الباب السابع الرد على الجهمية في نفيهم علم اللّه تعالى وقدرته وجميع صفاتهقال اللّه تعالى: (أنزله بعلمه) من الآية (١٦٦ /٤) ، وقال تعالى: (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) من الآية (١١ /٣٥) ، وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه العزيز، وقال تعالى: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم اللّه) من الآية (١٤ /١١) ، وقال تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) من الآية (٢٥٥ /٢) . (٢/ ١٤٢) وذكر القوة ف قال: (أولم يرو أن اللّه الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) من الآية (١٥ /٤١) ، وقال تعالى: (ذو القوة المتين) من الآية (٥٨ /٥١) ، وقال تعالى: (والسماء بنيناها بأيد) من الآية (٤٧ /٥١) . (٢/ ١٤٣) فصلوزعمت الجهمية أن اللّه تعالى لا علم له، ولا قدرة، ولا حياة، ولا سمع، ولا بصر له، وأرادوا أن ينفوا أن اللّه تعالى عالم، قادر، حي، سميع، بصير، فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك، فأتوا بمعناه؛ لأنهم إذا قالوا لا علم للّه ولا قدرة له، فقد قالوا إنه ليس بعالم ولا قادر، ووجب ذلك عليهم، وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل؛ لأن الزنادقة قد قال كثير منهم: إن اللّه تعالى ليس بعالم، ولا قادر، ولا حي، ولا سميع، ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه، وقالت إن اللّه عالم، قادر، حي، سميع، بصير من طريق التسمية من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم، والقدرة، والسمع، والبصر . (٢/ ١٤٤) فصلوقد قال رئيس من رؤسائهم - وهو أبو الهذيل العلاف - إن علم اللّه هو اللّه، فجعل اللّه تعالى علما . وأُلْزِم، فقيل له: إذا قلت إن علم اللّه هو اللّه فقل يا علم اللّه اغفر لي وارحمني، فأبى ذلك فلزمه المناقضة . واعلموا رحمكم اللّه أن من قال عالم ولا علم كان مناقضا، كما أن من قال علم اللّه ولا عالم كان مناقضا، وكذلك القول في القادر والقدرة، والحياة والحي، والسمع والبصر والسميع والبصير . مسألة:ويقال لهم: خبرونا عمن زعم أن اللّه متكلم، قائل، آمر (٢/ ١٤٥) ، ناه، لا قول له، ولا كلام، ولا أمر له، ولا نهى، أليس هو مناقض خارج عن جملة المسلمين ؟ فلا بد من نعم . يقال لهم: فكذلك من قال: إن اللّه تعالى عالم ولا علم له، كان ذلك مناقضا خارجا عن جملة المسلمين . وقد أجمع المسلمون قبل حدوث الجهمية والمعتزلة والحرورية على أن للّه علما لم يزل، وقد قالوا: علم اللّه لم يزل، وعلم اللّه سابق في الأشياء، ولا يمتنعون أن يقولوا في كل حادثة تحدث ونازلة تنزل كل هذا سابق في علم اللّه، فمن جحد أن للّه علما فقد خالف المسلمين وخرج عن اتفاقهم . مسألة:ويقال لهم: إذا كان اللّه مريدا فله إرادة ؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإذا أثبتم مريدا لا إرادة له فأثبتوا أن قائلا لا قول له، وإن (٢/ ١٤٦) أثبتوا الإرادة قيل لهم: فإذا كان المريد لا يكون مريدا إلا بإرادة، فما أنكرتم أن لا يكون العالم عالما إلا بعلم، وأن يكون للّه علم كما أثبتم له الإرادة . مسألة:وقد فرقوا بين العلم والكلام فقالوا: إن اللّه تعالى علم موسى وفرعون، وكلم موسى ولم يكلم فرعون، فكذلك قد يقال علم موسى الحكمة وفصل الخطاب، وآتاه النبوة، ولم يعلم ذلك فرعون فإن كان للّه كلام؛ لأنه كلم موسى ولم يكلم فرعون، فكذلك للّه علم؛ لأنه علم موسى ولم يعلم فرعون . ثم يقال لهم: إذا وجب أن للّه كلاما به كلم موسى دون فرعون؛ إذ كلم موسى دونه، فما أنكرتم إذا علمهما جميعا أن يكون له علم به علمهما جميعا . ثم ي قال: قد كلم اللّه الأشياء بأن قال لها: كوني، وقد أثبتم للّه قولا، وإن علم الأشياء كلها فله علم . (٢/ ١٤٧) مسألة:ثم يقال لهم: إذا أوجبتم أن للّه كلاما وليس له علم؛ لأن الكلام أخص من العلم، والعلم أعم منه، فقولوا: إن للّه قدرة؛ لأن العلم أعم عندكم من القدرة؛ لأن مذاهب القدرية أنهم لا يقولون أن اللّه لا يقدر أن يخلق الكفر، فقد أثبتوا القدرة أخص من العلم، فينبغي لهم أن يقولوا على اعتلالهم إن للّه قدرة . مسألة:ثم يقال لهم: أليس اللّه عالما، والوصف له بأنه عالم أعم من الوصف له بأنه متكلم مكلِّم ؟ ثم لم يجب؛ لأن الكلام أخص من أن يكون اللّه تعالى متكلما غير عالم ؟ فلم لا قلتم إن الكلام - وإن كان أخص من العلم - أن ذلك لا ينفي أن يكون للّه علم، كما لم ينف بخصوص الكلام أن يكون اللّه عالما ؟ مسألة:ويقال لهم: من أين علمتم أن اللّه عالم ؟ (٢/ ١٤٨) فإن قالوا: ي قوله تعالى: (إنه بكل شيء عليم) من الآية (١٢ /٤٢) . قيل لهم: وكذلك فقولوا: إن للّه علما بقوله: (أنزله بعلمه) من الآية (١٦٦ /٤) ، وبقوله: (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) من الآية (١١ /٣٥) ، وكذلك فقولوا إن له قوة ل قوله تعالى: (أولم يروا أن الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) من الآية (١٥ /٤١) . فإن قالوا: قلنا: إن اللّه عالم؛ لأنه صنع العالم على ما فيه من آثار الحكمة واتساق التدبير . قيل لهم: فلم لا قلتم إن للّه علما بما ظهر في العالم من حكمة وآثار تدبيره ؟ (٢/ ١٤٩) لأن الصنائع الحكمية لا تظهر إلا من ذي علم، كما لا يظهر إلا من عالم، وكذلك لا تظهر إلا من ذي قوة كما لا تظهر إلا من قادر . مسألة:ويقال لهم: إذا نفيتم علم اللّه فلم لا نفيتم أسماءه ؟ فإن قالوا كيف ننفي أسماءه وقد ذكرها في كتابه ؟ قيل لهم: فلا تنفوا العلم والقوة؛ لأنه تعالى ذكر ذلك في كتابه العزيز . مسألة أخرى:ويقال لهم: قد علَّم اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم الشرائع والأحكام، والحلال والحرام، ولا يجوز أن يعلمه ما لا يعلمه، فكذلك لا يجوز (٢/ ١٥٠) أن يعلم اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم مالا علم اللّه به . تعالى اللّه عن قول الجهمية علوا كبيرا . مسألة:ويقال لهم: أليس إذا لعن اللّه الكافرين، فلعنه لهم معنى، ولعن النبي صلى اللّه عليه وسلم لهم معنى ؟ فمن قولهم نعم . فيقال لهم: فما أنكرتم من أن اللّه تعالى إذا علم نبيه صلى اللّه عليه وسلم شيئا فكان للنبي صلى اللّه عليه وسلم علم، وللّه تعالى علم، وإذا كنا متى أثبتناه غضبانا على الكافرين فلا بد من إثبات غضب، وكذلك إذا أثبتناه راضيا عن المؤمنين فلا بد من إثبات رضى، وكذلك إذا أثبتناه حيا سميعا بصيرا فلا بد من إثبات حياة وسمع وبصر . (٢/ ١٥١) مسألة:ويقال لهم: وجدنا اسم عالم اشتق من علم، واسم قادر اشتق من قدرة، وكذلك اسم حي اشتق من حياة، واسم سميع اشتق من سمع، واسم بصير اشتق من بصر، ولا تخلو أسماء اللّه عز وجل من أن تكون مشتقة إما لإفادة معنى، أو على طريق التلقيب، فلا يجوز أن يسمى اللّه تعالى على طريق التقليب باسم ليس فيه إفادة معنى، وليس مشتقا من صفة . فإذا قلنا: إن اللّه تعالى عالم قادر فليس تلقيبا، كقولنا زيد وعمر، وعلى هذا إجماع المسلمين . (٢/ ١٥٢) وإذا لم يكن كذلك تلقيبا، كان مشتقا من علم، فقد وجب إثبات العلم، وإن كان ذلك لإفادة معنى، فلا يختلف ما هو لإفادة معنى واجب إذا كان معنى العالم منا أن له علما أن يكون كل عالم فهو ذو علم، كما إذا كان قولي موجود مفيدا فينا الإثبات كان الباري تعالى واجبا إثباته؛ لأنه سبحانه وتعالى موجود . مسألة:ويقال للمعتزلة والجهمية والحرورية: أتقولون إن للّه علما (٢/ ١٥٣) بالأشياء سابقا فيها، وبوضع كل حامل، وحمل كل أنثى، وبإنزال كل ما أنزله ؟ فإن قالوا: نعم، أثبتوا العلم ووافقوا . وإن قالوا: لا، قيل لهم: جحد منكم؛ ل قوله تعالى: (أنزله بعلمه) من الآية (١٦٦ /٤) ، ولقوله: (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) من آية (١١ /٣٥) ، ول قوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم اللّه) من الآية (١٤ /١١) . وإذا كان قول اللّه تعالى: (بكل شيء عليم) من الآية (١٢ /٤٢) ، (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) من الآية (٥٩ /٦) (٢/ ١٥٤) يوجب أنه عليم بعلم الأشياء، فكذلك فما أنكرتم أن تكون هذه الآيات نوجب أن للّه علما بالأشياء سبحانه وبحمده . مسألة:ويقال لهم: هل للّه عز وجل علم بالتفرقة بين أوليائه وأعدائه ؟ وهل هو مريد لذلك ؟ وهل له إرادة للإيمان إذا أراد الإيمان ؟ فإن قالوا: نعم، وافقوا . وإن قالوا: إذا أراد الإيمان فله إرادة . قيل لهم: وكذلك إذا فرق بين أوليائه وأعدائه، فلا بد من أن يكون له علم بذلك، وكيف يجوز أن يكون للخلق علم بذلك، وليس للخالق عز وجل علم (٢/ ١٥٥) بذلك ؟ ! وهذا يوجب أن للخلق مزية في العلم وفضلا على الخلاق . تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا . قيل لهم: إذا كان من له علم من الخلق أولى بالمنزلة الرفيعة ممن لا علم له، فإذا زعمتم أن اللّه تعالى لا علم له لزمكم أن الخلق أعلى مرتبة من الخالق . تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا . مسألة:ويقال لهم: إذا كان من لا علم له من الخلق يلحقه الجهل والنقصان، فما أنكرتم من أنه لا بد من إثبات علم اللّه ؟ وإلا ألحقتم به النقصان - جل عن قولكم وعلا - ألا ترون أن من لا يعلم من الخلق يلحقه الجهل والنقصان، (٢/ ١٥٦) ومن قال ذلك في اللّه عز وجل وصف اللّه تعالى بما لا يليق به، فكذلك إذا كان من قيل له من الخلق لا علم له لحقه الجهل والنقصان، وجب أن لا يُنفى ذلك عن اللّه تعالى؛ لأنه لا يلحقه جهل ولا نقصان . مسألة:ويقال لهم: هل يجوز أن تنسق الصنائع الحكمية ممن ليس بعالم ؟ فإن قالوا: ذلك محال، ولا يجوز في وجود الصنائع التي تجري على ترتيب ونظام إلا من عالم قادر حي . قيل لهم: وكذلك لا يجوز وجود الصنائع الحكمية التي تجري على ترتيب ونظام إلا من ذي علم وقدرة وحياة . فإن جاز ظهورها لا من ذي علم فما أنكرتم من جواز ظهورها لا من عالم قادر حي . (٢/ ١٥٧) وكل مسألة سألناهم عنها في العلم فهي داخلة عليهم في القدرة والحياة والسمع والبصر . مسألة:وزعمت المعتزلة أن قول اللّه تعالى: (سميع بصير) من الآية (٢٨ /٣١) إن معناه عليم . قيل لهم: فإذا قال اللّه تعالى: (إنني معكما أسمع وأرى) من الآية (٤٦ /٢٠) ، وقال: (قد سمع اللّه قول التي تجادلك في زوجها) من الآية (١٠ /٥٨) فمعنى ذلك عندكم علم . فإن قالوا: نعم . قيل لهم: فقد وجب عليكم أن تقولوا معنى قوله: (إنني معكما أسمع وأرى) من الآية (٤٦ /٢٠) أعلم وأعلم إذا كان معنى ذلك العلم . (٢/ ١٥٨) فصلونفت المعتزلة صفات رب العالمين، وزعمت أن معنى (سميع بصير) من الآية (٢٨ /٣١) راء بمعنى عليم، كما زعمت النصارى أن سمع اللّه هو بصره، وهو رؤيته، وهو كلامه، وهو علمه، وهو ابنه . تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا . فيقال للمعتزلة: إذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى عالم، فهلا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم . وإذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى قادر، فهلا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم . وإذا زعمتم أن معنى حي معنى قادر، فلم لا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم . (٢/ ١٦٠) فإن قالوا: هذا يوجب أن يكون كل معلوم مقدورا . قيل لهم: ولو كان معنى سميع بصير معنى عالم لكان كل معلوم مسموعا، و إذا لم يجز ذلك بطل قولكم . (٢/ ١٦١) |