مسألة ٢مسألة في إبطال قولهم في أبدية العالم والزمان والحركةهذه المسألة فرع الأولى... ليعلم أن هذه المسألة فرع الأولى فإن العالم عندهم كما أنه أزلي لا بداية لوجوده فهو أبدي لا نهاية لآخره ولا يتصور فساده وفناؤه بل لم يزل كذلك ولا يزال أيضاً كذلك. والأدلة الأربعة التي ذكرت لا تزال جارية وأدلتهم الأربعة التي ذكرناها في الأزلية جارية في الأبدية والاعتراض كالاعتراض من غير فرق. فإنهم يقولون: إن العالم معلول علته أزلية أبدية فكان المعلول مع العلة. ويقولون: إذا لم تتغير العلة لم يتغير المعلول. وعليه بنوا منع الحدوث وهو بعينه جار في الانقطاع. وهذا مسلكهم الأول. الدليل الأول والمسلك الثاني ومسلكهم الثاني أن العالم إذا عدم فيكون عدمه بعد وجوده فيكون له بعد ففيه إثبات الزمان. الدليل الأول والمسلك الثالث وهو فاسد لأنه لا يستحيل بقاء العالم أبداً: ويعرف الواقع من الشرع ومسلكهم الثالث إن إمكان الوجود لا ينقطع. فكذلك الوجود الممكن يجوز أن يكون على وفق الإمكان. إلا أن هذا الدليل لا يقوى فإنا نحيل أن يكون أزلياً ولا نحيل أن يكون أبدياً لو أبقاه اللّه تعالى أبد إذاً ليس من ضرورة الحادث أن يكون له آخر ومن ضرورة الفعل أن يكون حادثاً وأن يكون له أول. ولم يوجب أن يكون للعالم لا محالة آخر إلا أبو الهذيل العلاف فإنه قال: كما يستحيل في الماضي دورات لا نهاية لها فكذلك في المستقبل وهو فاسد لأن كل المستقبل قط لا يدخل في الوجود لا متلاحقاً ولا متساوقاً والماضي قد دخل كله في الوجود متلاحقاً وإن لم يكن متساوقاً. وإذا تبين أنا لا نبعد بقاء العالم أبداً من حيث العقل بل نجوز بقاءه وإفناءه فإنما يعرف الواقع من قسمي الممكن بالشرع فلا يتعلق النظر فيه بالمعقول. الدليل الأول والمسلك الرابع وأما مسلكهم الرابع فهو جار لأنهم يقولون: إذا عدم العالم بقي إمكان وجوده إذ الممكن لا ينقلب مستحيلاً وهو وصف إضافي. فيفتقر كل حادث بزعمهم إلى مادة سابقة وكل منعدم فيفتقر إلى مادة ينعدم عنها. فالمواد والأصول لا تنعدم وإنما تنعدم الصور والأعراض الحالة فيها. الجواب ما سبق ويضاف إليه دليلان آخران والجواب عن الكل ما سبق. الأول دليل جالينوس لا يظهر أن الشمس لا تقبل الانعدام ما تمسك به جالينوس إذ قال: لو كان الشمس مثلاً تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول في مدة مديدة والأرصاد الدالة على مقدارها منذ آلاف سنين لا تدل إلا على هذا المقدار فلما لم تذبل في هذه الآماد الطويلة دل أنها لا تفسد. الاعتراض من الوجه الأول لعلها تفسد بغير طريق الذبول كما في حال البغتة الاعتراض عليه من وجوه: الأول إن شكل هذا الدليل أن يقال: إن كان الشمس تفسد فلا بد وأن يلحقها ذبول لكن التالي محال فالمقدم محال وهو قياس يسمى عندهم الشرطي المتصل وهذه النتيجة غير لازمة لأن المقدم غير صحيح ما لم يضف إليه شرط آخر وهو قوله: إن كان تفسد فلا بد وأن تذبل فهذا التالي لا يلزم هذا المقدم إلا بزيادة شرط وهو أن نقول: إن كان تفسد فساداً ذبولياً فلا بد وأن تذبل في طول المدة. أو يبين أنه لا فساد بطريق الذبول حتى يلزم التالي للمقدم. ولا نسلم أنه لا يفسد الشيء إلا بالذبول بل الذبول أحد وجوه الفساد. ولا يبعد أن يفسد الشيء بغتة وهو الاعتراض من الوجه الثاني الفساد لا يظهر للحس الثاني أنه لو سلم له هذا وأنه لا فساد إلا بالذبول فمن أين عرف أنه ليس يعتريها الذبول وأما التفاته إلى الأرصاد فمحال لأنها لا تعرف مقاديرها إلا بالتقريب. والشمس التي يقال إنها كالأرض مائة وسبعين مرة أو ما يقرب منه لو نقص منها مقدار جبال مثلاً لكان لا يبين للحس فلعلها في الذبول وإلى الآن قد نقص مقدار جبال وأكثر. والحس لا يقدر على أن يدرك ذلك لأن تقديره في علم المناظر لم يعرف إلا بالتقريب وهذا كما أن الياقوت والذهب مركبان من العناصر عندهم وهي قابلة للفساد ثم لو وضع ياقوته مائة سنة لم يكن نقصانه محسوساً فلعل نسبة ما ينقص من الشمس في مدة تاريخ الأرصاد كنسبة ما ينقص من الياقوت في مائة سنة. وذلك لا يظهر للحس فدل أن دليله في غاية الفساد. وباقي الأدلة ليست أكثر قوة وقد أعرضنا عن إيراد أدلة كثيرة من هذا الجنس يستركها العقلاء وأوردنا هذا الواحد ليكون عبرة ومثالاً لما تركناه واقتصرنا على الأدلة الأربعة التي يحتاج إلى تكلف في حل شبهها كما الثاني الدليل الثاني: لا يعقل سبب معدم... لهم في استحالة عدم العالم أن قالوا: العالم لا تنعدم جواهره لأنه لا يعقل سبب معدم له وما لم يكن منعدماً ثم انعدم فلا بد وأن يكون بسبب وذلك السبب لا يخلوا إما من أن يكون إرادة القديم وهو محال لأنه إذا لم يكن مريداً لعدمه ثم صار مريداً فقد تغير أو يؤدي إلى أن يكون القديم وإرادته على نعت واحد في جميع الأحوال والمراد يتغير من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم. وما ذكرناه من استحالة وجود حادث بإرادة قديمة يدل على استحالة العدم. ولا فعله فإن الأقوال بهذا الأمر باطلة ويزيد هاهنا إشكال آخر أقوى من ذلك وهو أن المراد فعل المريد لا محالة وكل من لم يكن فاعلاً ثم صار فاعلاً فإن لم يتغير هو في نفسه فلا بد وأن يصير فعله موجوداً بعد أن لم يكن موجوداً. فإنه لو بقي كما كان إذ لم يكن له فعل والآن أيضاً لا فعل له فإذن لم يفعل شيئاً. والعدم ليس بشيء فكيف يكون فعلاً وإذا أعدم العالم وتجدد له فعل لم يكن فما ذلك الفعل أهو وجود العالم وهو محال إذا انقطع الوجود أو فعله عدم العالم وعدم العالم ليس بشيء حتى يكون فعلاً فإن أقل درجات الفعل أن يكون موجوداً وعدم العالم ليس شيئاً موجوداً حتى يقال: هو الذي فعله الفاعل وأوجده الموجد. ولإشكال هذا زعموا: افترق المتكلمون في التقصي عن هذا أربع فرق وكل فرقة اقتحمت محالاً. قول المعتزلة بخلق الفناء... أما المعتزلة فإنهم قالوا: فعله الصادر منه موجود وهو الفناء يخلقه لا في محل فينعدم كل العالم دفعة واحدة وينعدم الفناء المخلوق بنفسه حتى لا يحتاج إلى فناء آخر فيتسلسل إلى غير نهاية. وهو فاسد من وجوده أحدها أن الفناء ليس موجوداً معقولاً حتى يقدر خلقه ثم إن كان موجوداً فلم ينعدم بنفسه من غير معدم ثم لم يعدم العالم فإنه إن خلق في ذات العالم وحل فيه فهو محال لأن الحال يلاقي المحلول فيجتمعان ولو في لحظة فإذا جاز اجتماعهما لم يكن ضداً فلم يفنه. وإن خلقه لا في العالم ولا في محل فمن أين يضاد وجوده وجود العالم ثم في هذا المذهب شناعة أخرى وهو أن اللّه لا يقدر على إعدام بعض جواهر العالم دون بعض بل لا يقدر إلا على إحداث فناء يعدم العالم كله لأنها إذا لم تكن في محل كان نسبتها إلى الكل على وتيرة. الفرقة الثانية الكرامية حيث قالوا: إن فعله الإعدام والإعدام عبارة عن موجود يحدثه في ذاته تعالى عن قولهم فيصير العالم به معدوماً. وكذلك الوجود عندهم بإيجاد يحدثه في ذاته فيصير الموجود به موجوداً. وهذا أيضاً فاسد إذ فيه كون القديم محل الحوادث ثم خروج عن المعقول إذ لا يعقل من الإيجاد إلا وجود منسوب إلى إرادة وقدرة. فإثبات شيء آخر سوى الإرادة والقدرة ووجود المقدور وهو العالم لا يعقل وكذى الإعدام. وقول الأشعرية بعدم خلق البقاء... الفرقة الثالثة الأشعرية إذ قالوا: أما الأعراض فإنها تفنى بأنفسها ولا يتصور بقاءها لأنه لو تصور بقاءها لما تصور فناؤها لهذا المعنى. وأما الجواهر فليست باقية بأنفسها ولكنها باقية ببقاء زائد على وجودها فإذا لم يخلق اللّه البقاء انعدم لعدم المبقى. وهو أيضاً فاسد لما فيه من مناكرة المحسوس في أن السواد لا يبقى والبياض كذلك وأنه متجدد الوجود والعقل ينبوا عن هذا كما ينبوا عن قول القائل: إن الجسم متجدد الوجود في كل حالة والعقل القاضي بأن الشعر الذي على رأس الإنسان في يوم هو الشعر الذي كان بالأمس لا مثله يقضي أيضاً به في سواد الشعر. ثم فيه إشكال آخر وهو أن الباقي إذا بقي ببقاء فيلزم أن تبقى صفات اللّه ببقاء. وذلك وقول الفرقة الرابعة بعدم خلق الحركة أو السكون والفرقة الرابعة طائفة أخرى من الأشعرية إذ قالوا: إن الأعراض تفنى بأنفسها وأما الجواهر فإنها تفنى بأن لا يخلق اللّه فيها حركة ولا سكوناً ولا اجتماعاً ولا افتراقاً فيستحيل أن يبقى جسم ليس بساكن ولا متحرك فينعدم. وكأن فرقتي الأشعرية مالوا إلى أن الإعدام ليس بفعل إنما هو كف عن الفعل لما لم يعقلوا كون العدم فعلاً. وإذا بطلت هذه الطرق لم يبق وجه للقول بجواز إعدام العالم. وقولهم باستحالة انعدام النفس الحادثة... هذا لو قيل بأن العالم حادث فإنهم مع تسليمهم حدوث النفس الإنسانية يدعون استحالة انعدامها بطريق يقرب مما ذكرناه. وباستحالة انعدام كل قائم بنفسه وبالجملة عندهم كل قائم بنفسه لا في محل لا يتصور انعدامه بعد وجوده سواء كان قديماً أو حادثاً. وإذا قيل لهم: مهما أغلي النار تحت الماء انعدم الماء قالوا لم ينعدم ولكن انقلب بخاراً ثم ماء. فالمادة وهي الهيولى باقية في الهواء وهي المادة التي كانت لصورة الماء وإنما خلعت الهيولى صورة المائية ولبست صورة الهوائية. وإذا أصاب الهواء برد كثف وانقلب ماء لا من مادة تجددت بل المواد مشتركة بين العناصر وإنما يتبدل عليها صورها. الجواب: الإعدام بإرادة اللّه الذي أجد العدم والجواب: أن ما ذكرتموه من الأقسام وإن أمكن أن نذب عن كل واحد ونبين أن إبطاله على أصلكم لا يستقيم لاشتمال أصولكم على ما هو من جنسه ولكنا لا نطول به ونقتصر على قسم واحد ونقول: بم تنكرون على من يقول: الإيجاد والإعدام بإرادة القادر فإذا أراد اللّه أوجد وإذا أراد أعدم وهذا معنى كونه قادراً على الكمال وهو في جملة ذلك لا يتغير في نفسه وإنما يتغير الفعل. وأما قولكم: إن الفاعل لا بد وأن يصدر منه فعل فما الصادر منه قلنا: الصادر منه ما تجدد وهو العدم إذ لم يكن عدم ثم تجدد العدم فهو الصادر عنه. قولهم: العدم ليس بشيء فإن قلتم: إنه ليس بشيء فكيف صدر منه قولنا: هو واقع فهو معقول... قلنا: وهو ليس بشيء فكيف وقع وليس معنى صدوره منه إلا أن ما وقع مضاف إلى قدرته فإذا عقل وقوعه لم لا تعقل إضافته إلى القدرة وما الفرق بينهم وبين من ينكر طريان العدم أصلاً على الأعراض والصور ويقول: العدم ليس بشيء فكيف يطرى وكيف يوصف بالطريان والتجدد ولا نشك في أن العدم يتصور طريانه على الأعراض فالموصوف بالطريان معقول وقوعه سمى شيئاً أو لم يسم فإضافة ذلك الواقع المعقول إلى قدرة القادر أيضاً معقول. لا يقع العدم بل أضداد الطريان فإن قيل: هذا إنما يلزم على مذهب من يجوز عدم الشيء بعد وجوده فيقال له: ما الذي طرى وعندنا لا ينعدم الشيء الموجود وإنما معنى انعدام الأعراض طريان أضدادها التي هي موجودات لا طريان العدم المجرد الذي ليس بشيء فإن ما ليس بشيء كيف يوصف بالطريان فإذا ابيض الشعر فالطاري هو البياض فقط وهو موجود ولا نقول الطاري هو عدم السواد. قولنا: يقع العدم وهذا فاسد من وجهين: أحدهما أن طريان البياض هل تضمن عدم السواد أم لا فإن قالوا: لا فقد كابروا المعقول. وإن قالوا: نعم فالمتضمن غير المتضمن أم عينه فإن قالوا: هو عينه كان متناقضاً إذ الشيء لا يتضمن نفسه. وإن قالوا غيره فذلك الغير معقول أم لا فإن قالوا: لا قلنا: فبم عرفتم أنه متضمن والحكم عليه بكونه متضمناً اعتراف بكونه معقولاً. وإن قالوا: نعم فذلك المتضمن المعقول وهو عدم السواد قديم أو حادث. فإن قالوا: قديم فهو محال. وإن قالوا: حادث فالموصوف بالحدوث كيف لا يكون معقولاً وإن قالوا: لا قديم ولا حادث فهو محال لأنه قبل طريان البياض لو قيل: السواد معدوم كان كذباً وبعده إذا قيل: إنه معدوم كان صدقاً فهو طار لا محالة. فهذا الطاري معقول فيجوز أن يكون منسوباً إلى قدرة قادر. الحركة وما إليها تنعدم دون وقوع أضدادها الوجه الثاني أن من الأعراض ما ينعدم عندهم لا بضده فإن الحركة لا ضد لها وإنما التقابل بينهما وبين السكون عندهم تقابل الملكة والعدم أي تقابل الوجود والعدم ومعنى السكون عدم الحركة. فإذا عدمت الحركة لم يطر سكون هو ضده بل هو عدم محض وكذلك الصفات التي هي من قبيل الاستكمال كانطباع أشباح المحسوسات في الرطوبة الجليدية من العين بل انطباع صور المعقولات في النفس فإنها ترجع إلى استفتاح وجود من غير زوال ضده وإذا عدم كان معناها زوال الوجود من غير استعقاب ضده. فزوالها عبارة عن عدم محض قد طرى فعقل قدرة القادر في إمكانها أن تحدث العدم كما تحدث الوجود. فتبين بهذا أنه مهما تصور وقوع حادث بإرادة قديمة لم يفترق الحال بين أن يكون الواقع عدماً أو وجوداً. |