٥٣ المكتوب الثالث والخمسون إلى حضرة المخدوم زاده الخواجه محمد معصوم مد ظله فى بيان زوال العين والأثر وجودا وشهودا. بسم اللّه الرحمن الرحيم قال اللّه تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شئ مذكورا بلى يا رب قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا لا عينا ولا أثرا ولا شهودا ولا وجودا ثم يصير بعد ذلك إن شئت حيا بحياتك وباقيا ببقائك ومتخلقا بأخلاقك بل صار باقيا بك بفضلك فى عين الفناء وفانيا فيك فى عين البقاء لتلازم بينهما وحصول كمال كلو أحد منهما بوجود الآخر مثله مثل إنسان ألقى فى معدن ملح حتى صار شيئا فشيئا منصبغا بأحكام الملح إلى أن صار كله ملحا ما بقى منه عين ولا أثر فلا جرم أبيح قتله وقطعه وحل أكله وبيعه وشراؤه فلو بقى منه عين أو أثر لما جاز ذلك ولنعم ما قيل فى الشعر الفارسى ( شعر ) . سكى كاندرنمك زار افتدوكم كرددا ندروى * من أين درياى پرشوراز نمك كمترنميدانم فإن قلت أنك قد كتبت فى المكاتيب والرسائل أن زوال العين والأثر إنما يكون شهوديا لا وجوديا لاستلزامه الإلحاد والزندقة ورفعة الأثنينية الثابتة بين العبودية والربوبية فما معنى زوال العين والأثر فى الوجود ايضاً هنا ( قلت ) انصباغ الشئ بالشئ بحيث يصير أحدهما منخلعا عن أحكامه ومنصبغا بأحكام الآخر لا يوجب رفع الأثنينية عنهما حتى يكون إلحادا وزندقة فإن الإنسان الملقى فى معدن الملح ما اتحذ مع الملح ومازالت الأثنينية بل حصل له من جوار الملح وسلطانه فناء عن نفسه وعن صفاته وبقاء بالملح وأحكامه مع بقاء الأثنينية غاية ما فى الباب أن هذه الأثنينية شبيهة بأثنينية الظل مع الأصل لا استقلال لها وفى تلك الأثنينية الزائلة نوع استقلال فى نظر العوام فالأثنينية باقية بعد فلا إلحاد ولا زندقة وإما منعى فى الكتب والرسائل عن الزوال الوجودى فمحمول على قصور فهم العوام فإنهم يفهمون منه رفع الأثنينية ويقعون فى الإلحاد والزندقة تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا بقى أن الشبح الذى يقع من ذلك الإنسان بعد صيروته ملحا حكميا هو فى الحقيقة صورة الملح الذى انصبغ ذلك الإنسان بصبغة لا صورة الإنسان إلا أنه قيس ذلك الملح الحكمى بمقياس شبح ذلك الإنسان وصور بصورته لا أنه بقى شبح الإنسان فبقى أثره ( تنبيه ) ذلك الشبح فى الملح الذى قيس بمقياس صورة الإنسان ممكن بل واقع وأما ما نحن بصدده فليس كذلك فللّه المثل الأعلى فهو سبحانه لا يتحد مع شئ ولا يتحد معه شئ ولا يتصل بالأشياء ولا ينفصل عنها والأشياء أيضاً غير متصلة به سبحانه ولا منفصلة عنه تعالى سبحان من لا يتغير بذاته ولا بصفاته ولا فى أسمائه بحدوث الأكوان فهو سبحانه الآن كما كان على صرافة التنزيه والتقديس فهو تعالى قريب من العالم ومع العلم بالقرب والعية المجهولة كيفيتهما لا كقرب الجسم مع الجسم ولا كقرب الجسم مع العرض وبالجملة إن صفات الإمكان وسمات الحدوث كلها مسلوبة عن جناب قدسه عروج الأولياء لا يزيد فى قربه سبحانه للعبد ووصول الأصفياء لا يحصل اتصاله مع اللّه والفناء والبقاء أحوال للعرفاء غير ما فهمها العقلاء وزوال العين والأثر له معنى لا يفهمه إلا من رزق ذلك كما سيجئ تحقيقه فاستمع كلام هذه الطائفة بحسن الظن والقبول ولا تفهم منه مدلوله الظاهرى ومدلوله المطابقى فإنه ربما تغلط فيه غلطاً فاحشاً فتضل وتضل واللّه سبحانه الموفق الملهم للصواب ( فإن قلت ) قد جوزت زوال العين والأثر من الإنسان فما تقول فيما جاء فى القرآن المجيد فى شأن خاتم الرسل عليه وعليهم الصلوات والتسليمات قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ وما جاء فى الحديث النبوى إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر (*) وليس هذا الإبقاء الأثر من الإنسانية ( قلت ) ليس كذلك ولا دلالة فيه على بقاء الأثر إلا أنه لما أريد إرجاع الإنسان الكامل بعد الفناء والبقاء إلى العالم ودعوة الخلق إلى الحق سبحانه ركبت فيه الصفات البشرية والخصائص الإنسانية الزائلة بعد كسر سورة تلك الصفات لتحصل المناسبة بينه وبين العالم بعد ما زالت ويفتح اللّه باب الإفادة والاستفادة بينه وبين العالم بتلك المناسبة والحكمة الأخرى فى إرجاع هذه الصفات البشرية وإلحاقها بعد زوالها ابتلاء المكلفين واختبار المدعوين ليميز الخبيث من الطيب ويعتزل المكذب من المصدق ويحصل الإيمان بالغيب بعد ما لبس الأمر وستر الحال برجوع تلك الصفات قال اللّه تبارك وتعالى ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (*) قوله إنما أنا بشر إلخ أخرجه مسلم والحاكم عن جابر رضى اللّه عنه . ( فإن قيل ) قائل ما معنى زوال العين والأثر من الإنسان الكامل والحال أن ظاهره دائم على الصفات البشرية يأكل ويشرب وينام ويستريح قال اللّه فى شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام ( قلت ) الفناء والبقاء من صفات الباطن لا تعلق للظاهر بهما بالأصالة فإن الظاهر دائم على أحكامه والباطن ينخلع ويتلبس ( فإن قيل ) لطائف الباطن متعددة كلها متحققة بالفناء والبقاء أو بعضها فأى بعض هو ( قلت ) المتحقق بهما إنما هو لطيفة النفس التى هى فى الحقيقة حقيقة الإنسان المشار إليها بإشارة قول انا فهى الأمارة بالسوء أولاً والمطمئنة آخرا والقائمة بعداوة الرحمن جل شأنه ابتداء والراضية به والمرضية عنها انتهاء فهى شر الأشرار وخير الأخيار زاد شره شر إبليس وزاد خيره على خير أهل التسبيح والتقديس ( تنبيه ) ليس معنى الفناء والزوال هو الفناء الوجودى والزوال الوجودى ومعنى البقاء باللّه هو زوال الإمكان من الممكن رأسا وحصول الوجوب له ثانياً فإنه محال عقلى والقول بذلك كفر بل هو خلع ولبس مع بقاء الإمكانية مثل خلع ولبس إثبته أرباب المعقول فى العناصر بطريق الكون والفساد إلا إنهم أبقوا هبولاها ثابتا فى الحالين مع تبدل الصور النوعية ونحن لا نقول بالهيولى ولا بثبوته بل نقول إن الفناء والبقاء أعدام وإيجاد من القادر المختار جل شأنه جاء فى الخبر لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين كأنه أشار إلى الإيجاد الثانى بالولادة الثانية وإنما قالوا البقاء باللّه تجوزا وتشبيهاً لزوال الصفات الرذيلة وحصول الأخلاق الحميدة كأنها شبيهة بصفات مرتبة الوجوب تعالت وتقدست وقد حققت فى غير موضع أن ذات الممكن هو العدم ليس إلا هو فلا معنى لزواله فإن الممكن ممكن فى جميع الأحوال حال الفناء والبقاء كما كان فى حال عدمهما والواجب تعالى واجب على الاستمرار والدوام ولا يلحق بجناب قدسه شئ ولا ينفصل عنه أمر ولنعم ما قيل فى الشعر الفارسى ( شعر ) . سياه روئ زممكن درود وعالم * جدا هر كز نشد واللّه أعلم ( ولا يخفى ) عليك أن بقاء الإمكان فى الممكن ليس عبارة عن بقاء الأثر فى الممكن وبقاء ثبوته فى مرتبة من مراتب الثبوت فإنه مناف للفناء الأتم والفانى بهذا الفناء بعد رد الآمانات إلى أهلها ورد الظلال المنعكسة فيه إلى أصلها من الوجود وتوابعه كلها من الصفات الكاملة والنعوت الفاضلة لحق هو بالعدم الصرف الكامل فى العدمية بحيث لم يوجد فيه إضافة ولا نسبة إلى شئ ولا اسم ولا رسم فإن وجود الإضافة فى العدم ينبئ عن ثبوته ولو فى الجملة . |