الملل والنحل أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني الشافعي (ت ٥٤٨ هـ ١١٥٣ م) ١الجزء الأولمقدمات المؤلفمدخلبسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه حمد الشاكرين بجميع محامده كلها؛ على جميع نعمائه كلها، حمدا كثيرا طيبا مباركا كما هو أهله. وصلى اللّه على محمد المصطفى رسول الرحمة خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين؛ صلاة دائمة بركتها إلى يوم الدين، كما صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنه حميد مجيد. وبعد: فلما وفقني اللّه تعالى لمطالعة مقالات أهل العلم من أرباب الديانات والملل١، وأهل الأهواء والنحل٢، والوقوف على مصادرها ومواردها، واقتناص أوانسها٣ وشواردها٤، أردت أن أجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما تدين به المتدينون، وانتحله٥ المنتحلون؛ عبرة لمن استبصر، واستبصارا لمن اعتبر. وقبل الخوض فيما هو الغرض لا بد من أن أقدم خمس مقدمات: المقدمة الأولى: في بيان أقسام أهل العالم جملة مرسلة٦. المقدمة الثانية: في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق٧ الإسلامية. المقدمة الثالثة: في بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، ومن مصدرها، ومن مظهرها؟ __________ ١ الملل: جمع ملة وهي الدين. ٢ النحل: جمع نحلة بكسر النون وهي الدعوى. ٣ أوانس: جمع آنسة، وهي الشابة الجميلة الطيبة النفس، والمراد هنا المعلومات القيمة. ٤ شوارد: جمع شاردة وهي ما ند ونفر، والمراد المعلومات النادرة. ٥ انتحل الشيء: ادعاه لنفسه. ٦ مرسلة: مطلقة، غير مقيدة. ٧ الفرق: جمع فرقة بالكسرة، وهي في الأصل الجماعة من الناس وغيرهم. المقدمة الرابعة: في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، وكيفية انشعابها١، ومن مصدرها، ومن مظهرها؟ المقدمة الخامسة: في بيان السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب. __________ ١ انشعابها: انقسامها وتفرقها. ١-١ المقدمة الأولى:في بيان تقسيم أهل العالم جملة مرسلة: ١- من الناس من قسم أهل العالم بحسب الأقاليم السبعة. وأعطى أهل كل إقليم حظه من اختلاف الطبائع والأنفس التي تدل عليها الألوان والألسن١. ٢- ومنهم من قسمهم بحسب الأقطار الأربعة التي هي: الشرق، والغرب، والجنوب، والشمال. ووفر على كل قطر حقه من اختلاف الطبائع، وتباين الشرائع. ٣- ومنهم من قسمهم بحسب الأمم، فقال كبار الأمم أربع: العرب، والعجم، والروم، والهند، ثم زاوج٢ بين أمة وأمة؛ فذكر أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات٣ والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية. والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات٤ والكميات٥، واستعمال الأمور الجسمانية. ٤- ومنهم من قسمهم بحسب الآراء والمذاهب. وذلك غرضنا في تأليف هذا الكتاب. وهم منقسمون بالقسمة الصحيحة الأولى إلى أهل الديانات والملل، وأهل الأهواء والنحل. __________ ١ الألسن: جمع لسان والمراد هنا اللغات. ٢ زواج بين الأمرين: خالط بينهما وقارن. ٣ ماهية الشيء: أصله وحقيقته. ٤ الكيف: حالة الشيء وصفته. ٥ الكم: الكمية والمقدار. فأرباب الديانات مطلقا مثل المجوس، واليهود، والنصارى، والمسلمين. وأهل الأهواء والآراء مثل الفلاسفة، والدهرية١، والصابئة٢، وعبدة الكواكب والأوثان، والبراهمة٣. ويفترق كل منهم فرقا. فأهل الأهواء ليست تنضبط مقالاتهم في عدد معلوم. وأهل الديانات قد انحصرت مذاهبهم بحكم الخبر الوارد فيها. فافترقت المجوس على سبعين فرقة واليهود على إحدى وسبعين فرقة. والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة. والمسلمون على ثلاث وسبعين فرقة. والناجية أبدا من الفرق واحدة، إذ الحق من القضيتين المتقابلتين في واحدة، ولا يجوز أن تكون قضيتان متناقضتان متقابلتان على شرائع التقابل، إلا وأن تقتسما الصدق والكذب. فيكون الحق في إحداهما دون الأخرى. ومن المحال الحكم على المتخاصمين المتضادين في أصول المعقولات بأنهما محقان صادقان. وإذا كان الحق في كل مسألة عقلية واحدا؛ فالحق في جميع المسائل يجب أن يكون مع فرقة واحدة وإنما عرفنا هذا بالسمع، وعنه أخبر التنزيل في قوله عز وجل: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} ٤ وأخبر النبي عليه السلام: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة، والباقون هلكى. قيل: ومن الناجية؟ قال: أهل السنة والجماعة. قيل: وما السنة والجماعة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي". وقال عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة" وقال عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". __________ ١ الدهري: بفتح الدال المهملة وتضم: القائل ببقاء الدهر، الذي لا يؤمن بالحياة الأخرى. ٢ الصابئة: قوم كانوا يعبدون النجوم، وأصل الفعل صبأ يعني خرج من دين إلى آخر. ٣ البراهمة: فرقة معينة، وهم في الأصل خدمة إله الهنود برهما. ٤ الأعراف آية ١٨١. -١-٢ المقدمة الثانية:في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية: اعلم أن لأصحاب المقالات طرقا في تعديد الفرق الإسلامية، لا على قانون مستند إلى أصل ونص، ولا على قاعدة مخبرة عن الوجود. فما وجدت مصنفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق. ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن ليس كل من تميز عن غيره بمقالة ما؛ في مسألة ما، عد صاحب مقالة. وإلا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد. ويكون من انفرد بمسألة في أحكام الجواهر مثلا معدودا في عداد أصحاب المقالات. فلا بد إذن من ضابط في مسائل هي أصول وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافا يعتبر مقالة، ويعد صاحبه صاحب مقالة. وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط، إلا أنهم استرسلوا١ في إيراد مذاهب الأمة كيف اتفق، وعلى الوجه الذي وجد، لا على قانون مستقر، وأصل مستمر. فاجتهدت على ما تيسر من التقدير، وتقدر من التيسير حتى حصرتها في أربع قواعد، هي الأصول الكبار. القاعدة الأولى: الصفات والتوحيد فيها. وهي تشتمل على مسائل: الصفات الأزلية، إثباتا عند جماعة، ونفيا عند جماعة. وبيان صفات الذات، وصفات الفعل، وما يجب للّه تعالى، وما يجوز عليه، وما يستحيل, وفيها الخلاف بين الأشعرية، والكرامية، والمجسمة والمعتزلة. القاعدة الثانية: القدر والعدل فيه، وهي تشتمل على مسائل: القضاء، والقدر، والجبر والكسب، وإرادة الخير والشر، والمقدور، والمعلوم؛ إثباتا عند جماعة، ونفيا __________ ١ استرسل في الكلام: بسطه. عند جماعة. وفيها الخلاف بين: القدرية, والنجارية، والجبرية، والأشعرية، والكرامية. القاعدة الثالثة: الوعد، والوعيد، والأسماء، والأحكام. وهي تشتمل على مسائل الإيمان، والتوبة، والوعيد، والإرجاء، والتكفير، والتضليل؛ إثباتا على وجه عند جماعة، ونفيا عند جماعة. وفيها الخلاف بين المرجئة، والوعيدية، والمعتزلة، والأشعرية، والكرامية. القاعدة الرابعة: السمع والعقل، والرسالة، والإمامة. وهي تشتمل على مسائل: التحسين، والتقبيح، والصلاح والأصلح، واللطف، والعصمة في النبوة. وشرائط الإمامة، نصا عند جماعة، وإجماعا عند جماعة. وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنص، وكيفية إثباتها على مذهب من قال بالإجماع. والخلاف فيها بين الشيعة، والخوارج، والمعتزلة والكرامية، والأشعرية. فإذا وجدنا انفراد واحد من أئمة الأمة بمقالة من هذه القاعدة، عددنا مقالته مذهبا وجماعته فرقة. وإن وجدنا واحدا انفرد بمسالة فلا نجعل مقالته مذهبا، وجماعته فرقة. بل نجعله مندرجا تحت واحد ممن وافق سواها مقالته. ورددنا باقي مقالاته إلى الفروع التي لا تعد مذهبا مفردا؛ فلا تذهب المقالات إلى غير النهاية. فإذا تعينت المسائل التي هي قواعد الخلاف، تبينت أقسام الفرق الإسلامية، وانحصرت كبارها في أربع بعد أن تداخل بعضها في بعض. كبار الفرق الإسلامية أربع "١" القدرية. "٢" الصفاتية. "٣" الخوارج. "٤" الشيعة. ثم يتركب بعضها مع بعض، ويتشعب عن كل فرقة أصناف، فتصل إلى ثلاث وسبعين فرقة. ولأصحاب كتب المقالات طريقان في الترتيب: أحدهما: أنهم وضعوا المسائل أصولا. ثم أوردوا في كل مسألة مذهب طائفة طائفة وفرقة فرقة. والثاني: أنهم وضعوا الرجال وأصحاب المقالات أصولا، ثم أوردوا مذاهبهم، في مسألة مسألة. وترتيب هذا المختصر على الطريقة الأخيرة، لأني وجدتها أضبط للأقسام، وأليق بباب الحساب. وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم؛ من غير تعصب١ لهم، ولا كسر عليهم٢؛ دون أن أبين صحيحه من فاسده، وأعين حقه من باطله، وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكية في مدارج٣ الدلائل العقلية لمحات الحق ونفحات الباطل، وباللّه التوفيق. __________ ١ تعصب له: مال إليه وجد في نصرته. ٢ كسر عليه: غض منه وانصرف عنه. ٣ مدارج: جمع مدرج، وهو المذهب والمسلك. -١-٣المقدمة الثالثة:في بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، ومن مصدرها في الأول ومن مظهرها في الآخر: اعلم أن أول شبهة وقعت في الخليقة: شبهة إبليس لعنه اللّه، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الأمر، واستكباره بالمادة التي خلق منها وهي النار على مادة آدم عليه السلام وهي الطين. وانشعبت١ من هذه الشبهة سبع شبهات، وسارت في الخليقة، وسرت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعة وضلالة، وتلك الشبهات مسطورة٢ في شرح الأناجيل __________ ١ انشعب: افترق وتباعد. ٢ مسطورة: مدونة مكتوبة. الأربعة: إنجيل لوقا، ومارقوس، ويوحنا، ومتى، ومذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرات بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود، والامتناع منه. قال كما نقل عنه؛ إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق، عالم قادر، ولا يسأل عن قدرته ومشيئته، وأنه مهما أراد شيئا قال له كن فيكون، وهو حكيم، إلا أنه يتوجه على مساق حكمته١ أسئلة، قالت الملائكة: ما هي؟ وكم هي؟ قال لعنه اللّه: سبعة. الأول منها: أنه قد علم قبل خلقي أي شيء يصدر عني ويحصل مني، فلم خلقني أولا؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟ والثاني: إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته؛ فلم كلفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في هذا التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعة، ولا يتضرر بمعصية؟ والثالث: إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فعرفت وأطعت، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في معرفتي وطاعتي إياه؟ والرابع: إذ خلقني وكلفني على الإطلاق، وكلفني بهذا التكليف على الخصوص، فإذا لم أسجد لآدم، فلم لعنني وأخرجني من الجنة؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لم أرتكب قبيحا إلا قولي: لا أسجد إلا لك؟ والخامس: إذ خلقني وكلفني مطلقا، وخصوصا؛ فلم أطع فلعنني وطردني، فلم طرقني٢ إلى آدم حتى دخلت الجنة ثانيا وغررته بوسوستي٣، فأكل من الشجرة المنهي عنها، وأخرجه من الجنة معي؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنة لاستراح مني آدم، وبقي خالدا فيها؟ __________ ١ مساق حكمته: يقال "ساقه مساق غيره" عامله معاملة غيره. ٢ طرقني: جعل لي طريقا. والمراد أنت الذي جعلت لي الطريق إليه. ٣ الوسوسة: مرض يحدث من غلبة السوداء. ويختلط معه الذهن، وسوس الشيطان له حدثه بشر. والسادس: إذ خلقني وكلفني عموما، وخصوصا، ولعنني، ثم طرقني إلى الجنة، وكانت الخصومة بيني وبين آدم؛ فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني، وتؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر في حولهم وقوتهم، وقدرتهم واستطاعتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يحتالهم١ عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين، كان أحرى بهم، وأليق بالحكمة؟ والسابع: سلمت هذا كله: خلقني وكلفني مطلقا ومقيدا، وإذ لم أطع لعنني وطردني وإذ أردت دخول الجنة مكنني وطرقني، وإذ عملت عملي أخرجني ثم سلطني على بني آدم، فلم إذ استمهلته٢ أمهلني، فقلت: {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ٣، {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} ٤. وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح آدم والخلق مني وما بقي شر ما في العالم؟ أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من امتزاجه بالشر؟! قال: فهذه حجتي على ما ادعيته في كل مسألة. قال شارح الإنجيل: فأوحى اللّه تعالى إلى الملائكة عليهم السلام، قولوا له: إنك في تسليمك الأول أني إلهك وإله الخلق غير صادق ولا مخلص، إذ لو صدقت أني إله العالمين ما احتكمت علي بلم، فأنا اللّه الذي لا إله إلا أنا، لا أسأل عما أفعل، والخلق مسئولون. وهذا الذي ذكرته مذكور في التوراة، ومسطور في الإنجيل على الوجه الذي ذكرته. وكنت برهة من الزمان أتفكر وأقول: من المعلوم الذي لا مرية فيه أن كل شبهة وقعت لبني آدم؛ فإنما وقعت من إضلال الشيطان الرجيم٥ ووساوسه، ونشأت من __________ ١ يحتالهم عنها: يحولهم عنها ويصرفهم. ٢ استمهلته: سألته المهلة. ٣ الأعراف آية ١٤. وأنظرني: أخرني. ٤ الحجر: آية ٣٧، ٣٨. ٥ الرجيم: الملعون المطرود من رحمته تعالى. شبهاته. وإذا كانت الشبهات محصورة في سبع، عادت كبار البدع والضلالات إلى سبع. ولا يجوز أن تعدو شبهات فرق الزيغ والكفر والضلال هذه الشبهات وإن اختلفت العبارات، وتباينت الطرق، فإنها بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور، وترجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق، وإلى الجنوح١ إلى الهوى في مقابلة النص. هذا، ومن جادل نوحا، وهودا، وصالحا، وإبراهيم، ولوطا، وشعيبا، وموسى، وعيسى، ومحمدا؛ صلوات اللّه عليهم أجمعين، كلهم نسجوا على منوال اللعين الأول في إظهار شبهاته. وحاصلها يرجع إلى دفع التكليف عن أنفسهم، وجحد أصحاب الشرائع والتكاليف بأسرهم، إذ لا فرق بين قولهم {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} ٢ وبين قوله: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} ٣ وعن هذا صار مفصل الخلاف، ومحز٤ الافتراق ما هو في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللّه بَشَرًا رَسُولًا} ٥ فبين أن المانع من الإيمان هو هذا المعنى، كما قال المتقدم في الأول: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ٦ وقال المتأخر من ذريته كما قال المتقدم: {أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} ٧ وكذلك لو تعقبنا أقوال المتقدمين منهم لوجدناها مطابقة لأقوال المتأخرين {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} ٨ {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} ٩. __________ ١ الجنوح: الميل والإقبال. ٢ التغابن آية ٦. ٣ الإسراء آية ٦٠. ٤ محز: أصل الحز القطع، والمحز آلة القطع. ٥ الإسراء آية ٩٤. ٦ الأعراف آية ١٢. ٧ الزخرف آية ٥٢. ٨ البقرة آية ١١٨. ٩ يونس آية ٧٤. فاللعين الأول لما حكم العقل على من لا يحكم عليه العقل، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق، أو حكم الخلق في الخالق. والأول غلو١، والثاني تقصير. فثار من الشبهة الأولى مذاهب: الحلولية، والتناسخية٢، والمشبهة، والغلاة من الروافض، حيث غلوا في حق شخص من الأشخاص حتى وصفوه بأوصاف الإله. وثار من الشبهة الثانية مذاهب: القدرية، والجبرية، والمجسمة، حيث قصروا في وصفه تعالى حتى وصفوه بصفات المخلوقين. فالمعتزلة مشبهة الأفعال، والمشبهة حلولية الصفات، وكل واحد منهم أعور بأي عينيه شاء، فإن من قال: إنما يحسن منه ما يحسن منا، ويقبح منه ما يقبح منا، فقد شبه الخالق بالخلق؛ ومن قال: يوصف الباري تعالى بما يوصف به الخلق، أو يوصف الخلق بما يوصف به الباري تعالى، فقد اعتزل عن الحق. وسنخ٣ القدرية طلب العلة في كل شيء، وذاك من سنخ اللعين الأول؛ إذ طلب العلة في الخلق أولا، والحكمة في التكليف ثانيا، والفائدة في تكليف السجود لآدم عليه السلام ثالثا. وعنه نشأ مذهب الخوارج، إذ لا فرق بين قولهم: لا حكم إلا اللّه ولا نحكم الرجال، وبين قوله: لا أسجد إلا لك، {أَأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} ٤ وبالجملة "كلا طرفي قصد الأمور ذميم" فالمعتزلة غلوا في التوحيد بزعمهم حتى وصلوا إلى التعطيل بنفي الصفات. والمشبهة قصروا حتى وصفوا الخالق بصفات الأجسام. والروافض غلوا في النبوة والإمامة حتى وصلوا إلى الحلول. والخوارج قصروا حتى نفوا تحكيم الرجال. وأنت ترى -إذا نظرت- أن هذه الشبهات كلها ناشئة من شبهات اللعين الأول، __________ ١ الغلو: التشدد والتصلب حتى مجاوزة الحد. ٢ التناسخية: هم الذين يعتقدون أن النفس الناطقة تنتقل من بدن إلى آخر. ٣ السنخ: بالكسر؛ الأصل. ٤ الآية -قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون- الحجر آية ٣٣. مسنون: متغير. وتلك في الأول مصدرها، وهذه في الآخرة مظهرها. وإليه أشار التنزيل في قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ١. وشبه النبي صلى اللّه عليه وسلم كل فرقة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السالفة، فقال: "القدرية مجوس هذه الأمة" وقال: "المشبهة يهود هذه الأمة، والروافض نصاراها" وقال عليه الصلاة والسلام جملة: "لتسلكن سبل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة ٢، والنعل بالنعل، حتى لو دخلو جحر ضب لدخلتموه". __________ ١ البقرة آية ١٦٨. ٢ القذة؛ بالضم، ريش السهم. وتجمع على قذذ. -١-٤ المقدمة الرابعة:في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية, وكيفية انشعابها، ومن مصدرها، ومن مظهرها: وكما قررنا أن الشبهات التي وقعت في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أول الزمان، كذلك يمكن أن نقرر في زمان كل نبي ودور صاحب كل ملة وشريعة: أن شبهات أمته في آخر زمانه؛ ناشئة من شبهات خصماء أول زمانه من الكفار والملحدين وأكثرها من المنافقين. وإن خفي علينا ذلك في الأمم السالفة لتمادى الزمان، فلم يخف في هذه الأمة أن شبهاتها نشأت كلها من شبهات منافقي زمن النبي عليه السلام، إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى، وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مسرى، وسألوا عما منعوا من الخوض فيه، والسؤال عنه، وجادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه. اعتبر حديث ذي الخويصرة التميمي إذ قال: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، حتى قال عليه الصلاة والسلام: "إن لم أعدل فمن يعدل؟ " فعاود اللعين وقال: "هذه قسمة ما أريد بها وجه اللّه تعالى". وذلك خروج صريح على النبي عليه الصلاة والسلام، ولو صار من اعترض على الإمام الحق خارجيا، فمن اعترض على الرسول أحق بأن يكون خارجيا. أو ليس ذلك قولا بتحسين العقل وتقبيحه؟ وحكما بالهوى في مقابلة النص، واستكبارا على الأمر بقياس العقل؟ حتى قال عليه الصلاة والسلام: "سيخرج من ضئضئ ١ هذا الرجل قوم يمرقون ٢ من الدين كما يمرق السهم من الرمية ... " الخبر بتمامه. واعتبر حال طائفة أخرى من المنافقين يوم أحد إذ قالوا: {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} ٣ وقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} ٤ وقولهم: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} ٥ فهل ذلك إلا تصريح بالقدر؟ وقول طائفة من المشركين: {لَوْ شَاءَ اللّه مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} ٦ وقول طائفة: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللّه أَطْعَمَهُ} ٧ فهل هذا إلا تصريح بالجبر؟ واعتبر حال طائفة أخرى حيث جادلوا في ذات اللّه، تفكرا في جلاله، وتصرفا في أفعاله حتى منعهم وخوفهم بقوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّه وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} ٨ فهذا ما كان في زمانه عليه الصلاة والسلام وهو على شوكته وقوته وصحة بدنه. والمنافقون يخادعون فيظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وإنما يظهر نفاقهم بالاعتراض في كل وقت على حركاته وسكناته، فصارت الاعتراضات كالبذور، وظهرت منها الشبهات كالزروع. وأما الاختلافات الواقعة في حال مرضه عليه الصلاة والسلام وبعد وفاته بين الصحابة رضي اللّه عنهم، فهي اختلافات اجتهادية كما قيل، كان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع، وإدامة مناهج الدين. __________ ١ الضئضئ: الجنس، والأصل، والمحتد، يقال: فلان من ضئضئ صدق: أي من محتد صدق. ٢ يمرق من الدين: يخرج منه. ٣، ٤، ٥ آل عمران آية ١٥٤، ١٥٦. ٦ النحل آية ٣٥. ٧ يس آية ٤٧. ٨ الرعد آية ١٣، ومعنى المحال القوة والأخذ. فأول تنازع وقع في مرضه عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أبو عبد اللّه محمد بن إسماعيل البخاري بإسناده عن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه، قال: "لما اشتد بالنبي صلى اللّه عليه وسلم مرضه الذي مات فيه قال: "ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي" فقال عمر رضي اللّه عنه: "إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب اللّه" وكثر اللغط١، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع" قال ابن عباس: "الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم". الخلاف الثاني: في مرضه أنه قال: "جهزوا جيش أسامة، لعن اللّه من تخلف عنه" فقال قوم: يجب علينا امتثال أمره، وأسامة قد برز من المدينة. وقال قوم: قد اشتد مرض النبي عليه الصلاة والسلام فلا تسع قلوبنا مفارقته، والحالة هذه، فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره. وإنما أوردت هذين التنازعين، لأن المخالفين ربما عدوا ذلك من الخلافات المؤثرة في أمر الدين، وليس كذلك. وإنما كان الغرض كله: إقامة مراسم الشرع في حال تزلزل القلوب، وتسكين نائرة٢ الفتنة المؤثرة عند تقلب الأمور. الخلاف الثالث: في موته عليه السلام، قال عمر بن الخطاب: من قال: إن محمدا قد مات قتلته بسيفي هذا؛ وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى عليه السلام، وقال أبو بكر بن أبي قحافة رضي اللّه عنه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد إله __________ ١ اللغط: الصوت المبهم والجلبة. ٢ نائرة الفتنة: نأرت في الناس نائرة، هاجت هائجة. محمد فإن إله محمد حي لم يمت ولن يموت، وقرأ قول اللّه سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّه شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّه الشَّاكِرِينَ} ١ فرجع القوم إلى قوله؛ وقال عمر رضي اللّه عنه: "كأني ما سمعت هذه الآية حتى قرأها أبو بكر". الخلاف الرابع: في موضع دفنه عليه السلام، أراد أهل مكة من المهاجرين رده إلى مكة لأنها مسقط رأسه، ومأنس نفسه، وموطئ قدمه، وموطن أهله، وموقع رحله؛ وأراد أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته، ومدار نصرته؛ وأرادت جماعة نقله إلى بيت المقدس لأنه موضع دفن الأنبياء، ومنه معراجه إلى السماء. ثم اتفقوا على دفنه بالمدينة لما روى عنه عليه الصلاة والسلام: "الأنبياء يدفنون حيث يموتون". الخلاف الخامس: في الإمامة، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان. وقد سهل اللّه تعالى ذلك في الصدر الأول، فاختلف المهاجرون والأنصار فيها، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير واتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري، فاستدركه أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما في الحال بأن حضرا سقيفة بني ساعدة، وقال عمر: كنت أزور٢ في نفسي كلاما في الطريق، فلما وصلنا إلى السقيفة أردت أن أتكلم فقال أبو بكر: مه٣ يا عمر، فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر ما كنت أقدره في نفسي كأنه يخبر عن غيب، فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته وبايعه الناس وسكنت الفتنة، __________ ١ آل عمران آية ١٤٤. ٢ أزور كلاما: أحسن كلاما وأقومه وأنمقه. ٣ مه: اكفف. إلا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة١ وقى اللّه المسلمين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرة٢ يجب أن يقتلا. وإنما سكتت الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبي عليه السلام: "الأئمة من قريش" وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة، ثم لما عاد إلى المسجد انثال٣ الناس عليه وبايعوه عن رغبة، سوى جماعة من بني هاشم وأبي سفيان من بني أمية. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه كان مشغولا بما أمره النبي صلى اللّه عليه وسلم من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره من غير منازعة ولا مدافعة. الخلاف السادس: في أمر فدك٤ والتوارث عن النبي عليه السلام، ودعوى فاطمة عليها السلام وراثة تارة، وتمليكا أخرى، حتى دفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبي عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة". الخلاف السابع: في قتال مانعي الزكاة، فقال قوم: لا نقاتلهم قتال الكفرة. وقال قوم: بل نقاتلهم، حتى قال أبو بكر رضي اللّه عنه: لو منعوني عقالا مما أعطوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقاتلتهم عليه، ومضى بنفسه إلى قتالهم، ووافقه جماعة الصحابة بأسرهم. وقد أدى اجتهاد عمر رضي اللّه عنه في أيام خلافته إلى رد السبايا والأموال إليهم، وإطلاق المحبوسين منهم، والإفراج عن أسراهم. __________ ١ فلتة: دون تدبر وتمهل. ٢ تغرة: غرر بنفسه تغريرا، وتغرة: عرضها للّهلاك. ٣ انثال عليه الناس: انصبوا عليه وتكاثروا حوله. ٤ فدك: قرية شمال المدينة, كانت لليهود، ولما انهزم يهود خيبر خشي يهود فدك على أنفسهم فسلموا قريتهم للنبي عليه السلام دون قتال فكانت خالصة له ينفق منها على نفسه، وعلى بعض المحتاجين من بني هاشم. الخلاف الثامن: في تنصيص١ أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة، فمن الناس من قال: قد وليت علينا فظا غليظا، وارتفع الخلاف بقول أبي بكر: لو سألني ربي يوم القيامة لقلت: وليت عليهم خيرهم لهم. وقد وقع في زمانه اختلافات كثيرة في مسائل ميراث الجد، والإخوة، والكلالة٢، وفي عقل٣ الأصابع، وديات الأسنان، وحدود بعض الجرائم التي لم يرد فيها نص، وإنما أهم أمورهم: الاشتغال بقتال الروم، وغزو العجم. وفتح اللّه تعالى الفتوح على المسلمين، وكثرت السبايا والغنائم، وكانوا كلهم يصدرون عن رأي عمر رضي اللّه عنه، وانتشرت الدعوة، وظهرت الكلمة، ودانت العرب، ولانت العجم. الخلاف التاسع: في أمر الشورى واختلاف الآراء فيها. واتفقوا كلهم على بيعة عثمان رضي اللّه عنه، وانتظم الأمر واستمرت الدعوة في زمانه، وكثرت الفتوح، وامتلأ بيت المال، وعاشر الخلق على أحسن خلق، وعاملهم بأبسط يد، غير ان أقاربه من بني أمية قد ركبوا نهابر٤ فركبته، وجاروا فجير عليه، ووقعت في زمانه اختلافات كثيرة وأخذوا عليه أحداثا كلها محالة٥ على بني أمية. منها: رده الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول اللّه؛ وبعد أن تشفع إلى أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك، ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا. __________ ١ انظر كلام أبي بكر في هذا الموضوع، جـ١ ص٨ من الكامل للمبرد، ط مصطفى الحلبي. ٢ من عدا الولد والوالد من الورثة، أو: من مات ولا والد له ولا ولد. ٣ العقل: ما يدفع للمجني عليه كتعويض لما أصابه. ٤ نهابر: مهالك، جمع نهبورة بضم النون فيهما. ٥ محالة: محولة، أي محمولة ومنسوبة. ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة١، وتزويجه مروان بن الحكم بنته، وتسليمه خمس غنائم أفريقية له وقد بلغت مائتي ألف دينار. ومنها: إيواؤه عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، وكان رضيعه بعد أن أهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمه، وتوليته إياه مصر بأعمالها، وتوليته عبد اللّه بن عامر البصرة حتى أحدث فيها ما أحدث. إلى غير ذلك مما نقموا عليه، وكان أمراء جنوده: معاوية بن أبي سفيان عامل الشام، وسعد بن أبي وقاص عامل الكوفة، وبعده الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، وعبد اللّه بن عامر عامل البصرة، وعبد اللّه بن سعد بن أبي سرح عامل مصر. وكلهم خذلوه ورفضوا حتى أتى قدره عليه، وقتل مظلوما في داره، وثارت الفتنة من الظلم الذي جرى عليه، ولم تسكن بعد. الخلاف العاشر: في زمان أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له. فأوله: خروج طلحة والزبير إلى مكة, ثم حمل عائشة إلى البصرة، ثم نصب القتال معه. ويعرف ذلك بحرب الجمل. والحق أنهما رجعا وتابا، إذ ذكرهما أمرا فتذكراه. فأما الزبير فقتله ابن جرموز بقوس وقت الانصراف، وهو في النار لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: "بشر قاتل ابن صفية بالنار". وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم وقت الإعراض٢ فخر ميتا. وأما عائشة رضي اللّه عنها فكانت محمولة على ما فعلت، ثم تابت بعد ذلك ورجعت. والخلاف بينه وبين معاوية، وحرب صفين، ومخالفة الخوارج، وحمله على التحكيم، ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، وبقاء الخلاف إلى وقت وفاته مشهور. وكذلك الخلاف بينه وبين الشراة٣ __________ ١ الربذة: من قرى المدينة. ٢ وقت الإعراض: وقت أن أعرض عن القتال، أي كف واعتزل الحرب. ٣ الشراة: الخوارج، الواحد شار؛ سموا بذلك لقولهم شرينا أنفسنا في طاعة اللّه، فهو من شرى يشري كرمى يرمي، فهو شار وجمعه شراة بخلاف شرى كفرح، فإن اسم فاعله شر، وهو لا يجمع على شراة. قيل: ويجوز أن يكون من المشاراة أي المجادلة. ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة١، وتزويجه مروان بن الحكم بنته، وتسليمه خمس غنائم أفريقية له وقد بلغت مائتي ألف دينار. ومنها: إيواؤه عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، وكان رضيعه بعد أن أهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمه، وتوليته إياه مصر بأعمالها، وتوليته عبد اللّه بن عامر البصرة حتى أحدث فيها ما أحدث. إلى غير ذلك مما نقموا عليه، وكان أمراء جنوده: معاوية بن أبي سفيان عامل الشام، وسعد بن أبي وقاص عامل الكوفة، وبعده الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، وعبد اللّه بن عامر عامل البصرة، وعبد اللّه بن سعد بن أبي سرح عامل مصر. وكلهم خذلوه ورفضوا حتى أتى قدره عليه، وقتل مظلوما في داره، وثارت الفتنة من الظلم الذي جرى عليه، ولم تسكن بعد. الخلاف العاشر: في زمان أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له. فأوله: خروج طلحة والزبير إلى مكة, ثم حمل عائشة إلى البصرة، ثم نصب القتال معه. ويعرف ذلك بحرب الجمل. والحق أنهما رجعا وتابا، إذ ذكرهما أمرا فتذكراه. فأما الزبير فقتله ابن جرموز بقوس وقت الانصراف، وهو في النار لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: "بشر قاتل ابن صفية بالنار". وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم وقت الإعراض٢ فخر ميتا. وأما عائشة رضي اللّه عنها فكانت محمولة على ما فعلت، ثم تابت بعد ذلك ورجعت. والخلاف بينه وبين معاوية، وحرب صفين، ومخالفة الخوارج، وحمله على التحكيم، ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، وبقاء الخلاف إلى وقت وفاته مشهور. وكذلك الخلاف بينه وبين الشراة٣ __________ ١ الربذة: من قرى المدينة. ٢ وقت الإعراض: وقت أن أعرض عن القتال، أي كف واعتزل الحرب. ٣ الشراة: الخوارج، الواحد شار؛ سموا بذلك لقولهم شرينا أنفسنا في طاعة اللّه، فهو من شرى يشري كرمى يرمي، فهو شار وجمعه شراة بخلاف شرى كفرح، فإن اسم فاعله شر، وهو لا يجمع على شراة. قيل: ويجوز أن يكون من المشاراة أي المجادلة. المارقين بالنهروان١ عقدا وقولا، ونصب القتال معه فعلا ظاهرا معروف، وبالجملة كان علي رضي اللّه عنه مع الحق، والحق معه. وظهر في زمانه الخوارج٢ عليه مثل الأشعث بن قيس، ومسعود بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي وغيرهم. وكذلك ظهر في زمانه الغلاة في حقه مثل عبد اللّه بن سبإ وجماعة معه. ومن الفريقين ابتدأت البدعة والضلالة، وصدق فيه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: "يهلك فيه اثنان: محب غال ومبغض قال". وانقسمت الاختلافات بعده إلى قسمين: أحدهما الاختلاف في الإمامة. والثاني: الاختلاف في الأصول. والاختلاف في الإمامة على وجهين: أحدهما: القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار. والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين. فمن قال إن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار؛ قال بإمامة كل من اتفقت عليه الأمة، أو جماعة معتبرة من الأمة: إما مطلقا، وإما بشرط أن يكون قرشيا؛ على مذهب قوم. وبشرط أن يكون هاشميا؛ على مذهب قوم. إلى شرائط أخرى كما سيأتي. ومن قال بالأول، قال بإمامة معاوية وأولاده، وببعدهم بخلافة مروان وأولاده. والخوارج اجتمعوا في كل زمان على واحد منهم بشرط أن يبقى على مقتضى اعتقادهم، ويجري على سنن العدل في معاملاتهم، وإلا خذلوه وخلعوه، وربما قتلوه. ومن قالوا إن الإمامة تثبت بالنص، اختلفوا بعد علي رضي اللّه عنه، فمنهم من قال __________ ١ النهروان: بفتح النون وتثليث الراء، وبضمها: عدة قرى بين واسط وبغداد بالعراق. ٢ سيأتي الكلام على الخوارج في موضعه. إنه نص على ابنه محمد بن الحنفية، وهؤلاء هم الكيسانية، ثم اختلفوا بعده، فمنهم من قال إنه لم يمت، ويرجع فيملأ الأرض عدلا، ومنهم من قال إنه مات، وانتقلت الإمامة بعده إلى ابنه أبي هاشم، وافترق هؤلاء، فمنهم من قال الإمامة بقيت في عقبه وصية بعد وصية، ومنهم من قال إنها انتقلت إلى غيره، واختلفوا في ذلك الغير، فمنهم من قال هو بنان بن سمعان النهدي، ومنهم من قال هو علي بن عبد اللّه بن عباس، ومنهم من قال هو عبد اللّه بن حرب الكندي، ومنهم من قال هو عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، وهؤلاء كلهم يقولون إن الدين طاعة رجل، ويتأولون أحكام الشرع كلها على شخص معين كما ستأتي مذاهبهم. وأما من لم يقل بالنص على محمد بن الحنفية فقال بالنص على الحسن والحسين رضي اللّه عنهما، وقال: لا إمامة في الأخوين إلا الحسن والحسين رضي اللّه عنهما. ثم اختلفوا، فمنهم من أجرى الإمامة في أولاد الحسن، فقال بعده بإمامة ابنه الحسن، ثم ابنه عبد اللّه، ثم ابنه محمد، ثم أخيه إبراهيم الإمامين، وقد خرجا في أيام المنصور فقتلا في أيامه. ومن هؤلاء من يقول برجعة محمد الإمام، ومنهم من أجرى الوصية في أولاد الحسين وقال بعده بإمامة ابنه علي بن الحسين زيد العابدين نصا عليه. ثم اختلفوا بعده، فقالت الزيدية بإمامة ابنه زيد. ومذهبهم: أن كل فاطمي خرج، وهو عالم، زاهد، شجاع، سخي، كان إماما واجب الاتباع، وجوزوا رجوع الإمامة إلى أولاد الحسن. ثم منهم من وقف وقال بالرجعة، ومنهم من ساق وقال بإمامة كل من هذا حاله في كل زمان، وسيأتي فيما بعد تفصيل مذاهبهم. وأما الإمامية فقالوا بإمامة محمد بن علي الباقر نصا عليه، ثم بإمامة جعفر بن محمد الصادق وصية إليه، ثم اختلفوا بعده في أولاده: من المنصوص عليه؟ وهم خمسة: محمد، وإسماعيل، وعبد اللّه، وموسى، وعلي. فمنهم من قال بإمامة محمد وهم العمارية، ومنهم من قال بإمامة إسماعيل وأنكر موته في حياة أبيه وهم المباركية، ومن هؤلاء من وقف عليه وقال برجعته، ومنهم من ساق الإمامة في أولاده نصا بعد نص إلى يومنا هذا، وهم الإسماعيلية، ومنهم من قال بإمامة عبد اللّه الأفطح، وقال برجعته بعد موته لأنه مات ولم يعقب١، ومنهم من قال بإمامة موسى نصا عليه إذ قال والده: سابعكم قائمكم، إلا وهو سمي صاحب التوراة. ثم هؤلاء اختلفوا، فمنهم من اقتصر عليه وقال برجعته؛ إذ قال لم يمت هو، ومنهم من توقف في موته وهم الممطورة، ومنهم من قطع بموته، وساق الإمامة إلى ابنه علي بن موسى الرضا، وهم القطعية. ثم هؤلاء اختلفوا في كل ولد بعده، فالاثنا عشرية ساقوا الإمامة من على الرضا إلى ابنه محمد، ثم إلى ابنه علي، ثم إلى ابنه الحسن، ثم إلى ابنه محمد القائم المنتظر الثاني عشر، وقالوا: هو حي لم يمت، ويرجع فيملأ الدنيا عدلا، كما ملئت جورا. وغيرهم ساقوا الإمامة إلى الحسن العسكري، ثم قالوا بإمامة أخيه جعفر، وقالوا بالتوقف عليه، أو قالوا بالشك في حال محمد، ولهم خبط٢ طويل في سوق الإمامة، والتوقف، والقول بالرجعة بعد الموت، والقول بالغيبة، ثم بالرجعة بعد الغيبة. فهذه جملة الاختلافات في الإمامة، وسيأتي تفصيل ذلك عند ذكر المذاهب. وأما الاختلافات في الأصول فحدثت في آخر أيام الصحابة بدعة معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، ويونس الأسواري في القول بالقدر وإنكار إضافة الخير والشر إلى القدر، ونسج على منوالهم واصل بن عطاء الغزال، وكان تلميذ الحسن البصري، وتلمذ له عمرو بن عبيد، وزاد عليه في مسائل القدر، وكان عمرو من دعاة يزيد الناقص أيام بني أمية، ثم والي المنصور وقال بإمامته، ومدحه المنصور يوما فقال: نثرت الحب للناس فلقطوا غير عمرو بن عبيد. والوعيدية من الخوارج، والمرجئة من الجبرية. والقدرية ابتدءوا بدعتهم في زمان الحسن، واعتزل واصل عنهم وعن أستاذه __________ ١ لم يعقب: لم يترك ولدا. ٢ حقيقة الخبط: الضرب على غير اتساق. بالقول منه بالمنزلة بين المنزلتين. فسمي هو وأصحابه معتزلة. وقد تلمذ له زيد بن علي وأخذ الأصول فلذلك صارت الزيدية كلهم معتزلة. ومن رفض زيد بن علي لأنه خالف مذهب آبائه في الأصول، وفي التبري والتولي؛ وهم من أهل الكوفة؛ وكانوا جماعة، سموا رافضة. ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حيث نشرت أيام المأمون فخلطت مناهجها بمناهج الكلام. وأفردتها فنا من فنون العلم، وسمتها باسم الكلام، إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتاقتلوا عليها، هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان. وكان أبو الهذيل العلاف شيخهم الأكبر؛ وافق الفلاسفة في أن الباري تعالى عالم بعلم، وعلمه ذاته، وكذلك قادر بقدرة، وقدرته ذاته، وأبدع بدعا في الكلام، والإرادة، وأفعال العباد، والقول بالقدر، والآجال، والأرزاق، كما سيأتي في حكاية مذهبه، وجرت بينه وبين هشام بن الحكم مناظرات في أحكام التشبيه، وأبو يعقوب الشحام والآدمي صاحبا أبي الهذيل وافقاه في ذلك كله. ثم إبراهيم بن سيار النظام في أيام المعتصم كان قد غلا في تقرير مذاهب الفلاسفة وانفرد عن السلف ببدع في القدر والرفض، وعن أصحابه بمسائل نذكرها، ومن أصحابه محمد بن شبيب، وأبو شمر، وموسى بن عمران، والفضل الحدثي، وأحمد بن خابط، ووافقه الأسواري في جميع ما ذهب غليه من البدع، وكذلك الإسكافية أصحاب أبي جعفر الإسكافي، والجعفرية أصحاب الجعفر بن جفعر بن مبشر، وجعفر بن حرب. ثم ظهرت بدع بشر بن المعتمر؛ من القول بالتولد والإفراط فيه والميل إلى الطبيعيين من الفلاسفة، والقول بأن اللّه تعالى قادر على تعذيب الطفل، وإذا فعل ذلك فهو ظالم، إلى غير ذلك مما تفرد به عن أصحابه. وتلمد ذله أبو موسى المردار راهب المعتزلة، وانفرد عنه بإبطال إعجاز القرآن من جهة الفصاحة والبلاغة، وفي أيامه جرت أكثر التشديدات على السلف لقلوهم بقدم القرآن، وتلمذ له الجعفران، وأبو زفر، ومحمد بن سويد صاحبا المردار، وأبو جعفر الإسكافي، وعيسى بن الهيثم صاحبا جعفر بن حرب الأشج. وممن بالغ في القول بالقدر: هشام بن عمرو الفوطي، والأصم من أصحابه، وقدحا في إمامة علي رضي اللّه عنه بقولهما: إن الإمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم. والفوطي والأصم اتفقا على أن اللّه تعالى يستحيل أن يكون عالما بالأشياء قبل كونها، ومنعا كون المعدوم شيئا. وأبو الحسين الخياط، وأحمد بن علي الشطوي صحبا عيسى الصوفي، ثم لزما أبا مجالد. وتلمذ الكعبي لابي الحسين الخياط، ومذهبه بعينه مذهبه، وأما معمر بن عباد السلمي، وثمامة بن أشرس النميري، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، فكانوا في زمان واحد متقاربين في الرأي والاعتقاد، منفردين عن أصحابهم بمسائل نذكرها في موضعها. والمتأخرون منهم أبو علي الجبائي، وابنه أبو هاشم، والقاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصري؛ قد لخصوا طرق أصحابهم، وانفردوا عنهم بمسائل ستأتي. أما رونق الكلام فابتداؤه من الخلفاء العباسيين: هارون، والمأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل؛ وانتهاؤه من الصاحب بن عباد وجماعة من الديالمة. وظهرت جماعة من المعتزلة متوسطين، مثل ضرار بن عمرو، وحفص الفرد، والحسين النجار، ومن المتأخرين خالفوا الشيوخ في مسائل، ونبغ منهم جهم بن صفوان في أيام نصر بن سيار، وأظهر بدعته في الجبر بترمذ١، وقتله سالم بن أحوز المازني في آخر ملك بني أمية بمرو٢. __________ ١ ترمذ: قرية ببخارى. ٢ مرو: بلد بفارس. وكانت بين المعتزلة وبين السلف في كل زمان اختلافات في الصفات، وكان السلف يناظرونهم عليها، لا على قانون كلامي، بل على قول إقناعي، ويسمون الصفاتية، فمن مثبت صفات الباري تعالى معاني قائمة بذاته، ومن مشبه صفاته بصفات الخلق، وكلهم يتعلقون بظواهر الكتاب والسنة، ويناظرون المعتزلة في قدم العالم على قول ظاهر وكان عبد اللّه بن سعيد الكلابي، وأبو العباسيي القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي أشبههم إتقانا، وأمتنهم كلاما، وجرت مناظرة بين أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، وبين أستاذه أبي علي الجبائي في بعض مسائل التحسين والتقبيح، فألزم الأشعري أستاذه أمورلم يخرج عنها بجواب فأعرض عنه وانحاز إلى طائفة السلف ونصر مذهبهم على قاعدة كلامية؛ فصار ذلك مذهبا منفردا، وقرر طريقته جماعة من المحققين مثل القاضي أبي بكر الباقلاني، والأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني، والأستاذ أبي بكر بن فورك، وليس بينهم كثير اختلاف. ونبغ رجل متنمس١ بالزهد من سجستان يقال له أبو عبد اللّه محمد بن كرام، قليل العلم، قد قمش٢ من كل مذهب ضغثا٣ وأثبته في كتابه. وروجه على أغتام٤ غرجة، وغور، وسواد بلاد خراسان، فانتظم ناموسه وصار ذلك مذهبا، وقد نصره محمود بن سبكتكين السلطان، وصب البلاء على أصحاب الحديث والشيعة من جهتهم، وهو أقرب مذهب إلى مذهب الخوارج، وهم مجسمة، وحاش غير محمد بن الهيصم فإنه مقارب. __________ ١ متستر. ٢ قمش من كل مذهب: أخذ رذالته. ٣ الضغث: الباطل، والكلام المخلط الفاسد. ٤ الذين لا يفصحون. -١-٥المقدمة الخامسة:في السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب وفيها إشارة إلى مناهج الحساب: لما كان مبنى الحساب على الحصر والاختصار، وكان غرضي من تأليف هذا الكتاب حصر المذاهب مع الاختصار؛ اخترت طريق الاستيفاء ترتيبا، وقدرت أغراضي على مناهجه تقسيما وتبويبا. وأردت أن أبين كيفية طرق هذا العلم وكمية أقسامه؛ لئلا يظن بي أني من حيث أنا فقيه ومتكلم، أجنبي النظر في مسالكه ومراسمه، أعجمي القلم بمداركه ومعالمه، فآثرت من طرق الحساب أحكامها وأحسنها، وأقمت عليه من حجج البرهان أوضحها وامتنها، وقدرتها على علم العدد، وكان الواضع الأول منه استمداد المدد، فأقول: مراتب الحساب تبتدئ من واحد، وتنتهي إلى سبع، ولا تجاوزها ألبتة. المرتبة الأولى: صدر الحساب وهو الموصوع الأول الذي يرد عليه التقسيم الأول، وهو فرد لا زوج له باعتبار، وجملة يقبل التقسيم والتفصيل باعتبار، فمن حيث إنه فرد فهو لا يستدعي أختا تساويه في الصورة والمدة، ومن حيث هو جملة فهو قابل للتفصيل حتى ينقسم إلى قسمين، وصورة المدة يجب أن تكون من الطرف إلى الطرف، ويكتب تحتها حشوا، مجملات التفاصيل، ومرسلات التقدير والتقرير، والنقل والتحويل، وكليات وجوه المجموع، وحكايات الإلحاق والموضوع، ويكتب تحتها بارزا من الطرف الأيسر كميات مبالغ المجموع. المرتبة الثانية منها: الأصل، وشكلها محقق، وهو التقسيم الأول الذي ورد على المجموع الأول، وهو زوج ليس بفرد. ويجب حصره في قسمين لا يعدوان إلى ثالث. وصورة المدة يجب أن تكون أقصر من الصدر بقليل، إذ الجزء أقل من الكل. ويكتب تحتها حشوا ما يخصها من التوجيه، والتنويع، والتفصيل، ولها أخت تساويها في المدة وإن لم يجب أن تساويها في المقدار. المرتبة الثالثة من ذلك: الأصل، وشكله محقق أيضا، وهو التقسيم الثاني الذي ورد على الموضوع الأول والثاني. وذلك لا يجوز أن ينقص عن قسمين. ولا يجوز أن يزيد على أربعة أقسام، ومن جاوز من أهل الصنعة فقد أخطأ، وما علم وضع الحساب. وسنذكر السبب فيه. وصورته ومدته أقصر من مدة منها الأصل بقليل، وكذلك يكتب تحتها ما يليق بها حشوا وبارزا. المرتبة الرابعة منها: المطموس. وشكلها هكذا "ط" وذكل يجوز أن يجاوز الأربعة، وأحسن الطرق أن يقتصر على الأقل ومدتها أقصر مما مضى. المرتبة الخامسة من ذلك: الصغير، وشكله هكذا "ص" وذلك يجوز إلى حيث ينتهي التقسيم والتبويب، والمدة أقصر مما مضى. المرتبة السادسة منها: المعوج، وشكله هكذا "،" وذلك أيضا يجوز غلى حيث ينتهي التفصيل. المرتبة السابعة، من ذلك: المعقد، وشكله هكذا "للـ" ولكن يمد من الطرف إلى الطرف، لا على أنه صدر الحساب، بل من حيث إنه النهاية التي تشاكل البداية. فهذه كيفية صور الحساب نقشا، وكمية أبوابها جملة، ولكل قسم من الأبواب أخت تقابله، وزوج يساويه في المدة ولا يجوز إغفال ذلك بحال، والحساب تاريخ وتوجيه. والآن نذكر كمية هذه الصور، وانحصار الأقسام في سبع، ولم صار العدد الأول فردا لا زوج له في الصورة؟ ولم انحصر منها الأصل في قسمين لا يعدوان إلى ثالث؟ ولم انحصر من ذلك الأصل في اربعة أقسام؟ ولم خرجت الأقسام الأخر عن الحصر؟ فأقول: إن العقلاء الذين تكلموا في علم العدد والحساب اختلفوا في الواحد: أهو من العدد، أم هو مبدأ العدد وليس داخلا في العدد؟ وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اشتراك لفظ الواحد. فالواحد يطلق ويراد به ما يتركب منه العدد؛ فإن الاثنين لا معنى لها إلا واحد مكرر أول تكرير، وكذلك الثلاثة والأربعة، ويطلق ويراد به ما يحصل منه العدد، أي هو علته ولا يدخل في العدد، أي لا يتركب منه العدد، وقد تلازم الواحدية جميع الأعداد لا على أن العدد تركب منها، بل كل موجود فهو في جنسه أو نوعه، أو شخصه واحد. يقال: إنسان واحد، وشخص واحد، وفي العدد كذلك، فإن الثلاثة في أنها ثلاثة واحدة. فالواحدية بالمعنى الأول داخلة في العدد، وبالمعنى الثاني علة للعدد، وبالمعنى الثالث ملازمة للعدد، وليس من الأقسام الثلاثة قسم يطلق على الباري تعالى معناه، فهو واحد لا كالآحاد: أي هذه الوحدات، والكثرة منه وجدت، ويستحيل عليه الانقسام بوجه من وجوه القسمة. وأكثر أصحاب العدد على أن الواحد لا يدخل في العدد، فالعدد مصدره الأول اثنان، وهو ينقسم إلى زوج وفرد. فالفرد الأول ثلاثة، والزوج الأول أربعة، وما وراء الأربعة فهو مكرر كالخمسة فإنها مركبة من عدد وفرد، وتسمى العدد الدائر؛ والستة مركبة من فردين وتسمى العدد التام، والسبعة مركبة من فرد وزوج، وتسمى العدد الكامل؛ والثمانية مركبة من زوجين وهي بداية أخرى، وليس ذلك من غرضنا. فصدر الحساب في مقابة الواحد الذي هو علة العدد، وليس يدخل فيه. ولذلك هو فرد لا أخت له. ولما كان العدد مصدره من اثنين، صار منها المحقق محصورا في قسمين. ولما كان العدد منقسما إلى فرد وزوج، صار من ذلك الأصل محصورا في أربعة. فإن الفرد الأول ثلاثة، والزوج الأول أربعة وهي النهاية، وما عداها مركب منها فكان البسائط العامة الكلية في العدد: واحد، واثنان، وثلاثة، وأربعة وهي الكمال. وما زاد عليها فمركبات كلها ولا حصر لها، فلذلك لا تنحصر الأبواب الأخر في عدد معلوم، بل تتناهي بما ينتهي به الحساب، ثم تركيب العدد على المعدود، وتقدير البسيط على المركب فمن علم آخر. وسنذكر ذلك عند ذكرنا مذاهب قدماء الفلاسفة. فإذا نجزت المقدمات على أوفى تقرير وأحسن تحرير، شرعنا في ذكر مقالات أهل العالم من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، لعله لا يشذ من أقسامها مذهب. ونكتب تحت كل باب وقسم ما يليق به ذكرا، حتى يعرف لم وضع ذلك اللفظ لذلك الباب. ونكتب تحت ذكر الفرقة المذكورة ما يعم أصنافها مذهبا واعتقادا، وتحت كل صنف ما خصه وانفرد به عن أصحابه. ونستوفي أقسام الفرق الإسلامية ثلاثا وسبعين فرقة، ونقتصر في أقسام الفرق الخارجية عن الملة الحنيفية على ما هو أشهر وأعرف أصلا وقاعدة، فنقدم ما هو أولى بالتقديم، ونؤخر ما هو أجدر بالتأخير. وشرط الصناعة الحسابية أن يكتب بإزاء المحدود من الخطوط ما يكتب حشوا، وشرط الصناعة الكتابية أن تترك الحواشي على الرسم المعهود عفوا. فراعيت شرط الصناعتين، ومددت الأبواب على شرط الحساب، وتركت الحواشي على رسم الكتاب، وباللّه أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. مذاهب أهل العلم من أرباب الديانات والملل وأهل الأهواء والنحل: من الفرق الإسلامية وغيرهم ممن له كتاب منزل محقق، مثل: اليهود، والنصارى، وممن له شبهة كتاب مثل: المجوس والمانوية، وممن له حدود وأحكام دون كتاب مثل: الفلاسفة الأولى، والدهرية، وعبدة الكواكب والأوثان، والبراهمة. نذكر أربابها وأصحابها، وننقل مآخذها ومصادرها عن كتب طائفة طائفة؛ على موجب اصطلاحاتها بعد الوقوف على مناهجها، والفحص الشديد عن مبادئها وعواقبها. ثم إن التقسيم الصحيح الدائر بين النفي والإثبات هو قولنا: إن أهل العالم انقسموا من حيث المذاهب إلى: أهل الديانات، وإلى أهل الأهواء. فإن الإنسان إذا اعتقد عقدا، أو قال قولا، فإما أن يكون فيه مستفيدا من غيره، وإما مستبدا برايه. فالمستفيد من غيره مسلم مطيع، والدين هو الطاعة، والمسلم المطيع هو المتدين، والمستبد برأيه محدث مبتدع؛ وفي الخبر عن النبي عليه السلام: "ما شقي امرؤ عن مشورة، ولا سعد باستبداد برأي" وربما يكون المستفيد من غيره مقلدا قد وجد مذهبا اتفاقيا، بأن كان أبواه أو معلمه على اعتقاد باطل فيتقلده منه دون أن يتفكر في حقه وباطله، وصواب القول فيه وخطئه؛ فحينئذ لا يكون مستفيدا، لأنه ما حصل على فائدة وعلم، ولا اتبع الأستاذ على بصيرة ويقين: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ١ شرط عظيم فليعتبر. وربما يكون المستبد برأيه مستنبطا مما استفاده على شرط أن يعلم موضع الاستنباط. __________ ١ الزخرف آية ٨٦. وكيفيته، فحينئذ لا يكون مستبدا حقيقة، لأنه حصل العلم بقوة تلك الفائدة: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ١ ركن عظيم، فلا تغفل. فالمستبدون بالرأي مطلقًا هم المنكرون للنبوات مثل الفلاسفة، والصابئة، والبراهمة، وهم لا يقولون بشرائع وأحكام أمرية، بل يضعون حدودًا عقلية حتى يمكنهم التعايش عليها. والمستفيدون هم القائلون بالنبوات. ومن كان قال بالأحكام الشرعية فقد قال بالحدود العقلية، ولا ينعكس. __________ ١ النساء آية ٨٣. تمهيد:أرباب الديانات والملل من المسلمين، وأهل الكتاب، وممن له شبهة كتاب: نتكلم ههنا في معنى الدين، والملة، والشرعة, والمنهاج والإسلام، والحنيفية، والسنة، والجماعة، فإنها عبارات وردت في التنزيل، ولكن واحدة منها معنى يخصها، وحقيقة توافقها لغة واصطلاحا. وقد بينا معنى الدين أنه الطاعة والانقياد. وقد قال اللّه تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْأِسْلامُ} ١ وقد يرد بمعنى الجزاء، يقال: "كما تدين تدان"، أي كما تفعل تجازى. وقد يرد بمعنى الحساب يوم المعاد والتناد، قال تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم} ٢ فالمتدين هو المسلم المطيع المقر بالجزاء والحساب يوم التناد والمعاد، قال اللّه تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} ٣. __________ ١ آل عمران آية ١٩. ٢ التوبة آية ٣٦. ٣ المائدة آية ٣. ولما كان نوع الإنسان محتاجا إلى اجتماع مع آخر من بني جنسه في إقامة معاشه، والاستعداد لمعاده؛ وذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكل يحصل به التمانع والتعاون حتى يحفظ بالتمانع ما هو أهله، ويحصل بالتعاون ما ليس له؛ فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي الملة، والطريق الخاص الذي يوصل إلى هذه الهيئة هو المنهاج، والشرعة، والسنة: والاتفاق على تلك السنة هي الجماعة. قال اللّه تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ١. ولن يتصور وضع الملة، وشرع الشرعة إلا بواضع شارع يكون مخصوصا من عند اللّه بآيات تدل على صدقه، وربما تكون الآية مضمنة في نفس الدعوى، وقد تكون ملازمة وربما تكون متأخرة. ثم اعلم أن الملة الكبرى هي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، وهي الحنيفية التي تقابل الصبوة٢ تقابل التضاد، وسنذكر كيفية ذلك إن شاء اللّه تعالى، قال اللّه تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ٣. والشريعة ابتدأت من نوح عليه السلام. قال اللّه تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} ٤ والحدود والأحكام ابتدأت من آدم، وشيث، وإدريس عليهم السلام، وختمت الشرائع والملل والمناهج والسنن بأكملها وأتمها حسنا وجمالا بمحمد عليه السلام. قال اللّه تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} ٥. وقد قيل: خص آدم بالأسماء، وخص نوح بمعاني تلك الأسماء، وخص إبراهيم __________ ١ المائدة آية ٤٨. ٢ الصبوة: المراد بها هنا الميل عن الحق. ٣ الحج آية ٧٨. ٤ الشورى آية ١٣. ٥ المائدة آية ٣. بالجمع بينهما، ثم خص موسى بالتنزيل، وخص عيسى بالتأويل، وخص المصطفى، صلوات اللّه عليهم أجمعين، بالجمع بينهما على ملة أبيكم إبراهيم. ثم كيفية التقرير الأول، والتكميل بالتقرير الثاني بحيث يكون مصدقا كل واحد ما بين يديه من الشرائع الماضية، والسنن السالفة؛ تقديرا للأمر على الخلق، وتوفيقا للدين على الفطرة. فمن خاصية النبوة: لا يشاركهم فيها غيرهم، وقد قيل: إن اللّه عز وجل أسس دينه على مثال خلقه ليستدل بخلقه على دينه، وبدينه على خلقه. مدخل-١-٦الباب الأول: المسلمون١- قد ذكرنا معنى الإسلام، ونفرق ههنا بينه وبين الإيمان والإحسان، ونبين ما المبدأ، وما الوسط، وما الكمال بالخبر المعروف في دعوة جبريل عليه السلام حيث جاء على صورة أعرابي وجلس حتى ألصق ركبته بركبة النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقال: "يا رسول اللّه، ما الإسلام؟ فقال: "أن تشهد أن لا إله إلا اللّه، وأني رسول اللّه. وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا". قال: صدقت. ثم قال: ما الإيمان؟ قال عليه السلام: "أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر. وأن تؤمن بالقدر خيره وشره". قال: صدقت، ثم قال: ما الإحسان؟ قال عليه الصلاة والسلام: "أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". قال: صدقت، ثم قال: متى الساعة؟ قال عليه السلام: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل"، ثم قام وخرج، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم". ففرق في التفسير بين الإسلام والإيمان. والإسلام قد يرد بمعنى الاستسلام ظاهرا، ويشترك فيه المؤمن والمنافق. قال اللّه تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ١ ففرق التنزيل بينهما. __________ ١ الحجرات آية ١٤. فإذا كان الإسلام بمعنى التسليم والانقياد ظاهراً موضع الاشتراك فهو المبدأ. ثم إذا كان الإخلاص معه بأن يصدق باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويقر عقداً بأن القدر خيره وشره من اللّه تعالى بمعنى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه كان مؤمناً حقاً. ثم إذا جمع بين الإسلام والتصديق وقرن المجاهدة بالمشاهدة وصار غيبه شهادة فهو الكمال. فكان الإسلام: مبدأ والإيمان: وسطاً والإحسان: كمالاً. وعلى هذا شمل لفظ المسلمين: الناجي والهالك. وقد يرد الإسلام وقرينه الإحسان قال اللّه تعالى: " بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسن " يحمل قوله تعالى: " ورضيت لكم الإسلام ديناً " وقوله: " إن الدين عند اللّه الإسلام " وقوله: " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " وقوله: " فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " وعلى هذا خص الإسلام بالفرقة الناجية. واللّه أعلم. أهل الأصول المختلفون في: التوحيد والعدل والوعد والوعيد والسمع والعقل. نتكلم ها هنا في معنى الأصول: معرفة الباري تعالى بوحدانيته وصفاته ومعرفة الرسل بآياتهم وبيناتهم. وبالجملة: كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول. ومن المعلوم أن الدين إذا كان منقسماً إلى معرفة وطاعة والمعرفة أصل والطاعة فرع فمن تكلم في المعرفة والتوحيد كان أصولياً ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعياً. فالأصول: هو موضوع علم الكلام والفروع: هو موضوع علم الفقه. وقال بعض العقلاء: كل ما هو معقول ويتوصل إليه بالنظر والاستدلال فهو من الأصول. وكل ما هو مظنون ويتوصل إليه بالقياس والاجتهاد فهو من الفروع. وأما التوحيد فقد قال أهل السنة وجميع الصفاتية: إن اللّه تعالى واحد في ذاته: لا قسيم لهن وواحد في صفاته الأزلية: لا نظير له، وواحد في أفعاله: لا شريك له، وقال أهل العدل: إن اللّه تعالى واحد في ذاته: لا قسمة ولا صفة له، وواحد في أفعاله: لا شريك له فلا قديم غير ذاته: ولا قسيم له في أفعاله ومحال وجود قديمين ومقدور بين قادرين وذلك هو التوحيد. وأما العدل فعلى مذهب أهل السنة أن اللّه تعالى عدل في أفعاله بمعنى أنه متصرف في ملكه وملكه: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فالعدل: وضع الشيء موضعه وهو التصرف في الملك على مقتضى المشيئة والعلم والظلم بضده فلا يتصور منه جور الحكم وظلم في التصرف. وعلى مذهب أهل الاعتزال:العدل: ما يقتضيه العقل من الحكمة وهو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة. وأما الوعد والوعيد فقد قال أهل السنة: الوعد والوعيد كلامه الأزلي وعد على ما أمر وأوعد ما نهى فكل من نجا واستوجب الثواب فبوعده وكل من هلك واستوجب العقاب فبوعيده فلا يجب عليه شيء من قضية العقل. وقال أهل العدل: لا كلام في الأزل وإنما أمر ونهى ووعد وأوعد بكلام محدث فمن نجا فبفعله استحق الثواب ومن خسر فبفعله استوجب العقاب والعقل من حيث الحكمة يقتضي ذلك. وأما السمع والعقل فقد قال أهل السنة: الواجبات كلها بالسمع والمعارف كلها بالعقل. فالعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يقتضى ولا يوجب والسمع لا يعرف أي لا يوجد المعرفة بل يوجب. وقال أهل العدل: المعارف كلها معقولة بالعقل واجبة بنظر العقل وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع والحسن والقبح: صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح. فهذه القواعد هي المسائل التي تكلم فيها أهل الأصول. وسنذكر مذهب كل طائفة مفصلاً إن شاء اللّه تعالى. ولكل علم موضوع ومسائل نذكرهما بأقصى الإمكان إن شاء اللّه تعالى. المعتزلة وغيرهم: من الجبرية والصفاتية والمختلطة منهم. الفريقان من: المعتزلة والصفاتية: متقابلا نتقابل التضاد وكذلك: القدرية والجبرية والمرجئة والوعيدية والشيعة والخوارج. وهذا التضاد بين كل فريق وفريق كان حاصلاً في كل زمان ولكل فرقة: مقالة على حيالها. وكتب صنفوها ودولة عاونتهم وصولة طاوعتهم. ١-٧ الباب الأول المعتزلةويسمون: أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية والعدلية. وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركاً وقالوا: لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من اللّه تعالى إحترازاً من وصمة اللقب إذ كان من الذم به متفقاً عليه لقول النبي عليه السلام: " القدرية مجوس هذه الأمة ". وكانت الصفاتية تعارضهم: بالاتفاق على أن الجبرية والقدرية متقابلتان تقابل التضاد فكيف يطلق لفظ الضد على الضد وقد قال النبي عليه السلام: " القدرية: خصماء اللّه في القدر " والخصومة في القدر وانقسام الخير والشر على ما فعل اللّه وفعل العبد لن يتصور على مذهب من يقول بالتسليم والتوكل وإحالة الأحوال كلها على القدر المحتوم والحكم المحكوم. والذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد: القول بأن اللّه تعالى قديم والقدم أخص وصف ذاته ونفا الصفات القديمة أصلاً فقالوا: هو عالم بذاته قادر بذاته حي بذاته لا بعلم وقدرة وحياة: هي صفات قديمة ومعان قائمة به لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الإلهية. واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه فإن ما وجد في لمحل عرض قد فنى في الحال. واتفقوا على أن الإرادة والسمع والبصر: ليست معاني قائمة بذاته لكن اختلفوا في وجوه وجودها ومحامل معانيها كما سيأتي. واتفقوا على نفي رؤية اللّه تعالى بالأبصار في دار القرار ونفى التشبيه عنه من كل وجه: ومكانا وصورة وجسماً وتحيزاً وانتقالاً وزوالاً وتغيراً وتأثراً وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيه. وسموا هذا النمط: توحيداً. واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة. والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً كما لو خلق العدل كان عادلاً. واتفقوا على أنه اللّه تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد. وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه خلاف عندهم. وسموا هذا النمط: عدلاً. واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة: استحق الثواب والعوض والتفضل معنى آخر وراء الثواب. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها: استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار. وسموا هذا النمط: وعدا ووعيداً. واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة: واجبة قبل ورود السمع والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك. وورود التكاليف ألطاف للباري تعلى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلام: امتحاناً واختباراً " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ". واختلفوا في الإمامة والقول فيها: نصاً واختباراً كما سيأتي عند كل طائفة. والآن نذكر ما يختص بطائفة طائفة من المقالة التي تميزت بها عن أصحابها. الواصليةأصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال الألثغ كان تلميذاً للحسن البصري يقرأ عليه العلوم الأخبار وكانا في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك. وبالمغرب في أيام أبي جعفر المنصور. ويقال لهم: الواصلية. واعتزالهم يدور على أربعة قواعد: القاعدة الأولى: القول بنفي صفات الباري تعالى من العلم والقدرة والإرادة والحياة. وكانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين قال: " ومن أثبت معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين ". وإنما شرعت أصحابه فيها بعد مطالعة كتب الفلاسفة وانتهى نظرهم فيها إلى رد جميع الصفات إلى كونه: عالماً قادراً ثم الحكم بأنهما صفتان ذاتيتان هما: اعتباران للذات القديمة كما قال الجبائي أو حالان كما قال أبو هاشم. وميل أبو الحسين البصري إلى ردهما إلى صفة واحدة وهي العالمية وذلك عين مذهب الفلاسفة وسنذكر تفصيل ذلك. وكان السلف يخالفهم في ذلك إذ وجدوا الصفات مذكورة في الكتاب والسنة. القاعدة الثانية: القول بالقدر: وغنما سلكوا في ذلك مسلك معبد الجهني وغيلان الدمشقي. وقرر واصل بن عطاء هذه القاعدة أكثر مما كان يقرر قاعدة الصفات فقال إن الباري تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمرن ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه فالعبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية وهو المجازى على فعله والرب تعالى أقدره على ذلك كله. وأفعال العباد محصورة في: الحركات والسكنات والاعتمادات والنظر والعلم قال: ويستحيل أن يخاطب العبد بالفعل وهو لا يمكنه أن يفعل ولا هو يحس من نفسه الاقتدار والفعل ومن أنكره فقد أنكر الضرورة واستدل بآيات على هذه الكلمات. ورأيت رسالة نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان وقد سأله عن القول بالقدر والجبر فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية واستدل فيها بآيات من الكتاب ودلائل من العقل ولعلها لواصل ابن عطاء فما كان الحسن ممن يخالف السلف في أن القدر خيره وشره من اللّه تعالى فإن هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. والعجب! أنه حمل هذا اللفظ الوارد في الخبر على: البلاء والعافية والشدة والرخاء والمرض والشفاء والموت والحياة إلى غير ذلك من أفعال اللّه تعالى دون: الخير والشر والحسن والقبيح الصادرين من اكتساب العباد. وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالة عن أصحابهم. القاعدة الثالثة: القول بالمنزلة بين المنزلتين والسبب فيه أنه دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول: صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً بل هو في منزلة بين المنزلتين: لا مؤمن ولا كافر ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن فقال الحسن: اعتزل عنا واصل فسمي هو وأصحابه: معتزلة. ووجه تقريره انه قال: إن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمى المرء مؤمناً وهو اسم مدح والاسم لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمناً وليس هو بكافر مطلقا أيضاً لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالداً فيها إذ ليس في الآخرة إلا فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير لكنه يخفف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفار. وتابعه على ذلك عمرو بن عبيد بعد أن كان موافقاً له في القدر وإنكار الصفات. القاعدة الرابعة: قوله في الفريقين من أصحاب الجمل وأ صحاب صفين: إن أحدهما مخطئ بعينه وكذلك قوله في عثمان وقاتليه وخاذليه. قال: إن أحد الفريقين فاسق لا محالة كما أن أحد المتلاعنين فاسق لا محالة لكن لا بعينه وقد عرفت قوله في الفاسق وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين فلم يجوز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل وجوز أن يكون عثمان وعلي على الخطأ. هذا قولهَ! وهو رئيس المعتزلة ومبدأ الطريقة في أعلام الصحابة وأئمة العترة. ووافقه عمرو بن عبيد على مذهبه وزاد عليه في تفسيق أحد الفريقين لا بعينه بأن قال: لو شهد رجلان من أحد الفريقين مثل علي ورجل من عسكره أو طلحة والزبير: لم تقبل شهادتهما وفيه تفسيق الفريقين وكونهما من أهل النار. وكان عمرو بن عبيد من رواة الحديث معروفاً بالزهد. وواصل مشهوراً بالفضل والأدب الهذيلية أصحاب أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف: شيخ المعتزلة ومقدم الطائفة ومقرر الطريقة والمناظر عليها أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء. ويقال: أخذ واصل بن عطاء عن أبي هاشم عبد اللّه بن محمد الحنفية ويقال: أخذه عن الحسن بن أبي الحسن البصري. وإنما انفرد عن أصحابه بعشر قواعد: الأولى: أن الباري تعالى عالم بعلمه وعلمه بذاته قادر بقدرة وقدرته ذاته حي بحياة وحياته ذاته. وإما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الذين اعتقدوا: أن ذاته واحدة لا ثرة فيها بوجه وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل هي ذاته وترجع إلى أسلوب أو اللوازم كما سيأتي. والفرق بين قول القائل: عالم بذاته لا بعلم وبين قول القائل: عالم بعلم هو ذاته أن الأول نفى الصفة والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة أو إثبات صفة هي بعينها ذات. وإذ أثبت أبو الهذيل هذه الصفات وجوهاً للذات فهي بعينها أقانيم النصارى أو أحوال أبي هاشم. الثانية: أنه أثبت إرادات لا محل لها يكون الباري تعالى مريداً بها. وهو أول من أحدث هذه المقالة وتابعه عليها المتأخرون. الثالثة: قال في كلام الباري تعالى: إن بعضه لا في محل وهو قوله كن وبعضه في محل كالأمر والنهي والخبر والإستخبار. وكأن أمر التكوين عنده غير أمر التكليف. الرابعة: قوله في القدر مثل ما قاله أصحابه إلا أنه قد ري الأولى جبري الآخرة فإن مذهبه في حركات أهل الخلدين في الآخرة: أنها كلها ضرورية لا قدرة للعباد عليها وكلها مخلوقة للباري تعالى إذ كانت مكتسبة للعباد لكانوا مكلفين بها. الخامسة: قوله إن حركات أهل الخلدين تنقطع وإنهم يصيرون إلى سكون دائم خموداً وتجتمع للذات قي ذلك السكون لأهل الجنة وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار. وهذا قريب من مذهب جهم: إذ حكم بفناء الجنة والنار. وإنما التزم أبو الهديل هذا المذهب لأنه لما ألزم في مسألة حدوث العالم: أن الحوادث التي لا أول لها كالحوادث التي لا آخر لها إذ كل واحدة لا تتناهى قال: إني لا أقول بحركات لا تتناهى آخراً كما لا أقول بحركات لا تتناهى أولاً بل يصيرون إلى سكون دائم وكأنه ظن أن ما لزمه في الحركة لا يلزمه في السكون. السادسة: قوله في الاستطاعة: إنها عرض من الأعراض غير السلامة والصحة وفرق بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح فقال لا يصح وجود أفعال القلوب منه مع عدم القدرة فالاستطاعة معها في حال الفعل. وجوز ذلك في أفعال الجوارح وقال بتقدمها فيفعل بها في الحال الأولى وإن لم يوجد الفعل إلا في الحالة الثانية قال: فحال يفعل غير حال فعل. ثم ما تولد من فعل العبد فهو فعله غير اللون والطعم والرائحة ما لا يعرف كيفيته. وقال في الإدراك والعلم الحادثين في غيره عند إسماعه وتعليمه: إن اللّه تعالى يبدعهما فيه وليسا من أفعال العباد. السابعة: قوله في المكلف قبل ورود السمع: إنه يجب عليه أن يعرف اللّه تعالى بالدليل من غير خاطر وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبداً ويعلم أيضاً حسن الحسن وقبح القبيح فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل والإعراض عن القبيح كالكذب والجور. وقال أيضاً بطاعات لا يراد بها اللّه تعالى ولا يقصد بها التقرب إليه كالقصد إلى النظر الأول والنظر الأول فإنه لم يعرف اللّه بعد والفعل عبادة وقال في المكره: إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما أكره عليه فله أن يكذب ويكون وزره موضوعاً عنه. الثامنة: قوله في الآجال والأرزاق: إن الرجل إن لم يقتل مات في ذلك الوقت ولا يجوز أن يزاد في العمر أو ينقص. والأرزاق على وجهين: أحدهما: ما خلق اللّه تعالى من الأمور المنتفع بها يجوز أن يقال خلقها رزقاً للعباد فعلى هذا من قال: إن أحداً أكل أو انتفع بما لم يخلقه اللّه رزقاً فقد أخطأ لما فيه: أن في الأجسام ما لم يخلقه اللّه تعالى. والثاني: ما حكم اللّه به من هذه الأرزاق للعباد فما أحل منها فهو رزقه وما حرم فليس رزقاً أي ليس مأموراً بتناوله. التاسعة: حكى الكعبي عنه أنه قال: إرادة اللّه غير المراد فإرادته لما خلق: هي خلقه له وخلقه للشيء عنده غير الشيء بل الخلق عنده قول لا في محل. وقال إنه تعالى لم يزل سميعاً بصيراً بمعنى سيسمع وسيبصر وكذلك لم يزل: غفوراً رحيماً محسناً خالقاً رازقاً معاقباً موالياً معادياً آمراً ناهياً بمعنى أن ذلك سيكون منه. العاشرة: حكى الكعبي عنه أنه قال: الحجة لا تقوم فيما غاب إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر ولا تخلو الأرض عن جماعة هم فيها أولياء اللّه: معصومون لا يكذبون ولا يرتكبون الكبائر فهم الحجة لا التواتر إذ يجوز أن يكذب جماعة ممن لا يحصون عدداً إذا لم يكونوا أولياء اللّه ول يكن فيهم واحد معصوم. وصحب أبا الهذيل أبو يعقوب الشحام والآدمي وهما على مقالته. وكان سنه مائة سنه توفي في أول خلافة المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين. النظاميةأصحاب إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام قد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة وانفرد عن أصحابه بمسائل: الأولى مها: أنه زاد على القول بالقدر خيره وشره منا قوله: إن اللّه تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي وليست هي مقدورة للباري تعالى خلافاً لأصحابه فإنهم قضوا بأنه غير قادر عليها لكنه لا يفعلها لأنها قبيحة. ومذهب النظام: أن القبح إذا كان صفة للقبيح وهو المانع من الإضافة إليه فعلاً ففي تجويزك وقوع القبيح منه قبح أيضاً فيجب أن يكون مانعاً ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم. وزاد أيضاً على هذا الإختباط فقال: إنما يقدر على فعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده ولا يقدر على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس في صلاحهم هذا في تعلق قدرته بما يتعلق بأمور الدنيا وأما أمور الآخرة فقال: لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل الجنة ولا أن يخرج أحداً من أهل الجنة وليس ذلك مقدوراً له. وقد ألزم عليه: إن يكون الباري تعالى مطبوعاً مجبوراً على ما يفعله فإن القادر على الحقيقة: من يتخير بين الفعل والترك فأجاب: إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل فإن عندكم يستحيل إن يفعله وإن يفعله وإن كان مقدوراً فلا فرق. وإنما أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة حيث قضوا بأن الجواد لا يجوز أن يدخر شيئا لا يفعله فما أبدعه وأوجده هو المقدور ولو كان في علمه تعالى ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه: نظاماً وترتيباً وصلاحاً لفعله. الثانية: قوله في الإرادة: إن الباري تعالى ليس موصوفاً بها على الحقيقة فإذا وصف بها شرعاً في أفعاله فالمراد بذلك: أنه خالقها ومنشئها على حسب ما علم وإذا وصف بكونه مريداً لأفعال العباد فالمعنى به أنه آمر بها وناه عنها. وعنه أخذ الكعبي مذهبه في الإرادة. الثالثة: قوله: إن أفعال العباد كلها حركات فحسب والسكون حركة اعتماد والعلوم والإرادات حركات النفس ز لم يرد بهذه الحركة حركة النقلة وإنما الحركة عنده مبدأ تغير ما كما قالت الفلاسفة: من إثبات حركات في الكيف والكم والوضع والأين والمتى إلى أخواتها. الرابعة: وافقهم أيضاً في قولهم: إن الإنسان في الحقيقة هو النفس والروح والبدن آلتها وقالبها. غير أنه تقاصر عن إدراك مذهبهم فمال إلى قول الطبيعيين منهم: إن الروح جسم لطيف مشابك للبدن مداخل للقالب بأجزائه مداخلة المائية في الورد والهنية في السمسم والمينة في اللبن وقال: إن الروح هي التي لها: قوة واستطاعة وحياة ومشيئة وهي مستطيعة بنفسها والاستطاعة قبل الفعل. الخامسة: حكى الكعبي عنه أنه قال: إن كل ما جاوز حد القدرة من الفعل فهو من فعل اللّه تعالى بإيجاب الخلقة أي إن اللّه تعالى طبع الحجر طبعاً وخلقه خلقة إذا دفعته اندفع وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعاً. وله في الجواهر وأحكامها خبط ومذهب يخالف. السادسة: وافق الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ. وأحدث القول بالطفرة لما ألزم مشى نملة على صخرة من طرف إلى طرف أنها قطعت ما لا يتناهى فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى قال: تقطع بعضها بالمشي وبعضها بالطفرة وشبه ذلك بحبل شد على خشبة معترضة وسط البئر طوله خمسون ذراعاً علق عليه معلاق فيجر به الحبل المتوسط فإن الدلو يصل إلى رأس البئر وقد قطع مائة ذراع بحبل طوله خمسون ذراعاً في زمان واحد وليس ذلك إلا أن بعض القطع بالطفرة ولم يعلم أن الطفرة قطع مسافة أيضاً موازية لمسافة فالإلزام لا يندفع عنه وإنما الرق بين المشي والطفرة يرجع إلى سرعة الزمان وبطئه. السابعة: قال: إن الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت ووافق هشام بن الحكم في قوله: أن الألوان والطعوم والروائح أجسام فتارة يقضي بكون الأجسام أعراضاً وتارة يقضي بكون الأعراض أجساماً لا غير. الثامنة: من مذهبه: أن اللّه تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن: معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده غير أن اللّه تعالى أكمن بعضها في بعض فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها. وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة. وأكثر ميله - أبداً - إلى تقرير. التاسعة: قوله في إعجاز القرآن: إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة ومنع العرب عن الاهتمام به جبراً وتعجيزاً حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله: بلاغة وفصاحة ونظماً. العاشرة: قوله في الإجماع: إنه ليس بحجة في الشرع وكذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز أن يكون حجة وإنما الحجة في قول الإمام المعصوم. الحادية عشرة: ميله إلى الرفض ووقيعته في كبار الصحابة قال: أولاً: لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهراً أو مكشوفاً وقد نص النبي صلى اللّه عليه وسلم على علي رضي اللّه عنه في مواضع وأظهره إظهاراً لم يشتبه على الجماعة إلا أن عمر كتم ذلك وهو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة. ونسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله الرسول عليه السلام حين قال: ألسنا على الحق أليسوا على الباطل قال: نعم قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا قال: هذا شك وتردد في الدين ووجدان حرج في النفس مما قضى وحكم. وزاد في الفرية فقال: إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح: أحرقوا دارها بمن فيها وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين. وقال: تغريبه نصر بن لحجاج من المدينة إلى البصرة وإبداعه التراويح ونهيه عن متعة الحج ومصادرته العمال. كل ذلك أحداث. ثم وقع في أمير المؤمنين عثمان وذكر أحداثه: من رده الحكيم بن أمية إلى المدينة وهو طريد رسول اللّه عليه السلام ونفيه أبا ذر إلى الربذة وهو صديق رسول اللّه وتقليده الوليد بن عقبه الكوفة وهو من أفسد الناس ومعاوية الشام وعبد اللّه بن عامر البصرة وتزويجه مروان بن الحكم ابنته وهم أفسدوا عليه أمره وضربه عبد اللّه بن مسعود على إحضار المصحف وعلى القول الذي شاقه به. كل ذلك أحداثه. ثم زاد على خزيه ذلك بأن عاب علياً وعبد اللّه بن مسعود لقولهما: أقول فيها برأيي وكذب ابن مسعود في روايته: السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وفي روايته: انشقاق القمر وفي تشبيهه الجن بالزط وقد أنكر الجن رأساً. إلى غير ذلك من الوقيعة الفاحشة في لصحابة رضي اللّه عنهم أجمعين. الثانية عشرة: قوله في المفكر قبل ورود السمع: أنه إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال. وقال بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعاله. وقال: لا بد من خاطرين أحدهما يأمر بالإقدام والآخر بالكف ليصح الاختيار. الثالثة عشرة: قد تكلم في مسائل العد والوعيد. وزعم أن من خان في مائة وتسعين درهماً بالسرقة أو الظلم لم يفسق بذلك حتى تبلغ خيانته نصاب الزكاة وهو مائتا درهم فصاعداً فحينئذ يفسق وكذلك في سائر نصب الزكاة وقال في المعاد: إن الفضل على الأطفال كالفضل على البهائم. ووافقه الأسواري في جميع ما ذهب إليه وزاد عليه بأن قال: إن اللّه تعالى لا يوصف بالقدرة على ما علم أنه لا يفعله ولا على ما أخبر أنه لا يفعله: مع أن الإنسان قادر على ذلك لأن قدرة العبد صالحة للضد ين ومن المعلوم أن أحد الضد ين واقع في المعلوم أنه سيوجد دون الثاني. والخطاب لا ينقطع عن أبي لهب وإن أخبر الرب تعالى بأنه: سيصلى ناراً ذات لهب. ووافقه أبو جعفر الإسكافي وأصحابه من المعتزلة. وزاد عليه بأن قال: إن اللّه تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء وإنما يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين. وكذلك الجعفران: جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وافقاه وما زادا عليه إلا أن جعفر بن مبشر قال: في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس وزعم أن إجماع الصحابة على حد شارب الخمر كان خطأ إذ المعتبر في الحدود: النص والتوقيف. وزعم أن سارق الحبة الواحدة فاسق منخلع عن الإيمان. وكان محمد بن شبيب وأبو شمر وموسى بن عمران: من أصحاب النظام إلا أنهم خالفوه في الوعيد وفي المنزلة بين المنزلتين: وقالوا: صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بمجرد ارتكاب الكبيرة. وكان ابن مبشر يقول في الوعيد: إن استحقاق العقاب والخلود في النار بالفكر يعرف قبل ورود السمع. وسائر أصحابه يقولون: التخليد لا يعرف إلا بالسمع. ومن أصحاب النظام: الفضل الحدثي وأحمد بن خابط. قال الرواندي: إنهما كانا يزعمان أن للخلق خالقين: أحدهما قديم وهو الباري تعالى والثاني محدث وهو المسيح عليه السلام لقوله إذ تخلق من الطين كهيئة الطير. وكذبه لكعبي في رواية الحدثي خاصة لحسن اعتقاده فيه. الخابطية والحدثيةالخابطية: أصحاب احمد بن خابط وكذلك الحثية أصحاب الفضل الحدثي: كانا من أصحاب النظام وطالعا كتب الفلاسفة أيضاً وضما إلى مذهب النظام ثلاث بدع: البدعة الأولى: إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح عليه السلام موافقة النصارى على اعتقادهم: أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة وهو المراد بقوله تعالى: " وجاء ربك والملك صفاً صفاً ". وهو الذي يأتي ظلل من الغمام وهو المعني بقوله تعالى: " أو يأتي ربك ". وهو المراد بقول النبي عليه السلام: " إن اللّه تعالى خلق آدم على صورة الرحمن ". وبقوله: " يضع الجبار قدمه في النار ". وزعم أحمد بن خابط: أن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة المتجسدة كما قالت النصارى. البدعة الثانية: القول بالتناسخ: زعما أن اللّه تعالى أبدع خلقه: أصحاء سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم وخلق فيهم معرفته والعلم به وأسبغ عليهم نعمته ولا يجوز أن يكون أول ما يخلقه إلا: عاقلاً ناظراً معتبراً وابتدأ هو بتكليف شكره فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به وعصاه بعضهم في جميع ذلك وأطاعه بعضهم في البعض دون البعض فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم التي أبدأهم فيها ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا فألبسه هذه الأجسام الكثيفة وابتلاه: بالبأساء والضراء والشدة والرخاء والآلام واللذات. على صور مختلفة من صمر الناس وسائر الحيوانات على قدر ذنوبهم فمن كانت معصيته أقل وطاعته أكثر كانت صورته أحسن وآلامه أقل ومن كانت ذنوبه أكثر كانت صورته أقبح وآلامه أكثر. ثم لا يزال يكون الحيوان في الدنيا: كرة بعد كرة وصورة بعد أخرى مادامت في زمانهما شيخ المعتزلة أحمد بن أيوب بن مانوس وهو أيضاً من تلامذة النظام وقال أيضاً مثل ما قال أحمد بن خابط في التناسخ وخلق البرية دفعة واحدة إلا أنه قال: متى صارت النوبة إلى البهيمية ارتفعت التكاليف ومتى صارت النوبة إلى رتبة النبوة والملك ارتفعت التكاليف أيضاً وصارت النوبتان عالم الجزاء. ومن مذهبهما أن الديار خمس داران للثواب إحداهما: فيها أكل وشرب وبعال وجنات وأنهار. والثانية : دار فوق هذه الدار ليس فيها أكل ولا شرب ولا بعال بل ملاذ روحانية وروح وريحان غير جسمانية. والثالثة: دار العقاب المحض وهي نار جهنم ليس فيها ترتيب بل هي على نمط التساوي. والرابعة: دار الابتداء التي خلق الخلق فيها قبل أن يهبطوا إلى دار الدنيا وهي الجنة الأولى. والخامسة: دار الابتلاء وهي التي كلف الخلق فيها بعد أن اجترحوا في الأولى. وهذا التكوير والتكرير لا يزال في الدنيا حتى يمتلئ المكيالان: مكيال الخير ومكيال الشر فإذا امتلأ مكيال لخير صار العمل كله طاعة والمطيع خيرا خالصاً فينقل إلى الجنة ولم يلبث طرفة عين فإن مطل الغنى ظلم وفي الحديث: " أعطوا الأجير أجره قبل إن يجف عرقه ". وإذا امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصية والعاصي شريراً محضاً فينقل إلى النار ولم يلبث طرفة عين وذلك قوله تعالى: فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستفيدون. البدعة الثالثة: حملهما كل ما ورد في الخبر: من رؤية الباري تعالى مثل قوله عليه السلام: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته " على رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات وإياه على النبي عليه السلام بقوله: " أول ما خلق اللّه تعالى العقل فقال له: أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك! بك أعز وبك أذل وبك أعطي وبك أمنع فهو الذي يظهر يوم القيامة وترتفع الحجب بينه وبين الصور التي فاضت منه فيرونه كمثل القمر ليلة البدر فأما واهب العقل فلا يرى البتة. ولا يشبه إلا مبدع بمبدع. وقال ابن خابط إن كل نوع من أنواع الحيوانات أمة على حيالها لقوله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم وفي كل أمة رسول من نوعه لقوله تعالى: " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير. ولهما طريقة أخرى في التناسخ وكأنهما مزجا كلام التناسخية والفلاسفة والمعتزلة ببعضها البعض. البشريةأصحاب بشر بن المعتمر كان من أفضل علماء المعتزلة. وهو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه. وانفرد عن أصحابه بمسائل ست: الأولى منها: أنه زعم أن اللون والطعم والرائحة ز الإدراكات كلها: من السمع والرؤية. يجوز أن تحصل متولدة من فعل العبد إذا كانت أسبابها من فعله وإنما أخذ هذا من الطبيعيين إلا أنهم لا يفرقون بين المتولد والمباشر بالقدرة وربما لا يثبتون القدرة على منهاج المتكلمين. وقوة الفعل وقوة الانفعال: غير القدرة التي يثبتها المتكلم. الثانية: قوله: إن الاستطاعة: هي سلامة البنية وصحة الجوارح وتخليتها من الآفات وقال: لا أقول يفعل بها في الحالة الأولى ولا في الحالة الثانية لكني أقول: الإنسان يفعل والفعل لا يكون إلا... الثالثة: قوله: إن اللّه تعالى قادر على تعذيب الطفل ولو فعل ذلك كان ظالما إياه إلا أنه لا يستحسن أن يقال ذلك في حقه بل يقال: لو فعل ذلك كان الطفل: بالغاً عاقلاً عاصياً بمعصية ارتكبها مستحقاً للعقاب وهذا كلام متناقض. الرابعة: حكى الكعبي عنه أنه قال: إرادة اللّه تعالى: فعل من أفعاله وهي على وجهين: صفة ذات وصفة فعل: فأما صفة الذات فهي: أن اللّه تعالى لم يزل مريداً لجميع أفعاله ولجميع الطاعات من عباده فإنه حكيم ولا يجوز أن يعلم الحكيم صلاحاً وخيراً ولا يريده. وأما صفة الفعل فإن أراد بها فعل نفسه في حال إحداثه فهي خلقه له وهي قبل الخلق لأن ما به يكون الشيء لا يجوز أن يكون معه وإن أراد بها فعل عباده فهي: الأمر به. الخامسة: قال إن عند اللّه تعالى لطفاً لو أتى به لآمن جميع من في الأرض إيماناً يستحقون عليه الثواب استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده وأكثر منه وليس على اللّه تعالى أن يفعل ذلك بعباده. ولا يجب عليه رعاية الأصلح لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح فما من أصلح إلا وفوقه أصلح وإنما عليه أن يمكن العبد القدرة والاستطاعة ويزيح العلل بالدعوة والرسالة. والمفكر قبل ورود السمع يعلم الباري تعالى بالنظر والاستدلال وإذا كان مختارا ًفي فعله فيستغني عن الخاطرين لأن الخاطرين لا يكونان من قبل اللّه تعالى وإنما هما من قبل الشيطان السادسة: قال: من تاب عن كبيرة ثم راجعها عاد استحقاقه العقوبة الأولى فإنه قبل توبته بشرط أن لا يعود. المعمريةأصحاب معمر بن عباد السلمى وهو من أعظم القدرية فرية: في تدقيق القول بنفي الصفات ونفي القدر خيره وشره من اللّه تعالى والتكفير والتضليل على ذلك. وانفرد عن أصحابه بمسائل: منها: أنه قال: إن اللّه تعالى لم يخلق شيئاً غير الأجسام فأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام: إما طبعاً كالنار التي تحدث الإحراق والشمس والحرارة والقمر التلوين وإما اختياراً كالحيوان يحدث الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. ومن العجب أن حدوث الجسم وفناءه عنده عرضان فكيف يقول: إنها من فعل الأجسام وإذا لم يحدث الباري تعالى عرضاً فلم يحدث الجسم وفناءه فإن الحدوث عرض فيلزمه أن لا يكون للّه تعالى فعل أصلاً. ثم ألزم: أن كلام الباري تعالى: إما عرض أو جسم. فإن قال: هو عرض فقد أحدثه الباري تعالى فإن المتكلم على أصله هو من فعل الكلام أو ما يلزمه: أن لا يكون للّه تعالى كلام هو عرض وإن قال هو جسم فقد أبطل قوله: إنه أحدثه في محل فإن الجسم لا يقوم بالجسم فإذا لم يقل هو بإثبات الأزلية ولا قال بخلق الأعراض فلا يكون للّه تعالى كلام يتكلم به على مقتضى مذهبه. وإذا لم يكن له كلام لم يكن له آمراً ناهياً وإذا لم يكن أمر ونهي لم تكن شريعة أصلاً فأدى واهبه إلى خزي عظيم. ومنها: أنه قال: إن الأعراض لا تتناهى في كل نوع. وقال كل عرض قام بمحل فإنما يقوم به لمعنى أوجب القيام وذلك يؤدي إلى التسلسل. وعن هذه المسألة هو وأصحابه: أصحاب المعاني. وزاد على ذلك فقال: الحركة إنما خالفت السكون لا بذاتها بل بمعنى أوجب المخالفة وكذلك مغايرة: المثل ومماثلته وتضاد الضد الضد كل ذلك عنده بمعنى. ومنها: ما حكى الكعبي عنه: أن الإرادة من اللّه تعالى للشيء غير اللّه وغير خلقه للشيء وغير: الأمر والأخبار والحكم فأشار إلى أمر مجهول لا يعرف. وقال: ليس للإنسان فعل سوى الإرادة: مباشرة كانت أو توليداً وأفعاله التكليفية: من القيام والقعود والحركة والسكون في الخير والشر. كلها مستندة إلى إرادته لا على طريق المباشرة ولا على طريق التوليد وهذا عجب غير أنه إنما بناه على مذهبه في حقيقة الإنسان. وعنده: الإنسان معنى أو جوهر غير الجسد وهو: عالم قادر مختار حكيم ليس بمتحرك ولا ساكن ولا متكون ولا متمكن ولا يرى ولا يمس ولا يحس ولا يجس ولا يحل موضعاً دون موضع ولا يحويه مكان ولا يحصره زمان لكنه مدبر للجسد وعلاقته مع البدن علاقة التدبير والتصرف. وإنما أخذ هذا القول من الفلاسفة حيث قضوا بإثبات النفس الإنسانية أمراً ما هو جوهر قائم بنفسه: لا متحيز ولا متمكن وأثبتوا من جنس ذلك موجودات عقلية مثل العقول المفارقة. ثم لما كان ميل معمر بن عباد إلى مذهب الفلاسفة ميز بين أفعال النفس التي سماها إنساناً وبين القالب الذي هو جسده فقال: فعل النفس هو الإرادة فحسب النفس إنسان ففعل الإنسان هو لإرادة وما سوى ذلك: من الحركات والسكنات والاعتمادات - فهي من فعل الجسد. ومنها: أنه كان ينكر القول: بأن اللّه تعالى قديم لأن قديم أخذ من قدم يقدم فهو قديم وهو فعل كقولك: أخذ منه ما قدم وما حدث. وقال أيضاً: هو يشعر بالتقادم الزماني ووجود الباري تعالى ليس زماني. ويحكى عنه أيضاً: أنه قال: الخلق غير المخلوق والإحداث غير المحدث. وحكى جعفر بن حرب عنه أنه قال: إن اللّه تعالى محال أن يعرف نفسه لأنه يؤدي إلى أن لا يكون العالم والمعلوم واحداً ومحال أن يعلم غيره كما يقال: محال أن يقدر على الموجود من حيث هو موجود. ولعل هذا النقل فيه خلل فإن عاقلاً ما لا يتكلم بمثل هذا الكلام الغير المعقول. لعمري! لما كان الرجل يميل إلى الفلاسفة. ومن مذهبهم: أنه ليس علم الباري تعالى علماً انفعالياً أي تابعاً للمعلوم بل علمه علم فعلي فهو من حيث هو فاعل وعلمه هو الذي أوجب الفعل وإنما يتعلق بالموجود حال حدوثه لا محالة ولا يجوز تعلقه المعدوم على استمرار عدمه وانه علم وعقل وكونه: عقلاً وعاقلاً ومعقولاً شيء واحد فقال ابن عباد: لا يقال: يعلم نفسه لأنه يؤدي إلى تمايز بين العالم والمعلوم ولا يعلم غيره لأنه يؤدي إلى كون علمه من غيره يحصل. فإما لا يصح النقل وإما أن يحمل على مثل هذا المحمل. ولسنا من رجال ابن عباد فنطلب لكلامه وجهاً. المزداريةأصحاب عيسى بن صبيح المكنى بابي موسى الملقب بالمرداد. وقد تلمذ لبشر بن المعتمر وأخذ العلم منه وتزهد ويسمى راهب المعتزلة. وإنما انفرد عن أصحابه بمسائل: الأولى منها: قوله في القدر: إن اللّه تعالى يقدر على أن يكذب ويظلم ولو كذب وظلم كان إلهاً كاذباً وظالماً تعالى اللّه عن قوله. والثانية قوله في التولد: مثل قول أستاذه وزاد عليه: بأن جوز وقوع فعل واحد من فاعلين على سبيل التولد. والثالثة قوله في القرآن: إن الناس قادرون على فعل القرآن: فصاحة ونظما وبلاغة وهو الذي بالغ في القول بخلق القرآن وكفر من قال بقدمه بأنه قد أثبت قديمين. وكفر أيضاً من لابس السلطان وزعم أنه لا يرث ولا يورث وكفر أيضاً من قال: إن أعمال العباد مخلوقة للّه تعالى ومن قال: إنه يرى بالأبصار وغلا في التكفير حتى قال: هم كافرون في قولهم: لا إله إلا اللّه. وقد سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعاً فكفرهم فأقبل عليه إبراهيم وقال: الجنة التي عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك! فخزي ولم يحر جواباً. وقد تلمذ له أيضاً: الجعفران وأبو زفر ومحمد بن سويد. وصحب: أبو جعفر محمد ابن عبد اللّه الإسكافي وعيسى ابن الهيثم: جعفر بن حرب الأشج. وحكى الكعبي عن الجعفرين أنهما قالا: إن اللّه تعالى خلق القرآن في اللوح المحفوظ ولا يجوز أن ينقل إذ يستحيل أن يكون الشيء الواحد في مكانين في حالة واحدة وما نقرأه فهو حكاية عن المكتوب الأول في اللوح المحفوظ وذلك فعلنا وخلقنا. قال: وهو الذي اختاره من الأقوال المختلفة في القرآن. وقالا في تحسين العقل وتقبيحه: إن العقل يوجب معرفة اللّه تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع وعليه أن يعلم أنه قصر ولم يعرفه ولم يشكره: عاقبه عقوبة دائمة فأثبت التخليد واجباً بالعقل. أصحاب ثمامة بن أشرس النميري كان جامعاً بين سخافة الدين وخلاعة النفس مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين. وانفرد عن أصحابه بمسائل: منها: قوله: إن الأفعال المتولدة لا فاعل لها إذ م يمكنها إضافتها إلى فاعل أسبابها حتى يلزمه أن يضيف الفعل إلى ميت مثل ما إذا فعل السبب ومات ووجد المتولد بعده. ولم يمكنه إضافتها إلى اللّه تعالى لأنه يؤدي إلى فعل القبيح وذلك محال. فتحير فيه وقال: المتولدات أفعال لا فاعل لها. ومنها: قوله في الكفار والمشركين والمجوس واليهود والنصارى والزنادقة والدهرية: إنهم يصيرون في القيامة تراباً وكذلك قوله في البهائم والطيور وأطفال المؤمنين. ومنها: قوله: الاستطاعة هي السلامة وصحة الجوارح وتخليتها من الآفات وهي قبل الفعل. ومنها: قوله: إن المعرفة متولدة من النظر وهو فعل لا فاعل له كسائر المتولدات. ومنها: قوله في تحسين العقل وتقبيحه وإيجاب المعرفة قبل ورود السمع: مثل قول أصحابه غير أنه زاد عليهم فقال: من الكفار من لا يعلم خالقه وهو معذور. وقال: إن المعارف كلها ضرورية وإن من لم يضطر إلى معرفة اللّه سبحانه وتعالى فليس هو مأموراً بها وإنما خلق للعبرة ومنها: قوله: لا فعل للإنسان إلا الإرادة وماعداها فهو حدث لا محدث له. وحكى ابن الرواندي عنه أنه قال: العالم فعل اللّه تعالى بطباعه ولعله أراد بذلك ما تريده الفلاسفة: من الإيجاب بالذات دون الفلاسفة من القول بقدم العالم إذ الموجب لا ينفك عن الموجب. وكان ثمامة في أيام المأمون وكان عنده بمكان. الهشاميةأصحاب هشام بن عمرو الفوطي. ومبالغته في القدر أشد وأكثر من مبالغة أصحابه. وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى وإن ورد بها التنزيل. منها قوله: إن اللّه لا يؤلف بين قلوب المؤمنين بل هم المؤتلفون باختيارهم وقد ورد في التنزيل: " ما ألفت بين قلوبهم ولكن اللّه ألف بينهم ". ومنها قوله: إن اللّه لا يحبب الإيمان إلى المؤمنين ولا يزينه في قلوبهم وقد قال تعالى: " حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ". ومبالغته في نفي إضافات: الطبع والختم والسد وأمثالها - أشد وأصعب وقد ورد بجميعها التنزيل قال اللّه تعالى: " ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم ". وقال: " بل طبع اللّه عليها بكفرهم ". وقال: " وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً ". وليت شعري! ما يعتقده الرجل إنكار ألفاظ التنزيل وكونها وحياً من اللّه تعالى فبكون تصريحاً بالكفر! أو إنكار ظواهرها من نسبتها إلى الباري تعال ووجوب تأويلها وذلك عين مذهب أصحابه ومن بدعه في الدلالة على الباري تعالى قوله: إن الأعراض لا تدل على كونه خالقاً ولا تصلح الأعراض دلالات بل الأجسام تدل على كونه خالقاً. وهذا أيضاً عجب. ومن بدعه في الإمامة قوله: إنها لا تنعقد في أيام الفتنة واختلاف الناس وإنما يجوز عقدها في حال الاتفاق والسلامة. وكذلك أبو بكر الأصم من أصحابه كان يقول: الإمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم. وإنما أراد بذلك الطعن في إمامة علي - رضي اللّه عنه إذ كانت البيعة في أيام الفتنة من غير اتفاق من جميع أصحابه إذ بقى في كل طرف طائفة على خلافة. ومن بدعه: أن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن إذ لا فائدة في وجودهما وهما جميعاً خاليتان ممن ينتفع ويتضرر بهما وبقيت هذه المسألة منه اعتقاداً للمعتزلة. وكان يقول بالموافاة وأن الإيمان هو الذي يوافي الموت. وقال: من أطاع اللّه جميع عمره وقد علم اللّه أنه يأتي بما يحبط أعماله ولو بكبيرة لم يكن مستحقاً للوعد وكذلك على العكس. وصاحبه عباد من المعتزلة وكان يمتنع من إطلاق القول بأن اللّه تعالى خلق الكافر لأن الكافر: كفر وإنسان واللّه تعالى لا يخلق الكفر. وقال النبوة جزاء على عمل وإنها باقية ما بقيت الدنيا. وحكى الأشعري عن عباد أنه زعم: أنه لا يقال: إن اللّه تعالى لم يزل قائلاً ولا غير قائل. ووافقه الإسكافي على ذلك. قالا: ولا يسمى متكلماً. وكان الفوطي يقول: إن الأشياء قبل كونها: معدومة وليست أشياء وهي بعد أن تعدم عن وجود تسمى أشياء. ولهذا المعنى كان يمنع القول: بأن اللّه تعالى قد كان لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها فإنها لا تسمى أشياء. قال: وكان يجوز القتل والغيلة على المخالفين لمذهبه وأخذ أموالهم غصباً وسرقة لاعتقاده كفرهم واستباحة دمائهم وأموالهم. الجاحظيةأصحاب عمرو بن بحر أبي عثمان الجاحظ. كان من فضلاء المعتزلة والمصنفين لهم وقد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط وروج كثير أمن مقالاتهم بعباراته البليغة وحسن براعته اللطيفة. وكان في أيام المعتصم والمتوكل. وانفرد عن أصحابه بمسائل: منها: قوله: إن المعارف كلها ضرورية طباع وليس شيء من ذلك من أفعال العباد وليس للعبد كسب سوى الإرادة وتحصل أفعاله منه طباعاً كما قال ثمامة. ونقل عنه أيضاً: أنه أنكر أصل الإرادة وكونها جنساً من الأعراض فقال: إذا انتهى السهو عن الفاعل وكان عالماً بما يفعله فهو المريد على التحقيق وأما الإرادة المتعلقة بفعل الغير فهو ميل النفس إليه. وزاد على ذلك بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة وأثبت لها أفعالاً مخصوصة بها. وقال باستحالة عدم الجواهر فالأعراض تتبدل والجواهر لا يجوز أن تفنى ومنها: قوله في أهل النار: إنهم لا يخلدون فيها عذاباً بل يصيرون إلى طبيعة النار. وكان يقول: البار تجذب أهلها إلى نفسها من غير أن يدخل أحد فيها. ومذهبه: مذهب الفلاسفة في نفي الصفات وفي إثبات القدر خيره وشره من العبد: مذهب المعتزلة. وحكى الكعبي عنه أنه قال: يوصف الباري تعالى بأنه مريد بمعنى أنه لا يصح عليه السهو في أفعاله ولا الجهل ولا يجوز أن يغلب ويقهر. وقال: إن الخلق كلهم من العقلاء عالمون بأن اللّه تعالى خالقهم وعارفون بأنهم محتاجون إلى النبي وهم محجوجون بمعرفتهم. ثم هم صنفان: عالم بالتوحيد وجاهل به فالجاهل معذور والعالم محجوج. ومن انتحل دين الإسلام فإن اعتقد أن اللّه تعالى ليس بجسم ولا صورة ولا يرى بالأبصار وهو عدل لا يجوز ولا يريد المعاصي وبعد الاعتقاد واليقين أقر بذلك كله فهو مسلم حقاً. وإن لم ينظر في شيء من ذلك كله واعتقد أن اللّه تعالى ربه وان محمداً رسول اللّه فهو مؤمن لا لوم عليه ولا تكليف عليه غير ذلك. وحكى ابن الرواندي عنه أنه قال: إن للقرآن جسداً يجوز أن يقلب مرة رجلاً ومرة حيواناً وهذا مثل ما يحكى عن أبي بكر الأصم أنه زعم: أن القرآن جسم مخلوق. وأنكر الأعراض أصلاً وأنكر صفات الباري تعالى. ومذهب الجاحظ هو بعينه مذهب الفلاسفة إلا أن الميل منه ومن أصحابه إلى الطبيعيين منهم أكثر من الإلهيين. أصحاب أبى الحسين ابن أبي عمرو الخياط أستاذ أبي القاسم بن محمد الكعبي وهما من معتزلة بغداد على مذهب واحد إلا أن الخياط غالى في إثبات المعدوم شيئاً وقال: الشيء ما يعلم ويخبر عنه والجوهر جوهر في العدم والعرض عرض في العدم وكذلك أطلق جميع أسماء الأجناس والأصناف حتى قال: السواد سواد في العدم فلم يبق إلا صفة الوجود أو الصفات التي تلزم الوجود والحدوث وأطلق على المعدوم لفظ الثبوت وقال في نفي الصفات عن الباري مثل ما قال أصحابه وكذا القول في القدر والسمع والعقل. وانفرد الكعبي عن أستاذه بمسائل: منها: قوله: إن إرادة الباري تعالى ليست صفة قائمة بذاته ولا هو مريد لذاته ولا إرادته حادثة في محل أو في لا محل بل إذا أطلق عليه أنه مريد فمعناه أنه: عالم قادر غير مكره في فعله ولا كاره. ثم إذا قيل: هو مريد لأفعال عباده فالمراد به: أنه آمر بها راض عنها. وقوله في كونه سميعاً بصيرا ًراجع إلى ذلك أيضاً فهو سميع بمعنى أنه: عالم بالمسموعات وبصير بمعنى انه: عالم بالمبصرات. وقوله في الرؤية كقول أصحابه: نفياً وإحالة غير أن أصحابه قالوا: يرى الباري تعالى ذاته ويرى المرئيات وكونه مدركاً لذلك زائد على كونه عالماً. وقد أنكر الكعبي ذلك قال: معنى قولنا: يرى ذاته ويرى المرئيات: أنه عالم بها فقط. الجبائية والبهشميةأصحاب أبي على محمد بن عبد الوهاب الجبائي وابنه أبي هاشم عبد السلام وهما من معتزلة البصرة. انفردا عن أصحابهما بمسائل وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل أما المسائل التي انفردا بها عن أصحابهما: فمنها: أنهما أثبتا إرادات حادثة لا في محل يكون الباري تعالى بها موصوفا مريداً وتعظيماً لا في محل إذا أراد أن يعظم ذاته وفناء لا في محل إذا أراد أن يفني العالم. وأخص أوصاف هذه الصفات يرجع غليه من حيث إنه تعالى أيضاً لا في محل. وإثبات موجودات هي أعراض أو في حكم الأعراض لا محل لها كإثبات موجودات هي جواهر أو في حكم الجواهر لا مكان لها وذلك قريب من مذهب الفلاسفة حيث أثبتوا عقلاً هو جوهر لا في محل ولا في مكان وكذلك النفس الكلية والعقول المفارقة. ومنها: أنهما حكما بكونه تعالى متكلما بكلام يخلقه في محل وحقيقة الكلام عندهما: أصوات مقطعة وحروف منظومة والمتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام. إلا أن الجبائي خالف أصحابه خصوصاً بقوله: يحدث اللّه تعالى عند قراءة كل قارئ كلاماً لنفسه في محل القراءة وذلك حين ألزم: أن الذي يقرؤه القارئ ليس بكلام اللّه والمسموع منه ليس من كلام اللّه فالتزم هذا المحال: من إثبات أمر غير معقول ولا مسموع وهو إثبات كلامين في محل واحد. واتفقا على: نفي رؤية اللّه تعالى في بالأبصار في دار القرار وعلى القول إثبات الفعل للعبد خلقاً وإبداعاً وإضافة الخير الشر والطاعة والمعصية إليه استقلالاً واستبداداً وان الاستطاعة قبل الفل وهي: قدرة زائدة على سلامة البنية وصحة الجوارح وأثبتا البنية شرطاً في قيام المعاني التي يشترط في ثبوتها الحياة وأثبتا شريعة عقلية وردا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدي إليها فكر وبمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي إلا أن التأقيت والتخليد فيه يعرف بالسمع. والإيمان عندهما اسم مدح وهو عبارة عن خصال الخير التي إذا اجتمعت في شخص سمي بها: مؤمناً ومن ارتكب كبيرة فهو في الحال يسمى فاسقاً: لا مؤمناً ولا كافراً وإن لم يتب ومات عليها فهو مخلد في النار. واتفقا على أن اللّه تعالى لم يدخر عن عباده شيئا مما علم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة والتوبة من الصلاح والأصح واللطف لأنه: قادر عالم جواد حكيم: لا يضره الإعطاء ولا ينقص من خزائنه المنح ولا يزيد في ملكه الادخار. وليس الأصلح هو الألذ بل هو: الأعود في العاقبة والأصوب في العاجلة وإن كان ذلك مؤلماً ومكروهاً وذلك: كالحجامة والفصد وشرب الأدوية ولا يقال: إنه تعالى يقدر على شيء هو أصلح مما فعله بعبده. والتكاليف كلها ألطاف وبعثة الأنبياء وشرع الشرائع وتمهيد الأحكام ومما تخالفا فيه: أما في صفات الباري تعالى فقال الجبائي: الباري تعالى عالم لذاته قادر حي. لذاته ومعنى قوله لذاته أي لا يقتضي كونه عالماً صفة هي: علم أو حال توجب كونه عالماً. وعند أبي هاشم: هو عالم لذاته بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتاً موجوداً وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها فأثبت أحوالاً هي صفات: لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة أي: هي على حيا لهالا تعرف كذلك بل مع الذات. قال والعقل يدرك فرقاً ضرورياً بين معرفة الشيء مطلقاً وبين معرفته على صفة فليس منم عرف الذات عرف كونه عالماً ولا من عرف الجوهر عرف الجوهر عرف كونه متحيزا قابلاً للعرض. ولا شك أن الإنسان يدرك اشتراك الموجودات في قضية وافترقتا في قضية وبالضرورة يعلم أن ما اشتركت فيه غير ما افترقت به وهذه القضايا العقلية لا ينكرها عاقل وهي لا ترجع إلى الذات ولا إلى أعراض وراء الذات فإنه يؤدي إلى قيام العرض بالعرض فتعين بالضرورة أنها أحوال فكون العالم عالما حال هي صفة وراء كونه ذاتاً أي المفهوم منها غير المفهوم من الذات وكذلك كونه: قادراً حياً. ثم أثبت للباري تعالى حالة أخرى أوجبت تلك الأحوال. وخالفه والده وسائر منكري الأحوال في ذلك وردوا الاشتراك والافتراق إلى الألفاظ وأسماء الأجناس وقالوا: أليست الأحوال تشترك في كونها أحوالاً وتفترق في خصائص كذلك نقول في الصفات وإلا فيؤدي إلى إثبات الحال للحال ويفضي إلى التسلسل. بل هي راجعة إما إلى مجرد الألفاظ إذ وضعت في الأصل على وجه يشترك فيها الكثير لا أن مفهومها معنى أو صفة ثابتة في الذات على وجه يشمل أشياء ويشترك فيها الكثير فإن ذلك مستحيل. أو يرجع ذلك إلى وجوه واعتبارات عقلية هي المفهومة من قضايا الاشتراك والافتراق وتلك الوجوه: كالنسب والإضافات والقرب والبعد وغير ذلك مما لا يعد صفات بالاتفاق. وهذا هو اختيار أبي الحسن البصري وأبي الحسن الأشعري. ورتبوا على هذه المسألة: مسألة أن المعدوم شيء فمن يثبت كونه شيئاً كما نقلنا عن جماعة من المعتزلة فلا يبقى من صفات الثبوت إلا كونه موجوداً فعلى ذلك لا يثبت للقدرة في إيجادها أثراً ما سوى الوجود. والوجود على مذهب نفاة الأحوال لا يرجع إلا إلى اللفظ المجرد وعلى مذهب مثبتي الأحوال هو حالة لا توصف بالوجود ولا بالعدم وهذا كما ترى من التناقض والاستحالة ومن نفاة الأحوال من يثبته شيئاً ولا يسميه بصفات الأجناس. وعند الجبائي: أخص وصف الباري تعالى هو القدم والاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك في الأعم. وليت شعري! كيف يمكن إثباته: الاشتراك الافتراق والعموم والخصوص - حقيقة وهو من نفاة الأحوال فأما على مذهب أبي هاشم فلعمري هو مطرد غير أن القدم إذا بحث عن حقيقته واختلفا في كونه سميعاً بصيراً فقال الجبائي: معنى كونه سميعاً بصيراً: أنه حي لا آفة به. وخالفه ابنه وسائر أصحابه: أما ابنه فصار إلى أن كونه سميعاً حالة وكزنه بصيراً حالة وكونه بصيراً حالة سوى كونه عالماً لاختلاف: القضيتين والمفهومين والمتعلقين والأثرين. وقال غيره من أصحابه: معناه كونه مدركا للمبصرات مدركاً للمسموعات. واختلفا أيضاً في بعض مسائل اللطف فقال الجبائي فيمن يعلم الباري تعالى من حاله أنه لو آمن مع اللطف لكان ثوابه أقل لقلة مشقته ولو أمن بلا لطف لكان ويسوى بينه وبين من المعلوم من حاله أنه لا يفعل الطاعة على كل وجه إلا مع اللطف ويقول: إذ لو كلفه مع عدم اللطف لوجب أن يكون مستفسداً حاله غير مزيح لعلته. ويخالفه أبو هاشم في بعض المواضع في هذه المسألة قال: يحسن منه تعالى أن يكلفه الإيمان على أشق لا وجهين بلا لطف. واختلفا في فعل الألم للعوض فقال الجبائي: يجوز ذلك ابتداء لأجل العوض والاعتبار جميعاً. وتفصيل مذهب الجبائي في الأعواض على وجهين: أحدهما أنه يقول: يجوز التفضل بمثل الأعواض غير أنه تعالى علم أنه لا ينفعه عوض إلا على ألم متقدم. والوجه الثاني: أنه إنما يحسن ذلك لأن العوض مستحق والتفضل غير مستحق. والثواب عندهم ينفصل عن التفضل بأمرين: أحدهما: تعظيم وإجلال للمثاب يقترن بالنعيم والثاني: قدر زائد على التفضل فلم يجب إذاً إجراء العوض مجرى الثواب لأنه لا يتميز عن التفضل بزيادة مقدار ولا بزيادة صفة. وقال ابنه: يحسن الابتداء بمثل العوض تفضلاً والعوض منقطع غير دائم. وقال الجبائي: يجوز أن يقع الانتصاف من اللّه تعالى للمظلوم من الظالم بأعواض يتفضل بها عليه إذا لم يكن للظالم على اللّه عوض لشيء ضره به. وزعم أبو هاشم: أن التفضل لا يقع به نتصاف لأن التفضل ليس يجب عليه فعله. وقال الجبائي وابنه: لا يجب على اللّه شيء لعباده في الدنيا إذا لم يكلفهم عقلاً وشرعاً فأما إذا كلفهم: فعل الواجب في عقولهم واجتناب القبائح وخلق فيهم الشهوة للقبيح والنفور من الحسن وركب فيهم الأخلاق الذميمة فإنه يجب عليه عند هذا التكليف إكمال العقل ونصب الأدلة والقدرة والاستطاعة وتهيئة الآلة بحيث يكون مزيحاً لعللّهم فيما أمرهم. ويجب عليه أن يفعل بهم: أدعى الأمور إلى فعل ما كلفهم به وأزجر الأشياء لهم عن فعل القبيح الذي نهاهم عنه ولهم في مسائل هذا الباب خبط طويل. وأما كلام جميع المعتزلة البغداديين في النبوة والإمامة فيخالف كلام البصريين فإن مكن شيوخهم من يميل إلى الروافض ومنهم من يميل إلى الخوارج. والجبائي وأبو هاشم قد وافقا أهل السنة في الإمامة غير أنهم ينكرون الكرامات أصلا للأولياء: من الصحابة وغيرهم. ويبالغون في عصمة الأنبياء عليهم السلام عن الذنوب: كبائرها وصغائرها حتى منع الجبائي القصد إلى الذنب إلا على تأويل. والمتأخرون من المعتزلة مثل القاضي عبد الجبار وغيره انتهجوا أدلة الشيوخ واعترض على ذلك بالتزييف والإبطال وافرد عنهم بمسائل: منها نفي الحال ومنها نفي المعدوم شيئاً ومنها نفي الألوان أعراضاً ومنها قوله: كلها إلى كون الباري تعالى: عالماً قادرا مدركاً. وله ميل إلى مذهب هشام بن الحكم في أن الأشياء لا تعلم قبل كونها. والرجل فلسفي المذهب إلا أنه روج كلامه على المعتزلة في معرض الكلام فراج عليهم لقلة معرفتهم بمسالك المذاهب. ١-٨ الباب الثاني: الجبريةالجبر: هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى والجبرية أصناف: فالجبرية الخالصة: هي التي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً والجبرية المتوسطة: هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلاً فأما من أثبت للقدرة أثراً ما في لفعل وسمى ذلك كسباً فليس بجبري. والمعتزلة يسمون من لم يثبت للقدرة الحادثة أثراً في الإبداع والإحداث استقلالاً: جبرياً ويلزمهم أن يسموا من قال من أصحابهم بأن المتولدات أفعال لا فاعل لها: جبرياً إذ لم يثبتوا للقدرة الحادثة فيها أثراً. والمصنفون في المقالات عدوا النجارية والضرارية: من الجبرية وكذلك جماعة الكلابية: من الصفاتية. والأشعرية سموهم تارة حشوية وتارة جبرية. ونحن سمعنا إقرارهم على أصحابهم من النجارية والضرارية فعددناهم من الجبرية ولم نسمع إقرارهم على غيرهم فعددناهم من الصفاتية. الجهميةأصحاب جهم بن صفوان وهو من الجبرية الخالصة. ظهرت بدعته بترمذ وقتله سالم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية: وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم بأشياء: منها قوله: لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقضي تشبيهاً فنفى كونه: حياً عالماً وأثبت كونه: قادراً فاعلاً خالقاً لأنه لا يوصف شيء من خلقه: بالقدرة والفعل والخلق. ومنها لإثباته علوماً حادثة للباري تعالى لا في محل قال: لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه لأنه لو علم ثم خلق! أفبقي علمه على ما كان أم لم يبق فإن بقى فهو جهل فإن العلم بأن سيوجد غير العلم بأن قد وجد وإن لم يبق فقد تغير والمتغير مخلوق ليس بقديم. ووافق في هذا مذهب هشام بن الحكم كما تقرر قال: وإذا ثبت حدوث العلم فليس يخلو: إما أن يحدث في ذاته تعالى وذلك يؤدي إلى التغير في ذاته وأن يكون محلاً للحوادث وإما أ يحدث في محل فيكون المحل موصوفا به لا الباري تعالى. فتعين أنه لا محل له فأثبت علوما حادثة بعدد الموجودات المعلومة. ومنها قوله في القدرة الحادثة: إن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله: لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق اللّه تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات كما يقال: أثمرت الأشجار وجرى الماء وتحرك الحجر وطلعت الشمس وغربت وتغيمت السماء وأمطرت واهتزت الأرض وأنبتت إلى غير ذلك. والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال كلها جبر قال: وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً. ومنها قوله: إن حركات أهل الخلدين تنقطع والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما وتلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بحميمها إذ لا تتصور حركات لا تتناهى آخراً كما لا تتصور حركات حركات لا تتناهى أولاً وحمل قوله تعالى: خالدين فيها على المبالغة والتأكيد دون الحقيقة في التخليد كما يقول: خلد اللّه ملك فلان واستشهد على الانقطاع بقوله تعالى: " خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ". فالآية اشتملت على شريطة واستثناء. والخلود والتأييد لا شرط فيه ولا استثناء. ومنها قوله: من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده لأن العلم والمعرفة لا يزلان بالجحد فهو مؤمن قال: ولا يتفاضل أهله فيه فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد إذ المعارف لا تتفاضل. وكان السلف كلهم من أشد الرادين عليه. ونسبته إلى التعطيل المحض. وهو أيضاً موافق للمعتزلة في نفي الرؤية وإثبات خلق الكلام وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع. النجاريةأصحاب الحسين بن محمد النجار وأكثر معتزلة الري وما حواليها على مذهبه وهم وإن اختلفوا أصنافاّ غلا أنهم لم يختلفوا في المسائل التي عددناها أصولاً وهم برغوثية وزعفرانية ومستدركة وافقوا المعتزلة في نفي الصفات: من العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر ووافقوا الصفاتية في خلق الأعمال. قال النجار: الباري تعالى مريد لنفسه كما هو عالم لنفسه فألزم عموم التعلق فالتزم وقال: هو مريد الخير والشر والنفع والضر. وقال أيضاً: معنى كونه مريداً أنه غير مستكره ولا مغلوب. وقال: هو خالق أعمال العباد: خيرها وشرها حسنها وقبيحها والعبد مكتسب لها. وأثبت تأثيراً للقدرة الحادثة وسمى ذلك كسباً على حسب ما يثبته الأشعري ووافقه أيضاً في أن الاستطاعة مع الفعل. وأما في مسألة الرؤية فأنكر رؤية اللّه تعالى بالأبصار وأحالها غير أنه قال: يجوز أن يحول اللّه تعالى القوة التي في القلب - من المعرفة - إلى العين فيعرف اللّه تعالى بها فيكون ذلك رؤية. وقال بحدوث الكلام لكنه انفرد عن المعتزلة بأشياء: منها قوله: إن كلام الباري تعالى إذا قرئ فهو عرض وإذا كتب فهو جسم. ومن العجب أن الزعفرانية قالت: كلام اللّه عيره وكل ما هو غيره ح فهو مخلوق ومع ذلك قالت: كل من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر ولعلهم أرادوا بذلك: الاختلاف وإلا فالتناقض ظاهر. والمستدركة منهم زعموا: أن كلامه غيره وهو مخلوق لكن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: " كلام اللّه غير مخلوق " والسلف عن آخرهم أجمعوا على هذه العبارة فوافقناهم وحملنا قولهم غير مخلوق أي: على هذا الترتيب والنظم من الحروف والأصوات بل هو مخلوق غير هذه الحروف بعينها وهذه حكاية عنها. وحكى الكعبي عن النجار أنه قال: الباري تعالى بكل مكان ذاتاً وموجوداً لا وقال في المفكر قبل ورود السمع مثل ما قالت المعتزلة: أنه يجب عليه تحصيل المعرفة بالنظر والاستدلال. وقال في الإيمان إنه عبارة عن التصديق ومن ارتكب كبيرة ومات عليها من غير توبة عوقب على ذلك ويجب أن يخرج من النار فليس من العدل التسوية بينه وبين الكفار في الخلود. ومحمد بن عيسى الملقب ببرغوث وبشر بن غياث المريسي والحسين النجار: متقاربون في المذهب. وكلهم أثبتوا كونه تعالى مريداً - لم يزل - لكل ما علم أنه سيحدث من: خير وشر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية. وعامة المعتزلة يأبون ذلك. الضراريةأصحاب ضرار بن عمرو وحفص الفرد واتفقا: في التعطيل وعلى أنهما قالا: الباري تعالى قادر على معنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز. وأثبتا للّه سبحانه ماهية لا يعلمها إلا هو وقالا: إن هذه المقالة محكية عن أبي حنيفة رحمه اللّه وجماعة من أصحابه وأرادا بذلك: أنه يعلم نفسه شهادة لا بدليل ولا خبرن ونحن نعلمه بدليل وخبر. وأثبتا حاسة سادسة للإنسان يرى بها الباري تعالى يوم الثواب في الجنة. وقالا: أفعال العباد مخلوقة للباري تعالى حقيقة والعبد مكتسبها حقيقة وجوزاً حصول فعل بين فاعلين. وقالا: يجوز أن يقلب اللّه تعالى الأعراض أجساماً والاستطاعة والعجز بعض الجسم وهو جسم ولا محالة بنفي زمانين. وقالا: الحجة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الإجماع فقط فما ينقل عنه في أحكام الدين من طريق أخبار الآحاد فغير مقبول. ويحكى عن ضرار: أنه كان ينكر حرف عبد اللّه بن مسعود وحرف أبي بن كعب ويقطع بأن اللّه تعالى لم ينزله. وقال في المفكر قبل ورود السمع: إنه لا يجب عليه بعقله شيء حتى يأتيه الرسول فيأمره وينهاه ولا يجب على للّه تعالى شيء بحكم العقل. وزعم ضرار أيضاً: أن الإمامة تصلح في غير قريش حتى إذا اجتمع قرشي ونبطي قدمنا النبطي إذ هو أقل عدداً وأضعف وسيلة فيمكننا خلعه إذا خالف الشريعة. والمعتزلة وإن جوزوا الإمامة في غير قريش إلا أنهم لا يجوزون تقديم النبطي على القرشي. ١-٩ الباب الثالث الصفاتيةاعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون للّه تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقا واحداً. وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل: اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك إلا أنهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها: صفات خبرية. ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون سمى السلف: صفاتية والمعتزلة: معطلة فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها وما ورد به الخبر فافترقوا فيه فرقتين فمنهم من أوله على وجه يحتمل اللفظ ذلك ومنهم من توقف في التأويل. وقال: عرفنا بمقتضى العقل أن اللّه تعالى ليس كمثله شيء. فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى " ومثل قوله: " خلقت بيدي " ومثل قوله: " وجاء ربك إلى غير ذلك " ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه: لا شريك له وليس كمثله شيء وذلك قد أثبتناه يقيناً. ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا: لابد من إجرائها على ظاهرها والقول بتفسيرها كما وردت من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر فوقعوا في التشبيه الصرف وذلك على خلاف ما أعتقده السلف. ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود لا في كلهم بل في القرائين منهم إذ وجدوا في التوراة ألفاظاً كثيرة تدل على ذلك. ثم الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلو وتقصير: أما الغلو فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى وتقدس وأما التقصير فتشبيه الغلة بواحد من الخلق. ولما ظهرت المعتزلة والمتكلمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلو والتقصير ووقعت في الاعتزال وتخطت جماعة من السلف إلى التفسير الظاهر فوقعت في التشبيه. وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل ولا تهدفوا للتشبيه فمنهم: مالك ابن أنس رضي اللّه عنهما إذ قال: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. ومثل أحمد بن حنبل رحمه اللّه. وسفيان الثوري وداود بن علي الأصفهاني ومن تابعهم. حتى انتهى الزمان إلى: عبد اللّه بن سعيد الكلابي وأبي العباس القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية وصنف بعضهم ودرس بعض. حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة فأيد مقالتهم بمناهج كلامية وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة. وانتقلت سمة الصفاتية إلى الاشعرية. ولما كانت المشبهة والكرامية: من مثبتي الصفات عددناهم: فرقتين من جملة الصفاتية. الأشاعرةأصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المنتسب إلى أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنهما. وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري رضي اللّه عنه كان يقرر عين ما يقرر الأشعري أبو الحسن في مذهبه. وقد جرت مناظرة بين عمرو بن العاص وبينه: فقال عمرو: أين أجد أحداً أحاكم إليه ربي فقال أبو موسى: أنا ذلك المتحاكم إليه فقال عمرو: أو يقدر على شيئاً ثم يعذبني عليه قال: نعم قال عمرو: ولم قال: لا يظلمك فسكت عمرو ولم يحر جواباً. قال الأشعري: الإنسان إذا فكر في خلقته: من أي شيء ابتدأ وكيف دار في أطوار الخلقة طوراً بعد طور حتى وصل إلى كمال الخلقة وعرف يقيناً: أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته وينقله من درجة إلى درجة ويرقيه من نقص إلى كمال. علم بالضرورة أن له: صانعاً قادراً عالماً مريداً إذ لا يتصور حدوث هذه الأفعال المحكمة من طبع لظهور آثار الاختيار في الفطرة وتبين آثار الإحكام والإتقان في الخلقة فله صفات دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها وكما دلت الأفعال على كونه: عالماً قادراً مريداً.
دلت على: العلم والقدرة والإرادة لأن وجه الدلالة لا يختلف شاهداً وغائباً وأيضاً لا معنى للعلم حقيقة إلا أنه ذو علم ولا للقادر إلا أنه ذو قدرة ولا للمريد ألا أنه ذو إرادة فيحصل بالعلم والإحكام والإتقان ويحصل بالقدرة الوقوع والحدوث ويحصل بالإرادة التخصيص بوقت دون وقت وقدر دون قدر وشكل دون شكل. وهذه الصفات لن يتصور أن يوصف بها الذات إلا وأن يكون الذات حياً بحياة للدليل الذي ذكرناه. وألزم منكري الصفات إلزاماً لامحيص لهم عنه وهو: أنكم وافقتمونا - بقيام الدليل - على كونه عالماً قادراً فلا يخلو: إما أن يكون المفهومان من الصفتين واحداً أو زائداً فإن كان واحداً فيجب أن يعلم بقادريته ويقدر بعالميته ويكون من علم الذات مطلقاً علم كونه عالما قادراً وليس الأمر كذلك فعلم أن الاعتبارين مختلفان فلا يخلو: إما أن يرجع الاختلاف إلى مجرد اللفظ أو إلى الحال أو إلى الصفة. وبطل رجوعه إلى اللفظ المجرد فإن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين ولو قدر عدم الألفاظ رأساً ما ارتاب العقل فيما تصوره. وبطل رجوعه إلى الحال فإن إثبات صفة لا توصف بالوجود ولا بالعدم إثبات واسطة بين: الوجود والعدم والإثبات والنفي وذلك محال. فتعين الرجوع إلى صفة قائمة بالذات وذلك: مذهبه. على أن القاضي أبا بكر الباقلاني من أصحاب الأشعري قد ردد قوله في إثبات الحال ونفيها وتقرر رأيه على الإثبات ومع ذلك أثبت الصفات معاني قائمة به لا أحوالاً. وقال: الحال الذي أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة: خصوصاً إذا أثبت حالة أوجبت تلك الصفات. قال أبو الحسن: الباري تعالى: عالم بعلم قادر بقدرة حي بحياة مريد بإرادة متكلم بكلام سميع بسمع بصير ببصر وله في البقاء اختلاف رأي. قال: وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى لا يقال: هي هو ولا: هي غيره ولا: لا هو ولا: لا غيره. والدليل على أنه متكلم بكلام قديم ومريد بإرادة قديمة: أنه قد قام الدليل على أنه تعالى ملك والملك من له الأمر والنهي فهو آمر نله فلا يخلو: إما أن يكون آمراً بأمر قديم أو بأمر محدث وإن كان محدثاً فلا يخلو: إما أن يحدثه في ذاته أو في محل أو لا في محل. ويستحيل أن يحدثه في ذاته لأنه يؤدي إلى أن يكون محلاً للحوادث وذلك محال ويستحيل أن يحدثه في محل لأنه يوجب أن يكون المحل به موصوفاً ويستحيل أن يحدثه لا في محل لان ذلك غير معقول فتعين أنه: قديم قائم به صفة له. وكذلك التقسيم في الغدارة والسمع والبصر. قال: وعلمه واحد يتعلق بجميع المعلومات: المستحيل والجائز والواجب والموجود والمعدوم. وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصلح وجوده من الجائزات. وإرادته واحدة تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص. وكلامه واحد هو: أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه لا إلى عدد في نفس الكلام والعبارات. والألفاظ المذلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلي والدلالة مخلوقة محدثة والمدلول قديم أزلي. والفرق بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو: كالفرق بين الذكر والمذكور فالذكر محدث والمذكور قديم. وخالف الأشعري بهذا التدقيق جماعة من الحشوية إذ أنهم قضوا بكون الحروف والكلمات قديمة. والكلام عند الأشعري: معنى قائم بالنفس سوى العبارة والعبارة دلالة عليه من الإنسان فالمتكلم عنده من قام بالكلام وعند المعتزلة من فعل الكلام غير أن العبارة تسمى كلاماً: إما بالمجاز وإما باشتراك اللفظ. قال: وإرادته: واحدة قديمة أزلية متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة وأفعال عباده من حيث إنها مخلوقة له لا من حيث أنها مكتسبة لهم فعن هذا قال: أراد الجميع خيرها وشرها ونفعها وضرها وكما أراد وعلم أراد من العباد ما علم وأمر القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ فذلك حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغير ولا يتبدل. وخلاف المعلوم: مقدور الجنس محال الوقوع. وتكليف ما لا يطاق جائز على مذهبه للعلة التي ذكرناها ولأن الاستطاعة عنده عرض والعرض لا يبقى زمانين: ففي حال التكليف لا يكون المكلف قط قادراً لأن المكلف من يقدر على إحداث ما أمر به. فأما أن يجوز ذلك في حق من لا قدرة له أصلاً على الفعل فمحال إذ الإنسان يجد في نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة وبين حركات الاختيار والإرادة. والتفرقة راجعة إلى أن الحركات الاختيارية حاصلة تحت القدرة متوقفة على اختيار القادر فعن هذا قال: المكتسب هو المقدور بالقدرة الحاصلة والحاصل تحت القدرة الحادثة. ثم على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث حتى تصلح لإحداث: الألوان والطعوم والروائح وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام فيؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة. غير أن اللّه تعالى أجرى سنته بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها: الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له ويسمى هذا الفعل كسباً فيكون خلقاً من اللّه تعالى: إتباعاً وإحداثا وكسبا من العبد: حصولاً تحت قدرته. والقاضي أبي بكر الباقلاني تحظى عن هذا القدر قليلاً فقال: الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه واعتباراته على جهة الحدوث فقط بل ههنا وجوه أخر هن وراء الحدوث من كون الجوهر: متحيزاً قابلاً للعرض ومن كون العرض عرضاً ولوناً وسواداً. وغير ذلك وهذه أحوال عند مثبتي الأحوال. قال: فجهة كون الفعل حاصلاً بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة. ويسمى ذلك: كسباً وذلك هو أثر القدرة الحادثة. قال: وإذا جاز على أصل المعتزلة: أن يكون تأثير القدرة أو القادرية القديمة في حال: هو الحدوث والوجود أو في وجه منن وجوه الفعل فلم لا يجوز أن يكون تأثير القدرة الحادثة في حال: هو صفة للحادث أو في وجه من وجوه الفعل وهو كون الحركة مثلا على هيئة مخصوصة وذلك أن المفهوم من الحركة مطلقاً ومن العرض مطلقاً غير المفهوم من القيام والقعود وهما حالتان متمايزتان فإن كل قيام حركة وليس كل حركة قياماً. ومن المعلوم: أن الإنسان يفرق فرقاً ضرورياً بين قولنا: أوجد وبين قولنا: صلى وصام وقعد وقام. وكما لا يجوز أن يضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد فكذلك لا يجوز أن يضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى فأثبت القاضي تأثيرً للقدرة الحادثة. وأثرها: هي الحالة الخاصة وهي جهة من جهات الفعل حصلت من تعلق القدرة الحادثة بالفعل وتلك الجهة هي المعينة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب فإن الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب وعقاب خصوصا على أصل المعتزلة فإن جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء والحسن والقبح صفتان ذاتيتان مراء الوجود فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح. قال: فإذا جاز لكم إثبات صفتين: هما حالتان. جاز إثبات حالة: هي متعلق القدرة الحادثة. ومن قال: هي حالة مجهولة فبينا بقدر الإمكان جهتها وعرفناها آي هي ومثلناها كيف هي. ثم أن إمام الحرمين أبا المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلاً قال: أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحس وأما إثبات قدرة لا أثر لها بوجه فهو كنفي القدرة أصلاً وأما إثبات تأثير في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير خصوصاً والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم. فلا بد إذا من نسبة فعل البدع إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم والإنسان كما يحس من نفسه والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر. حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب فهو: الخالق للأسباب ومسبباتها المستغني عن الإطلاق فإن كل سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر. وهذا الرأي إنما أخذ من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام. وليس يختص نسبة السبب إلى المسبب على أصله بالفعل والقدرة بل كل ما يوجد من الحوادث فذلك حكمه. وحينئذ يلزم القول: بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً. وليس ذلك مذهب الإسلاميين. كيف ورأى المحققين من الحكماء: أن الجسم لا يؤثر فبي إيجاد الجسم قالوا: الجسم لا يجوز أن يصدر عن جسم ولا عن قوة ما في الجسم فإن الجسم مركب من مادة وصورة فلو أثر لأثر بجهتيه أعني بمادته وصورته والمادة لها طبيعة عدمية فلو أثرت لأثرت بمشاركة العدم والتالي محال فالمقدم إذاً محال فنقيضه حق وهو أن الجسم وقوة ما في الجسم: لا يجوز أن يؤثر في جسم. وتخطى من هو أشد تحققاً وأغوص تفكيراً عن الجسم وقوة ما في الجسم إلى كل ما هو جائز بذاته فقال: كل ما هو جائز بذاته لا يجوز أنن يحدث شيئاً ما فإنه لو أحدث لأحدث بمشاركة الجواز والجواز له طبيعة عدمية فلو خلى الجائز وذاته كان عدماً فلو أثر الجواز بمشاركة العدم لأدى إلى أن يؤثر العدم في الوجود وذلك محال. فإذاً لا موجد على الحقيقة إلا واجب الوجود لذاته وما سواه من الأسباب معدات لقبول الوجود لا محدثات لحقيقة الجود ولهذا شرح سنذكره. ومن العجب: أن مأخذ كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة فكيف يمكن إضافة الفعل إلى الأسباب حقيقة! هذا ونعود إلى كلام صاحب المقالة. قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى لا يشاركه في الخلق غيره فأخص وصفه تعالى هو: القدرة على الاختراع. قال: وهذا هو تفسير اسمه تعالى اللّه. وقال الأستاذ أبو اسحق الإسفرايني: أخص وصفه هو: كون يوجب تمييزه عن الأكوان كلها. وقال بعضهم: نعلم يقيناً: أن ما من موجود إلا ويتميز عن غيره بأمر ما وإلا فيقتضي أن تكون الموجودات كلها مشتركة متساوية والباري تعالى موجود فيجب أن يتميز عن سائر الموجودات بأخص وصف إلا أن العقل لا ينتهي إلى معرفة ذلك الأخص ولم يرد به سمع فنتوقف ثم: هل يجوز أن يدركه العقل ففيه خلاف أيضاً. وهذا قريب من مذهب ضرار غير أن ضراراً أطلق لفظ الماهية عليه تعالى وهو من حيث العبارة منكر. ومن مذهب الأشعري: أن كل موجود يصح أن يرى: فإن المصحح للرؤية إنما هو موجود والباري تعالى موجود فيصح أن يرى وقد ورد السمع بأن المؤمنين يرونه في الآخرة قال اللّه تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها. إلى غير ذلك من الآيات والأخبار. قال: ولا يجوز أن تتعلق به الرؤية على: جهة ومكان وصورة ومقابلة واتصال شعاع أو على سبيل انطباع فإن كل ذلك مستحيل. وله قولان في ماهية الرؤية: أحدهما: أنه علم مخصوص ويعني بالخصوص أنه متعلق بالوجود دون العدم والثاني: أنه إدراك وراء العلم لا يقتضي تأثيراً في المدرك ولا تأثراً عنه. وأثبت أن السمع والبصر للباري تعالى صفتان أزليتان هما إدراكان وراء العلم يتعلقان بالمدركات الخاصة بكل واحد بشرط الوجود. وأثبت اليدين والوجه صفات خبرية فيقول: ورد بذلك السمع فيجب الإقرار به كما ورد. وصاغوه إلى طريقة السلف من نرك التعرض للتأويل وله قول أيضاً في جواز التأويل. ومذهبه في الوعد والوعيد والأسماء والأحكام والسمع والعقل: مخالف للمعتزلة من كل وجه. قال: الإيمان هو التصديق بالجنان وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه فمن صدق بالقلب أي: أقر بوحدانية اللّه تعالى واعترف بالرسل تصديقاً لهم فيما جاءوا به من عند اللّه تعالى بالقلب صح إيمانه حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمناً ناجياً ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك. وصاحب الكبيرة: إذا خرج من الدنيا من غير توبة يكون حكمه إلى اللّه تعالى: إما أن يغفر له برحمته وإما أن يشفع فيه النبي صلى اللّه عليه وسلم إذ قال: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ". وإما أن يعذبه بمقدار جرمه ثم يدخله الجنة برحمته ولا يجوز أن يخلد في النار مع الكفار لما ورد به السمع: بالإخراج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. قال: ولو تاب فلا أقول: بأنه يجب على اللّه تعالى قبول توبته بحكم العقل إذ هو الموجب فلا يجب عليه شيء بلى: ورود السمع بقبول توبة التائبين وإجابة دعوة المضطرين. وهو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلو أدخل الخلائق بأجمعهم في الجنة لم يكن حيفاً ولو أدخلهم النار لم يكن جوراً إذ الظلم هو: التصرف فيما لا يملكه المتصرف أو وضع الشيء في غير موضعه وهو المالك المطلق فلا يتصور منه ظلم ولا ينسب إليه جور. قال: والواجبات كلها سمعية والعقل لا يوجب شيئاً ولا يقتضي تحسينا ًو لا تقبيحاً فمعرفة اللّه تعالى: بالعقل تحصل وبالسمع: تجب قال اللّه تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ". وكذلك: شكر المنعم وإثابة المطيع وعقاب العاصي يجب بالسمع دون العقل. ولا يجب على اللّه تعالى شيء ما بالعقل: لا الصلاح ولا أصلح ولا اللطف. وكل ما يقتضيه العقل من جهة الحكمة الموجبة فيقتضي نقيضه من وجه آخر. وأصل التكليف لم يكن واجباً على اللّه تعالى إذ لم يرجع إليه نفع ولا اندفع به عنه ضر. وهو قادر على مجازاة العبيد: ثواباً وعقاباً وقادر على الإفضال عليهم ابتداء: تكرماً وتفضلاً. والثواب والنعيم واللطف كله منه فضل والعقاب والعذاب كله عدل: " لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون ". وإبعاث الرسل من القضايا الجائزة لا الواجبة ولا المستحيلة ولكن بعد الانبعاث تأييدهم بالمعجزات وعصمتهم من الموبقات من جملة الواجبات إذ لا بد من طريق للمستمع يسلكه ليعرف به صدق المدعي ولا بد من إزاحة العلل فلا يقع في التكليف تناقض. والمعجزة: فعل خارق للعادة مقترن بالتحدي سليم عن المعارضة يتنزل منزلة التصديق بالقول من حيث القرينة وهو منقسم إلى خرق المعتاد وإلى إثبات غير المعتاد. والكرامات للأولياء حق وهو من وجه: تصديق للأنبياء وتأكيد للمعجزات. والإيمان والطاعة بتوفيق اللّه تعالى والكفر والمعصية بخذلانه والتوفيق عنده: خلق القدرة على الطاعة والخذلان عنده: خلق القدرة على المعصية. وعند بعض أصحابه: تيسير أسباب الخير هو التوفيق وبضده الخذلان. وما ورد به السمع من الأخبار عن الأمور الغائبة مثل: القلم واللوح والعرش والكرسي والجنة والنار فيجب إجراؤها على ظاهرها والإيمان بها كما جاءت إذ لا استحالة في إثباتها. وما ورد من الأخبار عن الأمور المستقبلة في الآخرة مثل سؤال القبر والثواب والعقاب فيه ومثل: الميزان والحساب والصراط وانقسام الفريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير. حتى يجب الاعتراف بها وإجراؤها على ظاهرها إذ لا استحالة في وجودها. والقرآن عنده معجز من حيث: البلاغة والنظم والفصاحة إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة. ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي وهو المنع من المعارضة ومن جهة الإخبار عن الغيب. وقال: الإمامة تثبت باتفاق والاختيار دون النص والتعيين إذ لو كان ثم نص لما خفي والدواعي تتوفر على نقله. واتفقوا في سقيفة بني ساعدة على أبي بكر رضي اللّه عنه ثم اتفقوا بعد تعيين أبي بكر على عمر رضي اللّه عنه واتفقوا بعد الشورى على عثمان رضي اللّه وقال: لا نقول في عائشة وطلحة والزبير: إلا أنهم رجعوا عن الخطأ والزبير من العشرة الأوائل المبشرين بالجنة. ولا نقول في حق معاوية وعمرو بن العاص: إلا أنهما بغيا على الإمام الحق فقاتلهم علي مقاتلة أهل البغي. وأما أهل النهران فهم الشراة المارقون على الدين بخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم. ولقد كان علي رضي اللّه عنه على الحق في جميع أحواله يدور الحق معه حيث دار. المشبهةاعلم أن السلف من أصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنة التي عهدوها من الأئمة الراشدين ونصرهم: جماعة من أمراء بني أمية على قولهم بالقدر وجماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن. تحيروا في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في متشابهات: آيات الكتاب الحكيم وأخبار النبي الأمين صلى اللّه عليه وسلم. فأما أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني وجماعة من أئمة السلف فجروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث مثل: مالك بن أنس ومقاتل إ بن سليمان وسلكوا طريق السلامة فقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعاً أن اللّه عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدوره. وكانوا يحترزون عن التشبيه إلى غاية أن قالوا: من حرك يده عند قراءة له تعالى: : " خلقت بيدي " أو أشار بإصبعيه عند روايته: قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن. وجب قطع يده وقلع إصبعيه. وقالوا: إنما توقفنا في تفسير الآيات وتأويلها لأمرين: أحدهما: المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالى: " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " فنحن نحترز عن الزيغ. والثاني: أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق والقول في صفات الباري بالظن غير جائز فربما أولنا الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ بل نقول كما قال الراسخون في العلم: كل من عند ربنا: آمنا بظاهره وصدقنا بباطنه ووكلنا علمه إلى اللّه تعالى ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك إذ ليس ذلك من شرائط الإيمان وأركانه. واحتاط بعضهم أكثر احتياط حتى لم يقرأ: اليد بالفارسية ولا الوجه ولا الاستواء ولا ما ورد من جنس ذلك. بل إن احتاج في ذكرها إلى عبارة عبر عنها بما ورد: لفظا بلفظ. فهذا هو طريق السلامة وليس هو من التشبيه في شيء. غير أن جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل: الهشاميين من الشيعة ومثل: مضر وكهمس وجهم الهخيمي وغيرهم من الحشوية قالوا: معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض: إما روحانية وأما جسمانية. ويجوز عليه: الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن. فأما مشبهة الشيعة فستأتي مقالاتهم في باب المغالاة. وأما مشبهة الحشوية فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن: مضر وكهمس وأحمد الهجيمي: أنهم أجازوا على ربهم: الملامسة والمصافحة وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا ز الآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض. وحكى الكعبي عن بعضهم: أنه كان يجوز الرؤية في دار الدنيا وأن يزوروه ويزورهم. وحكى عن داود الجواربي أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك. وقال: إن معبوده: جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء من: يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأذنين ومع ذلك: جسم لا كالأجسام ولحم لا كاللحوم ودم لا كالدماء وكذلك سائر الصفات وهو: لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء. وحكى عنه أنه قال: هو: أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك وأن له وفرة سوداء وله شعر قطط. وأما ما ورد في التنزيل من: اللإستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والإتيان والفوقية. وغير ذلك فأجروها على ظاهرها أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام. وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه السلام: " خلق آدم على صورة الرحمن " وقوله: " وضع يده أو كفه على كتفي " وقوله: " حتى وجدت برد أنامله على كتفي ". إلى غير ذلك. اجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام. وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه السلام وأكثرها مقتبسة من اليهود فإن التشبيه فيهم طباع حتى قالوا: اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه وإن العرش ليئط من تحته كأطيط الحل الجديد وإنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع. وروى المشبهة عن النبي عليه السلام أنه قال: " لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله ". وزادوا على التشبيه قولهم في القرآن: إن الحروف والأصوات والرقوم المكتوبة قديمة أزلية وقالوا: لا يعقل كلام بحروف ولا كلم واستدلوا بأخبار منها ما رووا عن النبي عليه السلام: ينادي اللّه تعالى يوم القيامة بصوت يسمعه الأولون والآخرون ورووا: أن موسى عليه السلام كان يسمع كلام اللّه كجر السلاسل. قالوا: وأجمعت السلف على أن القرآن كلام اللّه غير مخلوق ومن قال هو مخلوق فهو كافر باللّه ولا نعرف من القرآن إلا ما هو بين أظهرنا فنبصره ونسمعه ونقرؤه ونكتبه. والمخالفون في ذلك: أما المعتزلة فوافقونا على أن هذا الذي في أيدينا كلام اللّه وخالفونا في القدم وهم محجوجون بإجماع الأمة. وأما الأشعرية فوافقونا على أن القرآن قديم وخالفونا في أن الذي في أيدينا كلام اللّه وهم محجوجون أيضاً بإجماع الأمة: أن المشار غليه هو كلام اللّه. فأما إثبات كلام هو صفة قائمة بذات الباري تعالى: لا نبصرها ولا نكتبها ولا نقرؤها ولا نسمعها فهو مخالفة الإجماع من كل وجه. فنحن نعتقد: أن ما بين الدفتين كلام اللّه أنزله على لسان جبريل عليه السلام فهو: المكتوب في المصاحف وهو المكتوب في اللوح المحفوظ وهو الذي يسمعه المؤمنون في الجنة من الباري تعالى بغير حجاب ولا واسطة وذلك معنى قوله تعالى: " سلام قولاً من رب رحيم " وهو قوله تعالى لموسى عليه السلام: " يا موسى إني أنا اللّه رب العالمين " ومناجاته من غير واسطة حتى قال تعالى: " وكلم اللّه موسى تكليما " وقال: " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ". وروى عن النبي عليه السلام أنه قال: " إن اللّه تعالى كتب التوراة بيده وخلق جنة عدن بيده وخلق آدم بيده ". وفي التنزيل: وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء. قالوا: فنحن لا نريد من أنفسنا شيئاً ولا نتدارك بعقولنا أمراً لم يتعرض له السلف قالوا: ما بين الدفتين كلام للّه قلنا: هو كذلك واستشهدوا عليه بقوله تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام اللّه " ومن المعلوم: أنه ما سمع إلا هذا الذي نقرؤه. و قال تعالى: " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ". وقال: " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة ". وقال: " إنا أنزلناه في ليلة القدر ". وقال: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ". إلى غير ذلك من الآيات. ومن المشبهة من مال إلى مذهب الحلولية وقال: يجوز أن يظهر الباري تعالى بصورة شخص كما كان جبريل عليه السلام ينزل في صورة أعرابي وقد تمثل لمريم بشراً سوياً وعليه حمل قول النبي عليه السلام " رأيت ربي في أحسن صورة ". وفي التوراة عن موسى عليه السلام: شافهت اللّه تعالى فقال لي: كذا. والغلاة من الشيعة مذهبهم الحلول. ثم الحلول: قد يكون بجزء وقد يكون بكل على ما سيأتي في تفصيل مذاهبهم إن شاء اللّه تعالى. الكراميةأصحاب أبي عبد اللّه محمد بن كرام وإنما عددناه من الصفاتية لأنه كان ممن يثبت الصفات غلا أنه ينتهي فيها إلى التجسيم والتشبيه. وقد ذكرنا: كيفية خروجه وانتسابه إلى أهل السنة فيما قدمناه ذكره. وهم طوائف بلغ عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة وأصولها ستة: العابدية والتونية والزرينية والإسحاقية والواحدية وأقربهم: الهيصمية. ولكل واحدة منهم رأي إلا أنه لما يصدر ذلك من علماء معتبرين بل عن سفهاء أغتام جاهلين لم نفردها مذهباً وأوردنا مذهب صاحب نص أبو عبد اللّه على أن معبوده على العرش استقراراً وعلى أنه بجهة فوق ذاتاً. وأطلق عليه اسم الجوهر فقال في كتابه المسمى عذاب القبر: إنه إحدى الذات إحدى الجوهر وغناه مماس للعرش من الصفحة العليا. وجوز: وقال بعضهم: امتلأ العرش به. وصار المتأخر ون منهم: إلى أنه تعالى بجهة فوق وأنه محاذ للعرش. ثم اختلفوا: فقالت العابدية: إن بينه وبين العرش من البعد والمسافة لو قدر مشغولا بالجواهر لاتصلت به. وقال محمد بن الهيصم: إن ابنه وبين العرش بعداً لا يتناهى وإنه مباين للعالم بينوية أزلية. ونفى التحيز والمحاذاة وأثبت الفوقية والمباينة. وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه. والمقاربون منهم قالوا: نعني بكونه جسماً: أنه قائم بذاته وهذا هو حد الجسم عندهم. وبنوا على هذا أن من حكم القائلين بأنفسهما: أن يكونا متجاورين أو متباينين فقضى بعضهم بالتجاور مع العرش وحكم بعضهم بالتباين. وربما قالوا: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما بحيث الآخر كالعرض مع الجوهر وإما أن يكون بجهة منه والباري تعالى ليس بعرض إذ هو قائم بنفسه فيجب أن يكون بجهة من العالم ثم أعلى الجهات وأشرفها جهة فوق فقلنا هو بجهة فوق الذات حتى إذا رئي رئي من تلك الجهة ثم لهم اختلافات في النهاية فمن المجسمة من أثبت النهاية له من ست جهات ومنهم من أثبت النهاية له من جهة تحت ومنهم من أنكر النهاية له فقال: هو عظيم. ولهم في معنى العظمة خلاف والعرش تحته وهو فوق كله على الوجه الذي هو فوق جزء منه وقال بعضهم: معنى عظمته أنه يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد وهو يلاقي جميع أجزاء العرش وهو العلي العظيم. ومن مذهبهم جميعاً: جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى. ومن أصلهم: أن ما يحدث في ذاته فإنما يحدث بقدرته وما يحدث مبايناً لذاته فغنما يحدث بقدرته من الأقوال والإرادات ويعنون بالمحدث: ما باين ذاته من الجواهر والأعراض. ويفرقون بين الخلق والمخلوق والإيجاد والموجود والموجد وكذلك بين الإعدام والمعدوم: فالمخلوق: إنما يصير معدوماً بالإعدام الواقع في ذاته بالقدرة. وزعموا: أن في ذاته سبحانه حوادث كثيرة مثل: الإخبار عن الأمور الماضية والآتية والكتب المنزلة على الرسل عليهم السلام والقصص والوعد والوعيد والأحكام ز من ذلك المسمعات والمبصرات فيما يجوز أن يسمع ويبصر. والإيجاد والإعدام: هو القول بالإرادة وذلك قوله: كن للشيء الذي يريد كونه. وإرادته لوجود ذلك الشيء وقوله للشيء كن صورتان: وفشر محمد بن الهيصم الإيجاد والإعدام: بالإرادة والإيثار قال: وذلك مشروط بالقول شرعاً إذ ورد في التنزيل: " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " وقوله: " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون ". وعلى قول الأكثرين منهم: الخلق عبارة عن القول والإرادة. ثم اختلفوا في التفصيل: فقال بعضهم: لكل موجود إيجاد ولكل معدوم إعدام. وقال بعضهم: إيجاد واحد يصلح لموجودين إذا كانا من جنس واحد وإذا اختلف الجنس تعدد الإيجاد. وألزم بعضهم: لو افتقر كل موجود أو كل جنس إلى إيجاد فليفتقر كل إيجاد إلى قدرة فالتزم تعدد القدرة بتعدد الإيجاد. وقال بعضهم أيضاً: تتعدد القدرة بعدد أجناس المحدثات وأكثرهم على أنها تتعدد بعدد أجناس الحوادث التي تحدث في ذاته من: الكاف والنون والإرادة والسمع والتبصر. ومنهم من أثبت للّه تعالى السمع والبصر أزلاً والتسمعات والتبصرات هي إضافة المدركات إليهما. وقد أثبتوا للّه تعالى مشيئة قديمة متعلقة بأصول المحدثات وبالحوادث التي تحدث في ذاته وأثبتوا إرادات حادثة تتعلق بتفاصيل الحدثات. وأجمعوا على أن الحوادث لا توجب للّه تعالى وصفاً ولا هي صفات له فتحدث في ذاته هذه لحوادث من: الأقوال والإرادات والتسمعات والتبصرات ولا يصير بها: قائلاً ولا مريداً ولا سميعاً ولا بصيراً ولا يصير بخلق هذه الحوادث: محدثاً ولا خالقاً. وإنما هو: قائل بقائليته وخالق بخالقيته ومريد بمريديته وذلك قدرته على هذه الأشياء. ومن أصلهم: أن الحوادث التي يحدثها في ذاته واجبة البقاء حتى يستحيل عدمها إذ لو جاز عليها العدم لتعاقبت على ذاته الحوادث ولشارك الجوهر في هذه القضية أيضاً فلو قدر عدمها فلا يخلو: إما أن يقدر عدمها بالقدرة أو بإعدام يخلقه في ذاته. ولا يجوز أن يكون عدمها بالقدرة لأنه يؤدي إلى ثبوت المعدوم في ذاته وشرط الموجود والمعدوم أن يكونا مباينين لذاته ولو جاز وقوع معدوم في ذاته بالقدرة من غير واسطة إعدام لجاز حصول سائر المعلومات بلا قدرة. ثم يجب طرد ذلك في الموجد حتى يجوز وقوع موجد محدث في ذاته وذلك محال عندهم ولو فرض عدا معا بالإعدام لجاز تقدير عدم ذلك الإعدام فيتسلسل فارتكبوا في ثاني حال ثبوت الإحداث بلا فصل ولا اثر للإحداث في حال بقائه. ومن أصلهم: أن ما يحدث في ذاته من الأمر فمنقسم إلى ك أمر التكوين وهو فعل التكليف ونهى التكليف وهي أفعال من حيث دلت على القدرة ولا يقع تحتها مفعولات. هذا هو تفصيل مذاهبهم في محل الحوادث. وقد اجتهد ابن الهيصم في إرمام مقالة أبي عبد اللّه في كل مسالة حتى ردها من المحال الفاحش إلى نوع يفهم فينا بين العقلاء: مثل التجسيم فإنه قال: أراد بالجسم: القائم بالذات. ومثل الفوقية فإنه حملها على العون وأثبت البينوية غير المتناهية وذلك الخلاء الذي أثبته بعض الفلاسفة. ومثل الاستواء فإنه: نفى المجاورة والمماسة والتمكن بالذات. غير مسألة محل الحوادث فإنها لم تقبل الرمة فالتزمها كما ذكرنا وهي من أشنع المحالات عقلاً. وعند القوم: أن الحوادث تزيد على عدد المحدثات بكثير فيكون في ذاته أكثر من عدد المحدثات عوالم من الحوادث وذلك محال شنيع. ومما أجمعوا عليه من إثبات الصفات قولهم: الباري تعالى: عالم بعلم قادر بقدرة حي بحياة شاء بمشيئة وجميع هذه الصفات: صفات قديمة أزلية قائمة بذاته. وربما زادوا السمع والبصر كما أثبته الأشعري. وربما زادوا الوجه واليدين: صفات قديمة قائمة به وقالوا: له يد لا كالأيدي ووجه لا كالوجوه. وأثبتوا جواز رؤيته من جهة فوق دون سائر الجهات. وزعم ابن الهيصم: أن الذي أطلقه المشبهة على اللّه عز وجل من الهيئة والصورة والجوف والاستدارة والوفرة والمصافحة والمعانقة ونحو ذلك. لا يشبه سائر ما أطلقه الكرامية من : أنه خلق آدم بيده وأنه استوى على عرشه وأنه يجيء يوم القيامة لمحاسبة الخلق. وذلك أنا لا نعتقد من ذلك شيئاً على معنى فاسد: من جارحتين وعضوين تفسيراً لليدين ولا مطابقة للمكان واستقلال العرش بالرحمن تفسيراً للاستواء ولا تردداً في الأماكن التي تحيط به تفسيراً للمجيء وإنما ذهبنا في ذلك على إطلاق ما أطلقه القرآن فقط من غير تكييف وتشبيه وما لم يرد به القرآن والخبر فلا نطلقه كما أطلقه سائر المشبهة والمجسمة. وقال الباري تعالى عالم في الأزل بما سيكون على الوجه الذي يكون وشاء لتنفيذ علمه في معلوماته فلا ينقلب علمه جهلاً ومريد لما يخلق في الوقت الذي يخلق بإرادة حادثة وقائل لكل ما يحدث بقوله كن حتى يحدث وهو الفرق بين الإحداث والمحدث والخلق والمخلوق. وقال: نحن نثبت القدر خيره وشره من اللّه تعالى وأنه: أراد الكائنات كلها خيرها وشرها وخلق الموجودات كلها حسنها وقبيحها. في إثبات فائدة زائدة على كونه مفعولاً مخلوقاً للباري تعالى تلك الفائدة هي مورد التكليف والمورد هو المقابل بالثواب والعقاب. واتفقوا على أن العقل يحسن ويقبح قبل الشرع وتجب معرفة اللّه تعالى بالعقل كما قالت المعتزلة إلا أنهم لم يثبتوا رعية الصلح ة الأصلح واللطف عقلاً كما قالت المعتزلة. وقالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب. ودون سائر الأعمال. وفرقوا بين تسمية المؤمن مؤمناً فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة والجزاء فالمنافق عندهم: مؤمن في الدنيا على الحقيقة مستحق للعقاب الأبدي في الآخرة. وقالوا في الإمامة: إنها تثبت بإجماع الأمة دون النص والتعيين كما قال أهل السنة. إلا أنهم جوزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين وغرضهم: إثبات إمامة معاوية في الشام باتفاق جماعة من أصحابه وإثبات أمير المؤمنين علي بالمدينة والعراقيين باتفاق جماعة من أصحابه. ورأوا تصويب معاوية فيما استبد به من الأحكام الشرعية: قتالاً على طلب قتله عثمان رضي اللّه عنه واستقلالاً ببيت المال. ومذهبهم الأصلي اتهام علي رضي اللّه عنه في الصبر على ما جرى مع عثمان رضي اللّه عنه والسكوت عنه وذلك: عرق نزع. ١-١٠ الباب الرابع الخوارجالخوارج والمرجئة والوعيدية: كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى: خارجياً سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان. والمرجئة: صف آخر تكلموا في الإيمان والعمل إلا أنهم وافقوا الخوارج في بعض المسائل التي تتعلق بالإمامة. والوعيدية: داخلة في الخوارج وهم القائلون: بتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار فذكرنا مذاهبهم في أثناء مذاهب الخوارج. اعلم أن أول من خرج على أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه جماعة ممن كان معه في حرب صفين وأشدهم خروجاً عليه ومروقاً من الدين: الأشعث ابن قيس الكندي ومسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي حين قالوا: القوم يدعوننا إلى كتاب اللّه وأنت تدعونا إلى السيف. حتى قال: أنا أعلم بما في كتاب اللّه! انفروا إلى بقية الأحزاب! انفروا إلى من يقول: كذب اللّه ورسوله وأنتم تقولوا: صدق اللّه ورسوله قالوا: لترجعن الأشتر عن قتال المسلمين وإلا فعلنا بك مثل ما فعلنا بعثمان فاضطر إلى رد الأشتر بعد أن هزم الجمع وولوا مدبرين وما بقي منهم إلا شرذمة قليلة فيها حشاشة قوة فامتثل الأشتر أمره. وكان من أمر الحكمين: أن الخوارج حملوه على التحكيم أولاً وكان يريد أن يبعث عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه فما رضي الخوارج بذلك وقالوا هو منك وحملوه على بعث أبو موسى الأشعري على أن يحكم بكتاب اللّه تعالى فجرى الأمر على خلاف ما رضي به فلما لم يرض بذلك خرجت الخوارج عليه وقالوا: لم حكمت الرجال! لا حكم غلا للّه. وهم المارقون الذين اجتمعوا بالنهر وان. وكبار الفرق منهم: المحكمة والأزارقة والنجدات والبهسية والعجاردة والثعالبة والإباضية والصفرية والباقون فروعهم. ويجمعهم: القول بالتبري من عثمان وعلي رضي اللّه عنهما ويقدمون ذلك على كل طاعة ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك ويكفرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة: حقاً واجباً. هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه حين جرى أمر المحكمين واجتمعوا بحروراء من ناحية الكوفة ورأسهم: عبد اللّه بن الكواء وعتاب بن الأعور وعبد اللّه بن وهب الراسي وعروة بن جرير ويزيد ابن عاصم المحاربي وحرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية.
وكانوا يومئذ في اثني عشر ألف رجل أهل صلاة وصيام أعني يوم النهر وان. وفيهم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم وصوم أحدكم في جنب صيامهم ولكن لا يجاوز إيمانهم ترقيهم. فهم: المارقة الذين قال فيهم: سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون على الدين كما يمرق السهم من الرمية. وهم الذين أولهم: ذو الخويصرة وآخرهم: ذو الثدية. وإنما خروجهم في الزمن الأول على أمرين: أحدهما بدعتهم في الإمامة إذ جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش وكل من نصبوه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور: كان إماماً ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه وإن غير السيرة. وجوزوا أن لا يكون في العالم إماماً أصلاً وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون: عبداً أو حراً أو نبطياً أو قرشياً. والبدعة الثانية: أنهم قالوا: أخطأ علي في التحكيم إذ حكم الرجال ولا حكم إلا باللّه. وقد كذبوا على علي رضي اللّه عنه من وجهين: أحدهما في التحكيم أنه حكم الرجال وليس ذلك صدقاً لأنهم هم الذين حملوه على التحكيم. والثاني: أن تحكيم الرجال جائز فإن القوم هم الحاكمون في هذه المسألة وهم رجال ولهذا قال علي رضي اللّه عنه: كلمة حق أريد بها باطل. وتخطوا عن هذه التخطئة إلى التكفير ولعنوا علياً رضي اللّه عنه فيما قاتل: الناكثين والقاسطين والمارقين: فقاتل الناكثين واغتنم أموالهم وما سبى ذراريهم ونساؤهم وقتل مقاتلة من القاسطين وما اغتنم ولا سبى. ثم رضي بالتحكيم وقاتل مقاتلة المارقين واغتنم أموالهم وسبى ذراريهم. وطعنوا في عثمان رضي اللّه عنه للأحداث التي عدوها عليه. وطعنوا في أصحاب الجمل وأصحاب صفين. فقاتلهم علي رضي اللّه عنه بالنهروان مقاتلة شديدة فما افلت منهم إلا أقل من عشرة وما قتل من السلمين إلا أقل من عشرة فانهزم اثنان منهم إلى عمان واثنان إلى كرمان واثنان إلى سجستان واثنان إلى الجزيرة وواحد إلى تل مورون باليمن. وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم وبقيت إلى اليوم. أول من بويع من الخوارج بالإمامة: عبد اللّه بن وهب الراسي في منزل زيد بن حصين بايعه: عبد اللّه بن الكواء وعروة بن جرير ويزيد ابن عاصم المحاربي وجماعة معهم. وكان يمتنع عليهم تحرجاً ويستقبلهم ويومئ إلى غيره تحرزاً فلم يقنعوا فلا به وكان يوصف برأي ونجدة فتبرأ من الحكمين وممن رضي بقولهما وصوب أمرهما. وأكفروا أمير المؤمنين علياً رضي اللّه عنه وقالوا: إنه ترك حكم اللّه وحكم الرجال. وقيل: إن أول من تلفظ بهذا رجل من بني سعد بن زيد بن مناة بن تميم يقال له: الحجاج بن عبيد اللّه يلقب بالبرك وهو الذي ضرب معاوية على إليته لما سمع بذكر الحكمين وقال: أتحكم في دين اللّه لا حكم إلا للّه فلنحكم بما حكم اللّه في القرآن به فسمعها رجل فقال: طعن واللّه فأنفذ! فسموا: المحكمة بذلك. ولما سمع أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه هذه الكلمة قال كلمة عدل أريد بها جور إنما يقولون لا إمارة ولابد من إمارة بر أو فاجر. ويقال: إن أول سيف سل من سيوف الخوارج سيف: عروة بن أذينة وذلك أنه أقبل على الأشعث ابن قيس فقال: ما هذه الدنية يا أشعث وما هذا التحكيم أشرط أحدكم أوثق من شرط اللّه تعالى! ثم شهر السيف والأشعث مولي فضرب به عجز البغلة فشبت البغلة فنفرت اليمانية فلما رأى ذلك الأحنف: مشى هو وأصحابه إلى الأشعث فسألوه الصفح ففعل. وعروة بن أذينة نجا بعد ذلك من حرب النهران وبقي إلى أيام معاوية ثم أتى إلى زياد بن أبيه ومعه مولى له فسأله زياد عن أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما فقال فيهما خيراً وسأله عن عثمان فقال: كنت أوالي عثمان على أحواله في خلافته ست سنين ثم تبرأت منه بعد ذلك للأحداث التي أحدثها وشهد عليه بالكفر وسأله عن أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه فقال: كنت أتولاه إلى أن حكم الحكمين ثم تبرأت منه بعد ذلك وشهد عليه بالكفر وسأله عن معاوية فسبه سباً قبيحاً ثم سأله عن نفسه فقال: أولك لريبة وآخرك لدعوة وأنت فيما بينهما عاص ربك فأمر زياد بضرب عنقه. ثم دعا مولاه فقال له: صف لي أمره واصدقن فقال: أأطنب أم أختصر فقال: بل اختصر فقال: ما أتيته بطعام في نهار قط ولا فرشت له فراشاً بليل قط. هذه معاملته واجتهاده وذلك خبثه واعتقاده. الأزارقةأصحاب أبي رشد نافع بن الأزرق الذين خرجوا مع نافع من الصرة إلى الأهواز فغلبوا عليها وعلى كورها وما وراءها من بلدان: فارس وكرمان في أيام عبد اللّه بن الزبير وقتلوا عماله فيها بهذه النواحي. وكان مع نافع من أمراء الخوارج: عطية بن الأسود الحنفي وعبد اللّه بن ماخون وأخواه عثمان والزبير وعمر ابن عمير العنبري وقطري بن الفجاءة المازني وعبيدة بن هلال اليشكري وأخوه محرز بن هلال وصخر بن حبيب التيمي وصالح بن مخراق العبدي وعبد ربه الكبير وعبد ربه الصغير. في زهاء ثلاثين ألف فارس ممن يرى رأيهم وينخرط في سلكهم. فأنفذ إليهم عبد اللّه بن الحرث بن نوفل النوفلي بصاحب جيشه: مسلم بن عبيس بن كريز ابن حبيب فقتله الخوارج وهزموا أصحابه. فأخرج إليهم أيضاً عثمان بن عبد اللّه ابن معمر التميميح فهزموه. فأخرج إليهم حارثة بن بدر العتابي في جيش كثيف فهزموه وخشي أهل البصرة على أنفسهم وبلدهم من الخوارج. فأخرج إليهم المهلب بن أبي صفرة فبقي في حرب الأزارقة تسع عشرة سنة إلى أن فرغ من أمرهم في أيام الحجاج ومات نافع قبل وقائع المهلب مع الأزارقة وبايعوا بعده قطري بن الفجاءة المازنين وسموه: أمير المؤمنين. وبدع الأزارقة ثمانية: إحداهما: أنه أكفر علياً رضي اللّه عنه وقال: إن اللّه أنزل في شأنه: " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو ألد الخصام " وصوب: عبد الرحمن بن ملجم لعنه اللّه وقال: إن اللّه تعالى أنزل في شأنه: " ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة اللّه ". وقال عمران بن حطان وهو ك مفتي الخوارج وزاهدها وشاعرها الأكبر في ضربة ابن ملجم لعنه اللّه لعلي رضي اللّه عنه: يا ضربة من منيب ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوماً فأحسبه أفى البرية عند اللّه ميزانا وعلى هذه البدعة مضت الأزارقة وزادوا عليه تكفير: عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهم وسائر المسلمين معهم وتخليدهم في النار جميعاً. والثانية: أنه أكفر القعدة وهو أول من أظهر البراءة من القعدة عن القتال وإن كان موافقاً له على دينه وأكفر من لم يهاجر غليه. والثالثة: إباحته قتل الأطفال المخالفين والنسوان منهم. والرابعة: إسقاطه الرجم عن الزاني إذ ليس في القرآن ذكره وإسقاطه حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء. والخامسة: حكمه بأن أطفال المشركين في النار مع آبائهم. والسادسة: أن التقية غير جائزة في قول ولا عمل. والسابعة: تجويزه أن يبعث اللّه تعالى نبياً يعلم أنه يكفر بعد نبوته أو كان كافراً قبل البعثة. والكبائر والصغائر: إذا كانت بمثابة عنده فهي كفر. والثامنة: اجتمعت الأزارقة على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر ملة خرج به عن الإسلام جملة ويكون مخلداً في النار مع سائر الكفار واستدلوا بكفر إبليس وقالوا: ما ارتكب إلا كبيرة حيث أمر بالسجود لآدم عليه السلام فامتنع وإلا فهو عارف بوحدانية اللّه تعالى. أصحاب نجدة بن عامر الحنفي وقيل: عاصم وكان من شأنه أنه خرج مع اليمامة مع عسكره يريد اللحوق بالأزارقة فاستقبله: أبو فديك وعطية ابن الأسود الحنفي في الطائفة الذين خالفوا نافع بن الأزرق فأخبروه بما أحدثه نافع من الخلاف: بتكفير العقدة عنه وسائر الأحداث والبدع وبايعوا نجدة وسموه أمير المؤمنين. ثم اختلفوا على نجدة فأكفره قوم منهم لأمور نقموها عليه منها أنه بعث ابنه مع جيش إلى أهل القطيف فقتلوا رجالهم وسبوا نساءهم وقو موها على أنفسهم وقالوا: إن صارت قيمتهن في حصصنا فذلك وإلا رددنا الفضل ونكحوهن قبل القسمة وأكلوا من الغنيمة قبل القسمة. فلما رجعوا إلى نجدة وأخبروه بذلك قال: لم يسعمك ما فعلتم قالوا: لم نعلم أن ذلك لا يسعنا فعذرهم بجهالتهم. واتلف أصحابه بذلك فمنهم من وافقه وعذر بالجهالات في الحكم الاجتهادي وقالوا: الدين أمران: أحدهما: معرفة اللّه تعالى ومعرفة رسله عليهم السلام وتحريم دماء المسلمين يعنون موافقيهم والإقرار بما جاء من عند اللّه جملة. فهذا واجب على الجميع والجهل به لا يعذر فيه. والثاني: ما سوى ذلك: فالناس معذورون فيه. إلى أن تقوم عليهم الحجة في الحلال والحرام. قالوا: ومن جوز العذاب على المجتهد المخطىء في الأحكام قبل قيام الحجة عليه فهو كافر واستحل نجدة بن عامر دماء أهل العبد والذمة وأموالهم في حال التقية وحكم بالبراءة ممن حرمها. قال: وأصحاب الحدود من موافقيه لعل اللّه تعالى يعفو عنهم ومن نظر نظرة أو كذب كذبة صغيرة أو كبيرة أصر عليها فهو مشرك ومن زنى وشرب وسرق غير مصر عليه فهو غير مشرك وغلظ على الناس في حد الخمر تغليظا شديداً. ولما كاتب عبد الملك بن مروان وأعطاه الرضى: نقم عليه أصحابه فيه فاستتابوه فأظهر التوبة فتركوا النقمة عليه والتعرض له. وندمت طائفة على هذه الاستتابة وقالوا: أخطأنا وما كان لنا أن نستتيب الإمام وما كان له أن يتوب باستتابتنا إياه: أخطأنا من ذلك وأظهروه الخطأ وقالوا له: تب من توبتك وإلا نابذناك فتاب من توبته. وفارقه: أبو فديك وعطية ووثب عليه أبو فديك فقتله. ثم برئ أبو فديك وعطية من أبي فديك انفذ مروان بن عبد الملك: عمرو بن عبيد اللّه بن معمر من التميمي مع جيش إلى حرب أبي فديك فحاربه أياماً فقتله ولحق عطية بأرض سجستان ويقال لأصحابه: الطوية ومن أصحابه: عبد الكريم بن عجرد زعيم العجاردة. وإنما قيل للنجدات: العاذرية لأنهم عذروا بالجهلات في أحكام الفروع. وحكى الكعبي عن النجدات: أن التقية جائزة في القول والعمل كله وإن كان في قتل النفوس. قال: وأجمعت النجدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم فإن هم ثم افترقوا بعد نجدة إلى: عطوية وفديكية وبرئ كل واحد منهما عن صاحبه بعد قتل نجدة وصارت الدار لأبي فديك إلا من تولى نجدة. وأهل سجستان وخراسان وكرمان وقهستان من الخوارج على مذهب عطية. وقيل: كان نجدة بن عامر ونافع بن الأزرق قد اجتمعا بمكة مع الخوارج على ابن الزبير ثم تفرقا عنه. واختلف نافع ونجدة: فصار نافع إلى البصرة ونجدة إلى اليمامة. وكان سبب اختلافهما أن نافعاً قال: التقية لا تحل والقعود عن القتال كفر واحتج بقول اللّه تعالى: " إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية اللّه " وبقوله تعالى: " يقاتلون في سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم ". وخالفه نجدة وقال: التقية جائزة واحتج بقول اللّه تعالى: " إلا أن تتقوا منهم تقاة " وبقوله تعالى: " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ": وقال: القعود جائز والجهاد إذا أمكنه أفضل قال اللّه تعالى: " وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً ". وقال نافع: هذا في أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم حين كانوا مقهورين وأما في غيرهم مع الإمكان فالقعود كفر لقول اللّه تعالى: " وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله ". البيهسية أصحاب أبي بيهس الهيصم بن جابر وهو أحد بني سعد بن ضبيعة وقد كان الحجاج طلبه أيام الوليد فهرب إلى المدينة فطلبه فيها عثمان بن حيان المزني فظفر به وحبسه وكان يسامره إلى أن ورد كتاب الوليد بأن يقطع يديه ورجليه ثم يقتله ففعل به ذلك. وكفر أبو بهس: إبراهيم وميمون في اختلافهما في بيع الأمة وكذلك كفر الواقفية. وزعم: أنه لا يسلم أحد حتى يقر بمعرفة اللّه تعالى ومعرفة رسله ومعرفة ما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم والولاية لأولياء اللّه تعالى والبراءة من أعداء اللّه. فمن جملة ما ورد به الشرع وحكم به: ما حرم اللّه وجاء به الوعيد فلا يسعه إلا: معرفته بعينه وتفسيره والاحتراز عنه. ومنه ما ينبغي أن يعرف باسمه ولا يضره ألا يعرفه بتفسيره حتى يبتلي ويجب أن يقف عندما لا يعلم ولا يأتي بشيء إلا بعلم. وبرئ أبو بهس عن الواقفية لقولهم: إنا نقف فيمن واقف الحرام وهو لا يعلم أحلالاً واقع أم حراماً قال: كان من حقه أن يعلم ذلك والإيمان: هو أن يعلم كل حق وباطل وإن الإيمان هو العلم بالقلب دون القول والعمل. ويحكى عنه أنه قال: الإيمان: هو الإقرار والعلم وليس هو أحد الأمرين دون الآخر. وعامة البيهسية على أن العلم والإقرار والعمل كله إيمان وذهب قوم منهم إلى أنه لا يحرم سوى ما ورد في قوله تعالى: " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرماً على طاعم يطعمه. الآية " وما سوى ذلك ومن البيهسية قوم يقال لهم: العونية وهم فرقتان: فرقة تقول: من رجع من دار الهجرة إلى القعود برئنا منه وفرقة تقول: بل نتولاهم لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالاً لهم. والفرقتان اجتمعتا على أن الإمام إذا كفر كفرت الرعية: الغائب منهم والشاهد. ومن البيهسية صنف يقال لهم: أصحاب التفسير زعموا: أن من شهد من المسلمين شهادة أخذ: بتفسيرها وكيفيتها. وصنف يقال لهم: أصحاب السؤال: قالوا: إن الرجل يكون مسلماً: إذا شهد الشهادتين وتبرأ وتولى وآمن بما جاء من عند اللّه جملة وإن لم يعم فيسأل ما افترض اللّه عليه ولا يضره أن لا يعلم حتى يبتلي به فيسأل وإن واقع حراماً لم يعلم تحريمه فقد كفر وقالوا في الأطفال بقول الثعلبية: إن أطفال المؤمنين مؤمنون وأطفال الكافرين كافرون. ووافقوا القدرية في القدر وقالوا: إن اللّه تعالى فوض إلى العباد فليس للّه في أعمال العباد مشيئة. فبرئت منهم عامة البيهسية. وقال بعض البيهسية: إن واقع الرجل حراما لم يحكم بكفره حتى يرفع أمره إلى الإمام الوالي ويحده وكل ما ليس فيه حد فهو مغفور. وقال بعضهم: إن السكر إذا كان من شراب حلال فلا يؤاخذ صاحبه بما قال فيه وفعل. وقالت العونية: السكر كفر ولا يشهدون أنه كفر ما لم ينضم إليه كبيرة أخرى: من ترك الصلاة أو قذف المحصن. أصحاب صالح بن مسرح ولم يبلغنا عنه أنه أحدث قولاً تميز به عن أصحابه فخرج على بشر بن مروان فبعث إليه بشر الحارث بن عميرة أو الأشعث بن عميرة الهمذاني أنفذه الحجاج لقتاله فأصابت صالحا جراحة في قصر جلولاء فاستخلف مكانه شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني المكنى بأبي الصحارى وهو الذي غلب على الكوفة وقتل من جيش الحجاج أربعة وعشرين أميراً كلهم أمراء الجيوش ثم انهزم إلى الأهواز وغرق في نهر الأهواز وهو يقول: ذلك تقدير العزيز العليم. وذكر اليمان: أن الشبيبية يسمون: مرجئة الخوارج لما ذهبوا إليه من الوقف في أمر صالح. ويحكى عنه: أنه برئ منه وفارقه ثم خرج يدعي الإمامة لنفسه. ومذهب شبيب ما ذكرناه. من مذاهب البيهسية إلا أن شوكته وقوته ومقاماته مع المخالفين. مما لم يكن لخارج من الخوارج. وقصته مذكورة في التواريخ. العجاردةأصحاب عبد الكريم بن عجرد. وافق النجدات في بدعهم وقيل: إنه كان من أصحاب أبي بيهس ثم خالفه وتفرد بقوله: تجب البراءة عن الطفل حتى يدعى إلى الإسلام ويجب دعاؤه إذا بلغ وأطفال المشركين في النار مع آبائهم ولا يرى المال فيئاً حتى يقتل صاحبه وهم يتولون القعدة إذا عرفوهم بالديانة ويرون الهجرة فضيلة لا فريضة ويكفرون بالكبائر ويحكى عنهم: أنهم ينكرون كون سورة يوسف من القرآن ويزعمون أنها قصة من القصص قالوا: ولا يجوز أن تكون قصة العشق من القرآن. ثم إن العجاردة: افترقوا أصنافاً ولكل صنف مذهب على حياله إلا أنهم لما كانوا من جملة العجاردة أوردناهم على حكم التفصيل بالجدول والضلع وهم: الصلتية: أصحاب عثمان بن أبي الصلت والصلت بن أبي الصلت. تفردوا عن العجاردة بأن الرجل إذا أسلم توليناه وتبرأنا من أطفاله حتى يدركوا فيقبلوا الإسلام. ويحكى عن جماعة منهم: أنهم قالوا: ليس لأطفال المشركين والمسلمين ولاية ولا عداوة حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام فيقروا أو ينكروا. الميمونيةأصحاب ميمون بن خالد. كان من جملة العجاردة إلا أنه تفرد عنهم: بإثبات القدر خيره وشره من العبد. وإثبات الفعل للعبد: خلقاً وإبداعاً. وإثبات الاستطاعة قبل الفعل. والقول بأن اللّه تعالى يريد الخير دون الشر وليس له مشيئة في معاصي العباد. وذكر الحسين الكرابيسي في كتابه الذي حكى فيه مقالات الخوارج: أن الميمونية يجيزون نكاح بنات البنات وبنات أولاد الاخوة والأخوات وقالوا: إن اللّه تعالى حرم نكاح البنات وبنات الاخوة والأخوات ولم يحرم نكاح بنات أولاد هؤلاء. وحكى الكعبي والأشعري عن الميمونية إنكارها كون سورة يوسف من القرآن. وقالوا بوجوب قتال السلطان وحده ومن رضي بحكمه فأما من أنكره فلا يجوز قتاله: إلا إذا أعان عليه أو طعن في دين الخوارج أو صار دليلاً للسلطان وأطفال الحمزية: أصحاب: حمزة بن أدرك. وافقوا الميمونية في القدر وفي سائر: بدعها. إلا في أطفال مخالفيهم والمشركين فإنهم قالوا: هؤلاء كلهم في النار. وكان حمزة من أصحاب الحسين بن الرقاد الذي خرج بسجستان من أهل أوق وخالفه خلف الخارجي في القول بالقدر واستحقاق الرئاسة فبرئ كل واحد منهما عن صاحبه. وجوز حمزة إمامين في عصر واحد ما لم تجتمع الكلمة ولم تقهر الأعداء. الخلفيةأصحاب خلف الخارجي وهم من خوارج كرمان ومكران. خالفوا الحمزية في القول بالقدر وأضافوا القدر خيره وشره إلى اللّه تعالى وسلكوا في ذلك مذهب أهل السنة وقالوا: الحمزية ناقضوا حيث قالوا: لو عذب اللّه العباد على أفعال قدرها عليهم أو على ما لم يفعلوه كان ظالماً. وقضوا بأن أطفال المشركين في النار ولا عمل لهم ولا ترك. وهذا من أعجب ما يعتقد من التناقض! الأطرافيةفرقة على مذهب حمزة في القول بالقدر. غلا أنهم عذروا أصحاب الأطراف في ترك ما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من طريق العقل. وأثبتوا واجبات عقلية كما قالت القدرية. ورئيسهم: غالب بن شاذك من سجستان. وخالفهم عبد اللّه السديورى وتبرأ منهم. الشعيبيةأصحاب شعيب بن محمد وكان مع ميمون من جملة العجاردة غلا أنه برئ منه حين أظهر القول بالقدر. قال شعيب: إن اللّه تعالى خالق أعمال العباد. والعبد: مكتسب لها: قدرة وإرادة مسئول عنها: خيراً وشراً مجازى عليها: ثواباً وعقاباً. ولا يكون شئ في الوجود إلا بمشيئة اللّه تعالى. وهو: على بدع الخوارج في الإمامة والوعيد وعلى بدع العجاردة في: حكم الأطفال وحكم القعدة ة الولي والتبري. الحازميةأصحاب حازم بن علي. أخذوا بقول شعيب في أن اللّه تعالى خالق أعمال العباد ولا يكون في سلطانه إلا ما يشاء. وقالوا بالموافاة وأن اللّه تعالى: إنما يتولى العباد على ما علم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الإيمان ويتبرأ منهم على ما علم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الكفر. وأنه سبحانه لم يزل محباً لأوليائه مبغضاً لأعدائه. ويحكى عنهم أنهم يتوقفون في أمر علي رضي اللّه عنه ولا يصرحون بالبراءة عنه. ويصرحون بالبراءة في حق غيره. الثعالبةأصحاب ثعلبة بن عامر. كان مع عبد الكريم بن عجرد يداً واحدة إلى أن اختلفا في أمر الأطفال فقال ثعلبة: إنا على ولايتهم: صغاراً وكباراً حتى نرى منهم إنكاراً للحق ورضاً بالجور. فتبرأت العجاردة من ثعلبة. ونقل عنه أيضاً أنه قال: ليس له حكم في حال الطفولة من ولاية وعداوة حتى يدركوا ويدعوا فإن قبلوا فذاكن وإن أنكروا كفروا. وكان يرى: أخذ الزكاة من عبيدهم إذا استغنوا وإعطاءهم منها إذا افتقروا. الأخنسية: أصحاب: أخنس بن قيس. من جملة الثعالبة. وانفرد عنهم بأن قال: أتوقف في جميع من كان في دار التقية من أهل القبلة إلا من عرف منه إيمان فأتولاه عليه أو كفر فتبرأ منه. وحرموا الاغتيال والقتل والسرقة في السر. ولا يبدأ أحد من أهل القبلة بالقتال حتى يدعي إلى الدين فإن امتنع قوتل سور من عرفوه بعينه على خلاف قولهم. وقيل إنهم جوزوا: تزويج المسلمات من مشركي قومهم: أصحاب الكبائر. وهم على أصول الخوارج في سائر المسائل. المعبديةأصحاب معبد بن عبد الرحمن كان من جملة الثعالبة. خالف الأخنس في الخطأ الذي وقع له تزويج المسلمات من مشرك. وخالف ثعلبة فيما حكم من أخذ الزكاة من عبيدهم وقال: غني لا أبرأ منه بذلك ولا ادع اجتهادي في خلافه. وجوزوا أن تصير سهام الصدقة سهماً واحداً وفي حال التقية. الرشيديةأصحاب رشيد الطوسي ويقال لهم العشرية. وأصلهم: أن الثعالبة كانوا يوجبون فيما سقى بالأنهار والقنى نصف العشر فأخبرهم زياد بن عبد الرحمن: أن فيه العشر ولا تجوز البراءة ممن قال: فيه نصف العشر قبل هذا. فقال: رشيد إن لم تجز البرءة منهم فإنا نعمل بما عملوا فافترقوا في ذلك فرقتين. الشيبانيةأصحاب شيبان بن سلمة. الخارج في أيام أبي مسلم وهو المعين له ولعلي بن الكرماني على نصر بن سيار وكان من الثعالبة فلما أعانهما برئت منه الخوارج. فلما قتل شيبان ذكر قوم توبته فقالت الثعالبة: لا تصح توبته لأنه قتل الموافقين لنا في المذهب وأخذ أموالهم ولا تقبل توبة من: قتل مسلماً وأخذ ماله إلا بأن يقتص من نفسه ويرد الأموال أو يوهب له ذلك. ومن مذهب شيبان: أنه قال بالجبر ووافق جهم بن صفوان في مذهبه إلى الجبر ونفى القدرة الحادثة. وينقل عن زياد ابن عبد الرحمن الشيباني أبي خالد: أنه قال: إن اللّه تعالى لم يعلم حتى خلق لنفسه علماً وأن الأشياء إنما تصير معلومة له عند حدوثها ووجودها. ونقل عنه أنه تبرأ من شيبان وأكفره حين نصر الرجلين. فوقعت عامة الشيبانية: بجرحان ونسا وأرمينية. والذي تولى شيبان وقال بتوبته: عطية الجرجاني وأصحابه. المكرميةأصحاب مكرم بن عبد اللّه العجلي كان من جملة الثعالبة وتفرد عنهم بأن قال: تارك الصلاة: كافر لا من أجل ترك الصلاة ولكن من أجل جهله باللّه تعالى. وطرد هذا في كل كبيرة يرتكبها الإنسان وقال غنما يكفر لجهله باللّه تعالى وذلك أن العرف بوحدانية اللّه تعالى وأنه اطلع على سره وعلانيته المجازى على طاعته ومعصيته أن يتصور منه الإقدام على المعصية والاجتراء على الخالفة ما لم يغفل عن هذه المعرفة ولا يبالي بالتكليف منه وعن هذا قال النبي عليه السلام: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ". الخبو وخالفوه الثعالبة في هذا القول. وقالوا: بإيمان الموافاة والحكم بأن اللّه تعالى إنما يتولى عباده ويعاديهم على ما هم صائرون إليه من موافاة الموت لا على أعمالهم التي هم فيها فإن ذلك ليس بموثوق به إصراراً عليه ما لم يصل المرء إلى آخر عمره ونهاية أجله فحينئذ إن بقى على ما يعتقده فذلك هو الإيمان فنواليه وإن لم يبق فنعاديه وكذلك في حق اللّه تعالى: حكم الموالاة والمعاداة على ما علم منه حال الموافاة. وكلهم على هذا القول. المعلومية والمجهوليةكانوا في الأصل حازمية إلا أن المعلومية قالت: من لم يعرف اللّه تعالى بجميع أسمائه وصفاته فهو جاهل به حتى يصير عالماً بجميع ذلك فيكون مؤمناً. وقالت: الاستطاعة مع الفعل والفعل مخلوق للعبد فبرئت منهم الحازمية. وأما المجهولية فإنهم قالوا: من علم بعض أسماء اللّه تعالى وصفاته وجهل بعضها فقد عرفه تعالى. وقالت: إن أفعال العباد البدعية: أصحاب: يحيى بن أصدم. أبدعوا: القول بأن نقطع على أنفسنا بأن من اعتقد اعتقادنا فهو من أهل الجنة ولا نقول: إن شاء اللّه فإن ذلك شك في الاعتقاد ومن قال: أنا مؤمن إن شاء اللّه فهو شاك. فنحن من أهل الجنة قطعاً من غير ذلك. الإباضيةأصحاب: عبد اللّه بن إباض الذي خرج في أيام مروان بن محمد فوجه إليه عبد اللّه بن محمد بن عطية فقاتله بتبالة. وقيل إن عبد اللّه بن يحيى الإباضي كان رفيقاً له في جميع أحواله وأقواله. قال: إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين ومناكحتهم جائزة وموارثتهم حلال وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال وما سواه حرام. وحرام قتلهم وسبيهم في السر غيلة إلا بعد نصب القتال وإقامة الحجة. وقالوا: إن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار التوحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي وأجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم. وقالوا في مرتكبي الكبائر: إنهم موحدون لا مؤمنون. وحكى الكعبي عنهم: أن الاستطاعة عرض من الأعراض وهي قبل الفعل بها يحصل الفعل. وأفعال العباد: مخلوقة للّه تعالى: إحداثاً وإبداعاً ومكتسبة للعبد: حقيقة لا مجازاً. ولا يسمون إمامهم: أمير المؤمنين ولا أنفسهم: مهاجرين. وقالوا: العالم يفنى كله إذا فني أهل التكليف. قال: واجمعوا على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفركفر النعمة لا كفر الملة. وتوقفوا في أطفال المشركين وجوزوا تعذيبهم على سبيل الانتقام وأجازوا أن يدخلوا الجنة تفضلاً. وحكى الكعبي عنهم: إنهم قالوا بطاعة لا يراد بها اللّه تعالى كما قال أبو الهذيل. ثم اختلفوا في النفاق: أيسمى شركاً أم لا قالوا: إن المنافقين في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانوا موحدين إلا أنهم ارتكبوا الكبائر فكفروا بالكبر لا بالشرك. وقالوا: كل شئ أمر اللّه تعالى به فهو: عام ليس بخاص وقد أمر به المؤمن والكافر وليس في القرآن بخصوص. وقالوا: لا يخلق اللّه تعالى شيئا إلا دليلاً على وحدانيته ولا بد أن يدل به واحداً. وقال قوم منهم: يجوز أن يخلق اللّه تعالى رسولاً بلا دليل ويكلف العباد بما يوحي غليه إظهار المعجزة ولا يجب على اللّه تعالى ذلك إلى أن يخلق دليلاً ويظهر معجزة. وهم جماعة متفرقون في مذاهبهم تفرق: الثعالبة والعجاردة. الحفصيةوهم أصحاب: حفص بن أبي المقدام. تميز عنهم بأنه قال: إن بين الشرك والإيمان خصلة واحدة وهي معرفة اللّه تعالى وحده فمن عرفهن ثم كفر بما سواه: رسول أو كتاب أو قيامه أو جنة أو نار أو ارتكب الكبائر: من الزنا والسرقة وشرب الخمر. فهو كافر لكنه بريء من الشرك. الحارثيةأصحاب الحارث الإباضي. خالف الإباضية: في قوله بالقدر على مذهب المعتزلة وفي الاستطاعة قبل الفعل وفي إثبات طاعة لا يراد بها اللّه تعالى. اليزيديةأصحاب يزيد بن أنيسة الذي قال بتولي المحكمة الأولى قبل الأزارقة وتبرأ ممن بعدهم الإباضية فإنه لا يتولاهم. وزعم أن اللّه تعالى سيبعث رسولاً من العجم وينزل عليه كتاباً قد كتب في السماء وينزل عليه جملة واحدة ويترك شريعة المصطفى محمد عليه السلام ويكون على ملة الصابئة المذكورة في القرآن وليست هي الصائبة الموجودة: الكتاب بالنبوة وإن لم يدخل في دينه. وقال: إن أصحاب الحدود: من موافقيه وغيرهم: كفار مشركون. وكل ذنب صغير أو كبير فهو شرك. الصفرية الزياديةأصحاب زياد بن صفر. خالفوا: الأزارقة والنجدات والإباضية في أمور منها: أنهم لم يكفوا القعدة عن القتال إذا كانوا موافقين في الدين والاعتقاد ولم يسقطوا الرجم ولم يحكموا بقتل أطفال المشركون وتكفيرهم وتخليدهم في النار. وقالوا: التقية جائزة قي القول دون العمل. وقالوا: ما كان من الأعمال عليه حد واقع فلا يتعدى بأهله الاسم الذي لزمه به الحد كالزنا والسرقة والقذف فيسمى زانياً سارقاً قاذفاً لا: كافراً مشركاً. وما كان من الكبائر مما ليس فيه حد لعظم قدره مثل: ترك الصلاة والفرار من الزحف فإنه يكفر بذلك. ونقل عن الضحاك منهم: أنه يجوز تزويج المسلمات من كفار قومهم في دار التقية دون دار العلانية. ورأى زياد ابن الأصفر جميع الصدقات سهماً واحداً في حال التقية. ويحكى عنه أنه قال: نحن مؤمنون عند أنفسنا ولا ندري! لعلنا خرجنا من الإيمان عند اللّه. وقال: الشرك شركان: شرك هو: طاعة الشيطان وشرك هو: عبادة الأوثان. والكفر كفران: كفر بإنكار النعمة وكفر بإنكار الربوبية. والبراءة براءتان: براءة من أهل الحدود سنة وبراءة من أهل الجحود فريضة. ولنختتم المذاهب بذكر تتمة رجال الخوارج: من المتقدمين: عكرمة وأبو هارون العبدي وأبو الشعثاء وإسماعيل بن سميع. ومن المتأخرين: اليمان بن رباب: ثعلبي ثم: بيهسي وعبد اللّه بن يزيد ومحمد بن حرب ويحيى بن كامل. إباضيةومن شعرائهم: عمران بن حطان وحبيب بن مرة صاحب الضحاك بن قيس. ومنهم أيضاً: جهم بن صفوان وأبو مروان غيلان بن مسلم ومحمد بن عيسى: برغوث وأبو الحسين كلثوم بن حبيب المهلبي وأبو بكر محمد بن عبد اللّه بن شبيب البصري وعلي بن حرملة وصالح قبة بن صبيح بن عمرو ومويس بن عمران البصري وأبو عبد اللّه بن مسلمة وأبو عبد الرحمن بن مسلمة والفضل بن عيسى الرقاشي وأبو زكريا يحيى بن أصفح وأبو الحسين محمد بن مسلم الصالحي وأبو محمد عبد اللّه بن محمد بن الحسن الخالدي ومحمد بن صدقة وأبو الحسين علي بن زيد الإباضي وأبو عبد اللّه محمد بن كرام وكلثوم بن حبيب المرادي البصري. والذين اعتزلوا إلى جانب فلم يكونوا مع علي رضي اللّه عنه في حروبه ولا مع خصومه وقالوا: لا ندخل في غمار الفتنة بين الصحابة رضي اللّه عنهم: عبد اللّه بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأسامة ابن زيد حارثة الكلبي مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال قيس بن حازم: كنت مع علي رضي اللّه عنه في جميع أحواله وحروبه حتى قال يوم صفين: " انفروا إلى بقية الأحزاب انفروا إلى من يقول: كذب اللّه ورسوله وأنتم تقولون: صدق اللّه ورسوله ". فعرفت أي شيء كان يعتقد في الجماعة: فاعتزلت عنه. -١-١١ الباب الخامس المرجئةالإرجاء على معنيين: أحدهما بمعنى: التأخير كما في قوله تعالى: " قالوا: أرجه وأخاه " أي: أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. وأما بالمعنى الثاني فظاهر فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وقيل: الإرجاء: تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة فلا يقضي عليه بحكم ما في الدنيا: من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار: فعلى هذا: المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان. وقيل: الإرجاء: تأخير علي رضي اللّه عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة فعلى هذا: المرجئة والشيعة فرقتان متقابلتان. والمرجئة: أصناف أربعة: مرجئة الخوارج ومرجئة القدرية ومرجئة الجبرية وكذلك الغيلانية أصحاب غيلان الدمشقي أول من أحدث القول بالقدر والإرجاء. ونحن إنما نعد مقالات المرجئة الخالصة منهم. اليونسيةأصحاب: يونس بن عون النميري. زعم أن الإيمان هو: المعرفة باللّه والخضوع له وترك الاستكبار عليه والمحبة بالقلب فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن وما سوى ذلك من الطاعة فليس من الإيمان ولا يضر تركها حقيقة الإيمان ولا يعذب على ذلك إذا كان الإيمان خالصاً واليقين صادقاً. وزعم أن إبليس كان عارفاً باللّه وحده غير انه كفر باستكباره عليه: أبى واستكبر وكان من الكافرين. قال: ومن تمكن في قلبه: الخضوع للّه والمحبة له على خلوص ويقين: لم يخالفه في معصية وغن صدرت منه معصية فلا تضره بيقينه وإخلاصه. إنما يدخل الجنة بإخلاصه ومحبته لا بعمله وطاعته العبيدية: أصحاب: عبيد المكتئب. حكي عنه أنه قال: مادون الشرك مغفور لا محالة وغن العبد إذا مات على توحيده لا يضره ما اقترف من الآثام واجترح من السيئات. وحكى اليمان عن عبيد المكتئب وأصحابه: انهم قالوا: إن علم اللّه تعالى لم يزل شيئاً غيره وغن كلامه لم يزل شيئاً غيره وكذلك دين اللّه لم يزل شيئا ًغيره. وزعم أن اللّه تعالى عن قولهم على صورة إنسان وحمل عليه قوله صلى اللّه عليه وسلم: " إن اللّه خلق آدم على صورة الرحمن ". الغسانيةأصحاب غسان الكوفي. زعم أن الإيمان هو المعرفة باللّه تعالى وبرسله والإقرار بما أنزل اللّه وبما جاء به لرسول. في الجملة دون التفصيل. والإيمان: لا يزيد ولا ينقص. وزعم أن قائلاً لو قال: أعلم أن اللّه تعالى قد حرم أكل الخنزير ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه: هذه الشاة أم غيرها كان مؤمناً. لو قال: أعلم أن اللّه تعالى قد فرض الحج إلى الكعبة غير أني لا أدري أين الكعبة ولعله بالهند: كان مؤمناً. ومقصودة: أن أمثال هذه الاعتقادات أمور وراء الإيمان لا أنه كان شاكاً في هذه الأمور فإن عاقلاً لا يستجيز من عقله أن يشك في أن ومن العجيب! أن غسان كان يحكي عن حنيفة رحمه اللّه مثل مذهبه ويعده من المرجئة ولعله كذب كذلك عليه. لعمري! كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه: مرجئة السنة. وعده كثير من أصحاب المقالات: من جملة المرجئة ولعل السبب فيه: أنه لما كان يقول: الإيمان: هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص: ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان. والرجل مع تخريجه في العمل كيف يفتي بترك العمل!. وله سبب آخر والمعتزلة كانوا يلقبون كل من خالفهم في القدر: مرجئاً وكذلك الوعيدية من الخوارج فلا يبعد أن اللقب إنما لزمه من فريقي: المعتزلة والخوارج. واللّه أعلم. الثوبانيةأصحاب: أبي ثوبان المرجئ. الذين زعموا: إن الإيمان هو: المعرفة والإقرار باللّه تعالى وبرسله عليهم السلام وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله وما جاز في العقل تركه فليس من الإيمان. وأخر العمل كله عن الإيمان. ومن القائلين بمقالة أبي ثوبان هذا: أبي مروان غيلان بن مروان الدمشقي وأبي شمر ومويس بن عمران والفضل الرقاشي ومحمد بن شبيب والعتابي وصالح قبة. وكان غيلان يقول بالقدر خيره وشره من العبد وفي الإمامة: إنه تصلح في غير قريش وكل من كان قائماً بالكتاب والسنة كان مستحقاً لها وأنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة. والعجب أن الأمة أجمعت على أنها لا تصلح لغير قريش وبهذا دفعت الأنصار عن قولهم: منا والجماعة التي عددناها اتفقوا على أن اللّه تعالى لو عفا عن عاص في القيامة: عفا عن كل مؤمن عاص هو في مثل حاله وإن أخرج من النار واحداً: أخرج من هو في مثل حاله. ومن العجب أنهم لم يجزموا القول بأن المؤمنين من أهل التوحيد يخرجون من النار لا محالة. ويحكى عن مقاتل بن سليمان: أن المعصية لا تضر صاحب التوحيد والإيمان وأنه لا يدخل النار مؤمن. والصحيح من الثقل عنه: أن المؤمن العاصي ربه يعذب يوم القيامة على الصراط وهو على متن جهنم يصيبه لفح النار وحرها ولهيبها فيتألم بذلك على قدر معصيته ثم يدخل الجنة ومثل ذلك بالحبة على المقلاة المؤججة بالنار. ونقل عن زياد بن غياث المريسي أه قال: إذا دخل أصحاب الكبائر النار فإنهم سيخرجون عنها بعد أن يعذبوا بذنوبهم وأما التخليد فيها فمحال وليس بعدل. وقيل: إن أول من قال بالإرجاء: الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب وكان يكتب فيه الكتب في الأمصار. غلا أمه ما أخر العمل عن الإيمان كما قالت المرجئة اليونسية والعبيدية لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر إذ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها. التومينيةأصحاب: أبي المعاذ التومني زعم أن الإيمان هو ما عصم عن الكفر وهو اسم لخصال إذا تركها التارك كفر وكذلك لو ترك خصلة واحدة منها كفر ولا يقال للخصلة الواحدة منها إيمان ولا بعض إيمان. وكل معصية كبيرة أو صغيرة لم يجمع عليها المسلمون بأنها كفر لا يقال لصاحبها: فاسق ولكن يقال: فسق وعصى. وقال: وتلك الخصال هي المعرفة والتصديق والمحبة والإخلاص والإقرار بما جاء به الرسول. قال: ومن ترك الصلاة وصيام مستحلاً كفر ومن تركهما على نية القضاء لم يكفر. ومن قتل نبياً أو لطمه كفر لا من أجل القتل واللطم ولكن من أجل: الاستخفاف والعداوة والبغض. وإلى هذا المذهب ميل: ابن الرواندي وبشر الريسي قالا: الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان جميعاً والكفر هو الجحود والإنكار. والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في نفسه ولكنه علامة الكفر. الصالحيةأصحاب: صالح بن عمر الصالحي. والصالحي ومحمد بن شبيب وأبو شمر وغيلان: كلهم جمعوا بين القدر والإرجاء. ونحن وإن شرطنا أن نورد مذاهب المرجئة الخالصة إلا أنه بدا لنا في هؤلاء لانفرادهم عن المرجئة بأشياء. فأما الصالحي فقال: الإيمان هو المعرفة باللّه تعالى على الإطلاق وهو أن للعالم صانعاً فقط والكفر هو الجهل به على الإطلاق قال: وقول القائل ثالث ثلاثة ليس بكفر لكنه لا يظهر غلا من كافر. وزعم: أن معرفة اللّه تعالى هي المحبة والخضوع له ويصح ذلك مع حجة الرسول. ويصح في العقل أن يؤمن باللّه ولا يؤمن برسله غير أن الرسول عليه السلام قد قال: " من لا يؤمن بي فليس بمؤمن باللّه تعالى ". وزعم: أن الصلاة ليست بعبادة اللّه تعالى وأنه لا عبادة له إلا الإيمان به وهو معرفته وهو خصلة واحدة: لا يزيد ولا ينقص وكذلك الكفر خصلة واحدة: لا يزيد ولا ينقص. وأما أبو شمر المرجئ القدري فإنه زعم: أن الإيمان هو المعرفة باللّه عز وجل والمحبة والخضوع له بالقلب والإقرار به: أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء عليهم السلام فإذا قامت الحجة فالإقرار بهم وتصديقم من الإيمان والمعرفة والإقرار بما جاءوا به من عند اللّه غير داخل في الإيمان الأصلي. وليست كل خصلة من خصال الإيمان إيماناً ولا بعض إيمان فإذا اجتمعت كانت كلها إيماناً. وشرط في خصال الإيمان معرفة العدل يريد به: القدر خيره وشره من العبد من غير أن يضاف إلى الباري تعالى منه شيء. وأما غيلان بن مروان من القدرية المرجئة فإنه زعم أن الإيمان هو: المعرفة الثانية باللّه تعالى والمحبة والخضوع له والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من عند اللّه. والمعرفة الأولى فطرية ضرورية. فالمعرفة على أصله نوعان: فطرية وهي علمه بأن للعالم صانعاً ولنفسه خالقاً وهذه المعرفة لا تسمى إيماناً إنما الإيمان هو المعرفة الثانية المكتسبة. تتمة رجال المرجئة كما نقل الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب وسعيد بن جبير وطلق بن حبيب وعمرو بم مرة ومحارب بن زياد ومقاتل بن سليمان وذر وعمرو بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وقديد بن جعفر. وهؤلاء كلهم: أئمة الحديث لم يكفروا أصحاب الكبائر الكبيرة ولم يحكموا بتخليده في النار خلافاً للخوارج والقدرية. ١-١٢ الباب السادس الشيعةالشيعة هم: الذين شايعوا علياً رضي اللّه عنه على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته: نصاً ووصية إما جلياً وإما خفياً. واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده. وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم بل هي قضية أصولية وهي ركن الدين لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفاله وإهماله ولا تفويضه إلى العامة وإرساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر والقول بالتولي والتبري: قولاً وفعلاً وعقداً إلا في حال التقية. ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك. ولهم في تعدية الإمامة: كلام وخلاف كثير وعند كل تعدية وتوقف: مقالة ومذهب وخبط. وهم خمس فرق: كيسانية وزيدية وأمامية وغلاة وإسماعيلية. وبعضهم يميل في الأصول إلى الاعتزال وبعضهم إلى السنة وبعضهم إلى التشبيه. الكيسانيةأصحاب: كيسان مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه وقيل: تلميذ للسيد: محمد بن الحنيفة رضي اللّه عنه. يعتقدون فيه اعتقاداً فوق حده ودرجته من إحاطته بالعلوم كلها واقتباسه من السيدين الأسرار بجملتها من علم التأويل والباطن وعلم الآفاق والأنفس. ويجمعهم القول بأن الدين طاعة رجل حتى حملهم ذلك على تأويل الأركان الشرعية من الصلاة والصيام والزكاة والحج. و غير ذلك. على رجال فحملهم بعضهم على ترك القضايا الشرعية بعد الوصول إلى طاعة الرجل وحمل بعضهم على ضعف الاعتقاد بالقيامة وحمل بعضهم على القول بالتناسخ والحلول والرجعة بعد الموت. فمن مقتصر على واحد معتقد أنه: لا يموت ولا يجوز أن يموت حتى يرجع ومن معد حقيقة الإمامة على غيره ثم: متحسر عليه متحير فيه ومن مدع حكم الإمامة وليس هنا الشجرة. وكلهم حيارى متقطعون. ومن اعتقد أن الدين طاعة رجل ولا رجل له فلا دين له. نعوذ باللّه من الحيرة والحور بعد الكور. رب! أهدنا السبيل. المختاريةأصحاب: المختار بن عبيد الثقفي كان خارجياً ثم صار زبيرياً ثم صار شيعياً وكيسانياً. قال بإمامة محمد بن الحنيفة بعد أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنهما وقيل لا بل بعد الحسن والحسين رضي اللّه عنهما وكان يدعو الناس إليه وكان يظهر انه من رجاله ودعاته ويذكر علوماً مزخرفة بترهاته ينوطها به. وكان يظهر أنه من رجاله ودعاته ويذكر علوما مزخرفة بترهات ينوطها به. ولما وقف محمد بن الحنفية على ذلك: تبرأ منه وأظهر لأصحابه أنه غنما لمس على الخلق ذلك ليتمشى أمره ويجتمع الناس عليه. وإنما انتظم له ما انتظم بأمرين: أحدهما انتسابه إلى محمد بن الحنفية: علماً ودعوة والثاني قيامه بثأر الحسين بن علي رضي اللّه عنهما واشتغاله ليلاً ونهاراً بقتال الظلمة الذين اجتمعوا على قتل الحسين. فمن مذهب المختار: أنه يجوز البداء على اللّه تعالى والبداء له معان: البداء في العلم وهو أن يظهر له خلاف ما علم ولا أظن عاقلاً يعتقد هذا الاعتقاد والبداء في الأمر وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف ذلك. ومن لم يجوز النسخ ظن أن الأوامر المختلفة في الأوقات المختلفة متناسخة. وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء بأنه كان يدعى علم ما يحدث من الأحوال: إما بوحي يوحى إليه وإما برسالة من قبل الإمام فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة فإن وافق كونه قوله: جعله دليلاً على صدق دعواه وإن لم يوافق قال: قد بدى لربكم. وكان لا يفرق بين النسخ والبداء قال: إذا جاز النسخ في الأحكام: جاز البداء في الأخبار. وقد قيل: إن السيد محمد بن الحنفية تبرأ من المختار حين وصل إليه أنه قد لبس على الناس: أنه من دعاته ورجاله وتبرأ من الضلالات التي ابتدعها المختار من: التأويلات الفاسدة والمخاريق المموهة. فمن مخاريقه: أنه كان عنده كرسي قديم قد غشاه بالديباج وزينه بأنواع الزينة وقال: هذا من ذخائر أمير المؤمنين علي كرم اللّه وجهه وهو عندنا بمنزلة التابوت لبني إسرائيل وكان إذا حارب خصومه يضعه في براح الصف ويقول: قاتلوا ولكم الظفر والنصرة وهذا الكرسي محله فيكم محل التابوت في بني إسرائيل وفيه السكينة والبقية والملائكة من فوقكم ينزلون مدداً لكم. وحديث الحمامات البيض: معروف. والأسجاع التي ألفها أبرد تأليف: مشهورة وإنما حمله على الانتساب إلى محمد بن الحنيفة كان: كثير العلم غزير المعرفة وقاد الفكر مصيب الخاطر في العواقب قد أخبره أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه عن أحوال الملاحم وأطلعه على مدارج المعالم وقد اختار العزلة: فآثر الخمول على الشهرة. وقد قيل: إنه كان مستودعا علم الإمامة حتى سلم الأمانة إلى أهلها وما فارق الدنيا إلا وقد وكان السيد الحميري وكثير عزة الشاعر: من شيعته قال كثير فيه: ألا أن الأئمة من قريش ولاة الحق: أربعة سواء: علي والثلاثة من بينه هم الأسباط ليس بهم خفاء سبط: سبط الإيمان وبر وسبط: غيبته كربلاء ز سبط: لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمه اللواء تغيب لا يرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل وماء وكان السيد الحميري أيضاً يعتقد فيه: أنه لم يمت وأنه في جبل: رضوى بين أسد ونمر يحفظانه وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل وأنه يعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. وهذا هو أول حكم بالغيبة والعودة بعد الغيبة حكم به الشيعة. وجرى ذلك في بعض الجماعة حتى اعتقدوه: ديناً وركناً من أركان التشيع. ثم اختلف الكيسانية بعد انتقال محمد بن الحنفيةفي سوق الإمامة وصار كل اختلاف مذهباً: الهاشميةأتباع أبي هاشم بن محمد بن الحنفية. قالوا: بانتقال محمد ابن الحنفية إلى رحمة اللّه ورضوانه وانتقال الإمامة منه إلى ابنه أبي هاشم. قالوا: فإنه أفضى إليه أسرار العلوم وأطلعه على: مناهج على الباطن. قالوا: إن لكل ظاهر باطناً ولكل شخص روحاً ولكل تنزيل تأويلاًن ولكل مثال في هذا العالم حقيقة في ذلك العالم. والمنتشر في الآفاق من الحكم والأسرار مجتمع في الشخص الإنساني وهو: العلم الذي استأثر علي رضي اللّه عنه به ابنه: محمد بن الحنفية وهو أفضى ذلك السر إلى ابنه أبي هاشم. وكل من اجتمع فيه هذا العلم فهو الإمام حقاً. واختلفت بعد أبي هاشم شيعته: خمس فرق: فرقة قالت: أم أبا هاشم مات - منصرفاً من الشام بأرض الشراة وأوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه لن عباس وأجرت في أولاده الوصية حتى صارت الخلافة إلى بني العباس. قالوا ولهم في الخلافة حق لاتصال النسب وقد توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وآله وعمه العباس أولى بالوراثة. وفرقة قالت: إن الإمامة بعد موت أبي هاشم لابن أخيه: الحسن بن علي ابن محمد بن الحنفية. وفرقة قالت: لا بل إن أبا هاشم أوصى إلى أخيه: علي بن محمد وعلي أوصى إلى أبنه: الحسن فالإمامة عندهم في بني الحنفية: لا تخرج إلى غيرهم. وفرقة قالت: إن أبا هاشم أوصى إلى عبد اللّه بن عمرو بن حرب الكندي وإن الإمامة خرجت من أبي هاشم إلى عبد اللّه وتحولت روح أبي هاشم إليه. والرجل ما كان يرجع إلى علم وديانة فاطلع بعض القوم إلى خيانته وكذبه فأعرضوا عنه وقالوا بإمامة عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب. وكان من مذهب عبد اللّه: أن الأرواح تتناسخ من شخص إلى شخص وإن الثواب والعقاب: في هذه الأشخاص إما أشخاص بني آدم وإما أشخاص الحيوانات. قال: وروح اللّه تناسخت حتى وصلت إليه وحلت فيه. وادعى الإلهية والنبوة معاً وأنه يعلم الغيب. فعبده شيعته الحمقى وكفروا بالقيامة لاعتقادهم: أن التناسخ يكون في الدنيا والثواب والعقاب في هذه الأشخاص وتأول قول اللّه تعالى: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا. الآية " على أن من وصل إلى الإمام وعرفه: ارتفع عنه الحرج في جميع ما يطعمن ووصل إلى الكمال والبلاغ. وعنه نشأتك الحزمية والمزدكية بالعراق. وهلك عبد اللّه بخرسان وافترقت أصحابه فمنهم من قال: إنه بعد حي لم يمت ويرجع. ومنهم من قال بل مات وتحولت روحه إلى إسحاق بن زيد بن الحارث الأنصاري وهم الحارثية: الذين يبيحون المحرمات ويعيشون عيش من لا تكليف عليه. وبين أصحاب عبد اللّه بن معاوية وبين أصحاب محمد بن علي: خلاف شديد في الإمامة فإن كل واحد منهما يدعي الوصية من أبي هاشم إليه ولم يثبت الوصية على قاعدة تعتمد. البيانيةأتباع بيان بن سمعان التميمي. قالوا بانتقال الإمامة من أبي هاشم إليه. وهو: من الغلاة القائلين بإلهية أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه قال: حل في علي جزء إلهي واتحد بجسده: فنه كان يعلم الغيب إذ أخبر عن آلماكم وصح الخبر وب كان يحارب الكفار وله النصرة والظفر وبه قلع باب خيبر وعن هذا قال: واللّه ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولا بحركة غذائية ولكن قلعته بحركة رحمانية ملكوتية بنور ربها مضيئة. فالقوة الملكوتي في نفسه كالمصباح من المشكاة والنور الإلهي كالنور من المصباح. قال: وربما يظهر علي في بعض الأزمان وقال في تفسير قوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام ": أراد به علياً فهو الذي يأتي في الظل والرعد صوته والبرق تبسمه. ثم ادعى بيان: أنه قد انتقل إليه الجزء الإلهي بنوع من التناسخ ولذلك استحق أن يكون إماماً: وخليفة وذلك الجزء هو الذي استحق به آدم عليه السلام سجود الملائكة. وزعم: أن معبوده على صورة إنسان: عضواً فعضواً وجزءاً فجزءاً. وقال: يهلك كله إلا وجهه لقوله تعالى: " كل شيء هالك إلا وجهه ". ومع هذا الخزي الفاحش كتب إلى محمد بن علي بن الحسين الباقر رضي اللّه عنهم ودعاه إلى نفسه وفي كتابه: أسلم تسلم ويرتقي من سلم فإنك لا تدري حيث يجعل اللّه النبوة. فأمر الباقر: أن يأكل الرسول قرطاسه الذي جاء به فأكلهن فمات في الحال. وكان اسم ذلك الرسول: عمر بن أبي عفيف. وقد اجتمعت طائفة على بيان بن سمعان ودانوا به وبمذهبه فقتله خالد ابن عبد اللّه القسري على ذلك وقيل: أحرقه والكوفي المعروف بالمعروف ابن سعيد بالنار معاً. الرزاميةأتباع: رزام بن رزم. ساقوا الإمامة: من علي إلى ابنه محمد ثم إلى ابنه هاشم ثم إلى علي بن عبد اللّه ابن عباس بالوصية ثم ساقوها إلى محمد بن علي وأوصى محمد إلى ابنه: إبراهيم الإمام وهو صاحب: أبي مسلم الذي دعا إليه وقال إمامته. وهؤلاء ظهروا بخرا سان في أيام أبي مسلم حتى قيل: إن أبا مسلم كان على هذا المذهب لأنهم ساقوا الإمامة إلى أبي مسلم: فقالوا: له حظ الإمامة وادعوا: حلول روح الإله فيه ولهذا: أيده على بني أمية حتى قتلهم عن بكرة أبيهم وأصلهم. وقالوا بتناسخ الأرواح. والمقنع الذي ادعى الإلهية لنفسه على مخاريق أخرجها كان في الأول على هذا المذهب وتابعه مبيضه ما وراء النهر وهؤلاء: صنف من الخرمية دانوا بترك الفرائض وقالوا: الدين: معرفة الإمام فقط. ومنهم من قال: الدين أمران: معرفة الإمام وأداء الأمانة ومن حصل له الأمران فقد وصل إلى الكمال وارتفع عنه التكليف. ومن هؤلاء: من ساق الغمامة إلى محمد بن علي بن عبد اللّه ابن عباس من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية: وصية وكان أبة مسلم صاحب الدولة على مذهب الكيسانية في الأول واقتبس من دعاتهم العلوم التي اختصوا بها وأحس منهم أن هذه العلوم مستودعة فيهم فكان يطلب المستقر فيه فبعث إلى الصادق: جعفر بن محمد رضي اللّه عنهما: أني قد أظهرت الكلمة ودعوت الناس عن موالاة بني أمية إلى موالاة أهل البيت فإن رغبت فيه فلا مزيد عليك. فكتب إليه الصادق رضي اللّه عنه: ما أنت من رجالي ولا الزمان زماني. فحاد أبو مسلم إلى أبي العباس عبد اللّه ابن محمد السفاح وقلده أمر الخلافة. الزيديةأتباع: زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم. ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي اللّه عنها ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم إلا أنهم جوزوا أن يكون كل: فاطمي عالم زاهد شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون غماماً واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين رضي اللّه عنهما. وعن هذا جوز قوم منهم: إمامة محمد وإبراهيم الإمامين ابني عبد اللّه بن الحسن بن الحسن اللذين خرجا غي أيام المنصور وقتلا على ذلك وجوزوا: خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة. وزيد بن علي - لما كان مذهبه هذا المذهب أراد أن يحصل الأصول والفروع حتى يتحلى بالعلم فتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء الغزال الألثغ رأس المعتزلة ورئيسهم مع اعتقاد واصل: أن جده علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجل وأهل الشام ما كان على يقين من الصواب وأن أحد الفريقين كان على الخطأ لا بعينه. فاقتبس منه الاعتزال وصارت أصحابه كلهم: معتزلة. وكان من مذهبه: جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل فقال: كان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أفضل الصحابة إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها وقاعدة دينية راعوها: من تسكين نائرة الفتنة وتطيب قلوب العامة فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة: كان قريباً وسيف أمير المؤمنين علىّ عن دماء المشركين من قريش وغيرهم لم يجف بعد والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي. فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين والؤدة والتقدم بالسن والسبق في الإسلام والقرب من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ألا ترى انه لما أراد في مرضه الذي مات فيه تقليد الأمر عمر بن الخطاب لشدته وصلابته وغلظه في الدين وفظاظته على الأعداء. حتى سكنهم أبو بكر بقوله: " لو سألني ربي لقلت: وليت عليهم خيرهم: لهم ". وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماماً والأفضل قائم فيرجع إايه في الأحكام ويحكم بحكمه في القضايا. ولما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة منه وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين: رفضوه حتى أتى قدره عليه فسميت رافضة. وجرت بينه وبين أخيه الباقر: محمد بن علي مناظرات لا من هذا الوجه بل: من حيث كان يتلمذ لواصل بن عطاء ويقتبس العلم ممن يجوز الخطأ على جده في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ومن حيث يتكلم في القدر على غير ما ذهب غليه أهل البيت ومن حيث إنه كان يشترط الخروج شرطاً في كون الإمام إماماً حتى قال له يوماً: على مقضى مذهبك: والدك ليس بإمام فإنه لم يخرج قط ولا تعرض للخروج. ولما قتل زيد بن علي وصلب قام بالإمامة بعده يحيى بن زيد ومضى إلى خراسان واجتمعت عليه جماعة كثيرة. وقد وصل إليه الخبر من الصادق جعفر بن محمد بأنه يقتل كما قتل أبوه ويصلب كما صلب أبوه فجرى عليه الأمر كما أخبر. وقد فوض الأمر بعده إلى محمد وإبراهيم الإمامين وخرجا بالمدينة ومضى إبراهيم إلى البصرة واجتمع الناس عليهما وقتلا أيضاً. وأخبرهم الصادق بجميع ما تم عليهم وعرفهم: أن آباءه رضي اللّه عنهم أخبروه بذلك كله وأن بني أمية يتطاولن على الناس حتى لو طاولتهم الجبال لطالوا عليها وهم يستشعرون بغض أهل البيت. ولا يجوز أن يخرج واحد من أهل البيت حتى يأذن اللّه تعالى بزوال ملكهم وكان يشير إلى أبي العباس وإلى أبى جعفر: ابني محمد بن علي ابن عبد اللّه بن العباس. وقال: إنا لا نخوض في الأمر حتى يتلاعب به هذا وأولاده وأشار إلى المنصور. فزيد بن علي قتل بكناسة الكوفة قتله هشام بن عبد الملك ويحيى بن زيد قتل بجوزجان خراسان قتله أميرها ومحمد الإمام قتل بالمدينة قتله عيسى بن هامان وإبراهيم الإمام قتل بالبصرة. أمر بقتلهما المنصور. ولم ينتظم أمر الزيدية بعد ذلك حتى ظهر بخراسان صاحبهم: ناصر الأطروش فطلب مكانه ليقتل فاختفى واعتزل الأمر وصار إلى بلاد اليلم والجبل ولم يتحلوا بدين الإسلام بعد فدعا الناس دعوة إلى الإسلامعلى مذهب زيد بن عليح فدانوا بذلكن ونشئوا عليهن وبقيت الزيدية في تلك البلاد ظاهرين. وكان يخرج واحد بعد واحد من الأئمة ويلي أمرهم. وخالفوا بني أعمامهم من الموسوية في مسائل الأصول ومالت أكثر الزيدية بعد ذلك عن القول بإمامة المفضول وطعنت في الصحابة طعن الإمامية. وهم أصناف ثلاثة: جاروديةن وسليمانيةن وبترية. والصالحية منهم والترية: على مذهب واحد. الجاروديةأصحاب أبي الجارود: زياد بن أبي زيادز زعموا: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نص على علي رضي اللّه عنه بالوصف دون التسمية وهو الإمام بعده. والناس قصروا حيث لم يتعرفوا بذلك. وقد خالف الجارود في هذه المقالة إمامة: زيد بن علي فإنه لم يعتقد هذا واختلفت الجارودية في: التوقف والسوق. فساق بعضهم الإمامة من علي إلى الحسن ثم إلى الحسين ثم إلى علي ابن الحسين: زين العابدين ثم إلى ابنه: زيد بن علي ثم منه إلى الإمام: محمد ابن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب و قالوا بإمامته. وكان أبو حنيفة رحمه اللّه على بيعته ومن جملة شيعتح حتى رفع الأمر إلى المنصور فحبسه حبس الأبدن حتى مات في الحبس. وقيل إنه إنما بايع محمد ابن عبد اللّه الإمام في أيام المنصور ولما قتل محمد بالمدينة. فتم عليه مأتم. والذين قالوا بإمامة محمد بن عبد اللّه الإمام: اختلفوا: فمنهم من قال: إنه لم يقتل وهو بعد حي وسيخرج فيملأ الأرض عدلاً ومنهم من أقر بموته وساق الإمامة إلى محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي ابن الحسين بن علي صاحب الطالقان وقد أسر في أيام المعتصم وحمل إليهح فحبسه في داره حتى مات ومنهم مكن قال بإمامة يحيى بن عمر صاحب الكوفة فخرج ودعا الناس واجتمع عليه خلق كثيرن وقتل في أيام المستعين وحمل رأسه إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر. حتى قال فيه بعض العلوية: قتلت أعز من ركب المطايا و جئتك أستلينك في الكلام و عز علي أن ألقاك إلا و فيما بيننا حد الحسام وأما أبو الجارود فكان يسمى: سرحوب سماه بذاك أبو جعفر محمد بن علي الباقر. وسرجوب: شيطان أعمى يسكن البحر قاله الباقر: تفسيراً. ومن أصحاب أبي الجارود: فضيل الرسان وأبو خالد الواسطي. وهم مختلفون في الأحكام والسير فبعضهم يزعم: أن علم ولد الحسن والحسين رضي اللّه عنهما كعلم النبي صلى اللّه عليه وسلم فيحصل لهم العلم قبل التعلم: فطرة وضرورة. و بعضهم يزعم: أن العلم مشترك فيهم وفي غيرهم وجائز أن يؤخذ عنهم وعن غيرهم من العامة. السليمانيةالسليمانية اصحاب: سليمان بن جرير وكان يقول: إن الإمامة شورى فيما بين الخلقن ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين وإنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل. وأثبت إمامة أبي بكر وعمر رضي اللّه عتهما حقاً باختيار الأمة حقاً اجتهادياً. وربما كان يقول: إن الأمة أخطأت في البيعت لهما مع وجود علي رضي اللّه عنه خطأ لا يبلغ درجة الفسق وذلك الخطا: خطأ اجتهادي. غير أنه طعن في عثمان رضي اللّه عنهم بإقدامهم على قتال علي رضي اللّه عنه ثم إنه طعن في الرافضة فقال: إن إئمة الرافضة قد وضعوا مقالتين لشيعتهم ثم لا يظهر أحد قط عليهم: إحداهما: القول بالبداء فإذا أظهروا قولاً: أنه سيكون والثانية: التقية فكل ما ارادوا تكلموا به فإذا قيل لهم في ذلك: إنه ليس بحق وظهر لهم البطلان قالوا: إنما قلناه: تقية وفعلناه: تقية. وتابعه على القول بجواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل: قوم من المعتزلة منهم: جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وكثير النوى وهو من أصحاب الحديث. قالوا: الإمامة من مصالح الدين: ليس يحتاج إليها لمعرفة اللّه تعالى وتوحيده فإن ذلك حاصل بالعقل لكنها يحتاج إليها: لإقامة الحدود والقضاء بين المتحاكمين وولاية اليتامى والأيامي وحفظ البيضة وإعلاء الكلمة ونصب القتال مع أعداء الدين وحتى يكون للمسلمين جماعة ولا يكون الأمر فوضى بين العامة فلا يشترط فيها أن يكون الإمام: أفضل الأمة علماً وأقدمهم عهداً وأسدهم رأياً وحكمة إذا الحاجة تنسد بقيام المفضول مع وجود الفاضل والأفضل. ومالت جماعة من أهل السنة إلى ذلك حتى جوزوا: أن يكون الإمام غير مجتهدن ولا خبير بمواقع الإجتهاد ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الإجتهاد: فيراجعه في الأحكام ويستقي منه في الحلال والحرام ويجب أن يكون في الجملة ذا راي متين وبصر في الحوادث نافذ. الصالحية والبتريةالصالحية: أصحاب الحسن بن صالح بن حي. والبترية: أصحاب كثير النوى الأبتر. وهما متفقان في المذهب. وقولهم في الإمامة كقول السليمانية إلا أنهم توقفوا في أمر عثمان: أهو مؤمن أم كافر قالوا: إذا سمعنا الأخبار الواردة في حقه وكونه من العشرة المشرين في الجنة وإذا رأينا الأحداث التي أحدثها: من استهتاره بتربية بني أمية وبني مروان واستبداده بأمور لم توافق سيرة الصحابة. قلنا: يجب أن نحكم بكفره فتحيرنا في أمره وتوقفنا في حالهن ووكلناه إلى أحكم الحاكمين. وأما علي فهو أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأولاهم بالإمامة لكنه سلم الأمر لهم راضياً وفوض إليهم الأمر طائعاً وترك حقه راغباً. فنحن راضون بما رضى وهم الذين جوزوا: إمامة المفضول وتأخير الفضل والافضل إذا كان الأفضل راضياً بذلك. وقالوا: من شهر سيفه من أولاد الحسن والحسين رضي اللّه عنهما وكان: عالماً زاهداً شجاعاً فهو الإمام وشرط بعضهم صباحة الوجه. ولهم خبط عظيم في إمامين وجدت فيهما هذه الشرائط وشهرا سيفهما: ينظر إلى الأفضل والأزهد وإن تساويا: ينظر إلى الأمتن رأياً والأحزم أمراً وإن تساويا تقابلا فينقلب الأمر عليهم كلا ويعود الطلب جذعاً والإمام مأموماً والأمير مأموراً. ولو كانا في قطرين: افرد كل واحد منهم بقطره ويكون واجب الطاعة في قومه. ولو أفتى أحدهما بخلاف ما يفتي الآخر كان كل واحد منهما مصيباً وإن أفتى وأكثرهم في زماننا مقلدون لا يرجعون إلى رأي أو اجتهاد: أما في الأصول فيرون راي المعتزلة: حذو القذة بالقذة ويعظمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت. وأما في الفروع فهم على مذهب أبي حنيفة إلا في مسائل قليلة يوافقون فيها الشافعي رحمه اللّه والشيعة. رجال الزيدية أبو الجارود: زياد بن المنذر العبدي لعنه جعفر ابن محمد الصادق رضي اللّه عنه والحسن بن صالح بن حي ومقاتل بن سليمانن والداعي ناصر الحق: الحسن بن علي بن الحسن بن زيد ابن عمر بن الحسين بن علي والداعي الآخر صاحب طبرستان: الحسين بن زيد ابن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي ومحمد بن نصر. الإماميةهم القائلون بإمامة علي رضي اللّه عنه بعد النبي عليه السلام: نصاً ظاهراً وتعييناً صادقاً من غير تعريض بالوصف بل إشارة إليه بالعين. قالوا: وما كان في الدين والإسلام أمر أهم من تعيين الإمام حتى تكون مفارقته الدنيا على فراغ قلب من أمر الأمة فإنه إنما بعث: لرفع الخلاف وتقرير الوفاق فلا يجوز أن يفارق الأمة ويتركهم هملاً: يرى كل واحد منهم رأياً ويسلك كل منهم طريقاً لا يوافقه في ذلك غيره بل يجب أن يعين شخصاً هو المرجوع إليهن وينص على واحد هو الموثوق به والمعول عليه. وقد عين علياً رضي اللّه عنه في مواضع: تعريضاً وفي مواضع: تصريحاً. أما تعريضاته فمثل: أن بعث أبا بكر ليقرأ سورة براءة على الناس في المشهد وبعث بعده علياً ليكون هو القارىء عليهمن والمبلغ عنه إليهم وقال: نزل على جبريل عليه السلام فقال: يبلغه رجل منك أو قال: من قومك وهو يدل على تقديمه علياً عليه. ومثل أن كان يؤمر على أبي بكر وعمر غيرهما مكن الصحابة في البوثح وقد أمر عليهما: عمرو بن العاص في بعث وأسامة بن زيد في بعث وما أمر على علي أحداً قط. واما تصريحاته فمثل ما جرى في نأنأة الإسلام حين قال: من الذي يبايعني على ماله فبايعته جماعة ثم قال: من الذي يبايعني على روحه وهو وصي عنه يده غليه فبايعه على روحه ووفى بذلك حتى كانت قريش تعير أبا طالب: أنه أمر عليك ابنك. ز مثل: ما جرى في كمال الغسلام وانتظام الحال فما بلغت رسالته واللّه يعصمك من الناس: فلما وصل إلى غدير خم أمر بالدوحات فقممن ونادوا: الصلاة جامعة. ثم قال عليه السلام وهو على الرحال: " من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم: وال من والاه وعاد من عاداه واصر من نصرهن واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار. ألا هل بلغت: ثلاثاً ". فإنا ننظر: من كان النبي صلى اللّه عليه وسلم مولى له وبأي معنى فنطرد ذلك في حق علي رضي اللّه عنه. وقد فهمت الصحابة من التولية ما فهمناه حتى قال عمر حين استقبل علياً: طوبى لك يا علي! أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. قالوا: و قول النبي عليه السلام: " أقضاكم علي " نص في الإمامة فإن الإمامة لا معنى لها إلا أن يكون: أقضى القضاة في كل حادثة والحاكم على المتخاصمين في كل واقعة وهو معنى قول اللّه سبحانه وتعالى: " أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " قالوا فأولوا الأمر: من إليه القضاء والحكم. حتى وفي مسألة الخلافة لما تخاصمت المهاجرون والأنصار كان القاضي في ذلك هو: أمير المؤمنين على دون غيره فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم كما حكم لكل واحد من الصحابة بأخص وصف له فقال: أفرضكم زيد وأقرؤكم له وهو قوله: " أقضاكم على " والقضاء يستدعي كل علم وما ليس كل علم يستدعي القضاء. ثم إن الإمامية تخطت عن هذه الدرجة إلى الوقيعة في كبار الصحابة: طعناً وتكفيراً وأقله: ظلماً وعدواناً. وقد شهدت نصوص القرلان على عدالتهمن والرضا عن جملتهم قال اللّه تعالى: " لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة. " وكانوا إذ ذاك ألفاً وأربعمائة وقال اللّه تعالى على المهاجرين والأنصارن والذين اتبعوهم بإحسان رضي اللّه عنهم: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي اللّه عنهم ورضوا عنه وقال: لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة و قال تعالى: " وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم ". وفي ذلك دليل على عظم قدرهم عند اللّه تعالى وكرامتهم ودرجتهم عند السول صلى اللّه عليه وسلم. فليت شعري! كيف يستجير ذو دين الطعن فيهم ونسبة الكفر إليهم! وقد قال النبي عليه السلام: عشرة من أصحابي في الجنة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن ابي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن ابن عوف وأبو عبيدة بن الجراح إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في حق كا واحد منهم على انفرادز وإن نقلت هنات من بعضهم فليتدبر النقل فإن أكاذيب الروافض كثيرة وإحداث المحدثين كثيرة. ثم إن الإمامية لم يثبتوا في تعيين الأئمة بعد: الحسن والحسين وعلي بن الحسين رضي اللّه عنهم على رأي واحد بل اختلافاتهم أكثر من اختلافات الفرق كلها حتى قال بعضهم: إن نيفاً وسبعين فرقة من الفرق المذكورة في الخبر هو في الشيعةخاصة ومن عداهم فهم خارجون عن الأمة. وهم متفقون في الإمامة وسوقها إلى جعفر بن محمد الصادق رضي اللّه عنه ومختلفون في المنصوص عليه بعده من أولاده وقيل: ستة: محمد وغسحاق وعبد اللّه وموسى وإسماعيل وعلي. ومن ادعى منهم النص والتعيين: محمد وبد اللّه وموسى وإسماعيل. ثم: منهم من مات ولم يعقب ومنهم من مات وأعقب. ومنهم من قال بالتوقف والإنتظار والرجعة. ومنهم من قال بالسوق والتعدية كما سيأتي ذكر اختلافاتهم عند ذكر طائفة طائفةز وكانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصولن ثم لما اختلفت الروايات عن أئمتهم وتمتدى الزمان: اختارت كل فرقة منهم طريقة فصارت الإمامية بعضها: إمكا وعيدية وإما تفضيلية وبعضها إخبارية: أما مشبهةح وغما سلفية. ومن ضل الطريق وتاه لم يبال اللّه به في أي واد هلك. الباقرية والجعفرية الواقفةأتباع: محمد الباقر بن علي زين العابدين وابنه جعفر الصادق. قالوا بإمامتهما وإمامة والدهما: زين العابدين. إلا أن منهم من توقف على واحد منهما وما ساق الإمامة إلى أولادهما ومنهم من ساق. وإنما ميزنا هذه: فرقة دون الأصناف المتشيعة التي نذكرها لأن من الشيعة من توقف على الباقر وقال برجعته كما توقف القئلون بإمامة أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق وهو ذو علم غزير في الدينن وأدب كامل في الحكمة وزهد بالغ في الدنيا وورع تام عن الشهوات وقد أقام بالمدينة مدة: يفيد الشيعة المنتمين إليه ويفيض علىالموالين له أسرار العلوم ثم دخل العراق وأقام بها مدة: ما تعرض للإمامة قط ولا نازع أحداً في الخلافة قط. ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ومن تعلى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط. وقيل: من أنس باللّه توحش عن الناس ومن استأنس بغير اللّه نهبه الوسواس. وهو من جانب الأب: يت سب إلى شجرة النبوة ومن جانب الأم: ينتسب إلى أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه. وقد تبرأ عما كان ينسب إليه بعض الرافضة وحماقاتهم من القول بالغيبة والرجعة والبداء والتناسخ والحلول والتشبيه. لكن الشيعة بعده افترقوا وانتحل كل واحد منهم مذهباً وأراد أن يروجه على أصحابه فنسبه إليه وربطه به. والسيد برىء من ذلكن ومن الاعتزالن والقدر أيضاً. هذا قوله في الإرادة: " إن اللّه تعالى أراد بنا شيئاً وأراد منا شيئاً فما أراده بناك طواه عنا وما أراده منا: أظهره لنا فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا!. وهذا قوله في القدر: هو أمر بين أمرين: لا جبرن ولا تفويض. وكان يقول في الدعاء: اللّهم لك الحمد إن أطعتك ولك الحجة إن عصيتك لا صنع لين ولا لغيري في إحسان ولا حجة لي ولا لغيري في إساءة. فنذكر الأصناف الذين اختلفوا فيه ونعدهم لا على أنهم من تفاصيل أشياعه: بل: على أنهم الناووسية اتباع رجل يقال له: ناووس وقيل: نسبوا إلى قرية: ناوسا. قالت: إن الصادق حي بعد ولن يموت حتى يظهر فيظهر أمره وهو القائم المهدين ورووا عنه أنه قال: لو رأيتم رأسي يدهده عليكم من الجبل فلا تصدقوا فإني: صاحبكمن صاحب السيف. وحكى أبو حامد الزوزني: أن النووسية زعمت أن علياً باق وستنشق الأرض عنه قبل يوم القيامة فيملأ الأرض عدلاً. الأفطحية قالوا بانتقال الإمامة من الصادق إلى ابنه: عبد اللّه الأفطح وهو أخوه إسماعيل من أبيه وأمه وأمهما: فاطمة بنت الحسين ابن الحسن بن علي وكان أسن أولاد الصادق. زعموا أنه قال: الإمامة في أكبر أولاد الإمام. وقال: الإمام من يجلس مجلسي وهو الذي جلس مجلسه والإمام: لا يغسله ولا يصلى عليه ولا يأخذ خاتمه ولا يواريه إلا الإمام وهو الذي تولى ذلك كله. ودفع الصادق وديعة إلى بعض أصحابه وأمره أن يدفعها إلى من يطلبها منه وان يتخذه إماماً وماتن ولم يعقب ولداً ذكراً. الشميطية اتباع: يحيى بن أبي شميط. قالوا: إن جعفراً قال: إن صاحبكم اسمه اسم نبيكم. وقد قال له والداه رضوان اللّه عليهما: إن ولد لك ولد فسميته باسمي فهو الإمام فالإمام بعده: ابنه محمد. الإسماعيلية الواقفة قالوا: إن الإمام بعد جعفر: إسماعيل نصاً عليه باتفاق من أولاده إلا أنهم اختلفوا في موته في حال أبيه: فمنهم من قال: لم يمت إلا أنه أظهر موته تقية من خلفاء بني العباس وأنه عقد محضراً وأشهد عليه عامل المنصور بالمديوة. ومنهم من قال: موته صحيح والنص لا يرجع قهقري والفائدة في النص بقاء الإمامة في أولاد المنصوص عليه دون غيرهم. فالإمام بعد إسماعيل: محمد ابن إسماعيل. وهؤلاء يقال لهم: المباركية. ثم منهم من وقف على محمد ابن إسماعيل وقال برجعته بعد غيبته. ومنهم من ساق الإمامة في المستورين منهم ثم في الظاهرين القائمين من بعدهم وهم الباطنية وسنذكر مذاهبهم على الإنفراد. و إنما مذهب هذه الفرقة: الوقف على إسماعيل بن جعفر أو محمد بن إسماعيل. والأسماعيلية المشهورة في الفرق منهم هم: الباطنية التعليمية اللذين لهم مقالة مفردة فرقةواحدة قالت بإمامة موسى بن جعفر نصاً عليه بالإسم حيث قال الصادق رضي اللع عنه: سابعكم قائمكم وقيل: أن أولاد الصادق على تفرق: فمن ميت في حال حياة أبيه ولم يعقب ومن مختلف في موته ومن قائم بعد موته مدة يسيرة ومن ميت غير معقب. وكان موسى هو الذي تولى الأمر وقام بعد موت أبيه: رجعوا إليه واجتمعوا عليه مثل: المفضل بن عمر وزرارة بن أعين وعمار الساباطي. وروت الموسوية عن الصادق رضي اللّه عنه أنه قال لبعض أصحابه: عد الأيام فعدها من الأحد. حتى بلغ السبت فقال له كم عددت فقال: سبعة: سبت السبوت وشمس الدهور ونور الشهور: من لا يلهو ولا يلعب وهو سابعكم قائمكم هذا وأشار إلى ولده: موسى الكاظم. وقال فيه أيضاً: إنه شبيه بعيسى عليه السلام. ثم إن موسى لما خرج وأظهر الإمامة: حمله هارون الرشيد من المدينة فحبسه عند عيسى بن جعفر ثم أشخصه إلى بغداد فحبسه عند السندي بن شاهك. وقيل: إن يحيى بن خالد بن برمك سمه في رطب فقتله وهو في الحبس. ثم أخرج ودفن في مقابر قريش ببغداد. واختلفت الشيعة بعده: فمنهم من توقف في موته وقال: لا ندري أمات أم لم يمت! ويقال لهم المطمورة سماهم بذلك علي بن إسماعيل فقال: ما أنتم إلا كلاب مطمورة. ومنهم من قطع بموته ويقال لهم القطيعة. ومنهم من توقف الإثنا عشرية إن الذين قطعوا بموت موسى الكاظم بن جعفر الصادق وسموا: قطعية ساقوا الإمامة بعده في أولاده فقالوا: الإمام بعد موسى الكاظم ولده: علي الرضي ومشهده بطوس. ثم بعده: محمد النقي الجواد أيضاً وهو في مقابر قريش ببغداد ثم بعده: علي بن محمد النقي ومشهده بقم. وبعده: الحسن العسكري الزكي. وبعده ابنه: محمد القائم المنتظر الذي هو بسر من رأى وهو الثاني عشر. هذا هو طريق الإثني عشرية في زماننا. إلا أن الاختلافات التي وقعت في حال كل واحد من هؤلاء الإثني عشرية و المنازعات التي جرت بينهم وبين إخوتهم وبني أعمامهم. وجب ذكرها لئلا يشذ عنا مذهب لم نذكره و مقاغلة لم نوردها. فاعلم أن الشيعة من قال بإمامة: أحمد بن موسى بن جعفر دون أخيه: علي الرضي. ومن قال بعلي: شك أولاً في محمد بن علي إذ مات أبوه وهو صغير غير مستحق للإمامة ولا علم عنده بمناهجها. وثبت قوم على إمامته. واختلفوا بعد موته أيضاً: فقال قوم بإمامة موسى بن محمد. وقال قوم آخرون بإمامة: علي بن محمد ويقولون: هو العسكري. واختلفوا بعد موته أيضاً: فقال قوم بإمامة جعفر بن علي وقال قوم بإمامة محمد بن علي وقال قوم بإمامة الحسن بن علي. وكان لهم رئيس يقال له: علي بن فلان الطاحن وكان من أهل الكلام: قوى أسباب جعفر ابن علي وأمال الناس إليه وأعانه فارس بن حاتم بن ماهويه وذلك أن علياً قد مات وخلف الحسن العسكري. قالوا: امتحنا الحسن فلم نجد عنده علماً ولقبوا من قال بإمامة الحسن: الحمارية وقوموا أمر جعفر بعد موت الحسن واحتجوا بأن الحسن مات بلا خلف فبطلت إمامته ولأنه لم يعقب والإمام لا يموت إلا ويكون له خلف وعقب. وحاز جعفر ميراث الحسن بعد دعاوى ادعاها عليه: أنه فعل ذلك من حبل في جوار أبيه وغيرهم. وانكشف أمره عند السلطان والرعية وخواص الناس وعوامهم. وتشتت كلمة من قال بإمامة الحسن وتفرقوا أصنافاً كثيرة منهم: الحسن بن علي بن فضال وهو من أجل أصحابهم وفقهائهم كثير الفقه والحديث. ثم قالوا بإمامة جعفر: بعلي بن جعفر وفاطمة بنت علي: أخت جعفر. وقال قوم بإمامة علي بن جعفر دون فاطمة السيدة. ثم اختلفوا بعد موت علي وفاطمة اختلافاً كثيراً. وغلا بعضهم في الإمامة غلواً كأبي الخطاب الأسدي. وأما الذين قالوا بإمامة الحسن فافترقوا بعد موته إحدى عشرة فرقة وليست لهم ألقاب مشهورة ولكنا نذكر أقاويلهم: الفرقة الأولى: قالت: إن الحسن لم يمت وهو: القائم ولا يجوز أن يموت ولا ولد له ظاهراً لأن الأرض لا تخلو من إمام وقد ثبت عندنا: أن القائم له غيبتان وهذه إحدى الغيبتين وسيظهر الثانية: قالت: إن الحسن مات ولكنه يحيا وهو القئم لأنا رأينا أن معنى القائم: هو القيام بعد الموت فنقطع بموت الحسن ولا نشك فيه ولا ولد له فيجب أن يحيا بعد المرت. الثالثة: قالت: إن الحسن قد مات وأوصى إلى جعفر أخيه ورجعت الإمامة إلى جعفر. الرابعة: قالت: إن الحسن قد مات والإمام جعفر وإنا كنا مخطئين في الائتمام به إذ لم يكن إماماً فلما مات ولا عقب له تبينا: أن جعفر كان محقاً في دعواه والحسن مبطلاً. الخامسة: قالت: إن الحسن قد مات: وكنا مخطئين في القول به وإن الإمام كان محمد بن علي أخا الحسن وجعفر ولما ظهر لنا فسق جعفر وإعلانه به وعلمنا أن الجحسن كان على مثل حاله إلا أنه كان يتستر: عرفنا أنهما لم يكونا إمامين فرجعنا إلى محمد ووجدنا له عقباً وعرفنا أنه كان هو الإمام دون أخويه. السادسة: قالت: إن الحسن كان له ابن وليس الأمر على ما ذكروا: أنه مات ولم يعقب بل ولد له ولد قبل وفاة أبيه بسنتين فاستتر خوفاً من جعفر وغيره من الأعداء واسمه محمد وهو: الإمام القائم الحجة المنتظر. السابعة: قالت: إن له إبناً ولكنه ولد بعد موته بثمانية أشهر وقول من ادعى أنه مات وله ابن باطل لا ذلك لو كان لم يخف ولا يجوز مكابرة العيان. الثامنة: قالت: صحت وفاة الحسن وصح أن لا ولد له وبطل ما ادعى: من الحبل في سرية له فثبت أن الإمام بعد الحسن غير موجود وهو جائز في المقولات: أن يرفع اللّه الحجة عن أهل الأرض لمعاصيهم وهي: فترة وزمان لا إمام فيه والأرض اليوم بلا حجة كما كانت الفترة قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم. التاسعة: قالت: إن الحسن قد مات وصح موته وقد اختلف الناس هذه الاختلافات ولا ندري كيف هو ولا نشك أنه قد ولد له ابن ولا ندري: قبل موته أو بعد موته إلا أنا نعلم يقيناً: أن الأرض لا تخلو من حجة وهو: الخلف الغائب فنحن نتولاه ونتمسك به باسمه حتى يظهر بصورته. العاشرة: قالت: نعلم أن الحسن قد مات ولا بد للناس من إمام فلا تخلو الأرض من حجةن ولا ندري: من ولده أم من ولد غيره الحادية عشرة: فرقة: توقفت في هذا التخابط وقالت: لا ندري على القطع حقيقة الحال لكنا نقطع في الرضي ونقول بإمامته. وفي كل موضع اختلفت الشيعة فيه: فنحن من الواقفة في ذلك إلى أن يظهر اللّه الحجة ويظهر بصورته فلا يشك في إمامته من أبصره ولا يحتاج إلى معجزة وكرامة وبينة بل معجزته: اتباع الناس بأسرهم إياه من غير منازعة ولا مدافعة. ومن العجب! أنهم قالوا: الغيبة قد امتدت مائتين ونيفاً وخمسين سنة وصاحبنا قال: إن خرج القائم وقد طعن في الأربعين فليس بصاحبكم ولسنا ندري كيف تنقضي مائتان ونيف وخمسون سنة في أربعين سنة!. وإذا سئل القوم عن مدة الغيبة: كيف تتصور قالوا: أليس الخضر وإلياس عليهما السلام يعيشان في الدنيا من آلا السنين لا يحتاجان إلى طعام وشراب فلم لا يجوز ذلك في واحد من إهل البيت قيل لهم: ومع اختلافكم هذا كيف يصح لكم دعوى الغيبة. ثم الخضر عليه السلام ليس مكلفاً بضمان جماعة والإمام عندكم: ضامن مكلفبالهداية والعدل والجماعة مكلفون بالإقتداء به والإستنان بسنته ومن لا يرى كيف يقتدى به. فلهذا صارت الإمامية متمسكين بالعدلية في الأصول وبالمشبهة في الصفات متحيرين تائهين. وبين الإخباريو منهم والكلامية: سيف وتكفير. وكذلك بين التضيلية والوعيدية: قتال وتضليل. أعاذنا اللّه من الحيرة. ومن العجب! أن القائلين بإمامة النتظر مع هذا الإختلاف العظيم الذي بينت: لا يسحيون فيدعون فيه أحكام الإلوهية ويتأولون قوله تعالى: عليه: " وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ". قالوا: هو الإمام المنظر الذي يرد إليه علم الساعة ويدعون فيه أنه لا يغيب عنا وسيخبرنا بأحوالنا حين يحاسب الخلق. إلى تحكمات باردة وكلمات عن العقول شاردة. لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر: إلا واضعاً كف حائر على ذقن أوقاعاً سن نادم أسامي الأئمةالإثني عشرية عند الإمامية: المرتضى والمجتبى والشهيد والسجاد والباقر والصادق والكاظم والرضي والتقي والنقي والزكي والحجة القائم المنتظر. الغاليةهؤلاء هم الذين غالوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية وحكموا فيهم بأحكام الإلهية فربما شبهوا واحداً من الأئمة بالإله و ربما شبهوا الإله بالخلق. وهم على طرفي الغلو والتقصير. وإنما نشأت شبهاتهم من مذاهب الحلولية ومذاهب التناسخية ومذاهب اليهود والنصارى إذ اليهود شبهت الخالق بالخلق والنصارى شبهت الخلق بالخالق. فسرت هذه الشبهات في أذهان الشيعة الغلاة حتى حكمت بأحكام الإلهية في حق بعض الأئمة. وكان التشبيه بالأصل والوضع في الشيعةن وإنما عادت إلى بعض أهل الشنة بعد ذلك وتمكن الإعتزال فيهم لما رأوا أن ذلك أقرب إلى المعقول وأبعد من التشبيه والحلول. وبدع الغلاة محصورة في أربع: التشبيه والبداء والرجعة والتناسخ. ولهم ألقاب وبكل بلد لقب: فيقال لهم بأصبهان: الخرمية والكوذية وبالري: المزدكية والسنباذية وبأذربيجان: الدقولية وبموضع: المحمرة وبما وراء النهر: المبيضة. وهم أحد عشر صنفاً: السبائية أصحاب عبد اللّه بن سبأ الذي قال لعلي كرم اللّه وجهه: أنت أنت يعني: أنت الإله فنفاه إلى المدائن. زعموا: أنه كان يهودياً فأسلم وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى عليهما السلام مثل ما قال في علي رضي اللّه عنه. وهو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي رضي اللّه عنه. ومنه انشعبت أصناف الغلاة. زعم ان علياً حي لم يمت ففيه الجزء الإلهي ولا يجوز أن يستولي عليه وهو الذي يجيء في السحاب والرعد صوته والبرق تبسمه: وأنه سينزل إلى الأرض بعد ذلك فيملأ الرض عدلاً كما ملئت جوراً. وإنما أظهر ابن سبا هذه المقالة بعد انتقال علي رضي اللّه عنه واجتمعت عليع جماعة وهو أول فرقة قالت بالتوقف والغيبة والرجعة وقالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي اللّه عنه. قال: وهذا المعنى مما كان يعرفه فيه حين فقأ عين واحد بالحد في الحرم ورفعت القصة إليه: ماذا أقول في يد اللّه فقأت عينا في حرم اللّه فأطلق عمر اسم الإلهية عليه لما عرف منه ذلك. الكاملية أصحاب أبي كاملز أكفر جميع الصحابة بتركها بيعة علي رضي اللّه عنه. وطعن في علي أيضاً بتركه طلب حقه ولم يعذره في القعود قال: وكان عليه أن يخرج ويظهر الحق على أنه غلا في حقه. وكان يقول: الإمامة نور يتناسخ من شخص لى شخص وذلك النور: في شخص يكون نبوة وفي شخص يكون إمامة وربما تتناسخ الإمامة فتصير نبوةز وقال بتناسخ الأرواح وقت الموت. والغلاة على أصنافها كلهم متفقون على: التناسخن والحلول. ولقد كان التناسخ مقالة لفرقة في كل ملة تلقوها من: المجوس المزدكية والهند البرهمية ومن الفلاسفة والصائبة. ومذهبهم: أن اللّه تعالى قائم بكل زمان ناطق بكل لسان ظاهر في كل شخص من أشخاص البشر وذلك بمعنى الحلول. وقد يكون الحلول بجزء وقد يكون بكل: أما الحلول بجزء فهو كإشراق الشمس في كوة أو كغشراقها على البللور أما الحلول بكل فهو كظهور ملك بشخص أو شيطان بحيوان. ومراتب التناسخ أربع: النسخ والمسخ والفسخ والرسخ. وسيأتي شرح ذلك عند ذكر فرقهم من المجوس على التفصيل. وأعلى المراتب: مرتبة الملكية أو النبوة وأسفل الوراتب: الشيطانية أو الجنية. وهذا أبو كامل كان يقول بالتناسخ ظاهراً من غير تفصيل مذهبهم. العلبائية أصحاب: العلباء بن ذراع الدوسي وقال قوم: هو الأسدي. وكان يفضل علياً على النبي صلى اللّه عليه وسلم وزعم أنه الذي بعث محمداً يعني علياً وسماه إلهاً. وكان يقول بذم محمد صلى اللّه عليه وسلم وزعم أنه بعث ليدعو إلى علي فدعا إلى نفسه. ويسمون هذه الفرقة: الذمية. ومنهم من قال بإلهيتهما جميعاً ويقدمون علياً في أحكام إلهية ويسمونهم: العينية. ومنهم من قال: بإلهيتهما جميعاً ويفضلون محمداً في الإلهية ويسمونهم: الميمية. ومنههم من قال بالإلهية لجملة أشخاص أصحاب الكساء: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين. وقالوا خمستهم شيءواحد والروح حالة فيهم بالسوية لا فضل لواحد منهم على الآخر وكرهوا أن يقولوا: فاطمة بالتأنيث بل قالوا: فاطم بلا هاء وفي ذلك يقول بعض شعرائهم: توليت بعد اللّه في الدين خمسة: نبياً وسبطية وشيخلً وفاطماً. المغيرية أصحاب: المغيرة بن سعيد العجلي. ادعى أن الإمامة بعد محمد بن علي بن الحسين في: محمد النفس الزكية بن عبد اللّه ابن الحسن بن الحسن الخارج بالمدينة وزعم أنه حي لم يمت. وكان المغيرة مولى لخالد بن عبد اللّه القسري وادعى الإمامة لنفسه بعد الإمام محمد وبعد ذلك ادعى النبوة لنفسه واستحل المحارم وغلا في حق علي رضي اللّه عنه غلواً لا يعتقده عاقل. وزاد على ذلك قوله بالتشبيه فقال: إن اللّه تعالى صورة وجسم ذو أعضاء على مثال حروف الهجاء وصورته صورة رجل من نور على رأسه تاج من نور وله قلب تنبع منه الحكمة. وزعم أن اللّه تعالى لما أراد خلق العالم تكلم بالأسم الأعظم فطار فوقع على رأسه تاجاً قال: وذلك قوله: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى. ثم اطلع على أعمال العباد وقد كتبها على كفه فغضب من المعاصي فعرق فاجتمع من عرقه بحران: أحدهما مالح والآخر عذب والمالح مظلم والعذب نير. ثم اطلع في البحر النير فأبصر ظله فانتزع عين ظله فخلق منها الشمس والقمر كله من البحرين فخلق المؤمنون من البحر النير وخلقالكفار من البحر المظلم وخلق ظلال الناس أول ما خلق وأول ما خلق هو ظل محمدج عليه السلام وظل علي قبل خلق ظلال الكل. ثم عرض على السموات والأرض والجبال أن يحملن الأمانة وهي أن يمنعن علي بن أبي طالب من الإمامةن فأبين ذلك ثم عرض ذلك على الناس فأمر عمر بن الخطاب أبا بكر أن يتحمل منعه من ذلك وضمن له أن يعينه على الغدر به على شرط أن يجعل الخلافة له من بعده فقبل منه وأقدما على المنع متظاهرين فذلك قوله تعالى: " وحملها الإنسان إنه طكان ظلوماً جهولاً:. وزعم أنه نزل في حق عمر قولع تعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك ". ولما أن قتل المغيرة اختلف أصحابه: فمنهم من قال بانتظاره ورجعته ومنهم من قال بانتظار إمامة: محمد كما كان يقول بانتظاره. وقد قال المغيرة بإمامة أي جعفر محمد بن علي رضي اللع عنهما ثم غلا فيه وقال بإلهيته فتبرأ منه الباقر ولعنه. وقد قال المغيرة لأصحابه: انتظروه فإنه يرجع وجبريل وميكائيل يبايعانه بين الركن والمقام وزعم: أنه يحيي الموتى. المنصوريةأصحاب أبي منصور العجلي وهو الذي عزا بنفسه إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر في الأول فلما تبرأ منه الباقر وطرده زعم أنه هو الإمام ودعا الناس إلى نفسه ولما توفي الباقر قال: انتقلت الإمامة غلي وتظاهر بذلك. وخرجت جماعة منهم بالكوفة في بني كندة حتى وقف يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك علىقصته وخبث دعوته فأخذه وصلبه. زعم أبو منصور العجلي: أن علياً رضي اللّه عنه هو الكسف الساقط من السماء وربما قال: الكسف الساقط من السماء هو اللّه تعالى. وزعم حين ادعى الإمامة لنفسه أنه عرج به إلى السماء ورأى معبوده فمسح بيده راسه وقال له: يا بني! أنزل فبلغ عني ثم أهبطه إلى الأرض فهو الكسف الساقط من السماء. وزعم أيضاً: أن الرسل لا تنقطع أبداً والرسالة لا تنقطع. وزعم: أن الجنة رجل أمرنا بموالاته وهو إمام الوقت وأن النار رجل أمرنا بمعاداته وهو خصم الإمام وتأول المحرمات كلها على أسماء رجال أمرنا اللّه تعالى بمعاداتهم. وتأول الفرائض على أسماء رجال أمرنا بموالاتهم. واستحل بأصحابه: قتل مخالفيهم وأخذ أموالهم واستحلال نسائهم. وهخم صنف من الخرمية. وإنما مقصودهم من حمل الفرائض والمحرمات على أسماء رجال: هو أن من ظفر بذلك الرجل وعرفه فقد سقط عنه التكليف وارتفع الخطاب إذ قد وصل إلى الجنة وبلغ الكمال. ومما أبدعه العجلي أنه قال: إن أول ما خلق اللّه تعالى هو عيسى ابن مريم عليه السلام ثم علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه. الخطابيةأصحاب ابي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع مولى بني أسد وهو الذي عزا نفسه إلى أبي عبد اللّه جعفر ابم محمد الصادق رضي اللّه عنهن فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه: تبرأ منه ولعنه وأمر أصحابه بالبراءة منه وشدد القول في ذلكن وبالغ في التبري منهن واللعن إليه فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه. زعم أبو الخطاب: أن الأئمة أنبياء ثم آلهةن وقال بإلهية جعفر بن محمد وإلهية ىبائه رضي اللع عنهم وهم أبناء اللّه وأحباؤه. والإلهية نور في النبوة والنبوة نور في الإمانة ولا يخلو العالم من هذه الآثار والأنوارز وزعم أن جعفراً هو الإله في زمانه وليس هو المحسوس الذي يرونه ولكن لما نزل إلى هذا العالم: لبس تلك الصورة فرآه الناس فيها. ولما توقف عيسى بن موسى صاحب المنصور عى خبث دعوته: قتله بسبخة الكوفة. وافترقت الخطابية بعدة فرقاً: فزعمت فرقة: أن الإمام بعد أبي الخطاب رجل يقال له: معمر ودانوا به كما دانوا بأبي الخطاب. وزعموا أن الدنيا لا تفنى وأن الجنة هي التي تصيب الناس من خير ونعمة وعافية وأن النار: هي التي تصيب الناس من شر ومشقة وبلية. واستحلوا: الخمر والزنا وسائر المحرمات. ودانوا بترك الصلاة والفرئض وتسمى هذه الفرقة المعمرية. وزعمت طائفة: أن الإمام بعد أبي الخطاب: بزيغ. وكان يزعم: أن جعفراً هو الإله أي ظهر الإله بصورته للخلق. وزعم: أن كل مؤمن يوحى إليه من اللّه و تأول قول اللّه تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن اللّه " أي: بوحي إليه من اللّه وكذلك قوله تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل ". وزعم: أن من أصحابه من هو أقضل من جبريل وميكائيل. و زعم: أن الإنسان إذل بلغ الكمال لا يقال له: إنه قد مات: ولكن الواحد منهم إذا بلغ النهاية قيل: رجع إلى الملكوت. وادعوا كلهم معاينة أمواتهم وزعموا أنهم يرونهم: بكرة ةوعشياً. وتسمى هذه الطائفة: البزيغية. وزعمت طائفة: أن الإمام بعد أبي الخطاب: عمير بن بيان العجلي وقالوا: كما قالت الطائفة الأولى إلا أنهم اعترفوا بأنهم يموتون وكانوا قد نصبوا خيمة بكناسة الكوفة يجتمعون فيها على عبادة الصادق رضي اللّه عنهح فرفع خبرهم إلى يزيد بن عمر بن هبيرة فأخذ عميراً فصلبه في كناسة الكوفة. وتسمى هذه الطائفة: العجليةن والعميرية أيضاً. وزعمت طائفة: أن الإمام بعد أبي الخطاب مفضل الصيرفي. وكانوا يقولون بربوبية جعفر دون نبوته ورسالته. وتسمى هذه الفرقة المفضلية. وتبرأ من هؤلاء لكهم جعفر بن محمد لصادق رضي اللّه عنه وطردهم ولعنهم فإن القوم كلهم: حيارى ضالون جاهلون بحال الأئمة تائهون. الكياليةأتباع: أحمد بن الكيال وكان من دعاة واحد من أهل البيت بعد جعفر بن محمد الصادق وأظنه منالأئمة المستورين. ولعله سمع كلمات علمية برأيه الفائل وفكره العاطلن وأبدع مقالة في كل باب علمي على قاعدة غير مسموعة ولا معقولة وربما عاند الحس في بعض المواضع. ولما وقفوا على بدعته: تبرءوا منه ولعنوه وأمروا شيعتهم بمنابذته وترك مخالطته. ولما عرف الكيال ذلك منهم: صرف الدعوة إلى نفسه وادعى الإمامة أولاً ثم ادعى أنه القائم ثانياً. وكان من مذهبه: أن كل من قدر الآفاق على الأنفس وأمكنه أن يبين مناهج العالمين أعني: عالم الآفاق وهو العالم العلوين وعالم الأنفس وهو العالم السفلي. كان هو: الإمام وأن كل من قرر الكل في ذاته وأمكنه أن يبين كل كلي في شخصه المعين الجزئي. كان هو: القائم. قال: ولم يوجد في زمن من الأزمان أحد يقرر هذا التقرير إلا: أحمد الكيال فكان هو: القائم. وإنما قتله من انتمى إليه أولاً على بدعته ذلك: أنه هو الإمام ثم القائم وبقيت من مقالته في العالم تصانيف عربية وأعجمية كلها: مزخرفة مردودة: شرعاً وعقلاً. قال الكيال: العوالم ثلاثة: العالم الأعلى والعالم الأدنى والعالم الإنساني. وأثبت في العالم الأعلى خمسة أماكن: الأول: مكان الأماكن وهو مكان فارغ لا يسكنه موجود ولا يدبره روحاني مكان النفس الأعلى ودونه: مكان النفس الناطقة ودونه: مكان النفس الحيوانية ودونه: مكان النفس الإنسانية. قال: وأرادت النفس الإنسانية الصعود إلى عالم النفس الأعلى فصعدتن وخرقت المكانين اعني: الحيوانية والناطقة فلما قربت من الوصول إلى عالم النفس الأعلى: كلت وانحسرت وتحيرت وتعفنتن واستحالت أجزاؤها. فأهبطت إلى العالم السفلي ومضت عليها أكوار وأدوار و هي في تلك الحالة من العفونة والاستحالة ثم ساحت عليها النفس الأعلى وأفاضت عليها من أنوارهاجزءاً فحدثت التراكيب في هذا العالم وحدثت: السماوات والأرض والمركبات: من المعادن والنبات والحيوان والإنسان ووقعت في بلايا هذا التركيب: تارة سروراً وتارة غماً وتارة فرحاً وتارة ترحاً وطوروا سلامة وعافية وطوراً بلية ومحنة. حتى يظهر: القائم ويردها إلى حال الكمال وتنحل التراكيب وتبطل المتضادات ويظهر الروحاني على الجسماني وما ذلك القائم إلا: أحمد الكيال. ثم دل على تعيين ذاته بأضعف ما يتصور وأوهى ما يقدر وهو أن اسم أحمد مطابق للعوالم الأربعة: فالألف من اسمه في مقابلة النفس الأعلى والحاء في مقابلة النفس الناطقة والميم في مقابلة النفس الحيوانية والدال في مقابلة النفس الإنسانية. قال: والعوالم الأربعة هي المبادىء ثم أثبت في مقابلة العوالم العلوية: العالم السفلي الجسماني قال: فالسماء خالية في مقابلة مكان الأماكن ودونها النار ودونها الهواء ودونه الأرض ودونها الماء. وهذه الأربعة في مقابلة العوالم الأربعة. ثم قال: الإنسان في مقابلة النار والطائر في مقابلة الهواء والحيوان في مقابلة الأرض والحوت في مقابلة الماء وكذلك ما في معناه. فجعل مركز الماء أسفل المراكز والحوت أخس المركبات. ثم قابل العالم الإنساني الذي هو أحد الثلاثة وهو عالم الأنفس مع آفاق العالمين الأولين: الروحاني والجسماني قال: الحواس المركبة فيه خمس: فالسمع: في مقابلة: مكان الأماكن: إذ هو فارغ وفي مقابلة السماء. والبصر: في مقابلة: النفس الأعلى من الروحاني وفي مقابلة النار من الجسماني وفيه إنسان العين لأن الإنسان مختص بالنار. والشم: في مقابلة: الناطق من الروحاني والهواء من الجسماني لأن الشم من الهواء: يتروح ويتنشم. والذوق: في مقابلة: الحيواني من الروحاني والأرض من الجسمانين والحيوان مختص بالأرض واللمس: في مقابلة: الإنساني من الروحاني والماء من الجسماني والحوت مختص بالماء واللمس بالحوت. وربما عبر عن اللمس بالكتابة. ثم قال: أحمد هو: ألف وحاء وميم ودال وهو في مقابلة العالمين: أما في مقابلة العالم العلوي الروحاني فقد ذكرناه. وأما في مقابلة العالم السفلي الجسماني فالألف تدل على الإنسان والحاء تدل على الحيوان والميم على الطائر والدال على الحوت فالألف من حيث استقامة القامة: كالإنسان والحاء: كالحيوان لأنه معوج منكوس ولأن الحاء من إبتداء اسم الحيوان والميم: تشبه رأس الطائر والدال: تشبه ذنب الحوت. ثم قال: إن الباري تعالى إنما خلق الإنسان على شكل اسم: أحمد: فالقامة: مثل الألف واليدان: مثل الحاء والبطن: مثل الميم والرجلان: مثل الدال. ثم من العجب أنه قال: إن الأنبياء هم قادة أهل التقليد وأهل التقليد عميان. والقائم قائد أهل البصيرة وأهل البصيرة أولوا الألباب وإنما سحصلون البصائر بمقابلة فكيف يرضى أن يعتقدها! وأعجب من هذا كله: تأويلاته الفاسدة ومقابلاته بين الفرائض الشرعية والأحكام الدينية وبين موجودات عالمي الآفاق والأنفس. واعاؤه أنه منفرد بها. وكيف يصح له ذلك وقد سبقه كثير من أهل العلم بتقرير ذلك لا على الوجه المزيف الذي قرره الكيال وحمله الميزان على العالمين والصراط على نفسه والجنة على الوصول إلى علمع من البصائر والنار على الوصول إلى ما يضاده! ولما كانت أصول علمه ماذكرناه: فانظر كيف يكون حال الفروع! الهشامية أصحاب: الهشامين: هشام بن الحكم صاحب المقالة في التشبيه وهشام بن سالم الجواليقي الذي نسج على منواله في التشبيه. وكان هشام بن الحكم من متكلمي الشيعة وجرت بينه وبين أبي هذيل مناظرات في علم الكلام: منها في التشبيه ومنها في تعلق علم الباري تعالى. حكى ابن الرواندي عن هشام أنه قال: إن بين معبوده وبين الأجسام تشابهاً ما بوجه من الوجوه ولولا ذلك لما دلت عليه. وحكى الكعبي عنه أنه قال: هو جسم ذو أبعاض له قددر من الأقدار ولكن لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء. ونقل عنه أنه قال: هو: سبعة أشبار بشبر نفسه وأنه في مكان مخصوص وجهة مخصوصة وأنه يتحرك وحركته فعله وليست من مكان إلى مكان. وقال: هو متناه بالذات غير متناه بالقدرة. وحكى عنه أبو عيسى الوراق أنه قال: إن اللّه تعالى مماس لعرشه لا يفضل منه شيء عن العرش ولا يفضل من العرش شيء عنه. ومن مذهب هشام انه قال: لم يزل الباري تعالى عالماً بنفسه ويعلم الأشياء بعد كونها بعلم: لا يقال فيه: إنه محدث أو قديم لأنه صفة والصفة لا توصف ولا يقال فيه: هو هو أو غيره أو بعضه. وليس قوله في القدرة والحياة كقوله في العلم إلا أنه لا يقول بحدوثهما. قال: ويريد الأشياء وإرادته حركة: ليست هي عين اللّه ولا هي غيره. وقال في كلام الباري تعالى: إنه صفة الباري تعالى ولا يجوز أن يقال: هو مخلوق أو غير مخلوق. وقال: الأعراض لا تصلح ان تكون دلالة على اللّه تعالى لأن منها ما يثبت استدلالاً وما يستدل على الباري تعالى يجب أن يكون ضروري الوجود لا استدلالياً. وقال: الاستطاعة: كل ما لا يكون الفعل إلا به: كالآلات والجوارح والوقت والمكان. وقال هشام بن سالم إنه تعالى على صورة إنسان: أعلاه مجوف وأسفله مصمت وهو نور ساطع يتلألأ وله حواس خمس ويد ورجل وأنف وأدذن وعين وفم وله وفرة سوداء: هي نور أسود لكنه ليس بلحم ولا دم. وقال هشام بن سالم: الاستطاعة بعض المستطيع. وقد نقل عنه: أنه أجاز المعصية على الأنبياء مع قوله بعصمة الأئمة. ويفرق بينهما بأن النبي يوحى إليه فينبه على وجه الخطأ فيتوب منه والإمام لا يوحى إليه فتجب عصمته. وغلا هشام بن الحكم في حق علي رضي اللّه عنه حتى قال: إنه إله واجب الطاعة. وهذا هشام بن الحكم صاحب عور في الأصول لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة فإن الرجل وراء ما يلزم به على الخصم ودون ما يظهره من التشبيه. وذلك انه ألزم الغلاف فقال: إنك تقول: الباري تعالى عالم بعلم وعلمه ذاته فيشارك المحدثات في أنه عالم بعلم ويباينها في أن علمه ذاته فيكون عالماً لا كالعالمين فلم لا تقول: إنه جسم لا كالأجسام وصورة لا كالصور وله قدر لا كالأقدار. إلى غير ذلك ووافقه زرارة بن أعين في حدوث علم اللع تعالى وزاد عليه بحدوث: قدرته وحياته و سائر صفاته وإنه لم يكن قبل حدوث هذه الصفات: عالماً ولا قادراً ولا حياً ولا سميعاً ولا بصيراً ولا مريداً ولا متكلماً. وكان يقول بإمامة عبد اللّه بن جعفر فلما فاوضه في مسائل ولم يجده بها ملياً رجع إلى موسى بن جعفر وقيل أيضاً: غنه لم يقل بإمامته إلا أنه أشار إلى المصحف وقال: هذا إمامي وإنه كان قد التوى على عبد اللّه بن جعفر بعض الإلتواء. وحكى عن الزرارية: أن المعرفة ضرورية وأنه لا يسع جهل الأئمة فإن معارفهم كلها فطرية ضرورية وكل ما يعرفه غيرهم بالنظر فهو عندهم أولي ضروري وفطرياتهم لا يدركها غيرهم. النعمانية أصحاب: محمد بن النعمان أبي جعفر الأحول الملقب بشيطان الطاق: وهم: الشيطانية أيضاً. والشيعت تقول: هو مؤمن الطاق. وهو تلميذ الباقر: محمد بن علي بن الحسين رضي اللّه عنهم وأفضى إليه أسراراً من أحواله وعلومه. وما يحكى عنه في التشبيه فهو غير صحيح. قيل: وافق هشام بن الحكم في أن اللّه تعالى لا يعلم شيئاً حتى يكون. قال محمد بن النعمان: إن اللّه عالم في نفسه ليس بجاهل ولكنه إنما يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها فأما من قبل أن يقدرها ويريدها فمحال أن يعلمها لا لأنه ليس بعالم ولكن الشيء لا يكون شيئاً حتى يقدره وينشئه بالتقدير والتقدير عنده: الإرادة والإرادة: فعله تعالى. وقال: إن اللّه تعالى نور على صورة إنسان رباني ونفى أن يكون جسماً لكنه قال: قد ورد في الخبر: إن اللّه خلق آدم على صورته وعلى صورة الرحمن فلا بد من تصديق الخبر. ويحكى عن مقاتل بن سليمان: مثل مقالته في الصورة. وكذلك يحكى عن: داود الجواربي ونعيم بن حماد المصري وغيرهما من أصحاب الحديث: أنه تعالى ذو صورة وأعضاء. ويحكى عن داود أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك فإن في الأخبار ما يثبت ذلك. وقد صنف ابن النعمان كتبأ جمة للشيعة منها افعل لم فعلت و: منها افعل لا تفعل ويذكر فيها: أن كبار الفرق أربعة: الفرقة الأولى عنده: القدرية الفرقة الثانية عنده: الخوارج الفرقة الثالثة عنده: العامة الفرقة الرابعة عنده: الشيعة. ثم عين الشيعة بالنجاة في الآخرة من هذه الفرق. وذكر عن هشام بن سالم ومحمد بن النعمان: أنهما أمسكا عن الكلام في اللّه ورويا عمن يوجبان تصديقه: أنه سئل عن قول اللّه تعالى: " وأن إلى ربك المنتهى " قال: إذا بلغ الكلامإلى اللّه تعالى فأمسكوا فأمسكا عن القول في اللّه والتفكر فيه حتى ماتا. هذا نقل الوراق. ومن جملة الشيعة: اليونسية أصحاب: يونس بن عبد الرحمن القمي مولى آل يقطين. زعم أن الملائكة تحمل العرش والعرش يحمل الرب تعالى إذ قد ورد في الخبر: أن الملائكة تئط أحياناً من وطأة عظمة اللّه تعالى على العرش. وهو من مشبهة الشيعة وقد صنف لهم كتباً في ذلك. النصيرية والإسحاقية من جملة غلاة الشيعة ولهم جماعة ينصرون مذهبهم ويذبون عن أصحاب مقالاتهم وبينهم خلاف في كيفية إطلاق الإلهية على الأئمة من أهل البيت. قالوا: ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمر لا ينكره عاقل: أما في جانب الخير فكظهور جبريل عليه السلام ببعض الأشخاص والتصور بصورة أعرابي والتمثل بصورة البشر. وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعمل الشر بصورته وظهور الجن بصورة بشر حتى يتكلم بلسانه. فكذلك نقول: إن اللّه تعالى ظهر بصورة أشخاص. ولما لم يكن بعد رشول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شخص أفضل من علي رضي اللّه عنه وبعده أولاده المخصوصون وهم خير البرية فظهر الحق بصورتهم ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم فعن هذا أطلقنا اسم الإلهية عليهم. وإنما أثبتنا هذا الإختصاص لعلي رضي اللّه عنه دون غيره لأنه كان مخصوصاً بتأييد غلهي من عند اللّه تعالى فيما يتعلق بباطن الأسرار. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: " أنا أحكم بالظاهر واللّه يتولى السرائر ". و عن هذا كان قتال المشركين إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقتال المنافقين إلى علي رضي اللّه عنه. وعن هذا: شبهه بعيسى بن مريم عليه السلام فقال صلى اللّه عليه وسلم: لولا أن يقول الناس فيك ما قالوا في عيسى بن مريم عليه السلام: لقلت فيك مقالاً. وربما أثبتوا له شركة في الرسالة إذ قال النبي عليه السلام: " فيكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله ألا وهو خاصف النعل ". فعلم التأويل وقتال المنافقين ومكالمة الجن وقلع باب خيبر لا بقوة جسدانية: من أدل الدليل على أن فيه جزءاً إلهياً وقوة ربانية. ويمون هو الذي ظهر الإله بصورته وخلق بيديه وأمر بلسانه وعن هذا قالوا: كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض. قال: كنا أظله على يمين العرش فسبحنا فسبحت الملائكة بتسبيحنا فتلك الظلال وتلك الصور التي تنبىء عن الظلال: هي حقيقته وهي مشرقة بنور الرب تعالى إشراقاً لا ينفصل عنها سواء كانت في هذا العالمن أو في ذلك العالم. وعن هذا: قال علي رضي اللع عنه: أنا من أحمد كالضوء من الضوء يعني: لا فرق بين النورين إلا أن أحدهما سابق والثاني لا حق به تال له. قالوا: وهذا يدل على نوع من الشركة. فالنصيرية: أميل إلى تقرير: الجزء الإلهي. ولهم اختلافات كثيرة أخر: لا نذكرها. وقد أنجزت الفرق الإسلامية وما بقيت إلا فرقة البطنية وقد أوردهم أصحاب التصانيف في كتب المقالات: إما خارجة عن الفرق وإما داخلة فيها. وبالجملة: هم قوم يخالفون الإثنتين والسبعين فرقة. رجال الشيعة ومصنفي كتبهم من المحدثين: فمنالزيدية أبو خالد الواسطي ومنصمور بن الأسود وهارون بن سعد العجلي. جارودية. ووكيع بن الجراح ويحيى بن آدم وعبيد اللّه بن موسى وعلي بن صالح والفضل بن دكين وأبو حنيفة. بترية. و خرج محمد بن عجلان مع محمد الإمام. وخرج: إبراهين بن سعيد وعباد بن عوام ويزيد بن هارةون والعلاء ابن ؤاشد وهشيم بن بشير والعوام بن حوشب ومستلم بن سعيد مع إبراهيم الإمامة. ومن الإمامية وسائر أصناف الشيعة سالم بن أبي الجعد وسالم ابن أبي حفصة وسلمة بن كهيل وثوير بن أبي فاختة وحبيب بن أبي ثابت وأبو المقدام وشعبة والأعمش وجابر الجعفي وأبو عبد اللّه الجدلي وأبو غسحاق السبيعي والمغيرة وطاووس والشعبي وعلقمة وهبيرةابن بريم وحبة العرني والحارث الأعور. ومن مؤلفي كتبهم: هشام بن الحكم وعلي بن منصور ويونس ابن عبد الرحمن والشكال والفضل بن شاذان والحسين بن إشكاب ومحمد بن عبد الرحمن وابن قبة وأبو سهل النوبختي وأحمد بن يحيى الرواندي. ومن المتأخرين: أبو جعفر الطوسي. الإسماعيليةقد ذكرنا أن الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الإثني عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر. قالوا: لم يتزوج الصادق رضي اللّه عنه على أمه بواحدة من النساء ولا تسري بجارية كسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حق خديجة رضي اللّه عنها وكسنة علي رضي اللّه عنه في حق فاطمة رضي اللّه عنها. وقد ذكرنا: اختلافاتهم في موته في حال حياة أبيه: فمنهم من قال: إنه مات وإنما فائدة النص عليه: انتقال الإمامة منه إلى أولاده خاصة كما نص موسى على هارون عليهما السللام ثم مات هارون في حال حياة أخيه. وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده فإن النص لا يرجع قهقرى والقول بالبداء محال ولا ينص الإمام على واحد من أولاده إلا بعد السماع من آبائه والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة. ومنهم من قال: إنه لم يمت ولكنه أظهر موته تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل ولهذا القول دلالات: منها أن محمداً كان صغيراً وهو أخوه لأمه مضى إلى السرير الذي كان إسماعيل نائماً عليه ورفع الملاءة فأبصره وقد فتح عينيه فعاد إلى أبيه مفزعاً وقال: عاش أخي عاش أخي. قال والده: إن أولاد الرسول عليه السلام كذا تكون حالهم في الآخرة. قالوا ومنها السبب في الإشهاد على موته وكتب المحضر عليه ولم نعهد ميتاً سجل على موته وعن هذا: لما رفع إلى المنصور: أن إسماعيل بن جعفر رئي بالبصرة وقد مر على مقعد فدعا له فبرىء بإذن اللّه تعالى: بعث المنصور إلى الصادق: أن إسماعيل بن جعفر في الأحياء وأنه رئي بالبصرة: أنفذ السجل إليه وعليه شهادة عاملة بالمدينة. قالوا: وبعد إسماعيل محمد بن إسماعيل السا بع التام وإنما تم دور السبعة به ثم ابتدى منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد سراً. ويظهرون الدعاة جهراً. قالوا: ولن تخلو الأرض قط من إمام حي قائم: إما ظاهر مكشوف وإما باطن مستور. فإذا كان الإمام ظاهراً جاز أن يكون حجته مستوراً. وإذا كان الإمام مستوراً فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين. وقالو إن الأمة تدور أحكامهم على سبعة سبعة: كأيام الأسبوع والسموات السبع والكواكب السبعة والنقباء تدور أحكامهم على إثني عشر. قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية القطعية حيث قرروا عدد النقباء للأئمة. ثم بعد الأئمة المستورين كان ظهور المهدي باللّه والقائم بأمر اللّه وأولادهم: نصاً بعد نص على إمام بعد إمام. ومن مذهبهم: أن من مات ولم يعرف إمام زمانه: مات ميتة جاهلية. وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية. ولهم دعوة في كل زمانن ومقالة جديدة بكل لسان. فتذكر مقالاتهم القديمة ونذكر بعدها دعوة صاحب الدعوة الجديدة. وأشهر ألقابهم الباطنية وإنما لزمهم هذا اللقب لحطمهم لأن: لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً. ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم: فبالعراق يسمون: الباطنيةن والقرامطة والمزدكية وبخراسان التعليمية والملحدة ثم إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج. فقالوا في الباري تعالى: إنا لا نقول: هو موجود ولا لا موجود ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز. وكذلك في جميع الصفات فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجه التي أطلقناها عليه وذلك تشبيه فلم يمكن الحكم بالإثبات المطلق بل هو: إله المتقابلين وخالق المتخاصمينن والحاكم بين المتضادين. ونقلوا في هذا نصاً عن محمد بن علي بن الباقر انه قال: لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالمن ولما وهب القدرة للقادرين قيل: قو قادر فهو: عالمن قادر بمعنى أنه وهب العلم والقدرة لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرةن أو وصف بالعلم والقدرة. فقيل فيهم: إنهم نفاة الصفات حقيقة معطلة الذات عن جميع الصفات. وكذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا محدث بل القديم: أمرهن وكلمتهن والمحدث: خلقه وفطرته. لأبدع بالأمر العقل الأول الذي هو تام بالفعلن ثم بتوسطه أبدع النفس التاي الذي هو غير تام. ونسبة النفس إلى العقل: إما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة والبيض إلى الطير وإما نسبة الولد إلى الوالدن والنتيجة إلى المنتج وإما نسبة الذكر إلى الانثى والزوج إلى الزوج. قالوا: ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النقص إلى الكمال واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة فحدثت الأفلاك السماوية وتحركت حركة استقامة بتدبير النفس أيضاً فتركبت المركبات: من المعادن والنبات والحيوان والإنسان واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان. وكان من نوع الإنسان متميزاً عن سائر الموجودات بالإستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار وكان عالمه في مقابلة العالم كله. وفي العالم العلوي: عقل ونفس كلي فوجب أن يكون في هذا العالم: عقل مشخص هو كل وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ ويسمونه: الناطق. المتوجه إلى الكمال أو حكم النطفة المتوجهة إلى التمام أو حكم الأنثى المزدوجة بالذكر ويسمونه: الأساس. وهو الوصي. قالوا: وكما تحركت الأفلاك والطبائع بتحريك النفس والعقلح كذلك تحركت النفوس والاشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوصي في كل زمان دائراً على سبعة سبعة حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان القيامةن وترتفع التكاليف وتضمحل السنن والشرائع. وإنما هذه الحركات الفلكية والسنن الشرعية لتبلغ النفس إلى حال كمالها وكمالها: بلوغها إلى درجة العقل و اتحادها به ووصولها إلى مرتبته فعلاًح وذلك هو القيامة الكبرى. فتنحل تراكيب الأفالك والعناصر والمركبات وتنشق السماء وتتناثر الكواكب وتبدل الأرض غير الأرض وتطوى السماء كطي السجل للكتاب المرقوم وفيه يحاسب الخلق ويتميز الخير عن الشر والمطيع عن العاصين وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي وجزيئات الباطل بالشيطان المضل المبطل. فمن وقت الحركة لى وقت السكون: هو المبدأ ومن وقت السكون إلى ما لا نهاية له: هو الكمال ثم قالوا: ما من فريضة وسنة وحكم من الأحكام الشرعية: من بيع وإجارةن وهبة ونكاح وطلاق وجراح وقصاص ودية. إلا وله وزان من العالم: عدداً في مقابلة عدد وحكماً في كطابقة حكم فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية والوالم شرائع جسمانية خلقية. وكذلك التركيبات في الحروف والكلمات: على وزان التركيبات في الصور والأجسام والحروف المفردة نسبتها إلى المركبات من الكلمات: كالبسائط المجردة إلى المركبات من الأجسام. ولكل حرف: وزان في العالم وطبيعة يخصها وتأثير من حيث تلك الخاصية في النفوس. فعن هذا صارت العلوم المستفادة من الكلمات التعليمية غذاء للنفوس كما صارت الأغذية المستفادة من الطبائع الخلقية غذاء للابدان وقد قدر اللّه تعالى: أن يكون غذاء كل موجود مما خلق منه فعلى هذا الوزن صاروا إلى: ذكر أعداد الكلمات والآيات وأن التسمية مركبة من سبعة وإثني عشر وأن التهليل مركب من أربع كلمات في إحدى الشهادتين وثلاث كلمات في الشهادة الثانية وسبع قطع في الأولى وست في الثانية وإثني عشر حرفاً في الأولى وإثني عشر حرفاً في الثانية. وكذلك في كل آية أمكنهم استخراج ذلك مما لا يعمل العاقل فكرته فيه إلا ويعجز عن ذلك خوفاً من مقابلته بضدهز وهذه المقابلات كانت طريقة أسلافهم قد صنفوا فيها كتباً. ودعوا الناس إلى إمام في كل زمان: يعرف موازنات هذه العلوم ويهتدي إلى مدارج هذه الأوضاع والرسوم. ثم إن أصحاب الدعوة الجديدة: تنكبوا هذه الطريقة حين أظهر الحسن بن محمد بن الصباح دعوته وقصر على الإلزامات كلمته واستظهر بالرجال وتحصن بالقلاع. وكان بدء صعوده على قلعة: ألموت في شهر شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وذلك بعد أن هاجر إلى بلاد إمامة وتلقى منه كيفية الدعوى لأبناء زمانه. فعاد ودعا الناس أول دعوة إلى تعيين: إمام صادق قائم في كل زمان وتمييز الفرقة الناجية عن سائر الفرق بهذه النكتة وهي: أن لهم إماماً وليس لغيرهم إمام. وإنما تعود خلاصة كلامه بعد ترديد القول فيه: عوداً على بدء بالعربية والعجمية إلى هذا الحرف. ونحن ننقل ماكتبه بالعجمية إلى العربية. ولا معاب على الناقل والموفق من اتبع الحق واجتنب فنبدأ بالفصول الأربعة التي ابتدأ بها دعوته وكتبها عجمية فعربتها: الأول: قال: للمفتي في معرفت اللع تعالى أحد قولين: إما أن يقول: أعرف الباري تعالى بمجرد العقل والنظر من غير احتياج إلى تعليم معلم وإما أن يقول: لا طريق إلى المعرفة مع العقل والنظر إلا بتعليم معلم قال: و من أفتى بالأول فليس له الإنكار على عقل غيره ونظره فإنه متى أنكر فقد علم والإنكار تعليم ودليل على أن المنكر عليه محتاج إلى غيره. قال: والقسمان ضروريان لأن الإنسان إذا أفتى بفتوى أو قال قولاً فإما أن يقول من نفسه أو من غيره وكذلك إذا اعتقد عقداً: فإما أن يعتقده من نفسه أو من غيره. هذا هو الفصل الأول وهو كسر على: أصحاب الرأي والعقل. وذكر في الفصل الثاني: أنه إذا ثبت الإحتياج إلى معلم أفيصلح كل معلم على الإطلاق أم لا بد من معلم صادق. قال: ومن قال: إنه يصلح كل معلم ما ساغ له الإنكار على معلم خصمه وإذا أنكر فقد سلم أنه لا بد من معلم صادق معتمد. قيل: وهذا كسر على: أصحاب الحديث. وذكر في الفصل الثالث: أنه إذا ثبت الإحتياج إلى معلم صادق أفلا بد من معرفة المعلم أولاً والظفر به ثم التعلم منه أم جاز التعلم من كل معلم من غير تعيين شخصه وتبيين صدقه والثاني رجوع إلى الأول. ومن لن يمكنه سلوك الطريق إلا بمقدم ورفيق فالرفيق ثم الطريق. وهو وذكر في الفصل الرابع أن الناس فرقتان فرقة قالت: نحن نحتاج في معرفة الباري تعالى إلى معلم صادق ويجب تعيينه وتشخيصه أولاً ثم التعلم منه. وفرقة أخذت في كل علم من معلم وغير معلم. وقد تبين بالمقدمات السابقة: أن الحق مع الفرقة الأولى فرئيسهم يجب أن يكون رئيس المحقين وإذ تبين ان الباطل مع الفرقة الثانية فرؤساؤهم يجب أن يكونوا رؤساء المبطلين. قال: وهذه الطريقة هي التي عرفنا بها المحق بالحق معرفة مجملة ثم نعرف بعد ذلك الحق بالمحق معرفة مفصلة حتى لا يلزم دوران المسائل. وإنما عنى بالحه ههما: الإحتياج وبالمحق المحتاج إليه. وقال: بالإحتياج عرفنا الإمام وبالإمام عرفنا مقادير الإحتياج كما بالجواز عرفنا الوجوب أي واجب الوجود وبه عرفنا مقادير الجواز في الجائزات. قال: والطريق إلى التوحيد كذلك حذو القذة بالقذة. ثم ذكر فصولاً في تقرير مذهبه: إما تمهيداً وإما كسراً على المذاهب وأكثرها: كسر وإلزامن واستدلال بالإختلاف على البطلان وبالإتفاق على الحق. منها فصل الحق والباطل: الصغيرن والكبير يذكر أن في العالم حقاً وباطلاًز ثم يذكر أن علامة الحق هي الوحدة وعلامة الباطل هي الكثرة. وأن الوحدة مع التعليم والكثرة مع الرأي. والتعليم مع الجماعة والجماعة مع الإمام. والرأي في الفرق المختلفة وهي مع رؤسائهم. وجعل الحق والباطل والتشابه بينهما من وجه والتمايز بينهما من وجه والتضاد في الطرفين والترتب فيأحد الطرفين. ميزاناً يزن به جميع ما يتكلم فيه. قال: وإنما أنشأت هذا الميزان من كلمة الشهادة وتركيبها منالنفي والإثبات حق. ووزن بذلك: الخير والشر والصدق والكذب. وسائر المتضادات. ونكتته: أن يرجع في كل مقالة وكلمة إلى إثبات المعلم وأن التوحيد هو: التوحيد والنبوة معاً حتى يكون توحيداً وأن النبوة هي: النبوة والإمامة معاً حتى تكون نبوة. وهذا هو منتهى كلامه. وقد منع العوام عن الخوض في العلوم وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب المتقدمة إلا من عرف: كيفية الحال في كل كتاب ودرجة الرجال في كل علم. ولم يتعد بأصحابه في الإلهيات عن قوله: إن إلهنا إله محمد. قال: وأنتم تقولون: إلهنا إله العقول أي: ما هدى غليه عقل كل عاقل. فإن قيل لواحد منهم: ما تقول في الباري تعالى وأنه هل هو: واحد أم كثير عالم أم لا قادر أم لا. لم يجب إلا بهذا القدر: إن إلهي: إله محمد وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون والرسول هو الهادي إليه. وكم قد ناظرت القوم على المقدمات المذكورة فلم يتخطوا عن قولهم: أفنحتاج إليك أو وكم قد ساهلت القوم في الإحتياج وقلت: أين المحتاج إليه وأي شيء يقرر لي في الإهيات وماذا يرسم لي في المقولات. إذ المعلم لا يعنى لعينه وإنما يعنى ليعلم وقد سددتم باب العلم وفتحتم باب التسليم والتقليد وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهباً على غير بصيرة وأن يسلك طريقً من غير بينة. وإن كانت: مبادىء الكلام تحكيمات وعوقبها تسليمات فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما. ١-١٣ الباب السابع أهل الفروع المختلفونفي الأحكام الشرعية والإجتهادية اعلم أن أصول الإجتهاد وأركانه أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وربما تعود إلى إثنين وإنما تلقوا صحة هذه الأركان وانحصارها: من إجماع الصحابة رضي اللّه عنهم وتلقوا أصلالإجتهاد والقياس وجوزوا منهم أيضاً فإن العلم قد حصل بالتواتر أنهم إذا وقعت حادثة شرعية من حلال أو حرام: فزعوا إلى الإجتهاد واتدؤا بكتاب اللّه تعالى فإن وجدوا فيه بصاً أو ظاهراً تمسكوا به وأجروا حكمك الحادثة على مقتضاه وإن لم يجدوا فيه نصاً أو ظاهراً: فزعوا إلى السنة فإن روى لهم في ذلك خبر أخذوا به ونزلوا على حكمه وإن لم يجدوا الخبر: فزعوا إلى الإجتهاد. فكانت أركان الإجتهاد عندهم: اثنين أو ثلاثة ولنا بعدهم: أربعة إذ وجب علينا: الأخذ بمقتضى إجماعهم واتفاقهم والجرى على مناهج اجتهادهم. وربما كان إجماعهم على حادثة غجماعاً اجتهادياً وربما كان إجماعاً مطلقاً لم يصرح فيه الإجتهاد وعل الوجهين جميعاً: فالإجماع حجة شرعية لإجماعهم على التمسك ل بالإجماع على التمسك بالإجماع. ونحن نعلم: أن الصحابة رضي اللّه عتهم الذين هم الأئمة الراشدون: لا يجتمعون على ضلال وقد قال النبي صلى اللّه عليع وسلم: لا تجتمع أمتي على ضلالة. ولكن الإجماع لا يخلو عن نص خفي أو جلى: قد اختصه لأنا على القطع نعلم أن الصدر الأول لا يجمعون على أمر إلا عن تثبت وتوقيف فإما أن يكون ذلك النص فسي نس الحادثة التي اتفقوا على حكمها من غير بيان ما يستند إليه حكمها وإما أن يكون النص في أن الإجماع حجة ومخالفة الإجماع بدعة. وبالجملة: مستند الإجماع نص: خفي أو جلي: لا محالة وإلا فيؤدي إلى إثبات الأحكام المرسلة ومستند الإجتهاد والقياس هو: الإجماع وهو أيضاً مستند إلى نص مخصوص في جواز الإجتهاد. فرجعت الأصول الأربعة في الحقيقة إلى إثنتين وربما ترجع إلى واحد وهو قول اللّه تعالىز وبالجملة: نعلم قطعاً ويقيناً أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات: مما لايقبل الحصر والعد ونعلم قطعاً أيضاً أنه لم يرد في كل حادثة نص ولا يتصور ذلك أيضاً والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية ولا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى. علم قطعاً: أن الإجتهاد والقياس واجب الإعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة إجتهاد. ثم لا يجوز أن يكون الإجتهاد مرسلاً: خارجاً عن ضبط الشرع فإن القياس المرسل شرع آخر وإثبات حكم من غير مستند وضع آخر والشارع هو الواضع للأحكام فيجب على المجتهد أن لا يعدل في اجتهاده عن هذه الأركان. وشرائط الإجتهاد خمسة معرفة قدر صالح من اللغة بحيث يمكنه فهم لغات العرب والتمييز بين الألفاظ الوضعية والإستعارية والنص والظاهر والعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمفصل وفحوى الخطاب ومفهوم الكلام ومايدل على مفهومه بالمطابقة وما يدل بالتضمن وما يدل بالإستتباع فإن هذه المعرفة كالآلة التي بها يحصل الشيء ومن لم يحكم الآلة والأداة لم يصل إلى تمام الصنعة. ثم: معرفة تفسير القرآن خصوصاً مايتعلق بالإحكام وما ورد من الأخبار في معاني الآيات ومارئي من الصحابة المعتبرين: كيف سلكوا مناهجها وأي معنى فهموا من مدارجها ولو جهل تفسير سائر الآيات التي تتعلق بالمواعظ والقصص قيل: لم يضره ذلك في الإجتهاد فإن من الصحابة من كان لا يدري تلك المواعظ ولم يتعلم بعد جميع القرآن وكان من أهل الإجتهاد. ثم : معرفة الأخبار: بمتونها وأسانيدها والإحاطة بأحوال النقلة والواة: عدولها وثقاتها ومطعونها ومردودها والإحاطة بالوقائع الخاصة فيها وما هو عام ورد في حادثة خاصة وما هو خاص عمم في الكل حكمه. ثم الفرق بين: الواجب والندب والإباحة الخطر والكراهة حتى لا يشذ عنه وجه من هذه الوجوه ولا يختلط عليه باب بباب. ثم: معرفة مواقع إجماع الصحابة والتابعين وتابع التابعين من السلف الصالحين حتى لا يقع اجتهاده في مخالفة الإجماع. ثم: التهدي إلى مواضع الأقيسة وكيفية النظر والتردد فيها: من طلب أصل أولاً ثم طلب معنى مخيل يستنبط منه فيعلق الحكم عليه أو شبه يغلب على الظن فيلحق الحكم به. فهذه: خمس شرائط لابد من مراعاتها حتى يكون المجتهد مجتهداً واجب الغتباع والتقليد في حق العامي وإلا فكل حكم لم يستند إلى قياس واجتهاد مثل ما ذكرنا فهو مرسل مهمل. قالوا: فإذا حصل المجتهد هذه المعارف: ساغ له الإجتهاد ويكون الحكم الذي أدى إليه اجتهاده سائغاً في الشرع ووجب على العامي تقليده والأخذ بفتواه. وقد استفاض الخبر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: يا معاذ! بم تحكم قال: بكتاب اللّه قال: فإن لم تجد قال: فبسنة رسول اللّه قال فإن لم تجد قال: أجتهد برأيي فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: الحمد للّه الذي وفق رسول رسوله لما يرضاه. وقد روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال: لما بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاضياً إلى اليمن قلت: يا رسول اللّه! كيف أقضي بين الناس وأنا حدث السن فضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده على صدري وقال: اللّهم اهد قلبه وثبت لسانه فما شككت بعد ذلك في قضاء بين اثنين. أحكام المجتهدين: في الأصول والفروع ثم اختلف أهل الأصول في تصويب المجتهدين في الأصول والفروع. فعامة أهل الأصول على أن الناظر في المسائل الأصولية والأحكام العقلية اليقينية القطعية: يجب أن يكون متعين الغصابة فالمصيب فيها واحد بعينه. ولا يجوز أن يختلف المختلفان في حكم عقلي حقيقة الإختلاف: بالنفي والإثبات على شرط التقابل المذكور بحيث ينفي أحدهما ما يثبته الآخر بعينه من الوجه الذي يثبته في الوقت الذي يثبته إلا وأن يقتسما: الصدق والكذب والحق والباطل سواء كان الإختلاف: بين أهل الأصول في الإسلام أو بين أهل الإسلام وبين أهل الملل والنحل الخارجة عن الإسلام فإن المختلف فيه: لا يحتمل توارد الصدق والكذب والصواب والخطإ عليه في حالة واحدة. وهو مثل قول أحد المخبرين: زيد في هذه الدار في هذه الساعة فإنا نعلم قطعاً: أن أحد المخبرين صادق و الآخر كاذب لأن المخبر عنه لا يحتمل اجتماع الحالتين فيه معاً فيكون زيد في الدار ولا يكون في الدارز لعمري! قد يختلف المختلفان في حكم عقلي في مسألة ويكون محل الإختلاف مشتركاً وشرط القضيتين نافذاً فحينئذ يمكن أن يصوب المتنازعتان ويرتفع النزاع بينهما برفع الإشتراك أو يعود النزاع إلى أحد الطرفين: مثال ذلك: المختلفان في مسالة الكلام ليسا يتواردان على معنى واحد بالنفي والإثبات فغن الذي قال: هو مخلوق أراد به: أن الكلام هو الحروف والأصوات في اللسان والرقوم والكلمات في الكتابة قال: وهذا مخلوق. والذي قال: ليس بمخلوق لم يرد به الحروف والرقوم وإنما أراد به معنى آخر فلم يتواردا بالتنازع في الخلق على معنى واحد. وكذلك في مسألة الرؤية فإن النافي قال: الرؤية غنما هي: اتصال شعاع بالمرئي وهو لا يجوز في حق الباري تعالى. فلم يتوارد النفي والغثبات على معنى واحد ألا إذا رجع الكلام إلى إثبات حقيقة الرؤية فيتفقان أولاً على أنها ما هي ثم يتكلمان: نفياًن وإثباتاً. وكذلك في مسألة الكلام يرجعان إلى إثبات ماهية الكلام ثم يتكلمان: نفياً وغثباتاً وإلا فيمكن أن تصدق القضيتان. وقد صار أبو الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد ناظر في الأصول مصيب لأنه أدى ما كلف به من المبالغة في تسديد النظر في المنظور فيه وإن كان متعيناً: نفياً وإثباتاً إلا انه أصاب من وجه. وإنما ذكر هذا في الإسلاميين من الفرقن وأما الخارجون عن الملة فقد تقررت النصوص والغجماع على كفرهم وخطئه. وكان سياق مذهبه يقتضي تصويب كل مجتهد على الإطلاق إلا أن النصوص والإجماع صدته عن تصويب كل ناظر وتصديق كل قائل. وللاصوليينك خلاف في تكفير أهل الأهواء مع قطعهم بأن المصيب واحد بعينه لأن التكفير: حكم شرعي والتصويب: حكم عقلي فمن مبالغ متعصب لمذهبه: كفر وضلل مخالفه ومن متسائل متألف: لم يكفر. ومن كفر: قرن كل مذهب ومقالة واحد من أهل الأهواء والملل كتقرين القدرية بالمجوس وتقرين المشبهة باليهود وتقرين الرافضة بالنصارى وأجرى حكم هؤلاء فيهم من المناكحةو أكل الذبيحة. ومن تساهل ولم يكفر: قضى بالتضليل وحكم بأنهم هلكى في الآخرة. واختلفوا في اللعن على حسب اختلافهم في التكفير والتضليل. وكذلك من خرج على الإمام الحق بغياً وعدواناً فغن كان صدر خروجه: عن تأول وإجتهاد سمي: باغياً: مخطئاً. ثم البغي: هل يوجب اللعن فعند أهل السنة: إذا لم يخرج بالبغي عن الإيمان لم يستوجب اللعن. وعند المعتزلة: يستحق اللعن بحكم فسقه والفاسق خارج عن الإيمان. وإن كان صدر خروجه عن: البغي والحسد والمروق عن الدين فإجماع المسلمين استحق: اللعن باللسان والقتل بالسيف والسنان. وأما المجتهدون في الفروع فاختلفوا في الأحكام الشرعية: من الحلال والحرام ومواقع الإختلاف مظان غلبات الظنون بحيث يمكن تصويب كل مجتهد فيها. وإنما يبتني ذلك على أصل وهو أنا نبحث هل للّه تعالى حكم في كل حادثة أم لا. فمن الأصوليين من صار إلى أن لا حكم للّه تعالى في الوقائع المجتهد فيها حكماً بعينه قبل الإجتهاد: من جواز وحظر وحلال وحرام وإنما حكمه تعالى: ما أدى إليه اجتهاد المجتهد وأن هذا الحكم منوط بهذا السبب فما لم يوجد السبب لم يثبت الحكم خصوصاً على مذهب من قال: إن الجواز والحظر لا يرجعان إلى صفات في الذات وإنما هي راجعة إلى أقوال الشارع: افعل لا تفعل. وعلى هذا المذهب: كل مجتهد مصيب في الحكم. ومن الأصوليين من صار إلى أن للّه تعالى في كل حادثة حكماً بعينه قبل الإجتهاد: من جواز وحظر بل وفي كل حركة يتحرك بها الإنسان حكم تكليف من: تحليل وتحريم وإنما يرتاده المجتهد بالطلب والإجتهاد إذ الطلب لا بد له من مطلوب والإجتهاد يجب أن يكون من شيء إلى شيء إذ الطلب لا بد له من مطلوب والإجتهاد يجب بين النصوص والظاوهر والعمومات وبين المسائل المجمع عليها فيطلب الرابطة المعنوية أو التقريب من حيث الأحكام والصور حتى يثبت في المجتهد فيه مثل ما يلفيه في المتفق عليه. ولو لم يكن له مطلوب معين: كيف يصح منه الطلب على هذا الوجه. فعلى هذا المذهب: المصيب واحد من المجتهدين في الحكم المطلوب وإن كان الثاني معذوراً نوع عذر إذ لم يقصر في الإجتهادز ثم: هل يتعين المصيب أم لا فأكثرهم على أنه لا يتعين فالمصيب واحد لا بعينه. ومن الأصوليين من فصل الأمر فيه فقال: ينظر في المجتهد بعينه خطأ لا يبلغ تضليلً والمتمسك بالخبر الصحيح والنص الظاهر مصيب بعينه. وإن لم تكن مخالفة النص ظاهرة: فلم يكن مخطئا بعينه بل كل واحد منهما مصي في إجتهاده وأحدهما مصيب في الحكم لا بعينه. والمسالة مشكلة والقضية معضلة. حكم الإجتهاد والتقليد والمجتهد والمقلد ثم الإجتهاد من فروض الكفايات لا من فروض الأعيان: إذا اشتغل بتتحصيله واحد سقط الفرض عن الجميع وإن قصر فيه أهل عصر: عصوا بتركه وأشرفوا على خطر عظيم فإن الأحكام الشرعية الإجتهادية إذاكانت مترتبة على الإجتهاد ترتب المسبب على السبب: كانت الأحكام عاطلة والآراء كلها فائلة. فلا بد إذاً من مجتهد. وإذا اجتهد المجتهدان وأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر فلا يجوز لأحدهما تقليد الآخر. وكذلك إذا اجتهد مجتهد واحد في حادثة وأدى اجتهاده إلى جواز أو خطر ثم حدثت تلك الحادثة بعينها في وقت آخر فلا يجوز له أن يأخذ باجتهاده الأول إذ يجوز أن يبدو له في الإجتهاد الثاني ما أغفله في الإجتهاد الأول. وأما العامي فيجب عليه تقليد المجتهد وإنما مذهبه فيما يسأله: مذهب من يسأله عنه. هذا هو الأصل إلا أن علماء الفريقين: لم يجوزوا أن يأخذ العامي الحنفي إلا بمذهب أبي حنيفة والعامي الشافعي إلا بمذهب الشافعي لأن الحكم بأن لا مذهب للعامي وأن مذهبه مذهب المفتي: يؤدي إلى خلط وخبط فلهذا لم يجوزوا ذلك. وإذا كان مجتهدان في بلد: اجتهد العامي فيهما حتى يختار الأفضل والأروع ويأخذ بفتواه. وإذا أفتى المفتي على مذهبه وحكم به قاض من القضاة على مقتضى فتواه ثبت الحكم على المذاهب كلها وكان القضاء إذا اتصل بالفتوى ألزم الحكم كالقبض مثلاً إذا اتصل بالعقد. ثم العامي بأي شيء يعرف أن المجتهد قد وصل إلى حد الإجتهاد وكذلك المجتهد نفسه متى يعرف أنه استكمل شرائط الإجتهاد. ففيه نظر. ومن اصحاب الظاهر مثل: داود الأصفهاني وغيره: من لم يجوز القياس والإجتهاد في الأحكام وقال: الأصول هي الكتاب والسنة والإجماع فقط ومنع أن يكون القياس أصلاًمن الأصول وقال: إن أول من قاس إبليس وظن أن القياس أمر خارج عن مضمون الكتاب والسنتة. ولم يدر أنه: طلب حكم الشرع من مناهج الشرع ولم تنضبط قط شريعة من الشرائع إلا باقتران الإجتهاد بها لأن من ضرورة الإنتشار في العالم: الحكم بأن الإجتهاد معتبر. وقد رأينا الصحابة رضي اللّه عنهم: كيف اجتهدوا وكم قاسوا خصوصاً في مسائل المواريث: من توريث الإخوة مع الجد وكيفية توريث الكلالة وذلك مما لايخفى على المتدبر لأحوالهم. أصناف المجتهدين ثم المجتهدون من أئمة الأمة: محصورون في صنفين لا يعدوان إلى ثالث: أصحاب الحديث وهم: أهل الحجاز هم: أصحاب مالك بن أنس وأصحاب محمد بن إدريس الشافعي وأصحاب سفيان الثوري وأصحاب أحمد بن حنبل وأصحاب داود بن علي بن محمد الأصفهاني. وإنما سموا: أصحاب الحديث لأن عنايتهم: بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدود: خبراً أو أثراً وقد قال الشافعي: إذا وجدتم لي مذهباً ووجدتم خبراًعلى خلاف مذهبي فاعلموا أن مذهبي: ذلك الخبر. ومن أصحابه: أبو إبراهيم إسماعيل ابن يحيى المزني والربيع بن سليمان الجيزي وحرملة بن يحيى التجيبي والربيع ابن سليمان المرادي وأبو يعقوب البويطي والحسن بن محمد بن الصباح الزعفرانين ومحمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم المصري وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي. وهم لا يزيدون على اجتهاده اجتهاداً بل يتصرفون فيما نقل عنه: توجيهاً واستنباطاً ويصدرون عن رأيه جملة فلا يخالفونه البتة. أصحاب الرأي: وهم: أهل العراق هم: أصحاب ابي حنيفة النعمان بن ثابت. ومن أصحابه: محمد بن الحسن وأبو يوسف يعقوب ابن إبراهيم بن محمد القاضي وأبو مطيع البلخي وبشر المريسي. وإنما سموا: أصحاب الرأي لأن أكثر عنايتهم: بتحصيل وجه القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار. وقد قال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ولنا ما رأينا. وهؤلاء ربما يزيدون على إجتهاده غجتهاداً ويخالفونه في الحكم الغجتهادي. والمسائل التي خالفوه فيها: معروفة. تفرقة وتذكرة: إعلم أن بين الفريقين اختلافات كثيرة في الفروع ولهم فيها تصانيف وعليها مناظرات. وقد بلغت النهاية في مناهج الظنون حتى كأنهم قد أشرفوا على القطع واليقين. وليس يلزم من ذلك: تكفير ولا تضليل بل كل مجتهد مصيب كما ذكرنا قبل هذا. |