Geri

   

 

 

İleri

 

الباب التاسع الكلام في تقدير أعمال العباد والاستطاعة والتعديل والتجوير

يقال للقدرية: هل يجوز أن يعلم اللّه عز وجل عباده شيئا لا يعلمه ؟

فإن قالوا: لا يعلم اللّه عباده شيئا إلا وهو به عالم .

قيل لهم: فكذلك لا يقدرهم على شيء إلا وهو عليه قادر، فلا بد من الإجابة إلى ذلك .

قيل لهم: فإذا قدرهم على الكفر، فهو قادر أن يخلق الكفر لهم، وإذا قدر على خلق الكفر لهم فلم أبيتم أن يخلق كفرهم فاسدا متناقضا باطلا، وقد قال تعالى: (فعال لما يريد) من الآية (١٠٧ /١١) (٢/ ١٨٢) وإذا كان الكفر مما أراد فقد فعله وقدره .

مسألة:

ويرد عليهم في اللطف . يقال لهم: أليس اللّه عز وجل قادر أن يفعل بخلقه من بسط الرزق ما لو فعله بهم لبغوا في الأرض ؟ وأن يفعل بهم ما لو فعله بالكفار لكفروا ؟ كما قال تعالى: (ولو بسط اللّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض) ، وكما

قال: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) من الآية (٣٣ /٤٣) . فلا بد من نعم . (٢/ ١٨٣)

يقال لهم: فما أنكرتم من أنه قادر أن يفعل بهم لطفا لو فعله بهم لآمنوا أجمعين، كما أنه قادر أن يفعل بهم أمرا لو فعله بهم لكفروا كلهم .

مسألة أخرى:

ويقال لهم: أليس قد

قال اللّه تعالى: (ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) من الآية (٨٣ /٤) ، (ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) من الآية (٢١ /٢٤) ،

وقال: (فاطلع فرآه في سواء الجحيم) (٥٥ /٣٧) يعني في وسط الجحيم،

قال: (تاللّه إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين) من الآية (٥٦ - ٥٧ /٣٧) .

ما الفضل الذي فعله بالمؤمنين، الذي لو لم يفعله لاتبعوا الشيطان، ولو لم يفعله ما زكى منهم من أحد أبدا ؟ وما النعمة التي لو لم يفعلها لكانوا من (٢/ ١٨٤) المحضرين ؟ وهل ذلك شيء لم يفعله بالكافرين وخص به المؤمنين ؟

فإن قالوا: نعم .

فقد تركوا قولهم، وأثبتوا للّه تعالى نعما وفضلا على المؤمنين ابتدأهم بجميعه، ولم ينعم بمثله على الكافرين، وصاروا إلى القول بالحق .

فإن قالوا: قد فعل اللّه ذلك أجمع بالكافرين لما فعله بالمؤمنين، فقل لهم: فإذا كان اللّه تعالى قد فعل ذلك أجمع بالكافرين فلم يكونوا زاكين، وكانوا للشيطان متبعين، وفي النار محضرين .

وهل يجوز أن يقول للمؤمنين: لولا أني خلقت لكم أيدي وأرجل لكنتم للشيطان متبعين، وهو قد خلق الأيدي والأرجل للكافرين وكانوا للشيطان متبعين ؟

فإن قالوا: لا يجوز ذلك .

قيل لهم: وكذلك لا يجوز ما قلتموه .

وهذا يبين أن اللّه تعالى اختص المؤمنين من النعم والتوفيق والتسديد (٢/ ١٨٥) بما لم يعط الكافرين، وفضل عليهم المؤمنين .

مسألة في الاستطاعة:

ويقال لهم: أليست استطاعة الإيمان نعمة من اللّه تعالى وفضلا وإحسانا ؟

فإذا قالوا: نعم .

قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون توفيقا وتسديدا، فلا بد من الإجابة إلى ذلك .

يقال لهم: فإذا كان الكافرون قادرين على الإيمان، فما أنكرتم من أن يكونوا موفقين للإيمان، ولو كانوا موفقين مسددين لكانوا ممدوحين؛ وإذ لم يجز ذلك لم يجز أن يكونوا على الإيمان قادرين، ووجب أن يكون اللّه تعالى اختص بالقدرة على الإيمان للمؤمنين . (٢/ ١٨٦)

مسألة أخرى:

ويقال لهم: لو كانت القدرة على الكفر قدرة على الإيمان، فقد رغب إليه في أن يقدره على الكفر، فلما رأينا المؤمنين يرغبون إلى اللّه تعالى في قدرة الإيمان، ويزهدون في قدرة الكفر؛ علمنا أن الذي رغبوا فيه غير الذي زهدوا فيه .

مسألة أخرى:

ويقال لهم: أخبرونا عن قوة الإيمان، أليست فضلا من اللّه تعالى ؟

فلا بد من نعم .

يقال لهم: فالتفضل، أليس هو ما للمتفضل أن لا يتفضل به، وله أن يتفضل به، فلا بد من الإجابة إلى ذلك؛ لأن ذلك هو الفرق بين الفضل وبين الاستحقاق .

فيقال لهم: وللمتفضل إذا أمر بالإيمان أن يرفع التفضل، ولا يتفضل به فيأمرهم بإيمان، وإن لم يعطهم قدرة الإيمان وخذلهم، وهذا هو قولنا ومذهبنا . (٢/ ١٨٧)

مسألة:

ويقال لهم: هل يقدر اللّه على توفيق يوفق به الكافرين حتى يكونوا مؤمنين ؟

فإن قالوا: لا . نطقوا بتعجيز اللّه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا .

وإن قالوا: نعم يقدر على ذلك، ولو فعل بهم التوفيق لآمنوا، تركوا قولهم، وقالوا بالحق .

مسألة:

وإن سألوا عن قول اللّه تعالى: (وما اللّه يريد ظلما للعباد) من الآية (٣١ /٤٠) ، وعن قوله: (وما اللّه يريد ظلما للعالمين) من الآية (١٠٣ /٣) .

قيل لهم: معنى ذلك أنه لا يريد أن يظلمهم؛ لأنه

قال: (وما اللّه يريد ظلما لهم) ولم يقل: لا يريد ظلم بعضهم لبعض، فلم يرد أن يظلمهم وإن كان أراد أن يتظالموا . (٢/ ١٨٨)

مسألة:

وإن سألوا عن قول اللّه تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) من الآية (٣ /٦٧) ، قالوا: والكفر متفاوت، فكيف يكون من خلق اللّه ؟

والجواب عن ذلك: أن اللّه تعالى

قال: (خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم أرجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) من الآية (٣ - ٤ /٦٧) فإنما عنى ما ترى في السماوات من فطور؛ لأنه ذكر خلق السماوات، ولم يذكر الكفر، وإذا كان هذا على ما قلناه بطل ما قالوه . والحمد للّه رب العالمين .

مسألة:

ويقال لهم: هل تعرفون للّه عز وجل نعمة على أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه خص بها دون أبي جهل ابتداء ؟

فإن قالوا: لا، فحُش قولهم .

وإن قالوا: نعم، تركوا مذاهبهم، (٢/ ١٨٩) لأنهم لا يقولون إن اللّه خص المؤمنين في الابتداء بما لم يخص به الكافرين .

مسألة:

وإن سألوا عن

قوله تعالى: (ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) من الآية (٢٧ /٣٨) ، فقالوا: هذه الآية تدل على أن اللّه عز وجل لم يخلق الباطل . والجواب عن ذلك: أن اللّه عز وجل أراد بذلك المشركين الذين قالوا: لا حشر ولا نشور ولا إعادة، فكأنه قال تعالى: ما خلقت ذلك، وأنا لا أثيب من أطاعني، ولا أعاقب من عصاني، كما ظن الكافرون أنه لا حشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب، ألا تراه قال (٢/ ١٩٠) : (ذلك ظَنُّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) من الآية (٢٧ /٣٨) ، وبيَّن ذلك بقوله: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) (٢٨ /٣٨) أي لا نسوي بينهم في أن نفنيهم أجمعين ولا نعيدهم، فيكون سبيلهم سبيلا واحدا .

مسألة:

وسألوا عن

قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (٧٩ /٤)

والجواب عن ذلك: أن اللّه تعالى

قال: (وإن تصبهم حسنة) من الآية (٧٨ /٤) يعني الخصب والخير، (يقولون هذا من عند اللّه وإن تصبهم سيئة) من الآية (٧٨ /٤) (٢/ ١٩١) يعني الجدب والقحط والمصائب، (قالوا هذه من عندك) من الآية (/٤) أي بشؤمك،

قال اللّه تعالى: (يا محمد قل كل من عند اللّه فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) من الآية (٧٨ /٤) في قولهم: (ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (٧٩ /٤) فحذف " في قولهم " لأن ما تقدم من الكلام يدل عليه؛ لأن القرآن لا يتناقض، ولا يجوز أن يقول في آية إن الكل من عند اللّه، ثم يقول في الآية الأخرى التي تليها إن الكل ليس من عند اللّه، على أن ما أصاب الناس هو غير ما أصابوه، وهذا يبين بطلان تعلقهم بهذه الآية، ويوجب عليهم الحجة .

مسألة:

وإن سألوا عن قول اللّه تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (٥٦ /١٥) . (٢/ ١٩٢)

والجواب عن ذلك: أن اللّه تعالى إنما عنى المؤمنين دون الكافرين؛ لأنه أخبرنا أنه ذرأ لجهنم كثيرا من خلقه، فالذين خلقهم لجهنم، وأحصاهم، وعدهم، وكتبهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم؛ غير الذين خلقهم لعبادته .

مسألة في التكليف:

ويقال لهم: أليس قد كلف اللّه عز وجل الكافرين أن يستمعوا الحق ويقبلوه ويؤمنوا باللّه ؟

فلا بد من نعم .

فيقال لهم: فقد

قال اللّه تعالى: (ما كانوا يستطيعون السمع) من الآية (٢٠ /١١) ،

وقال: (وكانوا لا يستطيعون سمعا) من الآية (١٠١ /١٨) ، وقد كلفهم استماع الحق . (٢/ ١٩٣)

مسألة:

ويقال لهم: أليس قد

قال اللّه تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) (٤٢ /٦٨) ، أليس قد أمرهم اللّه تعالى بالسجود في الآخرة ؟

وجاء في الخبر: (أن المنافقين يجعل في أصلابهم كالصفائح فلا يستطيعون السجود) ، وفي هذا تثبيت ما نقوله من أنه لا يجب لهم على اللّه تعالى إذا أمرهم أن يقدرهم، وهو بطلان قول القدرية .

مسألة في إيلام الأطفال:

ويقال لهم: أليس قد آلم اللّه تعالى الأطفال في الدنيا بآلام أوصلها إليهم، كنحو الجذام الذي يقطع أيديهم وأرجلهم وغير ذلك - أعاذنا اللّه من ذلك - كما يؤلمهم به، وكان ذلك سائغا جائزا ؟

فإذا قالوا: نعم . (٢/ ١٩٤)

قيل لهم: فإذا كان هذا عدلا فما أنكرتم أن يؤلمهم في الآخرة، ويكون ذلك منه عدلا .

فإن قالوا: آلمهم في الدنيا ليعتبر بهم الآباء .

قيل لهم: فإذا فعل بهم ذلك في الدنيا ليعتبر بهم الآباء، وكان ذلك منه عدلا فلم لا يؤلم أطفال الكافرين في الآخرة ليغيظ بذلك آباءهم، ويكون ذلك منه عدلا ؟

وقد قيل في الخبر: (إن أطفال المشركين تؤجج لهم نار يوم القيامة ثم يقال لهم اقتحموها، فمن اقتحمها أدخله الجنة، ومن لم يقتحمها أدخله النار)

وقد قيل في الأطفال، وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: (إن شئت أسمعتك ضغاءهم في النار) .

مسألة:

ويقال لهم: أليس قد قال اللّه تبارك وتعالى (٢/ ١٩٥) : (تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب) (١ - ٣ /١١١) ، وأمره مع ذلك بالإيمان، فأوجب عليه أن يعلم أنه لا يؤمن، وأن اللّه صادق في إخباره عنه أنه لا يؤمن، وأمره مع ذلك أن يؤمن ولا يجتمع الإيمان والعلم بأنه لا يكون ولا يقدر على أن يؤمن، وأن يعلم أنه لا يؤمن .

وإذا كان هذا هكذا فقد أمر اللّه سبحانه أبا لهب بما لا يقدر عليه؛ لأنه أمره أن يؤمن، وأنه يعلم أنه لا يؤمن .

مسألة:

ويقال لهم: أليس أمر اللّه عز وجل بالإيمان من علم أنه لا يؤمن ؟

فمن قولهم نعم .

يقال لهم: فأنتم قادرون على الإيمان، ويتأتى لكم ذلك .

فإن قالوا: لا، وافقونا .

وإن قالوا: نعم، زعموا أن العباد يقدرون على الخروج من علم اللّه . تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا . (٢/ ١٩٦)

مسألة عن المعتزلة:

قال الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمة اللّه عليه:

ويقال لهم: أليس المجوس أثبتوا الشيطان يقدر على الشر الذي لا يقدر اللّه عز وجل عليه فكانوا بقولهم هذا كافرين ؟ فلا بد من نعم .

يقال لهم: فإذا زعمتم أن الكافرين يقدرون على الكفر، واللّه تعالى لا يقدر عليه فقد زدتم على المجوس في قولكم؛ لأنكم تقولون معهم: إن الشيطان يقدر على الشر، واللّه لا يقدر عليه، وهذا ما بينه الخبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن القدرية مجوس هذه الأمة، وإنما صاروا مجوس هذه الأمة؛ لأنهم قالوا بقول المجوس . (٢/ ١٩٧)

مسألة:

وزعمت القدرية أنا نستحق اسم القدر؛ لأنا نقول إن اللّه تعالى قدر الشر والكفر، فمن يثبت القدر كان قدريا دون من لم يثبته .

يقال لهم: القدري هو من يثبت القدر لنفسه دون ربه عز وجل، وأنه يقدر أفعاله دون خالقه، وكذلك هو في اللغة؛ لأن الصائغ: هو من زعم أنه يصوغ دون من يزعم أنه يصاغ له، والنجار: هو من يضيف النجارة إلى نفسه دون أنه ينجر له .

فلما كنتم تزعمون أنكم تقدرون أعمالكم وتفعلونها دون ربكم، وجب أن تكونوا قدرية، ولم نكن نحن قدرية؛ لأنا لم نضف الأعمال إلى (٢/ ١٩٨) أنفسنا دون ربنا عز وجل، ولم نقل إنا نقدرها دونه، وقلنا: إنها تقدر لنا .

مسألة:

ويقال لهم: إذا كان من أثبت التقدير للّه عز وجل قدريا، فيلزمكم إذا زعمتم أن اللّه تعالى قدر السماوات والأرض، وقدر الطاعات أن تكونوا قدرية، فإذا لم يلزم هذا فقد بطل قولكم وانتقض كلامكم .

مسألة في الختم:

يقال لهم: أليس قد

قال اللّه تعالى: (ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) من الآية (٧ /٢) ،

وقال تعالى: (فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله (٢/ ١٩٩) يجعل صدره ضيقا حرجا) من الآية (١٢٥ /٦) ، فخبرونا عن الذين ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم، أتزعمون أنه هداهم وشرح للإسلام صدورهم وأضلهم .

فإن قالوا: نعم، تناقض قولهم .

وقيل لهم: كيف تكون الصدور مشروحة للإيمان، وهي ضيقة حرجة مختوم عليها، وكيف يجتمع الفعل الذي قال اللّه عز وجل: (أم على قلوب أقفالها) من الآية (٢٤ /٤٧) مع الشرح، والضيق مع السعة، والهدى مع الضلال، إن كان هذا جاز أن يجتمع التوحيد والإلحاد الذي هو ضد التوحيد، والكفر والإيمان معا في قلب واحد، وإن لم يجز هذا لم يجز ما قلتموه .

فإن قالوا: الختم والضيق والضلال لا يجوز أن يجتمع مع شرح اللّه الصدر .

قيل لهم: وكذلك الهدى لا يجتمع مع الضلال، وإذا كان هذا هكذا (٢/ ٢٠٠) فما شرح اللّه صدور الكافرين للإيمان، بل ختم اللّه على قلوبهم وأقفلها عن الحق، وشد عليها، كما دعا نبي اللّه موسى صلى اللّه عليه وسلم على قومه ف

قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى تروا العذاب الأليم) من الآية (٨٨ /١٠)

قال اللّه تعالى: (قد أجبت دعوتكما) من آية (٨٩ /١٠) ، وقال تعالى يخبر عن الكافرين إنهم قالوا: (قلوبنا في أكنَّة مما تدعوننا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) من الآية (٥ /٤١) ، فإذا خلق اللّه الأكنة في قلوبهم، والقفل والزيغ؛ لأن اللّه تعالى

قال: (فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم) من الآية (٥ /١٦) (٢/ ٢٠١) والختم وضيق الصدر تم أمرهم بالإيمان الذي علم أنه لا يكون، فقد أمرهم بما لا يقدرون عليه، وإذا خلق اللّه في قلوبهم ما ذكرنا من الضيق عن الإيمان، فهل الضيق عن الإيمان إلا الكفر الذي في قلوبهم ؟ وهذا يبين أن اللّه خلق كفرهم ومعاصيهم .

مسألة:

ويقال لهم: قال اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) (٧٤ /١٧) ، وقال تعالى يخبر عن يوسف صلى اللّه عليه وسلم: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) من الآية (٢٤ /١٢) (٢/ ٢٠٢) فحدثونا عن ذلك التثبيت والبرهان، هل فعله اللّه عز وجل بالكافرين، أو ما هو مثله ؟

فإن قالوا: لا، تركوا القول بالقدر .

وإن قالوا: نعم .

قيل لهم: فإذا كان لم يركن إليهم من أجل التثبيت فيجب لو كان فعل ذلك بالكافرين أن لا يثبتوا على الكفر، وإذا لم يكونوا عن الكفر مفترقين فقد بطل أن يكون فعل بهم مثل ما فعله بالنبي صلى اللّه عليه وسلم من التثبيت الذي لما فعله به لم يركن إلى الكافرين .

مسألة في الاستثناء:

ويقال لهم: خبرونا عن مطالبة رجل بحق، فقال له: واللّه لأعطينك ذلك غدا إن شاء اللّه تعالى، أليس اللّه شائيا أن يعطيه حقه ؟

فمن قولهم: نعم .

يقال لهم: أفرأيتم إن جاء الغد فلم يعطه حقه، (٢/ ٢٠٣) أليس لا يحنث ؟ فلا بد من نعم .

يقال لهم: فلو كان اللّه شاء أن يعطيه حقه لحنث إذا لم يعطه، كما لو

قال: واللّه لأعطينك حقك إذا طلع الفجر غدا، ثم طلع ولم يعطه أنه يكون حانثا .

مسألة في الآجال:

يقال لهم: أليس قد

قال اللّه تعالى: (فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) من الآية (٦١ /١٦) ،

وقال تعالى: (ولن يؤخر اللّه نفسا إذا جاء أجلها) من الآية (١١ /٦٣) ؟

فلا بد من نعم .

يقال لهم: خبرونا عمن قتله قاتله ظلما، أتزعمون أنه قتل في أجله، أو بأجله (٢/ ٢٠٤) ؟

فإن قالوا: نعم، وافقوا وقالوا بالحق، وترك القدر .

وإن قالوا: لا .

قيل لهم: فمتى أجل هذا المقتول ؟

فإن قالوا: الوقت الذي علم اللّه أنه لو لم يقتل لتزوج امرأة أنها امرأته، وإن لم يبلغ إلى أن يتزوجها، وإذا كان في معلوم اللّه أنه لو لم يقتل وبقي لكفر أن تكون النار داره .

وإذا لم يجز هذا لم يجز أن يكون الوقت الذي لم يبلغ إليه أجلا له، على أن هذا القول مقيد لقول اللّه تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) من الآية (٦١ /١٦) .

مسألة أخرى:

ويقال لهم: إذا كان القاتل عندكم قادرا على أن لا يقتل هذا المقتول فيعيش، فهو قادر على قطع أجله وتقديمه قبل أجله، وهو قادر على تأخيره إلى أجله، فالإنسان على قولكم يقدر أن يقدم آجال العباد ويؤخرها، ويقدر أن (٢/ ٢٠٥) يبقي العباد ويبلغهم ويخرج أرواحهم، وهذا إلحاد في الدين .

مسألة في الأرزاق:

ويقال لهم: خبرونا عمن اغتصب طعاما فأكله حراما، هل رزقه اللّه ذلك الحرام ؟

فإن قالوا: نعم، تركوا القدر .

وإن قالوا: لا .

قيل لهم: فمن أكل جميع عمره الحرام، فما رزقه اللّه شيئا اغتذى به جسمه .

ويقال لهم: فإذا كان غيره يغتصب له ذلك الطعام ويطعمه إياه إلى أن مات، فرازق هذا الإنسان عندكم غير اللّه، وفي هذا إقرار منهم أن للخلق رازقين:

أحدهما يرزق الحلال، والآخر يرزق الحرام، وأن الناس تنبت لحومهم وتشد عظامهم، واللّه غير رازق لهم ما اغتذوا به . (٢/ ٢٠٦)

وإذا قلتم: إن اللّه لم يرزقه الحرام، لزمكم أن اللّه لم يغذه به، ولا جعله قواما لجسمه، وأن لحمه وجسمه قام وعظمه اشتد بغير اللّه عز وجل، وهو ممن رزقه الحرام، وهذا كفر عظيم إن احتملوا .

مسألة أخرى في الأرزاق:

ويقال لهم: لم أبيتم أن يرزق اللّه الحرام ؟

فإن قالوا: لأنه لو رزق الحرام لملك الحرام .

يقال لهم: خبرونا عن الطفل الذي يتغذى من لبن أمه، وعن البهيمة التي ترعى الحشيش، من يرزقهما ذلك ؟

فإن قالوا: اللّه تعالى .

قيل لهم: فمن ملَّكهما ؟ وهل للبهيمة مِلك ؟

فإن قالوا: لا . (٢/ ٢٠٧)

قيل لهم: فلم زعمتم أنه لو رزق الحرام لملك الحرام، وقد يرزق اللّه الشيء ولا يُمَلِّكُه ؟

ويقال لهم: هل أقدر اللّه العبد على الحرام ولم يملِّكْه إياه ؟

فمن قولهم: نعم .

يقال لهم: فما أنكرتم أن يرزقه الحرام، وإن لم يملِّكه إياه .

مسألة أخرى:

يقال لهم: إذا كان توفيق المؤمنين باللّه، فما أنكرتم أن يكون خذلان الكافرين من قبل اللّه تعالى، وإلا فإن زعمتم أن اللّه وفق الكافرين للإيمان فقولوا عصمهم من الكفر، وكيف يعصمهم من الكفر وقد وقع الكفر منهم ؟

فإن أثبتوا أن اللّه خذلهم،

قيل لهم: فالخذلان من اللّه أليس هو الكفر الذي خلقه فيهم ؟

فإن قالوا: نعم، وافقوا .

وإن قالوا: لا .

قيل لهم: فما ذلك الخذلان الذي خلقه ؟

فإن قالوا: تخليته إياهم والكفر .

قيل لهم: أو ليس من قولكم: إن اللّه عز وجل خلى بين المؤمنين وبين الكفر ؟ (٢/ ٢٠٨)

فمن قولهم: نعم .

قيل لهم: فإذا كان الخذلان التخلية بينهم وبين الكفر، فقد لزمكم أن يكون خذل المؤمنين؛ لأنه خلى بينهم وبين الكفر، وهذا خروج عن الدين، فلا بد لهم أن يثبتوا لهم الخذلان الكفر الذي خلقه فيتركوا القول بالقدر .

مسألة أخرى:

إن سأل سائل مِن أهل القدر، ف

قال: هل يخلو العبد من أن يكون بين نعمة يجب عليه أن يشكر اللّه عليها، أو بلية يجب عليه الصبر عليها ؟

قيل له: العبد لا يخلو من نعمة وبلية، والنعمة يجب على العبد أن يشكر اللّه عليها، والبلايا على ضربين:

منها ما يجب الصبر عليها كالأمراض والأسقام وما أشبه ذلك .

ومنها ما يجب عليه الإقلاع عنها كالكفر والمعاصي .

مسألة:

وإن سألوا فقالوا: أيما خير، الخير أو مَن الخير منه ؟

قيل لهم: من كان الخير متفضلا به فهو خير من الخير .

فإن قالوا: فأيما شر، الشر أو من الشر منه ؟ (٢/ ٢٠٩)

قيل لهم: من كان الشر منه جائزا به فهو أشر من الشر، واللّه تعالى يكون منه الشر خلقا، وهو عادل به، ولذلك لا يلزمنا ما سألتم عنه على أنكم ناقضون لأصولكم؛ لأنه إن كان من كان الشر منه فهو أشر من الشر، وقد خلق اللّه تعالى إبليس الذي هو أشر من الشر الذي يكون منه، فقد خلق ما هو أشر من الشرور كلها، وهذا نقض دينكم وفساد مذهبكم .

مسألة في الهدى:

يقال للمعتزلة: أليس قد

قال اللّه تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (٢ /٣) فأخبر أن القرآن هدى للمتقين ؟ فلا بد من نعم .

يقال لهم: أو ليس قد ذكر اللّه عز وجل القرآن ف

قال: (والذين لا يؤمنون بالآخرة في آذانهم وقر وهو عليهم عمى) من الآية (٤٤ /٤١) فخبر أن القرآن على الكافرين عمى ؟ فلا بد من نعم .

يقال لهم: فهل يجوز أن يكون من خبر اللّه عز وجل أن (٢/ ٢١٠) القرآن له هدى وهو عليه عمى ؟ فلا بد من لا .

يقال لهم: فكما لا يجوز أن يكون القرآن عمى على من أخبر اللّه تعالى أنه له هدى، كذلك لا يجوز أن يكون القرآن هدى لمن أخبر اللّه أنه عليه عمى .

مسألة أخرى:

ثم يقال لهم: إذا جاز أن يكون دعاء اللّه إلى الإيمان هدى لمن قَبِل ولمن لم يقبل، فما أنكرتم دعاء إبليس إلى الكفر إضلالا لمن قبل ولمن لم يقبل، فإن كان دعاء إبليس إلى الكفر إضلالا للكافرين الذين قبلوا عنه، دون المؤمنين لم يقبلوا عنه، فما أنكرتم أن دعاء اللّه تعالى إلى الإيمان هدى للمؤمنين الذين قبلوا عنه، دون الكافرين الذين لم يقبلوا عنه، وإلا فما الفرق بين ذلك ؟

مسألة أخرى:

ويقال لهم: أليس قال اللّه تعالى (٢/ ٢١١) : (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) من الآية (٢٦ /٢) فهل يدل قوله: (يضل به كثيرا) على أنه لم يضل الكل؛ لأنه لو أراد الكل ل

قال: يضل به الكل، فلما

قال: (يضل به كثيرا) علمنا أنه لم يضل الكل ؟ فلا بد من نعم .

يقال لهم: فما أنكرتم أن

قوله تعالى: (ويهدي به كثيرا) دليل على أنه لم يرد الكل؛ لأنه لو أراد الكل ل

قال: ويهدي به الكل، فلما قال تعالى: (ويهدي به كثيرا) علمنا أنه لم يهد الكل، وفي هذا إبطال قولكم: إن اللّه هدى الخلق أجمعين .

مسألة أخرى:

ويقال لهم: إذا قلتم إن دعاء اللّه إلى الإيمان هدى للكافرين الذين لم يقبلوا عن اللّه أمره، فما أنكرتم أن يكون دعا اللّه إلى الإيمان نفعا وصلاحا (٢/ ٢١٢) وتسديدا للكافرين الذين لم يقبلوا عن اللّه أمره، وما أنكرتم أن يكون عصمة لهم من الكفر وإن لم يكونوا من الكفر معتصمين، وأن يكون توفيقا للإيمان وإن لم يوفقوا للإيمان، وفي هذا ما يجب أن اللّه سدد الكافرين وأصلحهم وعصمهم ووفقهم للإيمان وإن كانوا كافرين، وهذا ما لا يجوز؛ لأن الكافرين مخذولون .

وكيف يكونون موفقين للإيمان وهم مخذولون ؟

فإن جاز أن يكون الكافر موفقا للإيمان، فما أنكرتم أن يكون الإيمان له متفقا، فإن استحال هذا، فما أنكرتم أن يستحيل ما قلتموه .

مسألة في الضلال:

يقال لهم: أضل اللّه تعالى الكافرين عن الإيمان، أو عن الكفر ؟

فإن قالوا: عن الكفر . (٢/ ٢١٣)

قيل لهم: فكيف يكونون ضالين عن الكفر ذاهبين عنه، وهم كافرون ؟

وإن قالوا: أضلهم عن الإيمان، تركوا قولهم .

وإن قالوا: نقول: إن اللّه أضلهم، ولم يضلهم عن شيء .

قيل لهم: ما الفرق بينكم وبين من

قال: إن اللّه هدى المؤمنين لا إلى شيء ؟

فإن استحال أن يهدي المؤمنين لا إلى الإيمان، فما أنكرتم من أنه محال أن يضل الكافرين لا إلى الإيمان .

مسألة أخرى:

ويقال لهم: ما معنى قول اللّه تعالى: (ويضل اللّه الظالمين) من الآية (٢٧ /١٤) ؟

فإن قالوا: معنى ذلك أنه يسميهم ضالين، ويحكم عليهم بالضلال .

قيل لهم: أليس خاطب اللّه العرب بلغتهم ف

قال: (بلسان عربي مبين) من الآية (١٩٥ /٢٦) ، (٢/ ٢١٤)

وقال: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) من الآية (٤ /١٤) ؟ فلا بد من نعم .

يقال لهم: وإذا كان اللّه عز وجل أنزل القرآن بلسان العرب، فمن أين وجدتم في لغة العرب أن ي

قال: أضل فلان فلانا أي سماه ضالا ؟

في قال: قالوا وجدنا القائل يقول: إذا قال رجل لرجل ضال قد ضللت .

قيل لهم: قد وجدنا لعمري القائل: ضلل فلان فلانا أنه سماه ضالا، ولم نجدهم يقولون: أضل فلان فلانا بهذا المعنى، فلما

قال اللّه تعالى: (ويضل اللّه الظالمين) من الآية (٢٧ /١٤) لم يجز أن يكون معنى ذلك الاسم، والحكم إذا لم يجز في لغة العرب أن ي

قال: أضل فلان فلانا، بأن سماه ضالا، بطل تأويلكم إذا كان خلاف لسان العرب . (٢/ ٢١٥)

مسألة أخرى:

ويقال لهم: إذا قلتم: إن اللّه أضل الكافرين بأن سماهم ضالين، وليس ذلك في اللغة على ما ادعيتموه، فيلزمكم إذا سمى النبي صلى اللّه عليه وسلم قوما ضالين فاسدين بأن يكون قد أضلهم وأفسدهم بأن سماهم ضالين فاسدين، وإذا لم يجز هذا بطل أن يكون معنى (يضل اللّه الظالمين) الاسم والحكم كما ادعيتم .

مسألة:

ويقال لهم: أليس قد

قال اللّه تعالى: (من يهد اللّه فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) من الآية (١٧ /١٨) ،

وقال تعالى: (كيف يهدي اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم) من الآية (٨٦ /٣) فذكر أنه يهديهم، وقال تعالى (٢/ ٢١٦) : (واللّه يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) الآية من (٢٥ /١٠) فجعل الدعاء عاما، والهدى خاصا،

وقال تعالى: (لا يهدي القوم الكافرين) من الآية (٢٦٤ /٢) فإذا أخبر اللّه عز وجل أنه لا يهدي القوم الكافرين، فكيف يجوز لقائل أن يقول: إنه هدى الكافرين مع إخباره أنه لا يهديهم، ومع

قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن اللّه يهدي من يشاء) من الآية (٥٦ /٢٨) ، ومع

قوله تعالى: (ليس عليك هداهم ولكن اللّه يهدي من يشاء) من الآية (٢٧٢ /٢) ، ومع

قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) من الآية (١٣ /٣٢) ، (٢/ ٢١٧) ؟

وإن جاز هذا جاز أن ي

قال: أضل المؤمنين، مع

قوله تعالى: (ومن يهد اللّه المهتد) من الآية (٩٧ /١٧) ، ومع قوله: (هدى للمتقين) من الآية (٢ /٢) ، فإن لم يكن ذلك، فما أنكرتم أنه لا يجوز أن يهدي الكافرين مع

قوله تعالى: (لا يهدي القوم الكافرين) من الآية (٢٦٤ /٢) ومع سائر الآيات التي طالبناكم بها . مسألة:

ويقال لهم: أليس قد

قال اللّه تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) من الآية (٢٣ /٤٥) ؟ (٢/ ٢١٨)

فلا بد من نعم .

يقال لهم: فأضلهم ليضلوا أو ليهتدوا ؟

فإن قالوا: أضلهم ليهتدوا .

قيل لهم: وكيف يجوز أن يضلهم ليهتدوا، وإن جاز هذا جاز أن يهديهم ليضلوا، وإذا لم يجز أن يهدي المؤمنين ليضلوا، فما أنكرتم من أنه لا يجوز أن يضل الكافرين ليهتدوا .

مسألة:

ويقال لهم: إذا زعمتم أن اللّه هدى الكافرين فلم يهتدوا، فما أنكرتم أن ينفعهم فلا ينتفعون، وأن يصلحهم فلا ينصلحون، وإذا جاز أن ينفع من لا ينتفع بنفعه فما أنكرتم من أن يضر من لا تلحقه المضرة، فإن كان لا يضر إلا من يلحقه الضرر فكذلك لا ينفع إلا منتفعا، ولو جاز أن ينفع من ليس منتفعا، ويهدي من ليس مهتديا؛ جاز أن يقدر من ليس مقتدرا، وإذا استحال ذلك استحال أن ينفع من ليس منتفعا، ويهدي من ليس مهتديا . (٢/ ٢١٩)

مسألة يسألون عنها:

يقولون: أليس قد

قال اللّه تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات) من الآية (١٨٥ /٢) فما أنكرتم أن يكون القرآن هدى للكافرين والمؤمنين .

قيل لهم: الآية خاصة؛ لأن اللّه تعالى قد بين لنا أنه هدى للمتقين، وخبرنا أنه لا يهدي الكافرين، والقرآن لا يتناقض، فوجب أن يكون قوله: (هدى للناس) أراد المؤمنين دون الكافرين .

مسألة:

فإن قال قائل: أليس قد

قال اللّه تعالى: (إنما تنذر من اتبع الذكر) من الآية (١١ /٣٦) (٢/ ٢٢٠) ،

وقال تعالى: (إنما أنت منذر من يخشاها) (٤٥ /٧٩) ، وقد أنذر النبي صلى اللّه عليه وسلم من اتبع الذكر ومن لم يتبع، ومن خشي ومن لم يخش ؟

قيل له: نعم .

فإن قالوا: فما أنكرتم أن يكون

قوله تعالى: (هدى للمتقين) من الآية (٢ /٢) أراد به هدى لهم ولغيرهم ؟

قيل لهم: إن معنى قول اللّه تعالى: (إنما ينذر من اتبع الذكر) من الآية (١١ /٣٦) إنما أراد به ينتفع بإنذارك من اتبع الذكر،

وقوله تعالى: (إنما أنت منذر من يخشاها) (٤٥ /٧٩) أراد أن الإنذار ينتفع به من يخشى الساعة، ويخاف العقوبة فيها، على أن اللّه تعالى قد أخبر في موضع آخر من القرآن أنه أنذر الكافرين، فقال (٢/ ٢٢١) : (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) (٦ /٢) وهذا هو خبر عن الكافرين،

وقال تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (٢١٤ /٢٦) ،

وقال تعالى: (أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) من الآية (١٣ /٤١) وهذا خطاب للكافرين .

فلما أخبر اللّه تعالى في آيات من القرآن أنه أنذر الكافرين، كما أخبر في آيات من القرآن أنه أنذر من يخشاها، وأنذر من اتبع الذكر؛ وجب بالقرآن أن اللّه قد أنذر المؤمنين والكافرين، فلما أخبرنا (٢/ ٢٢٢) اللّه أنه هدى للمتقين وعمى على الكافرين، وخبرنا أنه لا يهدي الكافرين؛ وجب أن يكون القرآن هدى للمتقين دون الكافرين .

مسألة:

وإن سأل سائل عن قول اللّه تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) من الآية (١٧ /٤١) ف

قال: أليس ثمود كانوا كافرين وقد أخبر اللّه تعالى أنه هداهم .

قيل له: ليس الأمر كما ظننت .

والجواب في هذه الآية على وجهين:

أحدهما: أن ثمود كانوا فريقين مؤمنين وكافرين، وهم الذين أخبر اللّه أنه نجاهم مع صالح صلى اللّه عليه وسلم بقوله تعالى (٢/ ٢٢٣) : (نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا) من الآية (٦٦ /١١) فالذين عنى اللّه عز وجل من ثمود أنه هداهم هم المؤمنون دون الكافرين؛ لأن اللّه تعالى قد بين لنا في القرآن أنه لا يهدى الكافرين، والقرآن لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضا، فإذا أخبرنا في موضع أنه لا يهدي الكافرين، ثم خبر في موضع آخر أنه هدى ثمود، علمنا أنه إنما أراد المؤمنين من ثمود دون الكافرين .

والوجه الآخر: أن اللّه عز وجل عنى قوما من ثمود كانوا مؤمنين ثم ارتدوا، فأخبر أنه تعالى هداهم فاستحبوا بعد الهداية الكفر على الإيمان، وكانوا في حال ما هداهم مؤمنين .

فإن قال قائل معترضا في الجواب الأول: كيف يجوز أن يقول: (فهديناهم) ويعني المؤمنين من ثمود، ويقول: (فاستحبوا) يعني الكافرين منهم وهم غير مؤمنين ؟

يقال له: هذا جائز في اللغة التي ورد بها القرآن أن يقول: (فهديناهم) (٢/ ٢٢٤) ويعني المؤمنين من ثمود، ويقول: (فاستحبوا) ويعني الكافرين منهم، وقد ورد القرآن بمثل هذا،

قال اللّه تعالى: (وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم) من الآية (٣٣ /٨) يعني الكافرين، ثم قال تعالى: (وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون) من الآية (٣٣ /٨) يعني المؤمنين، ثم قال تعالى: (وما لهم ألا يعذبهم اللّه) من الآية (٣٤ /٨) يعني الكافرين، ولا خلاف عند أهل اللغة في جواز الخطاب بهذا أن يكون ظاهره لجنس والمراد به جنسان، فبطل ما اعترض به ودل على جهله . (٢/ ٢٢٥)