Geri

   

 

 

İleri

 

١٠٠

المكتوب الموفى مائة

إلى الشيخ نور الحق فى كشف سر محبة يعقوب ليوسف عليهما السلام مع بيان بعض أسرار عجيبة وعلوم غريبة.

الحمد للّه وسلام على عباده الذين اصطفى قد استفسر أخى الأعز الشيخ نور الحق عن محبة يعقوب ليوسف على نبينا وعليهما الصلوات والتسليمات بالاهتمام والشوق التام وكان شوق انكشاف هذا المعنى فى هذا الفقير أيضاً منذ مدة ولما كان شوقه علاوة على شوق هذا الفقير صرت متوجهاً بكليتى إلى كشف هذه الدقيقة بلا اختيار فظهر فى بادى النظر أن خلقته وحسنه وجماله على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليست من جنس خلقه النشأة الدنيوية وحسنها وجمالها بل إن جماله من جنس جمال أهل الجنة وصار مشهودا أن صباحته مع كونها فى هذه النشأة لها مشابهة بحسن الحور والغلمان ثم كتبت ما كان مفاضا فى هذا الباب بعد ذلك بكرم اللّه وفضله تعالى بالتفصيل وأرسلته إليكم سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ( شعر ) .

وامسكونى ورى المرأى كدرتهم  * أقول ما قال لى أستاذى الأزلى

( فإن قيل ) ما وجه إفراط محبة يعقوب ليوسف عليهما السلام وقد قال اللّه تعالى فى حقه وحق آبائه الكرام أولى الأيدى والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار فكيف يكون التعلق بما دون الحق وعلا مناسبا لشأن الأنبياء أولى الأيدى والأبصار وكيف يسع المصطفى المخلصين محبة المخلوقين لا يقال أن ذلك ليس بتعلق بما دون الحق تعالى فإن المخلوق ليس إلا مرآة حسنة وجماله تعالى كما قالت الصوفية وجوزوا شهودا الوحدة فى مرآة الكثرة وأثبتوا المشاهدات والمكاشفات فى مجالى صور الممكنات ومظاهرها فى هذه النشأة سوى الرؤية الأخروية لأن مثال هذا الكشف والشهود مما يظهر للسالكين فى هذه النشأة الفانية وقت غلبات التوحيد وخواص الأمة يكادون يستنكفون عنها ويتحاشون فإذا كانت معاملة خواص الأمة هكذا فكيف يتحمل ثبوت هذه الأحوال فى حق الأنبياء المصطفين الأخيار بل تصور هذا المعنى فى حقهم عين الوبال

( قلت ) إن جواب هذا السؤال مبنى على مقدمة وهى إن حسن الآخرة وجمالها وكذلك التلذذات والتنعمات فى ذلك الموطن ليست كحسن الدنيا وجمالها ولا كالتلذذات والتنعمات فيها فإن ذاك الحسن والجمال خير فى خير وذاك التلذذ والتنعم مرضى عند المولى جل شأنه ومقبول وكل هذا الحسن والجمال شر ونقص وجميع هذا التلذذ والتنعم غير مقبول وغير مستحسن ولهذا كانت دار الآخرة دار الرضا ودار الدنيا دار غضب المولى

( فإن قيل ) إذا كان الحسن والجمال فى الممكن مستعارا من مرتبة حضرة الوجوب تعالت وتقدست ولم يكن الممكن شيئا غير أن يكون مرآة ومظهرا لذلك الحسن والجمال فإن الممكن ليس له شئ بل كلما فيه مستعار من حضرة الوجوب فمن أين جاء التفاوت بين الموطنين ولم كان أحدهما مرضيا ومقبولا والآخر غير مقبول وغير مستحسن

( قلت ) جواب هذا مبنى على مقدمات

( المقدمة الأولى ) إن العالم بتمامه مجالى أسماء الواجب ومظاهر صفاته جل شأنه ومرايا كمالاته الأسمائية والصفاتية

( المقدمة الثانية ) إن صفات الواجب وإن كانت داخلة فى دائرة الوجوب ولكن لما ثبت لها الاحتياج فى الوجود والقيام إلى حضرة الذات تعالت كانت فيها رائحة من الإمكان والوجوب الذاتى غير مقطوع فى حقها فإن وجوبها ليس لنفسها بل لذات الواجب وإن لم يقولوا لها غير الذات ولكن لابد من الغيرية فإن الأثنينية كائنة بينهما الاثنان متغايران قضية مقررة من قضايا أرباب المعقول ومع ذلك لا ينبغى إطلاق الإمكان فى حقها لكونه موهما للحدوث لأن كل ممكن حادث عندهم ولا ينبغى تجويز الوجوب بالغير أيضاً فى ذلك الموطن لأنه موهم لانفكاكها عن حضرة الذات تعالت وتقدست

( المقدمة الثالثة ) إن كلما فيه رائحة الإمكان فيه مجال للعدم فى حد ذاته وإن كان حصوله محالا فإن استحالته ما جاءت من نفسه بل من محل آخر

( المقدمة الرابعة ) إن أسماء الواجب وصفاته تعالى كما أن لها فى جانب وجودها حسنا وجمالا كذلك لها فى جانب احتمالها للعدم أيضاً حسن وجمال وإن كان ثبوت هذا الحسن فى مرتبة الوهم والحس ومناسباً للعدم وكان مستعارا من الجوار لأن العدم لا نصيب له فى حد ذاته غير الشر والقبح والوجود هو الذى بكليته خير وكمال وبتمامه حسن وجمال

( ينبغى ) أن يعلم أن الحسن الذى يحس فى العدم كحنظل غلف بالسكر وأوهم أنه حلو

( المقدمة الخامسة ) إنه قد لاح بكرم اللّه تعالى بالنظر الكشفى أن جانب عدم الممكن قد حصلت له التربية فى هذه النشأة بكمال الاقتدار وثبت له فى مرتبة الحس والوهم بالصنع الكامل ثبات واستقرار وجعل مظهرا لحسن الصفات وجمالها الكائنين فى جانب احتمالها للعدم واتضح أيضاً أن جانب وجود الممكن يرجح فى النشأة الأخروية ويجعل مظهر الحسن الصفات وجمالها الكائنين فى جانب وجودها فإذا علمت هذه المقدمات الخمس صار التفاوت بين حسن هذه النشأة وجمالها وبين حسن تلك النشأة وجمالها واضحاً وكان حسن إحدى النشأتين وقبح الأخرى لائحا وصار المرضى متميزا من غير المرضى ومن هذه التحقيقات انحل هذا السؤال واتضحت المقدمة التى كان السؤال الأول مبنياً عليها كما لا يخفى على الفطن المتأمل فإذا اتضحت هذه المقدمة أقول فى جواب السؤال الأول بفضل اللّه جل شأنه إنه قد صار معلوما بالكشف الصريح إن وجود يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام وإن ظهر فى هذه النشأة ولكن وجوده من النشأة الأخروية على خلاف وجود سائر موجودات هذه النشأة وأنه قد رجح جانب وجوده وجعل مظهرا للحسن والجمال المتعلقين بوجود الأسماء والصفات وانتفى عنه تعلق شائبة العدمية بنفسه أو بأصله وجعل هو وأصله طاهرا من علة العدم الذى هو منشأ كل قبح ونقص ولم يترك فيه غير استيلاء نور جانب الوجود الذى هو نصيب أهل الجنة فكان التعلق بحسنة وجماله كالتعلق بحسن الجنة وجمالها وحسن أهلها وجمالهم محمودا بالضرورة ونصيباً للكل وكلما كان المحب أكمل يكون تعلقه بحسن تلك النشأة وجمالها أزيد ويكون قدمه فى مراضى المولى جل شأنه أسبق فإن التعلق بتلك النشأة ومحبتها عين التعلق بصاحب تلك النشأة ومحبته فإن تلك النشاة ليست إلا طلسم حكمته ونقاب جماله كرداء الكبرياء واللّه يدعو إلى دار السلام نص قاطع فى هذا الأمر واللّه يريد الآخرة حجة واضحة لهذا المعنى والذى جعل التعلق بالآخرة كالتعلق بالدنيا مذموماً وجعله مغايراً للتعلق بالمولى جل شأنه فهو لم يعلم حقيقة الآخرة كما هى وقاس الغائب على الشاهد مع وجود الفارق البين فلو اطلعت رابعة المسكينة على حقيقة الجنة كما هى لما كانت فى فكر إحراق الجنة ولما اعتقدت التعلق بها مغايرا للتعلق بمولاها وقال آخر إن فى آية منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخر شكاية من الفريقين أعطاهم اللّه سبحانه الإنصاف كيف يتصور أن يدعو اللّه تعالى إلى الجنة ثم يشكو ممن يجيب دعوته فلو كان التعلق بذلك الموطن المقدس مذموماً أو كانت فيه شائبة الذم لما كانت الجنة دار الرضا والرضا هو نهاية مراتب القبول بل كانت مثل الدنيا مغضوباً عليها وعلة الغضب وباعث الذم العدم الذى هو أصل كل قبح ونقص وصار نصيباً للدنيا وسببا لكونها ملعونة ولما حصل التبرى من العدم زالت شائبة الذم والقبح وكان عدم الرضا وعدم المقبولية نصيب الأعداء ولم يبق غير الرضا والقبول والوجود والنور وغير الوصل والوصول والراحة والسرور أصلا قال المخبر الصادق عليه وعلى آله الصلاة والسلام إن الجنة قيعان وإن غرسها قولك سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر والمعنى التنزيهى الذى ظهر ههنا فى كسوة فى كسوة الحروف والكلمات يتمثل هناك بصورة الشجر ويكون التعلق بذلك الشجر والتلذذ منه عين التعلق والتلذذ بالمعنى التنزيهى وعلى هذا القياس وما بينه الصوفية العلية من الأسرار والدقائق فى التوحيد والاتحاد ونزلوا على المظاهر الجميلة فى هذه النشأة وعشقوها وأثبتوا فى ضمن ذلك شهودا ومشاهدة واعتقد وأحسن تلك المظاهر وجمالها عين حسن المولى وجماله حتى قال بعضهم ذقتك فى كل طعام لذيذ وقال الآخر ( شعر ) .

أمر وزجون جمال تودر پرده ظاهر ست  *  درحيرتم كه وعدهء فردابر اى چيست

وقال الثالث ( شعر ) :

ما هم ثوم بشرب الماء من عطش  * إلا رأوا ما هو المقصود فى قدح

صدق أمثال هذه الكلمات بعيد عن فهم هذا الفقير ووجدانه فى هذه النشأة ولا أجد هنا طاقة تحمل هذه الدقائق ولا أراها قابلة لقبول هذه الدولة فلو كانت فيها طاقة وقابلية لما كانت مغضوبا عليها ولما قال النبى صلى اللّه عليه وسلم الدنيا ملعونة واللائق بالكرامات والقابل لهذه المقامات هو الجنة ذقتك فى كل طعام لذيذ صادق على طعام الجنة لأعلى طعام الدنيا الذى هو مخلوط بماء العدم المسموم ولهذا لم يستحسن ارتكاب ذلك ( وعند ) هذا الفقير جنة كل شخص عبارة عن ظهور الاسم الإلهى الذى هو مبدأ تعين ذلك الشخص وظهر ذلك الاسم بصورة الأشجار والأنهار وبصورة الحور والقصور وبصورة الولدان والغلمان فكما أن فى الأسماء الإلهية تفاوتاً باعتبار العلو والسفل وباعتبار الجامعية وعدمها كذلك فى الجنات أيضاً تفاوت بمقدارها فلئن أثبت الشهود والمشاهدة فى ضمن ذلك الظهور فهو حسن ومستحسن ووضع شئ فى موضعه

وأما إطلاق أمثال هذه الكلمات فى غير هذا الموضع فجراءة ووضع شئ فى غير موضعه وكأن الصوفية العلية من فرط محبتهم للمطلوب وكمال اشتياقهم إليه اغتنموا كل ما وصل إلى مشام أرواحهم من رائحة المطلوب وظنوه من استيلاء سكر المحبة عين المطلوب والمقصود وعاملوا معه معاملة العشاق التى تليق بنفس المطلوب واحتظوا منه بحظوظ وافرة وأثبتوا المشاهدة والمكاشفة قال واحد من الأكابر ( شعر ) .

ببوى توازجا جهم مست بيخود *  زهر سوكه او از پاى برآيد

نعم أمثال هذه المعاملات مجوزة فى العاشقية وعدم القرار والاستراحة من غلبة المحبة بل مستحسنة لأنها لأجل اللّه سبحانه وتعالى وناش من شوق لقاء المطلوب المتفرد ولحظائم حكم الصواب ولسكرهم حكم الصحو وورد فى الخبر سين بلال عند اللّه شين (شعر).

براشهد توخنده زندا سهد بلال

( ينبغى ) أن يعلم أن مكشوف هذا الفقير هو أن رؤية كل شخص جنتى فى الجنة أيضاً على مقدار ذلك الاسم الإلهى الذى هو مبدأ تعينه وشخصه ويظهر ذلك الاسم فى كسوة الأشجار والأنهار والحور والغلمان بمعنى أن تلك الأشجار والأنهار وغيرها مما كان مظاهر ذلك الاسم المقدس يكون حكمها زماناً بكرم اللّه تعالى حكم الناظور وتصير وسيلة إلى رؤية ذلك الشخص الغير المتكيفة ثم تعود إلى حالتها الأصلية وتشغله بأنفسها وهكذا إلى أبد الآبدين كالتجلى البرقى الذاتى الذى أثبتوه فى هذه النشأة فإن تجلى الذات فى حجب الأسماء والصفات دائمى فى حق المستعدين لتلك الدولة وبعد مدة ترتفع حجب الأسماء والصفات وتتجلى حضرة الذات بلا حجب الأسماء والصفات وحيث أن ذلك الاسم الإلهى اعتبار من اعتبارات الذات تعالت يكون متعلق رؤية كل شخص ذلك الاعتبار الذاتى الذى هو رب ذلك الشخص بالضرورة

( ولا يتوهم ) هنا أحد تبعضاً وتجزيا فإن الذات تعالت بتمامها ذلك الاعتبار لا إن بعض الذات ذلك الاعتبار وبعض آخر منها اعتبار آخر فإن ذلك علامة النقص والحدوث تعالى اللّه عن ذلك

( قالوا ) إن ذات اللّه تعالى تمامها علم وتمامها قدرة وتمامها إرادة وإن كان كل اعتبار تمام الذات ولكن المرئى هو ذلك الاعتبار لا اعتبارات آخر ينبغى أن يطلب سر لا تدركه الأبصار من ههنا

( لا يقال ) إذا لم يكن تميز بين الاعتبارات وكان كل واحد منها عين الذات فما معنى جعل متعلق الرؤية اعتبارا من بين اعتبارات كثيرة لأنا نقول أن هذه الاعتبارات وإن كانت عين الذات بل كل واحد منها عين الآخر وليس بينها التميز والامتياز الكيفيين المعتبرين عند مأسورى عالم الكيف ولكن بينها امتياز لا كيفى والذين تخلصوا من العالم الكيفى واتصلوا بالعالم اللاكيفى باتصال لا كيفى لا يخفى عليهم هذا الامتياز اللاكيفى بل هو واضح عندهم ويجدونه كامتياز الأذن من العين نعم من كان مبدأ تعينه اسم جامع فله من جميع اعتبارات الذات تعالت وتقدست نصيب على سبيل الاعتدال على تفاوت الدرجات ولو على سبيل الإجمال ورؤيته متعلقة بجيعها ولكن لما كان ضيق جامعية الإجمال الذى هو نصيبه لازما له دائماً يكون الإدراك والإحاطة مفقودين فى حقه ويكون لا تدركه الأبصار صادقا ومن أصدق من اللّه حديثاً

( ينبغى ) أن يعلم أنه إذا شرف اللّه سبحانه عبداً بدولة الفناء الأتم بكرمه وخلصه من قيد العدم الذى كان هو ماهيته ولم يترك منه عيناً ولا أثر أيهب له بعد مثل هذا الفناء وجودا شبيهاً بوجود النشأة الأخروية ومتعلقاً بترجيح جانب وجود الممكن ويكون مظهر الكمالات جانب وجود الأسماء والصفات الإلهية وقد ذكر تحقيق وجه ذلك فيما سبق وكان يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام مشرفا بهذه الدولة بوجوده الأول وهذا العارف تشرف بها بوجوده الثانى بالولادة الثانية ولما كان ذاك جبليا أعطاه الحسن الظاهر أيضاً وهذا لما حصل بعد تجشم الكسب اكتفى فيه بنور الباطل وادخر له الحسن الظاهر فى الآخرة ومثل هذا العارف بعد الأنبياء عليه الصلاة والسلام عزيز الوجود وأقل قليل ومثل هذا العارف وإن لم يكن نبيا ولكن له بتبعية الأنبياء شركة فى دولة خاصة بالأنبياء عليهم الصلوات وهو وإن كان طفيلياً ولكنه جالس على سفرة نعمتهم وإن كان خادماً ولكنه جالس مع المخدومين وإن كان تابعاً ولكنه مصاحب بالمتبوعين وربما يمنح أسرارا يغبطه الأنبياء عليهم السلام فيها كما أخبر به المخبر الصادق عليه وعلى آله الصلاة والسلام ولكن مثل هذه المعاملة داخل فى فضل جزئى والفضل الكلى إنما هو للأنبياء عليهم السلام وهذا الفضل أيضاً لما تيسر له بسبب متابعته إياهم كان منهم وليس العارف غير حامل أماناتهم وآية ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون نص القرآن رفع شأن هؤلاء الأكابر فوق شأن غيرهم ونصرهم على الكل وجعلهم غالبين

( فإن قيل ) إن هذا العارف الذى وهب له هذا الوجود بعد الفناء الأتم هل هو بهذا الوجود أيضاً فى مرتبة الحس والوهم كسائر موجودات هذه النشأة أو خرج من هذه المرتبة فإن خرج فهل عرض له وجود خارجى أولاً ومن المقرر عند القوم أنه لا موجود فى الخارج غير الحق سبحانه وتعالى

( قلت ) إن ما هو صار معلوما فى آخر الأمر إنه خرج وصار منسوباً إلى نفس الأمر ومرتبة الوهم وإن كان حكمها حكم نفس الأمر باعتبار الثبات والتقرر ولكنها فى الحقيقة لم تكن نفس الأمر فإن نفس الأمر وراء تلك المرتبة وكأن هذه المرتبة برزخ بين الوهم والخارج وموجودات النشأة الأخروية كلها كائنة فى مرتبة نفس الأمر بل الصفات الواجبية سوى الصفات الثمانية الحقيقة كلها فى تلك المرتبة ولا موجود فى مرتبة الخارج غير الذات الأقدس وغير صفاته الثمانية فظهر للموجودات ثلاث مراتب

مرتبة الوهم التى هى نصيب أكثر أفراد هذه النشأة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام خارجون بأجمعهم عن هذه المرتبة وكذلك الملائكة الكرام عليهم السلام فإن وجودهم مناسب لوجود النشأة الأخروية وصار اقل أولياء العظام مشرفاً بهذه الدولة أيضاً وتخلص من مرتبة الوهم وصار ملحقاً بنفس الأمر

( المرتبة ) الثانية مرتبة نفس الأمر وفيها صفات الواجب وأفعاله تعالى والملائكة الكرام أيضاً موجودون فى تلك المرتبة ووجود النشأة الأخروية أيضاً ثابت فى تلك المرتبة وكذلك الأنبياء والأقل من الأولياء أيضاً خرجوا إلى تلك المرتبة وإنما الفرق أن صفات الواجب جل شأنه فى مركز ذلك المقام الذى هو أشرف أجزائه وسائر الموجودات فى أطراف ذلك المركز وأكنافه على حسب الاستعداد

( والمرتبة ) الثالثة مرتبة الخارج والموجود هناك الذات وصفات الواجب الثمانية فإن كان فرق فإنما هو باعتبار المركز وغير المركز فإن الأشرف أنسب بالأقدس

( فإن قيل ) ما مزية الخروج من مرتبة الوهم إلى مرتبة نفس الأمر وأى قرب مربوط به

( قلت ) إن منشأ كل خير وكمال وحسن وجمال هو الوجود وكلما يكون حصول القوة والاستقرار للوجود أزيد تكون تلك الصفات أكمل ولا شك أن الوجود النفس الأمرى أقوى وأثبت من الوجود الوهمى فيكون الخير والكمال فيه أتم وأكمل بالضرورة وأى كلام فى قرب من كان موجودا فى مرتبة صفاته وأفعاله تعالى وحصل له جوار صفات الخالقية والرازقية وغيرهما

( ينبغى ) أن يعلم أن ثبوت العدم وكذلك ثبوت الكمالات التى ملحوظ فيها شائبة العدم وإن كانت تلك الكمالات من الكمالات الصفاتية كله فى مرتبة الحس والوهم فإنه ما لم يحصل التبرى من العدم بالكلية ولم يزل عين العدم وأثره لا يكون لائقاً بالوصول إلى مرتبة نفس الأمر وإن كان فى الثبوت الوهمى باعتبار القوة والضعف درجات فإنه كلما كان العدم أقوى يكون التعلق بمرتبة الوهم أتم وإذا ضعف يكون التعلق أقل وكثير من الأولياء الذين جاوزوا مراتب العدم ولم يبق فيهم شئ من العدم غير الأثر وإن لم يكونوا داخلين فى مرتبة نفس الأمر ما دام هذا الأثر باقياً ولكنهم يتجاوزون مرتبة الوهم ويصلون إلى نقطتها الأخيرة ويصيرون من نظار مرتبة نفس الأمر ويحصلون نصيباً من هذا المقام ويكون محسوساً أن الأنبياء الكرام والملائكة العظام عليهم الصلاة والسلام وكذلك بعض متابعى الأنبياء وإن كان أقل وصلوا إلى نهاية مرتبة نفس الأمر ولكل منهم هناك موطن خاص ومقام على حدة على تفاوت درجاتهم ويشاهد الحروف والكلمات القرآنية أيضاً هناك ويرى مقام هؤلاء فوق مقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكأنها خرجت من هذا المقام وصارت برزخا بين هذا المقام وبين مقام فوقه قبل الوصول إليه واختارت الإقامة هناك فإن المقام الفوقانى مخصوص بذات الواجب وصفاته تعالى ولا موجود فى الخارج غيره سبحانه وتعالى ولما كانت فى هذه الحروف والكلمات سمات الحدوث ليست فيها قابلية الوصول إلى ذلك المقام ولكنها أسبق قدما من جميع موجودات تلك المرتبة ولها تمسك بأذيال مدلولاتها والكبراء الذين يقيمون فى منتهى مرتبة نفس الأمر ناظرون إلى مرتبة فوقانية وكأنهم بكليتهم صاروا أبصارا من كمال شوقهم إليها والعجب أن هؤلاء الأكابر مع وجود هذا التوطن والإقامة لهم بحكم المرء مع من أحب معية مع محبوبهم مجهولة الكيفية وهم معه بلا أنفسهم ومأنوسون ومألوفون به بلا اتحاد الأثنينية ولما لوحظ فى ذلك الأثناء معية الحروف والكلمات القرآنية بتلك المرتبة المقدسة علم أنه لا نسبة لهذه المعية بمعية الآخرين وأنها عالية جداً لا يمكن إدراكها لكونها مربوطة بابطن البطون وأين المجال هناك لفهم المخلوقين ومن علو شأن هذه الحروف والكلمات المقدسة ورد القرآن كلام اللّه غير مخلوق ويعلم أن كلام النفسى هو هذه الحروف والكلمات كما حققه القاضى عضد وقال إن هذه الحروف والكلمات هى الكلام القديم النفسى بلا تقديم وتأخير وجعل التقديم والتأخير عائداً إلى قصور الآلات الحادثة

( فإن قيل ) لو كانت هذه الحروف والكلمات كلاما نفيسا ينبغى أن تكون داخلة فى مرتبة الخارج وقد مر آنفاً أنها لا تكون داخلة فى ذلك المقام فما وجه ذلك

( قلت ) إن هذه الحروف والكلمات حيث كانت مركوزة فى الأذهان بالتقديم والتأخير يظهر بهذه الملاحظة فى النظر الكشفى عدم دخولها فى مرتبة الخارج بالضرورة ولما لوحظت مرة ثانية بلا ملاحظة التقديم والتأخير شوهدت داخلة فيها وملحقة بأصلها بل متحدة بها فأى نسبة لمعيتها بمعية الآخرين فإن فيها اتحادا ولا مجال للاتحاد فى معية الآخرين سبحان اللّه إذا كان هذه  الحروف والكلمات القرآنية نفس الكلام القديم السبحانى يكون ظهوره فى هذه النشأة بخلاف سائر الصفات القديمة بنفسه فإن الحروف والكلمات على هذا التقدير نفسه وليس له نقاب غير التقديم والتأخير والعارضين من جهة قصور آلة التكلم فأقرب الأشياء إلى جناب قدس الحق جل وعلا الذى هو القرآن المجيد أجلى وأظهر فى عالم الظلال بأصالته من غير أن يصيبه غبار الظلية وجعل التقديم والتأخير حجابا لعيون المحجوبين ولهذا كان أفضل العبادة تلاوة القرآن المجيد وكانت شفاعته أسرع قبولا من شفاعة الآخرين سواء كانت شفاعة ملك مقرب أو نبى مرسل ولا يمكن تفصيل النتائج والثمرات المترتبة على تلاوة القرآن وكثيرا ما توصل التالى إلى محل لا مجال فيه لذرة

( فإن قيل ) هل هذه الدولة مخصوصة بالحروف والكلمات القرآنية واشتركت معها فى هذه الدولة حروف سائر الكتب المنزلة وكلماتها وكانت كلاما قديما نفيسا كمثلها

( قلت ) للكل شركة فى هذه الدولة والفرق الذى يتمثل فى نظر كشفى هو أن القرآن المجيد كأنه مركز الدائرة وسائر الكتب المنزلة بل جميع ما يقع به التكلم من الأزل إلى الأبد كأنه محيط تلك الدائرة فكان القرآن أصل الكل وأشرف جميع الكتب فإن المركز أشرف أجزاء الدائرة وأصل جميع نقط الدائرة وسائر النقط كأنها تفصيله وهو إجمالها قال اللّه تعالى وإنه لفى زبر الأولين

( فإن قيل ) قد علم من التحقيق السابق أن الشهود والمشاهدة فى ضمن المظاهر الجميلة كما قالوا غير واقع فى هذه النشأة ولا قابلية فى هؤلاء لمظهرية تلك المرتبة المقدسة فهل لها تحقق فى هذه النشأة فى غير هذه المظاهر أولاً

( قلت ) إن معتقد هذا الفقير هو أن نصيب هذه النشأة الإيقان فقط والرؤية البصرية والمشاهدة التى هى عبارة عن الرؤية القلبية على تفاوت الدرجات نتيجة ذلك الإيقان وثمراته المربوطة بالآخرة نقل صاحب التعرف الذى هو من أكابر هذه الطائفة العلية فى كتابة إجماع المشائخ فى هذا الباب وقال وأجمعوا على أنه تعالى لا يرى فى الدنيا بالأبصار ولا بالقلوب إلا من جهة الإيقان

( فإن قيل ) إن من المقرر عند هذه الطائفة العلية أن لليقين مراتب ثلاثا علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين وقالوا إن علم اليقين عبارة عن الاستدلال بالأثر على المؤثر كيقين حاصل بوجود النار مثلا من طريق الاستدلال بالعلم بوجود الدخان وعين اليقين عبارة عن رؤية النار نفسها مثلا وحق اليقين عبارة عن التحقق بالنار مثلا فإذا فقدت الرؤية القلبية أيضاً كيف يتحقق عين اليقين وكيف يصدق إجماع المشائخ على عدم الرؤية مطلقاً

( قلت ) لعل مراده بالإجماع إجماع المشائخ المتقدمين والمتأخرون حكموا على خلاف ذلك وجوزوا الرؤية القلبية وهذا الحكم لم يثبت عند هذا الفقير وهذه الدرجات الثلاث التى بينوها لليقين كلها داخلة فى علم اليقين لم تخرج بعد من الاستدلال ولم تتحول من العلم إلى العين وما قالوا فى تمثيل عين اليقين من رؤية النار ليس هو رؤية النار بل رؤية الدخان التى استدلوا بها على وجود النار فكما أنه كان فى علم اليقين استدلال من العلم بوجود الدخان على وجود النار كذلك هنا استدلال من رؤية الدخان على وجود النار وهذا اليقين الثانى أتم من اليقين الأول لقوة دليله فإن هناك علماً بالدليل وهنا رؤية الدليل وكذلك فى حق اليقين تحقق بالدخان لا بالنار واستدلال به على النار وهذا اليقين أتم من كل من اليقينين السابقين وأكمل فإنه استدلال بنفسه الذى صار دخانا على وجود النار وبين الأنفس والآفاق فرق واضح قال اللّه تعالى سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وقال اللّه تعالى وفى الأرض آيات للموقنين *  وفى أنفسكم أفلا تبصرون وكلما يرى فى الآفاق والأنفس آيات المطلوب لأنفس المطلوب فكان المرئى فى الآفاق والأنفس هو الدخان الذى هو آية النار لا النار فتكون المعاملة فى الآفاق والأنفس هى الاستدلال الذى هو حقيقة علم اليقين

وأما حق اليقين فينبغى تشخيصها فيما وراء الآفاق والأنفس سبحان اللّه كيف قرر الأكابر وجدان المطلوب فى الأنفس واعتقدوا خارج الأنفس مما لا حاصل فيه قال واحد منهم ( شعر).

لا تطف فى كل صوب مثل أعـــ * ـــمى فإن الكل معك فى العبا

وقال الآخر ( شعر ) :

چون جلوهء ان جمال بيرون زتونيست  *  بادردا من وسردر جيب اندركش

وقال الثالث ( شعر ) :

فلو سعت ذرة فى عمرها طلباً * خير أو شرا ترى فى نفسها اكتمنا

قال صاحب الفصوص التجلى من الذات لا يكون إلا بصورة المتجلى له وقال غيره من الأكابر إن أهل اللّه كلما يرون بعد الفناء والبقاء يرون فى أنفسهم وكما يعرفون يعرفونه فى أنفسهم وحيرتهم فى وجود أنفسهم وفى أنفسكم أفلا تبصرون وعند هذا الفقير الأنفس أيضاً كالآفاق مما لا حاصل فيه خالية عن وجدان المطلوب فيها ولا نصيب منه لها والذى فى الآفاق والأنفس هو الاستدلال على المطلوب والدلالة على المقصود والوصول إلى المطلوب مربوط بما روآء الآفاق والأنفس ومنوط بما سوى السلوك والجذبة فإن السلوك سير آفاقى والجذبة وسير انفسى فيكون السلوك والجذبة والسير الآفاقى والأنفسى كلها داخلة فى السير إلى اللّه وما قالوا إن السلوك والسير الآفاقى فى السير إلى اللّه والجذبة السير الأنفسى فى السير فى اللّه ماذا نصنع ظهر لهم كذلك وظهر لى هكذا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا وأين القدرة لمثلى المسكين الآكل من فضلتهم إن يتكلم على خلاف مذاقهم ولكن لما ترقت المعاملة من التقليد قال ما ناله خالف القوم أو وافقهم والتزام أبى يوسف بعد ترقيه من التقليد موافقة أبى حنيفة الذى هو أستاذه خطأ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا

( فإن قيل ) إذا كان هذه الدرجات الثلاث من اليقين داخلة فى علم اليقين فما يكون عين اليقين عندك

( قلت ) إن عين اليقين عبارة عن تلك الحالة التى هى للدخان مع النار فإذا انتهى المستدل إلى منتهى درجة الديل الذى هو الدخان تحدث فيه أيضاً حالة ثابتة للدخان مع النار وعند هذا الفقير هذه الحالة معبر عنها بعين اليقين فإنه فوق علم الاستدلال ووراء الآفاق والأنفس ولما ارتفع حجاب الاستدلال من البين الذى هو نهاية مرتبة العلم خرج الأمر من العلم إلى الكشف بالضرورة وانجر من الغيب إلى الشهود والحضور

( ينبغى ) أن يعلم أن الشهود والحضور غير الرؤية والإحساس ألا ترى أن شهود الشمس لضعيف البصر وقت انتشار شعاعها حاصل بخلاف الرؤية فإنها غير متحققة

( تنبيه ) أن للتحقق بالدخان درجتين وأنه شامل لعلم اليقين وعين اليقين على التحقيق الذى ذكرناه فإنه ما لم يطو جميع نقط الدخان فى التحقق به ولم ينته إلى نقطته الأخيرة فهو علم اليقين فإن كل نقطة بقيت حجاب مستلزم للاستدلال فإذا تحقق بجميع النقط وانتهى إلى النقطة الأخيرة خرج من الاستدلال لأن الحجب قد ارتفعت بالتمام وثبت له عين اليقين كنفس الدخان فافهم وماذا أكتب من حق اليقين فإن كمال تحققه مربوط بالنشأة الأخروية فإن كان منه نصيب فى الدنيا فهو مخصوص بأخص الخواص الذى كان السير الأنفسى الذى له مشابهة بحق اليقين داخلا عنده فى علم اليقين وكان الأنفس لديه فى حكم الآفاق وصار علمه الحضورى المتعلق بالأنفس علما حصوليا وحصل له عين اليقين فيما وراء الآفاق والأنفس وقليل ما هم

( خاتمة ) حسنة فى بيان الحسن والجمال المحمديين على صاحبهما الصلاة والسلام الذين هما متعلق محبة رب العالمين وأنه صلى اللّه عليه وسلم كان بذلك الجمال محبوب رب العالمين جل شأنه

( اعلم ) أن يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام وإن كان بالصباحة التى كانت فيه محبوب يعقوب عليه السلام ولكن نبينا خاتم الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام بالملاحة التى هى فيه محبوب خالق الأرض والسموات وخلق الأرض والسماء والمكان والزمان بطفيليته صلى اللّه عليه وسلم كماورد

( ينبغى ) أن يعلم أن الخلق المحمدى ليس كخلق سائر أفراد الإنسان بل لا مناسبة له بخلق فرد من أفراد العالم وهو صلى اللّه عليه وسلم مع وجود النشأة العنصرية خلق من نور الحق جل وعلا كما قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام خلقت من نور اللّه وهذه الدولة لم تتيسر لغيره صلى اللّه عليه وسلم وبيان هذه الدقيقة هو أنه قد مر فيما سبق أن الصفات الثمانية الحقيقية الواجبية وإن كانت داخلة فى دائرة الوجوب ولكن فيها بواسطة احتياجها إلى حضرة الذات رائحة الإمكان فإذا كان فى الصفات الحقيقية القديمة مجال لرائحة الإمكان يكون فى الصفات الإضافية الواجبية ثبوت الإمكان بالطريق الأولى وعدم قدمها أول دليل على الإمكانية فيها وقد علم بالكشف الصريح إن خلقته صلى اللّه عليه وسلم ناشئة من الإمكان الذى هو متعلق بالصفات الإضافية لا الإمكان الذى هو كائن فى سائر أفراد العالم وكلما يطالع صحيفة ممكنات العالم بدقة النظر لا يشاهد وجوده صلى اللّه عليه وسلم فيها بل يكون منشأ خلقته وإمكانه صلى اللّه عليه وسلم فى عالم الممكنات بل يكون فوق هذا العلم فلا جرم لا يكون له ظل وأيضاً إن ظل كل شخص فى عالم الشهادة ألطف من ذلك الشخص فإذا لم يكن ألطف منه صلى اللّه عليه وسلم فى العالم كيف يتصور له ظل

( اسمع ) إن صفة العلم من الصفات الحقيقية وداخلة فى دائرة الموجود الخارجى فإذا عرضت لها الإضافة وانقسمت بها على العلم الإجمالى والعلم التفصيلى مثلا تكون تلك الأقسام من الصفات الإضافية وداخلة فى مرتبة النفس الأمر التى هى مقر الصفات الإضافية ويشاهد أن العلم الإجمالى الذى صار من الصفات الإضافية نور ظهر فى النشأة العنصرية بعد الانصباب من الأصلاب إلى الأرحام المتكثرة بمقتضى حكم ومصالح بصورة الإنسان الذى هو على أحسن تقويم وصار مسمى بمحمد وأحمد

( ينبغى ) أن يستمع كمال الاستماع إن هذا القدر من الإجمال وإن جعل العلم الطلق مقيداً وأخرجه من الحقيقة إلى الإضافة ولكن لم تحصل منه زيادة فى المقسم أصلا ولم يقيده شئ قطعاً فإن إجمال العلم نفس العلم لا إنه أمر زائد منضم إلى العلم بخلاف تفصيل العلم فإنه يقتضى جزئيات متكثرة حتى يتصور التفصيل والعجب من قيد كان مظهرا للإطلاق والعجب من مقيد صار نفس المطلق ينبغى أن يلاحظ مثل هذه اللطافة فى مطلق العلم بالنسبة إلى الذات فإنه يمكن أن يكون العلم نفس العالم ونفس المعلوم كما أنه كائن فى العلم الحضورى بخلاف صفات آخر فإنها ليست فيه هذه القابلية فإنه لا يمكن أن يقال إن القدرة عين القادر وعين المقدور والإرادة عين المريد وعين المراد فللعلم اتحاد مع ذات العالم واضمحلال فيه ليس ذلك لغيره ينبغى أن يدرك من ههنا قرب أحمد من الأحد فإن الواسطة بينهما صفة العلم التى له اتحاد بالمطلوب فكيف يكون للحجابية فيها مجال وأيضاً فى العلم حسن ذاتى ليس هو لغيره من الصفات ولهذا أحب صفات الواجب عند الحق جل وعلا بزعم هذا الفقير هو صفة العلم وحيث أن فى حسنة شائبة اللاكيفية فالحس قاصر عن إدراكه وإدراك ذاك الحسن على وجه التمام مربوط بالنشأة الأخروية التى هى موطن الرؤية فإذا رأوا اللّه عز وجل يدركون جمال محمد صلى اللّه عليه وسلم وإن أعطى يوسف عليه السلام فى هذه النشأة ثلثى الحسن وقسم الثلث الباقى للكل ولكن الحسن فى النشأة الأخروية هو الحسن المحمدى والجمال هو الجمال المحمدى عليه الصلاة والسلام فإنه محبوب الحق جل سلطانه وكيف يكون لحسن الآخرين مشاركة بحسن صفة العلم فإن حسنها بواسطة اتحادها بالمطلوب عين حسن المطلوب ولما لم يكن هذا الاتحاد لغيرها ليس فيه هذا الحسن فالخلقة المحمدية عليه وعلى آله الصلاة والسلام مع وجود الحدوث مستندة إلى قدم الذات تعالت وكانت أحكامها أيضاً منتهية إلى وجوب الذات وكان حسنة حسن الذات من حيث أنه ليس فيه شائبة غير الحسن فلما كان كذلك صار متعلق المحبة الجميل المطلق وكان محبوبه أن اللّه جميل يحب الجمال

( فإن قيل ) إن قوله تعالى يحبهم يدل على أن محبة الحق سبحانه متعلق بغيره صلى اللّه عليه وسلم أيضاً ويكون الآخرون أيضاً محبوبية سبحانه وتعالى فما وجه تخصيصه صلى اللّه عليه وسلم مع كونها موجودة فى غيره

( قلت ) المحبة قسمان قسم يتعلق بذات المحب وقسم يتعلق بغير ذاته والقسم الأول محبة ذاتية وهى أعلم أقسام المحبة فإنه لا يحب أحد شيئاً مثل حبه لنفسه وأيضاً هذا القسم من المحبة أحكم وأوثق فإنها لا تزول بعروض عارض وأيضاً متعلق هذا القسم محبوب صرف ليست فيه شائبة المحبية بخلاف القسم الثانى فإنها عرضية وقابلة للزوال ومتعلقة وإن كان من وجه محبوبا ولكن فيه محبية أيضاً من وجوه متعددة وحيث كان حسن خاتم الرسل وجماله عليه الصلاة والسلام مستندين إلى حسن حضرة الذات تعالت وجمالها كما مر يكون القسم الأول الذى هو متعلق بالذات متعلقا به عليه وعلى آله الصلاة والسلام بالضرورة ويكون صلى اللّه عليه وسلم يتعلق المحبة كالذات محبوباً صرفاً ولما لم تكن هذه الدولة ميسرة لغيره وقل نصيبهم من الحسن الذاتى يتعلق بهم من المحبة القسم الثانى ويجعلهم محبوباً من وجه والمحبوب المطلق هو النبى صلى اللّه عليه وسلم فإنه كذات المحب محبوب دائماً ويكون محسوساً إن غلبة المحبة التى هى فى موسى للحق سبحانه وكان هو بتلك المحبة رئيس المحبين مثلها فى الحق سبحانه لحضرة خاتم الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام وكلما يغوص هذا الفقير فى بحر هاتين المحبتين ليدرك التفاوت بينهما قوة وضعفا ويجد المحبة التى هى فى الخالق أشد من محبة المخلوق بحكم ألا فَإِنَّ حزب اللّه هم الغالبون لا يظهر التفاوت أصلا وكأن هاتين المحبتين وزنت بميزان العدالة متساويتين ولم يقع بينهما تفاوت بالزيادة والنقصان مقدار شعرة

( فإن قيل ) إن الصوفية العلية حكموا بكون تمام أفراد العالم مظاهر الأسماء الإلهية ومجاليها ووجدوا حقائق الأشياء عين تلك الأسماء واعتقدوا أن الأشياء ظلال الأسماء فجعلوا تمام العالم ظهور الأسماء الإلهية فما وجه تخصيص ظهور بعض الأسماء بخلقته صلى اللّه عليه وسلم كما مر

( قلت ) إن حقائق الأشياء عند الصوفية هى الأعيان الثابتة التى هى عبارة عن الصور العلمية للأسماء الإلهية لا الأسماء الإلهية أنفسها وقالوا إن هذا العالم هو ظهور تلك الصور العلمية وإن قالوا إنه ظهور الأسماء أيضاً على سبيل التجوز بل الصورة العلمية للشئ عندهم عين ذلك الشئ لا شبح ذلك الشئ ومثاله وما قاله هذا الفقير فى خلقته صلى اللّه عليه وسلم ظهور نفس الأسم الإلهى جل شأنه لا ظهور الصورة العلمية لذلك الاسم شتان ما بين نفس الشئ وبين صورته العلمية ألا ترى إن النار إذا تصورت فى الأذهان أين لها الاشراق والإضاءة وقد كان كمال النار وجمالها هو الإشراق والإضاءة وليس فى صورتها العلمية غير شبحها ومثالها قبله أرباب المعقول أولا بل قالوا إنها عين النار ولكن كشفنا الصريح مكذب لقول من قال بالعينية وصورة النار العلمية ليست غير شبح النار الموجودة فى الخارج ويكون محسوسا أن كلما هو ظهور الصور العلمية للأسماء إمكانه ووجوده من قبيل إمكان العالم ووجوده الذى تحقق له ثبات وتقرر بصنع اللّه تعالى فى مرتبة الوهم وما هو ظهور الاسم الإلهى كما مر فى خلقته صلى اللّه عليه وسلم إمكانه من قبيل إمكان الصفات الإضافية ووجوده أيضاً مثل وجود تلك الصفات فى نفس الأمر ولا يقع النظر على أحد يكون ظهورا للاسم الإلهى جل سلطانه غير النبى صلى اللّه عليه وسلم إلا القرآن المجيد فإنه أيضاً ظهور نفس اسم الهى كما ذكرت شمة منه فيما سبق غاية ما فى الباب أن منشأ الظهور القرآنى من الصفات الحقيقية ومنشأ الظهور المحمدى من الصفات الإضافية فبالضرورة قالوا لذلك قديماً وغير مخلوق ولهذا حادثاً ومخلوقاً ومعاملة الكعبة الربانية أعجب من هذين الظهورين الإسميين فإن هناك ظهور معنى تنزيهى بلا كسوة الصور والأشكال فإن الكعبة التى هى مسجود إليها لجميع الخلائق ليست بعبارة عن الحجر والمدر وليست هى أيضاً سقفا وجدرا فإنه لو لم تكن هذه فرضاً تكون الكعبة كعبة باقية على حالها ومسجوداً إليها فهناك ظهور ولا صورة أصلا وهذا من أعجب العجائب ( اسمع اسمع ) إنه وإن لم يكن لأحد شركة فى هذه الدولة الخاصة المحمدية (*) ولكن يدرك هذا القدر أنه قد بقيت بقية من تلك الدولة وهى الخاصة به بعد تخليقه وتكميله عليه وعلى آله الصلاة والسلام فإن الزيادة والفضلة من لوازم خوان ضيافة الكرماء لتكون نصيباً للخدم وحصة فأعطيها واحد من أمته صلى اللّه عليه وسلم وجعلت خمير طينته وجعل بتبعيته ووراثته شريط دولته الخاصة به عليه وعلى آله الصلاة والسلام (ع)

(*) قوله فى هذه الدولة الخاصة المحمدية الخ الإشارة إلى ما سبق ذكره هنا وهو كون خلقته صلى اللّه عليه وسلم ظهور الاسم الإلهى دون أن تكون ظهور صورة ذلك الاسم العلمية كخلقة من سواه وليس المراد بها النبوة والرسالة أو خاتميتها كما زعم المعاندون فإنها لا مدخل لها هنا ولا خطرت ببال الإمام قدس سره هنا قطعاً كما لا يخفى على المنصف سند .

لا عسر فى أمر من الكرام *

وهذه البقية كبقية طينة آدم عليه السلام حيث كانت نصيباً لخلقة النخلة كما قال عليه وعلى آله الصلاة أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم بلى (ع)

وللأرض من كأس الكرام نصيب

( فإن قيل ) قد جعل الشيخ محيى الدين بن عربى واتباعه الحقيقة المحمدية عبارة عن حضرة إجمال العلم وقالوا له تعيناً أولا وتجلياً ذاتياً واعتقدوا ما فوقه اللاتعين الذى هو حضرة الذات البحت وأنت جعلته قسماً من العلم وأدخلته فى الصفات الإضافية التى هى دون الصفات الحقيقية فما وجه ذلك

( قلت ) إن الشيخ محيى الدين بن العربى لا يقول بوجود موجود فى الخارج غير أحدية الذات المجردة ولا يثبت الوجود للصفات ولو كانت حقيقة فى غير العلم فيكون التعين الأول عنده بالضرورة علماً إجمالياً ويتصور ثبوت الصفات بعده فإن ثبوتها فرع ثبوت العلم فإنه لا يقول بثبوتها فى غير العلم فيكون العلم أسبق من الكل وجامعاً لجميع الكمالات والذى صار مكشوفاً لدى الفقير هو أن الصفات الحقيقية الثمانية كالذات موجودة فى الخارج والتفاوت إنما هو باعتبار المركزية وعدم المركزية كما مر وهذا القول موافق لآراء علماء أهل السنة والجماعة شكر اللّه سعيهم حيث قالوا إن وجود الصفات زائدة على وجود الذات وعلى هذا التقدير لا معنى لجعل التعين الأول عبارة عن العلم الإجمالى بل لا مجال لإطلاق التعين أيضاً وأسبق جميع الصفات صفة الحياة وصفة العلم تابعة لها فتقديم العلم عليها غير متصور خصوصاً إذا انضم قيد إلى العلم فإنه أدون من مطلق العلم وداخل فى الإضافية كما مر نعم إذا قالوا للعلم الإجمالى أنه تعين أول للعلم فله مساغ ويكون تعينه الثانى علما تفصيليا

( فإن قيل ) إن الشيخ محى الدين قال للعلم الإجمالى أنه حقيقة محمدية واعتقد هذه النشأة العنصرية ظهوره فهل مراده من الظهور ظهور نفس الاسم كما قلت أو ظهور صورة ذلك الاسم كما هو فى سائر الممكنات

( قلت ) مراده ظهور صورة الاسم فإن التعين الأول عنده قدس سره تعين علمى فإنه قال للتعينين الأولين تعيناً علمياً وللتعينات الثلاثة الأخيرة تعيناً خارجياً والتعين العلمى هو صورة شأن العلم الذى قال أنه عين الذات فى الخارج وأثبت صورته فى العلم وتلك الصورة العلمية التى هى الحقيقة المحمدية ظهرت فى النشأة العنصرية بصورة إنسانية محمدية وبالجملة إن كل مقام فيه ظهور فهو ظهور الصورة العلمية عند الشيخ وإن كانت صفات الواجب جل شأنه فالصفات لا وجود لها عنده فى غيره العلم ولا موجود عنده فى الخارج غير الذات البحت

( فإن قيل ) فى تلك المرتبة اتحاد العلم والعالم والمعلوم وحاصل ذلك هو العلم الحضورى فلا يكون لصورة الاسم هناك مجال لأن حصول الصورة إنما هو فى العلم الحصولى والحاضر فى العلم الحضورى هو نفس المعلوم لا صورته

( قلت ) إن تلك المرتبة ليست هى مرتبة الذات البحت ولهذا قال لها تعينا وتنزلا فلا تكون موجودة فى الخارج فإذا لم تكن موجودة فى الخارج لابد لها من الثبوت العلمى ولهذا قال لها تعينا علمياً ولابد للثبوت العلمى من صورة المعلوم فلزم من هذا البيان أن فى العلم الحضورى أيضاً صورة للمعلوم مع وجود حضور نفس المعلوم وأن الحاضر ليس هو المعلوم الخالص بل تطرق إليه الاعتبار وأخرجه من النفس إلى الصورة ولا يدرك فهم كل أحد هذه الدقة ومن لم يصل إلى الذات البحت بوصول لا كيفى لا يدرك هذه الدقيقة سبحان اللّه أى قدرة واستطاعة لمثلى الفقير العاجز المتأخر أن يتكلم بمعارف أكابر الأنبياء أولى العزم بعد ألف سنة من بعثة خاتم الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام ويبين دقائق كمالات المبدأ فى شفير المعاد ( شعر ) .

ولكن سيدى أعلى مقامى * فحقت لى مباهاتى الهلال

كأنى تربة فيها سحاب الـ * ربيع ممطر ماء زلالا

فلولى ألف ألسنة وأثنى * بها ما ازددت إلا انفعالا

الحمد للّه الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا اللّه لقد جاءت رسل ربنا بالحق وقد كان فى خاطرى أن أكتب شمة من بيان الصباحة والملاحة الواردتين فى الحديث النبوى أخى يوسف أسبح وأنا أملح وأن أتكلم فى هذا الباب بالرمز والإشارة ولكن رأيت أن الرمز والإشارة قاصر فى أداء المقصود والمستمعون عاجزون عن فهمه ومقطعات الحروف القرآنية كلها رموز وإشارات إلى حقائق الأحوال ودقائق الأسرار الكائنة يبن المحب والمحبوب ولكن من الذى يدركها ويفهمها والعلماء الراسخون الذين حكمهم حكم خدام حبيب رب العالمين وغلمانه وإن كان لهم اطلاع عليها لما أنه يجوز أن يكون للخدام اطلاع على بعض أسرار مخاديمهم الخفية بل يجوز أن تكون بين الخادم والمخدوم معاملة بطريق تبعيته للمخدوم وأن يكون الخادم شريكا له فى دولته الخاصة به بتطفله ولكنهم لو أظهروا شمة من هذا البيان يكونون خونة ومهلكين أنفسهم ويصدق فى حقهم قطع البلعوم الذى قاله أبو هريرة رضى اللّه عنه يضيق صدرى ولا ينطلق لسانى نقد الوقت ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين والسلام عليكم وعلى سائر من اتبع الهدى والتزم متابعة المصطفى عليه وعلى آله وأصحابه البررة التقى .