Geri

   

 

 

İleri

 

الإبانة عن أصول الديانة

لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل

بن عبد اللّه بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى

الأشعري المتوفى سنة ٣٢٤ هـ ٩٣٥ م 

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الباب الأول الكلام في إثبات رؤية اللّه سبحانه بالأبصار في الآخرة

قال اللّه تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة) (٢٢ /٧٥) يعني مشرقة، (إلى ربها ناظرة) (٢٣ /٧٥) يعني رائية، وليس يخلو النظر من وجوه نحن ذاكروها:

إما أن يكون اللّه سبحانه عنى نظر الاعتبار، ك

قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) (١٧ /٨٨) .

أو يكون عنى نظر الانتظار، ك

قوله تعالى: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) من الآية (٤٩ /٣٦)

أو يكون عنى نظر التعطف، كقوله تعالى (٢/ ٣٦) : (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) من الآية (٧٧ /٣) .

أو يكون عنى نظر الرؤية .

فلا يجوز أن يكون اللّه عز وجل عنى نظر التفكير والاعتبار؛ لأن الآخرة ليست بدار اعتبار .

ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار؛ لأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه، كما إذا ذكر أهل اللسان نظر القلب فقالوا: " انظر في هذا الأمر بقلبك "، لم يكن معناه نظر العينين، وكذلك إذا ذكر النظر مع الوجه لم يكن معناه نظر الانتظار؛ الذي يكون للقلب، وأيضا فإن نظر الانتظار لا يكون في الجنة؛ لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير، وأهل الجنة في ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من العيش السليم والنعيم المقيم .

وإذا كان هذا هكذا لم يجز أن يكونوا منتظرين؛ لأنهم كلما خطر ببالهم شيء أتوا به مع خطوره ببالهم، (٢/ ٣٧)

وإذا كان ذلك كذلك فلا يجوز أن يكون اللّه عز وجل أراد نظر التعطف؛ لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم .

وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع من أقسام النظر، وهو أن معنى قوله: (إلى ربها ناظرة) أنها رائية ترى ربها عز وجل .

ومما يبطل قول المعتزلة: أن اللّه عز وجل أراد بقوله: (إلى ربها ناظرة) نظر الانتظار، أنه

قال: (إلى ربها ناظرة) ونظر الانتظار لا يكون مقرونا بقوله: (إلى) ؛ لأنه لا يجوز عند العرب أن يقولوا في نظر الانتظار " إلى "، ألا ترى أن اللّه تعالى لما

قال: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) من الآية (٤٩ /٣٦) لم يقل " إلى "؛ إذ كان معناه الانتظار .

وقال عز وجل مخبرا عن بلقيس: (٢/ ٣٨) (فناظرة بم يرجع المرسلون) من الآية (٣٥ /٢٧) ، فلما أرادت الانتظار لم تقل " إلى " .

وقال امرؤ القيس:

فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب

فلما أراد الانتظار لم يقل " إلى "، فلما قال سبحانه (٢/ ٣٩) : (إلى ربها ناظرة) (٢٣ /٧٥) علمنا أنه لم يرد الانتظار، وإنما أراد نظر الرؤية .

ولما قرن اللّه عز وجل النظر بذكر الوجه؛ أراد نظر العينين اللتين في الوجه، كما

قال: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) (١٤٤ /٢) ، فذكر الوجه، وإنما أراد تقلب عينيه نحو السماء ينظر نزول الملك عليه، يصرف اللّه تعالى له عن قبلة بيت المقدس إلى القبلة .

فإن قيل: لم قلتم: إن

قوله تعالى: (إلى ربها ناظرة) إنما أراد إلى ثواب ربها ناظرة ؟ (٢/ ٤٠)

قيل له: ثواب اللّه غيره، واللّه سبحانه وتعالى

قال: (إلى ربها ناظرة) (٢٣ /٧٥) ولم يقل: إلى غيره ناظرة .

والقرآن العزيز على ظاهره، وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة، وإلا فهو على ظاهره .

ألا ترى أن اللّه عز وجل لما

قال: صلوا لي واعبدوني، لم يجز أن يقول قائل: إنه أراد غيره، ويزيل الكلام عن ظاهره؛ فلذلك لما

قال: (إلى ربها ناظرة) لم يجز لنا أن نزيل القرآن عن ظاهره بغير حجة .

ثم يقال للمعتزلة: إن جاز لكم أن تزعموا أن قول اللّه تعالى: (إلى ربها ناظرة) إنما أراد به أنها إلى غيره ناظرة، فلم لا جاز لغيركم أن يقول: إن قول اللّه سبحانه وتعالى (٢/ ٤١) : (لا تدركه الأبصار) (١٠٣ /٦) أراد بها لا تدرك غيره، ولم يرد أنها لا تدركه ؟ وهذا مما لا يقدرون على الفرق فيه .

ودليل آخر:

ومما يدل على أن اللّه تعالى يرى بالأبصار قول موسى صلى اللّه عليه وسلم: (رب أرني أنظر إليك) من الآية (١٤٣ /٧) ولا يجوز أن يكون موسى صلوات اللّه عليه وسلامه - وقد ألبسه اللّه جلباب النبيين، وعصمه بما عصم به المرسلين - قد سأل ربه ما يستحيل عليه، فإذا لم يجز ذلك على موسى صلى اللّه عليه وسلم علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلا، وأن الرؤية جائزة على ربنا تعالى .

ولو كانت الرؤية مستحيلة على ربنا تعالى كما زعمت المعتزلة، ولم يعلم ذلك موسى صلى اللّه عليه وسلم وعلموه هم لكانوا على (٢/ ٤٢) قولهم أعلم باللّه من موسى صلى اللّه عليه وسلم، وهذا مما لا يدعيه مسلم .

فإن قال قائل: ألستم تعلمون حكم اللّه في الظهار اليوم، ولم يكن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعلم ذلك قبل أن ينزل ؟

قيل له: لم يكن يعلم نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك قبل أن يلزم اللّه العباد حكم الظهار، فلما ألزمهم الحكم به أعلم نبيه صلى اللّه عليه وسلم قبلهم، ثم أعلم نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم عباد اللّه ذلك، ولم يأت عليه وقت لزمه حكمه فلم يعلم صلى اللّه عليه وسلم، وأنتم زعمتم أن موسى صلى اللّه عليه وسلم وقت لزمه علمه وعلمتموه أنتم الآن لزمكم بجهلكم (٢/ ٤٣) أنكم بما لزمكم العلم به الآن أعلم من موسى صلى اللّه عليه وسلم بما لزمه العلم به، وهذا خروج عن دين المسلمين .

ودليل آخر:

مما يدل على جواز رؤية اللّه تعالى بالأبصار قوله تعالى لموسى صلى اللّه عليه وسلم: (فإن استقر مكانه فسوف تراني) من الآية (١٤٣ /٧)

فلما كان اللّه تعالى قادرا على أن يجعل الجبل مستقرا؛ كان قادرا على الأمر الذي لو فعله لرآه موسى صلى اللّه عليه وسلم، فدل ذلك على أن اللّه تعالى قادر أن يُري عباده نفسه، وأنه جائز رؤيته .

فإن قال قائل: فلِم لا قلتم إن قول اللّه تعالى: (فإن استقر مكانه فسوف تراني) من الآية (١٤٣ /٧) تبعيد للرؤية ؟ (٢/ ٤٤)

قيل له: لو أراد اللّه عز وجل تبعيد الرؤية لقرن الكلام بما يستحيل وقوعه، ولم يقرنه بما يجوز وقوعه، فلما قرنه باستقرار الجبل وذلك أمر مقدور للّه سبحانه وتعالى دل ذلك على أنه جائز أن يرى اللّه تعالى .

ألا ترى أن الخنساء لما أرادت تبعيد صلحها لمن كان حربا لأخيها قرنت الكلام بأمر مستحيل فقالت: (٢/ ٤٥)

ولا أصالح قوما كنت حربهم حتى تعود بياضا حلكة القارى

واللّه تعالى إنما خاطب العرب بلغتها، وما نجده مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها .

فلما قرن الرؤية بأمر مقدور جائز علمنا أن رؤية اللّه بالأبصار جائزة غير مستحيلة .

دليل آخر:

قال اللّه عز وجل: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) (١٦ /١٠) ، قال أهل التأويل: النظر إلى اللّه عز وجل، ولم يُنعم اللّه تعالى على أهل الجنة بأفضل من نظرهم إليه ورؤيتهم له .

وقال تعالى: (ولدينا مزيد) من الآية (٣٥ /٥٠) قيل: النظر إلى اللّه عز وجل .

وقال تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) من الآية (٤٤ /٣٣) ، (٢/ ٤٦) وإذا لقيه المؤمنون رأوه .

وقال تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) (١٥ /٨٣) فحجبهم عن رؤيته، ولا يحجب عنها المؤمنين . (٢/ ٤٧)

فصل

فإن قال قائل: فما معنى

قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) من الآية (١٠٣ /٦) ؟

قيل له: يحتمل أن يكون لا تدركه في الدنيا، وتدركه في الآخرة؛ لأن رؤية اللّه تعالى أفضل اللذات، وأفضل اللذات تكون في أفضل الدارين .

ويحتمل أن يكون اللّه تعالى أراد بقوله: (لا تدركه الأبصار) من الآية (١٠٣ /٦) يعني: لا تدركه أبصار الكافرين المكذبين، وذلك أن كتاب اللّه يصدق بعضه بعضا، فلما قال في آية: إن الوجوه تنظر إليه يوم القيامة، وقال في آية أخرى: إن الأبصار لا تدركه، علمنا أنه إنما أراد أبصار الكافرين لا تدركه . (٢/ ٤٨)

مسألة والجواب عنها:

فإن قال قائل: قد استكبر اللّه تعالى سؤال السائلين له أن يُرى بالأبصار، ف

قال: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا: أرنا اللّه جهرة) من الآية (١٥٣ /٤)

فيقال لهم: إن بني إسرائيل سألوا رؤية اللّه عز وجل على طريق الإنكار لنبوة موسى صلى اللّه عليه وسلم، وترك الإيمان به حتى يروا اللّه؛ لأنهم قالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة) فلما سألوه الرؤية على طريق ترك الإيمان بموسى صلى اللّه عليه وسلم حتى يريهم اللّه نفسه؛ استعظم اللّه سؤالهم من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليهم، كما استعظم سؤال أهل الكتاب أن ينزل عليهم كتابا من السماء من غير أن يكون ذلك مستحيلا، ولكن لأنهم أبوا أن يؤمنوا بنبي اللّه حتى ينزل عليهم من السماء كتابا .

دليل آخر (٢/ ٤٩) :

ومما يدل على إثبات رؤية اللّه تعالى بالأبصار رواية الجماعات من الجهات المختلفة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه

قال: (ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضارون في رؤيته) والرؤية إذا أطلقت إطلاقا ومثلت برؤية العيان لم يكن معناها إلا رؤية العيان، ورويت الرواية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من طرق مختلفة عديدة، عدة رواتها أكثر من عدة خبر الرجم، ومن عدة من روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم

قال: (لا وصية لوارث) ، ومن عدة رواة المسح على الخفين، ومن عدة رواة قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها) ، وإذا كان الرجم وما ذكرناه سننا عند المعتزلة كانت الرؤية (٢/ ٥٠) أولى أن تكون سنة؛ لكثرة رواتها ونقلتها، كذا يرويها خلف عن سلف .

والحديث (أنَّى أراه) لا حجة فيه؛ لأنه عندما سأل سائل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن رؤية اللّه عز وجل في الدنيا، وقال له: هل رأيت ربك ؟

فقال: (نورٌ أنى أراه) ؟ لأن العين لا تدرك في الدنيا الأنوار المخلوقة على حقائقها؛ لأن الإنسان لو حدق ينظر إلى عين الشمس فأدام النظر إلى عينها لذهب أكثر نور بصره، فإذا كان اللّه سبحانه حكم في الدنيا بأن لا تقوم العين بالنظر إلى عين الشمس فأحرى أن لا يثبت البصر للنظر إلى اللّه تعالى في الدنيا، إلا أن يقويه اللّه تعالى، فرؤية اللّه تعالى في الدنيا قد اختلف فيها . (٢/ ٥١)

وقد روي عن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن اللّه عز وجل تراه العيون في الآخرة، وما روى عن أحد منهم أن اللّه تعالى لا تراه العيون في الآخرة، فلما كانوا على هذا مجتمعين، وبه قائلين، وإن كانوا في رؤيته تعالى في الدنيا مختلفين، ثبتت في الآخرة إجماعا، وإن كانت في الدنيا مختلفا فيها .

ونحن إنما قصدنا إلى إثبات رؤية اللّه تعالى في الآخرة، على أن هذه الرواية على المعتزلة لا لهم؛ لأنهم ينكرون أن اللّه نور في الحقيقة .

فإذا احتجوا بخبر هم له تاركون وعنه منحرفون، كانوا محجوجين .

دليل آخر:

ومما يدل على رؤية اللّه تعالى بالأبصار؛ أنه ليس موجود إلا وجائز أن بريناه اللّه عز وجل، وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما (٢/ ٥٣) كان اللّه عز وجل موجودا مثبتا، كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل، وإنما أراد من نفى رؤية اللّه عز وجل بالأبصار التعطيل، فلما لم يمكنهم أن يظهروا التعطيل صراحا أظهروا ما يؤول بهم إلى التعطيل والجحود، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا .

دليل آخر:

ومما يدل على رؤية اللّه سبحانه بالأبصار أن اللّه تعالى يرى الأشياء، وإذا كان للأشياء رائيا فلا يرى الأشياء من لا يرى نفسه، وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه، وذلك أن من لم يعلم نفسه لا يعلم الأشياء، فلما كان اللّه تعالى عالما بالأشياء كان عالما بنفسه، فكذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء، ولما كان اللّه عز وجل رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه، وإذا كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه، كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها، وقد قال تعالى: (إنني معكما أسمع وأرى) من الآية (٤٦ /٢٠) ، فأخبر أنه يسمع كلا منهما ويراهما، ومن زعم أن اللّه عز وجل لا يجوز أن يُرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون اللّه عز وجل رائيا ولا عالما ولا قادرا؛ لأن العالم والقادر الرائي جائز أن يُرى .

مسألة:

فإن قال قائل: قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: (ترون ربكم) يعني تعلمون ربكم اضطرارا .

قيل له: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه هذا على سبيل البشارة، ف

قال: (فكيف بكم إذا رأيتم اللّه سبحانه) ، ولا يجوز أن يبشرهم بأمر يشركهم فيه مع الكفار، على أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال (٢/ ٥٤) : (ترون ربكم) وليس يعني رؤية دون رؤية، بل ذلك عام في رؤية العين ورؤية القلب .

دليل آخر:

إن المسلمين اتفقوا على أن الجنة فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من العيش السليم، والنعيم المقيم، وليس نعيم في الجنة أفضل من رؤية اللّه تعالى بالأبصار .

وأكثر مَن عَبَدَ اللّه تعالى عَبَدَه للنظر إلى وجهه الكريم - أرانا اللّه إياه بفضله - فإذا لم يكن بعد رؤية اللّه عز وجل أفضل من رؤية نبيه صلى اللّه عليه وسلم، وكانت رؤية نبي اللّه أفضل لذات الجنة كانت رؤية اللّه عز وجل أفضل من رؤية نبيه صلى اللّه عليه وسلم .

وإذا كان ذلك كذلك لم يحرم اللّه أنبياءه المرسلين، وملائكته (٢/ ٥٥) المقربين، وجماعة المؤمنين، والصديقين النظر إلى وجهه الكريم، وذلك أن الرؤية لا تؤثر في المرئي؛ لأن رؤية الرائي تقوم به، فإذا كان هذا هكذا، وكانت الرؤية غير مؤثرة في المرئي لم توجب تشبيها ولا انقلابا عن حقيقة، ولم يستحل على اللّه عز وجل أن يَري عباده المؤمنين نفسه في جنانه .

مسألة في الرؤية:

احتجت المعتزلة في أن اللّه عز وجل لا يُرى بالأبصار ب

قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) من الآية (١٠٣ /٦) ، قالوا: فلما عطف اللّه عز وجل بقوله: (وهو يدرك الأبصار) على قوله (لا تدركه الأبصار) ، وكان قوله: (وهو يدرك الأبصار) على العموم أنه يدركها في الدنيا والآخرة، وأنه يراها في الدنيا والآخرة، كان قوله (٢/ ٥٦) : (لا تدركه الأبصار) دليلا على أنه لا تراه الأبصار في الدنيا والآخرة، وكان في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر .

قيل لهم: فيجب إذا كان عموم القولين واحدا، وكانت الأبصار أبصار العيون وأبصار القلوب؛ لأن اللّه تعالى

قال: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (٤٦ /٢٢) ،

وقال: (أولي الأيدي والأبصار) (٤٥ /٣٨) أي فهي بالأبصار، فأراد أبصار القلوب وهي التي يفضل بها المؤمنون الكافرين، ويقول أهل اللغة: فلان بصير بصناعته، يريدون بصر العلم، ويقولون: قد أبصرته بقلبي، كما يقولون قد أبصرته بعيني، فإذا كان البصر بصر العين (٢/ ٥٧) وبصر القلب ثم أوجبوا علينا أن يكون

قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر، وجب عليهم بحجتهم أن اللّه تعالى لا يُدرك بأبصار العيون ولا بأبصار القلوب؛ لأن قوله: (لا تدركه الأبصار) في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) وإذا لم يكن عندهم هكذا فقد وجب أن يكون

قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) أخص من قوله: (وهو يدرك الأبصار) وانتقض احتجاجهم .

وقيل لهم: إنكم زعمتم أنه لو كان قوله: (لا تدركه الأبصار) خاصا في وقت دون وقت لكان قوله: (وهو يدرك الأبصار) خاصا في وقت دون وقت (٢/ ٥٨) ، وكان قوله: (ليس كمثله شيء) من الآية (١١ /٤٢) ، وقوله: (لا تأخذه سِنَة ولا نوم) من الآية (٢٥٥ /٢) ، وقوله: (لا يظلم الناس شيئا) من الآية (٤٤ /١٠) في وقت دون وقت، فإن جعلتم

قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) من الآية (١٠٣ /٦) خاصا رجع احتجاجكم عليكم، وقيل لكم: إذا كان قوله: (لا تدركه الأبصار) خاصا ولم يجب خصوص هذه الآيات فلم أنكرتم أن يكون قوله عز وجل: (لا تدركه الأبصار) إنما أراد في الدنيا دون الآخرة ؟ وكما أن قوله: (لا تدركه الأبصار) أراد بعض الأبصار دون بعض، ولا يوجب ذلك تخصيص هذه الآيات التي عارضتمونا بها . (٢/ ٥٩)

فإن قالوا:

قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) يوجب أن لا يدرك بها في الدنيا والآخرة، وليس ينفي ذلك أن نراه بقلوبنا، ونبصره بها، ولا ندركه بها .

قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون لا تدركه بإبصار العيون لا يوجب إذا لم ندركه بها أن لا نراه، فرؤيتنا له بالعيون وإبصارنا له بها ليس بإدراك له بها، كما أن إبصارنا له بالقلوب ورؤيتنا له بها ليس بإدراك له بها .

فإن قالوا: رؤية البصر هي إدراك البصر .

قيل لهم: ما الفرق بينكم وبين من

قال: إن رؤية القلب وإبصاره هو إدراكه وإحاطته، فإذا كان علم القلب باللّه عز وجل وإبصار القلب له رؤيته إياه ليس بإحاطة ولا إدراك فما أنكرتم أن يكون رؤية العيون وإبصارها للّه عز وجل ليس بإحاطة ولا إدراك .

مسألة:

ويقال لهم: إذا كان قول اللّه سبحانه: (لا تدركه الأبصار) في العموم (٢/ ٦٠) كقوله: (وهو يدرك الأبصار) ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر، فخبرونا أليس الأبصار والعيون لا تدركه رؤية ولا لمسا ولا ذوقا ولا على وجه من الوجوه ؟

فمن قولهم: نعم، فيقال لهم: أخبرونا عن

قوله تعالى: (وهو يدرك الأبصار)

أتزعمون أنه يدركها لمسا وذوقا بأن يلمسها ؟ فمن قولهم: لا .

فيقال لهم: فقد انتقض قولكم: إن قوله: (وهو يدرك الأبصار) في العموم كقوله: (لا تدركه الأبصار) .

مسألة:

إذا قال قائل منهم: إن البصر في الحقيقة هو بصر العين لا بصر القلب .قيل له: (٢/ ٦١) ولِم زعمت هذا وقد سمى أهل اللغة بصر القلب بصرا، كما سموا بصر العين بصرا، وإن جاز لك ما قلته جاز لغيركم أن يزعم أن البصر في الحقيقة هو بصر القلب دون العين، وإذا لم نجز هذا فقد وجب أن البصر بصر العين وبصر القلب .

مسألة:

ويقال لهم: حدثونا عن قول اللّه عز وجل: (وهو يدرك الأبصار) ما معناه ؟

فإن قالوا: معنى (يدرك الأبصار) أنه يعلمها .

قيل لهم: وإذا كان أحد الكلامين معطوفا على الآخر، وكان

قوله تعالى: (وهو يدرك الأبصار) معناه يعلمها، فقد وجب أن يكون

قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) لا تعلمه، وهذا نفي للعلم لا لرؤية الأبصار .

فإن قالوا: معنى

قوله تعالى: (وهو يدرك الأبصار) أنه يراها رؤية ليس معناها العلم .

قيل لهم (٢/ ٦٢) : فالأبصار التي في العيون يجوز أن ترى ؟

فإن قالوا: نعم، نقضوا قولهم: إنا لا نرى بالبصر إلا من جنس ما نرى الساعة، فإن جاز أن يرى اللّه وكل ما ليس من جنس المرئيات وهو الإبصار الذي في العين، فلِم لا يجوز أن يرى نفسه وإن لم يكن من جنس المرئيات ؟ ولِم لا يجوز أن يرينا نفسه وإن لم يكن من جنس المرئيات ؟

ويقال لهم: حدثونا إذا رأينا شيئا فبصرنا يراه أو إنما يراه الرائي دون البصر ؟

فمن قولهم: إنه محال أن يرى البصر الذي في العين .

فيقال لهم: الآية تنفي أن تراه الأبصار، ولا تنفي أن يراه المبصرون .

وإنما قال اللّه: (لا تدركه الأبصار) فهذا يدل على أن المبصرين لا يرونه على ظاهر الآية الشريفة . (٢/ ٦٣)