باب إقبال الفتن و نزولها كمواقع القطر و الظلل و من أين تجيء و التحذير منها و فضل العبادة عندها قال اللّه تعالى و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة و قال تبارك و تعالى : و نبلوكم بالشر و الخير فتنة ففي هذا تنبيه بالغ على التحذير من الفتن . مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم . يصبح الرجل مؤمناً يمسي كافراً ، و يمسي مؤمناً و يصبح كافراً . يبيع دينه بعرض من الدنيا . و عن زينب بنت جحش زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلم قالت : خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يوماً فزعاً محمراً وجهه يقول : لا إله إلا اللّه . ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج و مأجوج مثل هذه و حلق بإصبعين الإبهام و التي تليها قالت فقلت يا رسول اللّه أنهلك و فينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث . و عن أسامة رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم أشرف على أطم من آطام المدينة ثم قال : هل تدون ما أرى ؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر . أخرجهما البخاري . البيهقي ، عن كرز بن علقمة الخزاعي قال : سأل رجل النبي صلّى اللّه عليه و سلم : هل للإسلام من منتهى ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد اللّه بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام ف قال : ثم ماذا ؟ قال : ثم تقع الفتن كالظلل فقال الرجل كلا و اللّه إن شاء اللّه . قال بلى و الذي نفسي بيده لتعودن فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض . قال الزهري : أساود صبا : الحية السوداء إذا أراد أن ينهش ارتفع هكذا ثم انصب . خرجه أبو داود الطيالسي أيضاً . قال ابن دحية أبو الخطاب الحافظ : هذا الحديث لا مطعن في صحة إسناده . رواه سفيان بن عيينة ، عن الزهري عن عروة بن الزبير عن كرز . قرأته بجامع قرطبة و بمسجد الغدير و بمسجد أبي علاقة على المحدث المؤرخ أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأنصاري . قال سمعت جميع هذا الكتاب ، و هو جامع الخير للإمام سفيان بن عيينة عن الشيخين الجليلين الثقة المفتي أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتاب ، و الوزير الكتاب الثقة أبي الوليد أحمد بن عبد اللّه بن طريف فإلا قرأناه على العدل أبي القاسم حاتم بن محمد التميمي بحق سماعه على الثقة الفاضل أبي الحسن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن فراس رحمه اللّه بمكة حرسها اللّه تعالى بالمسجد الحرام بحق سماعه على الثقة أبي جعفر أحمد بن إبراهيم الديلي ، بحق سماعه على الثقة الصالح أبي عبيد سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، بحق سماعه من الإمام الفقيه أبي محمد سفيان بن عيينة . قال المؤلف رحمه اللّه : و قد حدثني بهذا السند المذكور الفقيه القاضي أبو عامر يحيى ابن عبد الرحمن إجازة عن أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال و كرز هو كرز بن علقمة بن هلال الخزاعي أسلم يوم الفتح و عمر طويلاً ، و هو الذي نصب أعلام الحرم في خلافة معاوية وإمارة مروان بن الحكم و فيه ، ثم مه قال ، ثم تعود الفتن بدل قال : ثم ماذا قال : ثم تقع الفتن و لم يذكر قول الزهري إلى آخره . قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية : قول الرجل : ثم مه هنا على الاستفهام . أي ثم ما يكون . و مه : في غير هذا الموضع زجر و إسكات كقوله عليه الصلاة و السلام : مه إنكن صواحب يوسف و قوله كأنها الضلل ، الظلل السحاب و الظلة السحابة و منه قوله تعالى : فأخذهم عذاب يوم الظلة و قول الرجل بجهله : كلا و اللّه معناه الجحد بمعنى لا و اللّه . و قيل : هي بمعنى الزجر فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : بلى و الذي نفسي بيده و بلى للنفي استفهاماً كان أو خبراً أو نهياً ، فالاستفهام ألست بربكم و أليس ذلك بقادر جوابه : بلى هو قادر و مثال الخبر لن تمسنا النار جوابه قالوا : بل تمسكم . و مثال النهي لا تلق زيداً ، جوابه : بلى لألقينه . قال أبو الخطاب بن دحية : و قوله صبا هكذا قيدناه بضم الصاد و تشديد الباء على مثال غر . و الأساود : نوع من الحيات عظام فيها سوداء و هو أخبثها و الصب منها التي روى تنهش ثم ترتفع ثم تنصب . شبههم فيما يتولونه من الفتن و القتل و الأذى بالصب من الحيات . قال المؤلف رحمه اللّه : الأساود جمع أسود و هو الحية و صباً جمع كغار و غز ، و هو الذي يميل و يلتوي وقت الهش ليكون أنكي في اللدغ و أشد صباً للسم ، و يجوز أن يكون جمع أصب و هو الذي كأنه عند الهش انصباباً و الأول من صبا إذا مال و الثاني من صب إذا سكب . مسلم عن أم سلمة زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلم قالت : استيقظ النبي صلّى اللّه عليه و سلم ليلة فزعاً مرعوباً يقول : سبحان اللّه ماذا فتح اللية من الخزائن و ماذا أنزل من الفتن من يوقظ صواحب الحجر يريد أزواجه لكي يصلين رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة . و عن عبيد بن عمير قال : خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ف قال : يا أصحاب الحجرات سعرت النار ، و جاءت الفتن كأنها قطع الليل المظلم ، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً و لبكيتم كثيراً . قال أبو الحسن القابسي هذا و إن كان مرسلاً ، فإنه من جيد المراسيل و عبيد ابن عمير من أئمة المسلمين . مسلم عن سالم بن عبد اللّه أنه قال : يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة و أركبكم للكبيرة . سمعت أبي عبد اللّه بن عمر يقول : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول : إن الفتنة تجيء من ها هنا و أومأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان و أنتم يضرب بعضكم رقاب بعض و إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ . ف قال اللّه تعالى له : و قتلت نفساً فنجيناك من الغم و فتناك فتوناً. و عن معقل بن يسار عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال : العبادة في الهرج كهجرة إلي . فصل قوله : ويل للعرب من شر قد اقترب قد تقدم معنى الويل ، و المراد هنا الحزن . قاله ابن عرفة . فأخبر عليه الصلاة و السلام بما يكون بعده من أمر العرب و ما يستقبلهم من الويل و الحرب ، و قد وجد ذلك بما استؤثر عليهم به من الملك و الدولة و الأموال و الإمارة ، فصار ذلك في غيرهم من الترك و العجم و تشتتوا في البراري بعد أن كان العز و الملك و الدنيا لهم ببركته عليه الصلاة و السلام ، و ما جاءهم به من الدين و الإسلام ، فلمالم يشكروا النعمة و كفروها بقتل بعضهم بعضاً ، و سلب بعضهم أموال بعض سلبها اللّه منهم و نقلها إلى غيرهم كما قال تعالى و إن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ولهذا لما قالت زينب في سياق الحديث : أنهلك و فينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث . فصل قال علماؤنا رحمة اللّه عليهم : قولها أنهلك و فينا الصالحون ؟ قول : نعم إذا كثر الخبث . دليل على أن البلاء قد يرفع عن غير الصالحين إذا كثر الصالحون . فأما إذا كثر المفسدون و قل الصالحون هلك المفسدون و الصالحون معهم إذا لم يأمروا بالمعروف و يكرهوا ما صنع المفسدون ، و هو معنى قوله و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل يعم شؤمها من تعاطاها و من رضيها هذا بفساده و هذا برضاه و إقراره على ما نبينه . فإنم قيل فقد قال اللّه تعالى : و لا تزر وازرة وزر أخرى ـ كل نفس بما كسبت رهينة ـ لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت و هذا يوجب أن لا يؤاخذ أحد بذنب أحد و إنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب . و قريء و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة و على هذه القراءة يكون المعنى أنها تصيب الظالم خاصة و هي قراءة زيد بن ثابت و علي و أبي و ابن مسعود رضي اللّه عنهم أجمعين . و الجواب : أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر ، فمن الفرض على من رآه أن يغيره إما بيده ، فإن لم يقدر فبلسانه ، فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك ، و إذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطيع سوى ذلك . روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فلبسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ليس عليه غيره و ذلك أضعف الإيمان . روي عن بعض الصحابة أنه قال : إن الرجل إذا رأى منكراً لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات : اللّهم إن هذا منكر لا أرضاه فإذا قال ذلك فقد أدى ما عليه ، فأما إذا سكت عليه فكلهم عاص ، هذا بفعله و هذا برضاه كما ذكرنا . و قد جعل اللّه في حكمه و حكمته الراضي بمنزلة الفاعل فانتظم في العقوبة . دليله قوله تعالى إنكم إذا مثلهم فأما إذا كره الصالحون ما صنع المفسدون و أخلصوا كراهيتهم للّه تعالى و تبرأوا من ذلك حسب ما يلزمهم و يجب للّه عليهم غير معتدين سلموا . قال اللّه تعالى فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم و قال : فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء و أخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون . و قال ابن عباس : قد أخبرنا اللّه عز و جل عن هذين و لم يخبرنا عن الذين قالوا : لم تعظون قوماً اللّه مهلكهم . و روى سفيان بن عيينة قال : حدثنا سفيان بن سعيد عن مسعد قال : بلغني أن ملكاً أمر أن يخسف بقرية ، فقال يا رب إن فيها فلاناً العابد فأوحى اللّه تعالى إليه أن به فإبدأ فإنه لم يتغير وجهه في ساعة قط . و قال وهب بن منبه : لما أصاب داود الخطيئة قال : يا رب اغفر لي ، قال : قد غفرتها لك و ألزمت عارها بني إسرائيل قال : كيف يا رب و أنت الحكم العدل الذي لا تظلم أحداً أعمل أنا الخطيئة و يلزم عارها غيري ، فأوحى اللّه تعالى إليه : يا داود إنك لما اجترأت علي بتلك المعصية لم يعجلوا عليك بالنكرة . و روى أبو داود عن العرس بن عميرة الكندي ، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال : إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها و قال مرة : فأنكرها كمن غاب عنها و من غاب عنها فرضيتها كان كمن شهدها . و هذا نص في الفرض . و حسن رجل عند الشعبي قتل عثمان بن عفان رضي اللّه عنه فقال الشعبي : قد شركت في دمه . و في صحيح الترمذي : أن الناس إذا رأوا الظالم و لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم اللّه بعقاب من عنده ، فالفتنة إذ عمت هلك الكل ، و ذلك عند ظهور المعاصي و انتشار المنكر و عدم التغيير ، و إذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة و الهرب منها ، و هكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم كما في قصة السبت حين هجروا العاصين ، و قالوا : لا نساكنكم ، و بهذا قال السلف رضي اللّه عنهم . روى ابن وهب ، عن مالك قال : تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً و لا يستقر فيها ، و احتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلى بالرباء فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها . خرجه أهل الصحيح . و قال مالك في موضع آخر : إذا ظهر الباطل على الحق كان الفساد في آخر الأرض و قال : إن لزوم الجماعة نجاة و أن قليل الباطل و كثيرة هلكه و قال : ينبغي للناس أن يغضبو لأمر للّه تعالى في أن تنتهك فرائضه و حرمه ، و الذي أتت به كتبه و أنبياؤه ، أو قال : يخالف كتابه . قال أبو الحسن القابسي : الذي يلزم الحق و يغضب لأمر اللّه تعالى على بينة من النجاة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر اللّه . قال أبو عمرو و روى أشهب بن عبد العزيز قال : قال مالك لا ينبغي الإقامة في أرض يكون العمل فيها بغير حق و السب للسلف . قال أبو عمر : أما قول مالك هذا ، فمعناه إذا وجد بلداً يعمل فيه الحق في الأغلب ، و قد قال عمر بن عبد العزيز : فلان بالمدينة و فلان بمكة و فلان باليمن و فلان بالعراق و فلان بالشام امتلأت الأرض و اللّه جوراً و ظلماً . قال أبو عمر : فأين الهرب إلى السكوت و لزوم البيوت و الرضي بأقل قوت . و قال منصور بن الفقيه فأحسن : الخير أجمع في السكوت و في ملازمة البيوت فإذا استوى لك ذا و ذا فاقنع له بأقل قوت و كان سفيان الثوري يقول : هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخاملين ، فكيف بالمشهورين . هذا زمان ينتقل فيه الرجل من قرية إلى قرية يفر بدينه من الفتن . و يحكى عنه أنه قال : و اللّه ما أدري أي البلاد أسكن ، فقيل له خراسان ؟ ف قال : مذاهب مختلفة و آراء فاسدة ، فقيل الشام ؟ ف قال : يشار إليكم بالأصابع أراد الشهرة ، فقيل له : العراق ؟ قال بلد الجبابرة ، فقيل له : فمكة ؟ قال : مكة تذيب الكيس و البدن . و قال القاضي أبو بكر العربي قال شيخي في العبادة : لا يذهب بك الزمان في مصافاة الأقران و مواصلة الأحزان ، و لم أر للخلاص طريقاً أقرب من طريقين : إما أن يغلق المرء على نفسه بابه ، وإما أن يخرج إلى مواضع لا يعرف فيه ، فإن اضطر إلى مخالطة فليمن معه ببدنه و ليفارقهم بقلبه و لسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه و لا يفارق السكوت . أنشدني محمد بن عبد الملك الصوفي قال : أنشدني أبو الفضل الجوهري : [ الخير أجمع في السكوت ] البيتان : قال القاضي : و لي في هذا المعنى شعر : حاز السلام مسلم يأوي إلى سكن وقوت ماذا يؤمل بعد ما يأوي إلى بيت وقيت قال المؤلف رحمه اللّه : و لأبي سليمان الخطابي في هذا المعنى شعر : أنست بوحدتي و لزمت بيتي فدام الأنس لي و نما السرور و أدبني الزمان فلا أبالي هجرت فلا أزار و لا أزور و لست بسائل ما دمت حياً أسار الخيل أم ركب الأمير و الشعر في هذا المعنى كثير ، و سيأتي للعزلة له زيادات بيان من السنة إن شاء اللّه تعالى ، و كثرة الخبث ظهور الزنا و أولاد الزنا . و ذكر ابن وهب عن يحيى مولى الزبير أن في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم خسف قبل المشرق ، فقال بعض الناس يا رسول اللّه : يخسف الأرض و فيها المسلمون ؟ ف قال : إذا كان أكثر أهلها الخبث . قال علماؤنا رحمة اللّه عليهم : فيكون إهلاك جميع الناس عند ظهور المنكر و الإعلان بالمعاصي ، فيكون طهرة للمؤمنين و نقمة للفاسدين لقوله عليه الصلاة و السلام : ثم بعثوا على نياتهم و في رواية على أعمالهم و قد تقدم هذا في المعنى : فمن كانت نيته صالحة أثيب عليها، و من كانت نيته سيئة جوزي عليها ، و في التنزيل يوم تبلى السرائر فاعلمه . |