باب ما جاء أن أرواح الشهداء في الجنة دون أرواح غيرهم يدل على ذلك قوله عليه الصلاة و السلام في حديث ابن عمر : هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه إليه يوم القيامة و هذه حالة مختصة بغير الشهداء . و في صحيح مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد اللّه بن مسعود عن هذه الآية : و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ف قال : [ أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة ف قال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي شيء نشتهي و نحن نسرح في الجنة حيث نشاء ؟ ففعل بهم ذلك ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا ] . فصل : قلت : و هنا اعتراضات خمسة : الأول : إن قيل : ما قولكم في الحديث الذي ذكرتم ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه و رد عليه السلام ؟ قلنا : هو عموم يخصصه ما ذكرناه ، فهو محمول على غير الشهداء . الثاني : فإن قيل : فقد روى مالك عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال : إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه ؟ قلنا : قال أهل اللغة تعلق بضم اللام تأكل . يقال علقت تعلق علوقاً . و يروى يعلق بفتح اللام و هو الأكثر و معناه : تسرح و هذه حالة الشهداء لا غيرهم بدليل الحديث المتقدم . وقوله تعالى : بل أحياء عند ربهم يرزقون و لا يرزق إلا حي فلا يتعجل الأكل و النعيم لأحد إلا للشهيد في سبيل اللّه بإجماع من الأمة . حكاه القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين ، و غير الشهيد بخلاف هذا الوصف إنما يملأ عليه قبره خضراً و يفسح له فيه . و قوله : نسمة المؤمن . أي روح المؤمن الشهيد . يدل عليه قوله في نفس الحديث حتى يرجعه اللّه تعالى إلى جسده يبعثه . الثالث : فإن قيل : فقد جاء أنه الأرواح تتلاقى في السماء و الجنة في السماء يدل على قوله عليه السلام : إذا دخل رمصان فتحت أبواب السماء و في رواية أبواب الجنة ؟ قلنا : لا يلزم من تلاقي الأرواح في السماء أن يكون تلاقيها في الجنة ، بل أرواح المؤمنين غير الشهداء تارة تكون في الأرض على أفنية القبور ، و تارة في السماء لا في الجنة . و قد قل إنها تزور قبورها كل يوم جمعة على الدوام ، و لذلك تستحي زيارة القبور ليلة الجمعة و يوم الجمعة و بكرة السبت فيما ذكر العلماء . و اللّه أعلم . قال ابن العربي : و بحديث الجرائد يستدل الناس على أن الأرواح في القبور تعذب أو تنعم ، و هو أبين في ذلك من حديث ابن عمر في الصحيح إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة و العشي لأن عرض مقعده ليس فيه بيان عن موضعه الذي يراه منه ، و حديث الجرائد نص على أن أولئك يعذبون في قبورهم . و كذلك حديث اليهود . قلت : و يحتمل على ما ذكرناه و اللّه أعلم : أن يكون قوله عليه السلام : ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا و روحه في قبره إلا عرفه ورد عليه السلام حتى لا تتناقض الأخبار . و اللّه أعلم . الرابع : فإن قيل فقد قال صلّى اللّه عليه و سلم : و الذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل اللّه ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي و عليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه . و هذا يدل على أن ببعض الشهداء لا يدخلون الجنة ، من حين القتل و لا تكون أرواحهم في جوف طير ، و لا تكون في قبورهم فأين تكون ؟ قلنا : قد خرج ابن وهب بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة و عشياً فلعلهم هؤلاء أو من منعه من دخول الجنة حقوق الآدميين إذ الدين ليس مختصاً بالمال على ما يأتي . و لهذا قال علماؤنا أحوال الشهداء طبقات مختلفة و منازل متباينة يجمعها أنهم يرزقون ، و قد تقدم قوله عليه السلام : من مات مريضاً مات شهيداً و غدى و ريح برزقه من الجنة و هذا نص في أن الشهداء مختلفو الحال و سيأتي : كم الشهداء ؟ إن شاء اللّه تعالى . الخامس : فإن قيل : فقد روي ابن ماجه عن أبي أمامة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول : لشهيد البحر مثل شهيدي البر و المائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر ، و ما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة اللّه عز و جل ، و إن اللّه و كل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم و يغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا لدين ، و لشهيد البحر الذنوب كلها و الدين ؟ قلنا : الدين إذا أخذه المرء في حق واجب لفاقة أو عسر و مات و لم يترك وفاء فإن اللّه تعالى لا يحيسه عن الجنة إن شاء اللّه شهيداً كان أو غيره ، لأن على السلطان فرضاً أن يؤدي عنه دينه . قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : من ترك ديناً أو ضياعاً فعلى اللّه و رسوله ، و من ترك مالاً فلورثته فإن لم يؤد عنه السلطان فإن اللّه تعالى يقضي عنه و يرضى خصمه . و الدليل على ذلك ما رواه ابن ماجه في سننه عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : إن الدين يقتص أو مقتص من صاحبه يوم القيامة إذا مات إلا من تدين في ثلاث خلال : الرجل تضعف قوته في سبيل اللّه فيستدين ليتقوى به لعدو اللّه و عدوه ، و رجل يموت عنده رجل مسلم لا يجد ما يكفنه فيه و يواريه إلا بدين ، و رجل خاف على نفسه العزبة فينكح خشية على دينه . فإن اللّه يقضي عن هؤلاء يوم القيامة ، وإما من دان في سفه أو سرف فمات و لم يوفه أو ترك له وفاء و لم يوص به أو قدر على الأداء فلم يوفه ، فهذا الذي يجس به صاحبه عن الجنة حتى يقع القصاص بالحسنات و السيئات على ما يأتي فيحتمل أن يكون قوله عليه السلام في شهيد البحر عاماً في الجميع و هو الأظهر لأنه لم يفرق بين دين و دين و يحتمل أن يكون قوله فيمن أدان و لم يفرط في الأداء و كان عزمه و نيته الأداء لا إتلاف المال على صاحبه ، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى اللّه عنه . و من أخذها يريد إتلافها أتلفه اللّه خرجه البخاري . على أن حديث أبي أمامة في إسناده لين ، و أعلى منه إسناداً و أقوى ما رواه مسلم عن عبد اللّه بن عمرو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال : القتل في سبيل اللّه يكفر كل شيء إلا الدين و لم يخص براً من بحر . و كذلك ما رواه أبو قتادة : أن رجلاً قال : يا رسول اللّه أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه أيكفر اللّه عني خطاياي ؟ فقال له رسول اللّه : نعم إن قتلت في سبيل اللّه و أنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : كيف قلت ؟ ف قال : أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه أيكفر اللّه عني خططاياي ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : نعم و أنت صابر محتبل و مقبل غي مدبر إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك . و خرج أبو نعيم الحافظ بإسناده عن قاضي البصريين شريح عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال : إن اللّه يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول يا ابن آدم فيم أضعت حقوق الآدميين ؟ فيم أذهبت أموالهم ؟ فيقول : يا رب لم أفسده و لكن أصبت إما غرقاً أو حرقاً فيقول اللّه عز و جل : أنا أحق من قضى عنك اليوم فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة . رواه من طرق . و قال يزيد بن هارون في حديثه [ فيدعو اللّه تعالى بشيء فيضعه في ميزانه فيثقل ] . غريب من حديث شريح تفرد به صدقة بن أبي موسى عن أبي عمران الجوني . قلت : هذا نص في قضاء اللّه سبحانه الدين إذا لم يؤخذ على سبيل الفساد و الحمد للّه الموفق للسداد ، و المبين على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و سلم ما أبهم و استغلق من مشكل على العباد ، و قد قال بعض العلماء : إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى و إنما قيل لها : المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين و هي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ، و يتنسمون من طيب ريحها ، و هي تسرح في الجنة و تأوي إلى قناديل من نور تحت العرش . و ما ذكرناه أولاً أصح و اللّه أعلم . و قد روى ابن المبارك : أخبرنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان قال : حدث عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : أرواح المؤمنين في طير كحالزرازير يتعارفون ، يرزقون من الجنة . أخبرنا ابن لهيعة قال : حدثني يززيد بن أبي حبيب أن منصور بن أبي منصور ، حدثه قال سألت عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه ، فقلت أخبرني عن أرواح المسلمين أين هي حين يتوفون ؟ قال : ما تقولون أنتم يا أهل العراق ؟ قلت : لا أدري . قال : فإنها صور طير بيض فيظل العرش و أرواح الكافرين في الأرض السابعة . و ذكر الحديث . قلت : فهذه حجة من قال : إن أرواح المؤمنين كلهم في الجنة و اللّه أعلم . على أنه يحتمل أن يدخله من التأويل ما تقدم و اللّه أعلم فيكون بالمعنى : أرواح المؤمنين الشهداء و كذا ف قلت : أخبرني عن أرواح المؤمنين الشهداء . و اللّه أعلم . و روى ابن عيينة عن عبد اللّه بن أبي يزيد أنه سمعه ابن عباس رضي اللّه عنهما يقول : إن أرواح الشهداء تجول في طير خضر . فصل : وقع في حديث ابن مسعود : أرواحهم في جوف طير خضر و في حديث مالك : نسمة المؤمن طائر و روى الأعمش عن عبد اللّه بن مرة قال : سئل عبد اللّه بن مسعود عن أرواح الشهداء ؟ ف قال : أرواح الشهداء عند اللّه كطير خضر في قناديل تحتة العرش تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم ترجع إلى قناديلها . و ذكر الحديث . و روى ابن شهاب عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال : أرواح الشهداء طير خضر تعلق في شجر الجنة و هذا كله مطابق لحديث مالك فهو أصح من رواية من روى أن أرواحهم في جوف طير خضر . قاله أبو عمر في الاستذكار . و قال أبو الحسن القابسي : أنكر العلماء قول من قال في حواصل طير لأنها رواية غير صحيحة ، لأنها إذا كانت كذلك فهي محصورة مضيق عليها . قلت : الرواية صحيحة لأنها في صحيح مسلم بنقل العدل عن العدل فيحتمل أن تكون الفاء بمعنى على فيكون المعنى أرواحهم على جوف طير خضر كما قال تعالى : و لأصلبنكم في جذوع النخل أي على جذوع النخل و جائز أن يسمى الظهر : جوفاً : إذا هو محيط به و مشتمل عليه . قال أبو محمد عبد الحق : و هو حسن جداً . و ذكر شبيب بن إبراهيم في كتاب الإفصاح المنعم على جهات مختلفة . منها ما هو طائر يعلق من شجر الجنة . و منها ما هو في حواصل طير خضر . و منها ما يأوي في قناديل تحت العرش . و منها ما هو في حواصل طير بيض . و منها ما هو في حواصل طير كالزرازير . . و منها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة . و منها ما هو في صور تخلق لهم من ثواب أعمالهم . و منها ما تسرح و تعود إلى جثتها تزورها . و منها ما تتلقى أرواح المقبوضين . و ممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل . و منها ما هو في كفالة آدم . و منها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام . و هذا قول حسن فإنه يجمع الأخبار حتى لا تتدافع ، و اللّه بغيبه أعلم و أحكم . |