٣- القول في البيان عن اتفاق معاني آى القرآن ومعاني منطق من نزل بلسانه من وجه البيان و الدالة على أن ذلك من اللّه جلّ وعز هو الحكمة البالغة، مع الإبانة عن فضل المعنى، الذي به باين القرآن سائر الكلامقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، رحمه اللّه: إن من عظيم نعم اللّه على عباده، وجسيم مننه على خلقه، ما منحهم من فضل البيان، الذي به عن ضمائر صدورهم يبينون، وبه على عزائم نفوسهم يدلون، فذلل به منهم الألسن، وسهل به عليهم المستصعب فبه إياه يوحدون، وإياه به يسبحون ويقدّسون، وإلى حاجاتهم به يتوصلون، وبه بينهم يتحاورون، فيتعارفون ويتعاملون. ثم جعلهم - جلّ ذكره - فيما منحهم من ذلك طبقات، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، فبْينَ خطيب مسهب، وذلق اللسان مهذّب، ومعجم(١) عن نفسه لا يبين، وعىّ عن ضمير قلبه لا يعبر، وجعل أعلاهم فيه رتبة، وأرفعهم فيه درجة، أبلغهم فيما أراد به بلاغا، وأبينهم عن نفسه به بيانا. ثم عرّفهم في تنزيله، ومحكم آى كتابه، فضل ما حباهم به من البيان، على من فَضَّلهم به عليه من ذي البكم والمستعجم اللسان، فقال تعالى ذكره: {أوَ مَنْ يُنَشَّأُ في الحِلْيَةِ وهُوَ في الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}. فقد وضح إذا لذوى الأفهام، وتبيَّن الأولى الألباب، أن فضل أهل البيان على أهل البكم والمستعجم اللسان، بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه ببيانه، واستعجام لسان هذا عما حاول إبانته بلسانه، فإذا كان ذلك كذلك، وكان المعنى الذي به باين الفاضل المفضول في ذلك فصار به فاضلا، والآخر مفضولا، هو ما وصفنا من فضل إبانة ذى البيان، عما قصر عنه المستعجم اللسان، وكان ذلك مختلف الأقدار، متفاوت الغايات والنهايات، فلا شك أن أعلى منازل البيان درجة، وأسنى مراتبه مرتبة، أبلغه في حاجة المبين عن نفسه، وأبينه عن مراد قائله، وأقر من فهم سامعه. فإن تجاوز ذلك المقدار، وارتفع عن وسع الأنام، وعجز عن أن يأتي بمثله جميع العباد، كان حجة وعلما لرسل الواحد القهار، كما كان حجة وعلما لها إحياء الموتى وإبراء الأبرص، وذوى العمى، بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طبّ المتطببين، وأرفع مراتب علاج المعالجين، إلى ما يعجز عنه جميع العالمين، وكالذي كان لها حجة وعلما قطع مسافة شهرين في الليلة الواحدة، بارتفاع ذلك عن وسع الأنام، وتعذّر مثله على جميع العباد، وان كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين، ولليسير منه فاعلين. فإذا كان ما وصفنا من ذلك كالذي وصفنا، فبيَّن أن لا بيان أبين، ولاحكمة أبلغ، ولا منطق أعلى، ولا كلام أشرف، من بيان ومنطق، تحدّى به امرؤ قوما، في زمان هم فيه رو ساء صناعة الخطب والبلاغة، وقيل الشعر والفصاحة، والسجع والكهانة، كل خطيب منهم وبليغ، وشاعر منهم وفصيح، وكل ذى سجع وكهانة، فسفَّه أحلامهم، وقصر معقولهم(٢)، وتبرأ من دينهم، ودعا جميعهم إلى اتباعه، والقبول منه، والتصديق به، والإقرار بأنه رسول إليهم من ربهم. وأخبرهم أن دلالته على صدق مقالته، وحجته على حقيقة نبوّته، ما أتاهم به من البيان والحكمة والفرقان، بلسان مثل ألسنتهم، ومنطق موافقة معانيه معانى منطقهم، ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عجزة، ومن القدرة عليه نقصة. فأقرّ جميعُهم بالعجز، وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسهم بالنقص، إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه عليه غير قادر، فأبدى من ضعف عقله ما كان مستوراً، ومن عىّ لسانه ما كان مصوناً، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً!! ونحو ذلك من الحماقات، المشبهة دعواه الكاذبة. فإذا كان تفاضل مراتب البيان، وتباين منازل درجات الكلام بما وصفنا قبل، وكان اللّه -تعالى ذكره وتقدست أسماؤه - أحكم الحكماء، وأحلم الحلماء، كان معلوما أن أبتنَ البيان بيانه، وأفضلَ الكلام كلامُه، وأن قدر فضل بيانه - جل ذكره - على بيان جميع خلقه، كفضله على جميع عباده. فإن كان ذلك كذلك، وكان غير مبين منا عن نفسه مَنْ خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب، كان معلوما أنه غير جائز أن يخاطب -جل ذكره - أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطَب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة، إلا بلسان وبيان يفهمه المرسَل إليه، لان المخاطب والمرسَل إليه، إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه، فحاله قبل الخطاب وقبل مجيئ الرسالة إليه وبعده سواء، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئا كان به قبل ذلك جاهلا، واللّه -جل ذكره - يتعالى عن أن يخاطب خطابا، أو يرسل رسالة لاتوجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه، لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث، واللّه تعالى عن ذلك متعال، ولذلك قال - جلّ ثناؤه - في محكم تنزيله: {وَما أرْسَلنْا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)، وقال لنبيه، محمد صلى اللّه عليه وسلم: (وَما أنْزَلنْا عليْكَ الكِتابَ إلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْ مِنُونَ}. فغير جائز أن يكون به مهتديا من كان بما يهدى إليه جاهلاً، فقد تبين إذا بما عليه دللنا من الدلالة أن كل رسول للّه جلّ ثناؤه، أرسله إلى قوم، فإنما أرسله بلسان من أرسله إليه، وكل كتاب أنزله على نبىّ، ورسالة أرسلها إلى أمة، فإنما أنزله له بلسان من أنزله أو أرسله إليه، واتضح بما قلنا ووصفنا، أن كتاب اللّه، الذي أنزله الى نبينا محمد، صلى اللّه عليه وسلم، بلسان محمد صلى اللّه عليه وسلم. وإذا كان لسان محمد، صلى اللّه عليه وسلم، عربيا، فبيّن أن القرآن عربي، وبذلك أيضا نطق محكم تنزيل ربنا، فقال جلّ ذكره: {انَّا أنْزَلنْاه قُرآنا عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال: {وانَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عرَبَي مُبِينٍ}. وإذا كانت واضحة صحة ماقلنا بما عليه استشهدنا من الشواهد ودللنا عليه من الدلائل، فالواجب أن تكون معاني كتاب اللّه المنزل، على نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم، لمعاني كلام العرب موافقة، وظاهرُه لظاهر كلامها ملائما، وان باينه كتابُ اللّه بالفضيلة، التي فضل بها سائرَ الكلام والبيان بما قد تقدم وصفنا، فإذا كان ذلك كذلك، فبَيِّن إذ كان موجودا في كلام العرب الإيجاز والاختصار، والاجتراء بالإخفاء من الإظهار، وبالقلة من الإكثار، في بعض الأحوال، واستعمال الإطالة والإكثار، والترداد والتكرار، وإظهار المعاني بالأسماء دون الكناية عنها، والإسرار في بعض الأوقات، والخبر عن الخاص في المراد بالعام الظاهر، وعن العام في المراد بالخاص الظاهر، وعن الكناية والمراد منه المصرّح، وعن الصفة والمراد الموصوف، وعن الموصوف والمراد الصفة، وتقديم ما هو في المعنى مؤخر، وتأخير ما هو في المعنى مقدم، والاكتفاء ببعض من بعض، وبما يظهر عما يحذف، وإظهار ما حظه الحذف، أن يكون ما في كتاب اللّه المنزل، على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم، من ذلك في كل ذلك له نظيرا، وله مثلا وشبيها، ونحن مبينو جميع ذلك في أماكنه، إن شاء اللّه ذلك، وأمدّ منه بعون وقوة. ------------ (١) في م مفحم بدل معجم. (٢) في م بعقولهم. ------------ |