٧٣ المكتوب الثالث والسبعون إلى قليج اللّه ابن قليج خان فى مذمة الدنيا وأبنائها وترك تحصيل العلوم الغير النافعة والاجتناب عن فضول المباحات والتحريض على الخيرات والأعمال الصالحة وما يناسب ذلك رزقنا اللّه سبحانه الاستقامة على جادة الشريعة المصطفوية على صاحبها الصلاة والسلام والتحية الأبدية السرمدية أيها الولدان : الدنيا محل الامتحان والابتلاء ظاهرها مموه ومزين بأنواع المزخرفات وصورتها منقشة وملونة بالخيلان والخطوط والذوائب والخدود الموهومة حلوة فى بادى النظر متخيلة بالطراوة والنضارة فى البصر ولكنها فى الحقيقة جيفة مرشوش عليها العطر ومزبلة ملآنة بالذباب والدود ، سراب يرى كالشراب وسم فى صورة سكر باطنها خراب وابتر ومعاملتها مع أبنائها مع وجود هذه الدمامة والوقاحة شر من جميع ما يقال ويذكر ، عاشقها سفيه ومسحور ومفتونها مجنون ومخدوع كل من افتتن بظاهرها فقد اتسم بسيمة الخسارة الأبدية ، وكل من نظر إلى حلاوتها وطراوتها كان نصيبه الندامة السرمدية . قال سيد الكائنات حبيب رب العالمين عليه وعلى آله الصلاة والسلام " ما الدنيا والآخرة إلا ضرتان إن رضيت إحداهما سخطت الأخرى فمن أرضى الدنيا فقط أسخط الآخرة على نفسه " فلا جرم لا يكون له نصيب من الآخرة أعاذنا اللّه سبحانه وإياكم من محبتها ومحبة أهلها . ( أيها الولد ) هل تدرى ما الدنيا ، كلما يعوقك ويحجبك عن الحق سبحانه وتعالى من النساء والأولاد والأموال والجاه والرياسة واللّهو واللعب والاشتغال بما لا يعنى فهو داخل فى الدنيا ، والعلوم التى لا دخل لها فى أمور الآخرة فهى أيضا من الدنيا ، فلو نفع تحصيل علم النجوم والمنطق والهندسة والحساب وأمثالها من العلوم التى لا طائل فيها لكانت الفلاسفة من أهل النجاة قال النبى عليه الصلاة والسلام " علامة إعراضه تعالى عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه " ( شعر ). من كان فى قلبه مقدار خردلة * سوى هوى الحق فاعلم أنه مرض وما قالوا من أن معرفة علم النجوم لازمة لمعرفة أوقات الصلاة ليس معناه أن معرفة أوقات الصلاة لا تمكن إلا بمعرفة علم النجوم ، بل يعنى أن علم النجوم أحد طرق معرفة الأوقات وكثير من الناس لا خبر لهم من علم النجوم ومع ذلك يعرفون أوقات الصلاة أزيد من علماء علم النجوم ، وقريب من ذلك الوجوه التى ذكروها فى تحصيل المنطق والحساب وأمثالهما من العلوم التى لها دخل فى الجملة فى بعض العلوم الشرعية . وبالجملة لا يظهر وجه جواز الاشتغال بهذه العلوم إلا بعد تمحلات كثيرة ، وذلك أيضا بشرط أن لا يكون المقصود منها غير معرفة الأحكام الشرعية وتقوية الأدلة الكلامية ، وإلا فلا يجوز الاشتغال بها أصلا . ينبغى الإنصاف أن الأمر المباح إذا كان الاشتغال به مستلزما لفوات أمر واجب هل يخرج من الإباحة أولا ، ولا شك أن الاشتغال بهذه العلوم مستلزم لفوات الاشتغال بالعلوم الشرعية الضرورية . ( أيها الولد ) إن الحق سبحانه قد رزقك من كمال عنايته التى لا غاية لها التوفيق للتوبة فى عنفوان الشباب ووفقك للإنابة على يد واحد من دراويش السلسلة النقشبندية العلية ( قدس اللّه أسرار أهلها ) ولا أدرى هل لك على تلك التوبه ثبات أو أغوتك عنها النفس بأنواع المزخرفات ، وأرى الاستقامة عليها مشكلة ، فإن الموسم عنفوان الشباب ومتاع الدنيا متيسر الأسباب وأكثر القرناء غير مناسب فى هذا الباب . ( أيها الولد ) إن الأمر والحزم هو الاجتناب عن فضول المباحات والاكتفاء بقدر الضرورة ، وأن يكون هو أيضا بنية حصول القوة والجمعية لأداء وظائف العبودية ، فإن المقصود من الأكل مثلا هو حصول القوة على أداء الطاعة ومن لبس اللباس ستر العورة ودفع الحر والبرد ، وعلى هذا القياس سائر المباحات الضرورية . واختار أكابر النقشبندية ( قدس اللّه أسرارهم العلية ) العمل بالعزيمة واجتنبوا من الرخصة مهما أمكن ومن جملة العزائم الاكتفاء بقدر الضرورة فإن لم تتيسر هذه الدولة ينبغى أن لا يخرج من دائرة المباحات إلى حد المشتبهات والمحرمات ، ولقد أباح اللّه سبحانه بكمال كرمه تنعمات كثيرة على الوجه الأتم وجعل دائرة هذه التنعمات واسعة جدا ، ومع قطع النظر عن هذه التنعمات أى عيش يساوى رضا مولى العبد بأفعاله وأى جفاء يشبه بسخط سيده على أعماله ( رضاء اللّه فى الجنة خير من الجنة وسخط اللّه فى النار شر من النار ) والإنسان عبد محكوم بحكم ( لم يجعله المولى ولده ولم يتركه سدى ) حتى يتهافت على كل ما يشاء فينبغى التفكر وأعمال القلب ، ولا يحصل غدا شئ غير الندامة والخسارة وقت العمل إنما هو عهد الشباب ، والعاقل من لا يضيع هذا الوقت ويغتنم الفرصة فإن الأمر مبهم فعساه أن لا يبقى إلى زمن الشيخوخة ولئن بقى فلعله لا تتيسر له الجمعية ولئن تيسرت فلعله لا يقدر على العمل فى أوان استيلاء الضعف والعجز . والحال أن أسباب الجمعية كلها متيسرة الآن ووجود الوالدين أيضا من إنعامات الحق سبحانه فإن هم معيشتك على ذمتهم والموسم موسم الفرصة وزمان القوة والاستطاعة فبأى عذر يمكن أن يؤخر شغل اليوم إلى غد ويختار التسويف قال عليه الصلاة والسلام : " هلك المسوفون " نعم إذا أخرت المهمات الدنياوية الدنية إلى غد لأجل الاشتغال بأمور الآخرة فى اليوم يكون مستحسنا جداً كما أن عكسه مستقبح جدا ، وفى هذا الوقت الذى هو عنفوان الشباب ووقت استيلاء أعداء الدين من النفس والشيطان لعمل قليل من الاعتبار ما ليس ذلك فى غير هذا الوقت لأضعاف مضاعفة ، كما أن فى القاعدة العسكرية للعساكر الشجعان أقوياء الجنان اعتبار زائد وقت استيلاء الأعداء حتى يعتبر منهم فى ذلك الوقت عمل يسير وثبات قليل ويكون ذلك منظورا ، ولا يكون مثل هذا الاعتبار وقت الأمن من شر الأعداء . ( أيها الولد ) إن المقصود من خلق الإنسان الذى هو خلاصة الموجودات ليس هو اللّهو واللعب ولا الأكل والنوم ، وإنما المقصود منه أداء وظائف العبودية والذل والانكسار والعجز والافتقار ودوام الالتجاء والتضرع إلى جناب قدس الغفار جل سلطانه ، والعبادات التى الشرع المحمدى ناطق بها المقصود من أدائها منافع العباد ومصالحهم ولا يعود منها شئ إلى جناب قدسه عز شأنه ، فينبغى إذا أداؤها بغاية الممنونية وأن يسعى ويجتهد فى انقياد الأوامر وامتثالها والانتهاء عن المناهى وامتناعها وقد أكرم اللّه سبحانه عباده بالأوامر والنواهى مع وجود غناه المطلق ، فينبغى لنا أن نشكر على هذه النعمة على الوجه الأتم وأن نجتهد فى امتثال أحكامها بكمال الممنونية . ( اعلم ) أيها الولد لو أن واحداً من أبناء الدنيا الذين تحققوا بشوكة ظاهرية وجاه صورى أنعم على واحد من متعلقيه بخدمة يرجع منها نفع للآمر بها أيضا كيف يعدها عزيزة ويقول أن شخصا عظيم القدر أمرنى بهذه الخدمة فينبغى لى القيام بها بغاية الممنونية ، فأى بلاء نزل وأى مصيبة أصابت . هل كانت عظمة الحق جل شأنه فى النظر أقل من عظمة هذا الشخص حيث لا يجتهد فى امتثال أحكام الحق جلت عظمته ينبغى أن يستحى وأن يتنبه من نوم الأرنب . وعدم امتثال أوامر اللّه جل سلطانه لا يخلو من أمرين : إما أن يكذب الإخبارات الشرعية ، وإما أن تكون عظمة أمر الحق تعالى وتقدس أحقر من عظمة أمر أبناء الدنيا ، فينبغى أن يلاحظ شناعة هذين الأمرين . ( أيها الولد ) لو أن شخصا قد جرب كذبه مرارا ، أخبر بأن الأعداء فى صدد الهجوم بالليل لاستيلاء تام على قوم كذا لاجتهد عقلاء ذلك القوم فى المحافظة وفكر دفع تلك البلية مع علمهم بأن ذلك المخبر متهم بالكذب ، لكون الاحتراز عما يتوهم فيه الخطر لازما . وقد أخبر المخبر الصادق عليه الصلاة والسلام بتمام المبالغة عن عذاب الآخرة ومع ذلك لم يتأثروا منه أصلا ، فإنهم إن تأثروا لانزعجوا وتفكروا فى دفعه والحال أنهم عرفوا علاج دفعه ببيان الخبر الصادق عليه الصلاة والسلام ، فبئس الإيمان الذى لا يكون لخبر المخبر الصادق اعتبار عند صاحبه مثل اعتبار خبر الكاذب . وصورة الإسلام لا تنفع من النجاة شيئا بل لابد لحصول النجاة من تحصيل اليقين وأين اليقين بل لا ظن ولا وهم أيضا ؛ فإن العقلاء يعتبرون الوهم فى أمور فيها خطر وخوف وكذلك قال اللّه تعالى فى كتابه المجيد " واللّه بصير بما تعملون " ومع ذلك إنهم يعملون هذه الأعمال القبيحة والحال أنهم لو أحسوا اطلاع شخص حقير على أعمالهم لما عملوا حينئذ عملا شنيعا أصلا . فحال هؤلاء لا يخلوا عن أحد الحالين : إما أن يكذبوا خبر الحق سبحانه ، وإما أن لا يعتبروا اطلاعه تعالى . فمثل هذا العمل هل هو من الإيمان أو من الكفر فيلزم لذلك الولدان يجدد الإيمان قال عليه الصلاة والسلام " جددوا إيمانكم بقول لا إله إلا اللّه " وإن يعيد توبة نصوحا من أمور لا يرضى بها اللّه سبحانه وأن يجتنب عن أمور محرمة منهية عنها وأن يؤدى الصلوات الخمس مع الجماعة فإن تيسر قيام الليل وصلاة التهجد فنعمت السعادة ، وأداء زكاة الأموال أيضا من أركان الإسلام فلابد من أدائها البتة . وأسهل طرق أدائها أن يعزل حق الفقراء من المال فى كل سنة بنية الزكاة فيحفظه عنده ويصرفه فى مصارف الزكاة فى تمام السنة ، فعلى هذا التقدير لا يلزم تجديد نية أداء الزكاة فى كل مرة بل تكفى النية وقت العزل مرة واحدة . ومن المعلوم أنه كم يصرف إلى الفقراء والمستحقين فى جميع السنة ولكن لما لم يكن بنية أداء الزكاة لم يكن محسوبا منها ، وفى الصورة المذكورة تسقط الزكاة من الذمة ويحصل التخلص أيضا من الخرج من غير مضايقة ، فإن لم يصرف للفقراء فى تمام السنة مقدار الزكاة بل بقيت منها بقية ينبغى أن يحفظها كذلك معزولة عن سائر الأموال ، فإن مثل هذا العمل يحتاج إليه فى كل عام ، ومتى كان مال الفقراء ممتازا ومعزولا فعسى أن يحصل التوفيق لإنفاقه غدا وإن لم يحصل اليوم . ( أيها الولد ) إن النفس بخيلة بالذات وهاربة من امتثال الأحكام الإلهية جل سلطانه ، فلا جرم يصدر الكلام بالرفق واللين وإلا فالأموال والأملاك كلها حق اللّه تعالى ، فأين المجال للعبد فى المكث والتوقف فيه بل ينبغى أداءها بالممنونية التامة ، وكذلك ينبغى أن لا يتساهل فى أداء العبادات باتباع هوى النفس وأن يسعى فى أداء حقوق العباد سعيا بليغا وأن يبذل الجهد فيه حتى لا يبقى لأحد حق فى الذمة فإن أداء الحق هنا – يعنى فى الدنيا – سهل بحيث يمكن تحصيله بالملايمة والتملق ، وأما فى الآخرة فالأمر مشكل غير قابل للعلاج . ( وينبغى ) الاستفسار عن الأحكام الشرعية والاستفتاء فيها من علماء الآخرة فإن لكلامهم تأثيرا فعسى أن يحصل التوفيق للعمل بها ببركة أنفاسهم ( وينبغى ) الاجتناب عن علماء الدنيا الذين جعلوا العلم وسيلة للجاه إلا أن لا يوجد العلماء المتقون فيرجع إليهم بالضرورة بقدر الضرورة . والحاج ميان محمد الأترة من العلماء المتدينين هناك والشيخ على الاترة من أحبابكم وكل من هذين الشخصين مغتنم فى تلك النواحى والرجوع إليهما فى تحقيق المسائل الشرعية أنسب . ( أيها الولد ) ما لنا ولأبناء الدنيا وأية مناسبة بيننا وبينهم حتى نتكلم فى خيرهم وشرهم ، وقد وردت النصائح الشرعية فى هذا الباب على الوجه الأتم والأكمل فللّه الحجة البالغة . ولكن لما كان ذلك الولد راجعا إلى الفقراء ومنسوبا إليهم من طريق الإنابة كان للقلب توجه فى أكثر الأوقات إلى أحواله ، وكان هذا التوجه باعثا على القيل والقال . واعلم : أن أكثر هذه النصائح والمسائل قد بلغه وقرع سمعه ولكن المقصود هو العمل لا مجرد العلم ، ألا ترى أن مريضا إذا كان عالما بداء مرضه لا ينفعه علمه بذلك الدواء ولا يحصل الشفاء بدون أكل الدواء . وكل هذا الإبرام والمبالغة لأجل العمل ؛ فإن العلم العارى عن العمل يقيم الحجة على صاحبه قال عليه الصلاة والسلام " أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه اللّه بعلمه ". (وليعلم) ذلك الولدان الإنابة السابقة وإن لم تثمر بواسطة قلة صحبة أرباب الجمعية ولكنها تنبئ عن نفاسة جوهر استعداده . والمرجو أن يوفقه اللّه سبحانه لمرضياته ببركة تلك الإنابة وأن يجعله من أهل النجاة . وعلى كل حال ينبغى أن لا يفلت حبل محبة هذه الطائفة ، وأن يجعل الالتجاء والتضرع إلى هؤلاء القوم شعارا وأن ينتظر تشريف الحق سبحانه بمحبته بسبب محبة هذه الطائفة وجذبه إليه بالتمام وتخليصه من الأدناس والأوساخ بالكلية ( شعر ). ما العشق إلا شعلة قد أحرقت * كل الورى إلا الحبيب الباقى |