الباب الرابع عشر الكلام في إمامة أبي بكر الصديق رضي اللّه عنهقال اللّه تبارك وتعالى: (وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) من الآية (٥٥ /٢٤) ، وقال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتو الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) من الآية (٤١ /٢٢) ، وأثنى اللّه تعالى على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، وعلى أهل بيعة الرضوان، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار رضي اللّه عنهم أجمعين في مواضع كثيرة، وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال تعالى (٢/ ٢٥٢) : (لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) من الآية (١٨ /٤٨) الآية، وقد أجمع هؤلاء الذين أثنى اللّه عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه وسموه خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبايعوه وانقادوا له، وأقروا له بالفضل، وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي، وسياسة الأمة وغير ذلك . دليل آخر من القرآن على إمامة أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه دليل آخر من القرآن على إمامة الصديق رضي اللّه عنه: وقد دل اللّه تعالى على إمامة أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه في سورة براءة فقال تعالى للقاعدين عن نصرة نبيه صلى اللّه عليه وسلم والمتخلفين عن الخروج معه (٢/ ٢٥٣) : (فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) من الآية (٨٣ /٩) ، وقال تعالى في سورة أخرى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام اللّه) من الآية (١٥ /٤٨) يعني قوله: (لن تخرجوا معي أبدا) من الآية (٨٣ /٩) ، ثم قال تعالى: (كذلكم قال اللّه من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) من الآية (١٥ /٤٨) ، وقال تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم اللّه أجرا حسنا وإن تتولوا) من الآية (١٦ /٤٨) يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم إلى قتالهم (كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما) من الآية (١٦ /٤٨) (٢/ ٢٥٤) والداعي لهم إلى ذلك غير النبي صلى اللّه عليه وسلم الذي قال اللّه عز وجل له: (قل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) من الآية (٨٣ /٩) ، وقال تعالى في سورة الفتح: (يريدون أن يبدلوا كلام اللّه) منالآية (١٥ /٤٨) فمنعهم الخروج مع نبيه صلى اللّه عليه وسلم وجعل خروجهم معه تبديلا لكلامه، فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال داع يدعوهم بعد نبيه صلى اللّه عليه وسلم، وقد قال الناس: هم أهل فارس، وقالوا: أهل اليمامة، فإن كانوا أهل اليمامة فقد قاتلهم بعد نبيه صلى اللّه عليه وسلم أبو بكر الصديق (٢/ ٢٥٥) رضي اللّه عنه، وإن كانوا الروم فقد قاتلهم الصديق أيضا، وإن كانوا أهل فارس فقد قوتلوا في أيام أبي بكر رضي اللّه عنه، وقاتلهم عمر رضي اللّه عنه من بعده وفرغ منهم . وإذا وجبت إمامة عمر رضي اللّه عنه وجبت إمامة أبي بكر رضي اللّه عنه، كما وجبت إمامة عمر رضي اللّه عنه؛ لأنه العاقد له الإمامة، فقد دل القرآن على إمامة الصديق رضي اللّه عنه والفاروق رضي اللّه عنه . وإذا وجبت إمامة أبي بكر رضي اللّه عنه بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجب أنه أفضل المسلمين . دليل آخر من الإجماع على إمامة أبي بكر رضي اللّه عنه: ومما يدل على إمامة الصديق رضي اللّه عنه أن المسلمين جميعا بايعوه وانقادوا لإمامته، وقالوا له: يا خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . (٢/ ٢٥٦) ورأينا عليا والعباس رضي اللّه عنهما بايعاه رضي اللّه عنه وأقرا له بالإمامة، وإذا كانت الرافضة يقولون: إن عليا رضي اللّه عنه هو المنصوص على إمامته، والراوندية تقول: العباس هو المنصوص على إمامته، ولم يكن للناس في الإمامة إلا ثلاثة أقوال: من قال منهم: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم نص على إمامة أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، وهو الإمام بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . وقول من قال: نص على إمامة علي رضي اللّه عنه . وقول من قال: الإمام بعده العباس . وقول من قال: هو أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه، هو بإجماع المسلمين والشهادة له بذلك . ثم رأينا عليا رضي اللّه عنه والعباس رضي اللّه عنه قد بايعاه (٢/ ٢٥٧) وأجمعا على إمامته، فوجب أن يكون إماما بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم بإجماع المسلمين . ولا يجوز لقائل أن يقول كان باطن علي والعباس خلاف ظاهرهما، ولو جاز هذا لمدعيه لم يصح إجماع، وجاز لقائل أن يقول ذلك في كل إجماع للمسلمين . وهذا يسقط حجة الإجماع؛ لأن اللّه تعالى لم يتعبدنا في الإجماع بباطن الناس، وإنما تعبدنا بظاهرهم، وإذا كان كذلك فقد حصل الإجماع والاتفاق على إمامة أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه . وإذا ثبتت إمامة الصديق رضي اللّه عنه، ثبتت إمامة الفاروق رضي اللّه عنه؛ لأن الصديق رضي اللّه عنه نص عليه وعقد له الإمامة، واختاره لها . وكان أفضلهم بعد أبي بكر رضي اللّه عنه . وثبتت إمامة عثمان رضي اللّه عنه بعد عمر رضي اللّه عنه بعقد (٢/ ٢٥٨) من عقد له الإمامة من أصحاب الشورى؛ الذين نص عليهم عمر رضي اللّه عنه، فاختاروه ورضوا بإمامته، وأجمعوا على فضله وعدله . وتثبت إمامة علي رضي اللّه عنه بعد عثمان رضي اللّه عنه لعقد من عقدها له من الصحابة رضي اللّه عنهم من أهل الحل والعقد، ولأنه لم يدعها أحد من أهل الشورى غيره في وقته، وقد اجتمع على فضله وعدله، وأن امتناعه عن دعوى الأمر لنفسه في وقت الخلفاء قبله كان حقا؛ لعلمه أن ذلك ليس بوقت قيامه، وأنه قلما كان لنفسه في وقت الخلفاء قبله (٢/ ٢٥٩) ، ثم لما صار الأمر أظهر وأعلن ولم يقصر حتى مضى على السداد والرشاد، كما مضى من قبله من الخلفاء، وأئمة العدل من السداد والرشاد متبعين لكتاب ربهم وسنة نبيهم . هؤلاء هم الأئمة الأربعة المجمع على عدلهم وفضلهم رضي اللّه عنهم أجمعين . وقد روى شريح بن النعمان قال: ثنا حشرج بن نباته عن سعيد بن جمهان، قال ثني سفينة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك) ، ثم قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان، ثم أمسك خلافة علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم أجمعين، (٢/ ٢٦٠) قال فوجدتها ثلاثين سنة . فدل ذلك على إمامة الأئمة الأربعة رضي اللّه عنهم أجمعين . فأما ما جرى من علي والزبير وعائشة رضي اللّه عنهم أجمعين، فإنما كان على تأويل واجتهاد، وعلي الإمام، وكلهم من أهل الاجتهاد، وقد شهد لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بالجنة والشهادة، فدل على أنهم كلهم كانوا على حق في اجتهادهم، وكذلك ما جرى بين سيدنا علي ومعاوية رضي اللّه عنهما، فدل على تأويل واجتهاد . وكل الصحابة أئمة مأمونون غير متهمين في الدين، وقد أثنى اللّه ورسوله على جميعهم، وتعبدنا بتوقيرهم وتعظيمهم وموالاتهم، والتبري من كل من ينقص أحدا منهم رضي اللّه عنهم أجمعين . (٢/ ٢٦٠) وقد قلنا في الأبرار قولا وجيزا، والحمد اللّه أولا وآخرا. نهاية الكتاب شبكة مشكاة الإسلامية ... |