Geri

   

 

 

İleri

 

٣-١ الفصل الأول فى كمال خلقته وجمال صورته صلى اللّه عليه وسلم وشرفه وكرمه

اعلم أن من تمام الإيمان به- صلى اللّه عليه وسلم- الإيمان بأن اللّه تعالى جعل خلق بدنه الشريف على وجه لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدمى مثله، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه آيات على ما يتضح لك من عظيم خلق نفسه الكريمة، وما يتضح من عظيم أخلاق نفسه آيات على ما تحقق له من سر قلبه المقدس، وللّه در الأبوصيرى حيث

قال:

فهو الذى تم معناه وصورته ... ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم

منزه عن شريك فى محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم

يعنى: حقيقة الحسن الكامل كائنة فيه، لأنه الذى تم معناه دون غيره، وهى غير منقسمة بينه وبين غيره، وإلا لما كان حسنه تامّا، لأنه إذا انقسم لم ينله إلا بعضه فلا يكون تامّا.

وفى الأثر: أن خالد بن الوليد خرج فى سرية من السرايا، فنزل ببعض الأحياء فقال له سيد ذلك الحى: صف لنا محمدا ف

قال: أما إنى أفصل فلا، فقال الرجل: أجمل، ف

قال: الرسول على قدر المرسل، ذكره ابن المنير فى أسرار الإسرار.

فمن ذا الذى يصل قدره أن يقدر قدر الرسول، أو يبلغ من الاطلاع على مأثور أحواله المأمول والمسئول؟!

وقد حكى القرطبى- فى كتاب الصلاة- عن بعضهم أنه

قال: لم يظهر لنا تمام حسنه- صلى اللّه عليه وسلم-، لأنه لو ظهر لنا تمام حسنه لما أطاقت أعيننا رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم-. ولقد أحسن الأبوصيرى أيضا حيث

قال:

أعيى الورى فهم معناه فليس يرى ... للقرب والبعد فيه غير منفحم

كالشمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة وتكل الطرف من أمم

وهذا مثل قوله أيضا:

إنما مثلوا صفاتك للنا ... س كما مثل النجوم الماء

وأشار بقوله (تظهر) إلى وجه التشبيه بالشمس لا مطلقا، ولقد بين عيب التشبيه بها على الإطلاق أبو النواس حيث

قال:

تتيه الشمس والقمر المنير ... إذا قلنا كأنهما الأمير

لأن الشمس تغرب حين تمسى ... وأن البدر ينقصه المسير

وهذه التشبيهات الواردة فى حقه- صلى اللّه عليه وسلم- إنما هى على سبيل التقريب والتمثيل، وإلا فذاته أعلى ومجده أغلى.

فأما رأسه الشريف المقدس فحسبك ما ذكره الترمذى فى جامعه بسنده إلى هند بن أبى هالة

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عظيم الهامة (١) .

وقال نافع بن جبير: وصف لنا على- رضى اللّه عنه- رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: كان عظيم الهامة (٢) .

وأما وجهه الشريف فحسبك ما روى الشيخان من حديث البراء

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن الناس وجها، وأحسنهم خلقا، ليس بالطويل الذاهب، ولا بالقصير البائن (٣) .

وعن أبى هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كأن الشمس تجرى فى وجهه (٤) رواه الترمذى والبيهقى وأحمد وابن حبان.

__________

(١) حسن: انظر ما بعده.

(٢) حسن: أخرجه البيهقى عن على، كما فى (صحيح الجامع) (٤٨٢٠) .

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٤٩) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٣٧) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

(٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦٤٨) فى المناقب، باب: فى صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأحمد فى (مسنده) (٢/ ٣٥٠ و ٣٨٠) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٣٠٩) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

قال الطيبى: شبه جريان الشمس فى فلكها بجريان الحسن فى وجهه- صلى اللّه عليه وسلم

قال: ويحتمل أن يكون من تناهى التشبيه جعل وجهه مقرّا ومكانا للشمس وللّه در القائل:

لم لا يضىء بك الوجود وليله ... فيه صباح من جمالك مسفر

فبشمس حسنك كل يوم مشرق ... وببدر وجهك كل ليل مقمر

وفى البخارى: سئل البراء: أكان وجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مثل السيف؟

فقال: لا، بل مثل القمر (١) .

وكأن السائل أراد مثل السيف فى الطول، فرد عليه البراء

فقال: بل مثل القمر، أى فى التدوير، ويحتمل أن يكون أراد مثل السيف فى اللمعان والصقالة، ف

قال: بل فوق ذلك، وعدل إلى القمر لجمعه الصفتين من التدوير واللمعان.

وقال الحافظ النسابة أبو الخطاب بن دحية- رحمه اللّه تعالى- فى كتابه (التنوير فى مولد البشير النذير- صلى اللّه عليه وسلم- وشرف وعظم وكرم) ، عند إيراد حديث البراء المذكور ما لفظه: ففى هذا الحديث من العلم أن التشبيه ممن لا يحسنه لا يصلح الإقرار عليه، لأن السائل شبه وجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالسيف، ولو شبهه بالشمس لكان أولى، فرد عليه البراء قوله و

قال: بل مثل القمر، وأبدع فى تشبيهه، لأن القمر يملأ الأرض بنوره، ويؤنس كل من يشاهده، ونوره من غير حر يفزع، ولا كلل ينزع، والناظر إلى القمر متمكن من النظر بخلاف الشمس التى تغشى البصر وتجلب للناظر الضرر. انتهى.

وفى رواية مسلم من حديث جابر بن سمرة، وقال له رجل: أكان وجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مثل السيف؟

فقال: لا، بل مثل الشمس والقمر وكان مستديرا (٢) .

وإنما قال: مستديرا للتنبيه على أنه جمع الصفتين، لأن قوله: مثل

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٥٢) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والترمذى (٣٦٣٦) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأحمد فى (مسنده) (٤/ ٢٨١) .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٣٤٤) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى اللّه عليه وسلم-.

السيف يحتمل أن يريد به الطول، ويحتمل أن يريد به اللمعان كما تقدمت إليه الإشارة فيما سبق من العبارة، فرده المسئول ردّا بليغا، ولما جرى التعارف به من أن التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبا الإشراق، وبالقمر إنما يراد به الملاحة دون غيرهما، فقوله وكان مستديرا، أشار به إلى أنه أراد به التشبيه بالصفتين معا: الحسن والاستدارة.

وقال المحاربى عن أشعث عن أبى إسحاق عن جابر بن سمرة.

أنه قال: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى ليلة إضحيان وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو كان أحسن فى عينى من القمر (١) ، وفى رواية: بعد قوله حمراء: فجعلت أماثل بينه وبين القمر.

وروى الترمذى والبيهقى عن على أنه نعته- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: لم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، كان فى وجهه تدوير (٢) . والمكلثم: المدور الوجه، أى لم يكن شديد تدوير الوجه بل فى وجهه تدوير قليل.

وفى حديث على عند أبى عبيد فى الغرائب: وكان فى وجهه تدوير قليل، قال أبو عبيد فى شرحه: يريد أنه ما كان فى غاية التدوير، بل كان فيه سهولة وهى أحلى عند العرب.

وفى حديث أبى هريرة عند الذهلى (٣) فى الزهريات (٤) فى صفته

__________

(١) حسن غريب: أخرجه الترمذى (٢٨١١) فى الأدب، باب: ما جاء فى الرخصة فى لبس الحمرة للرجال، والدارمى فى (سننه) (٥٧) ،

وقال الإمام الترمذى: هذا حديث حسن غريب.

(٢) إسناده ..... أخرجه الترمذى (٣٦٣٨) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وقال الترمذى: هذا حديث حسن غريب، ليس إسناده بمتصل، و (المطهم) : البادن الكثير اللحم.

(٣) هو: الإمام الحافظ، أبو عبد اللّه، محمد بن يحيى بن عبد اللّه النيسابورى، مولى بنى ذهل، أحد أئمة الحديث الحفاظ، حدث عنه الجماعة سوى مسلم، وكان من أعلم الناس بحديث الزهرى، حيث اعتنى بحديثه، وصنفه، حتى قال له على بن المدينى: أنت وارث الزهرى، مات سنة ٢٥٠ هـ، وله تسعون عاما.

(٤) نسبة إلى الزهرى- رحمه اللّه-، وهو الإمام الحافظ، أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن شهاب الزهرى، ولد سنة ٥٠ هـ، وحدث عن صغار الصحابة كابن عمرو سهل ابن سعد وأنس بن مالك، وعنه أخذ الإمام مالك، وقيل أنه أول من دون السنة بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، توفى- رحمه اللّه- سنة ١٢٤ هـ.

- صلى اللّه عليه وسلم-: كان أسيل الخدين. قال ابن الأثير: الأسالة فى الخد: الاستطالة وأن لا يكون مرتفع الوجنة. قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: ولعل هذا هو الحامل لمن سأله أكان وجهه مثل السيف.

وأخرج البخارى عن كعب بن مالك

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا سرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه (١) . أى الموضع الذى يتبين فيه السرور وهو جبينه.

وقالت عائشة- رضى اللّه عنها-: دخل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يوما مسرورا تبرق أسارير وجهه (٢) . ولذلك قال كعب كأنه قطعة قمر. وفى حديث جبير بن مطعم عند الطبرانى: التفت إلينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بوجه مثل شقة القمر، فهذا محمول على صفته عند الالتفات.

وقد أخرج الطبرانى حديث كعب بن مالك من طرق فى بعضها: كأنه دارة قمر.

ويسأل عن السر فى التقييد بالقطعة مع كثرة ما ورد فى كثير من كلام البلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير تقييد. وقد كان كعب بن مالك قائل هذا من شعراء الصحابة، فلابد من التقييد بذلك من حكمة، وما قيل فى أن ذلك من الاحتراز من السواد الذى فى القمر ليس بقوى، لأن المراد بتشبيهه ما فى القمر من الضياء والاستنارة وهو فى تمامه لا يكون فيها أقل مما فى القطعة المجردة، فكأن التشبيه وقع على بعض الوجه فناسب أن يشبه ببعض القمر.

__________

 (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٥٦) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٧٩٩) فى التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه.

(٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٣٥٥٥) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (١٤٥٩) فى الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف الولد.

وعن أبى بكر الصديق- رضى اللّه عنه-

قال: كان وجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كدارة القمر (١) ، أخرجه أبو نعيم.

وروى البيهقى عن أبى إسحاق الهمدانى عن امرأة من همدان- سماها-

قالت: حججت مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مرات فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن عليه بردان أحمران يكاد يمس شعره منكبه إذا مر بالحجر استلمه بالمحجن ثم يرفعه إلى فمه فيقبله، قال أبو إسحاق: فقلت لها شبهيه

قالت: كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله- صلى اللّه عليه وسلم- (٢) .

وروى الدارمى والبيهقى وأبو نعيم والطبرانى عن أبى عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر

قال: قلت للربيع بنت معوذ صفى لى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم

قالت: لو رأيته لقلت: الشمس طالعة (٣) ، وفى لفظ: يا بنى لو رأيته رأيت الشمس طالعة.

وروى مسلم عن أبى الطفيل أنه قيل له: صف لنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: كان أبيض مليح الوجه (٤) .

وفيما أخرجه الترمذى من حديث هند بن أبى هالة (٥) : كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر (٦) .

__________

(١) أخرجه أبو نعيم فى (الدلائل) كما فى (كنز العمال) (١٨٥٢٦) .

(٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ١٩٩) .

(٣) أخرجه الدارمى فى (سننه) (٦٠) ، والطبرانى فى (الكبير) (٢٤/ ٢٧٤) . وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٨٠) و

قال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط، ورجاله وثقوا.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٤٠) فى الفضائل، باب: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أبيض مليح الوجه.

(٥) هو: هند بن أبى هالة- رضى اللّه عنه-، ربيب النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، أمه خديجة زوج النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، قال عنه أبو عمر: كان فصيحا بليغا وصف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأحسن وأتقن، قتل مع على يوم الجمل. انظر (الإصابة) (٦/ ٥٥٧) .

(٦) أخرجه الترمذى فى الشمائل، والطبرانى فى الكبير والبيهقى فى شعب الإيمان، كما فى (..... الجامع) (٤٤٧٠) .

وقالت أم معبد حين وصفته لزوجها: متبلج الوجه، يعنى: مشرقه مضيئه، ومنه تبلج الصبح إذا أسفر، وما أحسن قول سيدى على بن وفا حيث

قال:

ألا يا صاحب الوجه المليح ... سألتك لا تغيب عنى فأنت روحى

متى ما غاب شخصك عن عيانى ... رجعت فلا ترى إلا ضريحى

بحقك جد لرقك يا حبيبى ... وداو لوعة القلب الجريح

ورقّ لمغرم فى الحب أمسى ... وأصبح بالهوى دنفا طريح

محب ضاق بالأشواق ذرعا ... وآوى منك للكرم الفسيح

وفى النهاية (١) : أنه- عليه السّلام- كان إذا سر فكأن وجهه المرآة، وكأن الجدر تلاحك وجهه.

قال: الملاحكة، شدة الملاءمة، أى يرى شخص الجدر فى وجهه- صلى اللّه عليه وسلم-. وفى حديث ابن أبى هالة: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. وذلك: لأن القمر يملأ الأرض بنوره ويؤنس كل من شاهده، وهو يجمع النور من غير أذى ويتمكن من النظر إليه بخلاف الشمس التى تغشى البصر فتمنع من تمكن الرؤية، والتشبيه بالبدر أبلغ فى العرف من التشبيه بالقمر، لأنه وقت كماله، كما قال الفاروق- رضى اللّه عنه- حين رآه أو كلما رآه:

لو كنت من شىء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر

وقد صادف هذا التشبيه تحقيقا، فمن أسمائه- صلى اللّه عليه وسلم-: البدر. ولهذا أنشدوا لما قدم المدينة:

طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع

ولقد أحسن من قال:

كالبدر والكاف إن أنصفت زائدة ... فيه فلا تظننها كافا لتشبيه

وما أحلى قول ابن الحلاوى:

__________

(١) هو: النهاية فى غريب الحديث، لابن الأثير.

يقولون يحكى البدر فى الحسن وجهه ... وبدر الدجى عن ذلك الحسن ينحط

كما شبهوا غصن النقا (١) بقوامه ... لقد بالغوا فى المدح للغصن واشتطوا

فقد حصل للبدر والغصن غاية من الفخر بهذا التشبيه، على أن هذه التشبيهات الواردة فى صفاته- صلى اللّه عليه وسلم- إنما هى على عادة الشعراء والعرب، وإلا فلا شىء فى هذه التشبيهات المحدثات يعادل صفاته الخلقية والخلقية، وللّه در إمام العارفين سيدى محمد وفا الشاذلى المالكى حيث

قال:

كم فيه للأبصار حسن مدهش ... كم فيه للأرواح راح مسكر

سبحان من أنشاه من سبحاته ... بشرا بأسرار الغيوب يبشر

قاسوه جهلا بالغزال تغزلا ... هيهات يشبهه الغزال الأحور

هذا وحقك ما له من مشبه ... وأرى المشبه بالغزالة يكفر

يأتى عظيم الذنب فى تشبيهه ... لولا لرب جماله يستغفر

فخر الملاح بحسنهم وجمالهم ... وبحسنه كل المحاسن تفخر

فجماله مجلى لكل جميلة ... وله منار كل وجه نير

جنات عدن فى جنى وجناته ... ودليله أن المراشف كوثر

هيهات ألهو عن هواه بغيره ... والغير فى حشر الأجانب يحشر

كتب الغرام على فى أسفاره ... كتبا تؤول بالهوى وتفسر

فدع الدعى وما ادعاه فى الهوى ... فدعيه بالهجر فيه يهجر

وعليك بالعلم العليم فإنه ... لخطيبه فى كل خطب منبر

وأما بصره الشريف- صلى اللّه عليه وسلم- فقد وصفه اللّه فى كتابه العزيز بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (٢) .

وعن ابن عباس- رضى اللّه عنهما-

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يرى بالليل فى الظلمة كما يرى فى النهار فى الضوء (٣) . رواه البخارى.

__________

(١) ضرب من النبات، له زهر أحمر.

(٢) سورة النجم: ١٧.

(٣) أخرجه البيهقى فى الدلائل عن ابن عباس، وابن عدى فى الكامل عن عائشة كما فى (..... الجامع) (٤٥٤٧) ، والحديث كما هو واضح ليس فى البخارى. كما قال المصنف ولو معلقا.

وعن عائشة- رضى اللّه عنها-

قالت: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يرى فى الظلماء كما يرى فى الضوء (١) . رواه البيهقى.

وعن أبى هريرة أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (هل ترون قبلتى هاهنا، فو اللّه ما يخفى على ركوعكم ولا سجودكم، إنى لأراكم من وراء ظهرى) (٢) . رواه البخارى ومسلم.

وعند مسلم من رواية أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (أيها الناس، إنى أمامكم فلا تسبقونى بالركوع ولا بالسجود، فإنى أراكم من أمامى ومن خلفى) (٣) .

وعن مجاهد: فى قوله تعالى الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٤)

قال: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يرى من خلفه من الصفوف، كما يرى من بين يديه (٥) ، رواه الحميدى فى مسنده، وابن المنذر فى تفسيره.

وهذه الرؤية رؤية إدراك: والرؤية لا تتوقف على وجود آلتها التى هى العين- عند أهل الحق- ولا شعاع ولا مقابلة، وهذا بالنسبة إلى القديم (٦) العالى، أما المخلوق فتتوقف صفة الرؤية فى حقه على الحاسة والشعاع والمقابلة بالاتفاق، ولهذا كان خرق عادة فى حقه- صلى اللّه عليه وسلم-، وخالق البصر فى العين قادر على خلقه فى غيرها.

قال الحرالى: وهذه الآية قد جعلها اللّه تعالى دالة على ما فى حقيقة أمره فى الاطلاع الباطن لسعة علمه، ومعرفته لما عرف بربه لا بنفسه أطلعه

__________

(١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٦/ ٧٥) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٨) فى المساجد، باب: عظة الإمام الناس فى إتمام الصلاة، ومسلم (٤٢٤) فى المساجد، باب: الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٤٢٦) فى المساجد، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود أو نحوهما.

(٤) سورة الشعراء: ٢١٨، ٢١٩.

(٥) مرسل: أخرجه الحميدى فى (مسنده) (٩٦٢) عن مجاهد مرسلا.

(٦) الأولى أن يقال (الأول) كما نطق القرآن، ولا أعلم سبب العدول من الأول إلى القديم، مع العلم بأن اللفظ القرآنى أدل على المعنى عن غيره من الألفاظ المحدثة، واللّه المستعان.

اللّه على ما بين يديه مما تقدم من أمر اللّه، وعلى ما وراء الوقت مما تأخر من أمر اللّه، فلما كان على ذلك من الإحاطة فى إدراك مدركات القلوب جعل اللّه تعالى له- صلى اللّه عليه وسلم- مثل ذلك فى مدركات العيون، فكان يرى المحسوسات من وراء ظهره كما يراها من بين يديه كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-. انتهى.

ومن الغريب ما ذكره الزاهدى بختيار محب بن محمود، شارح القدورى فى رسالته الناصرية أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان له بين كتفيه عينان كسم الخياط يبصر بهما، ولا تحجبهما الثياب؟؟؟(١) .

وقيل: بل كانت صورهم تنطبع فى حائط قبلته كما تنطبع فى المرآة أمثلتهم فيها، فيشاهد أفعالهم وهذا إن كان نقلا عن الشارع- عليه السّلام- بطريق صحيح فمقبول وإلا فليس المقام مقام رأى، على أن الأقعد فى إثبات كونه معجزة حملها على الإدراك من غير آلة واللّه أعلم.

وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه الرؤية رؤية قلبه الشريف. وعن بعضهم: المراد بها العلم إما بأن يوحى اللّه إليه كيفية فعلهم، وإما بأن يلهم، والصحيح والصواب ما تقدم (٢) وقد استشكل على قول من يقول: إن المراد بذلك العلم، ما ذكره ابن الجوزى فى بعض كتبه بغير إسناد أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إنى لا أعلم ما وراء جدارى هذا) فإن صح فالمراد منه نفى العلم بالمغيبات، فكيف يجتمعان؟

وأجيب: بأن الأحاديث الأول ظاهرها ينطق باختصاص ذلك بحالة الصلاة، ويحمل المطلق منها على المقيد. وأما إذا ذهبنا إلى الإدراك بالبصر- وهو الصواب- فلا إشكال، لأن نفى العلم هنا عن الغيب وذاك عن مشاهدة.

وفى (المقاصد الحسنة) للحافظ شمس الدين السخاوى حديث: (ما أعلم ما خلف جدارى هذا) (٣) قال شيخنا- يعنى شيخ الإسلام ابن حجر-:

__________

(١) ذكر ذلك أيضا الحافظ ابن حجر فى (الفتح) (١/ ٥١٥) .

(٢) انظر فى ذلك المصدر السابق.

(٣) انظر (كشف الخفا) للعجلونى (٢١٧٥) .

........ قلت: ولكنه قال فى تلخيص تخريج أحاديث الرافعى عند قوله فى الخصائص: (ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدامه) . هو فى الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وغيره، والأحاديث الواردة فى ذلك مقيدة بحالة الصلاة وبذلك يجمع بينه وبين قوله: لا أعلم ما وراء جدارى هذا. انتهى.

قال شيخنا، وهذا مشعر بوروده، وعلى تقدير وروده لا تنافى بينهما لعدم تواردهما على محل واحد. انتهى.

فإن قيل: يشكل على هذا- أيضا- إخباره- صلى اللّه عليه وسلم- بكثير من المغيبات التى فى زمانه وبعده، ووقعت كما أخبر- صلى اللّه عليه وسلم-.

فالجواب: إن نفى العلم فى هذا ورد على أصل الوضع، وهو أن علم الغيب مختص باللّه تعالى، وما وقع منه على لسان نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- وغيره فمن اللّه تعالى، إما بوحى أو إلهام، ويدل على ذلك الحديث الذى فيه: أنه لما ضلت ناقته- صلى اللّه عليه وسلم- تكلم بعض المنافقين و

قال: إن محمدا يزعم أنه يخبركم عن خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته؟ فقال- صلى اللّه عليه وسلم- لما بلغه ذلك: (واللّه إنى لا أعلم إلا ما علمنى ربى، وقد دلنى ربى عليها وهى فى موضع كذا وكذا) حبستها شجرة بخطامها فذهبوا فوجدوها كما أخبر- صلى اللّه عليه وسلم-.

فصح أنه لا يعلم ما وراء جداره ولا غيره إلا ما علمه ربه تبارك وتعالى.

وذكر القاضى عياض- فى الشفاء- أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يرى فى الثريا أحد عشر نجما، وعند السهيلى، اثنى عشر.

وفى حديث ابن أبى هالة: وإذا التفت التفت جميعا خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء جل نظره الملاحظة (١) .

__________

(١) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (٢٢/ ١٥٥) ، وهو عند أحمد (١/ ٨٩ و ١٠١) من حديث على- رضى اللّه عنه-، بسند فيه مقال.

وهى مفاعلة من اللحظ: وهو النظر بشق العين الذى يلى الصدغ، وأما الذى يلى الأنف فالموق والماق.

وقوله: إذا التفت التفت جميعا أراد أنه لا يسارق النظر،

وقيل: لا يلوى عنقه يمنة ولا يسرة إذا نظر إلى الشىء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف ولكن كان يقبل جميعا ويدبر جميعا. قاله ابن الأثير:

وعن على

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عظيم العينين، أهدب الأشفار، مشرب العين بحمرة (١) ، رواه البيهقى.

وعن جابر بن سمرة

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ضليع الفم أشكل العينين منهوس القدمين (٢) ، رواه مسلم.

والشكلة: الحمرة تكون فى بياض العين وهو محمود محبوب، وأما الشهلة: فإنها حمرة فى سوادها. وهذا هو الصواب: لا ما فسره بعضهم، بأنه طول شق العين.

وعند الترمذى فى حديث عن على، أنه نعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: كان فى وجهه تدوير أبيض مشرب بحمرة، أدعج العينين، أهدب الأشفار (٣) الحديث.

والأدعج: الشديد سواد الحدقة.

والأهدب: الطويل الأشفار: وهى شعر العين.

وعنده- أيضا- عن على

قال: كان أسود الحدقة أهدب الأشفار.

وعن على: بعثنى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلى اليمن فقمت لأخطب يوما على الناس، وحبر من أحبار اليهود واقف بيده سفر ينظر فيه، فلما رآنى

__________

(١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ٢١٢) .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٣٩) فى الفضائل، باب: فى صفة فم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وعينيه وعقبيه.

(٣) أخرجه الترمذى (٣٦٣٨) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والبيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ٢١٣) من حديث على- رضى اللّه عنه-، وقد تقدم.

قال: صف لى أبا القاسم، فقلت: ليس بالطويل البائن ولا بالقصير. الحديث، وفيه: قال على: ثم سكت، فقال الحبر وماذا: قلت: هذا ما يحضرنى، قال الحبر: فى عينيه حمرة حسن اللحية، ثم قال على: هذه واللّه صفته، قال الحبر: فإنى أجد هذه الصفة فى سفر آبائى، وإنى أشهد أنه نبى وأنه رسول اللّه إلى الناس كافة. الحديث.

وأما سمعه الشريف فحسبك أنه قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنى أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجد للّه تعالى) (١) رواه الترمذى من رواية أبى ذر.

وما رواه أبو نعيم عن حكيم بن حزام، بينما رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى أصحابه إذ قال لهم: (تسمعون ما أسمع) قالوا: ما نسمع من شىء،

قال: (إنى لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم) (٢) .

وأما جبينه الكريم- صلى اللّه عليه وسلم- فقد كان واضح الجبين، مقرون الحاجبين.

بهذا وصفه على، كما عند ابن سعد وابن عساكر

فقال: مقرون الحاجبين صلت الجبين أى: واضحه، والقرن: اتصال شعر الحاجبين.

وعند البيهقى عن رجل من الصحابة

قال: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فإذا رجل حسن الجسم عظيم الجبهة رقيق الحاجبين. وللّه در القائل:

جبينه مشرق من فوق طرته ... يتلو الضحى ليله والليل كافره

بالمسك خطت على كافور جبهته ... من فوق نوناتها سينا ضفائره

مكحل الخلق ما تحصى خصائصه ... منضر الحسن قد قلت نظائره

__________

(١) حسن: أخرجه الترمذى (٢٣١٢) فى الزهد، باب: فى قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا) ، وابن ماجه (٤١٩٠) فى الزهد، باب: الحزن والبكاء، وأحمد فى (المسند) (٥/ ١٧٣) بسند حسن.

(٢) أخرجه الطبرانى، والضياء، عن حكيم بن حزام كما فى (كنز العمال) (٢٩٨٣) ، وابن أبى حاتم فى التفسير، وأبو الشيخ فى العظمة، كما فى (الكنز) أيضا (٢٩٨٤١) .

وقال ابن أبى هالة: أزج الحواجب- وفسر: بالمقوس الطويل الوافر الشعر-

ثم قال: سوابغ من غير قرن بينهما عرق يدره الغضب، أى يمتلئ دما إذا غضب كما يمتلئ الضرع لبنا إذا در. قاله فى النهاية.

وعن مقاتل بن حيان (١)

قال: أوحى اللّه إلى عيسى- عليه الصلاة والسلام-: اسمع وأطع يا ابن الطاهرة البتول، إنى خلقتك من غير فحل، فجعلتك آية للعالمين، فإياى فاعبد، وعلى فتوكل، فسر لأهل سوران أنى أنا اللّه الحى القيوم، الذى لا أزول، صدقوا النبى الأمى، صاحب الجمل والمدرعة والعمامة والنعلين والهراوة، الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه فى وجهه كاللؤلؤ، وريح المسك ينفح منه، كأن عنقه إبريق فضة الحديث.

والأنجل: الواسع شق العينين. والقرن: بالتحريك: التقاء الحاجبين.

وما وصفه به ابن أبى هالة مخالف لما فى حديث مقاتل بن حيان وما فى حديث أم معبد فإنها

قالت: أزج أقرن، أى مقرون الحاجبين، قال ابن الأثير:

والأول هو الصحيح فى صفته، يعنى: سوابغ فى غير قرن. والقنى فى الأنف: طوله ورقة أرنبته مع حدب فى وسطه. وقد وصفه- صلى اللّه عليه وسلم- غير واحد: بأنه عظيم الهامة، أى الرأس، كذا فى حديث ابن أبى هالة المشهورة.

وقال على بن أبى طالب- فى حديث رواه الترمذى وصححه والبيهقى-:

ضخم الرأس. وكذا قال أنس فى رواية البخارى.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- أيضا ضخم الكراديس، وهى رؤوس العظام، كما وصفه به على فى حديث الترمذى. وقال أيضا فى رواية للترمذى: جليل المشاش

__________

(١) هو: مقاتل بن حيان النبطى، أبو بسطام، كان ممن عنى بعلم القرآن، وواظب على الورع فى السر والإعلان، مات بكابل حيث هرب فى أيام خروج أبى مسلم الخراسانى وهو غير مقاتل بن سليمان المفسر، حيث كان معاصرا له، إلا أنه متروك الحديث. انظر (تذكرة الحفاظ) (١/ ١٧٤) .

والكتد (١) . وفسر برؤوس العظام كالركبتين والمرفقين والمنكبين، أى عظيمها.

والكتد- بفتحتين ويجوز كسر التاء- مجمع الكتفين.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- دقيق العرنين، أى أعلى الأنف، كما وصفه به على فى رواية ابن سعد وابن عساكر. وفى رواية أيضا عن ابن عمر من وصف على له أيضا: أقنى الأنف، وفسر بالسائل المرتفع وسطه، وقال ابن أبى هالة:

أقنى العرنين له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشمّ، والأشم: الطويل قصبة الأنف.

وأما فمه الشريف- صلى اللّه عليه وسلم- ففى مسلم من حديث جابر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان ضليع الفم (٢) يعنى واسعه. وكذا وصفه به ابن أبى هالة، وزاد يفتتح الكلام ويختم بأشداقه يعنى لسعة فمه، والعرب تمدح به وتذم بصغر الفم. وقال شمر (٣) : عظيم الأسنان.

وفى حديث عند البزار والبيهقى قال أبو هريرة: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أسيل الخدين واسع الفم.

ووصفه- صلى اللّه عليه وسلم- ابن أبى هالة

فقال: أشنب مفلج الأسنان. والشنب:

رونق الأسنان وماؤها.

وقيل: رقتها وتحديدها. وأفلج الأسنان أى متفرقها.

وقال على: مبلج الثنايا، بالموحدة، أخرجه ابن سعد من حديث أبى هريرة. وعند ابن عساكر: عن على: براق الثنايا.

وعند ابن عباس

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أفلج الثنيتين، إذا تكلم رؤى كالنور يخرج من ثناياه (٤) ، رواه الترمذى فى الشمائل، والدارمى، والطبرانى فى الأوسط.

__________

(١) أخرجه الترمذى (٣٦٣٨) من حديث على- رضى اللّه عنه-، وقد تقدم.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٣٩) فى الفضائل، باب: فى صفة فم النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث جابر بن سمرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) هو: شمر بن عطية الأسدى الكاهلى الكوفى، من الأثبات، مات فى ولاية خالد. انظر (مشاهير علماء الأمصار) (١/ ١٦٥) .

(٤) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٧٩) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عبد العزيز بن أبى ثابت، وهو ......

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن عباد اللّه شفتين وألطفهم ختم فم.

بحر من الشهد فى فيه مراشفه ... يا قوته صدف فيه جواهره

وعن أبى قرصافة

قال: بايعنا رسول اللّه أنا وأمى وخالتى، فلما رجعنا قالت لى أمى وخالتى: يا بنى، ما رأينا مثل هذا الرجل أحسن وجها ولا أنقى ثوبا ولا ألين كلاما، ورأينا كالنور يخرج من فيه.

وأما ريقه الشريف ففى الصحيحين عن سهل بن سعد أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غدا رجلا يفتح اللّه على يديه، يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله)فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها،

قال: (أين على بن أبى طالب؟) فقالوا: هو يا رسول اللّه يشتكى عينيه،

قال: (فأرسلوا إليه) فأتى به، فبصق الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- فى عينيه فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع (١) . الحديث متفق عليه.

وأتى بدلو من ماء، فشرب من الدلو، ثم صب فى البئر، أو قال: (مج فى البئر) ففاح منها مثل رائحة المسك (٢) . رواه أحمد وابن ماجه من حديث وائل بن حجر.

وبزق فى بئر فى دار أنس، فلم يكن بالمدينة بئر أعذب منها، رواه أبو نعيم.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يوم عاشوراء يدعو برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة فيتنقل فى أفواههم ويقول للأمهات: (لا ترضعنهم إلى الليل) فكان ريقه يجزئهم (٣) . رواه البيهقى.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٩٤٢) فى الجهاد والسير، باب: دعاء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الإسلام والنبوة، ومسلم (٢٤٠٦) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه-.

(٢) أخرجه ابن ماجه (٦٥٩) فى الطهارة وسننها، باب: المج فى الإناء، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٣١٥ و ٣١٨) .

(٣) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٦/ ٢٢٦) .

ودخلت عليه عميرة بنت مسعود هى وأخواتها يبايعنه وهن خمس فوجدنه يأكل قديدا فمضغ لهن قديدة فمضغتها كل واحدة منهن قطعة قطعة فلقين اللّه وما وجدن لأفواههن خلوف (١) ، رواهالطبرانى.

ومسح- صلى اللّه عليه وسلم- بيده الشريفة بعد أن نفث فيها من ريقه على ظهر عتبة وبطنه وكان به شرى، فما كان يشم أطيب منه رائحة. رواه الطبرانى. وأعطى الحسن لسانه- وكان قد اشتد ظمؤه- فمصه حتى روى. رواه ابن عساكر.

وللّه در إمام العارفين سيدى محمد وفا الشاذلى حيث يقول:

جنى النحل فى فيه وفيه حياتنا ... ولكنه من لى بلثم لثامه

رحيق الثنايا والمثانى تنفست ... إذا قال فى فيح بطيب ختامه

وأما فصاحة لسانه وجوامع كلمه، وبديع بيانه وحكمه، فكان- صلى اللّه عليه وسلم- أفصح خلق اللّه، وأعذبهم كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا، حتى كان كلامه يأخذ بمجامع القلوب ويسلب الأرواح.

ينظم در الثغر نثر مقوله ... ما حسنه فى نثره ونظامه

يناجى فينجى من يناجى من الجوى ... فكل كليم برؤه فى كلامه

ففصاحة لسانه- صلى اللّه عليه وسلم- غاية لا يدرك مداها، ومنزلة لا يدانى منتهاها، وكيف لا يكون ذلك وقد جعل اللّه تعالى لسانه سيفا من سيوفه، يبين عن مراده، ويدعو به إليه عباده، فهو ينطق بحكمه عن أمره، ويبين عن مراده بحقيقة ذكره.

أفصح خلق اللّه إذا لفظ، وأنصحهم إذا وعظ، لا يقول هجرا، ولا ينطق هذرا، كلامه كله يثمر علما، ويمتثل شرعا وحكما، لا يتفوه بشر بكلام أحكم منه فى مقالته، ولا أجزل منه فى عذوبته.

وخليق بمن عبر عن مراد اللّه بلسانه، وأقام به الحجة على عباده ببيانه،

__________

(١) وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٨٣) و

قال: رواه الطبرانى وفيه إسحاق بن إدريس الأسوارى، وهو ......

وبين مواضع فروضه وأوامره، ونواهيه، وزواجره ووعده ووعيده وإرشاده أن يكون أحكم الخلق جنانا وأفصحهم لسانا، أوضحهم بيانا.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين، يعده العاد، ليس بهذا مسرع لا يحفظ، قالت عائشة- رضى اللّه عنها-: ما كان- صلى اللّه عليه وسلم- يسرد سردكم هذا، كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه (١) وكان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه (٢) .

وكان يقول: (أنا أفصح العرب) (٣) .

وقد قال له عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه، ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ ف

قال: (كانت لغة إسماعيل قد درست فجاءنى بها جبريل فحفظنيها) (٤) . رواه أبو نعيم.

وروى العسكرى فى الأمثال من حديث على بسند ..... جدّا

قال: قدم بنو نهد على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: الحديث وفيه: ذكر خطبتهم وما أجابهم به النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: فقلنا: يا نبى اللّه، نحن بنو أب واحد، ونشأنا فى بلد واحد، وإنك تكلم العرب بلسان ما نفهم أكثره،

فقال: (إن اللّه عز وجل أدبنى فأحسن أدبى، ونشأت فى بنى سعد بن بكر) (٥) .

وعن محمد بن عبد الرحمن الزهرى عن أبيه عن جده

قال: قال رجل: يا رسول اللّه، أيدالك الرجل امرأته؟

قال: (نعم إذا كان مفلجا) فقال

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦٨) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٤٩٣) فى الزهد والرقائق، باب: التثبت فى الحديث.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٩٤، ٩٥) فى العلم، باب: من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) .......: أخرجه العسكرى فى الأمثال عن بريدة، وفيه حسان بن مصك، متروك، قاله المتقى الهندى فى (كنز العمال) (٣٥٤٧١) .

(٤) أخرجه الغطريف فى جزئه وابن عساكر عن عمر، كما فى (..... الجامع) (١٩١٩) .

(٥) انظر (..... الجامع) (٢٤٩، ٢٥٠) .

له أبو بكر: يا رسول اللّه، ما قال لك، وما قلت له؟

قال: ( قال: أيماطل الرجل أهله؟ قلت له نعم إذا كان مفلسا) ، قال أبو بكر: يا رسول اللّه، لقد طفت فى العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك،

قال: (أدبنى ربى ونشأت فى بنى سعد) (١) رواه السرقسطى فى الدلائل بسند واه. وكذا أخرجه ابن عساكر. قال فى القاموس: ودالكه أى ماطله انتهى.

وقوله: (ملفجا) بضم الميم وفتح الفاء، اسم فاعل من (ألفج الرجل) فهو ملفج، إذا كان فقيرا، وهو غير مقيس. ومثله أحصن فهو محصن، وأسهب فهو مسهب، فى ألفاظ شذت، والقياس الكسر، قاله ابن مرزوق. لكن قال ابن الأثير: لم يجىء إلا فى ثلاثة أحرف، أسهب وأحصن وألفج.

وقال غيره: معناه: أيداعب الرجل امرأته، يعنى قبل الجماع؟ وسماه مطلا لكون غرضها الأعظم الجماع.

قال: إذا كان عاجزا، ليكون ذلك محركا لشهوته، ولعجزه سمى مفلسا. وقال ابن الأثير: يماطلها بمهرها إذا كان فقيرا. وأما ما يروى: (أنا أفصح من نطق بالضاد) (٢) ف

قال: ابن كثير: ........ انتهى لكن معناه صحيح واللّه أعلم.

وقد حدوا الفصاحة: بخلوص الكلمة من التنافر والغرابة ومخالفة القياس. والمراد بالتنافر: تقارب مخارج الحروف كقوله: غدائره مستشزرات إلى العلا فإن السين والتاء والزاى كلها متقاربة المخارج. والغرابة: كون الكلمة لا تدل على المراد من أول وهلة لاحتمال معنى آخر. ومخالفة القياس: استعمال الكلمة على غير قياس، كإبقاء وجود المثلين من كلمة واحدة من غير إدغام. كقوله: الحمد للّه العلى الأجلل. والفصاحة: يوصف بها الكلام والكلمة والمتكلم. والبلاغة: أن يطابق الكلام مقتضى الحال مع فصاحته، الجزالة: خلاف الركاكة.

__________

(١) انظر ما قبله.

(٢) .......: انظر (كشف الخفا) للعجلونى (٦٠٩) .

ففصاحته- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الحد الخارق للعادة، البالغ نهاية المزية والزيادة التى تصدع القلوب قبل الأذهان، وتقرع الجوانح قبل الآذان، مما يروق ويفوق، ويثبت له على سائر البشر الحقوق التى لا تقابل بالعقوق، فهو صاحب جوامع الكلم وبدائع الحكم، وقوارع الزجر وقواطع الأمر، والأمثال السائرة، والغرر السائلة، والدرر المنثورة والدرارى المأثورة والقضايا المحكمة، والوصايا المبرمة، والمواعظ التى هى على القلوب محكمة، والحجج التى هى للد الخصماء مفحمة ملجمة.

وقليل هذا الوصف فى حقه- صلى اللّه عليه وسلم- وزاده فضلا وشرفا لديه، وقد روى الحاكم فى مستدركه وصححه من حديث ابن عباس: إن أهل الجنة يتكلمون بلغة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- (١) وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد، ولا ينكرها موافق ولا معاند، وقد جمع الناس من كلامه الفرد الموجز البديع الذى لم يسبق إليه دواوين، وفى كتاب الشفاء للقاضى عياض من ذلك ما يشفى العليل.

كقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (المرء مع من أحب) (٢) .

وقوله: (أسلم تسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين) (٣) .

وقوله: (السعيد من وعظ بغيره) (٤) . ومما لم يذكره القاضى- رحمه اللّه-.

__________

(١) لم أقف عليه فيه، ولا فى غيره بهذا اللفظ.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦١٦٨، ٦١٦٩) فى الأدب، باب: علامة الحب فى اللّه عز وجل، ومسلم (٢٦٤١) فى البر والصلة، باب: المرء مع من أحب، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه البخارى (٧) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (١٧٧٣) فى الجهاد والسير، باب: كتاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلى هر قل يدعوه إلى الإسلام، من حديث أبى سفيان- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٦٤٥) فى القدر، باب: كيفية خلق الآدمى، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات) (١) رواه الشيخان وغيرهما.

وقوله: (ليس للعامل من عمله إلا ما نواه) (٢) .

وتحت هاتين الكلمتين كنوز من العلم لهذا قال الشافعى- رحمه اللّه-:

حديث الأعمال بالنيات يدخل فى نصف العلم، وذلك أن للدين ظاهرا وباطنا، والنية متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر، وأيضا: فالنية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح. وقال بعض الأئمة: حديث الأعمال بالنيات ثلث الدين، ووجهه: أن الدين: قول وعمل ونية.

وقوله: (نية المرء خير من عمله) (٣) رواه الطبرانى. لكن قال بعضهم لا يصح رفعه

قال: ورواه القضاعى عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصفار، أخبرنا على بن عبد اللّه الفضل حدثنا محمد بن الحنفية الواسطى، حدثنا محمد بن عبد اللّه الحلبى، حدثنا يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقول: (نية المؤمن أبلغ من عمله) (٤) .

قال: وهذا إسناد لا ضوء عليه ويوسف بن عطية متروك الحديث.

ورواه عثمان بن عبد اللّه الشامى من حديث النواس بن سمعان و

قال: (نية المؤمن خير من عمله، ونية الفاجر شر من عمله) (٥) وقال ابن عدى:

عثمان بن عبد اللّه الشامى له أحاديث .......ات، هذا من جملتها، وقال

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (١٩٠٧) فى الإمارة، باب: قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات) ، من حديث عمر- رضى اللّه عنه-.

(٢) لم أقف عليه.

(٣) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (٦/ ١٨٥) ، من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-، وقال الحافظ فى (الفتح) (٤/ ٢١٩) والحديث ......

(٤) أخرجه القضاعى فى (سند الشهاب) (١/ ١١٩) بسند فيه متروك، كما قال المصنف.

(٥) أخرجه القضاعى فى (سند الشهاب) (١/ ١١٩) بسند .....، كما ذكر المصنف.

ابن الجوزى: لا يصح رفعه،

قال: ومعناه: أن النية سر، والعمل ظاهر، [وعمل] السر أفضل، وهو يقتضى أنه لو نوى أن يذكر اللّه أو يتفكر، تكون نية الذكر والتفكير خيرا منه، وليس بصحيح.

وقيل: إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية، وهذا بعيد، لأن العمل إذا خلا عن النية لم يكن فيه خير أصلا.

وقيل: إن النية عمل القلب، والفعل عمل الجوارح، وعمل القلب خير من عمل الجوارح، فإن القلب أمير الجوارح، وبينه وبينها علاقة، فإذا تألمت تألم القلب، وإذا تألم القلب تألمت فارتعدت الفرائص وتغير اللون، فإنه الملك الراعى والجوارح جيشه ورعيته، وعمل الملك أبلغ من عمل رعيته.

وقيل: لما كانت النية أصل الأعمال كلها وروحها ولبها. والأعمال تابعة لها تصح بصحتها وتفسد بفسادها، وهى التى تقلب العمل الصالح فتجعله فاسدا، وغير الصالح تجعله صالحا مثابا عليه، ويثاب عليها أضعاف ما يثاب على العمل، فلذا كانت نية المؤمن خيرا من عمله. وقال أبو بكر بن دريد فى مجتباه: المعنى- واللّه أعلم- أن المؤمن ينوى الأشياء من أبواب البر نحو الصدقة والصوم وغير ذلك فلعله يعجز عن بعض ذلك وهو معقود النية عليه، فنيته خير من عمله.

وقوله: (يا خيل اللّه اركبى) (١) .

رواه أبو الشيخ فى الناسخ والمنسوخ عن سعيد بن جبير، والعسكرى أنس، وابن عائذ فى المغازى عن قتادة ولفظه عند ابن عائذ: قال بعث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يومئذ- يعنى يوم الأحزاب- مناديا ينادى: يا خيل اللّه اركبى.

قال العسكرى وابن دريد فى مجتباه، وهذا على المجاز والتوسع، أراد:

يا فرسان خيل اللّه اركبى، فاختصره.

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٣٩٧) ، وابن المبارك فى (الجهاد) (١٦١) من قول منادى على- رضى اللّه عنه-، وانظر (كشف الخفا) (٣١٧٠) .

وقوله: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) (١) .

رواه الشيخان وغيرهما، والمعنى- واللّه أعلم- أن حظ العاهر الحجر ولا شىء له فى الولد،

وقيل: أراد أن حظه الغلظة والخشونة من إقامة الحد التى نهايتها رميه بالحجر.

وقيل: أراد بالحجر هنا الكناية عن رجوعه بالخيبة على الولد إذا لم تكن المرأة زوجا له، واللّه أعلم.

وقوله: (كل الصيد فى جوف الفرا) (٢) .

وهو بفتح الفاء، حمار الوحش، رواه الرامهرمزى فى الأمثال، وسنده جيد، ولكنه مرسل، ونحوه عند العسكرى و

قال: جوف أو جنب.

وهذا خاطب به النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب حين جاءه مسلما بعد أن كان عدوّا له وهجاه كثير الهجاء مقذعا فيه، فكأنه يقول- صلى اللّه عليه وسلم- إن الحمار الوحشى من أعظم ما يصاد، وكل صيد دونه، كما أنك من أعظم أهلى وأمسهم رحما بى، ومن أكرم من يأتينى وكل دونك. انتهى.

وقوله: (الحرب خدعة) (٣) .

رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة

قال: سمى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الحرب خدعة. وليس عند مسلم (سمى) ،

وقوله: (خدعة) مثلث الخاء، أشهرها:

فتح الخاء وإسكان الدال، قال ثعلب وغيره: وهى لغة النبى- صلى اللّه عليه وسلم والثانية، ضم الخاء وإسكان الدال. والثالثة: ضم الخاء وفتح الدال.

وقد قال ذلك- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الأحزاب، لما بعث نعيم بن مسعود وأمره أن يخذل بين قريش وغطفان واليهود، وأشار بذلك إلى أن المماكرة أنفع من المكاثرة.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٥٣) فى البيوع، باب: تفسير المشبهات، ومسلم (١٤٥٧) فى الرضاع، باب: الولد للفراش وتوقى الشبهات، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) ذكره العجلى فى (كشف الخفا) (١٩٧٧) وعزاه للرامهرمزى فى الأمثال.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٢٨) فى الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة، ومسلم (١٧٤٠) فى الجهاد والسير، باب: جواز الخداع فى الحرب.

قال النووى: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار فى الحرب كيف أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل.

وقوله: (إياكم وخضراء الدمن) (١) .

رواه الرامهرمزى والعسكرى فى الأمثال، وابن عدى فى الكامل، وأبو بكر بن دريد فى المجتبى والقضاعى فى مسند الشهاب والديلمى من حديث الواقدى

قال: حدثنا محمد بن سعيد بن دينار عن أبى وجزة يزيد بن عبيد عن عطاء بن يزيد الليثى عن أبى سعيد مرفوعا: قيل يا رسول اللّه وماذا؟

قال: (المرأة الحسناء فى المنبت السوء) (٢) قال ابن عدى: تفرد به الواقدى.

ومعناه: أنه كره نكاح الفاسدة، و

قال: إن أعراق السوء تنزع أولادها، وتفسير حقيقته: أن الريح تجمع الدمن، وهو البعر، فى البقعة من الأرض، ثم يركبه السافى فإذا أصابه المطر أنت نبتا غضّا ناعما، يهتز وتحته الأصل الخبيث، فيكون ظاهره حسنا وباطنه قبيحا فاسدا. والدمن جمع دمنة وأنشد زفر بن الحارث:

وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا

ومعنى البيت: أن الرجلين قد يظهران الصلح والمودة، وينطويان على البغض والعداوة، كما ينبت المرعى على الدمن. وهذا أكثرى أو كلى فى زماننا، أشار إليه شيخنا.

وقوله: (الأنصار كرشى وعيبتى) (٣) .

رواه البخارى، أى إنهم بطانته، وموضع سره، والعيبة كذلك، لأن

__________

(١) أخرجه الرامهرمزى والعسكرى معا فى الأمثال عن أبى سعيد، وفيه الواقدى، كما فى (كنز العمال) (٤٥٦٢٠) .

(٢) وهو تتمة ما قبله.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧٩٩) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) ، ومسلم (٢٥١٠) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل الأنصار- رضى اللّه عنهم-، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

المجتر يجمع علفه فى كرشه، والرجل يضع ثيابه فى عيبته.

وقيل: هم الذين أعتمد عليهم وأفزع إليهم وأقوى بهم، وقيل أراد بالكرش الجماعة، أى جماعتى وصحابتى، وي

قال: عليه كرش من الناس أى جماعة، ووقع فى رواية الترمذى: (ألا إن عيبتى التى آوى إليها أهل بيتى وإن كرشى الأنصار) (١) .

وقوله: (ولا يجنى على المرء إلا يده) (٢) . رواه الشيخان.

ولأحمد وابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص: (لا يجنى جان إلا على نفسه) (٣) وقد أراد- صلى اللّه عليه وسلم- بهذا: أنه لا يؤخذ إنسان بجناية غيره، إن قتل أو جرح أو زنى، وإنما يؤخذ بما جنته يده، فيده هى التى أدته إلى ذلك.

وقوله: (ليس الشديد من غلب الناس إنما الشديد من غلب نفسه) (٤) .

رواه ابن حبان فى صحيحه، ورواه الشيخان بلفظ (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب) (٥) يعنى أنه إذا ملكها كان قد قهر أقوى أعدائه وشر خصومه. ولذلك

قال: (أعدى عدو لك نفسك التى بين جنبيك) (٦) . وهذا من باب المجاز، ومن فصيح الكلام، لأنه

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٩٠٧) فى المناقب، باب: فى فضل الأنصار وقريش، وانظر ما قبله.

(٢) لم أجده، والحديث ليس في الصحيحين.

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٢١٥٩) فى الفتن، باب: ما جاء دماؤكم وأموالكم عليكم حرام و (٣٠٨٧) فى التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وابن ماجة (٢٦٦٩) فى الديات، باب: لا يجنى أحد على أحد.

(٤) صحيح: أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٧١٧) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، وهو فى الصحيحين بلفظ الحديث الآتى.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٦١١٤) فى الأدب، باب: الحذر من الغضب، ومسلم (٢٦٠٩) في البر والصلة، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٦) ذكره العجلونى فى (كشف الخفا) (٤١٢) وقال: رواه البيهقى فى الزهد بإسناد ......

لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ وقد ثارت عليه شدة الغضب فقهرها بحلمه، وصرعها بثباته كان كالصرعة الذى يصرع الرجال ولا يصرعونه.

وقوله: (ليس الخبر كالمعاينة) (١) .

رواه أحمد وابن منيع والطبرانى والعسكرى.

وقوله: (المجالس بالأمانة) (٢) .

رواه العقيلى فى ترجمة حسين بن عبد اللّه بن ضمرة عن أبيه عن جده عن على رفعه، وعن جابر بن عتيك (إذا حدث الرجل ثم التفت فهى أمانة) (٣) ورواه أبو داود فى سننه والترمذى فى جامعه وابن أبى الدنيا فى الصمت. وغيرهم.

ففى هاتين الكلمتين من الحمل على آداب العشرة وآداب الصحبة وكتم السر، وحفظ الود وحسن العهد، وإصلاح ذات البين والتحذير من النميمة بين الإخوان، الموقعة للشنان ما لا يكاد يخفى على مبادى الأذهان.

وقوله: (البلاء موكل بالمنطق) (٤) .

رواه ابن أبى شيبة، والبخارى فى الأدب المفرد، من رواية إبراهيم عن ابن مسعود، ورواه الديلمى عن أبى الدرداء مرفوعا: (البلاء موكل بالمنطق)

__________

(١) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (١/ ٢١٥، ٢٧١) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٢١٣ و ٦٢١٤) من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) حسن: أخرجه أبو داود (٤٨٦٩) فى الأدب، باب: فى نقل الحديث، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٣٤٢) ، من حديث جابر بن عبد اللّه- رضى اللّه عنهما-،

وأخرجه أبو الشيخ ابن حبان فى التوبيخ عن عثمان، وابن عباس كما فى (صحيح الجامع) (٢٣٣٠) وانظر رقم (٦٦٧٨) أيضا.

(٣) حسن: أخرجه أبو داود (٤٨٦٨) فى الأدب، باب: فى نقل الحديث، والترمذى (١٩٥٩) فى البر والصلة، باب: ما جاء أن المجالس أمانة، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٣٢٤ و ٣٧٩ و ٣٩٤) عن جابر بن عتيك عن جابر بن عبد اللّه فذكره.

(٤) انظر (..... الجامع) (٢٣٧٧- ٢٣٨٠) .

وأورده ابن الجوزى فى ال.......ات من حديث أبى الدرداء وابن مسعود. قال شيخنا فى المقاصد الحسنة: ولا يحسن مع مجموع ما ذكرناه الحكم عليه بالوضع، ويشهد لمعناه قوله- صلى اللّه عليه وسلم- للأعرابى الذى دخل عليه يعوده. و

قال: (لا بأس طهور) فقال الأعرابى: بل هى حمى تفور على شيخ كبير تزيده القبور، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (فنعم إذا) (١) . وأنشد فى معناه:

لا تنطقن بما كرهت فربما ... نطق اللسان بحادث فيكون

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (ترك الشر صدقة) (٢) .

رواه بعضهم ومعنى ذلك أن من ترك الشر وأذى الناس فكأنه تصدق عليهم، وعلم من ذلك أن فضل ترك الشر كفضل الصدقة.

وقوله: (وأى داء أدوأ من البخل) (٣) .

رواه البخارى، والبخل قد جعله- صلى اللّه عليه وسلم- داء، وليس بداء مؤلم لصاحبه، وإنما شبهه بالداء إذ كان مفسدا للرجل مورثا له سوء الثناء، كما أن الداء يؤول إلى طول الضنا وشدة العنا، والقصد من هذا النهى عن البخل أعاذنا اللّه منه.

وقوله: (لا ينتطح فيها عنزان) (٤) .

أى لا يجرى فيها خلف ولا نزاع.

وقوله: (الحياء خير كله) (٥) متفق عليه.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٥٦) فى المرض، باب: عيادة، الأعراب، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) .......: ذكره العجلونى فى (كشف الخفا) (٩٦٦) و

قال: ذكره فى المواهب من غير عزو لأحد.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٣٧) فى فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-.

(٤) أخرجه ابن سعد عن عبد اللّه بن الحارث بن الفضيل الخطمى عن أبيه مرسلا، وابن عدى، وابن عساكر عن ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، كما فى (كنز العمال) (٤٤١٣١) .

(٥) صحيح: أخرجه مسلم (٣٧) فى الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، من حديث عمران بن حصين- رضى اللّه عنه-.

وقوله: (اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع) (١) .

رواه فى مسند الفردوس من حديث أبى هريرة.

وقوله: (سيد القوم خادمهم) (٢) .

رواه أبو عبد الرحمن السلمى فى (آداب الصحبة) له عن عقبة بن عامر رفعه، وفى سنده ضعف وانقطاع. ورواه غيره أيضا.

وقوله: (فضل العلم خير من فضل العبادة) (٣) . رواه الطبرانى والبزار.

وقوله: (الخيل فى نواصيها الخير) (٤) .

متفق عليه من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه بلفظ: (الخيل فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة) وفى لفظ لغيرهما: (معقود بنواصيها الخير) .

وقوله: (أعجل الأشياء عقوبة البغى) (٥) .

وقوله: (إن من الشعر لحكما) (٦) .

__________

(١) أخرجه عبد الرزاق عن معمر بلاغا، كما فى (كنز العمال) (٤٦٣٨٨) .

(٢) أخرجه الخطيب البغدادى فى التاريخ عن ابن عباس كما فى (..... الجامع) (٣٣٢٣) ، وأبو نعيم فى الأربعين الصوفية عن أنس كما فى المصدر السابق (٣٣٢٤) .

(٣) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١/ ١٢٠) عن حذيفة بن اليمان و

قال: رواه الطبرانى فى الأوسط والبزار وفيه عبد اللّه بن عبد القدوس، وثقه البخارى وابن حبان وضعفه ابن معين.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٤٩) فى الجهاد والسير، باب: الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة، ومسلم (١٨٧١) فى الإمارة، باب: الخيل فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة.

(٥) أخرجه ابن ماجة (٤٢١٢) فى الزهد، باب: البغى، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٦) صحيح: أخرجه البخارى (٦١٤٥) فى الأدب، باب: ما يجوز من الشعر، وأبو داود (٥٠١٠) فى الأدب، باب: ما جاء فى الشعر، وابن ماجة (٣٧٥٥) فى الأدب، باب: الشعر، من حديث أبى بن كعب- رضى اللّه عنه-، وهو عند أبى داود (٥٠١١) من حديث ابن عباس، و (٥٠١٢) من حديث بريدة- رضى اللّه عنه-.

رواه أبو داود من رواية صخر بن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه عن جده سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (إن من البيان لسحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما) فقال صعصعة بن صوحان: صدق رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. أما قوله: (إن من البيان لسحرا) فالرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأماقوله:

(إن من العلم جهلا، فتكلف العالم إلى علمه ما لم يعلم يجهله) وأما قوله:

(إن من الشعر حكما) فى هذه المواعظ والأمثال التى يتعظ بها الناس (١) .

ومفهومه: أن بعض الشعر ليس كذلك. لأن من تبعيضية. وفى البخارى: إن من الشعر حكمة. أى قولا صادقا مطابقا للحق.

قال الطبرى: وفى هذا الحديث رد على من كره الشعر مطلقا، واحتج بقول ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان. وعن أبى أمامة- رفعه- أن إبليس لما أهبط إلى الأرض

قال: رب اجعل لى قرآنا،

قال: قرآنك الشعر. ثم أجاب عن ذلك: بأنها أحاديث واهية. وهو كذلك. فحديث أبى أمامة فيه:

على بن زيد الألهانى، وهو ...... وعلى تقدير قوتها فهو محمول على الإفراط فيه والإكثار منه.

ويدل على الجواز أحاديث كثيرة، منها: ما أخرجه البخارى فى الأدب المفرد، عن عمرو بن الشريد عن أبيه: استنشدنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من شعر أمية بن أبى الصلت فأنشدته مائة قافية (٢) .

وقوله: (الصحة والفراغ نعمتان) (٣) . رواه البخارى.

__________

(١) ذكره أبو داود عقب الحديث رقم (٥٠١٢) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى فى (الأدب المفرد) (٧٩٩ و ٨٦٩) ، وهو عند مسلم (٢٢٥٥) فى أول كتاب الشعر.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٤١٢) فى الرقاق، باب: ما جاء فى الصحة والفراغ، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- بلفظ: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) .

وقوله: (استعينوا على الحاجات بالكتمان فإن كل ذى نعمة محسود) (١) .

رواه الطبرانى فى معاجمه الثلاثة عن معاذ بن جبل رفعه،

وأخرجه الخلعى عن على مرفوعا: (استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان لها) .

وقوله: (المكر والخديعة فى النار) (٢) .

رواه الديلمى عن أبى هريرة، ومعناه: أن ذا المكر والخداع لا يكون نقيّا ولا خائفا للّه، لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وإذا فعلهما أوبق وهذا لا يكون فى تقى، فكل خلة جانبت التقى فهى فى النار.

وقوله: (من غشنا فليس منا) (٣) رواه مسلم فى صحيحه.

وقوله: (المستشار مؤتمن) (٤) .

رواه أحمد وغيره. ومعناه: أن من أفضى إليك بسره وآمنك على ذات نفسه فقد جعلك بموضع نفسه، فيجب عليك أن لا تشير عليه إلا بما تراه صوابا، فإنه كالأمانة للرجل الذى لا يأمن على إيداع ماله إلا الثقة فى نفسه،

__________

(١) أخرجه الطبرانى فى (الصغير) (١١٨٦) ، وفى (الكبير) (٢٠/ ٩٤) ، وفى (مسند الشاميين) (٤٠٨) ، من حديث معاذ بن جبل- رضى اللّه عنه-. وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ١٩٥) وقال: رواه الطبرانى فى الثلاثة، وفيه سعيد بن سلام العطار، قال العجلى: لا بأس به، كذبه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات إلا أن خالد بن معدان لم يسمع من معاذ.

(٢) أخرجه أبو داود فى (المراسيل) (١٦٧) عن الحسن مرسلا، وهو عند القضاعى فى (مسند الشهاب) (١/ ١٧٥) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (١٠١) فى الإيمان، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (من غشنا فليس منا) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه أبو داود (٥١٢٨) فى الأدب، باب: فى المشورة، والترمذى (٢٨٢٢) فى الأدب، باب: إن المستشار مؤتمن، وابن ماجة (٣٧٤٥) فى الأدب، باب: المستشار مؤتمن، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

والسر الذى ربما كان فى إذاعته تلف النفس أولى بأن لا يجعل إلا عند الموثوق به.

وقوله: (الندم توبة) (١) رواه الطبرانى فى الكبير.

وقوله: (الدال على الخير كفاعله) (٢) .

رواه العسكرى وابن جميع، ومن طريقه المنذرى عن ابن عباس فى حديث مرفوع بلفظ: (وكل معروف صدقة والدال على الخير كفاعله واللّه يحب إغاثة اللّهفان) والمعنى: أن من دلك على الخير وأرشدك إليه فنلته بإرشاده فكأنه فعل ذلك الخير.

وقوله: (حبك الشىء يعمى ويصم) (٣) .

رواه أبو داود والعسكرى من حديث بقية بن الوليد، عن أبى بكر بن عبد اللّه بن أبى مريم عن خالد بن محمد الثقفى عن بلال بن أبى الدرداء عن أبيه مرفوعا، ولم ينفرد به بقية بل توبع عليه. وابن أبى مريم ...... وقد حكم الصغانى عليه بالوضع. وتعقبه العراقى و

قال: إن ابن أبى مريم لم يتهمه أحد بكذب، ويكفينا سكوت أبى داود عليه، فليس ب.......، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن.

قال العسكرى: أراد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن من الحب ما يعميك عن طريق الرشد، ويصمك عن استماع الحق، وأن الرجل إذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له رادع من عقل أو دين أصمه حبه عن العدل وأعماه عن الرشد، ولذا قال بعض الشعراء:

__________

(١) صحيح: أخرجه ابن ماجة (٤٢٥٢) فى الزهد، باب: ذكر التوبة، وأحمد فى (المسند) (١/ ٣٧٦ و ٤٢٢ و ٤٢٣ و ٤٣٣) ، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٦٧٠) فى العلم، باب: ما جاء فى الدال على الخير كفاعله من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه أبو داود (٥١٣٠) فى الأدب، باب: فى الهوى، وأحمد فى (المسند) (٥/ ١٩٤) و (٦/ ٤٥٠) .

وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدى المساويا

أشار إليه شيخنا فى المقاصد الحسنة.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضى والزعيم غارم) (١) . رواه الترمذى وأبو داود.

وقوله: (سبقك بها عكاشة) (٢) رواه البخارى.

وقوله: (عجب ربك) (٣) . من كذا.

روى فى عدة روايات عند البخارى وغيره. ومعناه كما قاله ابن الأثير:

عظم ذلك عنده وكبر لديه، أعلم اللّه أنه إنما يتعجب الآدمى من الشىء إذا عظم موقعه عنده وخفى عليه سببه، فأخبرهم بما يعرفون ليعلموا موقع هذه الأشياء عنده.

وقيل معنى عجب ربك أى رضى وأثاب، فسماه عجبا مجازا وليس بعجب فى الحقيقة. والأول أوجه.

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٥٦٥) فى الإجارة، باب: فى تضمين العارية، والترمذى (١٢٦٥) فى البيوع، باب: ما جاء فى أن العارية مؤداء، و (٢١٢٠) فى الوصايا، باب: لا وصية لوارث، وابن ماجة (٢٣٩٨) فى الصدقات، باب: العارية، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٢٦٧) ، من حديث أبى أمامة- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٧٠٥) فى الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره، ومسلم (٢٢٠) فى الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، وهو فى الصحيحين أيضا من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠١٠) فى الجهاد والسير، باب: الأسارى فى السلاسل، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه- بلفظ: (عجب اللّه ... ) ومنهج أهل السنة والجماعة إمرار صفات اللّه عز وجل كما جاءت بلا تعطيل ولا تشبيه، بل نثبت ما أثبته لنفسه، وننفى ما نفاه عن نفسه، أما تأويل بعض الصفات على غير معناها كالعجب مثلا بحجة أنه من صفات البشر، والعجب لا يدخل على اللّه، فنقول: أن اللّه عز وجل يسمع ويبصر، والإنسان كذلك يسمع ويبصر، وشتان بين سمع وبصر اللّه، وسمع وبصر العبد المخلوق، فكذلك نثبت صفة العجب للّه دون تشبيهها بصفات المخلوقين.

وقوله: (قتل صبرا) (١) رواه غير واحد.

وقوله: (ليس المسئول بأعلم من السائل) (٢) رواه مسلم وغيره.

وقوله: (ولا ترفع عصاك عن أهلك أدبا) (٣) .

رواه أحمد، أى لا تدع تأديبهم وجمعهم على طاعة اللّه، يقال شق العصا، أى فارق الجماعة، وليس المراد الضرب بالعصا، ولكنه جعله مثلا،

وقيل: لا تغافل عن أدبهم ومنعهم من الفساد، قاله ابن الأثير.

وقوله: (إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم) (٤) .

رواه البخارى، وذكره ابن دريد و

قال: إنه من الكلام الفرد الوجيز الذى لم يسبق- صلى اللّه عليه وسلم- إلى معناه. أى كل ما أنبت الجدول، وإسناد الإنبات إليه مجاز، والمنبت فى الحقيقة هو اللّه تعالى، وليست (من)للتبعيض، وحبطا:

بفتح المهملة والموحدة والطاء المهملة أيضا، وهو انتفاخ البطن من كثرة الأكل حتى ينتفخ فيموت، ويلم: بضم الياء، أى يقرب من الهلاك. وهو مثل للمنهمك فى جمع الدنيا، المانع من إخراجها فى وجهها.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (خير المال عين ساهرة لعين نائمة) (٥) .

ومعناه: عين ماء تجرى ليلا ونهارا وصاحبها نائم، فجعل دوام جريانها:

سهرا لها.

__________

(١) حسن: أخرجه البزار عن عائشة كما فى (صحيح الجامع) (٤٣٦٠) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٠) فى الإيمان، باب: سؤال جبريل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة ومسلم (٩ و ١٠) فى الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه أحمد فى (المسند) (٥/ ٢٣٨) من حديث معاذ- رضى اللّه عنه-، وهو عند الطبرانى (٢٤/ ١٩٠) من حديث أميمة مولاة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وهو عند البيهقى فى (الكبرى) (٧/ ٣٠٤) من حديث أم أيمن- رضى اللّه عنها-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٦٥) فى الزكاة، باب: الصدقة على اليتامى، ومسلم (١٠٥٢) فى الزكاة، باب: تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

(٥) لم أقف عليه.

وقوله: (خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة) (١) .

رواه أحمد والطبرانى عن سويد بن هبيرة. ومعنى مأمورة: أى كثيرة النتاج، وسكة مأبورة: أى طريقة مصطفة من النخل، ومنه قيل للأزقة:

سكة، والتأبير: تلقيح النخل. انتهى.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) (٢) رواه مسلم من حديث أبى هريرة.

وقوله: (زر غبّا، تزدد حبّا) (٣) .

رواه البزار، والحارث بن أبى أسامة عن أبى هريرة مرفوعا، وفى بعض أحاديث الباب، أنه قيل له: (يا أبا هريرة أين كنت أمس)

قال: زرت ناسا من أهلى، ف

قال: (يا أبا هريرة زر غبّا تزدد حبّا) .

وقوله: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم) (٤) .

رواه أبو يعلى والبزار من طرق، أحدها حسن بلفظ: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق.

__________

(١) رجاله ثقات، أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ٤٦٨) ، والطبرانى فى (الكبير) (٧/ ٩١) ، من حديث سويد بن هبيرة- رضى اللّه عنه-، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ٢٥٨) و

قال: رواه أحمد والطبرانى، ورجال أحمد ثقات.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٦٩٩) فى الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه البزار والطبرانى فى الأوسط والبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى هريرة، والبزار والبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى ذر، والطبرانى فى الكبير، والحاكم فى المستدرك عن حبيب بن مسلمة الفهرى، والطب فى الكبير عن ابن عمرو، والطبرانى فى الأوسط عن ابن عمر، والخطيب فى التاريخ عن عائشة كما فى (صحيح الجامع) (٣٥٦٨) .

(٤) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٣) عن أبى هريرة وقال: رواه أبو يعلى والبزار وفيه عبد اللّه بن سعيد المقبرى، وهو ...... اه.

وقوله: (الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل) (١) رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط والبيهقى.

وقوله: (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة اللّه، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى) (٢) .

رواه البزار والحاكم فى علومه، والبيهقى فى سننه، كلهم من طريق محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا.

وهو مما اختلف فيه على ابن سوقة فى إرساله ووصله، وفى رفعه ووقفه، ثم فى الصحابى، أهو جابر أو عائشة أو عمر. ورجح البخارى فى تاريخه من حديث ابن المنكدر الإرسال، ومعناه: أنه بقى فى طريقه عاجزا عن مقصده، ولم يقض وطره، وقد أعطب ظهره.

والوغول: الدخول، فكأنه

قال: إن هذا الدين- مع كونه يسيرا سهلا شديد، فبالغوا فيه بالعبادة، لكن اجعلوا تلك المبالغة مع رفق، فإن من بالغ بغير رفق وتكلف من العبادة فوق طاقته يوشك أن يمل حتى ينقطع عن الواجبات، فيكون مثله كمثل الذى يعسف الركاب ويحملها على السير على ما لا تطيق رجاء الإسراع، فينقطع ظهره، فلا هو الذى قطع الأرض التى أراد، ولا هو أبقى ظهره سالما ينتفع به بعد ذلك.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (من شاد هذا الدين غلبه) .

رواه العسكرى عن بريدة، وللبخارى من حديث معن بن محمد الغفارى عن سعيد المقبرى عن أبى هريرة مرفوعا: (إن الدين يسر، ولن يشاد

__________

(١) جدّا: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٤) عن ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، و

قال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط، وفيه عيسى بن ميمون المدنى، وهو ...... اه.

(٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١/ ٦٢) وقال: رواه البزار، وفيه يحيى بن المتوكل، أبو عقيل، وهو كذاب.

الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشىء من الدلجة) (١) .

وقوله: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه الأمانى) (٢) .

رواه الحاكم عن شداد بن أوس، و

قال: صحيح على شرط البخارى، وتعقبه الذهبى بأن فيه ابن أبى مريم وهو واه. وكذا رواه العسكرى والقضاعى والترمذى وابن ماجة.

وقوله: (ما حاك فى نفسك فدعه) (٣) .

رواه الطبرانى فى الكبير من حديث أبى أمامة.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (تنكح المرأة لجمالها ومالها ودينها وحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك) (٤) . متفق عليه من حديث أبى هريرة.

وقوله: (الشتاء ربيع المؤمن، قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه) (٥) رواه البيهقى وأحمد وأبو نعيم مختصرا، والعسكرى بتمامه، كلهم من حديث دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد، وله شواهد.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٩) فى الإيمان، باب: الدين يسر.

(٢) أخرجه الترمذى (٢٤٥٩) فى صفة القيامة، باب: منه، وابن ماجة (٤٢٦٠) فى الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له، وأحمد فى (المسند) (٤/ ١٢٤) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ١٢٥) و (٤/ ٢٨٠).

(٣) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٥/ ٢٥٢ و ٢٥٥) ، وابن حبان فى (صحيحه) (١٧٦) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٥٨) و (٤/ ١١١) ، والطبرانى فى (الكبير) (٨/ ١١٧) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٥٠٩٠) فى النكاح، باب: الأكفاء فى النكاح، ومسلم (١٤٦٦) فى الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين.

(٥) أخرجه أحمد فى المسند (٣/ ٧٥) مختصرا، والبيهقى فى (الكبرى) (٢/ ٢٩٧) ، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-، وانظر (..... الجامع) (٣٤٢٩ و ٣٤٣٠) .

وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه فى بساتين الطاعات، ويسرح فى ميادين العبادات، ويتنزه قلبه فى رياض الأعمال الميسرة فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة ولا يحصل له جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد فلا يحصل فيه مشقة الصيام.

وقوله: (القناعة مال لا ينفد وكنز لا يفنى) (١) .

رواه الطبرانى فى الأوسط من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر، والقضاعى بدون: (وكنز لا يفنى) عن أنس.

وفى القناعة أحاديث كثيرة، ولو لم يكن فى القنع إلا التمتع بالعز لكفى صاحبه، وكان من دعائه- صلى اللّه عليه وسلم-:

(اللّهم قنعنى بما رزقتنى) (٢) وأنشد بعضهم:

ما ذاق طعم الغنى من لا قنوع له ... ولن ترى قانعا ما عاش مفتقرا

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد) (٣) رواه الطبرانى فى معجمه الأوسط من حديث أنس.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (الاقتصاد فى النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم) (٤) .

رواه البيهقى فى الشعب، والعسكرى فى الأمثال، وابن السنى والديلمى من طريقه والقضاعى كلهم من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعا. وضعفه

__________

(١) جدّا: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٢٥٦) عن جابر، و

قال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه خالد بن إسماعيل المخزومى. اه،

وأخرجه القضاعى عن أنس كما فى (كنز العمال) (٧٠٨٠) .

(٢) أخرجه العسكرى فى (الأمثال) ، عن ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، كما فى (كنز العمال) (٥٠٩٤) .

(٣) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٩٦) و

قال: رواه الطبرانى فى الأوسط والصغير من طريق عبد السلام بن عبد القدوس، وكلاهما ......

(٤) أخرجه الطبرانى فى (مكارم الأخلاق) ، والبيهقى فى (شعب الإيمان) عن ابن عمر، كما فى (..... الجامع) (٢٢٨٦) .

البيهقى، لكن له شاهد عند العسكرى من حديث خلاد بن عيسى عن ثابت عن أنس رفعه: (الاقتصاد نصف العيش، وحسن الخلق نصف الدين) (١) وكذا أخرجه الطبرانى وابن لال. ومن شواهده أيضا: ما للعسكرى عن أنس رفعه: (السؤال نصف العلم، والرفق نصف المعيشة، وما عال امرؤ فى اقتصاد) (٢) وللديلمى من حديث أبى أمامة رفعه: (السؤال نصف العلم والرفق نصف المعيشة) (٣) .

وفى صحيح ابن حبان من حديث طويل عن أبى ذر أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال له: (يا أبا ذر، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كسحن الخلق) (٤) وهذا اللفظ عندالبيهقى فى الشعب. وله أيضا وللعسكرى عن على مرفوعا: (التودد نصف الدين، وما عال امرؤ قط على اقتصاد) (٥) أى:

ما افتقر من أنفق قصدا ولم يجاوزه إلى الإسراف.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (المؤمن من أمنه الناس) (٦) . رواه الترمذى.

وقوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما حرم اللّه) (٧) . متفق عليه عن ابن عمرو، به مرفوعا، وعن أبى موسى، ومسلم عن جابر.

__________

(١) انظر (..... الجامع) (٢٢٨٧) .

(٢) أخرجه العسكرى فى الأمثال عن أنس، كما فى (كنز العمال) (٢٩٢٦١) وفيه شبيب بن بشر لين الحديث.

(٣) أخرجه الحاكم فى (تاريخه) كما فى (كنز العمال) (٢٩٢٦٠) .

(٤) إسناده ..... جدّا: أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٣٦١) ضمن حديث طويل جدّا بسند ..... جدّا.

(٥) انظر (كشف الخفا) (٤٧٦) .

(٦) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٦٢٧) فى الإيمان، باب: ما جاء المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والنسائى (٨/ ١٠٤) فى الإيمان وشرائعه، باب: صفة المؤمن، وأحمد فى (المسند) (٢/ ٣٧٩) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٧) صحيح: أخرجه البخارى (١٠) فى الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ومسلم (٤٠) بعضه فى الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأى أموره أفضل.

وقوله: (قلة العيال أحد اليسارين) (١) .

رواه صاحب مسند الفردوس لفظه: (التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين) .

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) (٢) .

رواه أبو داود والترمذى من رواية شريك وقيس بن الربيع، كلاهما عن أبى صالح والحارث من رواية الحسن، كلاهما عن أبى هريرة، وقال الترمذى: حديث حسن غريب،

وأخرجه الدارمى فى مسنده، والدارقطنى والحاكم و

قال: إنه صحيح على شرط مسلم، ولكن أعله ابن حزم وكذا ابن القطان والبيهقى. وقال أبو حاتم: إنه .......، وقال الشافعى: إنه ليس بثابت عند أهله. وقال أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من وجه صحيح. قال شيخنا لكن بانضمامها يقوى الحديث. انتهى.

وقوله: (الرضاع يغير الطباع) (٣) رواه أبو الشيخ من حديث ابن عمر.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) (٤) .

رواه أحمد وأبو يعلى فى مسنديهما، والبيهقى فى الشعب عن أنس.

وقوله: (النساء حبائل الشيطان) (٥) رواه فى مسند الفردوس عن عقبة ابن عامر.

__________

(١) أخرجه القضاعى عن على، والديلمى فى (مسند الفردوس) عن أنس، كما فى (..... الجامع) (٢٥٠٥) .

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٥٣٥) فى الإجارة، باب: فى الرجل يأخذ حقه من تحت يده، والترمذى (١٢٦٤) فى البيوع، باب: رقم (٣٨) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه القضاعى عن ابن عباس، كما فى (..... الجامع) (٣١٥٦) .

(٤) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ١٣٥ و ١٥٤ و ٢١٠ و ٢٥١) ، وابن حبان فى (صحيحه) (١٩٤) ، وأبو يعلى فى مسنده (٢٨٦٣ و ٣٤٤٥).

(٥) أخرجه الديلمى فى (مسند الفردوس) عن عقبة بن عامر كما فى (كشف الخفا) (٢٨٠٢) ، والخرائطى فى (اعتلال القلوب) عن زيد بن خالد الجهنى، كما فى (..... الجامع) (٣٤٢٨) .

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (حسن العهد من الإيمان) (١) .

رواه الحاكم فى مستدركه، عن عائشة

قالت: جاءت عجوز إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو عندى فقال لها: (من أنت؟)

فقالت: جثامة المزينة

قال: (أنت حسانة، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا)

قالت: بخير بأبى أنت وأمى، فلما خرجت قلت: يا رسول اللّه، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟

قال: (إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان) و

قال: إنه صحيح على شرط الشيخين وليس له علة.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (الخمر جماع الإثم) (٢) .

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (جمال الرجل فصاحة لسانه) (٣) .

رواه القضاعى من حديث الأوزاعى والعسكرى من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر، كلاهما عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا.

وأخرجه أيضا الخطيب وابن طاهر، وفى إسناده أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقى والديلمى من حديث جابر رفعه: (الجمال صواب المقال، والكمال حسن الفعال بالصدق) .

وعند العسكرى من حديث العباس: قلت يا نبى اللّه ما الجمال فى الرجل:

قال: (فصاحة لسانه) .

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا) (٤) .

__________

(١) حسن: أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (١/ ٦٢) من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) أخرجه القضاعى فى (مسند الشهاب) (١/ ٦٨) .

(٣) أخرجه القضاعى فى (مسند الشهاب) (١/ ١٦٤) .

(٤) أخرجه الدارمى فى (سننه) (٣٣٢) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٠/ ١٨٠) ، والقضاعى فى (مسند الشهاب) (١/ ٢١٢) ، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-، مرفوعا موقوفا، ولعل الصواب وقفه.

رواه الطبرانى فى الكبير والقضاعى عن ابن مسعود، وهو عند البيهقى فى المدخل: عن القاسم

قال: قال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان طالب علم وصاحب الدنيا. ولا يستويان، أما صاحب الدنيا فيتمادى فى الطغيان، وأما صاحب العلم فيزداد من رضى الرحمن. و

قال: إنه موقوف منقطع.

وكذا رواه البزار والعسكرى وغيرهما وبمجموعها يتقوى، وإن كانت مفرداته .....ة، واللّه أعلم.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أكثر من العقل، ولا وحشة أشد من العجب) (١) رواه ابن ماجة.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (الذنب لا ينسى، والبر لا يبلى، والديان لا يموت، فكن كما شئت) (٢) رواه فى مسند الفردوس عن ابن عمر.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما جمع شىء إلى شىء أحسن من حلم إلى علم) (٣) .

رواه العسكرى فى الأمثال من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن على ابن الحسين عن أبيه عن على مرفوعا بزيادة: (وأفضل الإيمان التحبب إلى الناس، ثلاث من لم تكن فيه فليس منى ولا من اللّه، حلم يرد به جهل الجاهل، وحسن خلق يعيش به فى الناس، عفا رجل عن مظلمة إلا زاده اللّه تعالى بها عزّا) (٤) .

__________

(١) ذكره العجلونى فى (كشف الخفا) (٣٠٣٨) وعزاه لابن ماجة والطبرانى عن أبى ذر، ولم أجده فيها، وفى الباب عن على بن أبى طالب يسأل ابنه الحسن فأجابه بذلك.

(٢) مرسل: أخرجه عبد الرزاق عن أبى قلابة مرسلا، كما فى (..... الجامع) (٢٣٦٩) .

(٣) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١/ ١٢١) عن على وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والصغير من رواية حفص بن بشر عن حسن بن الحسين بن يزيد العلوى عن أبيه، ولم أر من ذكر أحدا منهم. اه. وانظر (..... الجامع) (٥٠٥١) ، و (كشف الخفا) (٢٢٠٤ و ٢٧٣٤) .

(٤) انظر ما قبله.

وعنده أيضا من حديث جابر مرفوعا: (ما أوى شىء إلى شىء أحسن من حلم إلى علم، وصاحب العلم غرثان إلى حلم) (١) .

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (التمسوا الرزق فى خبايا الأرض) (٢) .

رواه فى جزء ب ى ب ى (٣) عن ابن أبى شريح والمراد الزرع، وأنشدوا:

تتبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يوما أن تجاب فترزقا

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك فى أهل القبور) (٤) رواه البيهقى فى الشعب والعسكرى من حديث ابن عمر مرفوعا:

وأخرجه البخارى والترمذى وغيرهم.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (صنائع المعروف تقى مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد فى العمر) (٥) . خرج الطبرانى فى الكبير بسند حسن.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (العفو لا يزيد العبد إلا عزّا، والتواضع لا يزيده إلا رفعة. وما نقص مال من صدقة) (٦) .

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١/ ١٦٢) و

قال: رواه أبو يعلى، وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ..... جدّا. اه.

(٢) أخرجه الدارقطنى فى الأفراد، والبيهقى فى الشعب عن عائشة، وابن عساكر عن عبد اللّه بن أبى عباس بن أبى ربيعة، كما فى (..... الجامع) (١١٥٠) ، وانظر رقم (٩٠٥) أيضا.

(٣) كذا بالأصل.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٦٤١٦) فى الرقاق، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) طرفه الأول، والترمذى (٢٣٣٣) فى الزهد، باب: ما جاء فى قصر الأمل، وابن ماجة (٤١١٤) فى الزهد، باب: مثل الدنيا.

(٥) حسن: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ١١٥) عن أبى أمامة و

قال: رواه الطبرانى فى الكبير وإسناده حسن. اه.

(٦) أخرجه ابن أبى الدنيا فى (ذم الغضب) عن محمد بن عمير العبدى، كما فى (كنز العمال) (٥٧١٩) .

وروى مسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد اللّه عبدا بعفو إلا عزّا، وما تواضع أحد للّه إلا رفعه اللّه) (١) .

وروى القضاعى عن أبى سلمة عن أم سلمة مرفوعا: (ما نقص مال من صدقة ولا عفا رجل عن مظلمة إلا زاده اللّه تعالى بها عزّا) (٢) .

وروى الديلمى من حديث أبى هريرة مرفوعا: (والذى نفس محمد بيده لا ينقص مال من صدقة) (٣) رواه الترمذى وقال حسن صحيح.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-:

(اللّهم إنى أعوذ بك من شر سمعى، ومن شر بصرى، ومن شر لسانى ومن شر قلبى ومن شر منيى (٤) ) (٥) أخرجه أبو داود والترمذى فى جامعه والحاكم فى مستدركه عن شكل.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-:

(اللّهم إنى أعوذ بك من شر فتنة الغنى) (٦) رواه الترمذى والنسائى وأبو داود وابن ماجه.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك عادل قادر، يحق فيها الحق ويبطل

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٥٨٨) فى البر والصلة، باب: استحباب العفو والتواضع، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ١٠٥) و

قال: رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط، وفيه زكريا بن دويد، وهو ..... جدّا.

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٠٢٩) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى التواضع.

(٤) المنى: المراد شر الفرج،

وقيل: من المنية، أى الموت.

(٥) صحيح: أخرجه أبو داود (١٥٥١) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، والترمذى (٣٤٩٢) فى الدعوات، باب: رقم (٧٦) ، والنسائى (٨/ ٢٦٠) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من شر السمع والبصر، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٤٢٩) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٧١٥).

(٦) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٦٨) فى الدعوات، باب: التعوذ من المأثم والمغرم، ومسلم (٥٨٩) فى الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر الفتن وغيرها، وأبو داود (١٥٤٣) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، والترمذى (٣٤٩٥) فى الدعوات، باب: رقم (٧٧) ، والنسائى (٨/ ٢٦٦) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من شر فتنة الغنى، وابن ماجه (٣٨٣٨) فى الدعاء، باب: ما تعوذ منه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

الباطل، فكونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا. فإن كل أم يتبعها ولدها) (١) رواه أبو نعيم فى الحلية من حديث شداد.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (أخسر الناس صفقة من أذهب آخرته بدنيا غيره) (٢) .

وعند ابن النجار من حديث عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه وهو مما بيض له الديلمى: (أخسر الناس صفقة رجل أخلق يديه فى آماله ولم تساعده الأيام على أمنيته، فخرج من الدنيا بغير زاد وقدم على اللّه بغير حجة) (٣) .

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن من كنوز البر كتمان المصائب) (٤) .

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (اليمين حنث أو ندم) (٥) .

رواه أبو يعلى وابن ماجه إلا أنه

قال: (إنما الحلف) (٦) .

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه اللّه ويبتليك) (٧) . رواه الترمذى من حديث مكحول عن واثلة، و

قال: حسن غريب، وهو عند

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٢/ ١٨٩) عن شداد بن أوس، وقاله: رواه الطبرانى فى (الكبير) ، وفيه أبو مهدى سعيد بن سنان، وهو ..... جدّا.

(٢) أخرجه ابن ماجة (٣٩٦٦) فى الفتن، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما من حديث أبى أمامة- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه ابن النجار فى تاريخه عن عامر بن ربيعة، وهو مما بيض له الديلمى (أى لم يذكر سنده، تركه أبيضا لعدم وقوفه على سنده) ، كما فى (..... الجامع) (٢٣٧) .

(٤) أخرجه أبو نعيم فى الحلية عن ابن عمر، كما فى (..... الجامع) (٥٣١١) .

(٥) أخرجه أبو يعلى فى (مسنده) (٥٥٨٧) ، وهو عند ابن ماجة (٢١٠٣) فى الكفارات، باب: اليمين حنث أو ندم، بلفظ: (إنما الحلف) ، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٦) انظر ما قبله.

(٧) أخرجه الترمذى (٢٥٠٦) فى صفة القيامة، باب: رقم (١٨) ، والطبرانى فى (الكبير) (٢٢/ ٥٣) ، من حديث واثلة بن الأسقع- رضى اللّه عنه-.

الطبرانى أيضا، وفى رواية لابن أبى الدنيا: (فيرحمه اللّه) بدل: فيعاقبه اللّه، وروى الترمذى مرفوعا: (من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله) (١) .

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم- لأبى هريرة: (جف القلم بما أنت لاق) (٢) .

قال صاحب فتح المنة بشرح الأخبار لمحيى السنة: هو كناية عن جريان القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها، فإن الفراغ بعد الشروع يستلزم جفاف القلم عن مداده، فهو من إطلاق اللازم على الملزوم، وهذا اللفظ لم يوجد فى كلام العرب، بل هو من الألفاظ التى لم يهتد إليها البلغاء، بل اقتضتها الفصاحة النبوية.

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (اليوم الرهان وغدا السباق والغاية الجنة والهالك من دخل النار) (٣) .

وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (من ضمن لى ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له على اللّه الجنة) (٤) .

رواه الجماعة، منهم العسكرى عن جابر، وفى البخارى والترمذى عن سهل بن سعد بلفظ: (من يضمن لى ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) . والمراد بما بين لحييه: اللسان وما يأتى به النطق، وما بين رجليه:

الفرج، وقال الداودى: المراد بما بين اللحيين: الفم، فيتناول الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يأتى بالفم.

__________

(١) أخرجه الترمذى (٢٥٠٥) فى صفة القيامة، باب: رقم (١٨) ، من حديث معاذ ابن جبل- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٠٧٦) فى النكاح، باب: ما يكره من التبتل والخصاء.

(٣) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٢٢٨) عن ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، و

قال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، وفيه أصدم بن حوشب وفى إسناده الأوسط الوليد بن الفضل العنزى، وهو ..... جدّا.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٦٤٧٤) فى الرقاق، باب: حفظ اللسان، من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-.

وفى لفظ: (من توكل لى ما بين فقميه ورجليه أتوكل له بالجنة) (١) .

والفقم: بالضم والفتح: اللحى.

وفى لفظ آخر: (من تكفل لى تكفلت له) .

وللديلمى- بسند .....- عن أنس رفعه: (من وقى شر قبقبه وذبذبه ولقلقه وجبت له الجنة) (٢) ولفظ الإحياء: وقى يعنى البطن من القبقبة، وهو صوت يسمع فى البطن، وكأنها حكاية ذلك الصوت، ويجوز أن يكون كناية عن أكل الحرام وشبهه، والذكر واللسان.

فهذا وأشباهه، مما يعسر استقصاؤه. يدلك على ذلك أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قد رقى من الفصاحة وجوامع الكلم درجة لا يقاس بها غيره، وحاز مرتبة لا يقدر فيها قدره- صلى اللّه عليه وسلم-.

ومما عد من وجوه بلاغته: ما ذكر أنه جمع متفرقات الشرائع وقواعد الإسلام فى أربعة أحاديث وهى:

حديث (إنما الأعمال بالنية) (٣) رواه الشيخان.

وحديث (الحلال بين والحرام بين) (٤) رواه مسلم.

وحديث (البينة على المدعى واليمين على من أنكر) (٥) .

__________

(١) أخرجه العسكرى فى الأمثال عن سهل بن سعد، كما فى (كنز العمال) (٤٣٢٠١) .

(٢) انظر (كشف الخفاء) (٢٥٢٣) .

(٣) صحيح: وقد تقدم.

(٤) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٥٢) فى الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (١٥٩٩) فى المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، من حديث النعمان بن بشير- رضى اللّه عنه-.

(٥) صحيح: أخرجه الترمذى (١٣٤١) فى الأحكام، باب: ما جاء فى أن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، من حديث ابن عمرو- رضى اللّه عنهما-، وهو فى الصحيحين بلفظ: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، وانظر (صحيح الجامع) (٢٨٩٧) .

وحديث (لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (١) رواه الشيخان.

فالحديث الأول: يشتمل على ربع العبادات.

والثانى: على ربع المعاملات.

والثالث: على ربع الحكومات وفصل الخصومات.

والرابع: على ربع الآداب والمناصفات ويدخل تحته التحذير من الجنايات. قاله ابن المنير.

ومما عدّ أيضا من أنواع بلاغته كلامه- صلى اللّه عليه وسلم- مع كل ذى لغة بليغة بلغته اتساعا فى الفصاحة، واستحداثا للألفة، فكان- صلى اللّه عليه وسلم- يخاطب أهل الحضر وبكلام ألين من الدهن وأرق من المزن، ويخاطب أهل البدو بكلام أرسى من الهضب، وأرهف من العضب.

فانظر إلى دعائه لأهل المدينة وقد سألوه ذلك ف

قال:

(اللّهم بارك لهم فى مكيالهم وبارك لهم فى صاعهم ومدهم) (٢) وفى حديث آخر:

(اللّهم بارك لنا فى تمرنا وبارك لنا فى مدينتنا، وبارك لنا فى صاعنا، وبارك لنا فى مدنا.

اللّهم إنى أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة ومثله معه) .

ثم انظر دعاءه لبنى نهد وقد وفدوا عليه فى جملة الوفود، فقام طهفة ابن رهم النهدى يشكو الجدب ف

قال: أتيناك يا رسول اللّه من غورى تهامة، بأكوار الميس، ترتمى بنا العيس، نستحلب الصبير، ونستخلب الخبير، ونستعضد البرير، ونستخيل الرهام، ونستجيل الجهام، من أرض غائلة النطا،

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٣) فى الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم (٤٥) فى الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، وهو فيها بلفظ: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢١٣٠) فى البيوع، باب: بركة صاع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ومدهم، ومسلم (١٣٦٨) فى الحج، باب: فضل المدينة، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

غليظة الوطا، قد نشف المدهن، ويبس الجعثن، وسقط الأملوج، ومات العسلوج، وهلك الهدى، ومات الودى، برئنا إليك يا رسول اللّه من الوثن والعنن وما يحدث الزمن، لنا دعوة السلام وشريعة الإسلام، ما طمى البحر وقام تعار، ولنا نعم همل، أغفال ما تبل ببلال، ووقير كثير الرسل، قليل الرسل، أصابتها سنية حمراء مؤزلة، وليس لها علل ولا نهل.

فقال لهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-:

(اللّهم بارك لهم فى محصنها ومخضها ومذقها، وابعث راعيها فى الدثر بيانع الثمر، وافجر له الثمد، وبارك له فى المال والولد، من أقام الصلاة كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلا اللّه كان مخلصا، لكم يا بنى نهد ودائع الشرك، ووضائع الملك، لا تلطط فى الزكاة، ولا تلحد فى الحياة، ولا تتثاقل عن الصلاة) .

ثم كتب معه كتابا إلى بنى نهد: (بسم اللّه الرحمن الرحيم: من محمد رسول اللّه إلى بنى نهد بن زيد، السلام على من آمن باللّه عز وجل ورسوله، لكم يا بنى نهد فى الوظيفة الفريضة، ولكم الفارض والفريش، وذو العنان الركوب، والفلو الضبيس، لا يمنع سرحكم، لا يعضد طلحكم، ولا يحبس دركم ما لم تضمروا الإماق، وتأكلوا الرباق، من أقر بما فى هذا الكتاب فله من رسول اللّه الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى فعليه الربوة) (١) وتحتاج هذه الألفاظ البالغة أعلى أنواع البلاغة إلى تفسير:

فالميس: شجر صلب تعمل منه أكوار الإبل ورحالها. نستحلب- بالحاء المهملة- الصبير: بفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة، وهو سحاب أبيض متراكب متكاثف. أى نستدر السحاب. ونستخلب- بالخاء المعجمة- الخبير:

بالخاء المعجمة أيضا ثم الموحدة: النبات والعشب، شبه بخبير الإبل وهو وبرها، واستخلابه: احتشاشه بالمخلب وهو المنجل، والخبير: يقع على الوبر والزرع والأكار قاله ابن الأثير.

ونستعضد البرير: أى نقطعه ونجنيه من شجره للأكل، هو بموحدة

__________

(١) انظر (كنز العمال) (٣٠٣١٧) .

وراءين بينهما مثناة تحتية، ثمر الأراك إذا اسود وبلغ،

وقيل: وهو اسم له فى كل حال، وكانوا يأكلونه فى الجدب. ونستخبل- بالخاء المعجمة- الرهام:

بكسر الراء، وهى الأمطار ال.....ة، واحدتها رهمة، أى نتخيل الماء فى السحاب القليل،

وقيل: الرهمة أشد وقعا من الديمة. ونستجيل: بالجيم، أى نراه جائلا تذهب به الريح هاهنا وهاهنا. والجهام: بالجيم، أى السحاب الذى فرغ ماؤه. ومن روى نستخيل- بالخاء المعجمة- فهو نستفعل من (خلت، أخال) إذا ظننت، أراد أن لا نتخيل فى السحاب حالا إلا المطر وإن كان جهاما لشدة حاجتنا إليه، ومن رواه بالحاء المهملة- وهو الأشهر- أراد:

لا ننظر من السحاب فى حال إلا جهام من قلة المطر.

وأرض غائلة- بالغين المعجمة- والنطا- بكسر النون- أى مهلكة للبعد،

يقال: بلد نطى، أى بعيد، ويروى المطى وهو مفعل منه. والمدهن: نقرة فى الجبل. والجعثن: بالجيم والمثلاثة، أصل النبات،

ويقال: أصل الصليان خاصة وهو نبت معروف. والعسلوج: بضم العين وبالسين المهملتين، آخره جيم، وهو الغصن إذا يبس وذهبت طراوته،

وقيل: هو القضيب الحديث الطلوع، يريد أن الأغصان يبست وهلكت من الجدب، وجمعه: عساليج.

والأملوج: بالضم والجيم، ورق شجر يشبه الطرفاء والسرو،

وقيل: هو ضرب من النبات ورقه كالعيدان،

وقيل: هو نوى المقل. وفى رواية: وسقط الأملوج من البكارة- بالكسر- جمع البكرة- بالفتح- يريد أن السمن الذى قد علا بكارة الإبل بما رعت من هذه الشجرة قد سقط عنها، فسماه باسم المرعى، إذ كان سببا له.

وهلك الهدى: بفتح الهاء وكسر الدال المهملة والتشديد، كالهدى بالتخفيف، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لتنحر، فأطلق على جميع الإبل لم وإن لم تكن هديا، تسمية للشىء ببعضه،

يقال: كم هدى بنى فلان؟ أى كم إبلهم.

ومات الودى: بالتشديد، فسيل النخل، يريد هلكت الإبل ويبست

النخيل. وبرئنا إليك من الوثن والعنن: الوثن: الصنم، والعنن، الاعتراض،

يقال: عنّ لى الشىء أى اعترض، كأنه

قال: برئنا إليك من الشرك والظلم،

وقيل: أراد به الخلاف والباطل. وما طمى البحر: أى ارتفع بأمواجه. وتعار:

بكسر التاء المثناة الفوقية، يصرف ولا يصرف، اسم جبل: ولنا نعم همل: أى مهملة لا رعاء لها، ولا فيها ما يصلحها ويهديها، فهى كالضالة. والإبل الأغفال: لا لبن فيها.

وقوله- عليه الصلاة والسلام-. فى محضها: بالحاء المهملة والضاد المعجمة، أى خالص لبنها.

ومخضها: بالمعجمة، ما مخض من اللبن وأخذ زبده. ومذقها: بفتح الميم وسكون المعجمة وبالقاف، أى ممزوج بالماء.

وابعث راعيها فى الدثر: بالمهملة المفتوحة ثم المثلاثة الساكنة ثم الراء، المال الكثير،

وقيل: الخصب والنبات الكثير.

وافجر له الثمد: بفتح المثلاثة، الماء القليل، أى صيره كثيرا.

وودائع الشرك: قيل المراد بها العهود والمواثيق،

يقال: توادع الفريقان، إذا أعطى كل واحد منهم عهده للآخر لا يغزوه،

وقيل: ما كانوا استودعوه من أموال الكفار الذين لم يدخلوا فى الإسلام، أراد إحلالها لهم لأنها مال كافر قدر عليه من غير عهد ولا شرط.

ووضائع الملك: جمع وضيعة، وهى الوظيفة التى تكون على الملك، وهى ما يلزم الناس فى أموالهم من الزكاة والصدقة، أى لكم الوظائف التى تلزم المسلمين لا تتجاوز عنكم ولا نزيد عليكم فيها شيئا.

ولا تلطط، بضم المثناة الفوقية، ثم اللام الساكنة ثم طاآن، الأولى مكسورة والثانية مجزومة على النهى، أى لا تمنعها. ولا تلحد فى الحياة:

بضم المثناة الفوقية وإسكان اللام وكسر الحاء المهملة آخره دال مهملة، أى: لا تمل عن الحق ما دمت حيّا. قال بعضهم: كذا رواه القتيبى: لا تلطط ولا

تلحد على النهى للواحد، ولا وجه له لأنه خطاب للجماعة، ورواه غيره ما لم يكن عهد ولا موعد ولا تثاقل عن الصلاة، ولا تلطط فى الزكاة ولا تلحد فى الحياة. قال الحافظ أبو السعادات الجزرى، وهو الوجه، لأنه خطاب للجماعة واقع على ما قبله.

وقوله: (ولا تتثاقل عن الصلاة) أى لا تتخلف. والوظيفة: الحق الواجب. والفريضة: أى الهرمة المسنة، أى لا تأخذ فى الصدقات هذا الصنف كما أنا لا نأخذ خيار المال.

والفارض: - بالفاء والضاد المعجمة- المريضة. والفريش: بفتح الفاء آخره شين معجمة، وهى من الإبل كالنفساء من بنات آدم، أى لكم خيار المال وشراره، ولنا وسطه. وذون العنان: بكسر العين، سير اللجام. والركوب:

بفتح الراء، أى الفرس الذلول. والضبيس، بفتح المعجمة وكسر الموحدة آخره مهملة، المهر العسر الصعب. امتن عليهم بترك الصدقة فى الخيل جيدها ورديئها. ولا يمنع- بضم المثناة التحتية وفتح النون-، سرحكم- بفتح السين المهملة وسكون الراء وبالحاء المهملة- ما سرح من المواشى، أى لا يدخل عليكم أحد فى مراعيكم. ولا يعضد طلحكم: أى لا يقطع. ولا يحبس دركم: أى لا تحبس ذوات الدر عن المرعى إلى أن تجمع الماشية ثم تعد، أو أنا منعناه أن يأخذها لما فى ذلك من الإضرار.

والإماق: بالميم، أى ما لم تضمروا الغيظ، والبكاء، مما يلزمكم من الصدقة، قاله فى القاموس. وقال الزمخشرى: المراد إضمار الكفر والعمل على ترك الاستبصار فى دين اللّه، وفى رواية: الرماق- بالراء والميم- أى النفاق،

يقال: رامقته رماقا، وهو أن تنظر إليه شزرا نظرة العداوة، يعنى ما لم تضق قلوبكم عن الحق،

يقال: عيش رماق، أى ضيق، وعيش رمق ومرمق: أى يمسك الروح، والرمق: بقية الروح وآخر النفس.

وتأكلوا الرباق- بكسر الراء وبالموحدة المخففة- أى إلا أن تنقضوا

العهد، واستعار الأكل لنقض العهد لأن البهيمة إذا أكلت الربق- وهو الحبل تجعل فيه عرى وتشد به- خلصت من الرباط.

والربوة: - بكسر الراء وفتحها وضمها- أى الزيادة. يعنى: من تقاعد عن إعطاء الزكاة فعليه الزيادة فى الفريضة عقوبة له.

فانظر إلى هذا الدعاء والكتاب الذى انطبق على لغتهم، وجاد وزاد عليها فى الجزالة والبداوة وأين هذا من كتابه- صلى اللّه عليه وسلم- لأنس فى الصدقة، وأين ذلك من كتابه بين قريش والأنصار أنهم أمة واحدة دون الناس من قريش على رباعتهم، يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى، ويفكون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين المتقين أيديهم على من بغى عليهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، وأن سلم المؤمنين واحد على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت يعقب بعضهم بعضا، ومن اعتبط مؤمنا قتلا فهو قود إلا أن يرضى ولى المقتول، ومن ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأولاهم بهذه الصحيفة البر المحسن. كذا روى مختصرا من حديث ابن شطب.

وقوله: دسيعة ظلم: أى عظيمة من الظلم. ورباعتهم: أمرهم القديم الذى كانوا عليه. ويتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى: أى يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها، وهو تفاعل من العقل، والمعاقل الديات، جمع معقلة، ي

قال: بنو فلان على معاقلهم التى كانوا عليها، أى مراتبهم وحالتهم.

ولا يوتغ: أى لا يهلك. ويعقب بعضهم بعضا: أى يكون الغزو بينهم نوبا، فإذا خرجت طائفة ثم عادت لم تكلف أن تعود ثانية حتى يعقبها غيرها. وأين هذا اللين فى القول، وقرب المأخذ فى اللفظ على طريق الحاضرة وعرف الجمهور المشهور من كتابه لذى المشعار الهمدانى، لما لقيه وفد همدان مقدمه من تبوك، فقال مالك بن نمط: يا رسول اللّه، نصية من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج، متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم فى اللّه لومة لائم، من مخلاف خارف ويام لا ينقض عهدهم عن سنة ماحل، ولا سوداء عنقفير، ما قام لعلع، وما جرى اليعفور بصلع.

فكتب إليهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: هذا كتاب من محمد رسول اللّه لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحفاف الرمل، مع وافدها ذى المشعار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه، على أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها، ويرعون عفاها لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل والفارض والداجن والكبس الحورى، وعليهم فيها المصالغ والقارح.

وقوله نصية من كل حاضر وباد قال ابن الأثير: النصية من ينتصى من القوم أى يختار من نواصيهم، وهم الرؤوس والأشراف، ويقال للأشراف:

نواص، كما يقال للأتباع أذناب. وأتوك على قلص: بضم القاف واللام، جمع قلوص، وهى الناقة الشابة. والنواج: السراع.

وقوله متصلة بحبائل الإسلام أى عهوده وأسبابه. وخارف: بالخاء المعجمة. ويام: بالمثناة التحتية: قبيلتان. ولا ينقض عهدهم عن سنة ماحل:

أى لا ينقض عهدهم بسعى ساع أى بالنميمة والإفساد، كما يقال: لا أفسد ما بينى وبينك بمذاهب الأشرار وطرقهم فى الفساد. والسنة: الطريقة، والسنن أيضا. والعنقفير: بفتح العين المهملة وسكون النون وتقديم القاف، الداهية.

أى لا ينقض عهدهم بسعى الواشى ولا بداهية تنزل. ولعلع: جبل.

وما جرى اليعفور: بفتح التحتية، الخشف وولد البقرة الوحشية،

وقيل: هو تيس الظباء، والجمع: اليعافير، والياء: زائدة. وبصلع: بضم الصاد المهملة وتشديد اللام، الأرض التى لا نبات فيها: وقوله- عليه الصلاة والسلام-: (وأهل الجناب الهضب) بكسر الجيم، اسم موضع. و (حفاف الرمل) أسماء بلادهم. (وفراعها) بكسر الفاء وبراء وعين مهملة، أى ما علا من الجبال أو الأرض. (ووهاطها) بكسر الواو، وبطاء مهملة، المواضع المطمئنة، واحدها وهط، وبه سمى الوهط، وهو مال كان لعمرو بن العاص بالطائف. وقيل الوهط: قرية بالطائف كان الكرم المذكور بها.

(وعزازها) بفتح العين المهملة ثم زاءين مخففتين، ما صلب من الأرض واشتد وخشن، وإنما يكون فى أطرافها.

(ويأكلون علافها) بكسر العين المهملة وتخفيف اللام وبالفاء، جمع علف، وهو ما تأكله الماشية. (وعفاها) بفتح وتخفيف الفاء وبالمد، أى المباح. (ومن دفئهم) بكسر الدال المهملة وسكون الفاء وبالهمز. قال فى المجمل: نتاج الإبل وألبانها والانتفاع بها. (وصرامهم) بكسر الصاد المهملة وتخفيف الراء، أى من نخلهم. والثلب: بكسر المثلاثة واللام الساكنة وبباء موحدة، ما هرم من ذكور الإبل وتكسرت أسنانه. والناب: بالنون الموحدة:

الناقة الهرمة التى طال نابها. والفصيل: بالمهملة الذى انفصل عن أمه.

والفارض: بالفاء المسن من الإبل. والداجن: بالمهملة والجيم، الدابة التى تألف البيوت.

والكبش الحورى: بالحاء المهملة، وواو مفتوحتين فراء مكسورة: الذى فى صوفه حمرة. والصالغ: بالصاد المهملة والغين المعجمة، من صلغت الشاة ونحوها: إذا تمت أسنانها. والقارح: بالقاف والراء والحاء المهملة، من الخيل الذى دخل فى السنة الخامسة. انتهى.

وهذا من جنس كتابه لقطن بن حارثة العليمى من كلب.

هذا كتاب من محمد لعمائر كلب وأحلافها، ومن ظأره الإسلام من غيرهم مع قطن ابن حارثة العليمى، بإقام الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة بحقها فى شدة عقدها ووفاء عهدها، بمحضر من شهود المسلمين، وسمى جماعة منهم دحية بن خليفة الكلبى، عليهم من الهمولة الراعية البساط الظئار فى كل خمسين ناقة غير ذات عوار، والحمولة المائرة لهم لاغية، وفى الشوى الورى مسنة حامل أو حائل، وفيما سقى الجدول من العين المعين العشر، وفى العشرى شطره بقيمة الأمين لا يزاد عليهم وظيفة ولا يفرق. شهد على ذلك اللّه ورسوله، وكتب ثابت بن قيس بن شماس.

وتفسير غريبه أن قوله: ومن ظأره الإسلام: بالظاء المعجمة والهمز، آخره هاء أى: عطف عليه وعليهم. فى الهمولة: بفتح الهاء، التى ترعى بأنفسها. ولا تستعمل فعولة بمعنى مفعولة. والبساط: التى معها أولادها.

والظئار: أن تعطف الناقة على غير ولدها. والحمولة المائرة لهم لاغية: يعنى أن الإبل التى تحمل عليها الميرة- وهى الطعام ونحوه مما يجلب للبيع- لا يؤخذ منها زكاة لأنها عوامل.

وفى الشوى: بفتح الشين المعجمة وكسر الواو والياء المشددة: اسم جمع للشاة. والورى: السمينة. ومن هذا النمط كتابه- صلى اللّه عليه وسلم- لوائل بن حجر- بتقديم الحاء المضمومة على الجيم الساكنة- إلى الأقيال العباهلة والأرواع المشابيب، وذكر الفرائض

فقال: فى التيعة شاة لا مقورة الألياط ولا ضناك، وأنطوا الثبجة وفى السيوب الخمس، ومن زنى مم بكر فاصقعوه مائة واستوفضوه عاما، ومن زنى مم ثيب فضرجوه بالأضاميم، ولا توصيم فى الدين، ولا غمة فى فرائض اللّه، وكل مسكر حرام، ووائل بن حجر يترفل على الأقيال.

وفسر الأقيال- وهو بالقاف والمثناة التحتية- بالرؤساء الذين دون الملوك.

والعباهلة: بالمهملة المفتوحة والموحدة، الذين أقروا على ملكهم لا يزالون.

والأوراع: - بفتح الهمزة وسكون الراء آخره عين مهملة- جمع رائع، وهم ذوو الهيئات الحسان الوجوه. والمشابيب: - بفتح الميم والشين المعجمة وباءين موحدتين بينهما مثناة تحتية ساكنة- السادة الرؤوس، الحسان الوجوه. وفى التيعة: - بكسر المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية وبالعين المهملة- أربعون من الغنم. وفى القاموس والنهاية: أدنى ما تجب فيه الصدقة من الحيوان. ولا مقورة: بضم الميم وفتح القاف وتشديد الواو.

والألياط: - بفتح الهمزة وسكون اللام آخرها طاء مهملة- أى: لا مسترخية الجلود لكونها هزيلة. ولا ضناك: - بكسر المعجمة وتخفيف النون- ضدها وهى المستكثرة اللحم. وأنطوا: بقطع الهمزةأى أعطوا. والثبجة:

بالمثلاثة ثم موحدة ثم جيم مفتوحات، وقد تكسر الموحدة، أى أعطوا الوسط فى الصدقة لا من خيار المال ولا من رذلته. والسيوب: - بضم المهملة وآخره موحدة- أى: الركاز، قاله الهروى،

وقيل: المال المدفون فى الجاهلية أو المعدن.

ومن زنى مم بكر: - بكسر الراء بلا تنوين، لأن أصله من البكر، لكن أهل اليمن يبدلون لام التعريف ميما، وهى ساكنة فأدغمت النون فيها، والمراد بالبكر الجنس، وقال ابن الأثير: أى من بكر ومن ثيب، فقلبت النون الساكنة ميما، أما مع بكر فلأن النون إذا سكنت قبل الباء فإنها تقلب ميما فى النطق، نحو: عنبر وشنبا، وأما مع غير الباء فإنها لغة يمانية، كما يبدلون الميم من لام التعريف. انتهى.

و: فاصقعوه: بهمزة وصل وإسكان الصاد المهملة، وفتح القاف وضم العين المهملة، أى: اضربوه. واستوفضوه: بهمزة وصل وكسر الفاء وضم الضاد المعجمة، أى: غربوه وانفوه. وفضرجوه: بالضاد المعجمة وتشديد الراء وبالجيم. وبالأضاميم: بفتح الهمزة والضاد المعجمة، أى: أدموه بالضرب بجماهير الحجارة. ولا توصيم: بصاد مهملة مكسورة، أى لا كسل عن إقامة الحدود. ولا غمة: بضم المعجمة وتشديد الميم، أى لا تستر ولا تخفى.

ويترفل: بتشديد الفاء المفتوحة: يتسود ويترأس، استعارة من ترفيل الثوب وهو إسباغه وإسباله. وقريب من هذا، كتابه لأكيدر وأهل دومة، كما قدمته فى مكاتباته- صلى اللّه عليه وسلم-.

وقال- صلى اللّه عليه وسلم- فى حديث عطية السعدى: (فإن اليد العليا هى المنطية والسفلى هى المنطاة) (١)

قال: فكلمنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بلغتنا.

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٣٦٣) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٤/ ١٩٨) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٧/ ١٦٦ و ١٦٩) ، من حديث عروة بن محمد عن أبيه عن جده- رضى اللّه عنه- والمنطية: هى العطية، والمنطاة: هى المعطاة أى السائلة.

وقد كان هذا من خصائصه- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يكلم كل ذى لغة بليغة بلغته على اختلاف لغة العرب وتركيب ألفاظها وأساليب كلمها، وكان أحدهم لا يتجاوز لغته، وإن سمع لغة غيره فكالعجمية يسمعها العربى، وما ذلك منه- صلى اللّه عليه وسلم- إلا بقوة إلهية وموهبة ربانية، لأنه بعث إلى الكافة طرا، وإلى الخليقة سودا وحمرا، والكلام باللسان يقع فى غاية البيان، ولا يوجد غالبا متكلم بغير لغته إلا قاصرا فى الترجمة نازلا عن صاحب الأصالة فى تلك اللغة، إلا نبينا وسيدنا محمد- صلى اللّه عليه وسلم- كما تقدم، فإنه زاده اللّه تكريما وشرفا تكلم فى كل لغة من لغة العرب أفصح وأنصع بلغاتها منها بلغة نفسها، وجدير به ذلك فقد أوتى فى سائر القوى البشرية المحمودة زيادة ومزية على الناس، مع اختلاف الأصناف والأجناس ما لا يضبطه قياس ولا يدخل فى تحقيقه إلباس. انتهى.

وأما صوته الشريف، فعن أنس

قال: ما بعث اللّه نبيّا قط إلا بعثه حسن الوجه حسن الصوت، حتى بعث اللّه نبيكم- صلى اللّه عليه وسلم- فبعثه حسن الوجه حسن الصوت، رواه ابن عساكر، وروى نحوه من حديث على بن أبى طالب، وروى أنه كان إذا تكلم رؤى كالنور يخرج من ثناياه (١) . وقد كان صوته- صلى اللّه عليه وسلم- يبلغ حيث لا يبلغه صوت غيره. فعن البراء

قال: (خطبنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى أسمع العواتق فى خدورهن) (٢) رواه البيهقى.

وقالت عائشة- رضى اللّه عنها- جلس رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الجمعة على المنبر فقال للناس: (اجلسوا) ، فسمعه عبد اللّه بن رواحة وهو فى بنى غنم فجلس فى مكانه (٣) رواهأبو نعيم.

وقال عبد الرحمن بن معاذ التيمى: خطبنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بمنى، ففتحت أسماعنا- وفى لفظ ففتح اللّه أسماعنا- حتى إن كنا لنسمع ما يقول ونحن فى منازلنا. رواه ابن سعد(٤) .

__________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٦/ ٢٥٦) .

(٣) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٦/ ٢٥٦) .

(٤) أخرجه ابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ١٧٥) .

وعن أم هانئ قالت كنا نسمع قراءة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى جوف الليل عند الكعبة، وأنا على عريشى (١) ، رواه ابن ماجه.

وأما ضحكه- صلى اللّه عليه وسلم-، ففى البخارى عن عائشة: ما رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى لهواته، إنما كان يتبسّم (٢) ، أى: ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكا تاما مقبلا بكليته على الضحك. واللّهوات: بفتح اللام، جمع لهاة، وهى اللحمة التى بأعلى الحنجرة من أقصى الفم. وهذا لا ينافيه ما فى حديث أبى هريرة فى قصة المواقع أهله فى رمضان، فضحك رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى بدت نواجذه (٣) .

رواه البخارى: وهى بالجيم والذال المعجمة: الأضراس. ولا تكاد تظهر إلا عند المبالغة فى الضحك. لأن عائشة إنما نفت رؤيتها، وأبو هريرة أخبر بما شاهده، والمثبت مقدم على النافى.

وقد قال أهل اللغة: التبسم: مبادىء الضحك، والضحك: انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فالضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم. وقال ابن أبى هالة: جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام، أى يبدى أسنانه ضاحكا، وحب الغمام: البرد. وقال الحافظ ابن حجر: والذى يظهر من مجموع الأحاديث: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان فى معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك.

قال: والمكروه إنما هو الإكثار منه والإفراط فيه لأنه يذهب الوقار. وقال ابن بطال: والذى ينبغى أن يقتدى به من أفعاله ما واظب عليه من ذلك.

وقد روى البخارى فى الأدب المفرد وابن ماجه عن أبى هريرة رفعه:

__________

(١) حسن: أخرجه النسائى (٢/ ١٧٨) فى الافتتاح، باب: رفع الصوت بالقرآن، وابن ماجه (١٣٤٩) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى القراءة فى صلاة الليل، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٣٤١ و ٤٢٤).

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٩٢) فى الأدب، باب: التبسم والضحك.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٨٧) فى الأدب، باب: التبسم والضحك.

(لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب) (١) . وقال أبو هريرة: وإذا ضحك- صلى اللّه عليه وسلم- يتلألأ فى الجدر (٢) رواه البزار والبيهقى، أى يضىء فى الجدر- بضم الجيم والدال، جمع جدار وهو الحائط- أى يشرق نوره عليها إشراقا كإشراق الشمس عليها.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسّم ضاحكا حتى يرتفع عنه، بل كان إذا خطب أو ذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته كأنه منذر جيش، صبحكم ومساكم (٣). رواه مسلم.

وكان بكاؤه- صلى اللّه عليه وسلم- من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة ولكن تدمع عيناه حتى تهملان، ويسمع لصدره أزيز، يبكى رحمة لميت خوفا على أمته وشفقة، ومن خشية اللّه، وعند سماع القرآن، وأحيانا فى صلاة الليل، قاله فى الهدى النبوى. وقد حفظه اللّه تعالى من التثاؤب، ففى تاريخ البخارى ومصنف ابن أبى شيبة عن يزيد بن الأصم:(ما تثاءب النبى قط) (٤) لكن فى رواية عند ابن أبى شيبة: (ما تثاءب نبى قط) .

وأما يده الشريفة- صلى اللّه عليه وسلم-، فقد وصفه غير واحد بأنه كان شثن الكفين كما سيأتى، أى غليظ أصابعهما، وبأنه عبل الذراعين رحب الكفين. وقد

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى فى (الأدب المفرد) (٢٥٢ و ٢٥٣) ، والترمذى (٢٣٠٥) فى الزهد، باب: من اتقى المحارم فهو أعبد الناس، وابن ماجه (٤١٩٣) فى الزهد، باب: الحزن والبكاء.

(٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ٢٢٧) .

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٨٦٧) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-.

(٤) ذكره الحافظ فى (الفتح) (١٠/ ٦١٣) وقال: أخرجه ابن أبى شيبة والبخارى فى التاريخ من مرسل يزيد بن الأصم، والرواية الثانية أخرجها الخطابى من طريق مسلمة بن عبد الملك، ومسلمة أدرك بعض الصحابة، وهو صدوق، ويؤيد ذلك ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان. اه.

مسح- صلى اللّه عليه وسلم- خد جابر بن سمرة

قال: فوجدت ليده بردا وريحا كأنما أخرجها من جونة عطار (١) ، رواه مسلم.

وفى حديث وائل بن حجر عند الطبرانى والبيهقى: لقد كنت أصافح رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أو يمس جلدى جلده، فأتعرفه بعد فى يدى، وإنه لأطيب رائحة من المسك. وقال يزيد بن الأسود: ناولنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يده فإذا هى أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك (٢) ، رواه البيهقى. وعن المستورد ابن شداد عن أبيه

قال: أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأخذت بيده فإذا هى ألين من الحرير وأبرد من الثلج (٣) ، رواه الطبرانى. ودخل- صلى اللّه عليه وسلم- على سعد بن أبى وقاص بمكة يعوده وقد اشتكى،

قال: فوضع يده على جبهتى فمسح وجهى وصدرى وبطنى، فما زلت يخيل إلى أنى أجد برد يده على كبدى حتى الساعة (٤) .

وفى البخارى من حديث أنس: ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٥) . وهو من باب عطف الخاص على العام، لأن الديباج نوع من الحرير. قيل: وهذا الوصف فى هذا الحديث يخالف ما وقع فى حديث ابن أبى هالة عند الترمذى فى صفته- صلى اللّه عليه وسلم-، فأن فيه- كما تقدم- كان شثن الكفين والقدمين، أى غليظهما فى خشونة، وهكذا وصفه علىّ من عدة طرق عند الترمذى والحاكم وغيرهما، وكذا وصف عائشة له عند ابن أبى خيثمة. والجمع بينهما: أن المراد اللين فى الجلد. والغلظ فى العظام، فيجتمع له نعومة البدن وقوته. وقال ابن بطال: كانت كفه- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٢٩) فى الفضائل، باب: طيب رائحة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ولين مسكه.

(٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ٢٥٦) .

(٣) إسناده قوى: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٨٢)

وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط ورجال الكبير رجال الصحيح غير موسى بن أيوب النصيبى، وهو ثقة.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٥٩) فى المرضى، باب: وضع اليد على المريض.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦١) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

ممتلئة لحما، غير أنها مع ضخامتها كانت لينة، كما فى حديث أنس،

قال:

وأما قول الأصمعى: الشثن: غلظ الكف فى خشونة، فلم يوافق على تفسيره بالخشونة، والذى فسر به الخليل أولى،

قال: وعلى تسليم ما فسر به الأصمعى الشثن: يحتمل أن يكون أنس وصف حالتى كف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فكان إذا عمل بكفه فى الجهاد، أو فى مهنة أهله، صار كفه خشنا للعارض المذكور، وإذا ترك ذلك رجع كفه إلى أصل جبلته من النعومة.

وقال القاضى عياض: فسر أبو عبيدة الشثن بالغلظ مع القصر.

وتعقب: بأنه ثبت فى وصفه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه كان سائل الأطراف. انتهى. ويؤيد كونها كانت لينة قوله فى رواية النعمان: كان سبط الكفين. بتقديم المهملة على الموحدة، فإنه موافق لوصفها باللين. والتحقيق فى الشثن أنه الغلظ من غير قصر ولا خشونة. وقد نقل ابن خالويه: أن الأصمعى لما فسر الشثن بما مضى، قيل له إنه ورد فى صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه لين الكفين، فالى على نفسه أن لا يفسر شيئا فى الحديث. انتهى. وفى حديث معاذ عند الطبرانى والبزار: أردفنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خلفه فى سفر، فما مسست شيئا قط ألين من جلده-صلى اللّه عليه وسلم-.

وأصيب عائذ بن عمرو فى وجهه يوم حنين، فسال الدم على وجهه وصدره، فسلت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الدم بيده عن وجهه وصدره، ثم دعا له، فكان أثر يده- صلى اللّه عليه وسلم- إلى منتهى ما مسح من صدره غرة سائلة كغرة الفرس (١) رواه الحاكم وأبو نعيم وابن عساكر.

وأخرج البخارى فى تاريخ والبغوى وابن منده فى الصحابة من طريق صاعد بن العلاء بن بشر عن أبيه عن جده بشر بن معاوية: أنه قدم مع أبيه معاوية بن ثور على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فمسح رأسه ودعا له بالبركة فكانت فى وجهه مسحة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كالغرة وكان لا يمسح شيئا إلا برئ.

ومسح- صلى اللّه عليه وسلم- رأس مدلوك أبى سفيان فكان ما مرت يده عليه أسود،

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٦٧٧) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٨/ ٢٠) .

وشاب ما سوى ذلك. رواه البخارى فى تاريخه والبيهقى. وكذا وقع له- صلى اللّه عليه وسلم- فى رأس السائب (١) . رواه البغوى والبيهقى وابن منده.

وأخرج البيهقى وصححه، والترمذى وحسنه، عن أبى زيد الأنصارى

قال: مسح- صلى اللّه عليه وسلم- بيده على رأسى ولحيتى ثم

قال: (اللّهم جمله) ،

قال: فبلغ بضعا ومائة سنة وما فى لحيته بياض. ولقد كان منبسط الوجه ولم ينقبض وجهه حتى مات (٢) . ومسح- صلى اللّه عليه وسلم- رأس حنظلة بن حذيم بيده وقال له: (بورك فيك)فكان يؤتى بالشاة الوارم ضرعها والبعير والإنسان به الورم، فيتفل فى يده ويمسح بصلعته ويقول بسم اللّه على أثر يد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فيمسحه ثم يمسح موضع الورم فيذهب الورم (٣). رواه أحمد والبخارى فى التاريخ وأبو يعلى وغيرهم.

وقد جاء فى عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة بياض إبطيه. فعن أنس

قال: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يرفع يديه فى الدعاء حتى رأيت بياض إبطيه (٤) . وقال الطبرى: ومن خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم- أن الإبط من جميع الناس متغير اللون غيره، أى إلا هو- صلى اللّه عليه وسلم-، ومثله للقرطبى وزاد: أنه لا شعر عليه، لكن نازع فيه صاحب شرح تقريب الأسانيد، و

قال: إنه لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه،

قال: والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه أن لا يكون له شعر. وقد قال عبد اللّه بن أقرم الخزاعى- وقد صلى معه- صلى اللّه عليه وسلم- كنت أنظر إلى عفرة إبطيه (٥) . حسنه

__________

(١) ذكر القصة الحافظ ابن حجر فى (الإصابة) (٦/ ٦٢) .

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦٢٩) فى المناقب، باب: فى آيات إثبات نبوة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٧٧ و ٣٤٠ و ٣٤١) .

(٣) رجاله ثقات: أخرجه أحمد فى (المسند) (٥/ ٦٧) ، والبيهقى فى (دلائل النبوة) (٦/ ٢١٤) بسند رجاله ثقات.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٣١) فى الاستسقاء، باب: رفع الإمام يده فى الاستسقاء، ومسلم (٨٩٥) فى صلاة الاستسقاء، باب: رفع اليدين بالدعاء فى الاستسقاء.

(٥) قلت: ثبت ذلك فى حديث صحيح عند البخارى (٢٥٩٧) فى (الهبة) ، باب: من لم يقبل الهدية لعلة، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى اللّه عنه-.

الترمذى. والعفرة: بياض ليس بالناصع كما قاله الهروى وغيره، وسيأتى مزيد لذلك فى الخصائص- إن شاء اللّه تعالى-.

وعن رجل من بنى حريش

قال: ضمنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فسال علىّ من عرق إبطيه مثل ريح المسك. رواه البزار. ووصفه علىّ ف

قال: ذو مسربة (١) ، وفسر بخيط من الشعر بين الصدر والسرة. وقال ابن أبى هالة:

دقيق المسربة. وعند ابن سعد عن على: طويل المسربة. وعند البيهقى: له شعرات من لبته إلى سرته تجرى كالقضيب. ليس على صدره ولا على بطنه غيره.

ووصفت بطنه أم هانئ

فقالت: ما رأيت بطن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلا ذكرت القراطيس المثنى بعضها على بعضها (٢) . رواه الطيالسى والطبرانى.

وقال أبو هريرة: كان- صلى اللّه عليه وسلم- أبيض كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر (٣) ، مفاض البطن، عظيم مشاش المنكبين.

وتقدم أن المشاش: رؤوس العظام كالركبتين، ومفاض: أى واسع البطن،

وقيل: مستوى البطن مع الصدر. وخرج الإمام أحمد عن محرش الكعبى

قال: اعتمر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من الجعرانه ليلا، فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة (٤) .

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦٣٧) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- .

(٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٨٠) و

قال: رواه الطبرانى، وفيه جابر الجعفى، وهو ......

(٣) حسن: أخرجه الترمذى فى (الشمائل) (١١) ، والبيهقى فى (الدلائل) (١/ ١٨٨) .

(٤) صحيح: أخرجه النسائى (٥/ ٢٠٠) فى الحج، باب: دخول مكة ليلا، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٤٢٦) و (٤/ ٦٩) و (٥/ ٣٨٠) ، .

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- بعيد ما بين المنكبين (١) رواه البخارى. أى عريض الصدر، ووقع عند ابن سعد من حديث أبى هريرة: رحب الصدر.

وأما قلبه الشريف- صلى اللّه عليه وسلم-، فاعلم أن القلب مضغة فى الفؤاد معلقة بالنياط، فهو أخص من الفؤاد. قاله الواحدى، وسمى به لتقلبه بالخواطر والعزوم، قال الشاعر:

وما سمى الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب

وقال الزمخشرى: مشتق من التقلب الذى هو المصدر لفرط تقلبه، ألا ترى إلى ما روى أبو موسى الأشعرى عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: ومثل هذا القلب كمثل ريشة ملقاة بفلاة يقلبها الريح بطنا لظهر.

قال: والفرق بينه وبين الفؤاد، أن الفؤاد وسط القلب، سمى به لتفؤده، أى توقده. وفسر الجوهرى القلب بالفؤاد ثم فسر الفؤاد بالقلب. قال الزركشى: والأحسن قول غيره:

الفؤاد غشاء القلب، والقلب حبته وسويداؤه، ويؤيد الفرق قوله- صلى اللّه عليه وسلم-:

(ألين قلوبا وأرق أفئدة) ، وهو أولى من قول بعضهم: إنه كرر لاختلاف اللفظ.

وقال الراغب: يعبر بالقلب عن المعانى التى تختص به كالعلم والشجاعة.

وقيل: حيثما ذكر اللّه القلب فإشارة إلى العقل والعلم، كقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ (٢) ، وحيثما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القوى من الشهوة والغضب ونحوهما. انتهى.

قال بعض العلماء: وقد خلق اللّه تعالى الإنسان، وجعل له قلبا يعقل عنه، وهو أصل وجوده، إذا صلح قلبه صلح سائره، وإذا فسد قلبه فسد سائره، وجعل سبحانه القلوب محل السر والإخلاص، الذى هو سر اللّه

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٥١) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٣٧) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث البراء بن عازب- رضى اللّه عنه-.

(٢) سورة ق: ٣٧.

يودعه قلب من شاء من عباده، فأول قلب أودعه قلب محمد- صلى اللّه عليه وسلم- لأنه أول خلق وصورته- صلى اللّه عليه وسلم- آخر صورة ظهرت من صور الأنبياء، فهو أولهم وآخرهم.

وقد جعل سبحانه وتعالى أخلاق القلوب للنفوس أعلاما على أسرار القلوب، فمن تحقق قلبه بسر اللّه اتسعت أخلاقه لجميع خلق اللّه، ولذلك جعل اللّه تعالى لمحمد- صلى اللّه عليه وسلم- جثمانية اختص بها من بين سائر العالمين، فتكون علامات اختصاص جثمانيته آيات دالة على أحوال نفسه الشريفة وعظيم خلقه، وتكون علامات عظيم أخلاقه آيات على سر قلبه المقدس. ولما كان قلبه- صلى اللّه عليه وسلم- أوسع قلب اطلع اللّه عليه- كما ورد فى الخبر- كان هو الأولى أن يكون هو قلب العبد الذى يقول فيه اللّه تعالى: ما وسعنى أرضى ولا سمائى ووسعنى قلب عبدى المؤمن(١) .

ولما كان كماله قبل الإسراء بمنزلة سائر النبيين كان صدره يضيق، فاتسع قلبه لما انشرح صدره، ووضع عنه وزره ورفع له ذكره. وقد صح أن جبريل- عليه الصلاة والسلام- شقه واستخرج منه علقة ف

قال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه فأعاده فى مكانه.

قال أنس فلقد كنت أرى أثر المخيط فى صدره (٢) . رواه مسلم.

وإنما خلقت هذه العلقة فى ذاته الكريمة ثم استخرجت منه لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقها تكملة للخلق الإنسانى فلا بد منها، ونزعها أمر ربانى طرأ بعد ذلك، قاله السبكى.

وعند أحمد وصححه الحاكم: ثم استخرجا قلبى فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين فقال أحدهما لصاحبه ائتنى بماء وثلج فغسلا به جوفى ثم

__________

(١) ذكره الغزالى فى (الإحياء) وقال الحافظ العراقى. لم أر له أصلا.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٦١) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

قال: ائتنى بماء برد فغسلا به قلبى ثم

قال: ائتنى بالسكينة فذراها فى قلبى ثم قال أحدهما لصاحبه حصه فحاصه وختم عليه بخاتم النبوة (١) .

وفى رواية البيهقى أن ملكين جاآنى فى صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد فشرح أحدهما صدرى، ومج الآخر بمنقاره فيه.

وعن أبى هريرة

قال: يا رسول اللّه، ما أول ما ابتدئت به من أمر النبوة.

قال: (إنى لفى صحراء أمشى ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسى يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟

قال: نعم، فأخذانى فألصقانى لحلاوة القفا ثم شقا بطنى، وكان أحدهما يختلف بالماء فى طست من ذهب والآخر يغسل جوفى، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فإذا صدرى- فيما أرى- مفلوق لا أجد له وجعا، ثم

قال: اشقق قلبه فشق قلبى، فقال أخرج الغل والحسد منه، فأخرج شبه العلقة فنبذ به ثم

قال: أدخل الرأفة والرحمة قلبه، فأدخل شيئا كهيئة الفضة، ثم أخرج ذرورا كان معه فذر عليه، ثم نقر إبهامى، ثم

قال: اغد فرجعت بما لم أغد به من رحمتى للصغير ورأفتى على الكبير) (٢) . رواه عبد اللّه بن الإمام أحمد فى زوائد المسند وأبو نعيم و

قال: تفرد به معاذ عن أبيه، وتفرد بذكر السن.

وعند أبى نعيم فى حديث يونس بن ميسرة: فاستخرج حشوة جوفى فغسلها ثم ذر عليه ذرورا ثم

قال: قلب وكيع يعى ما وقع فيه، عينان تبصران وأذنان تسمعان وأنت محمد رسول اللّه المقفى الحاشر قلبك سليم ولسانك صادق ونفسك مطمئنة وخلقك قيم وأنت قثم. وهذا الشق روى أنه وقع له- صلى اللّه عليه وسلم- مرات فى حال طفوليته إرهاصا. وتقديم المعجزة على زمان البعثة جائز للإرهاص، ومثل هذا فى حق الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- كثير. وبه يجاب عن استشكال وقوع ذلك فى حال طفولتيه لأنه من المعجزات، ولا يجوز أن تتقدم على النبوة، قاله الرازى.

__________

(١) أخرجه أحمد فى (المسند) (٤/ ١٨٤) ، والدارمى فى (سننه) (١٣) ، والحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٦٧٣) ، من حديث عتبة بن عبد- رضى اللّه عنه-.

(٢) أخرجه عبد اللّه بن أحمد فى (زوائد المسند) (٥/ ١٣٩) .

والذى عليه أكثر أهل الأصول: اشتراط اقتران المعجزة بالدعوى كما نبهت عليه فى أوائل الكتاب، ويأتى تحقيقه- إن شاء اللّه تعالى- فى المقصد الرابع. وهو المراد بقوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(١) وقد قيل المراد بالشرح فى الآية ما يرجع إلى المعرفة والطاعة. ثم ذكروا فى ذلك وجوها منها أنه لما بعث إلى الأحمر والأسود من جنى وإنسى أخرج تعالى عن قلبه جميع الهموم، وانفسح صدره حتى اتسع لجميع المهمات، فلا يقلق ولا يضجر بل هو حالتى البؤس والفرج منشرح الصدر مشتغل بأداء ما كلف.

فإن قلت: لم

قال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ولم يقل: قلبك.

أجيب: بأن محل الوسوسة الصدر، كما

قال تعالى: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٢) فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعى الخير هى الشرح، لا جرم خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب.

وقد قال محمد بن على الترمذى: القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذى يقصد الشيطان، يجىء إلى الصدر الذى هو حصن القلب فإذا دخل مسلكا أغار فيه وأنزل جنده فيه وبث فيه الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة، ولا للإسلام حلاوة، وإذا طرد العدو فى الابتداء حصل الأمن وزال الضيق وانشرح الصدر وتيسر له القيام بأداء العبودية.

وهاهنا دقيقة: (قال اللّه تعالى حكاية عن موسى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٣) وقال لنبينا محمد- صلى اللّه عليه وسلم-: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (٤) أعطى بلا سؤال، ثم إنه تعالى نعته- عليه السّلام- فقال وَسِراجاً مُنِيراً (٥) فانظر إلى

__________

(١) سورة الشرح: ١.

(٢) سورة الناس: ٥.

(٣) سورة طه: ٢٥.

(٤) سورة الشرح: ١.

(٥) سورة الأحزاب: ٤٦.

التفاوت، فإن شرح الصدر هو أن يصير قابلا للنور، والسراج المنير هو الذى يقتبس منه النور، والفرق واضح. قال الدقاق: كان موسى- عليه السّلام- مريدا إذ

قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (١) ونبينا محمد- صلى اللّه عليه وسلم- مراد إذ قال اللّه له:

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ واللّه أعلم .

وأما جماعه- صلى اللّه عليه وسلم- فقد كان يدور على نسائه فى الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة، قال الراوى قلت لأنس: أو كان يطيقه؟

قال: كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين (٢) . رواه البخارى. وعند الإسماعيلى عن معاذ: قوة أربعين زاد أبو نعيم عن مجاهد: كل رجل من رجال أهل الجنة. وعن أنس مرفوعا: (يعطى المؤمن فى الجنة قوة كذا وكذا فى الجماع) قلت: يا رسول اللّه، أو يطيق ذلك؟

قال: (يعطى قوة مائة) (٣) .

قال الترمذى: صحيح غريب لا نعرفه عن حديث قتادة إلا من حديث عمران القطان. فإذا ضربنا أربعين فى مائة بلغت أربعة آلاف، فبهذا يندفع ما استشكل من كونه- صلى اللّه عليه وسلم- أوتى قوة أربعين فقط وسليمان- عليه الصلاة والسلام- قوة مائة رجل أو ألف على ما ورد.

وذكر ابن العربى: أنه كان له- صلى اللّه عليه وسلم- القوة الظاهرة على الخلق فى الوطء، وكان له فى الأكل القناعة، ليجمع اللّه له الفضيلتين فى الأمور الاعتيادية كما جمع له الفضيلتين فى الأمور الشرعية، حتى يكون حاله كاملا فى الدارين. انتهى. وطاف- صلى اللّه عليه وسلم- على نسائه التسع فى ليلة. رواه ابن سعد.

وروى أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (أتانى جبريل بقدر فأكلت منها فأعطيت قوة

__________

(١) سورة طه: ٢٥.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٦٨) فى الغسل، باب: إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه فى غسل واحد.

(٣) حسن: أخرجه الترمذى (٢٥٣٦) فى صفة الجنة، باب: ما جاء فى صفة جماع أهل الجنة، وابن حبان فى (صحيحه) (٧٤٠٠) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: حديث حسن.

أربعين رجلا فى الجماع( (١) رواه ابن سعد: حدثنا عبد اللّه بن موسى عن أسامة بن زيد عن صفوان بن سليم مرسلا من حديث أبى هريرة: شكا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى جبريلقلة الجماع فتبسم جبريل حتى تلألأ مجلس رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من بريق ثنايا جبريل فقال له: أين أنت من أكل الهريسة فإن فيه قوة أربعين رجلا. ومن حديث حذيفة بلفظ (أطعمنى جبريل الهريسة أشد بها ظهرى وأتقوى بها على الصلاة) (٢) رواه الدار قطنى. ومن حديث جابر بن سمرة وابن عباس وغيرهم.

وكلها أحاديث واهية. بل صرح الحافظ ابن ناصر الدين فى جزء له سماه رفع الدسيسة بوضع حديث الهريسة أنه ........ وروى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أعطى قوة بضع وأربعين رجلا كل رجل من أهل الجنة، رواه الحارث بن أبى أسامة. وقد حفظه اللّه من الاحتلام، فعن ابن عباس

قال: ما احتلم نبى قط، وإنما الاحتلام من الشيطان (٣) ، رواه الطبرانى.

وأما قدمه الشريف- صلى اللّه عليه وسلم- فقد وصفه غير واحد بأنه كان شثن القدمين (٤) ، أى غليظ أصابعهما. رواه الترمذى وغيره. وعن ميمونة بنت كردم

قالت: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فما نسيت طول أصبع قدميه السبابة على سائر أصابعه (٥) ، رواه أحمد والطبرانى. وعن جابر بن سمرة: كانت خنصر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من رجله متظاهرة، رواه البيهقى. وقد اشتهر على الألسنة أن سبابة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كانت أطول من الوسطى (٦) . قال الحافظ ابن حجر: وهو غلط ممن قاله، وإنما ذلك فى أصابع رجليه. انتهى.

__________

(١) مرسل: أخرجه ابن سعد فى (الطبقات) (١/ ٣٧٣) ، عن صفوان بن سليم مرسلا.

(٢) ذكره الحافظ ابن حجر فى (اللسان) (٥/ ١١٦) فى ترجمة محمد بن الحجاج اللخمى، وحكم عليه بالوضع به.

(٣) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١/ ٢٦٧) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط، وفيه عبد الكريم بن أبى ثابت، وهو مجمع على ضعفه.

(٤) تقدم من حديث على قريبا.

(٥) أخرجه البيهقى فى (الكبرى) (٧/ ١٤٥) ، والحديث عند أحمد والطبرانى، إلا أنه ليست فيها هذه اللفظة.

(٦) انظر فى ذلك (كشف الخفاء) (١٤٥٧) .

وقال شيخنا- فى المقاصد الحسنة-: وسلف جمهورهم الكمال الدميرى. هو خطأ نشأ عن اعتماد رواية مطلقة. وعبارته: (كذا رواه ابن هارون عن عبد اللّه بن مقسم عن سارة ابنة مقسم أنها سمعت ميمونة ابنة كردم تخير أنها رأت أصابع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كذلك) . فضم ما وقع فيها من إطلاق الأصابع إلى كون الوسطى من كل أطول من السبابة، وعين اليد منه- صلى اللّه عليه وسلم- لذلك بناء على أن القصد ذكر وصف اختص به- صلى اللّه عليه وسلم- عن غيره.

ولكن الحديث فى مسند الإمام أحمد من حديث يزيد بن هارون المذكور مقيد بالرجل، ولفظه- كما قدمته- فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.

وهو عند البيهقى أيضا فى الدلائل (١) من طريق يزيد بن هارون ولفظها: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بمكة وهو على ناقته وأنا مع أبى، فدنا منه أبى فأخذ بقدمه فأقر له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قالت: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.

وعن أبى هريرة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا وطئ بقدمه بكلها ليس له أخمص (٢) . رواه البيهقى: وعن أبى أمامة الباهلى

قال: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لا أخمص له يطأ على قدمه كلها رواه ابن عساكر. وقال ابن أبى هالة: خمصان الأخمصين، مسيح القدمين.

وقال ابن الأثير: الأخمص من القدم الموضع الذى لا يلصق بالأرض منها عند الوطء. والخمصان: البالغ منه، أى إن ذلك الموضع من أسفل قدمه شديد التجافى عن الأرض. وسئل ابن الأعرابى عنه ف

قال: إذا كان خمص الأخمص بقدر لا يرتفع جدّا، لم يستو أسفل القدم جدّا فهو أحسن ما يكون، وإذا استوى أو ارتفع جدّا فهو ذم، فيكون بمعنى أن أخمصه معتدل الخمص بخلاف الأول. ووقع فى حديث أبى هريرة إذا وطئ بقدمه وطئ

__________

(١) (١/ ٢٤٦) .

(٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ٢٤٥) .

بكلها ليس له أخمص.

وقوله: مسيح القدمين أى ملساوتان لينتان ليس فيهما تكسر ولا شقاق، فإذا أصابهما الماء نبا عنهما كما قال ابن أبى هالة: ينبو عنهما الماء، وهو معنى حديث أبى هريرة. وعن عبد اللّه بن بريدة

قال: كان- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن الناس قدما. رواه ابن سعد.

وأما طوله- صلى اللّه عليه وسلم- فقال على: كان- صلى اللّه عليه وسلم- لا قصير ولا طويل، وهو إلى الطول أقرب (١) . رواه البيهقى. وعنه: كان- صلى اللّه عليه وسلم- ليس بالذاهب طولا، وفوق الربعة إذا جامع القوم غمرهم. رواه عبد اللّه بن الإمام أحمد.

وعن أبى هريرة

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ربعة وهو إلى الطول أقرب (٢) . رواه البزار.

وقوله: ربعة، أى مربوعا، والتأنيث باعتبار النفس. وقد فسر فى الحديث الآتى بأنه ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، والمراد بالطويل البائن:

المفرط فى الطول مع اضطراب القامة.

وقال ابن أبى هالة: أطول من المربوع وأقصر من المشذب- وهو بمعجمتين مفتوحتين ثانيهما مشدد، أى البائن الطول فى نحافة، وهو مثل قوله فى الحديث الآخر لم يكن بالطويل الممغط- وهو بتشديد الميم الثانية- المتناهى الطول. وأمغط النهار إذا امتد، ومغطت الحبل إذا مددته، وأصله منمغط والنون للمطاوعة فقلبت ميما وأدغمت فى الميم، ويقال بالعين المهملة بمعناه.

وعن عائشة

قالت: لم يكن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، وكان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ولم يكن على حال يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله- صلى اللّه عليه وسلم- ولربما اكتنفه الرجلان

__________

(١) تقدم حديث على.

(٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٨٠) وقال: رواه البزار، ورجاله وثقوا. اه. قلت: هو فى صحيح البخارى (٣٥٤٧) ، من حديث أنس بلفظ: كان ربعة من القوم، ليس بالطويل لا بالقصير.

الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الربعة، رواه ابن عساكر والبيهقى. وزاد ابن سبع فى الخصائص: أنه كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين. ووصفه ابن أبى هالة بأنه بادن متماسك، أى معتدل الخلق، كأن أعضاءه يمسك بعضها بعضا.

وأما شعره الشريف- صلى اللّه عليه وسلم-، فعن قتادة

قال: سألت أنسا عن شعر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: شعر بين شعرين، لا رجل ولا سبط ولا جعد قطط كان بين أذنيه وعاتقه. وفى رواية للشيخين

قال: كان رجلا ليس بالسبط ولا الجعد بين أذنه وعاتقه (١) . وفى أخرى: إلى أنصاف أذنيه (٢) . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى. وعن عائشة

قالت: كنت أغتسل أنا والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- عن إناء واحد، وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفرة (٣) .

رواه الترمذى وأبو داود. والوفرة: الشعر الواصل إلى شحمة الأذن. وقال ابن أبى هالة أيضا: كان رجل الشعر- وهو بفتح الراء وكسر الجيم، أى يتكسر قليلا، بخلاف السبط والجعد- إن انفرقت عقيقته فرق وإلا فلا، يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفره. والعقيقة بالقافين، شعر رأسه الشريف، يعنى إن انفرقت بنفسها فرقها وإلا تركها معقوصة، ويروى: إن انفرقت عقيصته- بالصاد المهملة- وهى الشعر المعقوص.

وعن ابن عباس أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان يحب

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٩٠٥) فى اللباس، باب: الجعد، ومسلم (٢٣٣٨) فى الفضائل، باب: صفة شعر النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٣٨) (٩٦) فيما سبق.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٤١٨٧) فى الترجل، باب: ما جاء فى الشعر، والترمذى (١٧٧٥) فى اللباس، باب: ما جاء فى الجمة واتخاذ الشعر، وابن ماجه (٣٦٣٥) فى اللباس، باب: اتخاذ الجمة والذوائب، وأحمد فى (المسند) (٦/ ١٠٨ و ١١٨) من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشىء، ثم فرق- صلى اللّه عليه وسلم- رأسه (١) . رواه الترمذى فى الشمائل. وفى صحيح مسلم نحوه.

وسدل الشعر إرساله، والمراد هنا إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة.

وأما الفرق: فهو فرق الشعر بعضه من بعض، قال العلماء: والفرق سنة، لأنه الذى رجع إليه- صلى اللّه عليه وسلم-، والصحيح جواز الفرق والسدل، لكن الفرق أفضل. وعن عائشة: كان له-صلى اللّه عليه وسلم- شعر فوق الجمة ودون الوفرة (٢) . رواه الترمذى. وفى حديث أنس كان إلى أذنيه (٣) ، وفى حديث البراء: يضرب منكبيه (٤) . وفى حديث أبى رمثة: يبلغ إلى كتفيه أو منكبيه(٥) . وفى رواية:

ما رأيت من ذى لمة أحسن منه. والجمة: هى الشعر الذى نزل إلى المنكبين.

والوفرة: ما نزل إلى شحمة الأذنين، واللمة: التى لمت بين المنكبين. قال القاضى عياض: والجمع بين هذه الروايات: أن مايلى الأذن هو الذى يبلغ شحمة أذنيه، وما خلفه هو الذى يضرب منكبيه.

قال: وقيل: بل ذلك لاختلاف الأوقات، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين، فكانت تطول وتقصر بحسب ذلك.

وعن أم هانئ بنت أبى طالب

قالت: قدم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- علينا مكة قدمة وله أربع غدائر (٦) . رواه الترمذى فى الشمائل. والغدائر: - بالغين

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٥٨) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٣٦) فى الفضائل، باب: فى سدل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- شعر رأسه إلى جانبيه.

(٢) صحيح: وقد تقدم قبل حديث.

(٣) صحيح: وقد تقدم قريبا.

(٤) صحيح: وقد تقدم قريبا.

(٥) صحيح: وحديث أبى رمثة أخرجه البخارى (٣٥٥١) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٣٧) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأنه كان أحسن الناس وجها.

(٦) صحيح: أخرجه أبو داود (٤١٩١) فى الترجل، باب: فى الرجل يعقص شعره، والترمذى (١٧٨١) فى اللباس، باب: رقم (٣٨) ، وابن ماجه (٣٦٣١) فى اللباس، باب: اتخاذ الجمة والذوائب، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٣٤١ و ٤٢٥).

المعجمة والدال المهملة- هى الذوائب، واحدتها غديرة. وفى مسلم عن أنس، كان فى لحيته- صلى اللّه عليه وسلم- شعرات بيض (١) . وفى رواية عنده: لم ير من الشيب إلا قليلا، وفى أخرى له أيضا: لو شئت أن أعد شمطات كن فى رأسه ولم يخضب. وعنده أيضا: لم يخضب- صلى اللّه عليه وسلم- إنما كان البياض فى عنفقته وفى الصدغين وفى الرأس نبذ- بضم النون وفتح الباء الموحدة، وبفتح النون وإسكان الموحدة- أى شعرات متفرقة. وفى رواية أخرى: ما شانه اللّه ببيضاء.

قال الشيخ عبد الجليل فى شعب الإيمان، فيما حكاه عنه الفاكهانى: إنما كان كذلك لأن النساء يكرهن الشيب غالبا، ومن كره من النبى- صلى اللّه عليه وسلم- شيئا كفر. وقال فى النهاية: قد تكرر فى الحديث جعل الشيب هاهنا عيبا وليس بعيب، فإنه قد جاء فى الحديث: أنه وقار وأنه نور، والشيب ممدوح، وذلك عجيب منه لا سيما فى حق النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. ويمكن الجمع بينهما: ووجه الجمع أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما رأى أبا قحافة ورأسه كالثغامة (٢) أمرهم بتغييره وكرهه، ولذلك

قال: (غيروا الشيب) (٣) ، فلما علم أنس ذلك من عادته

قال: ما شانه اللّه ببيضاء بناء على هذا القول وحملا له على هذا الرأى. ولم يسمع الحديث الآخر، ولعل أحدهما ناسخ للآخر انتهى. وفى رواية أبى جحيفة عنده، رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهذه منه بيضاء. ووضع الراوى بعض أصابعه على عنفقته. وفى حديث أنس عند البيهقى: ما شانه اللّه بالشيب، ما كان فى رأسه ولحيته إلا سبع عشرة أو ثمان عشرة يعنى شعرة بيضاء. وعن أبى جحيفة كان أبيض قد شمط (٤) . ورواه البخارى. وفى الصحيحين: أن

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٤١) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى اللّه عليه وسلم-.

(٢) الثغامة: نبت أبيض الزهر والثمر يشبه به الشيب،

وقيل: هى شجرة تبيض كأنها الثلج.

(٣) صحيح: والخبر أخرجه مسلم (٢١٠٢) فى اللباس والزينة، باب: استحباب خضاب الشيب بصفرة، أو حمرة وتحريمه بالسواد، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٤٤) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

ابن عمر رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يصبغ بالصفرة (١) . وعن ابن عمر: إنما كان شيبه- صلى اللّه عليه وسلم- نحوا من عشرين شعرة بيضاء (٢) رواه الترمذى. وروى أيضا عن ابن عباس قال أبو بكر: يا رسول اللّه قد شبت

قال: (شيبتنى هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت) (٣) . وفى حديث جابر عنده: لم يكن فى رأسه- صلى اللّه عليه وسلم- شيب إلا شعرات فى مفرق رأسه إذا ادهن واراهن الدهن. وفى رواية البيهقى: كان أسود اللحية حسن الشعر. واختلف العلماء: هل خضب- صلى اللّه عليه وسلم- أم لا؟ قال القاضى عياض: منعه الأكثرون وهو مذهب مالك. وقال النووى: المختار أنه صبغ فى وقت وترك فى معظم الأوقات، فأخبر كل بما رأى وهو صادق،

قال: وهذا التأويل كالمتعين، فحديث ابن عمر فى الصحيحين ولا يمكن تركه ولا تأويل له. وأما اختلاف الرواية فى قدر شيبه فالجمع بينهما أنه رأى شيبا يسيرا، فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير ومن نفاه أراد لم يكثر فيه، كما قال فى الرواية الآخرى: لم ير الشيب إلا قليلا، انتهى.

وعن جابر بن سمرة

قال: كان- صلى اللّه عليه وسلم- قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادهن لم يتبين، فإذا شعث رأسه تبين وكان كثير شعر اللحية (٤) .

رواه مسلم والنسائى. وعن أنس كان- صلى اللّه عليه وسلم- يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته (٥) . رواه البغوى فى شرح السنة. وقد وصفه- صلى اللّه عليه وسلم- ابن أبى هالة بأنه

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٦) فى الوضوء، باب: غسل الرجلين فى النعلين، ومسلم (١١٨٧) فى الحج، باب: الإهلال من حيث تنبعث الراحلة.

(٢) قلت: هو فى صحيح البخارى (٣٥٤٧) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٤٧) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ومبعثه وسنه، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٢٩٧) فى التفسير، باب: سورة الواقعة.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٤٤) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى اللّه عليه وسلم-.

(٥) أخرجه الترمذى فى (الشمائل) (ص ٣٢) ، من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-.

كان موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجرى كالخط عارى الثديين مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالى الصدر. وعن أنس

قال: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا فى يد رجل (١) . رواه مسلم. وسيأتى إن شاء اللّه تعالى قصة حلق رأسه الشريف فى حجة الوداع.

ولم يرو أنه- صلى اللّه عليه وسلم- حلق رأسه الشريف فى غير نسك حج أو عمرة فيما علمته، فتبقية الشعر فى الرأس سنة ومنكرها مع علمه يجب تأديبه، ومن لم يستطع التبقية فيباح له إزالته. وقد رأيت بمكة المشرفة فى ذى القعدة سنة سبع وتسعين وثمانمائة شعرة عند الشيخ أبى حامد المرشدى، شاع وذاع أنها من شعره- صلى اللّه عليه وسلم-، زرتها صحبة المقام المقرى خليل العباسى والى اللّه إحسانه عليه. وعن محمد بن سيرين

قال: قلت لعبيدة، عندنا من شعر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس،

قال: لأن تكون عندى شعرة منه أحب إلى من الدنيا وما فيها (٢) . رواه البخارى. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها(٣) . رواه الترمذى وقال: حديث غريب.

وأخرج الترمذى عن ابن عباس وحسنه

قال: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقص شاربه (٤) . وعنده من حديث زيد بن أرقم قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) (٥) . وفى الصحيحين:__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٢٥) فى الفضائل، باب: قرب النبى- عليه السّلام- من الناس وتبركهم به.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٧٠) فى الوضوء، باب: الماء الذى يغسل به شعر الإنسان.

(٣) أخرجه الترمذى (٢٧٦٢) فى الأدب، باب: ما جاء فى الأخذ من اللحية.

(٤) أخرجه الترمذى (٢٧٦٠) فى الأدب، باب: ما جاء فى قص الشارب.

(٥) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٧٦١) فى الأدب، باب: ما جاء فى قص الشارب، والنسائى (٨/ ١٢٩) ، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٣٦٦ و ٣٦٨).

(خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب) (١) . واختلف فى قص الشارب وحلقه أيهما أفضل: ففى الموطأ يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وعن ابن عبد الحكم عن مالك

قال: ويحفى الشارب ويعفى اللحية، وليس إحفاء الشارب حلقه، وأرى تأديب من حلق شاربه. وعن أشهب أن حلقه بدعة

قال: وأرى أن يوجع ضربا من فعله. وقال النووى: المختار أنه يقصه حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله. وقال الطحاوى: لم نجد عن الشافعى شيئا منصوصا فى هذا، وكان المزنى والربيع يحفيان شاربهما. وأما أبو حنيفة وصاحباه فمذهبهم فى شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير. وأما أحمد، فقال الأثرم رأيته يحفى شاربه شديدا. وقد اختلفوا فى كيفية قص الشارب، هل يقص طرفاه أيضا، وهم المسميان بالسبالين أم تترك السبالان كما يفعله كثير من الناس؟

قال الغزالى فى الإحياء: لا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب. فعل ذلك عمر- رضى اللّه عنه- وغيره، لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمرة الطعام إذ لا يصل إليه انتهى. وروى أبو داودعن جابر

قال: كنا [نعفى] السبال إلا فى حج أو عمرة (٢) . وكره بعضهم إبقاءه لما فيه من التشبه بالأعاجم بل بالمجوس وأهل الكتاب، وهذا أولى بالصواب لما رواه ابن حبان فى صحيحه من حديث ابن عمر

قال: ذكر لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- المجوس ف

قال: (إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم) (٣) ، فكان يجز سباله كما يجز الشاة أو البعير. وروى أحمد فى مسنده فى أثناء حديث لأبى أمامة. فقلنا: يا رسول اللّه، فإن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨٩٢) فى اللباس، باب: تقليم الأظفار، ومسلم (٢٥٩) فى الطهارة، باب: خصال الفطرة، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٢) أخرجه أبو داود (٤٢٠١) فى الترجل، باب: فى أخذ الشارب.

(٣) حسن: أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٥٤٧٦) من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.

فقال: (قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب) (١) ، والعثانين- بالعين المهملة والثاء المثلاثة وتكرار النون- جمع عثنون وهو اللحية قاله فى شرح تقريب الأسانيد. وأما العانة ففى حديث أنس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان لا يتنور، وكان إذا كثر شعره حلقه (٢) ولكن سنده ...... وروى ابن ماجه والبيهقى، ورجاله ثقات، ولكن أعل بالإرسال. وأنكر الإمام أحمدصحته من حديث أم سلمة أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا طلى بدأ بعانته فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله.

وأما الحديث الذى يروى أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- دخل حمام الجحفة، ف....... باتفاق أهل المعرفة بالحديث كما قاله الحافظ ابن كثير، بل ولم تعرف العرب الحمام ببلادهم إلا بعد موته- صلى اللّه عليه وسلم-.

وأخرج البيهقى من مرسل أبى جعفر الباقر

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة (٣) . وله شاهد موصول من حديث أبى هريرة ولكن سنده ..... أخرجه البيهقى أيضا فى الشعب. وسئل عنه أحمد فقال يسن يوم الجمعة قبل الزوال. وعنه: يوم الخميس، وعنه يتخير. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهذا هو المعتمد، أنه يستحب كيفما احتاج إليه،

قال: ولم يثبت فى استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وكذا لم يثبت فى كيفيته شىء، ولا فى تعيين يوم له عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وما يعزى من النظم فى ذلك لعلى- رضى اللّه عنه- ثم لشيخ الإسلام ابن حجر قال شيخنا: إنه باطل.

والمراد: إزالة ما يزيد على ما يلامس رأس الأصبع من الظفر، لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهى إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب

__________

(١) أخرجه أحمد فى (المسند) (٥/ ٢٦٤) ، والطبرانى فى (الكبير) (٨/ ٢٣٦) ، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ١٣١) و

قال: رواه أحمد والطبرانى، ورجال أحمد رجال الصحيح خلا القاسم وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر.

(٢) أخرجه البيهقى فى (الكبرى) (١/ ١٥٢) بسند .....، وهو عنده من حديث أم سلمة (١/ ١٥٢) أيضا.

(٣) أخرجه البيهقى فى (الكبرى) (٣/ ٢٤٤) عن أبى جعفر مرسلا، وذكر بسند صحيح عن ابن عمر من فعله.

غسله فى الطهارة. وقد حكى أصحاب الشافعى فيه وجهين: فقطع المتولى بأن الوضوء حينئذ لا يصح، وقطع الغزالى فى الإحياء بأنه يعفى عن مثل ذلك.

وأخرج الطبرانى فى الأوسط عن عائشة: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لا يفارق سواكه ومشطه وكان ينظر فى المرآة إذا سرح لحيته (١) . وعن ابن عباس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كانت له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثة فى هذه وثلاثة فى هذه (٢) . رواه ابن ماجه والترمذى وأحمد ولفظه: كان يكتحل بالإثمد كل ليلة قبل أن ينام، وكان يكتحل فى كل عين ثلاثة أميال. وروى النسائى والبخارى فى تاريخه عن محمد بن على قال سألت عائشة: أكان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يتطيب؟

قالت: نعم، بذكارة الطيب، المسك والعنبر (٣) .

وأما مشيه- صلى اللّه عليه وسلم- فعن على

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا مشى تكفأ تكفيا، كأنما ينحط من صبب (٤) ، رواه الترمذى وصححه البيهقى.

والتكفؤ: الميل إلى سنن المشى. وعند البزار من حديث أبى هريرة: إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها (٥) . وعند الترمذى فى الشمائل من حديثه: وما رأيت أحدا أسرع فى مشيه من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: كأنما الأرض تطوى له، إنا

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ١٧١) و

قال: رواه الطبرانى فى (الأوسط) ، وفيه سليمان بن أرقم الزهرى، وهو ......

(٢) جدّا: أخرجه الترمذى (١٧٥٧) فى اللباس، باب: ما جاء فى الاكتحال، وابن ماجه (٣٤٩٩) فى الطب، باب: من اكتحل وترا، وأحمد فى (المسند) (١/ ٣٥٤).

(٣) الإسناد: أخرجه النسائى (٨/ ١٥٠) فى الزينة، باب: العنبر، وفى (الكبرى) (٩٤٠٧) ، والبخارى فى (التاريخ الكبير) (٢/ ٨٨).

(٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦٣٧) فى المناقب، باب: رقم (٣٧) ، وهو عند مسلم (٢٣٣٠) من حديث أنس بنحوه.

(٥) حسن: أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ٢٢٧).

لنجهد أنفسنا وهو غير مكترث (١) . وعن يزيد بن مرثد

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا مشى أسرع، حتى يهرول الرجل وراءه فلا يدركه (٢) . رواه ابن سعد: ويروى أنه كان إذا مشى مشى مجتمعا أى قوى الأعضاء غير مسترخ فى المشى. وقال على- رضى اللّه عنه- كان إذا مشى تقلع (٣) .

وقال ابن أبى هالة: إذا زال زال تقلعا، يخطو تكفيا، ويمشى هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وفى رواية إذا زال زال قلعا- بالفتح والضم، فبالفتح هو مصدر بمعنى الفاعل أى لا يزول قالعا لرجله من الأرض، وهو بالضم إما مصدر أو اسم وهو بمعنى الفتح.

وقال الهروى: (قرأت هذا الحرف فى كتاب غريب الحديث لابن الأنبارى: قلعا: بفتح القاف وكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأزهرى، وهو كما جاء فى حديث آخر كأنما ينحط من صبب، والانحدار من الصبب والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض. أراد: أنه كان يستعمل التثبت ولا يتبين منه فى هذه الحال استعجال ومبادرة شديدة) . وذريع المشية: أى واسع الخطوة قاله ابن الأثير.

وقال ابن القيم: التقلع الارتفاع من الأرض بجملته، كحال المنحط من الصبب، وهى مشية أولى العزم والهمة والشجاعة، وهى أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، فكثير من الناس يمشى قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة، فهى مذمومة، وإما أن يمشى بانزعاج مشى الجمل الأهوج وهى مشية مذمومة، وهى علامة خفة عقل صاحبها ولا سيما إن أكثر الالتفات حال مشيه يمينا وشمالا. وفى بعض المسانيد: أن المشاة شكوا إلى رسول اللّه

__________

(١) أخرجه الترمذى (٣٦٤٨) فى المناقب، باب: رقم (٤٥) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، بسند فيه ابن لهيعة، وهو سيئ الحفظ.

(٢) أخرجه ابن سعد فى (الطبقات) (١/ ٣٧٩) .

(٣) أخرجه الترمذى (٣٦٣٨) فى المناقب، باب: رقم (٣٨) ، وفى (الشمائل) له (٦٠) ، والبيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ٢٥٢).

- صلى اللّه عليه وسلم- من المشى فى حجة الوداع فقال: (استعينوا بالنسلان) (١) وهو العدو الخفيف الذى لا يزعج الماشى.

وأما مشيه- صلى اللّه عليه وسلم- مع أصحابه، فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم، ويقول: (خلوا ظهرى للملائكة) (٢) ، وهو معنى قول القائل: وكان يسوق أصحابه ويماشيهم فرادى وجماعة. ومشى- صلى اللّه عليه وسلم- فى بعض غزواته مرة فجرحت أصبعه وسال منها الدم ف

قال: (هل أنت إلا أصبع دميت وفى سبيل اللّه ما لقيت) (٣) . رواه أبو داود. ولم يكن له- صلى اللّه عليه وسلم- ظل فى شمس ولا قمر رواه الترمذى الحكيم عن ذكوان. وقال ابن سبع كان-صلى اللّه عليه وسلم- نورا.

فكان إذا مشى فى الشمس أو القمر لا يظهر له ظل. قال غيره: ويشهد له قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى دعائه: (واجعلنى نورا) .

وأما لونه الشريف الأزهر- صلى اللّه عليه وسلم- فقد وصفه- عليه السّلام- جمهور أصحابه بالبياض، منهم: أبو بكر وعمر وعلى وأبو جحيفة وابن عمر وابن عباس وابن أبى هالة والحسن بن على وأبو الطفيل ومحرش الكعبى وابن مسعود والبراء وأنس فى إحدى الروايتين عنه.

فأما أبو جحيفة

فقال: كان أبيض (٤) . رواه البخارى. وأما أبو الطفيل ف

قال: كان أبيض مليحا (٥) . رواه الترمذى فى الشمائل، وفى رواية مسلم:

أبيض مليح الوجه. وفى رواية عنه للطبرانى: ما أنسى شدة بياض وجهه مع شدة سواد شعره. وفى شعر أبى طالب:

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ٢٦٧) عن جابر، ولم يعزه لأحد!.

(٢) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ٣٩٨) من حديث جابر- رضى اللّه عنه-، (١٣٨٩) ولكن عزاه لابن سعد.

(٣) قلت: بل هو عند البخارى (٢٨٠٢) فى الجهاد والسير، باب: من ينكب فى سبيل اللّه، ومسلم (١٧٩٦) فى الجهاد والسير، باب: ما لقى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين، من حديث جندب بن سفيان- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: وقد تقدم.

(٥) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٤٠) فى الفضائل، باب: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مليح الوجه.

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وقال على: أبيض مشرب، والمشرب: هو الذى فى بياضه حمرة، كما فى الرواية الآخرى: أبيض مشرب بحمرة، وبهذا فسر قول أنس فى صحيح مسلم: أزهر اللون. وفى النسائى من حديث أبى هريرة: بينا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- جالس بين أصحابه جاء رجل ف

قال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: هذه الأمغر المرتفق (١) . والأمغر: المشرب بحمرة. المرتفق: المتكئ على مرفقه.

وفى البخارى من حديث أنس: ليس بأبيض أمهق (٢) . قال الحافظ ابن حجر:

ووقع عند الداودى تبعا لرواية المروزى: أمهق ليس بأبيض، وفى رواية عند أبى حاتم وغيره أسمر. واستشكله بعضهم و

قال: إن غالب هذه الروايات متدافع، وبعضها ممكن الجمع كالأبيض مع رواية مشرب بالحمرة والأزهر، وبعضها غير ممكن الجمع كالأبيض الشديد الوضح مع الأسمر. واعترض الداودى رواية أمهق ليس بأبيض. وهى التى وقعت عنده تبعا لرواية المروزى.

وقال القاضى عياض: إنها وهم، و

قال: وكذلك رواية من روى أنه ليس بالأبيض ولا الآدم، ليس بصواب. قال الحافظ ابن حجر: هذا ليس يجيد لأن المراد أنه ليس بالأبيض الشديد البياض ولا بالآدم الشديد الأدمة، وإنما يخالط بياضه الحمرة، والعرب قد تطلق على كل من كان كذلك أسمر، ولهذا جاء فى حديث أنس عند أحمد والبزار وابن منده بإسناد صحيح أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان أسمر،

وأخرجه البيهقى فى الدلائل من وجه آخر عن أنس، فذكر الصفة النبوية ف

قال: كان- صلى اللّه عليه وسلم- أبيض بياضه إلى السمرة. وفى حديث ابن عباس فى صفته- صلى اللّه عليه وسلم-: رجل بين رجلين جسمه ولحمه، أحمر إلى البياض، أخرجه أحمد. وقد تبين من مجموع الروايات: أن المراد بالسمرة؛ الحمرة التى تخالط البياض، وأن المراد بالبياض المثبت ما تخالطه

__________

(١) أخرجه ابن عساكر كما فى (كنز العمال) (١٨٥٣٣) ، ولم أقف عليه فى النسائى، ولعله وهم.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٤٧ و ٣٥٤٨) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٤٧) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ومبعثه وسنه.

الحمرة، والمنفى ما لا تخالطه، وهو الذى تكره العرب لونه وتسميه أمهق، وبهذا تبين أن رواية المروزى أمهق ليس بأبيض مقلوبة، على أنه يمكن توجيهها بأن المراد بالأمهق الأخضر اللون الذى ليس بياضه فى الغاية، ولا سمرته ولا حمرته، فقد نقل عن رؤبة: أن المهق خضرة الماء، فهذا التوجيه يتم على تقدير ثبوت الرواية، وقد تقدم فى حديث أبى جحيفة إطلاق كونه كان أبيض، وكذا فى حديث أبى الطفيل عند مسلم والترمذى.

وفى حديث سراقة عند ابن إسحاق فجعلت أنظر إلى ساقه كأنها جمارة، ولأحمد من حديث محرش الكعبى فى عمرة الجعرانة

قال: فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة (١) . وعن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصفه- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: كان شديد البياض (٢) أخرجه يعقوب بن سفيان والبزار بإسناد قوى. ويجمع بينهما بما تقدم. وقال البيهقى:

يقال: إن المشرب منه بحمرة وإلى السمرة منه ما ضحى للشمس والريح أى كالوجه والعنق وأما ما تحت الثياب فهو الأزهر الأبيض انتهى. وهذا ذكره ابن أبى خيثمة عقب حديث عائشة فى صفته- صلى اللّه عليه وسلم- بأبسط من هذا وزاد: ولونه الذى لا يشك فيه الأبيض الأزهر. انتهى واللّه أعلم.

وقد ضعف بعضهم قول من قال: إنما وصف بالسمرة ما كانت الشمس تصيب منه، بأن أنسا لا يخفى عليه أمره حتى يصفه بغير صفته اللازمة له لقربه منه، ولم يكن- صلى اللّه عليه وسلم- ملازما للشمس، نعم لو وصفه بذلك بعض القادمين ممن صادفه فى وقت غيرته الشمس لأمكن، فالأولى حمل السمرة فى رواية أنس على الحمرة التى تخالط البياض كما قدمناه.

تنبيه: فى الشفاء حكاية عن أحمد بن سليمان صاحب سحنون: من قال إن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أسود يقتل. انتهى. وهذا يقتضى أن مجرد الكذب عليه فى صفة من صفاته كفر يوجب القتل. وليس كذلك، بل لابد من ضميمة ما يشعر بنقص فى ذلك. كما فى مسألتنا هذه فإن الأسود لون مفضول.

__________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

وأما طيب ريحه- صلى اللّه عليه وسلم- وعرقه وفضلاته، فقد كانت الرائحة الطيبة صفته- صلى اللّه عليه وسلم- وإن لم يمس طيبا. وروينا عن أنس

قال: ما شممت ريحا قط ولا مسكا ولا عنبرا أطيب من ريح رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (١) . لحديث رواه الإمام أحمد. وفى البخارى: ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وفى رواية الترمذى: ولا شممت مسكا قط ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وقوله: شممت: بكسر الميم الأولى وسكون الثانية. وعن أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد السلمى

قالت: كنا عند عتبة أربع نسوة، فما منا امرأة إلا وهى تجتهد فى الطيب لتكون أطيب ريحا منا، وكان إذا خرج إلى الناس قالوا: ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما: إنا لنجتهد فى الطيب، ولأنت أطيب ريحا منا فمم ذلك؟

فقال: أخذنى الشرى على عهد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأتيته فشكوت ذلك إليه، فأمرنى أن أتجرد، فتجردت وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبى على فرجى، فنفث فى يده ثم مسح ظهرى وبطنى بيده، فعبق بى هذا الطيب من يومئذ (٢) رواه الطبرانى فى معجمه الصغير.

وروى أبو يعلى والطبرانى قصة الذى استعان به- صلى اللّه عليه وسلم- على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شىء، فاستدعاه بقارورة فسلت له فيها من عرقه، و

قال: (مرها فلتطيب به) ، فكانت إذا تطيبت به شم أهل المدينة ذلك الطيب فسموا بيت المطيبين. وقال جابر بن عبد اللّه: كان فى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خصال: لم يكن فى طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيب عرقه وعرفه (٣) ، ولم يكن يمر بحجر إلا سجد له. رواه الدارمى والبيهقى وأبو نعيم. وللّه در القائل:

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦١) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٣٠) فى الفضائل، باب: طيب رائحة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأحمد فى (المسند) (٣/ ١٠٧ و ٢٠٠ و ٢٢٢ و ٢٢٧ و ٢٢٨ و ٢٦٥ و ٢٧٠) .

(٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٨٢) و

قال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، ورجال الأوسط رجال الصحيح. غير أم عاصم فإنى لم أعرفها.

(٣) أخرجه الدارمى فى (سننه) . (٦٦) .

فلو أن ركبا يمموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدل به الركب

وعن أنس

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا مر فى طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب وقالوا: مر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من هذا الطريق (١) . رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح. وما أحسن قول القائل:

يروح على غير الطريق التى غدا ... عليها فلا ينهى علاه نهاته

تنفسه فى الوقت أنفاس عطره ... فمن طيبه طابت له طرقاته

تروح له الأرواح حيث تنسمت ... لها سحرا من حيه نسماته

وعن عائشة

قالت: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن الناس وجها وأنورهم لونا، لم يصفه واصف قط إلا شبه وجهه بالقمر ليلة البدر. وكان عرقه فى وجهه مثل اللؤلؤ، أطيب من المسك الإذفر. رواه أبو نعيم. وعن أنس

قال: دخل علينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال عندنا، فعرق وجاءت أمى بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: (يا أم سليم ما هذا الذى تصنعين؟)

قالت: هذا عرقك نجعله لطيبنا، وهو أطيب الطيب (٢) . رواه مسلم.

وفى رواية له: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه. قال فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتيت فقيل لها هذا النبى نائم فى بيتك على فراشك

قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره فى قواريرها، ففزع- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: (ما تصنعين يا أم سليم)

فقالت: يا رسول اللّه نرجو بركته لصبياننا،

قال: (أصبت) والعتيدة: كالصندوق الصغير الذى تترك فيه المرأة ما يعز عليها من متاعها.

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٨٢) وقال: رواه أبو يعلى والبزار والطبرانى فى الأوسط، ورجال أبى يعلى وثقوا.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٣١) فى الفضائل، باب: طيب عرق النبى- صلى اللّه عليه وسلم- والتبرك به.

وأما ما روى أن الورد خلق من عرقه- صلى اللّه عليه وسلم- أو من عرق البراق فقال شيخنا فى الأحاديث المشتهرة: قال النووى: لا يصح. وقال شيخ الإسلام ابن حجر: إنه .......، وسبقه لذلك ابن عساكر، وهو فى مسند الفردوس بلفظ: (الورد الأبيض خلق من عرقى ليلة المعراج، والورد الأحمر خلق من عرق جبريل، والورد الأصفر خلق من عرق البراق) (١) . رواه من طريق مكى ابن بندار الزنجانى. حدثنا الحسن بن على بن عبد الواحد القرشى، حدثنا هشام بن عمار عن الزهرى عن أنس به مرفوعا ثم

قال: قال أبو مسعود حدث به أبو عبد اللّه الحاكم عن رجل عن مكى. ومكى تفرد به انتهى.

ورواه أبو الحسين بن فارس اللغوى فى (الريحان والراح) له عن مكى به.

ومكى ممن اتهمه الدارقطنى بالوضع، وله طريق أخرى رواه أبو الفرج النهروانى فى الخامس والتسعين من (الجليس الصالح) له من طريق محمد بن عنبسة بن حماد، حدثنا أبى عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار عن أنس رفعه: (لما عرج بى إلى السماء بكت الأرض من بعدى فنبت اللصف من نباتها، فلما أن رجعت قطر من عرقى على الأرض فنبت ورد أحمر، ألا من أراد أن يشم رائحتى فليشم الورد الأحمر) (٢) . ثم قال أبو الفرج:

اللصف: الكبر، وقال: وما أتى به هذا الخبر فهو اليسير من كثير مما أكرم اللّه به نبيه ودل على فضله ورفيع منزلته. انتهى. وإنما ذكرته ليعلم (٣) .

وعن جابر بن سمرة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- مسح خده، و

قال: فوجدت ليده بردا وريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار (٤) . قال غيره: مسها بطيب أو لم يمسها يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصبى فيعرف من بين الصبيان ريحها. وجؤنة العطار: بضم الجيم وهمزة بعدها، ويجوز تخفيفها واوا: سلسلة مستديرة مغشاة أدما.

__________

(١) ذكره الحافظ ابن حجر فى اللسان (٢/ ٢١٩) فى ترجمة الحسن بن عبد الواحد القزوينى، و

قال: هذا حديث .......، وضعه من لا علم له.

(٢) أخرجه ابن عدى فى (الكامل) (٢/ ٣٤٢) .

(٣) أى: يعلم أنه ........

(٤) صحيح: وقد تقدم.

وقد ورد مما عزاه القاضى عياض للأخباريين ومن ألف فى الشمائل الكريمة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتغوط انشقت الأرض وابتلعت بوله وغائطه وفاحت لذلك رائحة طيبة. قال غيره: ولم يطلع على ما يخرج منه بشر قط. وأسند محمد بن سعد كاتب الواقدى- كما هو فى بعض نسخ الشفاء، وقالوا: إنه ليس من الرواية ولا من حواشى أصل ابن جبير بل من حواشى غيره- عن عائشة- رضى اللّه عنها- قالت للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-: إنك تأتى الخلا فلا نرى منك شيئا من الأذى ف

قال: (يا عائشة أو ما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شىء) (١) انتهى.

وفى الشفاء لابن سبع عن بعض الصحابة

قال: صحبته- صلى اللّه عليه وسلم- فى سفر فلما أراد قضاء الحاجة تأملته وقد دخل مكانا فقضى حاجته، فدخلت الموضع الذى خرج منه فلم ير له أثر غائط ولا بول، ورأيت فى ذلك الموضع ثلاثة أحجار فأخذتهن فوجدت لهن رائحة طيبة وعطرا. قلت: وقد سئل الحافظ عبد الغنى المقدسى: هل روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان ما يخرج منه تبتلعه الأرض؟ ف

قال: قد روى ذلك من وجه غريب، والظاهر يؤيده، فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة أنه رآه ولا ذكره، وأما البول فقد شاهده غير واحد.

وشربته أم أيمن واللّه أعلم انتهى. لكن قال البيهقى:

وأما الحديث الذى أخبرنا به أبو الحسين بن بشر أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ حدثنا حسين بن علوان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة

قالت: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إذا دخل الغائط دخلت فى أثره فلا أرى شيئا إلا أنى كنت أشم رائحة الطيب، فذكرت ذلك له ف

قال: (يا عائشة أما علمت أن أجسادنا تنبت على أرواح أهل الجنة وما خرج منها ابتلعته الأرض) (٢) فهذا من .......ات الحسين بن علوان، لا ينبغى ذكره إلا لبيان أنه .......

__________

(١) أخرجه الدار قطنى فى الأفراد، وابن الجوزى فى الواجبات، كما فى (كنز العمال) (٣٢٢٥٣) .

(٢) أخرجه البيهقى فى (الدلائل) ، وابن عساكر عن عائشة، و

قال: هذا من .......ات حسين بن علوان، كما فى (كنز العمال) (٣٢٢٥٥) .

ففى الأحاديث الصحيحة المشهورة فى معجزاته كفاية عن كذب ابن علوان انتهى.

لكن للحديث طرق غير طريق ابن علون: فعند الدار قطنى فى الأفراد:

حدثنا محمد بن سليمان الباهلى حدثنا محمد بن حسان الأموى، أنبأنا عبدة ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة

قالت: يا رسول اللّه، إنى أراك تدخل الخلاء ثم يأتى الذى بعدك فلا يرى لما يخرج منك أثرا،

فقال: (يا عائشة أما علمت أن اللّه أمر الأرض أن تبتلع ما يخرج من الأنبياء) (١) ، ومحمد بن حسان بغدادى ثقة، وعبدة من رجال الصحيح. وله طريق أخرى عند ابن سعد، وأخرى عندالحاكم فى مستدركه. وروى أنه كان يتبرك ببوله ودمه- صلى اللّه عليه وسلم-. فروى ابن حبان فى (الضعفاء) عن ابن عباس

قال: حجم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- غلام لبعض قريش، فلما فرغ من حجامته أخذ الدم فذهب به من وراء الحائط، فنظر يمينا وشمالا فلم ير أحدا، فحسا دمه حتى فرغ ثم أقبل فنظر فى وجهه ف

قال: (ويحك ما صنعت بالدم) قلت غيبته من وراء الحائط، قال أين غيبته؟ قلت: يا رسول اللّه نفست على دمك أن أهريقه فى الأرض فهو فى بطنى

فقال: (اذهب فقد أحرزت نفسك من النار) .

وفى سنن سعيد بن منصور من طريق عمرو بن السائب أنه بلغه أن مالكا والد أبى سعيد الخدرى لما جرح النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مص جرحه حتى أنقاه ولاح أبيض

فقيل: مجه، ف

قال: لا واللّه لا أمجه أبدا، ثم ازدرده فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) (٢) .

فاستشهد.

وأخرج البزار والطبرانى والحاكم والبيهقى وأبو نعيم فى الحلية، من حديث عامر بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه

قال: احتجم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأعطانى الدم

فقال: (اذهب فغيبه) فذهب فشربته فأتيته- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) وانظر ما قبلهما.

(٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٣/ ٢٦٦) .

فقال: (ما صنعت) قلت: غيبته،

قال: (لعلك شربته) قلت: شربته، وفى رواية قلت:

جعلته فى أخفى مكان ظننت أنه خاف عن الناس،

قال: (لعلك شربته؟) قلت: شربته،

فقال: (ويل لك من الناس وويل للناس منك) . وفى رواية فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (فما حملك على ذلك)

قال: علمت أن دمك لا تصيبه نار جهنم فشربته لذلك،

فقال: (ويل لك من الناس) (١) .

وعند الدار قطنى من حديث أسماء بنت أبى بكر نحوه، وفيه: ولا تمسك النار، وفى كتاب الجوهر المكنون فى ذكر القبائل والبطون: أنه لما شرب- أى عبد اللّه بن الزبير- دمه تضوع فمه مسكا، وبقيت رائحته موجودة فى فمه إلى أن صلب- رضى اللّه عنه-.

وأخرج الحسن بن سفيان فى مسنده والحاكم والدار قطنى والطبرانى وأبو نعيم من حديث أبى مالك النخعى عن الأسود بن قيس عن نبيح عن أم أيمن

قالت: قام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من الليل إلى فخارة فى جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (يا أم أيمن قومى فأهريقى ما فى تلك الفخارة) ، فقلت: قد واللّه شربت ما فيها

قالت: فضحك رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى بدت نواجذه،

ثم قال: (أما واللّه لا يبجعن بطنك أبدا) (٢) .

وعن ابن جريج

قال: أخبرت أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان يبول فى قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره فجاء فإذا القدح ليس فيه شىء فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدم أم حبيبة جاءت معها من أرض الحبشة (أين البول الذى فى القدح)

قالت: شربته

قال: (صحة يا أم يوسف) فما مرضت قط حتى كان مرضها الذى ماتت فيه. ورواه أبو داود عن ابن جريج عن حكيمة عن أمها أميمة بنت رقيقة.

وصحح ابن دحية أنهما قصتان وقعتا لامرأتين وقد وضح أن بركة أم يوسف غير بركة أم أيمن، وهو الذى ذهب إليه شيخ الإسلام البلقينى.

وفى هذه الأحاديث دلالة على طهارة بوله ودمه- صلى اللّه عليه وسلم-. قال النووى

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٦٣٨) .

(٢) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٧٠) ، والطبرانى فى (الكبير) (٢٥/ ٨٩) .

فى شرح المهذب: واستدل من قال بطهارتهما بالحديثين المعروفين: أن أبا طيبة الحجام حجمه- صلى اللّه عليه وسلم- وشرب دمه ولم ينكر عليه، وأن امرأة شربت بوله- صلى اللّه عليه وسلم- فلم ينكر عليها. وحديث أبى طيبة .....، وحديث شرب البول صحيح رواه الدار قطنى

وقال: هو حديث حسن صحيح، وذلك كاف فى الاحتجاج لكل الفضلات قياسا، ثم إن القاضى حسينا

قال: الأصح القطع بطهارة الجميع انتهى. وبهذا قال أبو حنيفة، كما قاله العينى. وأبو طيبة؛ بفتح الطاء المهملة وسكون الياء المثناة تحت وبالموحدة، نافع الحجام مولى محيصة- بضم الميم وفتح المهملة وتشديد المثناة تحت وكسرها- هو أبو مسعود الأنصارى.

وقال شيخ الإسلام ابن حجر قد تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته- صلى اللّه عليه وسلم- وعدّ الأئمة ذلك فى خصائصه. انتهى. قال بعضهم: وكأن السر فى ذلك ما روى من صنيع الملكين حين غسلا جوفه واللّه أعلم.

وأما سيرته- صلى اللّه عليه وسلم- فى البراز، ففى حديث عائشة عند أبى عوانة فى صحيحه والحاكم: ما بال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قائما منذ أنزل عليه القرآن (١) .

وفى حديث عبد الرحمن بن حسنة عند النسائى وابن ماجه: أنه بال جالسا، فقالوا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة (٢) . وحكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه

قال: كان من شأن العرب البول قائما، ويؤيده ما فى حديث عبد الرحمن هذا. وفيه دلالة على أنه كان يخالفهم فى ذلك فيقعد لكونه أستر

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (١٢) فى الطهارة، باب: ما جاء فى النهى عن البول قائما، والنسائى (١/ ٢٦) فى الطهارة، باب: البول فى البيت جالسا، وابن ماجه (٣٠٧) فى الطهارة، باب: فى البول قاعدا، وأحمد فى (المسند) (٦/ ١٣٦ و ١٩٢ و ٢١٣) ، .

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٢) فى الطهارة، باب: الاستبراء من البول، والنسائى (١/ ٢٦) فى الطهارة، باب: البول إلى السترة يستتر بها، وابن ماجه (٣٤٦) فى الطهارة وسننها، باب: التشديد فى البول، وأحمد فى (المسند) (٤/ ١٩٦).

وأبعد عن مماسة البول. وقال حذيفة: أتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ (١) . رواه البخارى. وفى رواية غيره: بال قائما ففجع رجليه،أى: فرقهما وباعد ما بينهما.

والسباطة- بضم المهملة وبعدها موحدة- هى المزبلة والكناسة تكون بفناء الدور مرفقا لأهلها، وتكون فى الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك لأنها لا تخلو عن النجاسة. وبهذا يندفع إيراد من استشكله لكون البول يوهى الجدار ففيه إضرار، أو نقول: إنما بال فوق السباطة لا فى أصل الجدار، وهو صريح فى رواية أبى عوانة فى صحيحه.

وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم فى ذلك بالتصريح أو غيره أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف فى مال أمته دون غيره لأنه أولى بالمؤمنين عن أنفسهم وأموالهم، وهذا وإن كان صحيح المعنى لكن لم يعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه- صلى اللّه عليه وسلم-. قال الحافظ ابن حجر: وأما مخالفته- صلى اللّه عليه وسلم- لما عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظار، فقد قيل فيه إنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان مشغولا بمصالح المسلمين، ولعله طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول فلو أبعد لتضرر، واستدنى حذيفة ليستره من خلفه عن رؤية من لعله يراه، أو لعله فعله لبيان الجواز. ثم هو فى البول أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشف، والغرض من الإبعاد التستر وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر.

وروى الطبرانى من حديث عصمة بن مالك

قال: خرج علينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى بعض سكك المدينة فانتهى إلى سباطة قوم ف

قال: يا حذيفة استرنى فذكر الحديث (٢) . وظهر منه الحكمة فى إدنائه حذيفة فى تلك الحالة.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٢٤) فى الوضوء، باب: البول قائما وقاعدا، ومسلم (٢٧٣) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.

(٢) انظر (فتح البارى) (١/ ٣٢٩) .

وقيل: إنما بال قائما لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت، ففعل ذلك لكونه قريبا من الديار، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر- رضى اللّه عنه-

قال: البول قائما أحصن للدبر (١) .

وقيل السبب فى ذلك ما روى الشافعى وأحمد: أن العرب كانت تستشفى لوجع الصلب بذلك فلعله كان به. وروى الحاكم والبيهقى من حديث أبى هريرة

قال: إنما بال- صلى اللّه عليه وسلم- قائما لجرح كان بمأبضه (٢) .

والمأبض: بهمزة ساكنة بعدها موحدة ثم معجمة: باطن الركبة.

فكأنه لم يتمكن لأجله من القعود، ولو صح هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم ولكن ضعفه الدار قطنى والبيهقى، والأظهر: أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول من قعود.

وقيل إن البول عن قيام منسوخ واستدل عليه بحديث عائشة المتقدم.

والصواب: أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه فى البيوت، وأما غير البيوت فلم تطلع عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وهو جائز من غير كراهة إذا أمن الرشاش.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا أراد أن يدخل الخلاء

قال: (اللّهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث) (٣) . رواه البخارى من حديث أنس. والخبث: - بضم المعجمة والموحدة- ومراده: ذكران الشياطين وإناثهم. وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يستعيذ إظهارا للعبودية، ويجهر بذلك للتعليم. وهل يختص هذا الذكر بالأبنية المعدة لذلك لكونه حضرة الشياطين، أو يعم؟ الأصح الثانى. ويقول

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١/ ٢٥٧) و

قال: رواه الطبرانى فى (الكبير) ، وفيه الفضل بن المختار، وهو ....... الحديث يحدث بالأباطيل.

(٢) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (١/ ٢٩٠) ، والبيهقى فى (الكبرى) (١/ ١٠١) .

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٢) فى الوضوء، باب: ما يقال عند الخلاء، ومسلم (٣٧٥) فى الحيض، باب: ما يقول إذا أراد دخول الخلاء.

ذلك قبيل الدخول فى الأمكنة، وأما فى غيرها فيقول فى أول الشروع كتشمير ثيابه مثلا، وهذا مذهب الجمهور، فلو نسى يستعيذ بقلبه لا بلسانه.

وعن أنس: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض (١) . رواه الترمذى وأبو داود والدارمى. وعن عائشة

قالت: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء

قال: (غفرانك) (٢) رواه الترمذى وابن ماجه.

وعن أنس: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء

قال: (الحمد للّه الذى أذهب عنى الأذى وعافانى) (٣) . رواه ابن ماجه. وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا) (٤) ، رواهالبخارى من حديث أبى أيوب الأنصارى. وهذا فى الصحراء، أما فى البنيان فلا، لما روى عن ابن عمر: ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتى، فرأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقضى حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام (٥) . رواه الشيخان.

وأما حديث جابر: عند أبى داود وابن خزيمة، ولفظه عند أحمد: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٤) فى الطهارة، باب: كيف التكشف عند الحاجة، والترمذى (١٤) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الاستتار عند الحاجة.

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٠) فى الطهارة، باب: ما يقول: الرجل إذا خرج من الخلاء، والترمذى (٧) فى الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، وابن ماجه (٣٠٠) فى الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء، وأحمد فى (المسند) (٦/ ١٥٥).

(٣) أخرجه ابن ماجه (٣٠١) فى الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، بسند فيه إسماعيل بن مسلم المكى، متفق على ت.....ه.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٤) فى الوضوء، باب: لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء، ومسلم (٢٦٤) فى الطهارة، باب: الاستطابة.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٨) فى الوضوء، باب: التبرز فى البيوت، ومسلم (٢٦٦) فى الطهارة، باب: الاستطابة.

الماء (١) .

قال: ثم رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة. فقال فى فتح البارى:

الحق أنه ليس بناسخ لحديث النهى خلافا لمن زعمه، بل هو محمول على أنه رآه فى بناء أو نحوه، لأن ذلك هو المعهود من حاله- صلى اللّه عليه وسلم- لمبالغته فى التستر. ودعوى خصوصية ذلك بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- لا دليل عليها، إذا الخصائص لا تثبت بالاحتمال.

ومذهب الجمهور وهو مذهب مالك والشافعى وإسحاق: التفريق بين البنيان والصحراء، وهذا أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة. وقال قوم بالتحريم مطلقا، وهو المشهور عن أبى حنيفة وأحمد، ورجحه من المالكية ابن العربى وحجتهم: أن النهى مقدم على الإباحة، ولم يصححوا حديث جابر المتقدم. وقال قوم بالجواز مطلقا، وهو قول عائشة وعروة وربيعة، محتجين بأن الأحاديث تعارضت فلنرجع إلى أصل الإباحة.

وفى البخارى عن أنس كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا خرج لحاجته أجىء أنا وغلام، معنا إداوة من ماء، يعنى ليستنجى به (٢) . وفى رواية مسلم عنه: فخرج علينا وقد استنجى بالماء. وعن أبى هريرة

قال: اتبعت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وخرج لحاجته ف

قال: (ابغنى أحجارا أستنفض بها ولا تأتنى بعظم ولا روث) ، فأتيته بأحجار بطرف ثيابى فوضعتها إلى جنبه فلما قضى حاجته أتبعه بهن (٣) . وعن عبد اللّه بن مسعود

قال: أتى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الغائط فأمرنى أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ

__________

(١) حسن: أخرجه أبو داود (١٣) فى الطهارة، باب: الرخصة فى ذلك، والترمذى (٩) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الرخصة فى ذلك، وابن ماجه (٣٢٥) فى الطهارة، باب: الرخصة فى ذلك، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٣٦٠) ، وابن حبان فى (صحيحه) (١٤٢٠) ، وابن خزيمة فى (صحيحه) (٥٨) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٥١) فى الوضوء، باب: من حمل معه الماء لطهوره، ومسلم (٢٧١) فى الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء من التبرز.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٥) فى الوضوء، باب: الاستنجاء بالحجارة.

الحجرين وألقى الروثة (١) . رواه البخارى. وفى حديث سلمان عند مسلم مرفوعا: (لا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار) (٢) .

وقد أخذ الشافعى وأحمد وأصحاب الحديث بهذا، فاشترطوا أن لا ينقص عن الثلاثة مع مراعاة الإنقاء إذا لم يحصل بها فتزاد حتى ينقى.

ويستحب حينئذ الإيتار، لقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (ومن استجمر فليوتر) (٣) . وليس بواجب لزيادة فى أبى داود حسنة الإسناد،

قال: ومن لا، فلا حرج، قال الخطابى: لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظا وعلم الإنقاء فيه معنى دل على إيجاب الأمرين، ونظيره:

العدة بالإقراء، فإن العدد مشترط ولو تحققت براءة الرحم بقرء واحد. وقال الطحاوى: لو كان العدد مشترطا لطلب- عليه السّلام- حجرا ثالثا. وغفل- رحمه اللّه- عما أخرجه أحمد فى مسنده من طريق معمر عن ابن مسعود فى هذا الحديث، فإن فيه: فألقى الروثة و

قال: (إنها ركس، ائتنى بحجر) ورجاله ثقات أثبات. واستدلال الطحاوى فيه نظر، لاحتمال أن يكون اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث، لأن المقصود بالثلاثة: أن يمسح بها ثلاث مسحات، وذلك حاصل ولو بواحد. انتهى ملخصا من فتح البارى.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٦) فى الوضوء، باب: لا يستنجى بروث.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٦٢) فى الطهارة، باب: الاستطابة.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٦١) فى الوضوء، باب: الاستنثار فى الوضوء، ومسلم (٢٣٧) فى الطهارة، باب: الإيتار فى الاستنثار والاستجمار، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

الفصل الثانى فيما أكرمه اللّه تعالى به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية

اعلم أن الأخلاق جمع خلق. بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها. قال الراغب: الخلق- بالفتح وبالضم- فى الأصل بمعنى واحد، كالشرب والشرب لكن خص الخلق الذى بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذى بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة. انتهى. وقد اختلف: هل حسن الخلق غريزة أو مكتسب؟ وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ابن مسعود: (إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم) (١) الحديث رواه البخارى. وقد قال القرطبى: الخلق جبلة فى نوع الإنسان. وهم فى ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شىء منها كان محمودا وإلا فهو المأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان .....ا فيرتاض حتى يقوى.

وقد وقع فى حديث الأشج أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال له: (إن فيك لخصلتين يحبهما اللّه: الحلم والأناة) ،

قال: يا رسول اللّه قديما كانا أو حديثا؟

قال: (قديما) ،

قال: الحمد للّه الذى جبلنى على خلتين يحبهما اللّه (٢) . رواه أحمد والنسائى وصححه ابن حبان. فترديد السؤال وتقريره عليه بأن فى الخلق ما هو جبلى وما هو مكتسب. وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول:

__________

(١) صحيح موقوفا: أخرجه البخارى فى (التاريخ الكبير) (٤/ ٣١٣) ، وليس فى الصحيح كما يوهم صنيع المؤلف.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٨) فى الإيمان، باب: الأمر بالإيمان باللّه تعالى ورسوله- صلى اللّه عليه وسلم-، وابن ماجه (٤١٨٧) فى الزهد، باب: الحلم، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

(اللّهم كما حسنت خلقى فحسن خلقى) (١) . أخرجه أحمد وصححه ابن حبان، وعند مسلم فى حديث دعاء الافتتاح: (واهدنى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت) (٢) . ولما اجتمع فيه- صلى اللّه عليه وسلم- من خصال الكمال ما لا يحيط به حد، ولا يحصره عد، أثنى اللّه تعالى عليه فى كتابه الكريم

فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٣) ، وكلمة (على) للاستعلاء فدل اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاق ومستول عليها.

والخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة، وقد وصف اللّه تعالى نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم

فقال تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظِيماً (٤) ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم،

فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٥) . فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة. قال الحليمى: وإنما وصف خلقه بالعظم، مع أن الغالب وصف الخلق بالكرم لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة، ولم يكن خلقه- صلى اللّه عليه وسلم- مقصورا على ذلك، بل كان رحيما بالمؤمنين، رفيقا بهم، شديدا على الكفار، غليظا عليهم، مهيبا فى صدور الأعداء، منصورا بالرعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصف خلقه بالعظيم أولى ليشمل الإنعام والانتقام.

وقال الجنيد: وإنما كان خلقه- صلى اللّه عليه وسلم- عظيما لأنه لم يكن له همة سوى اللّه تعالى.

وقيل: لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- عاشر الخلق بخلقه، وباينهم بقلبه.

وقيل:

__________

(١) صحيح: أخرجه أحمد فى المسند عن ابن مسعود، كما فى (صحيح الجامع) (١٣٠٧) إلا أنى لم أقف عليه فى المسند.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٧٧١) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث على- رضى اللّه عنه-.

(٣) سورة القلم: ٤.

(٤) سورة النساء: ١١٣.

(٥) سورة القلم: ٤.

لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال- صلى اللّه عليه وسلم- فيما رواه الطبرانى فى الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسى وهو .....- عن جابر: (إن اللّه بعثنى بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال) (١) ، وفى رواية مالك فى الموطأ بلاغا: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (٢) . فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه- صلى اللّه عليه وسلم-، فإنه أدب بالقرآن، كما قالت عائشة- رضى اللّه عنها-: (كان خلقه القرآن) (٣) .

قال بعض العارفين: وقد علم أن القرآن فيه المتشابه الذى لا يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون فى العلم يقولون آمنا به، أى أقررناه فى نصابه، وأقررنا به من خلف حجابه، وتقلدنا سيف الحجة به ولكن فى قرابه.

وما كونه مما تحصل مقلة ... ولا حده مما تحس الأنامل

وقال صاحب عوارف المعارف: ولا يبعد أن قول عائشة- رضى اللّه عنها-: (كان خلقه القرآن) فيه رمز غامض، وإيماء خفى إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الإلهية أن تقول: كان متخلقا بأخلاق اللّه تعالى فعبرت عن المعنى بقولها: (كان خلقه القرآن) استحياء من سبحات الجلال وسترا للحال بلطف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها. انتهى.

فكما أن معانى القرآن لا تتناهى فكذلك أوصافه الجميلة الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى إذ فى كل حالة من أحواله يتجدد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وما يفيضه اللّه تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى. فإذا التعرض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة تعرض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته.

قال الحرالى- وهو كما فى القاموس: بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة

__________

(١) إسناده ..... ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ١٨٨) عن جابر و

قال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عمر بن إبراهيم القرشى، وهو ......

(٢) أخرجه مالك فى (الموطأ) (٢/ ٩٠٤) بلاغا.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٧٤٦) فى صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل.

بالبربر، واسمه: على بن أحمد بن الحسين، ذو التصانيف المشهورة-: ولما كان عرفان قلبه- صلى اللّه عليه وسلم- بربه عز وجل كما قال- عليه السّلام-: (بربى عرفت كل شىء) (١) كانت أخلاقه أعظم خلق، فلذلك بعثه إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الإنس حتى عمت الجن، ولم يقصرها على الثقلين حتى عمت جميع العالمين: فكل من كان اللّه ربه فمحمد رسوله، وكما أن الربوبية تعم العالمين فالخلق المحمدى يشمل جميع العالمين. انتهى. وهذا مصير منه إلى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قد أرسل إلى الملائكة أيضا، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوفى إن شاء اللّه تعالى وهو المستعان.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- مجبولا على الأخلاق الكريمة فى أصل خلقته الزكية النقية، لم يحصل له ذلك برياضة نفس، بل بجود إلهى، ولهذا لم تزل تشرق أنوار المعارف فى قلبه حتى وصل إلى الغاية العليا والمقام الأسنى.

وأصل هذه الخصال الحميدة، والمواهب المجيدة، كمال العقل، لأن به تقتبس الفضائل وتجتنب الرذائل، فالعقل لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان، قال بعضهم: لكل شىء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر. وأما ما روى (أن اللّه لما خلق العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر،

فقال: وعزتى وجلالى ما خلقت خلقا أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطى) . فقال ابن تيمية وتبعه غيره: إنه كذب ....... باتفاق. انتهى. وفى زوائد عبد اللّه ابن الإمام أحمد على (الزهد)لأبيه عن على بن مسلم عن سيار بن حاتم- وهو ممن ضعفه غير واحد وكان جماعا للرقائق، وقال القواريرى: إنه لم يكن له عقل-

قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعى، حدثنا مالك بن دينار عن الحسن البصرى، مرسلا: (لما خلق اللّه العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر،

فقال: ما خلقت خلقا أحب إلى منك، بك آخذ وبك أعطى) .

وأخرجه داود بن المحبر فى كتاب العقل له، وابن المحبر كذاب. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: والوارد فى أول ما خلق اللّه، حديث أول ما

__________

(١) لم أقف على هذه العبارة.

خلق اللّه القلم، وهو أثبت من حديث العقل. ولأبى الشيخ عن قرة بن إياس المزنى رفعه: (الناس يعملون الخير وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم) (١) .

وقد اختلف فى ماهية العقل اختلافا طويلا يطول استقصاؤه. وفى القاموس ومن خط مؤلفه نقلت: العقل العلم، أو بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشر الشرين، أو يطلق لأمور لقوة بها يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعان مجتمعة فى الذهن تكون بمقدمات يستثبت بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان فى حركاته وكلماته، والحق أنه روحانى به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ. انتهى.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- من كمال العقل فى الغاية القصوى التى لم يبلغها بشر سواه، ولهذا كانت معارفه عظيمة وخصائصه جسيمة، حارت العقول فى بعض فيض ما أفاضه من غيبه لديه، وكلّت الأفكار فى معرفة بعض ما أطلعه اللّه عليه، وكيف لا يعطى ذلك وقد امتلأ قلبه وباطنه وفاض على جسده المكرم ما وهبه من أسرار إلهيته ومعرفة ربوبيته وتحقق عبوديته. قال وهب بن منبه: قرأت فى أحد وسبعين كتابا، فوجدت فى جميعها أن اللّه تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل فى جنب عقله- صلى اللّه عليه وسلم- إلا كحبة رمل بين رمل من جميع رمال الدنيا، وإن محمدا أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا. رواه أبو نعيم فى الحلية وابن عساكر.

وعن بعضهم مما هو فى عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون فى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وجزء فى سائر المؤمنين، ومن تأمل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحش الشادر، والطبع المتنافر والمتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاءهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه،

__________

(١) أخرجه أبو الشيخ، كما فى (كنز العمال) (٧٠٥٢) .

وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروا على أنفسهم، وهجروا فى رضاه أوطانهم وأحباءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين، ولما كان عقله- صلى اللّه عليه وسلم- أوسع العقول لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعا لا يضيق عن شىء. فمن ذلك: اتساع خلقه العظيم فى الحلم والعفو مع القدرة وصبره- صلى اللّه عليه وسلم- على ما يكره، وحسبك صبره وعفوه- عليه السّلام- عن الكافرين به المقاتلين المحاربين له فى أشد ما نالوه به من الجراح بحيث كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد، حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، حتى شق ذلك على أصحابه شديدا، وقالوا: لو دعوت عليهم، ف

قال: (إنى لم أبعث لعانا، ولكنى بعثت داعيا ورحمة،

اللّهم اغفر لقومى، أو اهد قومى فإنهم لا يعلمون) (١) .

قال ابن حبان: أى اغفر لهم ذنبهم فى شج وجهى لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقا، إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلهم.

كذا قال- رحمه اللّه-. وقد روى عن عمر أنه قال فى بعض كلامه: بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه، لقد دعا نوح على قومه ف

قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢) الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت:

(اللّهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون) .

وهاهنا دقيقة؛ وهى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما شج عفا وقال

(اللّهم اهد قومى) ، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق

قال:

(اللّهم املأ بطونهم نارا) (٣) فتحمل الشجة الحاصلة فى وجه جسده الشريف، وما تحمل الشجة الحاصلة فى وجه دينه، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجح حتى خالقه على حقه.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٥٩٩) فى البر والصلة، باب: النهى عن لعن الدواب وغيرها، مقتصرا على طرفه الأول، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) سورة نوح: ٢٦.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٦٢٧) فى المساجد، باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هى صلاة العصر، من حديث على- رضى اللّه عنه-.

واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل اللّه تعالى النفس على التألم بما يفعل بها، ولهذا شق عليه- صلى اللّه عليه وسلم- نسبتهم له إلى الجور فى القسمة، لكنه- عليه السّلام- حلم على القائل وصبر، لما علم من جزيل ثواب الصابر وأن اللّه يأجره بغير حساب. وصبره- صلى اللّه عليه وسلم- على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأما إذا كان اللّه فإنه يمتثل فيه أمر اللّه تعالى من الشدة كما قال له تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (١) وقد وقع له- صلى اللّه عليه وسلم- أنه غضب لأسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كان فى أمر اللّه، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد فى الزجر. فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة- صلى اللّه عليه وسلم-.

وقد روى الطبرانى وابن حبان والحاكم والبيهقى عن زيد بن سعنة- بالمهملة والنون المفتوحتين، كما قيده به عبد الغنى وذكره الدار قطنى: وبالمثناة التحتية، ثبت فى الشفاء وصحح عليه مؤلفه بخطه، وهو الذى ذكره ابن إسحاق، وهو كما قاله النووى: أجل أحبار اليهود الذين أسلموا- أنه

قال: لم يبق من علامات النبوة شىء إلا وقد عرفته فى وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما. فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرا إلى أجل فأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت:

ألا تقضينى يا محمد حقى، فو اللّه إنكم يا بنى عبد المطلب مطل، فقال عمر:

أى عدو اللّه، أتقول لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما أسمع فو اللّه لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفى رأسك، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ينظر إلى عمر فى سكون وتؤدة وتبسم ثم

قال: (أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرنى بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا مكان ما رعته) ، ففعل، فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد

__________

(١) سورة التوبة: ٧٣.

عرفتها فى وجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما:

يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد اختبرتهما، فأشهدك أنى قد رضيت باللّه ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا (١) .

وعن أبى هريرة قال حدثنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يوما ثم قام، فقمنا حين قام فنظرنا إلى أعرابى قد أدركه فجبذه بردائه فحمر رقبته، وكان رداء خشنا، فالتفت إليه فقال له الأعرابى: احملنى على بعيرى هذين، فإنك لا تحملنى من مالك ولا من مال أبيك، فقال له- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا، وأستغفر اللّه، لا وأستغفر اللّه، لا وأستغفر اللّه، لا أحملك حتى تقيدنى من جبذتك التى جبذتنى) ، فكل ذلك يقول له الأعرابى: واللّه لا أقيدكها، فذكر الحديث،

قال: ثم دعا رجلا فقال له: (احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرا وعلى الآخر شعيرا) (٢) رواه أبو داود.

ورواه البخارى من حديث أنس بلفظ: كنت أمشى مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية فأدركه أعرابى فجبذ بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتقه وقد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جبذته، ثم

قال: يا محمد مر لى من مال اللّه الذى عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء (٣) .

وفى هذا بيان حلمه- صلى اللّه عليه وسلم- وصبره على الأذى فى النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وعن عائشة لم يكن النبى

__________

(١) أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٢٨٨) ، والحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٧٠٠) ، والطبرانى فى (الكبير) (٥/ ٢٢٢) .

(٢) أخرجه أبو داود (٤٧٧٥) فى الأدب، باب: فى الحلم وأخلاق النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والنسائى (٨/ ٣٣) فى القسامة، باب: القود من الجبذة .

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٤٩) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس وغيره، ومسلم (١٠٥٧) فى الزكاة، باب: إعطاء من سأل بفحش وغلظة.

- صلى اللّه عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح (١) . رواه الترمذى، أى لم يكن له الفحش خلقا ولا مكتسبا. وروى البخارى من حديث ابن عمرو: ولم يكن- صلى اللّه عليه وسلم- فاحشا ولا متفاحشا (٢) ، وفى روايته أيضا من حديث أنس بن مالك: لم يكن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- سبابا ولا فاحشا ولا لعانا (٣) . والفحش: كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل فى القول والفعل والصفة، لكن استعماله فى القول أكثر: والمتفحش:

بالتشديد، الذى يتعمد ذلك ويكثر منه ويتكلفه.

وعن عائشة أن رجلا استأذن على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فلما رآه

قال: بئس أخو العشيرة، أو بئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول اللّه، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت فى وجهه وانبسطت إليه. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (يا عائشة، متى عهدتينى فاحشا، إن شر الناس عند اللّه منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) (٤) ، رواه البخارى. قال ابن بطال: هذا الرجل هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارى، وكان يقال له الأحمق المطاع. وكذا فسره به القاضى عياض والقرطبى والنووى.

وأخرج عبد الغنى من طريق أبى عامر الخزاعى، عن عائشة

قالت: جاء مخرمة بن نوفل يستأذن، فلما سمع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- صوته

قال: (بئس أخو العشيرة) . الحديث. والمراد بالعشيرة: الجماعة أو القبيلة، وإنما تطلق- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٠١٦) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى خلق النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٢٣٦) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧٦٠) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب عبد اللّه بن مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٣١) فى الأدب، باب: لم يكن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٢٣) فى الأدب، باب: لم يكن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا، ومسلم (٢٥٩١) فى البر والآداب، باب: مداراة من يتقى فحشه.

فى وجهه تألفا له ليسلم قومه، لأنه كان رئيسهم. وقد جمع هذا الحديث كما قال الخطابى علما وأدبا، وليس قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى أمته بالأمور التى يسمهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم فى بعض، بل الواجب عليه- صلى اللّه عليه وسلم- أن يبن ذلك ويفصح به، ويعرف الناس أمرهم فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة. ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدى به أمته فى اتقاء شر من هذا سبيله وفى مداراته ليسلموا من شره وغائلته. وقال القرطبى: فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة فى دين اللّه.

ثم قال تبعا للقاضى حسين: والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهو مباحة وربما استحسنت، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق فى مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقدير الإشكال وللّه الحمد. وقال القاضى عياض: لم يكن عينية- واللّه أعلم- حينئذ أسلم، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا، فأراد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه فى حياة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به- صلى اللّه عليه وسلم- من علامات النبوة، وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الائتلاف وفى فتح البارى: أن عيينة ارتد فى زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح فى عهد عمر. انتهى.

(وما انتقم- صلى اللّه عليه وسلم- لنفسه) (١) . رواه البخارى.

فإن قلت: قد صح أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أمر بقتل عقبة بن أبى معيط وعبد اللّه بن خطل وغيرهما ممن كان يؤذيه- صلى اللّه عليه وسلم- وهذا ينافى قوله: (وما انتقم لنفسه) .

فالجواب: أنهم كانوا مع

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦٠) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٢٧) فى الفضائل، باب: مباعدته- صلى اللّه عليه وسلم- للآثام واختياره من المباح أسهله.

ذلك ينتهكون حرمات اللّه.

وقيل: أراد أنه لا ينتقم إذا أوذى فى غير السبب الذى يخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابى الذى جفا فى رفع صوته عليه، وعن الآخر الذى جبذ بردائه حتى أثر فى كتفه. وحمل الداودى عدم الانتقام على ما يختص بالمال، وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه.

وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهرى مطولا، وأوله: ما لعن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مسلما بذكر- أى بصريح اسمه- وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن يضرب فى سبيل اللّه، ولا سئل شيئا قط فمنعه إلا أن يسأل مأثما، ولا انتقم لنفسه من شىء إلا أن تنتهك حرمات اللّه فيكون للّه ينتقم (١) . الحديث. ومما روى من اتساع خلقه وحلمه- صلى اللّه عليه وسلم-، اتساع خلقه لطائفة المنافقين، الذين كانوا يؤذونه إذا غاب ويتملقون له إذا حضر، وذلك مما تنفر منه النفوس البشرية حتى تؤيدها العناية الربانية.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- كلما أذن له فى التشديد عليهم فتح لهم- صلى اللّه عليه وسلم- بابا من الرحمة، فكان يستغفر لهم ويدعو لهم، حتى أنزل اللّه عليه اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ(٢) ، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (خيرنى ربى فاخترت أن أستغفر لهم) ولما قال تعالى إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ (٣) ، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لأزيدن على السبعين)(٤) وأمر ولد الذى تولى كبر النفاق والأذى منهم ببر أبيه، ولما مات كفنه فى ثوبه خلعه عن بدنه وصلى عليه، هذا وعمر ابن الخطاب- رضى اللّه عنه- يجذبه بثوبه ويقول: يا رسول اللّه أتصلى على رأس المنافقين؟ فنتر ثوبه من عمر و

قال: (إليك عنى يا عمر) (٥) . فخالف مؤمنا وليّا فى حق منافق عدو، وكل ذلك رحمة منه لأمته، أشار إليه الحرالى.

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٦٧٠) ، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) سورة التوبة: ٨٠.

(٣) سورة التوبة: ٨٠.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٤٦٧٠) فى التفسير، باب: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، ومسلم (٢٤٠٠) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى اللّه عنه-، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما- بنحوه.

(٥) انظر ما قبله.

وقال النووى: قيل إنما أعطاه قميصه وكفنه فيه تطييبا لقلب ابنه، فإنه كان صحابيّا صالحا وقد سأل ذلك فأجابه إليه، وقيل مكافأة لعبد اللّه المنافق الميت، لأنه كان ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصا. وفى ذلك كله بيان عظيم مكارم أخلاق النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء، وقابله بالحسنى فألبسه قميصه كفنا وصلى عليه واستغفر له، قال اللّه تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (١) .

ومن ذلك أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره. وعفا عن اليهودية التى سمته فى الشاة على الصحيح من الرواية. واللّه تعالى يرحم القائل:

وما الفضل إلا خاتم أنت فصه ... وعفوك نقش الفص فاختم به عذرى

ومن ذلك إشفاقه- صلى اللّه عليه وسلم- على أهل الكبائر من أمته، وأمره إياهم بالستر، ف

قال: (من بلى بهذه القاذورات) يعنى المحرمات (فليستتر) (٢) .

وأمر أمته أن يستغفروا للمحدود ويترحموا عليه لما حنقوا عليه فسبوه ولعنوه، ف

قال: (قولوا اللّهم اغفر له، اللّهم ارحمه) (٣) وقال لهم فى رجل كان كثيرا ما يؤتى به سكران بعد تحريم الخمر، فلعنوه مرة ف

قال: (لا تلعنوه فإنه يحب اللّه ورسوله) (٤) . فأظهر لهم مكتوم قلبه لما رفضوه بظاهر فعله، وإنما ينظر اللّه إلى القلوب، طهر اللّه قلوبنا وغفر عظيم ذنوبنا. ومن ذلك ما رواه الدار قطنى من حديث عائشة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه كان يصغى إلى الهرة الإناء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلها (٥) .

__________

(١) سورة القلم: ٤.

(٢) أخرجه مالك فى (الموطأ) (٢/ ٨٢٥) عن زيد بن أسلم مرسلا.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٤٧٧) فى الحدود، باب: الحد فى الخمر، وأحمد فى (المسند) (٢/ ٢٩٩) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٦٧٨٠) فى الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج من الملة، من حديث عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه-.

(٥) إسناده ..... أخرجه الدار قطنى (١/ ٦٦) بسند فيه عبد اللّه بن سعيد المقبرى، ......

ومن ذلك اتساع خلقه فى شريف تواضعه وآدابه وحسن عشرته مع أهله وخدمه وأصحابه.

وقال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لمعان نور المشاهدة فى قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفى ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتلين وتنطبع للحق والخلق بمحو آثارها وسكون وهجها وغبارها. وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- فى أوطان القرب وحسبك من تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم- أن خيره ربه تعالى بين أن يكون نبيّا ملكا،أو نبيّا عبدا، فاختار أن يكون نبيّا عبدا، فأعطاه اللّه تعالى بتواضعه أن جعله أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع، وأول مشفع، فلم يأكل متكئا بعد ذلك حتى فارق الدنيا. وقد قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد اللّه، فقولوا: عبد اللّه ورسوله) (١) رواه الترمذى.

ومن تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه لا ينهر خادما، روينا فى كتاب الترمذى عن أنس

قال: خدمت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لى أف قط ولا قال لشىء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشىء تركته لم تركته؟ (٢) وكذلك كان- صلى اللّه عليه وسلم- مع عبيده وإمائه، ما ضرب منهم أحدا قط، وهذا أمر لا تتسع له الطباع البشرية لولا التأييدات الربانية.

وفى رواية مسلم: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٣) . وقالت عائشة: ما ضرب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شيئا قط بيده، ولا

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤٤٥) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول اللّه وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، وأحمد فى (المسند) (١/ ٢٣ و ٢٤ و ٤٧) ، من حديث عمر- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٣٨) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء، ومسلم (٢٣٠٩) فى الفضائل، باب: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن الناس خلقا.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣١٦) فى الفضائل، باب: رحمته- صلى اللّه عليه وسلم- الصبيان والعيال، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد فى سبيل اللّه، وما نيل منه شىء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شىء من محارم اللّه فينتقم للّه (١) . رواه مسلم.

وسئلت عائشة: كيف كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا خلا فى بيته؟

قالت: ألين الناس، بساما ضحاكا (٢) ، لم ير قط مادّا رجليه بين أصحابه. وعنها: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما دعاه أحد من أصحابه إلا قال لبيك.

وعند أحمد وابن سعد وصححه ابن حبان عنها: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يخيط ثوبه ويخصف نعله (٣) ، وفى رواية لأحمد: ويرفع دلوه، وعنده أيضا: يفلى ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه. وهذا يتعين حمله على أوقات فإنه ثبت أنه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة. وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، وركب يوم بنى قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف (٤) رواهالترمذى.

وعن قيس بن سعد

قال: زارنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فلما أراد الانصراف قرب له سعد حمارا وطأ عليه بقطيفة، وركب- صلى اللّه عليه وسلم- ثم قال سعد: يا قيس، اصحب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، قال قيس: فقال لى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-:

(اركب) فأبيت،

فقال: (إما أن تركب وإما أن تنصرف) . وفى رواية أخرى:

(اركب أمامى فصاحب الدابة أولى بمقدمها) (٥) رواه أبو داود وغيره. وفى

__________

(١) صحيح: وقد تقدم قريبا.

(٢) إسناده ..... أخرجه ابن سعد وابن عساكر، كما فى (..... الجامع) (٤٣٨٦) .

(٣) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٦/ ١٢١ و ٢٥٦ و ٢٦٠) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٥٦٧٧ و ٦٤٤٠ و ٥٦٧٥).

(٤) أخرجه الترمذى (١٠١٧) فى الجنائز، باب: آخر، وقال الترمذى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مسلم عن أنس، ومسلم الأعور يضعف، هو مسلم بن كيسان الملائى.

(٥) الإسناد: أخرجه أبو داود (٥١٨٥) فى الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل فى الاستئذان، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٤٢١) .

البخارى من حديث أنس بن مالك: أقبلنا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من خيبر، وإنى لرديف أبى طلحة وهو يسير، وبعض نساء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- رديف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، إذ عثرت الناقة، فقلت: المرأة، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنها أمكم) ، فشددت الرحل، وركب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، الحديث (١) . والمرأة: صفية، والردف والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه.

وقال معاذ بن جبل: بينا أنا رديف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ليس بينى وبينه إلا آخرة الرحل. وقد ركب- صلى اللّه عليه وسلم- على حمار على إكاف عليه قطيفة فدكية أردف أسامة وراءه.

ولما قدم- صلى اللّه عليه وسلم- مكة استقبله أغيلمة بنى عبد المطلب، فحمل واحدا بين يديه، وآخر خلفه. وقال ابن عباس: أتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مكة وقد حمل قثم بين يديه والفضل خلفه، أو قثم خلفه والفضل بين يديه (٢) ، رواه البخارى. وذكر المحب الطبرى فى مختصر السيرة النبوية له، أنه- صلى اللّه عليه وسلم- ركب حمارا عريا إلى قباء وأبو هريرة معه،

قال: (يا أبا هريرة أأحملك)

فقال: ما شئت يا رسول اللّه،

فقال: (اركب) ، فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر فاستمسك رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فوقعا جميعا. ثم ركب- صلى اللّه عليه وسلم- ثم

قال:

(يا أبا هريرة أأحملك) ؟

فقال: ما شئت يا رسول اللّه

فقال: (اركب) فلم يقدر فتعلق برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فوقعا جميعا، ثم

قال: (يا أبا هريرة أأحملك)

فقال: لا والذى بعثك بالحق لا رميتك ثالثا (٣) .

وذكر المحب الطبرى أيضا: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان فى سفر، وأمر أصحابه بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول اللّه على ذبحها، وقال الآخر: يا رسول اللّه، على سلخها، وقال آخر: يا رسول اللّه، على طبخها فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (علىّ جمع الحطب) فقالوا: يا رسول اللّه نكفيك العمل، ف

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٩٦٨) فى اللباس، باب: إرداف المرأة خلف الرجل.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٩٦٦) فى اللباس، باب: حمل صاحب الدابة غيره بين يديه.

(٣) تقدم.

قال: (قد علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم، فإن اللّه يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه) انتهى. ولم أر هذا لغير الطبرى بعد التتبع نعم رأيت فى جزء تمثال النعل الشريف لأبى اليمن بن عساكر بعد أن روى حديث عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه

قال: كنت مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى الطواف فانقطعت شسعه فقلت: يا رسول اللّه ناولنى أصلحه،

فقال: (أثرة ولا أحب الأثرة) (١) والأثرة: بفتح الهمزة والثاء، الاسم من آثر يؤثر إذا أعطى، والأثرة: الاستئثار وهو الانفراد بالشىء.

قال: وكأنه كره- صلى اللّه عليه وسلم- أن ينفرد أحد بإصلاح نعله، فيحوز فضيلة الخدم فيكون له بمثابة الخادم ويكون له- صلى اللّه عليه وسلم- ترفع المخدوم على خادمه، كره ذلك- صلى اللّه عليه وسلم- لتواضعه وعدم ترفعه على من يصحبه.

ويؤيده ما روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أراد أن يمتهن نفسه فى شىء فقالوا: نحن نكفيك يا رسول اللّه،

قال: (قد علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم فإن اللّه يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه) انتهى. ثم رأيت شيخنا فى الأحاديث المشتهرة حكى ذلك واللّه الموفق.

وعن أبى قتادة: وقد وفد النجاشى، فقام النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك،

قال: (إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم) (٢) ذكره فى الشفاء.

وفى البخارى: عن أنس: كان الرجل يجعل للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- النخلات حتى افتتح قريظة والنضير، وإن أهلى أمرونى أن آتى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأسأله الذى كانوا أعطوه أوبعضه، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- قد أعطاه أم أيمن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب فى عنقى تقول: كلا والذى لا إله غيره لا نعطيكم وقد

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ٢٤٤) وقال: رواه أبو يعلى والطبرانى فى الكبير والأوسط، وفيه عاصم بن عبيد اللّه وهو .....، وفى (٩/ ٢١) و

قال: رواه البزار وفيه من لم أعرفه.

(٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٢/ ٣٠٧) .

أعطانيها- أو كما قال- والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (لك كذا) وتقول كلا واللّه، حتى أعطاها- حسبت أنه قال- عشرة أمثاله (١) أو كما قال.

وإنما فعلت هذا أم أيمن لأنها ظنت أنها كانت هبة مؤبدة وتمليكا لأصل الرقبة، وأراد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- استطابة قلبها فى استرداد ذلك فلاطفها وما زال يزيدها فى العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه- صلى اللّه عليه وسلم- وإكرام لها، لما لها من حق الحضانة والتربية، ولا يخفى ما فى هذا من فرط جوده وكثرة حلمه وبره- صلى اللّه عليه وسلم-.

وجاءته- صلى اللّه عليه وسلم- امرأة كان فى عقلها شىء،

فقالت: إن لى إليك حاجة، ف

قال: (اجلسى فى أى سكك المدينة شئت أجلس إليك) ، وفى رواية مسلم: (حتى أقضى حاجتك) ، فخلا معها فى بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها (٢) . ولا ريب أن هذا كله من كثرة تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وقال عبد اللّه بن أبى الحمساء- بالحاء المهملة المفتوحة والميم الساكنة والسين المهملة وفى آخره همزة ممدودة- بايعت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها فى مكانه، فنسيت فذكرت بعد ثلاث فإذا هو فى مكانه ف

قال: (لقد شققت على، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك) (٣) . رواه أبو داود.

وقال ابن أبى أوفى: كان- عليه السّلام- لا يأنف أن يمشى مع الأرملة والمسكين فيقضى له الحاجة (٤) . رواه النسائى. وفى رواية البخارى: إن كانت

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٢٠) فى المغازى، باب: مرجع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من الأحزاب، ومسلم (١٧٧١) فى الجهاد والسير، باب: رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٢٦) فى الفضائل، باب: قرب النبى- عليه السّلام- من الناس، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه أبو داود (٤٩٩٦) فى الأدب، باب: فى العدة، والبيهقى فى (الكبرى) (١٠/ ١٩٨) .

(٤) صحيح: أخرجه النسائى (٣/ ١٠٨) فى السهو، باب: ما يستحب من تقصير الخطبة، والدارمى فى (سننه) (٧٤).

الأمة لتأخذ بيد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت (١) ، وفى رواية أحمد: فتنطلق به فى حاجتها، وعنده أيضا إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجىء فتأخذ بيد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت.

والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الانقياد.

وقد اشتمل على أنواع من المبالغة فى التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ الإماء، أى: أى أمة كانت، وبقوله: حيث شاءت، أى من الأمكنة، والتعبير باليد إشارة إلى غاية التصرف، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها فى تلك الحالة لساعدها على ذلك. وهذا من مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر- صلى اللّه عليه وسلم-.

ودخل الحسن وهو يصلى قد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ فى سجوده حتى نزل الحسن، فلما فرغ قال له بعض أصحابه: يا رسول اللّه قد أطلت سجودك.

قال: (إن ابنى ارتحلنى فكرهت أن أعجله) (٢) . أى جعلنى كالراحلة فركب على ظهرى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يعود المرضى، ويشهد الجنازة.

أخرجه الترمذى فى الشمائل. وحج- صلى اللّه عليه وسلم- على رحل رث وعليه قطيفة لا تساوى أربعة دراهم. ف

قال: (اللّهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة) (٣) .

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بانيتهم فيها الماء، فما

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٧٢) فى الأدب، باب: الكبر، وابن ماجه (٤١٧٧) فى الزهد، باب: البراءة من الكبر والتواضع، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٩٨ و ١٧٤ و ٢١٥) ، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) أخرجه البيهقى فى (الكبرى) (٢/ ٢٦٣) ، وهو فى الصحيحين بنحوه، ولكن مع أمامة ابنة زينب- رضى اللّه عنها-.

(٣) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ٢٢١) عن ابن عباس و

قال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه أحمد بن محمد بن القاسم بن أبى بزة ولم أعرفه.

يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاؤوه فى الغداة الباردة فيغمس يده فيها (١) . رواه مسلم والترمذى.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- حسن العشرة مع أزواجه، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- ينام مع أزواجه. قال النووى: وهو ظاهر فعله الذى واظب عليه مع مواظبته- صلى اللّه عليه وسلم- على قيام الليل، فينام مع إحداهن، فإذا أراد القيام لوظيفته قام وتركها، فيجمع بين وظيفته وأداء حقها المندوب وعشرتها بالمعروف. وقد علم من هذا أن اجتماع الزوج مع زوجته فى فراش واحد أفضل، لا سيما إذا عرف من حالها حرصها على هذا، ولا يلزم من نومه معها الجماع واللّه أعلم.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها (٢) . رواه الشيخان. وإذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه على موضع فمها وشرب رواه مسلم. وإذا تعرقت عرقا- وهو العظم الذى عليه اللحم- أخذه فوضع فمه على موضع فمها (٣) . رواه مسلم أيضا. وكان يتكئ فى حجرها، ويقبلها وهو صائم (٤) . رواه الشيخان.

وكان يريها الحبشة وهم يلعبون فى المسجد وهى متكئة على منكبه (٥) .

رواه الشيخان. ورواه الترمذى بلفظ: قام- صلى اللّه عليه وسلم- فإذا حبشة تزفن والصبيان

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٢٤) فى الفضائل، باب: قرب النبى- عليه السّلام- من الناس، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦١٣٠) فى الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ومسلم (٢٤٤٠) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة- رضى اللّه تعالى عنها-.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٣٠٠) فى الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٠) فى الحيض، باب: النوم مع الحائض وهى فى ثيابها، ومسلم (١١٠٦) فى الصيام، باب: بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٤٥٥) فى المساجد، باب: أصحاب الحراب فى المسجد، ومسلم (٨٩٢) فى صلاة العيدين، باب: الرخصة فى اللعب الذى لا معصية فيه، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

حولها، فقال: (يا عائشة تعالى فانظرى) فجئت فوضعت لحيى على منكب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لى:

(أما شبعت أما شبعت) فجعلت أقول: لا، لا (١) .

وقال: حسن صحيح غريب.

وروى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- سابقها فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها،

قال: (هذه بتلك) (٢) . رواه أبو داود بلفظ: سابقته فى سفر فسبقته على رجلى، فلما حملت اللحم سابقته فسبقنى ف

قال: (هذه بتلك السبقة) .

وعن أنس بن مالك: أنهم كانوا يوما عند رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى بيت عائشة- رضى اللّه عنها-، إذ أتى بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة، فوضعت بين يدى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: (ضعوا أيديكم) فوضع نبى اللّه يده ووضعنا أيدينا فأكلنا، وعائشة تصنع طعاما عجلته قد رأت الصحفة التى أتى بها، فلما فرغت من طعامها جاءت به فوضعته ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (كلوا بسم اللّه، غارت أمكم) ثم أعطى صحفتها أم سلمة

فقال: (طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء) (٣) . رواه الطبرانى فى الصغير.

وهو عند البخارى بلفظ: كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التى النبى فى بيتها يد الخادم فسقطت

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦٩١) فى المناقب، باب: رقم (١٧) .

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٥٧٨) فى الجهاد، باب: فى السبق على الرجل، وابن ماجه (١٩٧٩) فى النكاح، باب: حسن معاشرة النساء، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٣٩ و ٢٦٤).

(٣) صحيح: وأصل الحديث عند البخارى (٢٤٨١) فى المظالم والغضب، باب: إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره، وأبو داود (٣٥٦٧) فى البيوع، باب: فيمن أفسد شيئا يغرم مثله، والترمذى (١٣٥٩) فى الأحكام، باب: ما جاء فيمن يكسر له الشىء ما يحكم له من مال الكاسر، والنسائى (٧/ ٧٠) فى عشرة النساء، باب: الغيرة، وابن ماجه (٢٣٣٤) فى الأحكام، باب: الحكم فيمن كسر شيئا، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

الصحفة وانفلقت، فجمع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذى كان فى الصحفة ويقول: (غارت أمكم) ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التى هو فى بيتها، فدفع الصحفة إلى التى كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة فى بيت التى كسرت.

وعند أحمد وأبى داود والنسائى، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، أهدت إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إناء من طعام، فما ملكت نفسى أن كسرته، فقلت: يا رسول اللّه ما كفارته؟

قال: (إناء كإناء وطعام كطعام) وعند غيرهم: فأخذت القصعة من بين يديه فضربت بها وكسرتها، فقام- صلى اللّه عليه وسلم- يلتقط اللحم والطعام وهو يقول: (غارت أمكم) فلم يثرب عليها.

فوسع خلقه الكريم آثار طفحات آثار غيرتها، ولم يتأثر، وقضى عليها بحكم اللّه فى القصاص. وهكذا كانت أحواله- صلى اللّه عليه وسلم- مع أزواجه، لا يأخذ عليهن ويعذرهن، وإن أقام عليهن قسطاس عدل أقامه بغير قلق ولا غضب، بل رؤوف رحيم، حريص عليهن وعلى غيرهن، عزيز عليه ما يعنتهم.

قيل: وفى هذا الحديث إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيرى فيما يصدر منها، لأنها فى تلك الحالة يكون عقلها محجوبا بشدة الغضب الذى أثارته الغيرة. وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعا، (إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادى من أعلاه) (١) انتهى.

وعن عائشة- رضى اللّه عنها-: أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بخزيرة طبختها له، وقلت لسودة- والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- بينى وبينها-: كلى، فأبت، فقلت لها: كلى، فأبت، فقلت لها: لتأكلين أو لألطخن بها وجهك، فأبت فوضعت يدى فى الخزيرة فلطخت بها وجهها فضحك النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فوضع فخذه لها وقال لسودة:

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٤/ ٣٢٢) وقال: رواه أبو يعلى وفيه محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وسلمة بن الفضل، وقد وثقه جماعة، ابن معين وابن حبان وأبو حاتم، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقد رواه أبو الشيخ فى كتاب الأمثال، وليس فيه غير أسامة بن زيد الليثى، وهو من رجال الصحيح وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.

(الطخى وجهها) فلطخت بها وجهى فضحك- صلى اللّه عليه وسلم- الحديث رواه ابن غيلان من حديث الهاشمى وخرجه الملاء فى سيرته. والخزيرة: لحم يقطع صغارا ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق.

وبالجملة؛ فمن تأمل سيرته- صلى اللّه عليه وسلم- مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء والأيتام والأرامل والأضياف والمساكين، علم أنه قد بلغ من رقة القلب ولينه الغاية التى لا مرمى وراءها لمخلوق. وإن كان يشتد فى حدود اللّه وحقوقه ودينه، حتى قطع يد السارق، إلى غير ذلك.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يباسط أصحابه بما يولج حبه فى القلوب، كان له رجل من البادية يسمى زهيرا، وكان يهادى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بموجود البادية بما يستطرف منها، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يهاديه ويكافئه بموجود الحاضرة وبما يستطرف منها، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (زهير باديتنا، ونحن حاضرته) وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يحبه، فمشى- صلى اللّه عليه وسلم- يوما إلى السوق فوجده قائما، فجاء من قبل ظهره وضمه بيده إلى صدره فأحس زهير أنه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم

قال: فجعلت أمسح ظهرى فى صدره رجاء بركته.

وفى رواية الترمذى فى الشمائل: فاحتضنه من خلفه ولا يبصره، فقال أرسلنى، من هذا؟ فالتفت فعرف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- حين عرفه، فجعل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (من يشترى العبد) فقال له زهير: يا رسول اللّه، إذن تجدنى كاسدا، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنت عند اللّه غال) ، وفى رواية للترمذى أيضا: (لكن عند اللّه لست بكاسد) ، أو

قال: (أنت عند اللّه غال) (١) .

وأخرج أبو يعلى عن زيد بن أسلم أن رجلا كان يهدى للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- العكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) أخرجه الترمذى فى (الشمائل) (١٢١) ، وأحمد فى (المسند) (٣/ ١٦١) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٥٧٩٠) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٦/ ١٦٩) ، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

فقال: أعط هذا حق متاعه، فما يزيد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يتبسم، ويأمر به فيعطى (١) .

ووقع فى حديث محمد بن عمرو بن حزم: وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء ف

قال: يا رسول اللّه، هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه جاء به

فقال: أعط هذا الثمن، فيقول: (ألم تهده لى) فيقول ليس عندى، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يمزح ولا يقول إلا حقّا، كما روى أبو هريرة، وقد قال له رجل كان فيه بله: يا رسول اللّه احملنى، فباسطه- صلى اللّه عليه وسلم- من القول بما عساه أن يكون شفاء لبلهه بعد ذلك، ف

قال: (أحملك على ابن الناقة) فسبق لخاطره استصغار ما تصدق عليه البنوة

فقال: يا رسول اللّه، ما عسى يغنى عنى ابن الناقة، فقال له- صلى اللّه عليه وسلم-: (ويحك وهل يلد الجمل إلا الناقة) (٢) روى حديثه الترمذى وأبو داود.

وباسط عمته صفية وهى عجوز فقال لها: (إن الجنة لا تدخلها عجوز) ، فلما جزعت قال لها: (إنك تعودين إلى صورة الشباب فى الجنة) وفى رواية الترمذى عن الحسن: أتته- صلى اللّه عليه وسلم- عجوز

فقالت: يا رسول اللّه، ادع اللّه لى أن يدخلنى الجنة،

فقال: (يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز) قال فولت تبكى

فقال: (أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز) إن اللّه تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣) (٤) وذكره رزين.

__________

(١) مرسل: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٤/ ١٤٨)

وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح.

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٩٩٨) فى الأدب، باب: ما جاء فى المزاح، والترمذى (١٩٩١) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى المزاح، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) سورة الواقعة: ٣٥، ٣٦.

(٤) أخرجه الترمذى فى (الشمائل) (١٢٢) ، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٤١٩)

وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ......

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويؤنسهم. ويأخذ معهم فى تدبير أمورهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم فى حجره، ومع ذلك سره فى الملكوت يجول حيث أراد اللّه به. والدعابة: - بضم الدال وتخفيف العين المهملتين وبعد الألف موحدة- هى الملاطفة فى القول بالمزاح وغيره.

وقد أخرج الترمذى وحسنه من حديث أبى هريرة؛ قالوا: يا رسول اللّه، إنك تداعبنا،

قال: (إنى لا أقول إلا حقّا) (١) .

وما ورد عنه- صلى اللّه عليه وسلم- فى النهى عن المداعبة محمول على الإفراط، لما فيه من الشغل عن ذكر اللّه والتفكر فى مهمات الدين وغير ذلك. والذى يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب- كما كان هو فعله- صلى اللّه عليه وسلم- فهو مستحب. وقال أنس: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن الناس خلقا، وكان لى أخ يقال له: أبو عمير، وكان له نغر يلعب به فمات، فدخل على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ذات يوم فرآه حزينا ف

قال: (ما شأنه) قالوا:

مات نغره، فقال: (يا أبا عمير ما فعل النغير) (٢) . رواه البخارى ومسلم.

وفى رواية الترمذى قال أنس: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخ لى صغير (يا أبا عمير ما فعل النغير) . قال الجوهرى: النغير: تصغير نغر، والنغر جمع النغرة وهو طائر صغير كالعصفور، والجمع نغران مثل صرد وصردان.

وكان قد ألقى عليه مع الدعابة المهابة، ولقد جاء إليه- صلى اللّه عليه وسلم- رجل فقام بين يديه فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال له: (هون عليك، فإنى لست بملك ولا جبار إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة) فنطق الرجل بحاجته، فقام- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: (يا أيها الناس إنى أوحى إلى أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتى لا يبغى أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد، وكونوا عباد اللّه إخوانا) (١) .

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (١٩٩٠) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى المزاح.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦١٢٩) فى الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ومسلم (٢١٥٠) فى الأداب، باب: استحباب تحنيك المولود عند ولادته، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

فسكن- صلى اللّه عليه وسلم- روعه شفقة، لأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وسلب عنه وصف الملوكية بقوله: (فإنى لست بملك) لما يلزمها من الجبروتية، و

قال: (إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد) (٢) تواضعا، لأن القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة. ولما رأته- صلى اللّه عليه وسلم- قيلة بنت مخرمة فى المسجد، وهو قاعد القرفصاء، ارتعدت من الفرق (٣) رواه أبو داود. وروى مسلم عن عمرو بن العاصى

قال: صحبت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ما ملأت عينى منه قط حياء منه وتعظيما له، ولو قيل لى صفه لما قدرت (٤) ، أو كما قال.

وإذا كان هذا قوله وهو من أجلة الصحابة، ولولا أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يباسطهم ويتواضع لهم ويؤنسهم لما قدر أحد منهم أن يقعد معه ولا أن يسمع كلامه- عليه الصلاة والسلام- لما رزقه اللّه تعالى من المهابة والجلالة. يبين ذلك ويوضحه ما روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا فرغ من ركوع الفجر حدث عائشة إن كانت مستيقظة، وإلا اضطجع بالأرض ثم خرج بعد ذلك إلى الصلاة، وما ذاك إلا أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لو خرج على تلك الحالة التى كان عليها، وما حصل له من القرب والتدانى فى مناجاته وسماع كلام ربه وغير ذلك من الأحوال التى يكل اللسان عن وصف بعضها، لما استطاع بشر أن يلقاه ولا يباشره، فكان- صلى اللّه عليه وسلم- يتحدث مع عائشة أو يضطجع بالأرض حتى يحصل التأنيس بجنسهم، وهو التأنيس مع عائشة، أو جنس أصل الخلقة التى هى الأرض.

ثم يخرج إليهم، وما ذاك إلا رفقا بهم، وكان بالمؤمنين رحيما. قاله ابن الحاج فى المدخل.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٨٦٥) فى الجنة وصفة نعيمها، باب: الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار، من حديث عياض بن حمار المجاشعى- رضى اللّه عنه-، بدون ذكر قصة الحديث.

(٢) صحيح: أخرجه ابن ماجة (٢٣١٢) فى الأطعمة، باب: القديد، من حديث أبى مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٣) حسن: أخرجه أبو داود (٤٨٤٧) فى الأدب، باب: فى جلوس الرجل، .

(٤) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (١٢١) فى الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج.

وقد جاء فى الحديث أنه لما خير بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا نظر- صلى اللّه عليه وسلم- إلى جبريل كالمستشير له، فنظر جبريل إلى الأرض يشير إلى التواضع، فاختار- صلى اللّه عليه وسلم- العبودية (١) ، فلما كان تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الأرض حيث أشار جبريل أورثه اللّه تعالى رفعته إلى السماء، ثم إلى الرفرف الأعلى، إلى حضرة قاب قوسين أو أدنى، ووقف بين يديه محمود بن الربيع، وهو صغير ابن خمس سنين، فمج- صلى اللّه عليه وسلم- فى وجهه مجة من ماء من دلو يمازحه بها، فكان فى ذلك من البركة أنه لما كبر لم يبق فى ذهنه من ذكر رؤية النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلا تلك المجة (٢) ، فعد بها من الصحابة وحديثه مذكور فى البخارى.

ودخلت عليه ربيبته زينب بنت أم سلمة وهو فى مغتسله، فنضح الماء فى وجهها، فكان فى ذلك من البركة فى وجهها أنه لم يتغير، فكان ماء الشباب ثابتا فى وجهها ظاهرا فى رونقها وهى عجوز كبيرة (٣) . وحديثها مذكور فى البخارى. فقد علمت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان مع أصحابه وأهله، ومع الغريب والقريب من سعة الصدر ودوام البشر وحسن الخلق والسلام على من لقيه، والوقوف مع من استوقفه والمزح بالحق مع الصغير والكبير أحيانا، وإجابة الداعى ولين الجانب حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه.

وهذا الميدان لا تجد فيه إلا واجبا أو مستحبا أو مباحا، فكان يباسط الخلق ويلابسهم ليستضيئوا بنور هدايته فى ظلمات دياجى الجهل، ويقتدوا بهديه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وقد كانت مجالسه مع أصحابه- رضى اللّه عنهم- عامتها مجالس تذكير باللّه،

__________

(١) هذه القصة ذكرها الهيثمى فى (المجمع) (٩/ ١٨- ١٩) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه- و

قال: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى ورجال الأوليين رجال الصحيح.

(٢) صحيح: والحديث عند البخارى (١٨٩) فى الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس.

(٣) القصة ذكرها الحافظ فى الإصابة، أما حديثها فى البخارى فهو ليس سماعا، حيث ليس لها حديث مرفوع، بل كل أحاديثها بواسطة لصغر سنها.

وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه اللّه من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما نفع فى الدين، كما أمره اللّه تعالى أن يذكر ويعظ ويقص، وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشر وينذر، فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقة القلوب، والزهد فى الدنيا والرغبة فى الآخرة، كما ذكره أبو هريرة فيما رواه أحمد والترمذى وابن حبان فى صحيحه

قال: قلنا: يا رسول اللّه، ما لنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا وزهدنا فى الدنيا وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك عافسنا أهلنا وشممنا أولادنا وأنكرنا أنفسنا. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-:(لو أنكم إذا خرجتم من عندى كنتم على حالكم ذلك لزارتكم الملائكة فى بيوتكم) (١) الحديث.

وقوله: عافسنا: - بالعين المهملة بعد الألف فاء فسين مهملة ساكنة- أى: عالجنا أهلنا ولاعبناهم.

ومن تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه ما عاب ذواقا قط، ولا عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه (٢) رواه الشيخان. وهذا إن كان الطعام مباحا، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه، وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصنعة لم يكره،

قال: لأن صنعة اللّه تعالى لا تعاب، وصنعة الآدميين تعاب. قال فى فتح البارى: والذى يظهر:

التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع. قال النووى: ومن آداب الطعام المتأكدة:

أن لا يعاب، كقوله: مالح، حامض، قليل الملح، غليظ، رقيق، غير ناضج ونحو ذلك.

ومن تواضعه: أن هذه الدنيا شاع سبها فى العالمين، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تسبوا الدنيا) (٣) ، ثم مدحها

فقال: (نعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر) (١) .

__________

(١) قلت: هو فى صحيح مسلم (٢٧٥٠) فى التوبة، باب: فضل دوام الذكر والفكر فى أمور الآخرة، من حديث حنظلة الأسيدى- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦٣) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٠٦٤) فى الأشربة، باب: لا يعيب الطعام، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه الديلمى وابن النجار عن ابن مسعود، كما فى (كنز العمال) (٣٠٢٩ و ٦٣٤٣) .

وقال: (لا تسبوا الدهر) ، رواه البخارى من حديث أبى هريرة بلفظ: (ولا تقولوا خيبة الدهر فإن اللّه هو الدهر) (٢) . وفى لفظ له: (يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر، بيدى الليل والنهار) وعند مسلم فى حديث بلفظ (لا يسب أحدكم الدهر) . ومحصل ما قيل فى تأويله، ثلاثة أوجه:

أحدها: أن المراد بقوله: إن اللّه هو الدهر، أى: المدبر للأمور.

ثانيها: أنه على حذف مضاف. أى: صاحب الدهر.

ثالثها: التقدير: مقلب الدهر. ولذلك عقبه بقوله فى رواية البخارى:

بيدى الليل والنهار.

وقال المحققون: من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكن يكره ذلك لتشبهه بأهل الكفر فى الإطلاق. وما خير- صلى اللّه عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه (٣) . رواه البخارى. أى بين أمرين من أمور الدنيا لا إثم فيهما، وأبهم (فاعل) خير ليكون أعم، من قبل اللّه أو من قبل المخلوقين.

وقوله: إلا اختار أيسرهما

وقوله: ما لم يكن إثما:

أى لم يكن الأسهل مقتضيا للإثم فإنه حينئذ يختار الأشد. وفى حديث أنس عند الطبرانى فى الأوسط: إلا اختار أيسرهما ما لم يكن للّه فيه سخط.

ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح.

ومن تواضعه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه لم يكن له بواب راتب، كما جاء عن أنس أنه

قال: مر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بامرأة وهى تبكى عند قبر،

فقال: (اتقى اللّه واصبرى) ،

__________

(١) هو تتمة ما قبله.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦١٨١ و ٦١٨٢) فى الأدب، باب: لا تسبوا الدهر، ومسلم (٢٢٤٦) فى الألفاظ من الأدب، باب: النهى عن سب الدهر.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦٠) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٢٧) فى الفضائل، باب: مباعدته- صلى اللّه عليه وسلم- للآثام واختياره من المباح أسهله، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

فقالت: إليك عنى فإنك خلو من مصيبتى، قال فجاوزها ومضى. فمر بها رجل فقال لها؛ ما قال لك رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم

قالت: ما عرفته.

قال: إنه لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. قال فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابا (١) . الحديث رواه البخارى. لكن فى حديث أبى موسى: أنه كان بوابا للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- لما جلس على القف (٢) . وجمع بينهما: بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا لم يكن فى شغل من أهله ولا انفراد من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة إليه. وفى حديث عمر حين استأذن له الأسود فى قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهرا، ففيه: أنه كان فى وقت خلوته بنفسه يتخذ بوابا، ولولا ذلك لاستأذن عمر بنفسه ولم يحتج إلى قوله يا رباح استأذن لى. لكن يحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشى أن يكون وجد عليه بسبب ابنته، فأراد أن يختبر ذلك باستئذانه عليه، فلما أذن له اطمأن.

وقد اختلف فى مشروعية الحجاب للحاكم. فقال الشافعى وجماعة:

ينبغى أن يكون للحاكم أن لا يتخذ حاجبا. وذهب آخرون: إلى جوازه.

وحمل الأول على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم،

وقال آخرون: بل يستحب ذلك حينئذ ليرتب الخصوم ويمنع المستطيل، ويدفع الشرير، واللّه أعلم.

وأما ما روى من حيائه- صلى اللّه عليه وسلم-؛ فحسبك ما فى البخارى من حديث أبى سعيد: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أشد حياء من العذراء فى خدرها (٣) .

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٨٣) فى الجنائز، باب: زيارة القبور، ومسلم (٩٢٦) فى الجنائز، باب: فى الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٩٣) فى المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب أبى حفص القرشى العدوى- رضى اللّه عنه-، ومسلم (٢٤٠٣) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان بن عفان- رضى اللّه عنه-. وقف البئر: هو الدكة التى تجعل حولها.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦٢) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٢٠) فى الفضائل، باب: كثرة حيائه- صلى اللّه عليه وسلم-.

والعذراء: هى البكر. والخدر: - بكسر الخاء المعجمة- أى فى سترها. وهو من باب التتميم، لأن العذراء فى الخدر يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجة عنه، لكون الخلوة مظنة وقوع الفعل بها. فالظاهر: أن المراد تقييده بما إذا دخل عليها فى خدرها لا حيث تكون منفردة فيه. والحياء- بالمد- وهو من الحياء، ومنه: الحيا للمطر، لكن هو مقصور. وعلى حسب حياة القلب تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، وكلما كان القلب حيّا كان الحياء أتم. وهو فى اللغة: تغير وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشىء بسبب. والترك إنما هو من لوازمه. وفى الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير فى حق ذى الحق.

وقال ذو النون: (الحياء وجود الهيبة فى القلب، مع وحشة ما يسبق منك إلى ربك، والحب ينطق والحياء يسكت، والخوف يقلق) .

وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من اللّه مطيعا استخيا منه وهو مذنب. وهذا الكلام يحتاج إلى شرح ومعناه: أن من غلب عليه خلق الحياء من اللّه حتى فى حال طاعته فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستحى خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحيا اللّه من نظره إليه فى تلك الحالة لكرامته عليه، فيستحى أن يرى من وليه ما يشينه عنده. وفى الشاهد. شاهد بذلك، فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به وأحبهم إليه وأقربهم منه، من صاحب أو ولد أو من يحبه، وهو يخونه، فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياء عجيب حتى كأنه هو الجانى. وهذا غاية الكرم. وللحياء أقسام ثمانية يطول استقصاؤها.

منها: حياء الكرم، كحيائه- صلى اللّه عليه وسلم- من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطولوا عنده المقام، واستحيا أن يقول لهم انصرفوا (١) .

__________

(١) القصة أخرجها البخارى (٤٧٩٣) فى التفسير، باب: قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ... ، ومسلم (١٤٢٨) فى النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش- رضى اللّه عنها-، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

ومنها: حياء المحب من محبوبه، حتى إنه إذا خطر على قلبه فى حال غيبته هاج الحياء من قلبه وأحس به فى وجهه، فلا يدرى ما سببه.

ومنها: حياء العبودية، وهو حياء يمتزج بين محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له توجب استيحاءه منه لا محالة.

ومنها: حياء المرء من نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقنعها بالدون، فيجد نفسه مستحييا من نفسه، حتى كأن له نفسين، يستحى بإحداهما من الآخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحى من غيره أجدر.

والحياء- كما قال- صلى اللّه عليه وسلم- (لا يأتى إلا بخير) (١) ، (وهو من الإيمان) (٢) ، كما رواهما البخارى. قال القاضى عياض وغيره: وإنما جعل الحياء من الإيمان- وإن كان غريزة- لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم. وقال القرطبى: الحياء المكتسب هو الذى جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلف به دون الغريزى. غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، حتى يكاد يكون غريزيّا، وكان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قد جمع له النوعان، فكان فى الغريزى أشد حياء من العذراء فى خدرها.

وقال القاضى عياض: وروى عنه- صلى اللّه عليه وسلم-: كان من حيائه لا يثبت بصره فى وجه أحد.

وأما خوفه- صلى اللّه عليه وسلم- ربه جل وعلا، فاعلم أن الخوف والوجل والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة. قال الجنيد: الخوف توقع العقوبة على مجارى الأنفاس.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٦١١٧) فى الأدب، باب: الحياء، ومسلم (٣٧) فى الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، من حديث عمران بن حصين- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: وهو يشير إلى حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة..) ، والحديث أخرجه البخارى (٩) فى الإيمان، باب: أمور الإيمان، ومسلم (٣٥) فى الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

وقيل الخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف. وقيل الخوف: قوة العلم بمجارى الأحكام، وهذا سبب الخوف، لا أنه نفسه.

وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره. والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء باللّه تعالى:

قال اللّه تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللّه مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (١) ، فهو خوف مقرون بمعرفة. وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أتقاكم للّه وأشدكم له خشية) (٢) فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذى يرى العدو والسيل ونحوهما له حالتان: إحداهما حركة للّهرب منه وهى حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره فى مكان لا يصل إليه وهى الخشية.

وأما الرهبة: فهى الإمعان فى الهرب من المكروه، وهى ضد الرغبة التى هى سفر القلب فى طلب المرغوب فيه. وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته. وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما تكون مع المعرفة والمحبة. والإجلال: تعظيم مقرون بالحب.

فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنى لأعلمكم باللّه وأشدكم له خشية) (٣) رواه البخارى، وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) (٤) رواه البخارى

__________

(١) سورة فاطر: ٢٨.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠) فى الإيمان، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أعلمكم باللّه) ، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-،

وأخرجه مسلم (١١٠٨) فى الصيام، باب: بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، من حديث أم سلمة- رضى اللّه عنها-.

(٣) صحيح: وقد تقدم تخريجه فى الحديث السابق.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٤٤) فى الكسوف، باب: الصدقة فى الكسوف، ومسلم (٩٠١) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-

وأخرجه البخارى (٦٤٨٥) فى الرقاق، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو تعلمون ما أعلم) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

من حديث أبى هريرة، وفيه دلالة على اختصاصه- صلى اللّه عليه وسلم- بمعارف بصرية وقلبية. وقد يطلع اللّه تعالى عليها غيره من المخلصين من أمته لكن بطريق الإجمال، وأما تفصيلها فاختص بها- صلى اللّه عليه وسلم-.

وفى صحيح مسلم من حديث أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (والذى نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) قالوا: وما رأيت يا رسول اللّه

قال: (رأيت الجنة والنار) (١) .

فقد جمع اللّه له بين علم اليقين وعين اليقين مع الخشية القلبية، واستحضار العظمة الإلهية على وجه لم يجتمع لغيره، ولذا

قال: (إن أتقاك وأعلمكم باللّه أنا) (٢) وهو فى الصحيح من حديث عائشة: وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء (٣) رواه النسائى وابن خزيمة وابن حبانفى صحيحه بلفظ: كأزيز الرحا، أى خنين من الخوف- بالخاء المعجمة- وهو صوت البكاء.

وقيل: وهو أن يجيش جوفه ويغلى بالبكاء.

وأما ما روى من شجاعته- صلى اللّه عليه وسلم- ونجدته وقوته فى اللّه وشدته، فعن أنس: (كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس) ، لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- راجعا قد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر على فرس لأبى طلحة عرى والسيف فى عنقه وهو يقول: (لن تراعوا) .

وفى رواية: كان فزع بالمدينة فاستعار النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فرسا من أبى طلحة يقال له المندوب، فركب فلما رجع

قال: (ما رأينا من شىء، وإن وجدناه

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٤٢٦) فى الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود.

(٢) صحيح: وقد تقدم قريبا.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٩٠٤) فى الصلاة، باب: البكاء فى الصلاة، والنسائى (٣/ ١٣) فى السهو، باب: البكاء فى الصلاة، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٢٥) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٦٥ و ٧٥٣) ، وابن خزيمة فى (صحيحه) (٩٠٠) من حديث عبد اللّه بن الشخير- رضى اللّه عنه-.

لبحرا، أو إنه لبحر) . قال وكان فرسا يبطؤ (١) رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى.

وللبخارى: إن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فرسا لأبى طلحة كان يقطف، أو فيه قطاف، فلما رجع

قال: (وجدنا فرسكم ها بحرا) فكان بعد لا يجارى. وفى أخرى له: ثم خرج يركض وحده فركب الناس يركضون خلفه ف

قال: (لن تراعوا إنه لبحر، فما سبق بعد ذلك اليوم) .

قوله لن تراعوا: أى روعا مستقرا، أو روعا يضربكم.

وفى هذا الحديث بيان شجاعته- صلى اللّه عليه وسلم- من شدة عجلته فى الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم، بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس. وفيه:

بيان عظيم بركته ومعجزته فى انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان بطيئا وهو معنى قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (وجدناه بحرا) أى واسع الجرى. وكان فيه قطاف:

يقال: قطف الفرس فى مشيه إذا تضايق خطوه وأسرع مشيه.

قال القاضى عياض: وقد كان فى أفراسه- صلى اللّه عليه وسلم- فرس يقال له:

مندوب، فلعله صار إليه بعد أبى طلحة. وقال النووى: يحتمل أنهما فرسان اتفقا فى الاسم. وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٢) . وذكر ابن إسحاق فى كتابه وغيره: أنه كان بمكة رجل شديد القوة يحسن الصراع وكان الناس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم. فبينا هو ذات يوم فى شعب من شعاب مكة إذ لقيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال له:

(يا ركانة ألا تتقى اللّه وتقبل ما أدعوك إليه) - أو كما قال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال له ركانة: يا محمد، هل من شاهد يدل على صدقك؟

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٣٩٠٨) فى الجهاد والسير، باب: الحمائل وتعليق السيف بالعنق، ومسلم (٢٣٠٧) فى الفضائل، باب: فى شجاعة النبى- عليه السّلام- وتقدمه للحرب، وأبو داود (٤٩٨٨) فى الأدب، باب: ما روى فى الرخصة فى ذلك، والترمذى (١٦٨٧) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الخروج عند الفزع، وابن ماجه (٢٧٧٢) في الجهاد، باب: الخروج فى النفير.

(٢) صحيح: أخرجه الدارمى فى (سننه) (٥٩) بسند صحيح.

قال:

 (أرأيت إن صرعتك أتؤمن باللّه ورسوله؟)

قال: نعم يا محمد، فقال له:

(تهيأ للمصارعة)

قال: تهيأت، فدنا منه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأخذه ثم صرعه، قال فتعجب ركانة من ذلك، ثم سأله الإقالة والعودة، ففعل به ذلك ثانيا وثالثا. فوقف ركانة متعجبا و

قال: إن شأنك لعجيب (١) . رواه الحاكم فى مستدركه عن أبى جعفر محمد بن ركانة المصارع، ورواه أبو داود والترمذى وكذا البيهقى من رواية سعيد بن جبير.

وقد صارع- صلى اللّه عليه وسلم- جماعة غير ركانة، منهم أبو الأسود الجمحى، كما قاله السهيلى. ورواه البيهقى، وكان شديدا بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة، ويجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرى الجلد ولم يتزحزح عنه، فدعا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى المصارعة

وقال: إن صرعتنى آمنت بك، فصرعه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فلم يؤمن وفى قصته طول.

وفى البخارى من حديث البراء، وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم حنين؟ ف

قال: فأكببنا على المغانم فاستقبلنا بالسهام.

ولقد رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها وهو يقول: (أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) (٢) .

وهذا فى غاية ما يكون من الشجاعة التامة، لأنه فى مثل هذا اليوم فى حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة ليست بسريعة الجرى، ولا تصلح لكر ولا فر ولا هرب، ومع ذلك يركضها إلى وجوههم، وينوه باسمه ليعرفه من ليس يعرفه- صلوات اللّه وسلامه عليه-. وفى حديث البراء: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أى جعلناه قدامنا واستقبلنا العدو به، وقمنا خلفه.

__________

(١) أخرجه أبو داود (٤٠٧٨) فى اللباس، باب: فى العمائم، والترمذى (١٧٨٤) فى اللباس، باب: العمائم على القلانس، والحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٥١١) وأبو يعلى فى (مسنده) (١٤١٢) ، والطبرانى فى (الكبير) (٥/ ٧١) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٦٤) فى الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره فى الحرب، ومسلم (١٧٧٦) فى الجهاد والسير، باب: غزوة حنين.

وأما ما ذكر من سخائه وجوده وكرمه، فاعلم أن السخاء صفة غريزية، وفى مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس،

قال اللّه تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١) فحكم بالفلاح لمن وقى الشح، وحكم بالفلاح أيضا لمن أنفق وبذل

فقال: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٢) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣) والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين. وليس الشح من الآدمى بعجيب، لأنه جبلى فيه، وإنما العجب وجود السخاء فى الغريزة، والسخاء أتم وأكمل من الجود، وفى مقابلته البخل، وفى مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق انتهى الاكتساب بطريق العادة بخلاف الشح والسخاء إذ كان ذلك من ضرورة الغريزة، فكل سخى جواد وليس كل جواد سخيّا. والجود يتطرق إليه الرياء، ويأتى به الإنسان متطلعا لغرض من الخلق أو الحق بمقابلة من الثناء أو غير ذلك من الخلق والثواب من اللّه تعالى، ولا يتطرق الرياء إلى السخاء لأنه ينبع من النفس الزكية المرتفعة عن الأغراض. أشار إليه فى عوارف المعارف.

وقد كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس (٤) رواه البخارى ومسلم من حديث أنس. وأجود: أفعل تفضيل، من الجود وهو إعطاء ما ينبغى لمن ينبغى، ومعناه: هو أسخى الناس، ولما كانت نفسه أشرف النفوس ومزاجه أعدل الأمزجة لابد أن يكون فعله أحسن الأفعال، وشكله أملح الأشكال، وخلقه أحسن الأخلاق، فلا شك يكون أجود الناس، وكيف لا وهو مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات.

واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاثة من جوامع الكلم، لأنها أمهات

__________

(١) سورة الحشر: ٩.

(٢) سورة البقرة: ٣، وسورة الأنفال: ٣، وسورة الحج: ٣٥، وسورة القصص: ٥٤، وسورة السجدة: ١٦، وسورة الشورى: ٣٨.

(٣) سورة البقرة: ٥.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٢٠) فى الجهاد والسير، باب: الشجاعة فى الحرب والجبن، ومسلم (٢٣٠٧) فى الفضائل، باب: فى شجاعة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وتقدمه للحرب.

الأخلاق، فإن فى كل إنسان ثلاث قوى: إحداها الغضبية، وكمالها الشجاعة، وثانيها، الشهوانية وكمالها الجود، وثالثها العقلية وكمالها النطق بالحكمة.

وفى رواية لمسلم عنه: ما سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شيئا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه ف

قال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخاف الفقر (١) . وعنده أيضا عن صفوان بن أمية

قال: لقد أعطانى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما أعطانى وإنه لمن أبغض الناس إلى، فما برح يعطينى حتى إنه لأحب الناس إلى (٢) . قال ابن شهاب: أعطاه يوم حنين مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة. وفى مغازى الواقدى: إن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أعطى صفوان يومئذ واديا مملوآ إبلا ونعما، فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبى. ويرحم اللّه ابن جابر حيث

قال:

هذا الذى لا يتقى فقرا إذا ... يعطى ولو كثر الأنام وداموا

واد من الأنعام أعطى آملا ... فتحيرت لعطائه الأوهام

وإنما أعطاه ذلك لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- علم أن داءه لا يزول إلا بهذا الدواء وهو الإحسان فعالجه به حتى برئ من داء الكفر وأسلم، وهذا من كمال شفقته ورحمته ورأفته- صلى اللّه عليه وسلم- إذ عامله بكمال الإحسان، وأنقذه من حر النيران إلى برد لطف الجنان. وكان على إذا وصفه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: كان أجود الناس كفّا، وأصدق الناس لهجة. وخرج ابن عدى- بإسناد فيه ضعف- من حديث أنس مرفوعا: (أنا أجود بنى آدم) (٣) .

فهو- صلى اللّه عليه وسلم- بلا ريب أجود بنى آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم وأشجعهم وأكملهم فى جميع الأوصاف الحميدة، وكان جوده

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣١٢) فى الفضائل، باب: ما سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شيئا قط ف

قال: لا، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣١٣) فيما سبق.

(٣) إسناده ..... أخرجه ابن عدى فى (الكامل) (١/ ٣٥٧) .

بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه للّه فى إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، ولقد أحسن ابن جابر حيث

قال:

يروى حديث الندى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهل ومنسجم

من وجه أحمد لى بدر ومن يده ... بحر ومن فمه در لمنتظم

يمم نبيّا تبارى الريح أنمله ... والمزن من كل هام الودق مرتكم

لو عامت الفلك فيما فاض من يده ... لم تلق أعظم بحر منه إن تعم

تحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ ... به ودع كل طامى الموج ملتطم

لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وروت قلب كل ظمى

فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحاب من غمائم يمينه. روى البخارى من حديث جابر: (ما سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن شىء قط فقال: لا)(١) وكذا عند مسلم، أى ما طلب منه شىء من أمر الدنيا فمنعه: قال الفرزدق:

ما قال لا قط إلا فى تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم

لكن قال شيخ مشايخنا الحافظ أبو الفضل ابن حجر: ليس المراد أنه يعطى ما يطلب منه جزما، بل المراد: أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاء سائغا وإلا سكت.

قال: وقد ورد بيان ذلك فى حديث مرسل لابن الحنيفة عند ابن سعد ولفظه: إذا سئل فأراد أن يفعل

قال: نعم، وإن لم يرد أن يفعل سكت. وهو قريب من حديث أبى هريرة؛ ما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام معناه: لم يقل: لا، منعا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما فى

قوله تعالى: قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ (٢) ، ولا يخفى الفرق بين

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٣٤) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء، ومسلم (٢٣١١) فى الفضائل، باب: ما سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شيئا قط ف

قال: لا.

(٢) سورة التوبة: ٩٢.

قوله: لا أجد ما أحملكم وبين لا أحملكم انتهى. وهو نظير ما فى حديث أبى موسى الأشعرى: لما سأله الأشعريون الحملان فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما عندى ما أحملكم) (١) .

لكن يشكل عليه أنه- صلى اللّه عليه وسلم- حلف لا يحملهم

فقال: (واللّه لا أحملكم) (٢) فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر، ما إذا سئل ما ليس عنده والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضى الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل، كأن لم يكن يعرف العادة، فلو اقتصر فى جوابه على السكوت مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلا، ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل، والسر فى الجمع بين قوله: (لا أجد ما أحملكم)

وقوله: (واللّه لا أحملكم) أن الأول لبيان أن الذى سئله لم يكن موجودا عنده، والثانى أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا أو بالاستيهاب، إذ لا اضطرار حينئذ، وروى الترمذى أنه حمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلا حتى فرغ منها.

قال: وجاءه رجل فقال ما عندى شىء ولكن ابتع على، فإذا جاءنا شىء قضيناه، فقال له عمر: ما كلفك اللّه ما لا تقدر، فكره النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فقال رجل من الأنصار: يا رسول اللّه، أنفق ولا تخف من ذى العرش إقلالا، فتبسم- صلى اللّه عليه وسلم- وعرف البشر فى وجهه. و

قال: (بهذا أمرت) (٣) .

وإنما فعل ذلك للمصلحة الداعية لذلك كالاستئلاف ونحوه.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٣٣) فى الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، ومسلم (١٦٤٩) فى الإيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها.

(٢) صحيح: وهو جزء مما قبله.

(٣) أخرجه الترمذى فى (الشمائل) (٢٨١) .

وذكر ابن فارس فى كتابه (فى أسماء النبى- صلى اللّه عليه وسلم-) أنه فى يوم حنين جاءت امرأة فأنشدت شعرا تذكره أيام رضاعته فى هوازن فرد عليهم ما أخذ وأعطاهم عطاء كثيرا حتى قوّم ما أعطاهم ذلك اليوم فكان خمسمائة ألف ألف. قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذى لم يسمع بمثله فى الوجود.

وفى البخارى من حديث أنس: أنه أتى بمال من البحرين ف

قال: (انثروه) - يعنى صبوه- فى المسجد، وكان أكثر مال أتى به النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فخرج إلى المسجد ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس ف

قال: أعطنى، فإنى فاديت نفسى وفاديت عقيلا، فقال له (خذ) ، فحثا فى ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، ف

قال: يا رسول اللّه مر بعضهم يرفعه إلى،

قال: لا،

قال: فارفعه أنت على،

قال: لا، فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع ف

قال: يا رسول اللّه مر بعضهم يرفعه على،

قال: لا،

قال: فارفعه أنت

قال: لا، ثم نثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله فانطلق، فما زال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يتبعه بصره حتى خفى علينا من حرصه، فما قام- صلى اللّه عليه وسلم- وثم منها درهم (١) .

وفى رواية ابن أبى شيبة من طريق حميد بن هلال مرسلا: كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمى من خراج البحرين،

قال: وهو أول مال حمل إليه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وسايره جابر على حمل له، فقال له- صلى اللّه عليه وسلم-: (بعنى جملك)

فقال: هو لك يا رسول اللّه، بأبى أنت وأمى،

فقال: (بل بعنيه) فباعه إياه وأمر بلالا أن ينقده ثمنه فنقده، ثم قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (اذهب بالثمن والجمل بارك اللّه فيهما) (٢) . مكافأة لقوله: هو لك، فأعطاه الثمن ورد عليه الجمل وزاده الدعاء بالبركة فيهما. وحديثه فى البخارى ومسلم وغيرهما.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى فى المساجد، باب: القسمة وتعليق القنو فى المسجد تعليقا.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٧١٨) فى الشروط، باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، ومسلم (٧١٥) فى المساقاة، باب: بيع البعير واستثناء ركوبه.

وقد كان جوده- صلى اللّه عليه وسلم- كله للّه وفى ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو لمحتاج وتارة ينفقه فى سبيل اللّه، وتارة يتألف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه. وكان يؤثر على نفسه وأولاده، فيعطى عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش فى نفسه عيش الفقراء، فيأتى عليه الشهر والشهران لا توقد فى بيته تار، وربما ربط الحجر على بطنه الشريفة من الجوع.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- قد أتاه سبى، فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت وطلبت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد، و

قال: (لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع) (١) . وأتته امرأة ببردة

فقالت: يا رسول اللّه أكسوك هذه، فأخذها- صلى اللّه عليه وسلم- محتاجا إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة

فقال: يا رسول اللّه ما أحسن هذه فاكسنيها

فقال: (نعم) فلما قام- صلى اللّه عليه وسلم- لامه أصحابه، قالوا: ما أحسنت حين رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أخذها محتاجا إليها ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل فيمنعه(٢) . رواه البخارى من حديث سهل بن سعد. وفى رواية ابن ماجه والطبرانى

قال: نعم، فلما دخل طواها وأرسل بها إليه. وأفاد الطبرانى فى رواية زمعة بن صالح أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أمر أن يصنع له غيرها فمات قبل أن يفرغ منها. وفى هذا الحديث من الفوائد: حسن خلقه- صلى اللّه عليه وسلم- وسعة جوده.

واستنبط منه السادة الصوفية: جواز استدعاء المريد خرقة التصوف من المشايخ تبركا بهم وبلباسهم، كما استدلوا لإلباس الشيخ للمريد بحديث أنه- صلى اللّه عليه وسلم- ألبس أم خالد خميصة سوداء ذات علم (٣) رواه البخارى.

__________

(١) صحيح: وأصل القصة عند البخارى (٣١١٣) فى الخمس، باب: الدليل على أن الخمس لنوائب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- والمساكين، ومسلم (٢٧٢٧) فى الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٣٦) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء.

(٣) صحيح: حديث أم خالد أخرجه البخارى (٥٨٢٣) فى اللباس، باب: الخميصة السوداء.

لكن قال شيخنا: ما يذكرونه من أن الحسن البصرى لبسها من على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه-، فقال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل، وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر ليس فى شىء من طرقها ما يثبت، ولم يرد فى خبر صحيح ولا حسن ولا ..... أنه- صلى اللّه عليه وسلم- ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدا من أصحابه بفعلها، وكل ما يروى صريحا فى ذلك فباطل.

قال: ثم إن من الكذب المفترى قول من

قال: إن عليّا ألبس الخرقة الحسن البصرى، فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من على سماعا فضلا عن أن يلبسه الخرقة.

وكذا قال الدمياطى والذهبى والعلاء ومغلطاى والعراقى والأبناسى والحلبى وغيرهم مع كون جماعة منهم لبسوها وألبسوها تشبها بالقوم، نعم ورد لبسهم لها مع الصحبة له المتصلة إلى كميل بن زياد، وهو صحب على ابن أبى طالب- رضى اللّه عنه- من غير خلف فى صحبته له بين أئمة الجرح والتعديل.

وفى بعض الطرق اتصالها بأويس القرنى، وهو اجتمع بعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب- رضى اللّه عنهما-. وهذه صحبة لا مطعن فيها، وكثير من السادة يكتفى بمجرد الصحبة كالشاذلية وشيخنا أبى إسحاق المتبولى.

وكان الشيخ يوسف العجمى يجمع بين تلقين الذكر وأخذ العهد واللبس وله فى ذلك رسالته (ريحان القلوب) قرأتها على ولد ولده العارف المسلك سيدى على، مع إلباسه لى الخرقة والتلقين والعهد.

وللشيخ قطب الدين القسطلانى (ارتقاء الرتبة فى اللباس والصحبة) واللّه يهديناا إلى سواء السبيل.