المواهب اللدنية بالمنح المحمدية الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد الإمام القسطلاني الشافعي (ت ٩٢٣ هـ - ١٥١٧ م) الجزء الأولبسم اللّه الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد للّه الذى أطلع فى سماء الأزل شمس أنوار معارف النبوة المحمدية، وأشرق من أفق أسرار الرسالة مظاهر تجلى الصفات الأحمدية، أحمده على أن وضع أساس نبوته على سوابق أزليته، ورفع دعائم رسالته على لواحق أبديته. وأشهد أن لاإله إلا اللّه وحده لا شريك له، الفرد المنفرد فى فردانيته بالعظمة والجلال، الواحد المتوحد فى وحدانيته باستحقاق الكمال، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله أشرف نوع الإنسان، وإنسان عيون الأعيان، المستخلص من خالص خلاصة ولد عدنان، الممنوح ببدائع الآيات، المخصوص بعموم الرسالة وغرائب المعجزات، السر الجامع الفرقانى، والمخصص بمواهب القرب من النوع الإنسانى، مورد الحقائق الأزلية ومصدرها، وجامع جوامع مفرداتها ومنبرها، وخطيبها إذا حضر فى حظائر قدسها ومحضرها، بيت اللّه المعمور الذى اتخذه لنفسه، وجعله ناظما لحقائق أنسه، مدة مداد نقطة الأكوان، ومنبع ينابيع الحكم والعرفان، المفيض من بحر مدد الوفا، على القائل من أهل المعارف والاصطفا، حيث خاطب ذاته الأقدسية (١) ، بالمنح الأنفسية، ف قال: فأنت رسول اللّه أعظم كائن ... وأنت لكل الخلق بالحق مرسل عليك مدار الخلق إذ أنت قطبه ... وأنت منار الحق تعلو وتعدل فؤادك بيت اللّه دار علومه ... وباب عليه منه للحق يدخل __________ (١) الأقدسية: نسبة إلى القدس والقدس، هو الطهر. أى: ذاته المطهرة. ينابيع علم اللّه منه تفجرت ... ففى كل حى منه للّه منهل منحت بفيض الفضل كل مفضل ... فكل له فضل به منك يفضل نظمت نثار الأنبياء فتاجهم ... لديك بأنواع الكمال مكلل فيا مدة الإمداد نقطة خطه ... ويا ذروة الإطلاق إذ يتسلل محال يحول القلب عنك وإننى ... وحقك لا أسلو ولا أتحول عليك صلاة اللّه منه تواصلت ... صلاة اتصال عنك لا تتنصل شخصت أبصار بصائر سكان سدرة المنتهى لجلال جماله، وحنت أرواح رؤساء الأنبياء إلى مشاهدة كماله، وتلفتت لفتات أنفس الملأ الأعلى إلى نفائس نفحاته، وتطاولت أعناق العقول إلى أعين لمحاته ولحظاته، فعرج به إلى المستوى الأقدس، وأطلعه على السر الأنفس، فى إحاطته الجامعة، وحضرات حظيرة قدسه الواسعة، فوقفت أشخاص الأنبياء فى حرم الحرمة، على أقدام الخدمة، وقامت أشباح الملائكة فى معراج الجلال، على أرجل الإجلال، وهامت أرواح العشاق فى مقامات الأشواق: كل إليك بكله مشتاق ... وعليه من رقبائه أحداق يهواك ما ناح الحمام بأيكة ... أو لاح برق فى الدجى (١) خفاق شوق إليه لا يزال يديره ... فجميعه لجميعه عشاق اشتاق القمر لمشاهدته فانشق، فشق مرائر الأشقياء المشاققين، وحن لمفارقته الجذع فتصدع فانصدعت قلوب الأغبياء المنافقين (٢) . وبرقت من مشكاة بعثته بوارق طلائع الحقائق، وانقادت لدعوته العامة خاصة خلاصة الخلائق، ولم يزل يجاهد فى اللّه بصادق عزماته، وينظم أشتات الإسلام بعد افتراق جهاته، حتى كملت كمالات دينه وحججه البالغة، وتمت على سائر أمته الأمية نعمته السابغة، وخيّر فاختار الرفيق الأعلى، وآثر الآخرة على الأولى، فنقله اللّه قائما على قدم السلامة، إلى دار __________ (١) الدجى: سواد الليل مع غيم، حتى لا يرى فيه نجم ولا قمر. (٢) ستأتى أدلة هذه المعجزات فى موضعها من الكتاب. السلام وفردوس الكرامة، وبوأه أسنى مراقى التكريم فى دار المقامة، ومنحه أعلى مواهب الشرف فى اليوم المشهود، فهو الشاهد والمشهود (١) ، والمحمود بالمحامد التى يلهمها للحامد المحمود، ذو المنزلة العلية، والدرجة السنية، فى حظائر القدس الأقدسية، والمشاهد الأنفسية، واصل اللّه عليه فضائل الصلوات، وشرائف التسليم، ونوامى البركات، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، وصلاة وسلاما لا ينقطع عنهما أمد الأمد، ولا يحصرهما العدد أبد الأبد. وبعد: فهذه لطيفة من لطائف نفحات العواطف الرحمانية، ومنحة من منح مواهب العطايا الربانية، تنبىء عن نبذة من كمال شرف نبينا محمد- عليه أفضل الصلوات وأنمى التسليم وأسنى الصلات- وسبق نوبته فى الأزمان الأزلية، وثبوت رسالته فى الغايات الأحدية، والتبشير بأحمديته فى الأعصر الخالية، والتذكير بمحمديته فى الأمم الماضية، وإشراق بوارق لوامع أنوار آيات ولادته التى سار ضوء فجرها فى سائر بريته، ودار بدر فجرها فى أقطار ملته، وعواطف لطائف رضاعه وحضانته، وينابيع أسرار سر مسراه وبعثته وهجرته، وعوارف معارف عبوديته السارى عرف شذاها فى آفاق قلوب أهل ولايته، ونفائس أنفاس أحواله الزكية، ودقائق حقائق سيرته العلية، إلى حين نقلته لروضة قدسه الأحدية، وتشريفه بشرائف الآيات، وتكريمه بكرائم المعجزات، وترفيعه فى آى التنزيل برفعة ذكره، وعلو خطره، وتعظيم محاسن شمائله وخلائقه، وتخصيصه بعموم رسالته، ووجوب محبته واتباع طرائقه وسيادته الجامعة لجوامع السؤدد فى مشهد مشاهد المرسلين، وتفضيله بالشفاعة العظمى، العامة لعموم الأولين والآخرين، إلى غير ذلك من عجائب آياته ومنحه، وغرائب أعلام نبوته وحججه. أوردتها حججا قاهرة على الملحدين، وذكرى نافعة للموحدين، وتنبيها __________ (١) من معانى الشاهد والمشهود، معان غير ذلك. لعزائم المهتدين، ولم أكن- واللّه- أهلا لذلك، ولم أر نفسى فيما هنالك، لصعوبة هذا المسلك، ومشقة السير فى طريق لم يكن لمثلى يسلك، وإنما هو نكتة سر قراءتى كتاب الشفا (١) بحضرة التخصيص والاصطفا، فى مكتب التأديب والتعليم فى مشهد مشاهد المؤانسة والتكريم، مستجليا فى مجالى تجليات الأنوار الأحمدية، محاسن صفات خلقته، وعظيم أخلاقه الزكية، ساريا بسر سيرته فى منهاج ملته إلى سماء هديه الأسنى، راتعا فى رياض روضة سنته النزيهة الحسنا، مستمدا من فتح البارى (٢) ، فيض فضله السارى، فمنحنى صاحب هذه المنح من مصون حقائقه، وأبرز لى مما أكنّه من مكنون رقائقه، فانفتحت بالفتح المحمدى عين بصيرة الاستبصار وتنزه الناظر فى رياض ارتياض رقائق الأسرار، فاستجليت من أبكار مخدرات السنة النبوية من كل صورة معناها، واقتبست من تلألؤ مصباح مشكاة المعارف من كل بارقة أضواها، وانتشقت من كل عبقة صوفية شذاها، واجتنيت من أفنان لطائف تأويل آى الكتاب العزيز من كل ثمرة مشتهاها، ولا زلت فى جنات لطائف هذه المنح أغدو وأروح، فى غبوق وصبوح، حتى انهلت غمائم المعانى على أرض رياض المبانى، فأينعت أزهارها، وتكللت بنفائس جواهر العلوم أوراقها، وطابت لمجتنى رقائق الحقائق ثمارها، وتدفقت حياض بدائع ألفاظها، بزلال جوامع كلماتها، وخطب خطيب قلوب أبناء الهوى، على منبر الغرام الأقدس، يدعو لكمال محاسن الحبيب الأرأس، فترنحت بسلاف راح الارتياح نفائس الأرواح، وتمايلت بمطربات ألحان الحنين إلى جمال المحبوب كرائم الأشباح، وزمزم مزمزم الصفا، بحضرة خلاصة أولى الوفا، منشدا مرددا: حضر الحبيب وغاب عنه رقيبه ... حسبى نعيم زال عنه حسيبه داوى فؤادى الوصل من أدوائه (٣) ... طوبى لقلبى والحبيب طبيبه __________ (١) هو: كتاب (الشفا فى حقوق المصطفى) للقاضى عياض. (٢) يشير إلى كتاب (فتح البارى) للحافظ ابن حجر، وهو كتاب مشهور. (٣) أدواء: جمع داء، بخلاف أدوية جمع دواء. صدق المحب حبيبه فى حبه ... فحباه صدق الحب منه حبيبه لباه لب فؤاده فأجابه ... لما دعاه إلى الغرام وجيبه ولجامع الأهواء حيعل حبه ... ولحسنه خطب القلوب خطيبه فلما سمعت هذه المواهب آذان قلوب أولى الألباب، تلفتت عيون أعيانهم لتلخيص خلاصة جوهر هذا الخطاب، فى سفر يسفر عن وجه المنح النبوية منيع النقاب، فثنيت عنان القلم إلى تحصيل ماربهم، وتسطير مطالبهم، جانحا صوب الصواب، مودعا ما كان مستودعا لى فى غيابات الغيب فى هذا الكتاب، مستعينا فى ذلك بالقوى الوهاب، حتى أتاح اللّه لى ذلك، وتمم ما هنا لك، فأوضحت ما خفى من الدليل، ومهدت ما توعر من السبيل. وسميته: (المواهب اللدنية بالمنح المحمدية) ورتبته على عشرة مقاصد تسهيلا للسالك والقاصد: المقصد الأول: فى تشريف اللّه تعالى له- عليه السّلام- بسبق نبوته فى سابق أزليته، ونشره منشور رسالته فى مجلس مؤانسته، وكتبه توقيع عنايته فى حظائر قدس كرامته، وطهارة نسبه وبراهين أعلام آيات حمله وولادته ورضاعه وحضانته، ودقائق حقائق بعثته وهجرته، ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه وسيرته، مرتبا على السنين من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته. المقصد الثانى: فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال أخلاقه المنيفة، وأولاده الكرام الطاهرين وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وأعمامه وإخوته من الرضاعة، وجداته وخدمه ومواليه وحرسه، وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام، ومؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه، وآلات حروبه، ودوابه، والوافدين إليه- صلى اللّه عليه وسلم- وفيه عشرة فصول. المقصد الثالث: فيما فضله اللّه سبحانه وتعالى به من كمال خلقته، وجمال صورته، وما كرمه به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية، وما تدعو ضرورة حياته إليه- صلى اللّه عليه وسلم-، وفيه ثلاثة فصول. المقصد الرابع: فى معجزاته الدالة على ثبوت نبوته وصدق رسالته وما اختص به من خصائص آياته وبدائع كراماته. وفيه فصلان. المقصد الخامس: فى تخصيصه- عليه السّلام- بخصائص المعراج والإسراء، وتعميمه بعموم لطائف التكريم فى حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى. المقصد السادس: فيما ورد فى آى التنزيل من تعظيم قدره، ورفعة ذكره، وشهادته له تعالى بصدق نبوته، وثبوت بعثته، وقسمه تعالى على تحقيق رسالته، وعلو منصبه الجليل ومكانته، ووجوب طاعته واتباع سنته، وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلا ومنّة إن أدركوه ليؤمنن به ولينصرنه، والتنويه به فى الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل، بأنه صاحب الرسالة والتبجيل. وفيه عشرة أنواع. المقصد السابع: فى وجوب محبته واتباع سنته، والاهتداء بهديه وطريقته، وفرض محبة آله وأصحابه، وقرابته وعترته، وحكم الصلاة والتسليم عليه، زاده اللّه فضلا وشرفا لديه. وفيه ثلاثة فصول. المقصد الثامن: فى طبه- صلى اللّه عليه وسلم- لذوى الأمراض والعاهات، وتعبيره الرؤيا، وإنبائه بالأنباء المغيبات. وفيه ثلاثة فصول. المقصد التاسع: فى لطيفة من حقائق عباداته، ويشتمل على سبعة أنواع. المقصد العاشر: فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إليه، وزيارة قبره الشريف، ومسجده المنيف، وتفضيله فى الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم، والدرجات العليات، وتشريفه بخصائص الزلفى فى مشهد مشاهد الأنبياء والمرسلين، وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، وانفراده بالسؤدد فى مجمع مجامع الأولين والآخرين، وترقيه فى جنة عدن أرقى مدارج السعادة، وتعاليه فى يوم المزيد أعلى معالى الحسنى وزيادة. وفيه ثلاثة فصول. واللّه تعالى جل جده وعز مجده أسأل بوجاهة وجهه الوجيه ونبيه النبيه أن يمدنى فى هذا الكتاب العزيز بمدد الإقبال والقبول، وينيلنى ومن كتبه أو قرأه أو سمعه والمسلمين من العواطف النبوية لطائف السؤل، ونهاية المأمول، وعلى اللّه قصد السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل. |