٢٩٣ المكتوب الثالث والتسعون والمائتان إلى الشيخ محمد البحترى فى جواب سؤاله عن قوله عليه الصلاة والسلام لى مع اللّه وقت وقاله أبو ذر الغفارى أيضا وعن قول الشيخ عبد القادر الجيلانى قدس سره قدمى هذه على رقبة كل ولى وقوله غيره أيضا وهل المراد بكل ولى أولياء عصره أو مطلقا وما يناسبه. الحمد للّه وسلام على عباده الذين اصطفى قد صرت مبتهجا ومسرورا بورود الصحيفة الشريفة التى أرسلتها يا لها من نعمة يذكر أولياء اللّه تعالى المنقطعين المهجورين وقد اندرج فيها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لى مع اللّه وقت وقال أبو ذر الغفارى رضى اللّه عنه أيضا مثل ذلك وقال الشيخ محيى الدين عبد القادر الجيلانى قدس سره قدمى هذه على رقبة كل ولى وقال آخر مثل ذلك وقد تكون فى هذين الكلامين منازعة فى بعض الأحيان فنرجو من عنايتكم كتابة ما انطوى فى هذين الكلامين من المعنى والفرق بينهما وأرساله إلينا ولتكن الكتابة بالتوجه التام مشتملة ما لها وما عليها من الكلام وواضحة لتكون قريبة من فهم هذا الغريب ( أيها المخدوم ) إن هذا الفقير قد كتب فى رسائله أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان له وقت نادر مع وجود استمرار الوقت وأن ذلك الوقت النادر كان فى حين أداء الصلاة ولعلك سمعت الصلاة معراج المؤمن وأرحنى بها يا بلال شاهد عدل فى إثبات هذه المطلب ويمكن أن يكون أبو ذر الغفارى أيضا مشرفا بهذه الدولة بطريق الوراثة والتبعية فإن لكمل تابعيه عليه الصلاة والسلام نحيبا وافرا وخظا كاملا من جميع كمالاته صلى اللّه عليه وسلم بطريق الوراثة ( وأما ما قال ) حضرة الشيخ عبد القادر الجيلانى قدس سره قدمى هذه على رقبة كل ولى اللّه أو جميع الأولياء فقد جعل صاحب العوارف الذى هو مريد الشيخ أبى النجيب السهروردى ومرباه وكان من محارم الشيخ عبد القادر ومصاحبيه هذه الكلمة من الكلمات التى صدرت عن المشائخ فى بداية الأحوال بواسطة بقايا السكر ونقل فى النفحات عن الشيخ حماد الذى هو من شيوخ حضرة الشيخ عبد القادر الجيلانى أنه قال بطريق الفراسة أن لهذا العجمى قدما تكون فى وقته على رقبة جميع الأولياء ويكون مأمور ألبتة بأن يقول قدمى هذه على رقبة كل ولى اللّه ويقول ذلك البتة ويضع الأولياء جميعهم رقابهم يعنى تواضعا وتخضعا وعلى كل حال إن حضرة الشيخ محق فى هذا الكلام سواء صدر عنه من بقايا السكر أو حالة الصحو وسواء كان مأمورا بإظهاره أو لا فإن قدمه كانت على رقاب جميع الأولياء فى ذلك الوقت وكان أولياء ذلك الوقت جميعهم تحت قدمه ولكن ينبغى أن يعلم أن هذا الحكم مخصوص بأولياء ذلك الوقت دون الأولياء المتقدمين عليه والمتأخرين عنه فإنهم خارجون عن هذا الحكم كما يفهم من كلام الشيخ حماد أن قدمه تكون فى وقته على رقبة جميع الأولياء وأيضا أنه كان فى بغداد غوث فذهب الشيخ عبد القادر وابن السقا وعبد اللّه لزيارته فقال ذلك الغوث بطريق الفراسة فى حق الشيخ كأنى أراك تصعد المنبر فى بغداد وتقول قدمى هذه على رقبة كل ولى اللّه وأرى أولياء وقتك يضعون رقابهم ويخفضونها إجلالا لك وإكراما ويفهم من كلام هذا الغوث أيضا أن هذا الحكم كان مخصوصا بأولياء ذلك الوقت فإذا أعطى الحق سبحانه فى هذا الوقت أيضا شخصا بصرا بصيرا يرى مثل ما رأى ذلك الغوث أن رقاب أولياء ذلك الوقت تحت قدمه وإن هذا الحكم لا يتجاوز إلى غير أولياء ذلك الوقت وكيف يجوز هذا الحكم فى الأولياء المتقدمين فإن فيهم الأصحاب الكرام عليهم الرضوان وهم أفضل من حضرة الشيخ بيقين وكيف يتمشى أيضا فى المتأخرين فإن فيهم المهدى الذى بشر النبى عليه الصلاة والسلام بقدومه ووجوده وقال إنه خليفة اللّه وكذلك عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذى هو من الأنبياء أولى العزم من السابقين وملحق بأصحاب خاتم الرسل بمتابعة شريعته عليه الصلاة والسلام ولعل وجه ما قاله النبى صلى اللّه عليه وسلم لا يدرى أولهم خير أم آخرهم هو جلالة شأن متأخرى هذه الأمة ( وبالجملة ) إن لحضرة الشيخ عبد القادر فى الولاية شأنا عظيما ودرجة عليا أوصل الولاية الخاصة المحمدية من طريق السر إلى النقطة الأخيرة وصار رأس حلقة تلك الدائرة ( لا يتوهم ) هنا أن الشيخ إذا كان رأس حلقة دائرة الولاية المحمدية ينبغى أن يكون أفضل من جميع الأولياء فإن الولاية المحمدية فوق جميع ولايات الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام ( لأنا ) نقول إنه رأس حلقة الولاية المحمدية الحاصلة من طريق السر كما مر لا رأس حلقة تلك الولاية مطلقا حتى يلزم الأفضلية أو نقول إن كون رأس حلقة الولاية المحمدية مطلقا ليس بمستلزم للأفضلية لأنه يمكن أن يكون غيره أسبق قدما منه فى كمالات النبوة المحمدية بطريق التبعية والوراثة فتثبت الأفضلية له من جهة تلك الكمالات وفى جماعة من مريدى حضرة الشيخ عبد القادر غلو كثير فى حقه وتجاوز إلى جانب الإفراط فى المحبة مثل محبى على كرم اللّه وجهه المفرطين فيه ويفهم من فحوى كلام هؤلاء الجماعة وكلماتهم أنهم يعتقدون الشيخ أفضل من جميع الأولياء المتقدمين والمتأخرين ولا يعلم أنهم يفضلون عليه أحدا غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهذا من إفراط المحبة ( فإن قيل ) إن الكرامات وخوارق العادات التى ظهرت من حضرة الشيخ لم تظهر من ولى أصلا فيكون الفضل له ( قلت ) إن كثرة ظهور الخوارق لا دلالة فيها على الأفضلية بل يمكن أن يكون الذى لم يظهر منه خارق أصلا أفضل من الذى ظهرت منه خوارق وكرامات قال شيخ الشيوخ فى العوارف بعد ذكر الكرامات وخوارق الشيخ للعادات وكل هذه مواهب اللّه تعالى وقد يكاشف بها قوم ويعطى وقد يكون فوق هؤلاء من لا يكون له شئ من هذا لأن هذه كلها تقوية اليقين ومن منح صرف اليقين لا حاجة له إلى شئ من هذا فكل هذه الكرامات دون ما ذكرناه من تجوهر الذكر فى القلب وجعل كثرة ظهور الخوارق دليلا على الأفضلية كجعل كثرة فضائل على كرم اللّه وجهه ومناقبه دليلا على أفضليته على الصديق رضى اللّه عنه فإنه لم يظهر منه هذا القدر من الفضائل والمناقب ( اسمع أيها الأخ ) إن خوارق العادات على نوعين النوع الأول العلوم والمعارف الإلهية التى تتعلق بذات الواجب جل وعلا وصفاته وأفعاله وراء طور نظر العقل وخلاف المتعارف المعتاد وجعل الحق سبحانه عبادة الخاصة ممتازين بها والنوع الثانى كشف صور المخلوقات والأخبار عن المغيبات التى تتعلق بالعالم والنوع الأول مخصوص بأهل الحق وأرباب المعرفة والنوع الثانى شامل للمحق والمبطل فإنه حاصل لأهل الاستدراج أيضا والنوع الأول له شرافة واعتبار عند الحق جل وعلا لكونه مخصوصا بأوليائه وعدم مشاركة أعدائه فيه والنوع الثانى معتبر عند عوام الخلائق ومعزز ومكرم عند أنظارهم حتى لو ظهر ذلك من أهل الاستدراج يكادون يعبدونه من جهلهم ويطيعونه وينقادون له فيما يأمرهم به من رطب ويابس وينهاهم بل المحجوبون لا يعدون النوع الأول من الخوارق والكرامات والخوارق منحصرة عندهم فى النوع الثانى والكرامات مخصوصة عندهم بكشف صور المخلوقات والأخبار عن المغيبات ما أبعدهم عن العقل أى شرافة وأى كرامة فى علم يتعلق بأحوال المخلوقات حاضرة كانت أو غائبة بل الأليق والأنسب أن يبدل مثل هذا العلم جهلا ليحصل نسيان المخلوقات وأحوالها واللائق بالشرافة والكرامة هو معرفة الحق تعالى وتقدس وهى المستحقة للإعزاز والاحترام ( شعر ). ومليحة مهـجورة ودميمة * مقبولة من أجل ذا عقلى عطل ( غيره ) ورب مليح لا يحب وضده * يقبل منه العـين والخـد والفـم وقريب مما ذكرنا ما قال شيخ الإسلام الهروى والإمام الأنصارى فى منازل السائرين وشارحه والذى ثبت عندى بالتجربة أن فراسة أهل المعرفة إنما هى فى تميزهم من يصلح لحضرة اللّه جل وعلا ممن لا يصلح ويعرفون أهل الاستعداد الذين اشتغلوا باللّه سبحانه ووصلوا إلى حضرة الجمع وهذه فراسة أهل المعرفة وأما فراسة أهل الرياضة بالجوع والخلوة وتصفية الباطن من غير وصلة إلى جانب الحق تعالى فلهم فراسة كشف الصور والإخبار بالمغيبات المختصة بالخلق فإنهم لا يخبرون إلا عن الخلق لأنهم محجوبون عن الحق سبحانه وأما أهل المعرفة فلاشتغالهم بما يرد عليهم من معارف الحق تعالى لا يكون أخبارهم إلا عن الحق تعالى ولما كان العالم أكثرهم أهل انقطاع عن اللّه سبحانه واشتغال بالدنيا مالت قلوبهم إلى أهل كشف الصور والأخبار عما غاب من أحوال المخلوقات فعظموهم واعتقدوا أنهم أهل اللّه وخاصته وأعرضوا عن كشف أهل الحقيقة واتهموهم فيما يخبرون عن اللّه سبحانه وقالوا لو كان هؤلاء أهل الحق كما يزعمون لأخبرونا عن أحوالنا وأحوال المخلوقات وإذا كانوا لا يقدرون على كشف أحوال المخلوقات فكيف يقدرون على كشف أمور أعلى من هذه وكذبوهم بهذا القياس الفاسد وعميت عليهم الأنباء الصحيحة ولم يعلموا أن اللّه تعالى قد حمى هؤلاء عن ملاحظة الخلق وخصهم وشغلهم عما سواه حماية لهم وغيرة عليهم ولو كانوا ممن يتعرض لأحوال الخلق وخصهم وشغلهم عما سواه حماية لهم وغيرة عليهم ولو كانوا ممن يتعرض لأحوال الخلق ما صلحوا للحق سبحانه وقد رأينا أهل الحق إذا التفتو أدنى التفات إلى كشف الصور أدركوا منها ما لا يقدر غيرهم على إدراكه بالفراسة التى يثبتها أهل المعرفة وهى الفراسة فيما يتعلق بالحق سبحانه وما يقرب منه وأما فراسة أهل الصفاء الخارجين المتعلقين بالخلق فلا يتعلق بجناب الحق سبحانه ولا ما يقرب منه ويشترك المسلمون والنصارى واليهود وسائر الطوائف فيها لأنها ليست شريفة عند اللّه سبحانه فيختص بها أهله . |