Geri

   

 

 

İleri

 

٦- إذ كان معلوما أن ألسنتها ولغاتها أكثر من سبعة

قال أبو جعفر: صحّ وثبت، أن الذي نزل به القرآن من ألسن العرب، البعض منها دون الجميع، إذ كان معلوما أن ألسنتها ولغاتها أكثر من سبعة، بما يعجز عن إحصائه. فان قال: وما برهانك على أن معنى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم

(نزل القرآن على سبعة أحرف) وقوله:

(أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف) هو ما ادعيته، من أنه نزل بسبع لغات، وأمر بقراءته على سبعة ألسن، دون أن يكون معناه، ما قاله مخالفوك، من أنه نزل بأمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وقصص، ومثل، ونحو ذلك، من الأقوال فقد علمتَ قائلي ذلك، من سلف الأمة، وخيار الأئمة ؟؟ قيل له: إن الذين قالوا ذلك، لم يدّعوا أن تأويل الأخبار التي تقدم ذكرنا لها، هو ما زعمت أنهم قالوه في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن دون غيره، فيكون ذلك لقولنا مخالفاً، وإنما أخبروا أن القرآن نزل على سبعة أحرف، يعنون بذلك أنه نزل على سبعة أوجه، والذي قالوه من ذلك كما قالوا، وقد روينا بمثل الذي قالوا من ذلك، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وعن جماعة من أصحابه، أخبارا قد تقدم ذكرنا بعضها، وسنستقصي ذكر باقيها ببيانه، إذا انتهينا إليه إن شاء اللّه.

فأما الذي (قد) تقدم (و) ذكرناه من ذلك، فخبر أبىّبن كعب، من رواية أبي كريب، عن ابن فضيل، عن اسمعيل بن خالد، الذي ذكر فيه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال:

(أُمِرْتُ أنْ أقْرأ القُرآنَ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ، مِنْ سَبْعَةِ أبْوَابِ الجَنَّةِ).

والسبعة الأحرف، هو ما قلنا من أنه الألسن السبعة، والأبواب السبعة من الجنة، هي المعاني التي فيها من الأمر، والنهي، والترغيب، والترهيب، والقصص، والمثل، التي إذا عمل بها العامل وانتهى إلى حدودها المنتهى، استوجب به الجنة.

وليس - والحمد للّه - في قول من قال ذلك من المتقدمين، خلاف لشئ مما قلناه، والدلالة على صحة ما قلناه، من أن معنى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم،

(نزل القرآن على سبعة أحرف) إنما هو أنه نزل بسبع لغات، كما تقدم ذكرنا من الروايات الثابتة عن عمر بن الخطاب، وعبد اللّه بن مسعود، وأبىّبن كعب، وسائر من قد قدمنا الرواية عنه، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، في أول هذا الباب، أنهم تماروا في القرآن، فخالف بعضهم بعضا في التلاوة، دون مافي ذلك من المعاني، وأنهم احتكموا فيه الى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فاستقرأ كل رجل منهم، ثم صوّب جميعهم في قراءتهم على اختلافها، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم، للذي ارتاب منهم، عند تصويبه جميعهم:

(إنّ اللّه أمَرَني أنْ أقْرأ القُرآنَ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ).

ومعلم أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك، لو كان تماريا واختلافا فيما دلت عليه تلاواتهم، من التحليل، والتحريم، والوعد، والوعيد، وما أشبه ذلك، لكان مستحيلا أن يصوّب جميعهم، صلى اللّه عليه وسلم، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك، على النحو الذي هو عليه، لأن ذلك لو جاز أن يكون صحيحاً، وجب أن يكون اللّه - جل ثناؤه - قد أمر بفعل شئ بعينه، وفرضه في تلاوة من دلت تلاوته على فرضه، ونهى عن فعل ذلك الشئ بعينه وزجر عنه، في تلاوة الذي دلت تلاوته على الني والزجر عنه، وأباح وأطلق فِعْلَ ذلك الشئ بعينه، وجعل لمن شاء من عباده أن يفعله فَعَلَه، ولمن شاء منهم أن يتركه تركه، في تلاوة من دلت تلاوته عن التخير.

وذلك من قائله - إن قاله - إثبات ماقد نفى اللّه - جل ثناؤه - عن تنزيله وحكم كتابه، فقال:

{أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} وفي نفي اللّه - جل ثناؤه - ذلك عن حكم كتابه، أوضح الدليل على أنه لم ينزل كتابه على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم، إلا بحكم واحد، متفق في جميع خلقه، لا بأحكام فيهم مختلفة.

وفي صحة كون ذلك كذلك، ما يبطل دعوى من ادعى خلاف قولنا، في تأويل قول النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(أُنْزِلَ القُرآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) للذين تخاصموا إليه، عند اختلافهم في قراءتهم، لأنه صلى اللّه عليه وسلم، قد أمر جميعهم بالثبوت على قراءته، ورضى قراءة كل قارئ منهم، على خلافها قراءة خصومه ومنازعيه فيها وصوّبها.

ولو كان ذلك منه تصويبا فيما اختلفت فيه المعاني، وكان قوله صلى اللّه عليه وسلم: أنزل علىّ القرآن على سبعة أحرف، إعلاما منه لهم أنه نزل بسبعة أوجه مختلفة، وسبعة معان مفترقة، كان ذلك إثباتا لما قد نفى اللّه عن كتابه من الاختلاف، ونفيا لما قد أوجب له من الائتلاف.

مع أن في قيام الحجة بأن النبي صلى اللّه عليه وسلم، لم يقض فى شئ واحد، في وقت واحد، بحكمين مختلفين، ولا أذن بذلك لأمته، ما يغني عن الإكثار في الدلالة على أن ذلك منفىّ عن كتاب اللّه، وفي انتفاء ذلك عن كتاب اللّه، وجوب صحة القول الذي قلناه، في معنى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم،

(أنزل القرآن على سبعة أحرف) عند اختصام المختصمين إليه، فيما اختلفوا فيه من تلاوة ما تلوه من القرآن، وفساد تأويل قول من خالف قولنا في ذلك، وأحرى أن الذين تماروا فيما تماروا فيه من قراءتهم، فاحتكموا الى النبي صلى اللّه عليه وسلم، لم يكن منكرا عند أحد منهم، أن يأمر اللّه عباده -جل ثناؤه - في كتابه وتنزيله، بما شاء، وينهى عما شاء، ويعد فيما أحبّ من طاعاته، ويوعد على معاصيه، ويحتجّ لنبيه، ويعظه فيه، ويضرب فيه لعباده الأمثال، فيخاصم غيره على إنكاره سماع ذلك من قارئه. بل على الإقرار بذلك كله كان إسلام من أسلم منهم، فما الوجه الذي أوجب له إنكاره ما أنكر، إن لم يكن كان ذلك اختلافا منهم في الألفاظ واللغات ؟

وبعد، فقد أبان صحة ما قلنا، الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نصا، وذلك الخبر الذي ذكرنا: أن أبا كريب حدثنا، قال حدثنا زيد بن الحباب، عن حماد بن سلمة، عن علىّ بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

قال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، قال ميكائيل عليه السلام: استزده فقال: على حرفين. حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف فقال: كلها شاف كاف، مالم يختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب، كقولك هلم وتعال.

فقد أوضح نص هذا الخبر، أن اختلاف الأحرف السبعة، إنما هو اختلاف ألفاظ، كقولك هلم وتعال، باتفاق المعاني، لا باختلاف معان موجبة اختلاف أحكام. وبمثل الذي قلنا في ذلك، صحت الأخبار عن جماعة من السلف والخلف.

حدثني أبو السائب سالم بن جنادة السوائى، قال حدثنا أبو معاوية، وحدثنا محمد بن المثنى، قال حدثنا ابن أبى عدىّ، عن شعبة، جميعا عن الأعمش، عن شقيق، قال، قال عبد اللّه: اني قد سمعت القرّاء، فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم واياكم والتنطع، فإنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال.

وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال حدثنا شعبة، عن أبي اسحق، عمن سمع ابن مسعود، يقول: من قرأ منكم على حرف، فلا يتحولنّ، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب اللّه لأتيته.

وحدثنا ابن المثنى، قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن عابس، عن رجل من أصحاب عبد اللّه، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: من قرأ القرآن على حرف، فلا يتحولن منه الى غيره.

فمعلوم أن عبد اللّه، لم يعن بقوله هذا: من قرأ مافي القرآن من الأمر والنهي، فلا يتحولن منه إلى قراءة مافيه من الوعد والوعيد، ومن قرأ مافيه من الوعد والوعيد، فلا يتحولن منه إلى قراءة مافيه من القصص والمثل، وإنما عني رحمة اللّه عليه، أن من قرأ بحرفه، وحرفه: قراءته.

وكذلك تقول العرب لقراءة رجل: حرف فلان، وتقول للحرف من حروف الهجاء المقطعة: حرف، كما تقول لقصيدة من قصائد الشاعر: كلمة فلان. فلا يتحولن عنه إلى غيره، رغبة عنه.

ومن قرأ بحرف أبىّ، أو بحرف زيد، أو بحرف بعض مَنْ قرأ من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ببعض الأحرف السبعة، فلا يتحولنّ عنه إلى غيره، رغبة عنه، فان الكفر ببعضه كفر بجميعه، والكفر بحرف من ذلك كفر بجميعه، يعني بالحرف ما وصفنا من قراءة بعض من قرأ ببعض الأحرف السبعة.

وقد حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، قال: قرأ أنس هذه الآية:

{إنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هي أشَدُّ وَطأً وأصْوَبُ قِيلاً} فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة! إنما هي وأقْوَمُ.

فقال: أقوم وأصوب وأهدى، واحد. وحدثني محمد بن الرازي، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد، أنه كان يقرأ القرآن على خمسة أحرف.

وحدثنا ابن حميد، قال حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم: أن سعيد بن جبير، كان يقرأ القرآن على حرفين.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: كان يزيد بن الوليد، يقرأ القرآن على ثلاثة أحرف(٨).

أفترى الزاعم أن تأويل قول النبي صلى اللّه عليه وسلم

(أنزل القرآن على سبعة أحرف) إنما هو أنه نزل على الأوجه السبة التي ذكرنا، من الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والجدل، والقصص، والمثل، كان يرى أن مجاهدا وسعيد بن جبير، لم يقرءا من القرآن، إلا ماكان من وجهيه، أو وجوهه الخمسة، دون سائر معانيه ؟ لئن كان ظنّ ذلك بهما لقد ظنّ بهما غير الذي يُعْرَفان به، من منازلهما من القرآن، ومعرفتهما بآى الفرقان.

وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن محمد، قال: نبئت أن جبرائيل وميكائيل، أتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال له جبرائيل: اقرأ القرآن على حرفين. فقال له ميكائيل: استزده فقال: اقرأ القرآن على ثلاثة أحرف. فقال له ميكائيل: استزده. قال: حتى بلغ سبعة أحرف. قال محمد: لا تختلف في حلال، ولا حرام، ولا أمر، ولا نهى، هو كقولك: تعال، وهلم، وأقبل. قال: وفي قراءتنا، إن كانت إلا صيحة واحدة، وفي قراءة ابن مسعود، إن كانت إلا زَقْيَة واحدة.

وحدثني يعقوب، قال حدثنا ابن علية، قال حدثنا شعيب، يعني ابن الحبحاب، قال: كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل، لم يقل (ليس كما يقرأ) وإنما يقول: أما أنا فأقرأ كذا وكذا. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: أرى صاحبك قد سمع أنّ من كفر بحرف منه، فقد كفر به كله.

حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب: أن الذي ذكر اللّه تعالى ذكره (إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) إنما افتتن انه كان يكتب الوحي، فكان يملي عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: سميع عليم، أو عزيز حكيم، وغير ذلك من خواتم الآى، ثم يشتغل عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو على الوحي، فيستفهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيقول: أعزيز حكيم، أو سميع عليم، أو عزيز عليم ؟ فيقول له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أىّ ذلك كتبتَ، فهو كذلك. ففتنه ذلك، فقال: إن محمدا وَكَلَ ذلك إلىّ، فأكتب ما شئت. وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب، من الحروف السبعة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد اللّه، قال: من كفر بحرف من القرآن، أو بآية منه، فقد كفر به كله.

قال أبو جعفر: فان قال لنا قائل: فإذا كان تأويل قول النبي صلى اللّه عليه وسلم

(أُنْزِل القُرآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ) عندك ما وصفت بما عليه استشهدت، فأوجدنا حرفا في كتاب اللّه مقروءا بسبع لغات، فنحقق بذلك قولك، وإلا فان لم تجد ذلك كذلك، كان معلوما بعد مكة(٩)، صحة قول من زعم: أن تأويل ذلك أنه نزل بسبعة معان، وهو: الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والجدل، واقصص، وامثل، وفساد قولك.

أو تقول في ذلك: إن الأحرف السبعة لغات في القرآن سبع، متفرقة في جميعه، من لغات أحياء من قبائل العرب مختلفة الألسن، كما كان يقوله بعض من لم يمعن النظر في ذلك، فيصير بذلك إلى القول بما لا يجهل فساده ذو عقل، ولا يلتبس خطؤه على ذي لبٍّ، وذلك أن الأخبار التي بها احتججت لتصحيح مقالتك، في تأويل قوا النبي صلى اللّه عليه وسلم

(نَزلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ) هي الأخبار التي رويتها عن عمر بن الخطاب، وعبد اللّه بن مسعود، وأبىّبن كعب، رحمة اللّه عليهم، وعمن رويت ذلك عنه، من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بأنهم تماروا في تلاوة بعض القرآن، فاختلفوا في قراءته دون تأويله، وأنكر بعضٌ قراءة بعضٍ، مع دعوى كل قارئ منهم قراءةً منها، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أقرأه ما قرأ بالصفة التي قرأ، ثم احتكموا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فكان من حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهم، أن صوّب قراءة كل قارئ منهم، على خلافها قراءة أصحابه الذين نازعوه فيها، وأمر كلَّ امرئ منهم أن يقرأ كما علم، حتى خالط قلبَ بعضهم الشكُّ في الإسلام، لما رأى من تصويب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

قراءة كل قارئ منهم على اختلافها، ثم جلاه اللّه عنه، ببيان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم له، أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فان كانت الأحرف السبعة، التي نزل بها القرآن عندك - كما قال هذا القائل - متفرقة في القرآن، مثبتة اليوم في مصاحف أهل الإسلام فقد بطلت معاني الأخبار التي رويتها عمن رويتها عنه، من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أنهم اختلفوا في قراءة سورة من القرآن، فاختصموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأمر كلا أن يقرأ كما علم، لأن الأحرف السبعة، إذا كانت لغات متفرقة في جميع القرآن، فغير موجب حرف من ذلك اختلافا بين تاليه، لأن كل تالٍ فإنما يتلو ذلك الحرف تلاوة واحدة، على ما هو به في المصحف، وعلى ما أنزل، وإذا كان ذلك كذلك، بطل وجه اختلاف الذين رُوِى عنهم، أنهم اختلفوا في قراءة سورة، وفسد معنى أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم، كل قارئ منهم أن يقرأه على ما علم، إذ كان لا معنى هنالك يوجب اختلافا في لفظ، ولا افتراقا في معنى، وكيف يجوز أن يكون هنالك اختلاف بين القوم، والمعلم واحد، والعلم واحد غير ذي أوجه ؟ وفي صحة الخبر عن الذين روى عنهم الاختلاف في حروف القرآن، على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فانهم اختلفوا وتحاكموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، على ما (قد) تقدم وصفناه، أبين الدلالة على فساد القول، بأن الأحرف السبعة، انما هي أحرف سبعة متفرقة في سور القرآن، لا أنها لغات مختلفة، في كلمة واحدة، باتفاق المعاني، مع أن المتدبر إذا تدبر قول هذا القائل، في تأويله قول النبي صلى اللّه عليه وسلم

(أُنْزِلَ القُرآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ) وادعائه أن معنى ذلك أنها سبع لغات متفرقة في جميع القرآن، ثم جمع بين قيله ذلك، واعتلاله لقيله ذلك بالأخبار التي رويت عمن روى ذلك عنه من الصحابة والتابعين، أنه قال: هو بمنزلة قولك: تعالى، وهلم، وأقبل، وأن بعضهم قال: هو بمنزلة قراءة عبد اللّه: إلا زَقْيَة، وهي في قراءتنا: إلا صَيْحَة، وما أشبه ذلك من حججه، علم أن حججه مفسدة في ذلك مقالته، وأن مقالته فيه مضادة حججه، لأن الذي نزل به القرآن، عنده إحدى القراءتين، إمَّا صيحة واما زقية، وإما تعال، أو أقبل، أو هلم، لاجميع ذلك، لأن كل لغة من اللغات السبع، عنده في كلمة أو حرف من القرآن، غير الكلمة أو الحرف الذي فيه اللغة الأخرى، وإذا كان ذلك كذلك بطل اعتلاله لقوله بقول من قال ذلك بمنزلة: هلم، وتعال، وأقبل، لأن هذه الكلمات هي ألفاظ مختلفة يجمعها قي التأويل معنى واحد، وقد أبطل قائل هذا القول الذي حكينا قوله، اجتماع اللغات السبع في حرف واحد من القرآن، فقد تبين بذلك إفساد(ه) حجته، لقوله بقوله، وإفساد(ه) قوله بحجته، فقيل له ليس القول في ذلك بواحد من الوجهين اللذين وصفت، بل الأحرف السبعة التي أنزل اللّه بها القرآن، هن لغات سبع في حرف واحد وكلمة واحدة، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كقول القائل:هلم، واقبل، وتعال، والىّ، وقصدى، ونحوى، وقربى، ونحوى ذلك مما تختلف فيه الألفاظ، بضروب من المنطق، وتتفق فيه المعاني، وان اختلفت بالبيان به الألسن، كالذي روينا آنفا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعمن روينا ذلك عنه من الصحابة، أن ذلك بمنزلة قولك: هلم، وتعال، واقبل، وقوله: ما ينظرون إلا زقية، وإلا صيحة، فان قال:ففي أىّ كتاب اللّه نجد حرفا واحدا، مقروءا بلغات سبع، مختلفات الألفاظ، متفقات المعنى، فنسلم لك صحة ما ادعيت من التأويل في ذلك؟

قيل: انا لم ندع أن ذلك موجود اليوم، وانما أخبرنا أن معنى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(أُنْزِلَ القُرآنُ على سَبُعَةِ أحْرُفٍ)، على نحو ما جاءت به الأخبار التي تقدم وذكرناها، هو ما وصفنا دون ما ادعاه مخالفونا في ذلك للعلل التي قد بينا.

فان قال: فما بال الأحرف الأخر الستة، غير موجودة، إن كان الأمر في ذلك على ما وصفت، وقد أقرأهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه، وأمر بالقراءة بهن، وأنزلهن اللّه من عنده على نبيه صلى اللّه عليه وسلم، أنسخت فرفعت؟ فما الدلالة على نسخها ورفعها؟ أم نسيتهن الأمة؟ فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه، أم ما القصة في ذلك؟

قيل له: لم تنسخ فترفع، ولا ضيعتها الأمة، وهي مأمورة بحفظها، ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن وخُيِّرت في قراءته وحفظه، بأي تلك الأحرف السبعة شاءت، كما أمرت إذاهي حنثت في يمين، وهي موسرة، أن تكفر بأيّ الكفارات الثلاث شاءت: إما بعتق، أو إطعام أو كسوة، فلو أجمع جميعها على التفكير بواحدة من الكفارات الثلاث، دون حظرها التكفير (فيها) بأىّ الثلاث شاء المكفر، كانت مصيبة (١۰) حكم اللّه، مؤدية في ذلك الواجب عليها من حق اللّه، فكذلك الأمة أمرت بحفظ القرآن وقراءته، وخيرت في قراءته بأىّ الأحرف السبعة شاءت، فرأت لعلة من العلل، أوجبت عليها الثبات على حرف واحد، قراءته بحرف واحد، ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه، بما أذن له في قراءته به.

فان قال: وما العلة التي أوجبت عليها الثبات على حرف واحد، دون سائر الأحرف الستة الباقية ؟

قيل حدثنا أحمد بن عبدة الضبى، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمارة بن غزية (١١)، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه زيد قال: لما قتل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم باليمامة، دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر رحمه اللّه، فقال:

إن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم باليمامة، تهافتوا تهافت الفراش في النار، واني أخشى أن لا يشهدوا موطنا، إلا فعلوا ذلك حتى يُقْتَلوا، وهم حملة القرآن، فيضيع القرآن وينسى، فلو جمعته وكتبته ؟

فنفر منها أبو بكر، وقال: أفعل مالم يفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ فتراجعا في ذلك، ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت، قال زيد: فدخلت عليه، وعمر محزئل (١٢)، فقال أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى أمر، فأبيتُ عليه، وأنت كاتب الوحي، فان تكن معه اتبعتكما، وان توافقني لا أفعل. قال: فاقتص أبو بكر قول عمر، وعمر ساكت. فنفرت من ذلك، وقلت: نفعل (١٣) ما لم يفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لو فعلتما ذلك ؟ قال: فذهبنا ننظر. فقلنا: لاشئ، واللّه ما علينا في ذلك شئ. قال زيد: فأمرني أبو بكر، فكتبته في قطع الأدم، وكسر الأكتاف والعسب.

فلما هلك أبو بكر، وكان عمر كتب ذلك في صحيفة واحدة، فكانت عنده، فلما هلك، كانت الصحيفة عند حفصة، زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم، ثم إن حذيفة بن اليمان، قدم من غزوة كان غزاها، في فرج أرمينية، فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان، فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك الناس ! فقال عثمان: وما ذاك ؟ قال: غزوت فرج أرمينية، فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فتكفرهم أهل العراق. وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فتكفرهم أهل الشام.

قال زيد: فأمرني عثمان بن عفان أكتب له مصحفا، وقال: اني مدخل معك رجلا لبيبا فصيحا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعا إلىّ. فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص.

قال: فلما بلغا {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يأْتِيكُمُ التَّابُوتُ} قال زيد، فقلت: التابوه. وقال أبان ابن سعيد: التابوتُ، فرفعنا ذلك إلى عثمان، فكتب التابوت.

قال: فلما فرغت، عرضته عرضة، فلم أجد فيه هذه الآية

{مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ} إلى قوله {ومَا بَدَّلُوا تَبْديِلاً} قال: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم. ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها عند خزيمة بن ثابت فكتبتها، ثم عرضته عرضة أخرى، فلم أجد فيه هاتين الآيتين

{لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إلى آخر السورة، فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رجل آخر، يدعى خزيمة أيضا، فأثبتها في آخر براءة، ولو تمت ثلاث آيات، لجعلتها سورة على حدة، ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه شيئا.

ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها، فأعطته إياها، فعرض المصحف عليها، فلم يختلفا في شئ فردّها إليها، وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف، فلما ماتت حفصة، أرسل إلى عبد اللّه بن عمر في الصحيفة بعزمة، فأعطاهم إياها، فغسلت غسلاً.

وحدثني (به) يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية(١٤)، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، بنحوه سواء.

وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال حدثنا ابن علية، قال حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: لما كان في خلافة عثمان، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، قال أيوب: فلا أعلمه الا قال: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض.

فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبا، فقال: أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافا، وأشد لحنا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، فاكتبوا للناس إماماً!

قال أبو قلابة: فحدثني أنس بن مالك، قال: كنت فيمن يملي عليهم، قال: فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولعله أن يكون غائبا، أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويَدَعُون موضعها، حتى يجئ أو يرسل إليه، فلما فرغ من المصحف، كتب عثمان إلى أهل الأمصار: اني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم.

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس قال: قال ابن شهاب:

أخبرني أنس بن مالك الأنصاري: أنه اجتمع في غزوة أذربيجان وأرمينية، أهل الشام وأهل العراق، فتذاكروا القرآن واختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة، فركب حذيفة بن اليمان لما رأى اختلافهم في القرآن إلى عثمان، فقال:

إن الناس اختلفوا في القرآن، حتى اني واللّه لأخشى أن يصيبهم مثل ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف. قال:

ففزع لذلك فزعاً شديداً، فأرسل إلى حفصة، فاستخرج الصحف التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها، فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق.

حدثني سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: قبض النبي صلى اللّه عليه وسلم، ولم يكن القرآن جمع، وانما كان في الكرانيف والعسب (١٥).

حدثنا سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان، عن مجالد، عن الشعبي، عن صعصعة: أن أبا بكر أول من ورّث الكلالة، وجمع المصحف.

قال أبو جعفر:

وما أشبه ذلك من الأخبار، التي يطول باستيعاب جميعها الكتاب، والآثار الدالة على أن امام المسلمين، وأمير المؤمنين عثمان بن عفان، رحمة اللّه عليه، جمع المسلمين، نظرا منه لهم، واشفاقا منه عليهم، ورأفة منه بهم، حذار الردّة (بمحضره) من بعضهم بعد الاسلام، والدخول في الكفر بعد الايمان، اذ ظهر من بعضهم بمحضره وفي عصره، التكذيب ببعض الأحرف السبعة، التي نزل عليها القرآن، مع سماع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، النهي عن التكذيب بشئ منها، واخباره اياهم، أن المراء فيها كفر، فحملهم - رحمة اللّه عليه - اذ رأى ذلك ظاهراً بينهم في عصره، وبحداثة عهدهم بنزول القرآن، وفراق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إياهم، بما أمن عليهم معه، عظيم البلاء في الدين، من تلاوة القرآن على حرف واحد، وجمعهم على مصحف واحد، وحرف واحد، وحرق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذي جمعهم عليه أن يحرقه، فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة، التي عزم عليها امامها العادل في تركها، طاعة منها له، ونظراً منها لأنفسها، ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيل لأحد اليوم الى القراءة بها لدثورها وعفو آثارها، وتتابُعِ المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتها وصحة شئ منها، ولكن نظرا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها، فلا قراءة اليوم للمسلمين الا بالحرف الواحد، الذي اختاره لهم امامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية.

فإن قال بعض من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأمرهم بقراءتها ؟ قيل: ان أمره اياهم بذلك، لم يكن أمر ايجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة، لأن القراءة بها لو كانت فرضا عليهم، لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة، عند من يقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره(١٦) العذر، ويزيل الشك من قراءة الأمة، وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمَّة، من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة،

فاذا كان ذلك كذلك، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع تاركين ما كان عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا، اذ كان الذي فعلوا من ذلك، كان هو النظر للأسلام وأهله، فكان القيام بفعل الواجب عليهم بهم أولى، من فعل ما لو فعلوه، كانوا الى الجناية على الاسلام وأهله أقرب، منهم الى السلامة من ذلك.