثة‏:‏ هي القوة النزوعية الشوقية‏.‏

وهي القوة التي إذا ارتسمت في التخيل بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها حملت القوة التي تدركها على التحريك ولها شعبتان‏:‏ شعبة تسمى شهوانية وهي قوة تبعث على تحريك يقرب من الأشياء المتخيلة ضرورة أو نافعة طلباً للذة وشعبة تسمى غضبية وهي قوة تبعث على تحريك تدفع به الشيء المتخيل ضاراً أو مفسداً طلباً للغلبة‏.‏

وأما القوة المحركة على أنها فاعلة فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات ومن شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات إلى جهة المبدأ أو ترخيها أو تمددها طولاً فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ‏.‏

وأما القوة المدركة فتنقسم قسمين‏:‏ أحدهما‏‏ قوة تدرك من خارج وهي الحواس الخمس أو الثمانية‏:‏ فمنها البصر وهي قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقلية‏.‏

ومنها السمع وهي قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ تدرك صورة ما يتلأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاضاً بعنف يحدث منه تموج فاعل للصوت يتادى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموجه بشكل نفسه وتماس أمواج تلك الحركة العصبة فيسمع‏.‏

ومنها الشم وهي قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتتين بحلمتي الثدي تدرك ما يؤدي إليه الهواء المستنشق من الرائحة المخالطة لبخار الريح والمنطبع بالاستحالة من جرم ذي رائحة‏.‏

ومنها الذوق وهي قوة مرتبة في العصب المفروش على جرم اللسان تدرك الطعوم المتحللة من الأجسام المماسة المخالطة للرطوبة اللعابية التي فيه فتحيله‏.‏

ومنها اللمس وهي قوة منبثة في جلد البدن كله ولحمه فاشية فيه والأعصاب تدرك ما تماسه وتؤثر فيه بالمضادة وتغيره في المزاج أو الهيئة ويشبه أن تكون هذه القوة لا نوعاً بل جنساً لأربع قوى منبثة معاً في الجلد كله‏:‏ الواحدة حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد والثاني‏‏ة حاكمة في التضاد الذي بين الصلب واللين والثالثة‏‏ حاكمة في التضاد الذي بين الرطب واليابس والرابعة‏‏ حاكمة في التضاد الذي بين الخشن والأملس إلا أن اجتماعها معاً في آلة واحدة يوهم تأحدها في الذات‏.‏

والمحسوسات كلها تتأدى إلى آلات الحس فتنطبع فيها فتدركها القوة الحاسة‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ قوى تدرك في باطن فمنها ما يدرك صور المحسوسات ومنها ما يدرك معاني المحسوسات‏.‏

والفرق بين القسمين في أن الصورة هو الشيء الذي تدركه النفس الناطقة والحس الظاهر معاً ولكن الحس يدركه أولاً ويؤديه إلى النفس مثل إدراك الشاة صورة الذئب‏.‏

أو المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس أولاً مثل إدراك الشاة المعنى المضاد في الذئب الموجب لخوفها إياه وهربها عنه‏.‏

ومن المدركات الباطنة ما يدرك ويفعل ومنها ما يدرك ولا يفعل‏.‏

والفرق بين القسمين‏:‏ أن الفعل فيها هو أن تركب الصور والمعاني المدركة بعضها مع بعض وتفصل بعضها عن بعض فيكونه إدراك وفعل أيضاً فيما أدرك والإدراك لا مع الفعل هو أن تكون الصورة أو المنى ترتسم في القوة فقط من غير أن يكون لها فعل وتصرف فيه‏.‏

ومن المدركات الباطنة ما يدرك أولاً ومنها ما يدرك ثانياً والفرق بين القسمين‏:‏ أن الإدراك الأول‏ هو أن يكون حصول الصورة على نحو ما من الحصول قد وقع للشيء من نفسه والإدراك الثاني هو أن يكون حصولها من جهة شيء آخر أدى إليها‏.‏

ثم من القوى الباطنة المدركة الحيوانية قوة بنطاسية وهو الحس المشترك وهي قوة مرتبة في التجويف الأول‏ من مقدم الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس متأديه إليه‏.‏

ثم الخيال والمصورة وهي قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم من الدماغ تحفظ ما قله الحس المشترك من الحواس ويبقى فيها بعد غيبة المحسوسات‏.‏

والقوة التي تسمى متخيلة بالقياس إلى النفس الحيوانية وتسمى مفكرة بالقياس إلى النفس الإنسانية فهي قوة مرتبة في التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة من شأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض وتفصل بعضه عن بعض بحسب الاختيار‏.‏

ثم إن القوة الوهمية وهي قوة مرتبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب عنه وأن الولد معطوف عليه‏.‏

ثم القوة الحافظة الذاكرة وهي قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني غير المحسوسة في المحسوسات‏.‏

ونسبة الحافظة إلى الوهمية كنسبة الخيال إلى الحس المشترك إلا أن ذلك في المعاني وهذا في وأما النفس الناطقة للإنسان فتنقسم قواها أيضاً إلى قوة عالمة وقو عاملة وكل واحد من القوتين يسمى عقلاً باشتراك الاسم‏.‏

فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرؤية على مقتضى آراء تخصها إصلاحية ولها اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية واعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة واعتبار بالقياس إلى نفسها‏.‏

وقياسها إلى النزوعية أن تحدث عنها فيها هيئات تخص الإنسان تتهيأ بها لسرعة فعل وانفعال مثل الخجل والحياء والضحك والبكاء‏.‏

وقياسها إلى المتخيلة والمتوهمة هو أن تستعملها في استنباط التدابير في الأمور الكائنة والفاسدة واستنباط الصناعات الإنسانية‏.‏

وقياسها إلى نفسها أن فيما بينها وبين العقل النظري تتولد الآراء الذائعة المشهورة مثل إن الكذب قبيح والصدق حسن‏.‏

وهذه القوة هي التي يجب أن تتسلط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوة العاقلة حتى لا تنفعل عنه البتة بل ينفعل عنها فلا يحدث فيها عن البدن هيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية وهي التي تسمى أخلاقاً رذيلة بل تحدث في القوى البدنية هيئات انقيادية لها وتكون متسلطة عليها‏.‏

وأما القوة العالمة النظرية فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة فإن كانت مجردة بذاتها فذاك وإن لم تكن فإنها تسيرها مجردة بتجريدها إياها حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء‏.‏

ثم لها إلى هذه الصور نسب وذلك أن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئاً قد يكون بالقوة قابلاً لها وقد يكون بالفعل‏.‏

والقوة على ثلاثة أوجه‏:‏ قوة مطلقة هيولانية وهو الاستعداد المطلق من غير فعل ما كقوة الطفل على الكتابة وقوة ممكنة وهو استعداد مع فعل ما كقوة الطفل بعد ما تعلم بسائط الحروف وقوة تسمى ملكة وهي قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة ويكون له أن يفعل متى شاء بلا حاجة إلى اكتساب‏.‏

فالقوة النظرية قد تكون نسبتها إلى الصور نسبة الاستعداد المطلق وتسمى عقلاً هيولانياً وإذا حصل فيها من المعقولات الأولى‏ التي يتوصل بها إلى المعقولات الثانية‏ تسمى عقلاً بالفعل وإذا حصلت فيها المعقولات الثانية‏ المكتسبة وصارت محزونة له بالفعل متى شاء طالعها فإن كانت حاضرة عنده بالفعل تسمى عقلاً مستفاداً وإذا كانت مخزونة تسمى عقلاً بالملكة وههنا ينتهي النوع الإنساني ويتشبه بالمبادئ الأولى‏ للوجود كله‏.‏

وللناس مراتب في هذا الاستعداد فقد يكون عقل شديد الاستعداد حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كثير شيء من تخريج وتعليم حتى كأنه يعرف كل شيء من نفسه لا تقليداً بل بترتيب يشتمل على حدود وسطى فيه‏:‏ إما دفعة في زمان واحد وإما دفعات في أزمنة شتى وهي القوة القدسية التي تناسب روح القدس فيفيض عليها منه جميع المعقولات‏.‏

أو ما يحتاج إليه في تكميل القوة العملية‏.‏

فالدرجة العليا منها النبوة فربما يفيض عليها وعلى المتخيلة من روح القدس معقول تحاكيه المتخيلة بأمثلة محسوسة وكلمات مسموعة فيعبر عن الصورة بملك في صورة رجل وعن الكلام بوحي في صورة عبارة‏.‏

المقالة الخامسة‏ في أن النفس الإنسانية جوهر ليس بجسم ولا قائم بجسم‏.‏

وأن إدراكها قد يكون بآلات وقد يكون بذاتها بغير آلات‏.‏

وأنها واحدة وقواها كثيرة وأنها حادثة مع حدوث البدن وباقية بعد فناء البدن‏.‏

أما البرهان على أن النفس ليست بجسم هو أنا نحس من ذواتنا إدراكاً معقولاً مجرداً عن المواد وعوارضها أعني الكم والأين والوضع إما لأن المدرك لذاته مجرد كالعلم بالوحدة والعلم بالوجود مطلقاً وإما لان العقل جرده عن العوارض كالإنسان مطلقاً‏.‏

فيجب أن ينظر في ذات هذه الصورة المجردة كيف هي تجردها أبالقياس إلى الشيء المأخوذ عنه أم بالقياس إلى مجرد الآخذ ولا شك أنها بالقياس إلى المأخوذ عنه ليست مجردة فبقي أنها مجردة من الوضع والأين عند وجودها في العقل والجسم ذو وضع وأين وما لا وضع له لا يحل ما له وضع وأين‏.‏

وهذه الطريقة أقوى الطرق فإن الشيء المعقول الواحد الذات المتجرد عن المادة لا يخلو‏:‏ إما أن يكون له نسبة إلى بعض الأجزاء دون البعض فيحل في جهة دون جهة حتى يكون متيامناً أو متياسراً بالنسبة إلى المحل أو تكونه نسبته إلى الكل نسبة واحدة أو لا يكون لها نسبة إليه ولا له إلى جميع الأجزاء فإن ارتفعت النسبة من كل وجه ارتفع الحلول في جملة الجسم أو في جزء من أجزائه وإن تحققت النسبة صار الشيء المعقول ذا وضع وقد وضع غير ذي وضع هذا خلف‏.‏

وبه يتبين أن الصورة المنطبعة في المادة لا تكون إلا أشباحاً لأمور جزئية منقسمة ولكل جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منها‏.‏

وأيضاً فإن الشيء المتكثر في أجزاء الحد له من جهة التمام وحدة هو بها لا ينقسم فتلك الوحدة بما هي وحدة كيف ترتسم في منقسم‏.‏

وأيضاً من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحداً من المعقولات غير متناهية بالقوة وليس واحد أولى من الآخر وقد صح لنا أن الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون محله جسماً ولا قوة في جسم‏.‏

ومن الدليل القاطع على أن محل المعقولات ليس بجسم‏:‏ أن الجسم منقسم بالقوة بالضرورة وما لاينقسم لا يحل المنقسم والمعقول غير منقسم فلا يحل المنقسم‏:‏ أما أن الجسم منقسم فقد دللنا عليه وأما أن المعقول المجرد لا ينقسم فقد فرغنا عنه وأما أن لا ينقسم لا يحل منقسماً فإنا لو قسمنا المحل فلا يخلو‏:‏ إما أن يبطل الحال فيه وهذا كذب أو لا يبطل ولا يخلو‏:‏ إما أن يبقى حالاً في بعضه كما كان حالاً في كله وهذا محال فإنه يجب أن يكون حكم البعض حكم الكل وإما أن ينقسم بانقسام محله وقد فرض فير منقسم‏.‏

ثم لو فرض انقسام الحال فيه لا يخلو‏:‏ إما أن كون أجزاؤه متشابهة كالشكل المعقول أو العدد وليس كل صورة معقولة بشكل أو تكون الصورة المعقولة خيالية لا عقلية صرفة‏.‏

وأظهر من ذلك أنه ليس يمكن أن يقال‏:‏ إن كل واحد من الجزأين هو بعينه الكل في المعنى وإن كانت غير متشابهين مثل أجزاء الحد من الجنس والفصل فيلزم منه محالت‏:‏ منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضاً فيجب أن تكون الأجناس والفصول غير متناهية وهذا باطل‏.‏

وأيضاً فإنه إن وقع الجنس في جانب والفصل في جانب وهو محال ثم ليس أحد الجزءان أولى بقبول الجنس منه بقبول الفصل‏.‏

وأيضاً‏:‏ ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات ابسط فإن ههنا معقولات هي ابسط المعقولات ومبادئ للتركيب في سائر المعقولات وليس لها أجناس ولا فصول ولا انقسام في الكم ولا في المعنى فلا يتوهم فيها أجزاء مشابهة‏.‏

فتبين بهذه الجملة أن محل المعقولات ليس بجسم ولا قوة في جسم فهو إذاً‏:‏ جوهر معقول علاقته مع البدن لا علاقة حلول ولا علاقة انطباع بل علاقة التدبير والتصرف وعلاقته من جهة العلم الحواس الباطنة المذكورة وعلاقته من جهة العمل القوى الحيوانية المذكورة فيتصرف في البدن‏.‏

وله فعل خاص يستغني به عن البدن وقواه فإن من شأن هذا الجوهر أن يعقل ذاته ويعقل أنه عقل ذاته وليس بينه وبين ذاته آلة ولا بينه وبين آلته آلة فإن إدراك الشيء لا يكون إلا بحصول صورته فيه‏.‏

وما يقدر آلة من قلب أو دماغ لا يخل‏:‏ إما أن تكون صورته بعينها حاصلة للعقل حاضرة وإما أن تكون صورة غيرها بالعدد حاصلة أبداً فيجب أن يكون إدراك العقل لها حاصلاً أبداً وليس الأمر كذلك فإنه تارة يعقل وتارة يعرض عن الإدراك والأعراض عن الحاضر محال‏.‏

وباطل أن تكون الصور غير الآلة بالعدد فإنها إما أن تحل في نفس القوة من غير مشاركة الجسم فيدل ذلك على أنها قائمة بنفسها وليست في الجسم وإما بمشاركة الجسم حتى لا تكون هذه الصورة المغايرة في نفس القوة العقلية وفي الجسم الذي هو الآلة فيؤدي إلى اجتماع صورتين متماثلتين في جسم واحد وهو محال‏.‏

والمغايرة بين أشياء تدخل في حد واحد إما لاختلاف المواد أو لاختلاف ما بين الكلي والجزئي وليس هذان الوجهان فثبت أنه لا يحرز أن يدرك المدرك آلة هي آلته في الإدراك‏.‏

ولا يختص ذلك وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته ولهذا فإن القوى الداركة بانطباع الصور في الآلات يعرض لها الكلال من إدامة العمل والأمور القوية والشاقة الإدراك توهنها وربما تفسدها كالضوء الشديد للبصر والرعد القوي للسمع وكذلك عند إدراك القوي لا يقوى على إدراك الضعيف‏.‏

والأمر في القوة العقلية بالعكس فإن إدامتها للتعقل وتصورها الأمور الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول وإن عرض لها كلال وملال فلاستعانة العقل بالخيال‏.‏

على أن القوى الحيوانية ربما تعين النفس الناطقة في أشياء منها أن يورد عليها الحس جزئيات الأمور فيحدث لها أمور أربعة‏:‏ أحدها‏:‏ انتزاع النفس الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعلائقها ولواحقها ومراعاة المشترك فيه والمتباين به والذاتي وجوده والعرضي فيحدث للنفس من ذلك مبادئ بين هذه الكليات المفردة على مثل سلب وإيجاب فما كان التأليف منها بسلب وإيجاب ذاتياً بيناً بنفسه أخذته وما كان ليس كذلك تركته إلى يصادف الواسطة‏.‏

والثالث‏:‏ تحصيل المقدمات التجريبية بأن يوجد بالحس محمول لازم الحكم لموضوع أو تال لازم لمقدم فيحصل له اعتقاد مستفاد من حس وقياس ما‏.‏

والرابع‏:‏ الأخبار التي يقع بها التصديق لشدة التواتر‏.‏

فالنفس الإنسانية تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادئ للتصور والتصديق وأما إذا استكملت النفس وقويت فإنها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق وتكون القوى الحسية والخيالية وغيرها صارفة لها عن فعلها وربما تصير الوسائط والأسباب عوائق‏.‏

قال‏:‏ والدليل أن النفس الإنسانية حادثة مع حدوث البدن أنها متفقة في النوع والمعنى فإن وجدت قبل البدن‏:‏ فإما أن تكون متكثرة الذوات أو تكون ذاتاً واحدة ومحال أن تكون متكثرة الذوات فإن تكثرها إما أن يكون من جهة الماهية والصورة وأما أن يكون من جهة النسبة إلى العنصر والمادة وبطل الأول‏ لأن صورتها واحدة وهي متفقة في النوع والماهية لا تقبل اختلافاً ذاتياً وبطل الثاني لأن البدن والعنصر فرض غير موجود‏.‏

قال‏:‏ ومحال أن تكون واحدة الذات لأنه إذا حصل بدنان حصلت فيهما نفسان‏:‏ فإما أن يكونا قسمي تلك النفس الواحدة وهو محال لأن ما ليس له عظم وحجم لا يكون منقسماً وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد في بدنين وهذا لا يحتاج إلى كثير تكلف في إبطاله فقد صح أن النفس تحدث كلما حدث البدن الصالح لاستعمالها إياه ويكون البدن الحادث مملكتها وآلتها ويكون في هيئة جوهر النفس الحادثة مع بدن ما ذلك البدن الذي استحقه نزاع طبيعي إلى الاشتغال به واستعماله والاهتمام بأحواله والانجذاب إليه يخصها ويصرفها عن كل الأجسام غيره بالطبع إلا بواسطته‏.‏

وأما بعد مفارقة البدن فإن الأنفس قد وجد كل واحد منها ذاتاً إلا بواسطته‏.‏

وأما بعد مفارقة البدن وباختلاف أزمنة حدوثها واختلاف هيئاتها منفردة باختلاف موادها التي كانت وباختلاف أزمنة حدوثها واختلاف هيئاتها التي بحسب أبدانها المختلفة لا محالة بأحوالها‏.‏

وأنها لا تموت بموت البدن لأن كل شيء يفسد بفساد شيء آخر فهو متعلق به نوعاً من التعلق‏:‏ فإما أن يكون تعلقه به تعلق المكافئ في الوجود وكل واحد منهما جوهر قائم بنفسه فلا تؤثر المكافأة في الوجود في فساد أحدهما‏‏ بفساد الثاني لأنه أمر إضافي وفساد أحدهما‏‏ يبطل الإضافة لا الذات‏.‏

وإما أن يكون تعلقه به تعلق المتأخر في الوجود فالبدن علة النفس والعلل أربع‏:‏ فلا يجوز أن يكون علة فاعلية فإن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئاً إلا بقواه والقوى الجسمانية إما أعراض أو صور مادية فمحال أن يفيد أمر قائم بالمادة وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة ولا يجوز أن يكون علة قابلية فقد بينا أن النفس ليست منطبقة في البدن‏.‏

ولا يجوز أن يكون علة صورية إن كمالية فإن الأولى‏ أن يكون الأمر بالعكس‏:‏ فإذاً تعلق النفس بالبدن ليس تعلقاً على انه علة ذاتية لها‏.‏

نعم البدن والمزاج علة بالعرض للنفس فإنه إذا حدث بدن يصلح أن يكون آلة للنفس ومملكة لها أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية فإن إحداثها بلا سبب يخصص إحداث واحد دون واحد يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد ولأن كل كائن بعد ما لم يكن يستدعي أن يتقدمه مادة يكون فيها تهيؤ قبوله أو تهيؤ نسبته إليه كما تبين‏.‏

ولأنه لو كان يجوز أن تكون النفس الجزئية تحدث ولم تحدث لها آلة بها تستكمل وتفعل لكانت معطلة الوجود ولا شئ معطل في الطبيعة ولكن إذا حدث التهيؤ والاستعداد في الآلة حدث من العلل المفارقة شئ هو النفس‏.‏

وليس إذا وجب حدوث شئ من حدوث شئ وجب أن يبطل مع بطلانه‏.‏

وأما القسم الثالث مما ذكرناه وهو أن تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم فالمتقدم إن كان بالزمان فيستحيل أن يتعلق وجوده به وقد تقدمه في الزمان وإن كان بالذات فليس فرض عدم المتأخر يوجب عدم المتقدم على أن فساد البدن بأمر يخصه من تغير المزاج والتركيب وليس ذلك مما يتعلق بالنفس‏:‏ فبطلان البدن لا يقتضي بطلان النفس‏.‏

ويقول‏:‏ إن سبباً آخر لا يفسد النفس أيضاً بل هي في ذاتها لا تقبل الفساد لان كل شئ من شأنه أن يفسد بأمر ما ففيه قوة أن يفسد وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى ومحال أن يكون من جهة واحدة في شئ واحد قوة أن يفسد وفعل أن يبقى فإن تهيؤه للفساد شئ وفعله للبقاء شئ آخر فالأشياء المركبة يجوز أن يجتمع فيها الأمران لوجهين أما البسيطة فلا يجوز أن يجتمعا فيها‏.‏

ومن الدليل على ذلك أيضاً‏:‏ أن كل شئ يبقى وله قوة أن يفسد فله قوة أن يبقى أيضاً‏:‏ لأن بقاءه ليس بواجب ضروري وإذا لم يكن واجباً كان ممكناً والإمكان هو طبيعة القوة فإذا‏:‏ يكون له في جوهره قوة أن يبقى وفعل أن يبقى فيكون فعل أن يبقى منه أمراً يعرض للشيء الذي له قوة على البقاء وفعل البقاء أمر مشترك البقاء له كالصورة وقوة البقاء له كالمادة فيكون مركباً من مادة وصورة وقد فرضناه واحداً فرداً هذا خلف‏.‏

فقد بان أن كل أمر بسيط فغير مركب فيه قوة أن يبقى وفعل أن يبقى بل ليس فيه قوة أن يعدم باعتبار ذاته والفساد لا يتطرق إلا إلى المركبات‏.‏

وإذا تقرر أن البدن إذا تهيأ واستعد استحق من واهب الصور نفساً تدبره ولا يختص هذا ببدن دون بدن بل كل بدن حكمه كذلك فإذا استحق النفس وقارنته في الوجود فلا يجوز أن تتعلق به نفس أخرى لأنه يؤدي إلى أن يكون لبدن واحد نفسان وهو محال فالتناسخ إذاً باطل‏.‏

المقالة السادسة‏ في وجه خروج العقل النظري من القوة إلى الفعل‏.‏

وأحوال خاصة بالنفس الإنسانية من الرؤيا الصادقة والكاذبة وإدراكها علم الغيب ومشاهدتها صوراً لا وجود لها من خارج تلك الوجوه ومعنى النبوة والمعجزات وخصائصها التي تتميز بها عن المخاريق‏.‏

أما الأول‏ فقد بينا أن النفس الإنسانية لها قوة هيولانية أي استعداد لقبول المعقولات بالفعل وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فلابد له من سبب يخرجه إلى الفعل وذلك السبب يجب أن يكون موجوداً بالفعل فإنه لو كان موجوداً بالقوة لاحتاج إلى مخرج آخر‏:‏ فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى مخرج هو موجود بالفعل لا قوة فيه فلا يجوز أن يكون ذلك جسماً لأن الجسم مركب من مادة وصورة والمادة أمر بالقوة فهو إذاً جوهر مجرد عن المادة وهو العقل الفعال‏.‏

وإنما سمى فعالا بإزاء كون العقول الهيولانية منفعلة‏.‏

وقد سبق إثباته في الإلهيات من وجه آخر‏.‏

وليس يختص فعله بالعقول والنفوس بل وكل صورة تحدث في العالم فإنما هي من فيضه العام فيعطي كل قابل ما استعد له من الصور‏.‏

وأعلم أن الجسم وقوة في الجسم لا يوجد شيئاً فإن الجسم مركب من مادة وصورة والمادة طبيعتها عدمية فلو أثر الجسم لأثر بمشاركة المادة وهي عدم و العدم لا يؤثر في الوجود‏.‏

فالفعل الفعال‏:‏ هوا لمجرد عن المادة وعن كل قوة فهو بالفعل من كل وجه‏.‏

وأما الثاني من الأحوال الخاصة بالنفس فالنوم والرؤيا‏.‏

والنوم غرور القوى الظاهرة في أعماق البدن وانحناس الأرواح من الظاهر إلى الباطن ونعني بالأرواح ههنا أجساماً لطيفة مركبة من بخار الأخلاط التي منبعها القلب وهي مراكب القوى النفسانية والحيوانية ولهذا إذا وقعت سدة في مجاريها من الأعصاب المؤدية للحس بطل الحس وحصل الصرع والسكتة فإذا ركدت الحواس ورقدت بسبب بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس لأنها لا تزال مشغولة بالتفكير فيما تورد الحواس عليها فإذا وجدت فرصة الفراغ وارتفع عنها المانع واستعدت للاتصال بالجواهر الروحانية الشريفة العقلية التي فيها نقشت الموجودات كلها فانطبع في النفس ما في تلك الجواهر من صور الأشياء لا سيما ما يناسب أغراض الرائي ويكون انطباع تلك الصور في النفس كانطباع صورة في مرآة من مرآة‏.‏

فإن كانت الصور جزئية ووقعت في النفس في المصورة وحفظتها الحافظة على وجهها من غير تصرف المتخيلة صدقت الرؤيا ولا تحتاج إلى تعبير وإن وقعت في المتخيلة حاكت ما يناسبها من الصور المحسوسة وهذه تحتاج إلى تعبير وتأويل ولما لم تكن تصرفات الخيال مضبوطة واختلفت باختلاف الأشخاص والأحوال اختلف التعبير وإذا تحركت المتخيلة منصرفة عن عالم العقل إلى عالم الحس واختلطت تصرفاتها كانت الرؤيا أضغاث أحلام لا تعبير لها وكذلك لو غلبت على المزاج إحدى الكيفيات الأربع رأى في المنام أحوالاً مختلطة‏.‏

وأما الثالث في إدراك علم الغيب في اليقظة‏.‏

إن بعض النفوس يقوى قوة لا تشغله الحواس ولا تمنعه بل يتسع بقوته للنظر إلى عالم العقل والحس جميعاً فيطلع إلى عالم الغيب فيظهر له بعض الأمور مثل البرق الخاطف وبقي المتصور المدرك في الحافظة بعينه وكان ذلك وحياً صريحاً‏.‏

وإن وقع في المخيلة واشتغلت بطبيعة المحاكاة كان ذلك مفتقراً إلى التأويل‏.‏

وأما الرابع في مشاهدة النفس صوراً محسوسة لا وجود لها وذلك أن النفس تدرك الأمور الغائبة إدراكاً قوياً فيبقى عين ما أدركته في الحفظ وقد تقبله قبولاً ضعيفاً فتستولي عليه المتخيلة وتحاكيه بصورة محسوسة واستتبعت الحس المشترك وانطبعت الصورة في الحس المشترك سراية إليه من المتصورة والمتخيلة‏.‏

والإبصار‏:‏ هو وقوع صورة في الحس المشترك فسواء وقع فيه من خارج بواسطة البصر أو وقع فيه أمر من داخل بواسطة الخيال كان ذلك محسوساً فمنه ما يكون من قوة النفس وقوة آلات الإدراك ومنه ما يكون من ضعف النفس والآلات‏.‏

قال‏:‏ خصائص المعجزات والكرامات ثلاث‏:‏ خاصية‏:‏ في قوة النفس وجوهرها ليؤثر في هيولي العالم بإزالة صورة وإبعاد صورة وذلك أن الهيولي منقادة لتأثير النفوس الشريفة المفارقة مطيعة لقواها السارية في العالم وقد تبلغ نفس إنسانية في الشرف إلى حد يناسب تلك النفوس‏.‏

فتفعل فعلها وتقوى على ما قويت هي فتزيل جبلاً عن مكانه وتذيب جوهراً فيستحيل ماء وتجمد جسماً سائلاً فيستحيل حجراً‏.‏

ونسبة هذه النفس إلى تلك النفوس كنسبة السراج إلى الشمس فكما أن الشمس تؤثر في الأشياء تسخيناً بالإضاءة كذلك السراج يؤثر بقدره‏.‏

وأنت تعلم أن للنفس تأثيرات جزئية في البدن فإنه إذا حدث في النفس صورة الغلبة والغضب حمى المزاج وأحمر الوجه وإذا حدثت صورة مشتهاة فيها‏:‏ حدثت في أوعية المنى حرارة مبخرة مهيجة للريح حتى تمتلئ به عروق آلة الوقاع فتستعد له‏.‏

والمؤثر ههنا مجرد التصور لا غير‏.‏

والخاصية

الثانية‏‏:‏ أن تصفو النفس صفاء يكون شديد الاستعداد للاتصال بالعقل الفعال حتى يفيض عليها العلوم فإنا قد ذكرنا حال القوة القدسية التي تحصل لبعض النفوس حتى تستغني في أكثر أحوالها عن التفكر والتعلم فالشريف البالغ منها‏:‏ يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسه نار نور على نور‏.‏

والخاصية الثالثة‏ للقوة المتخيلة بأن تقوى النفس وتتصل في اليقظة بعالم الغيب كما سبق وتحتكي المتخيلة ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة فترى في اليقظة وتسمع فتكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف صورة عجيبة في غاية الحسن وهو الملك الذي يراه النبي وتكون المعارف التي تتصل بالنفس من اتصالها بالجواهر الشريفة تتمثل بالكلام الحسن المنظوم الواقع في الحس المشترك فيكون مسموعاً‏.‏

قال‏:‏ والنفوس وإن اتفقت في النوع إلا أنها تتمايز بخواص وتختلف أفاعيلها اختلافات عجيبة‏.‏

وفي الطبيعة أسرار ولاتصالات العلويات بالسفليات عجائب‏.‏

وجل جنات الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد وأن يرد عليه إلا واحد بعد واحد‏.‏

وبعد فإن ما يشتمل عليه هذا الفن ضحكة للمغفل عبرة للمحصل فمن سمعه فاشمأز عنه فليتهم نفسه فإنها لا تناسبه‏.‏

وكل ميسر لما خلق له‏.‏

تمت الطبيعيات بحمد اللّه‏.‏