شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشافعي (ت. ٧٩٢ هـ / ١٣٩٠ م) تحقيق زكريا عميرات الناشر دار الكتب العلمية سنة النشر ١٤١٦هـ - ١٩٩٦م. مكان النشر بيروت عدد الأجزاء ٢ بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه الذي أحكم بكتابه أصول الشريعة الغراء ورفع بخطابه فروع الحنيفية السمحة البيضاء حتى أضحت كلمته الباقية راسخة الأساس شامخة البناء كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء أوقد من مشكاة السنة لاقتباس أنوارها سراجا وهاجا وأوضح لإجماع الآراء على اقتفاء آثارها قياسا ومنهاجا حتى صادفت بحار العلم والهدى تتلاطم أمواجا ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجا والصلاة على من أرسله لساطع الحجة معوانا وظهيرا وجعله لواضح المحجة سلطانا ونصيرا محمد المبعوث هدى للأنام مبشرا ونذيرا وداعيا إلى اللّه بإذنه وسراجا منيرا ثم على من التزم بمقتضى إشاراته الدالة على طريق العرفان واعتصم فيها بما تواتر من نصوصه الظاهرة البيان واغتنم في شريف ساحته كرامة الاستصحاب والاستحسان من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وبعد فإن علم الأصول الجامع بين المعقول والمنقول النافع في الوصول إلى مدارك المحصول أجل ما يتنسم في إحكام أحكام الشرع قبول القبول وأعز ما يتخذ لإعلاء أعلام الحق عقول العقول وإن كتاب التنقيح مع شرحه المسمى بالتوضيح للإمام المحقق والنحرير المدقق علم الهداية وعالم الدراية معدل ميزان المعقول والمنقول ومنقح أغصان الفروع والأصول صدر الشريعة والإسلام أعلى اللّه درجته في دار السلام كتاب شامل لخلاصة كل مبسوط واف ونصاب كامل من خزانة كل منتخب كاف وبحر محيط بمستصفى كل مديد وبسيط وكنز مغن عما سواه من كل وجيز ووسيط فيه كفاية لتقديم ميزان الأصول وتهذيب أغصانها وهو نهاية في تحصيل مباني الفروع وتعديل أركانها نعم قد سلك منهاجا بديعا في كشف أسرار التحقيق واستولى على الأمد الأقصى من رفع منار التدقيق مع شريف زيادات ما مستها أيدي الأفكار ولطيف ما فتق بها رتق آذانهم أولو الأبصار ولهذا طار كالأمطار في الأقطار وصار كالأمثال في الأمصار ونال في الآفاق حظا من الاشتهار ولا اشتهار الشمس في نصف النهار وقد صادفت مجتازي ما وراء النهر لكثير من فضلاء الدهر أفئدة تهوى إليه وأكبادا هائمة عليه وعقولا جاثية بين يديه ورغبات مستوقفة المطايا لديه معتصمين في كشف أستاره بالحواشي والأطراف قانعين في بحار أسراره على اللآلئ بالأصداف لا تحل أنامل الأنظار عقد معضلاته ولا يفتح بنان البيان أبواب مغلقاته فلطائفه بعد تحت حجب الألفاظ مستورة وخرائده في خيام الأستار مقصورة ترى حواليها همما مستشرفة (١/٥) الأعناق ودون الوصول إليها أعينا ساهرة الأحداق فأمرت بلسان الإلهام لا كوهم من الأوهام أن أخوض في لجج فوائده وأغوص على غرر فرائده وأنشر مطويات رموزه وأظهر مخفيات كنوزه وأسهل مسالك شعابه وأذلل شوارد صعابه بحيث يصير المتن مشروحا ويزيد الشرح بيانا ووضوحا فطفقت أقتحم موارد الشهر في ظلم الدياجر وأحتمل مكابد الفكر في ظمإ الهواجر راكبا كل صعب وذلول لاقتناص شوارد الأصول ونازفا غلالة الجد في الأصول إلى مقاصد الأبواب والفصول حتى استوليت على الغاية القصوى من أسرار الكتاب وأمطت عن وجوه خرائد قناع الارتياب ثم جمعت هذا الشرح المرسوم بالتلويح إلى كشف حقائق التنقيح مشتملا على تقرير قواعد الفن وتحرير معاقده وتفسير مقاصد الكتاب وتكثير فوائده مع تنقيح لما آثر فيه المصنف بسط الكلام وتوضيح لما اقتصر فيه على ضبط المرام في ضمن تقريرات تنفتح لورودها أصداف الآذان وتحقيقات تهتز لإدراكها أعطاف الأذهان وتوجيهات ينشط لاستماعها الكسلان وتقسيمات يطرب عند سماعها الثكلان معولا في متون الرواية على ما اشتهر من الكتب الشريفة ومعرجا في عيون الدراية على ما تقرر من النكت اللطيفة وسيحمد الغائص في بحار التحقيق الفائض عليه أنوار التوفيق ما أودعت هذا الكتاب الذي لا يستكشف القناع عن حقائقه إلا الماهر من علماء الفريقين ولا يستهل للاطلاع على دقائقه إلا البارع في أصول المذهبين مع بضاعة في صناعة التوجيه والتعديل وإحاطة بقوانين الاكتساب والتحصيل واللّه سبحانه ولي الإعانة والتأييد والملي بإفاضة الإصابة والتسديد وهو حسبي ونعم الوكيل قوله حامدا حال من المستكن في متعلق الباء أي بسم اللّه أبتدئ الكتاب حامدا آثر طريقة الحال على ما هو المتعارف عندهم من الجملة الاسمية والفعلية نحو الحمد للّه وأحمد اللّه تسوية بين الحمد والتسمية ورعاية للتناسب بينهما فقد ورد في الحديث كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد للّه فهو أجزم فحاول أن يجعل الحمد قيدا للابتداء حالا عنه كما وقعت التسمية كذلك إلا أنه قدم التسمية لأن النصين متعارضان ظاهرا إذ الابتداء بأحد الأمرين يفوت الابتداء بالآخر وقد أمكن الجمع بأن يقدم أحدهما على الآخر فيقع الابتداء به حقيقة وبالآخر بالإضافة إلى ما سواه فعمل بالكتاب الوارد بتقديم التسمية والإجماع المنعقد عليه وترك العاطف لئلا يشعر بالتبعية فيخل بالتسوية ولا يجوز أن يكون حامدا حالا من فاعل يقول لأن قوله وبعد فإن العبد على ما في النسخة المقررة عند المصنف صارف عن ذلك وأما على النسخة القديمة الخالية عن هذا الصارف فالظاهر أنه حال عنه وأما تفصيل الحمد بقوله أولا وثانيا فيحتمل وجوها الأول أن الحمد يكون على النعمة وغيرها فاللّه تعالى يستحق الحمد أولا بكمال ذاته وعظمة صفاته وثانيا بجميل نعمائه وجزيل آلائه التي من جملتها التوفيق لتأليف هذا الكتاب الثاني أن نعمة اللّه تعالى على كثرتها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولا وإيجاد وإبقاء ثانيا فيحمده على القسمين تأسيا بالسور المفتتحة بالتحميد حيث أشير في الفاتحة إلى الجميع وفي الأنعام إلى الإيجاد وفي الكهف إلى الإبقاء أولا وفي السبأ إلى الإيجاد وفي الملائكة إلى الإبقاء ثانيا الثالث الملاحظة لقوله تعالى له الحمد في الأولى والآخرة (١/٦) على معنى أنه يستحق الحمد في الدنيا على ما يعرف بالحجة من كماله ويصل إلى العباد من نواله وفي الآخرة على ما يشاهد من كبريائه ويعاين من نعمائه التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وإليه الإشارة بقوله تعالى وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين فإن قلت فقد وقع التعرض للحمد على الكبرياء والآلاء في داري الفناء والبقاء فما معنى قوله ولعنان الثناء ثانيا أي صارفا عطفا على حامدا قلت معناه قصد تعظيمه ونية التقرب إليه في كل ما يصلح لذلك من الأقوال والأفعال وصرف الأموال إشارة إلى أنواع العبادات فإن نعم اللّه تعالى تستوجب الشكر بالقلب واللسان والجوارح والحمد لا يكون إلا باللسان وفيه إشارة إلى أن الأخذ في العلوم الإسلامية ينبغي أن يعرض عن جانب الخلق ويصرف أعنة الثناء من جميع الجهات إلى جناب الحق تعالى وتقدس عالما بأنه المستحق للثناء وحده فإن قلت من شرط الحال المقارنة للعامل والأحوال المذكورة أعني حامدا وغيره لا تقارن الابتداء بالتسمية قلت ليس الباء صلة ل أبتدئ بل الظرف حال والمعنى متبركا بسم اللّه أبتدئ الكتاب والابتداء أمر عرفي يعتبر ممتدا من حين الأخذ في التصنيف إلى الشرع في البحث ويقارنه التبرك بالتسمية والحمد والصلاة فإن قلت فعلى الوجه الثالث يكون حامدا ثانيا بمعنى ناويا للحمد وعازما عليه ليكون مقارنا للعامل وحينئذ يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز قلت يجعل من قبيل المحذوف أي وحامدا ثانيا بمعنى عازما عليه فلا يلزم الجمع قوله وعلى أفضل رسله مصليا لما كان أجل النعم الواصلة إلى العبد هو دين الإسلام وبه التوصل إلى النعم الدائمة في دار السلام وذلك بتوسط النبي عليه الصلاة والسلام صار الدعاء له تلو الثناء على اللّه تعالى فأردف الحمد بالصلاة وفي ترك التصريح باسم النبي عليه السلام على ما في النسخة المقررة تنويه بشأنه وتنبيه على أن كونه أفضل الرسل عليه السلام أمر جلي لا يخفى على أحد والحلبة بالسكون خيل تجمع للسباق من كل أوب استعيرت للمضمار والمجلي هو السابق من أفراس السباق والمصلي هو الذي يتلوه لأن رأسه عند صلويه ومعنى ذلك تكثير الصلاة وتكريرها أو أشار بالمجلي إلى الصلاة على النبي وبالمصلي إلى الصلاة على الآل لأنها إنما تكون ضمنا وتبعا ثم لا يخفى حسن ما في قرائن الحمد والصلاة من التجنيس وما في القرينة الثانية من الاستعارة بالكناية والتخييل والترشيح وما في الرابعة من التمثيل وإن تقديم المعمولات في القرائن الثلاث الأخيرة لرعاية السجع والاهتمام إذ الحصر لا يناسب المقام وإن انتصاب أولا وثانيا على الظرفية وأما التنوين في أولا مع أنه أفعل التفضيل بدليل الأولى والأوائل كالفضل والأفاضل فلأنه هاهنا ظرف بمعنى قبل وهو حينئذ منصرف لا وصفية له أصلا وهذا معنى ما قال في الصحاح إذا جعلته صفة لم تصرفه تقول لقيته عاما أول وإذا لم تجعله صفة صرفته تقول لقيته ع اما أولا ومعناه في الأول أول من هذا العام وفي الثاني قبل هذا العام قوله سعد جده فيه إيهام إذ الجد البخت وأب الأب قوله وفقني اللّه التوفيق جعل الأسباب متوافقة ويعدى باللام وتعديته بالباء تسامح أو (١/٧) تضمين لمعنى التشريف والمصنف كثيرا ما يتسامح في صلاة الأفعال ميلا منه إلى جانب المعنى قوله وفض من فضضت ختم الكتاب فتحته والفض الكسر بالتفريق واختتمت الكتاب بلغت آخره والختام الطين الذي يختم به جعل الكتاب قبل التمام لاحتجابه عن نظر الأنام بمنزلة الشيء المختوم الذي لا يطلع على مخزوناته ولا يحاط بمستودعاته ثم جعل عرضه على الطالبين بعد الاختتام وعدم منعهم عن مطالعته بعد التمام بمنزلة فض الختام قوله مؤسسة على قواعد المعقول أي مبنية على الوجوه والشرائط المذكورة في علم الميزان لا كما هو دأب قدماء المشايخ من الاقتصار على حصول المقصود قوله وترتيب أنيق أي حسن معجب يريد به بعض ما تصرف فيه من التقديم والتأخير في المباحث والأبواب على الوجه الأحسن الأليق لم يسبقني والصواب لم يسبقني إلى مثله سبقت العالمين إلى المعالي قوله لم يبلغ صفة تدقيقات والعائد محذوف أي لم يبلغها فرسان علم الأصول إلى هذه الغاية من الزمان أو المراد لم يصل فرسان هذا العلم إلى تلك الغاية من التدقيق فيكون من وضع الظاهر موضع الضمير وتعدية البلوغ بإلى لجعله بمعنى الوصول والانتهاء قوله سميت هذا الكتاب جواب لما وضع اسم الإشارة موضع الضمير لكمال العناية بتمييزه فإن قلت لما لثبوت الثاني لثبوت الأول فيقتضي سببية ما ذكره بعد لما لتسمية هذا الكتاب بالتوضيح فما وجهه قلت وجهه أن الضمير في إتمامه للشرح المذكور الموصوف بأنه شرح لمشكلات التنقيح وفتح لمغلقاته وإتمام مثل هذا الشرح مع اشتماله على الأمور المذكورة يصلح سببا لتسميته بالتوضيح في حل غوامض التنقيح (١/٨) قوله إليه يصعد افتتاح غريب واقتباس لطيف أتى بالضمير قبل الذكر دلالة على حضور ذكر اللّه تعالى في قلب المؤمن سيما عند افتتاح الكلام في أصول الشرع وإشارة إلى أن اللّه تعالى متعين لتوجه المحامد إليه لا يفتقر إلى التصريح بذكره ولا يذهب الوهم إلى غيره إذ له العظمة والجلالة ومنه العطاء والنوال وإيماء إلى أن الشارع في العلوم الإسلامية ينبغي أن يكون مطمح نظره ومقصد همته جناب الحق تعالى وتقدس ويقتصر على طلب رضاه ولا يلتفت إلى ما سواه لا يقال إن ابتدأ المتن بالتسمية فلا إضمار قبل الذكر وإن لم يبدأ لزم ترك العمل بالسنة لأنا نقول يكفي في العمل بالسنة أن تذكر التسمية باللسان أو تخطر بالبال أو تكتب على قصد التبرك من غير أن تجعل جزءا من الكتاب وعلى كل تقدير يكون الإضمار قبل ذكر المرجع في الكتاب والصعود الحركة إلى المعالي مكانا وجهة استعير للتوجه إلى العالي قدرا ومرتبة والكلم من الكلمة بمنزلة التمر من التمرة يفرق بين الجنسي وواحده بالتاء واللفظ مفرد إلا أنه كثيرا ما يسمى جمعا نظرا إلى المعنى الجنسي ولاعتبار جانبي اللفظ والمعنى يجوز في وصفه التذكير والتأنيث قال اللّه تعالى كأنهم أعجاز نخل منقعر أي منقطع عن مغارسه ساقط على وجه الأرض وقال كأنهم أعجاز نخل خاوية أي متآكلة الأجواف ثم الكلم غلب على الكثير لا يستعمل في الواحد ألبتة حتى توهم بعضهم أنها جمع كلمة وليس على حد تمر وتمرة إلا أن الكلم الطيب بتذكير الوصف يدل على ما ذكرنا مع أن فعلا ليس من أبنية الجمع فلا ينبغي أن يشك في أنه اسم جمع كتمر وركب وأنه ليس بجمع كنسب ورتب ففي قوله والكلم إن كان جمعا حرازة لا تخفى والصواب وإن كان بالواو قوله من محامد حال من الكلم بيانا له على ما قال النبي عليه السلام هو سبحان اللّه (١/٩) والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم يقبل وإنما صلح الجمع المنكر بيانا للمعرف المستغرق لما سيجيء من أن النكرة تعم بالوصف كامرأة كوفية ولأن التنكير هاهنا للتكثير وهو يناسب التعميم والمحامد جمع محمدة بمعنى الحمد وهو مقابلة الجميل من نعمة أو غيرها بالثناء والتعظيم باللسان والشكر مقابلة النعمة بالإظهار وتعظيم المنعم قولا أو عملا أو اعتقادا فلاختصاص الحمد باللسان كان بيان الكلم بها أنسب والمشارع جمع مشرعة الماء وهي مورد الشاربة والشرع والشريعة ما شرع اللّه تعالى لعباده من الدين أي أظهر وبين وحاصله الطريقة المعهودة الثابتة من النبي عليه السلام جعلها على طريق الاستعارة المكنية بمنزلة روضات وجنات فأثبت لها مشارع يردها المتعطشون إلى زلال الرحمة والرضوان وبهذا الطريق أثبت لقبول العبادة الذي هو مهب ألطاف الرحمن ومطلع أنوار الغفران ريح الصبا التي بها روح الأبدان ونماء الأغصان فإن القبول الأول ريح الصبا ومهبها المستوي مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار ويقابلها الدبور والعرب تزعم أن الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء ثم تسوقه فإذا علا كشف عنه واستقبلته الصبا فوزعت بعضه على بعض حتى يصير كسفا واحدا ثم ينزل مطرا تنمي به الأشجار والقبول الثاني من المصادر الشاذة لم يسمع له ثان والنماء الزيادة والارتفاع نما ينمي نماء ونما ينمو نموا وحقيقة النمو الزيادة في أقطار الجسم على تناسب طبيعي ثم في وصف المحامد بما ذكر تلميح إلى قوله تعالى ضرب اللّه مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء فإن المحامد لما كانت هي الكلم الطيب والكلمة الطيبة كشجرة طيبة فالمحمدة شجرة لها أصل هو الإيمان والاعتقادات وفروع هو الأعمال والطاعات وتحقيق ذلك أن الحمد وإن كان في اللغة فعل اللسان خاصة إلا أن حمد اللّه تعالى على ما صرح به الإمام الرازي في تفسيره ليس قول القائل الحمد للّه بل ما يشعر بتعظيمه وينبئ عن تمجيده من اعتقاد اتصافه بصفات الكمال والترجمة عن ذلك بالمقال والإتيان بما يدل عليه من الأعمال فالاعتقاد أصل لولاه لكان الحمد كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار والعمل فرع لولاه لما كان للحمد نماء إلى اللّه تعالى وقبول عنده بمنزلة دوحة لا غصن لها وشجرة لا ثمرة عليها إذ العمل هو الوسيلة إلى نيل الجنات ورفع الدرجات قال اللّه تعالى والعمل الصالح يرفعه وفي الحديث فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل فأشار المصنف إلى أن لشجرة المحامد أصلا ثابتا هو الاعتقاد الراسخ الإسلامي المبتنى على علم التوحيد والصفات وفرعا ناميا إلى اللّه تعالى مقبولا عنده هو العمل الصالح الموافق للشريعة المطهرة المبتنى على علم الشرائع والأحكام وأشار إلى الاختصاص والدوام بقوله إليه يصعد بتقديم الظرف المفيد للاختصاص ولفظ المضارع المنبئ عن الاستمرار قوله على أن جعل تعليق للمحامد ببعض النعم إشارة إلى عظم أمر العلم الذي وقع التصنيف فيه ودلالة على جلالة قدره والشريعة نعم الفقه وغيره من الأمور الثابتة بالأدلة السمعية (١/١٠) كمسألة الرؤية والمعاد وكون الإجماع والقياس حجة وما أشبه ذلك وأصول الشريعة أدلتها الكلية ومباني الأصول ما تبتنى هي عليه من علم الذات والصفات والنبوات وتمهيدها تسويتها وإصلاحها بكونها على وفق الحق ونهج الصواب وفروع الشريعة أحكامها المفصلة المبينة في علم الفقه ومعانيها العلل الجزئية التفصيلية على كل مسألة ودقتها كونها غامضة لطيفة لا يصل إليها كل أحد بسهولة وجميع ذلك نعم تستوجب الحمد إذ بالشريعة نظام الدنيا وثواب العقبى وبدقة معاني الفقه رفعة درجات العلماء ونيلهم الثواب في دار الجزاء وفي هذا الكلام إشارة إلى أن علم الأصول فوق الفقه ودون الكلام لأن معرفة الأحكام الجزئية بأدلتها التفصيلية موقوفة على معرفة أحوال الأدلة الكلية من حيث توصل إلى الأحكام الشرعية وهي موقوفة على معرفة الباري وصفاته وصدق المبلغ ودلالة معجزاته ونحو ذلك مما يشتمل عليه علم الكلام الباحث عن أحوال الصانع والنبوة والإمامة والمعاد وما يتصل بذلك على قانون الإسلام قوله بني على أربعة أركان بمنزلة البدل من الجملة السابقة شبه الأحكام الشرعية بقصر من جهة أن الملتجئ إليها يأمن من غوائل عدو الدين وعذاب النار فأضاف المشبه به إلى المشبه كما في لجين الماء والأحكام تستند إلى أدلة جزئية ترجع مع كثرتها إلى أربعة دلائل هي أركان قصر الأحكام فذكرها في أثناء الكلام على الترتيب الذي بنى الشارع الأحكام عليها من تقديم الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم العمل بالقياس ذكر الثلاثة الأول صريحا والقياس بقوله ووضع معالم العلم على مسالك المعتبرين أي القائلين المتأملين في النصوص وعلل الأحكام من قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار تقول اعتبرت الشيء إذا نظرت إليه وراعيت والعلم الأثر الذي يستدل به على الطريق عبر به عن علة الحكم التي بها يستدل على ثبوت الحكم في المقيس فإن قلت ليس ترتيب الشارع تقديم السنة على الإجماع مطلقا بل إذا كانت قطعية قلت الكلام في متن السنة ولا خفاء في تقدمه وإنما يؤخر حيث يؤخر لعارض الظن في ثبوته ثم ذكر بعض أقسام الكتاب إشارة إلى أنه كما يشتمل القصر على ما هو غاية في الظهور وعلى ما هو دونه وعلى ما هو غاية في الخفاء والاستتار بحيث لا يصل إليه غير رب القصر وعلى ما هو دونه كذلك قصر الأحكام يشتمل على محكم هو غاية في الظهور ونص هو دونه وعلى متشابه هو غاية في الخفاء ومجمل هو دونه وسيجيء تفسيرها قوله مقصورات أي محبوسات جعل خيام الاستتار مضروبة على المتشابه محيطة به بحيث لا يرجى بدوه وظهوره أصلا على ما هو المذهب من أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا اللّه وفائدة إنزاله ابتلاء الراسخين في العلم بمنعهم عن التفكير فيه والوصول إلى ما هو غاية متمناهم من العلم بأسراره فكما أن الجهال مبتلون بتحصيل ما هو غير مطلوب عندهم من العلم والإمعان في (١/١١) الطلب كذلك العلماء مبتلون بالوقف وترك ما هو محبوب عندهم إذ ابتلاء كل أحد إنما يكون بما هو على خلاف هواه وعكس متمناه قوله بكبح عنان ذهنهم تقول كبحت الدابة إذا جذبتها إليك باللجام لكي تقف ولا تجري قوله أودعها فيها أي أودع اللّه الأسرار في المتشابهات والإيداع متعد إلى مفعولين تقول أودعته مالا إذا دفعته إليه ليكون وديعة عنده وإنما عداه بفي تسامحا أو تضمينا بمعنى الإدراج والوضع قوله منصة بفتح الميم المكان الذي يرفع عليه العروس للجلوة من نصصت الشيء رفعته والعروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في إعراسهما يجمع المؤنث على عرائس والمذكر على عرس بضمتين وفي هذا الكلام نوع حزازة لأن المعاني التي أظهرت بالنصوص وجليت بها على الناظرين هي مفهوماتها والأحكام المستفادة منها وهي ليست نتائج أفكار المتفكرين بل أحكام الملك الحق المبين فكأنه أراد أن المجتهدين يتأملون في النصوص فيطلعون على معان ودقائق ويستخرجون أحكاما وحقائق وهي نتائج أفكارهم الظاهرة على النصوص بمنزلة العروس على المنصة قوله وفصل خطابه أي خطابه الفاصل المميز بين الحق والباطل أو خطابه المفصول الذي يتبينه من يخاطب به ولا يلتبس عليه على أن الفصل مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول وهذا من عطف الخاص على العام تنبيها على عظم أمره وفخامة قدره إذ السنة ضربان قول وفعل والقول هو الموضوع لبيان الشرائع المبني عليه أكثر الأحكام المتفق على حجيته بين الأنام قوله ما رفع أي ما دام رايات مراسم الدين مرفوعة عالية بإجماع المجتهدين الباذلين وسعهم في إعلاء كلمة اللّه وإحياء مراسم الدين فإن الحكم المجمع عليه مرفوع لا يوضع ومنصوب لا يخفض قوله جليل الشأن أي عظيم الأمر باهر البرهان أي غالب الحجة وفائقها مركوز أي مدفون من ركزت الرمح غرزته في الأرض والكنوز الأموال المدفونة والصخور والحجارة العظام شبه بها عباراته الصعبة الجزلة لصعوبة التوصل بها إلى فهم المعاني التي هي بمنزلة الجواهر النفيسة والرمز الإشارة بالشفتين أو الحاجب تعدى بإلى فأصل الكلام مرموز إلى غوامض حذف الجار وأوصل الفعل فصار غوامض مسندا إليه والنكتة اللطيفة المنقحة من نكت في الأرض بالقضيب إذا ضرب فأثر فيها يعني قد أومأ إلى النكت الخفية اللطيفة في أثناء إشاراته الدقيقة والنظر تأمل الشيء (١/١٢) بالعين والإمعان فيه واللحظ النظر إلى الشيء بمؤخر العين واللحاظ بالفتح مؤخر العين والتنقيح التهذيب تقول نقحت الجذع وشذبته إذا قطعت ما تفرق من أغصانه ولم يكن في لبه وتنظيم الدرر في السلك جمعها كما ينبغي مترتبة متناسقة والكلام لا يخلو عن تعريض ما بان في أصول فخر الإسلام زوائد يجب حذفها وشتائت يجب نظمها ومغالق يجب حلها وأنه ليس بمبني على قواعد المعقول بأن يراعى في التعريفات والحجج شرائطها المذكورة في علم الميزان وفي التقسيمات عدم تداخل الأقسام إلى غير ذلك مما لم يلتفت إليه المشايخ قوله موردا فيه في ذلك المنقح الموصوف يعني كتابه وكذا الضمائر التي تأتي بعد ذلك قوله الإعجاز في الكلام أن يؤدى المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق ليس تفسير المفهوم إعجاز الكلام لأنه لا يلزم أن يكون بالبلاغة بل هو عبارة عن كون الكلام بحيث لا يمكن معارضته والإتيان بمثله من أعجزته جعلته عاجزا ولهذا اختلفوا في جهة إعجاز القرآن من الاتفاق على كونه معجزا فقيل إنه ببلاغته وقيل بإخباره عن المغيبات وقيل بأسلوبه الغريب وقيل بصرف اللّه العقول عن المعارضة بل المراد أن إعجاز كلام اللّه تعالى إنما هو بهذا الطريق وهو كونه في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة على ما هو الرأي الصحيح فباعتبار أنه يشترط في إعجاز الكلام كونه أبلغ من جميع ما عداه يكون واحدا لا تعدد فيه بخلاف سحر الكلام فإنه عبارة عن دقته ولطف مأخذه وهذا يقع على طرق متعددة ومراتب مختلفة فلهذا قال أهداب السحر بلفظ الجمع وعروة الإعجاز بلفظ المفرد وهدب الثوب ما على أطرافه وعروة الكوز كليته الذي تؤخذ عنه أخذه وهي أقوى من الهدب فخصها بالإعجاز الذي هو أوثق من السحر وفي الصحاح السحر الأخذة وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر ومعنى تمسكه بذلك مبالغته في تلطيف الكلام وتأدية المعاني بالعبارات اللائقة الفائقة حتى كأنه يتقرب إلى السحر والإعجاز وهاهنا بحثان الأول أن كون طريق تأدية المعنى أبلغ من جميع ما عداه من الطرق المحققة الموجودة غير كاف في الإعجاز بل لا بد من العجز عن معارضته والإتيان بمثله من الطرق المحققة والمقدرة حتى لا يمكن الإتيان بمثله غير مشروط لأن اللّه تعالى قادر على الإتيان بمثل القرآن مع كونه معجزا فما معنى قوله أبلغ من جميع ما عداه والثاني أن الطرف الأعلى من البلاغة وما يقرب منه من المراتب العلية التي لا يمكن للبشر الإتيان بمثله كلاهما معجز على ما ذكر في المفتاح ونهاية الإعجاز (١/١٣) وحينئذ يتعدد طريق الإعجاز أيضا بأن يكون على الطرف الأعلى أو على بعض المراتب القريبة (١/١٤) منه والجواب عن الأول أن الإعجاز ليس إلا في كلام اللّه تعالى ومعنى كونه أبلغ من جميع ما عداه أنه أبلغ من كل ما هو غير كلام اللّه تعالى محققا ومقدرا حتى لا يمكن الإتيان للغير بمثله وعن الثاني أن الإعجاز سواء كان في الطرف الأعلى أو فيما يقرب منه متحد باعتبار أنه حد من الكلام هو أبلغ مما عداه بمعنى أنه لا يمكن للغير معارضته والإتيان بمثله بخلاف سحر الكلام فإنه ليس له حد يضبطه قوله أصول الفقه الكتاب مرتب على مقدمة وقسمين لأن المذكور فيه إما مقاصد الفن أو لا الثاني المقدمة والأول إما أن يكون البحث فيه عن الأدلة وهو القسم الأول عن الأحكام وهو القسم الثاني إذ لا يبحث في هذا الفن عن غيرهما والقسم الأول مبني على أربعة أركان الكتاب والسنة والإجماع والقياس وهو مذيل ببابي الترجيح والاجتهاد والثاني على ثلاثة أبواب في الحكم والمحكوم به والمحكوم عليه وستعرف بيان الانحصار والمقدمة مسوقة لتعريف العلم وتحقيق موضوعه لأن من حق الطالب للكثرة المضبوطة بجهة واحدة أن يعرفها بتلك الجهة ليأمن من (١/١٥) فوات المقصود والاشتغال بغيره وكل علم هو كثرة مضبوطة بتعريفه الذي به يتميز عند الطالب وموضوعه الذي به يمتاز في نفسه عن سائر العلوم فحين تشوفت نفس السامع إلى التعريف ليتميز العلم عنده قال المصنف هذا الذي أذكره أصول الفقه إغناء للسامع عن السؤال وقال عن لسانه أصول الفقه ما هي ثم أخذ في تعريفه وأصول الفقه لقب لهذا الفن منقول عن مركب إضافي فله بكل اعتبار تعريف قدم بعضهم التعريف اللقبي نظرا إلى أن المعنى العلمي هو المقصود في الإعلام وأنه من الإضافي بمنزلة البسيط من المركب والمصنف قدم الإضافي نظرا إلى أن المنقول عنه مقدم وإلى أن الفقه مأخوذ في التعريف اللقبي فإن قدم تفسيره أمكن ذكره في اللقبي كما قال المصنف هو العلم بالقواعد التي يتوصل بها الفقه وإلا احتيج إلى إيراد تفسيره تارة في اللقبي وتارة في الإضافي كما في أصول ابن الحاجب ولما كان أصول الفقه عند قصد المعنى الإضافي جمعا وعند قصد المعنى اللقبي مفردا كعبد اللّه قال فنعرفها أولا باعتبار الإضافة بتأنيث الضمير وقال فالآن نعرفه باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص بتذكيره واللقب علم يشعر بمدح أو ذم وأصول الفقه علم لهذا الفن مشعر بكونه مبنى الفقه الذي به نظام المعاش ونجاة المعاد وذلك مدح قوله أما تعريفها باعتبار الإضافة فيحتاج إلى تعريف المضاف وهو الأصول والمضاف إليه وهو الفقه لأن تعريف المركب يحتاج إلى تعريف مفرداته الغير البينة ضرورة توقف معرفة الكل على معرفة أجزائه ويحتاج إلى تعريف الإضافة أيضا لأنها بمنزلة الجزء الصوري إلا أنهم لم يتعرضوا له للعلم بأن معنى إضافة المشتق وما في معناه اختصاص المضاف إليه باعتبار مفهوم المضاف مثلا دليل المسألة ما يختص بها باعتبار كونه دليلا عليها فأصل الفقه ما يختص به من حيث إنه مبني له ومستند إليه فالأصول جمع أصل وهو في اللغة ما يبنى عليه الشيء من حيث إنه يبتنى عليه وبهذا القيد خرج أدلة الفقه مثلا من حيث تبتنى على علم التوحيد فإنها بهذا الاعتبار فروع لا أصول وقيد الحيثية لا بد منه في تعريف الإضافيات إلا أنه كثيرا ما يحذف لشهرة أمره ثم (١/١٦) نقل الأصل في العرف إلى معان أخر مثل الراجح والقاعدة الكلية والدليل فذهب بعضهم إلى أن المراد هاهنا الدليل وأشار المصنف إلى أن النقل خلاف الأصل ولا ضرورة في العدول إليه لأن الابتناء كما يشمل الحسي كابتناء السقف على الجدران وابتناء أعالي الجدران على أساسه وأغصان الشجر على دوحته كذلك يشمل الابتناء العقلي كابتناء الحكم على دليله فهاهنا يحمل على المعنى اللغوي وبالإضافة إلى الفقه الذي هو معنى عقلي يعلم أن الابتناء هاهنا عقلي فيكون أصول الفقه ما يبنى هو عليه ويستند إليه لا معنى بمستند العلم ومبتناه إلا دليله وبهذا يندفع ما يقال إن المعنى العرفي أعني الدليل مراد قطعا فأي حاجة إلى جعله بالمعنى اللغوي الشامل للمقصود وغيره فإن قلت ابتناء الشيء على الشيء إضافة بينهما وهو أمر عقلي قطعا قلت أراد بالابتناء الحسي كون الشيئين محسوسين وحينئذ يدخل فيه مثل ابتناء السقف على الجدار وابتناء المشتق على المشتق منه كالفعل على المصدر أو أراد ما هو المعتبر في العرف من أن ابتناء السقف على الجدار بمعنى كونه مبتنيا عليه وموضوعا فوقه مما يدرك بالحس وحينئذ يخرج مثل ابتناء الفعل على المصدر من الحسي ولا يدخل في العقلي بتفسيره والحق أن ترتب الحكم على دليله لا يصلح تفسيرا للابتناء العقلي وإنما هو مثال له للقطع بأن ابتناء المجاز على الحقيقة والأحكام الجزئية على القواعد الكلية والمعلولات على عللّها والأفعال على المصادر وما أشبه ذلك ابتناء عقلي (١/١٧) قوله واعلم أن التعريف إما حقيقي الماهية إما أن يكون لها تحقق وثبوت مع قطع النظر عن اعتبار العقل أو لا الأولى الماهية الحقيقية أي الثابتة في نفس الأمر ولا بد فيها من احتياج بعض الأجزاء إلى البعض إذا كانت مركبة والثانية الماهية الاعتبارية أي الكائنة بحسب اعتبار العقل كما إذا اعتبر الواضع عدة أمور فوضع بإزائها اسما من غير احتياج الأمور بعضها إلى بعض كالأصل الموضوع بإزاء الشيء ووصف ابتناء الغير عليه والفقه الموضوع بإزاء المسائل المخصوصة والجنس الموضوع بإزاء الكلي المقول على الكثرة المختلفة الحقيقة والنوع الموضوع بإزاء الكلي المقول على الكثرة المتفقة الحقيقة في جواب ما هو والتمثيل بالمركبة من عدة أمور لا ينافي كون بعض الماهيات الاعتبارية بسائط على أن الحق أنها إنما يقال لها الأمور الاعتبارية لا الماهيات الاعتبارية إذا تمهد هذا فنقول ما يتعقله الواضع ليضع بإزائه اسما إما أن يكون له ماهية حقيقة أو لا وعلى الأول إما أن يكون متعقله نفس حقيقة ذلك الشيء أو وجودها واعتبارات منه فتعريف الماهية الحقيقية لمسمى الاسم من حيث إنها ماهية حقيقة تعريف حقيقي يفيد تصور الماهية في الذهن بالذاتيات كلها أو بعضها أو بالعرضيات أو بالمركب منهما وتعريف مفهوم الاسم وما تعقله الواضع فوضع الاسم بإزائه تعريف اسمي يفيد تبيين ما وضع الاسم بإزائه بلفظ أشهر كقولنا الغضنفر الأسد أو بلفظ يشتمل على تفصيل ما دل عليه الاسم إجمالا كقولنا الأصل ما يبتنى عليه غيره فتعريف المعلومات لا يكون إلا اسميا إذ لا حقائق لها بل مفهومات وتعريف الموجودات قد يكون اسميا وقد يكون حقيقيا إذ لها مفهومات وحقائق فإن قلت ظاهر عبارته مشعر بأن تعريف الماهيات الحقيقية حقيقي ألبتة كما أن تعريف الماهيات الاعتبارية اسمي ألبتة قلت في العدول عن ظاهر العبارة سعة إلا أن التحقيق أن الماهية الحقيقية قد تؤخذ من حيث إنها حقيقة مسمى الاسم وماهيته الثابتة في نفس الأمر وتعريفها بهذا الاعتبار حقيقي ألبتة لأنه جواب ل ما التي لطلب الحقيقة وهي متأخرة عن هل البسيطة الطالبة لوجود الشيء المتأخرة عن ما التي لطلب تفسير الاسم وبيان مفهومه وقد تؤخذ من حيث إنها مفهوم الاسم ومتعقل الواضع عند وضع الاسم وتعريفا بهذا الاعتبار اسمي ألبتة لأنه جواب عن ما التي لطلب مفهوم الاسم ومتعقل الواضع فهذا التعريف قد يكون نفس حقيقة ذلك الشيء بأن يكون متعقل الواضع نفس الحقيقة وقد يكون غيرها ولهذا صرحوا بأنه قد يتحد التعريف الاسمي والحقيقي إلا أنه قبل العلم بوجود الشيء يكون اسميا وبعد العلم بوجوده ينقلب حقيقيا مثلا تعريف المثلث في مبادئ الهندسة بشكل يحيط به ثلاثة أضلاع تعريف اسمي وبعد الدلالة على وجوده يصير هو بعينه تعريفا حقيقيا قوله وشرط لكلا التعريفين أي الحقيقي والاسمي الطرد والعكس أما الطرد فهو صدق المحدود على ما صدق عليه الحد مطردا كليا أي كلما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود وهو معنى قولهم كلما وجد الحد وجد المحدود فبالاطراد يصير الحد مانعا عن دخول غير المحدود (١/١٨) وأما العكس فأخذه بعضهم من عكس الطرد بحسب متفاهم العرف وهو جعل المحمول موضوعا مع رعاية الكمية بعينها كما يقال كل إنسان ضاحك وبالعكس أي كل ضاحك إنسان وكل إنسان حيوان ولا عكس أي ليس كل حيوان إنسانا فلهذا قال في العكس إن كل ما صدق عليه المحدود صدق عليه الحد عكسا لقولنا كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود فصار حاصل الطرد حكما كليا بالمحدود على الحد والعكس حكما كليا بالحد على المحدود وبعضهم أخذه من أن عكس الإثبات نفي ففسره بأنه كلما انتفى الحد انتفى المحدود أي كلما لم يصدق عليه الحد لم يصدق عليه المحدود فصار العكس حكما كليا بما ليس بمحدود على ما ليس بحد والحاصل واحد وهو أن يكون الحد جامعا لأفراد المحدود كلها قوله ولا شك أن تعريف الأصل اسمي لأنه تبيين أن لفظ الأصل في اللغة موضوع للمركب الاعتباري الذي هو الشيء مع وصف ابتناء الغير عليه أو احتياج الغير إليه وهذا لا دخل له في بيان فساد التعريف إذ عدم الاطراد مفسد له اسميا كان أو غيره ففي الجملة تعريف الأصل بالمحتاج إليه غير مطرد إذ لا يصدق أن كل محتاج إليه أصل لأن ما يحتاج إليه الشيء إما داخل فيه أو خارج عنه والأول إما أن يكون وجود الشيء معه بالقوة وهو المادة كالخشب للسرير أو بالفعل وهو الصورة كالهيئة السريرية له والثاني إن كان ما منه الشيء فهو الفاعل كالنجار للسرير وإن كان ما لأجله الشيء فهو الغاية كالجلوس على السرير وإلا فهو الشرط كآلات النجار وقابلية الخشب ونحو ذلك فهذه أقسام خمسة للمحتاج إليه لا يطلق لفظ الأصل لغة إلا على واحد منها هو المادة كما يقال أصل هذا السرير خشب كذا والأربعة الباقية يصدق على كل واحد منها أنه محتاج إليه (١/١٩) ولا يصدق عليه أنه أصل فلا يكون التعريف مطردا مانعا وهاهنا بحث من وجوه أحدها منع اشتراط الطرد في مطلق التعريف لا سيما في الاسمي فإن كتب اللغة مشحونة بتفسير الألفاظ بما هو أعم من مفهوماتها وقد صرح المحققون بأن التعريفات الناقصة يجوز أن تكون أعم بحيث لا يفيد الامتياز إلا عن بعض ما عدا المحدود وأن الغرض من تفسير الشيء قد يكون تميزه عن شيء معين فيكتفى بما يفيد الامتياز عنه كما إذا قصد التمييز بين الأصل والفروع فيفسر الأول بالمحتاج إليه والثاني بالمحتاج وثانيها منع عدم صدق الأصل على الفاعل كيف والفعل مترتب عليه ومستند إليه ولا معنى للابتناء إلا ذلك وثالثها أن كلامه في باب المجاز عند بيان جريان الأصالة والتبعية من الجانبين يدل على أن كل محتاج إليه فهو أصل ورابعها أنا إذا قلنا الفكر ترتيب أمور معلومة فلا شك أن الأمور المعلومة مادة للفكر وأصل له مع أن ابتناء الفكر عليها ليس حسيا وهو ظاهر ولا عقليا بتفسير المصنف وهو ترتب الحكم على دليله قوله والفقه نقل للمضاف تعريفين مقبولا ومزيفا وللمضاف إليه تعريفين صرح بتزييف أحدهما دون الآخر ثم ذكر من عنده تعريفا ثالثا فالأول معرفة النفس ما لها وما عليها يجوز أن يريد بالنفس العبد نفسه لأن أكثر الأحكام متعلقة بأعمال البدن وأن يريد النفس الإنسانية إذ بها الأفعال ومعها الخطاب وإنما البدن آلة وفسر المعرفة بإدراك الجزئيات عن دليل والقيد الأخير مما لا دلالة عليه أصلا لا لغة ولا اصطلاحا وذهب في قوله ما لها وما عليها إلى ما يقال إن اللام للانتفاع وعلى للتضرر وقيدهما بالأخروي احترازا عما تنتفيه النفس أو تتضرر في الدنيا من اللذات والآلام والمشعر بهذا التقيد شهرة أن الفقه من العلوم الدينية فذكر على هذا التقدير ثلاثة معان ثم ذكر معنيين آخرين فصارت المعاني المحتملة خمسة ثلاثة منها تشمل جميع أقسام ما يأتي به المكلف واثنان لا تشملها كلها والأقسام اثنا عشر لأن ما يأتي به المكلف إن تساوى فعله وتركه فمباح وإلا فإن كان فعله أولى فمع المنع عن الترك واجب وبدونه مندوب وإن كان تركه أولى فمع المنع عن الفعل بدليل قطعي حرام وبدليل ظني مكروه كراهة التحريم وبدون المنع عن الفعل مكروه كراهة التنزيه هذا على رأي محمد رحمه اللّه وهو المناسب هاهنا لأن المصنف جعل المكروه تنزيها مما يجوز فعله والمكروه تحريما مما لا يجوز فعله بل يجب تركه كالحرام وهذا لا يصح على رأيهما وهو أن ما يكون تركه أولى من فعله فهو مع المنع عن الفعل حرام وبدونه مكروه كراهة التنزيه إن كان إلى الحل أقرب بمعنى أنه لا يعاقب فاعله لكن يثاب تاركه أدنى ثواب وكراهة التحريم إن كان إلى الحرام أقرب بمعنى أن فاعله مستحق محذورا دون العقوبة بالنار كحرمان الشفاعة ثم المراد بالواجب ما يشمل الفرض أيضا لأن استعماله بهذا المعنى شائع عندهم كقولهم الزكاة واجبة والحج واجب بخلاف إطلاق الحرام على المكروه تحريما والمراد بالمندوب ما يشمل السنة والنقل فصارت الأقسام ستة ولكل منها طرفا فعل أي إيقاع على ما هو المعنى المصدري وترك أي عدم فعل فتصير اثني عشر والمراد بما يأتي به المكلف الفعل بمعنى الحاصل من المصدر كالهيئة التي تسمى صلاة والحالة التي تسمى صوما ونحو ذلك مما هو أثر صادر عن المكلف وطرف فعله إيقاعا وطرف تركه عدم إيقاعه والأمور المذكورة من الواجب والحرام وغيرهما وإن كانت في الحقيقة من صفات فعل المكلف خاصة إلا أنها قد تطلق على عدم الفعل (١/٢٠) أيضا فيقال عدم مباشرة الواجب حرام وعدم مباشرة الحرام واجب وهو المراد هاهنا وإنما فسر الترك بعدم الفعل ليصير قسما آخر إذ لو أريد به كف النفس لكان ترك الحرام مثلا فعل الواجب بعينه فإن قلت أي حاجة إلى اعتبار الفعل والترك وجعل الأقسام اثني عشر وهلا اقتصر على الستة بأن يراد بالواجب مثلا أهم من الفعل والترك قلت لأنه إذا قال الواجب يدخل فيما يثاب عليه لم يصح ذلك في الواجب بمعنى عدم فعل الحرام فلا بد من التفصيل المذكور ثم لا يخفى أن المراد أن عدم الإتيان بالواجب يستحق العقاب إلا أنه قد لا يعاقب لعفو من اللّه تعالى أو سهو من العبد أو نحو ذلك وباقي كلامه واضح إلا أن فيه مباحث الأول أنه جعل ترك الحرام مما لا يثاب عليه ولا يعاقب واعترض عليه بأنه واجب والواجب يثاب عليه وفي التنزيل وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وجوابه أن المثاب عليه فعل الواجب لا عدم مباشرة الحرام وإلا لكان لكل أحد في كل لحظة مثوبات كثيرة بحسب كل حرام لا يصدر عنه ونهي النفس كفها عن الحرام وهو من قبيل فعل الواجب ولا نزاع في أن ترك الحرام بمعنى كف النفس عنه عند تهيؤ الأسباب وميلان النفس إليه مما يثاب عليه والثاني أن المراد بالجواز في الوجه الرابع عدم منع الفعل والترك على ما يناسب الإمكان الخاص ليقابل الوجوب وفي الخامس عدم منع الفعل على ما يناسب الإمكان العام ليقابل الحرمة فإن قلت إن أريد بالجواز عدم منع الفعل والترك لم يصح قوله ففعل ما سوى الحرام والمكروه تحريما وترك ما سوى الواجب مما يجوز لها لأن ما سوى الحرام والمكروه تحريما يشمل الواجب مع أنه لا يجوز بهذا المعنى وكذا ترك ما سوى الواجب يشمل ترك الحرام والمكروه تحريما مع أنه لا يجوز قلت هذا مخصوص بقرينة التصريح بدخوله فيما يجب عليها والثالث أن ما يحرم عليها في الوجه الخامس بمعنى المنع عن الفعل يشمل الحرام والمكروه تحريما والرابع أن ليس المراد بمعرفة ما لها وما عليها تصورهما ولا التصديق بثبوتهما لظهور أن ليس الفقه عبارة عن تصور الصلاة وغيرها ولا عن التصديق بوجودها في نفس الأمر بل المراد معرفة أحكامها من الوجوب وغيره كالتصديق بأن هذا واجب وذاك حرام وإليه أشار بقوله كوجوب الإيمان فأحكام الوجدانيات من الوجوب ونحوه تدرك بالدليل وثبوتها في نفس الأمر بالوجدان كما في العمليات بعرف وجوب الصلاة بالدليل ووجودها بالحس ثم لا يخفى أن اعتراضه على التعريف الثاني بأنه لا يجوز أن يراد بالأحكام كلها ولا بعضها المعين ولا المبهم وارد هاهنا فيما لها وما عليها مع أن إطلاق اللفظ المحتمل للمعاني المتعددة مع عدم تعين المراد غير مستحسن في التعريفات قوله وقيل العلم عرف أصحاب الشافعي رحمه اللّه تعالى الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية وبيان ذلك أن متعلق العلم إما حكم أو غيره والحكم إما مأخوذ من الشرع أو لا والمأخوذ من الشرع إما أن يتعلق بكيفية العمل أو لا والعمل إما أن يكون العلم به حاصلا من دليله التفصيلي الذي نيط به الحكم أو لا فالعلم المتعلق بجميع الأحكام الشرعية العملية الحاصل من أدلتها التفصيلية هو الفقه وخرج العلم بغير الأحكام من الذوات والصفات والعلم بالأحكام الغير المأخوذة من الشرع كالأحكام المأخوذة من العقل كالعلم بأن العالم (١/٢١) حادث أو من الحس كالعلم بأن النار محرقة أو من الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع وخرج العلم بالأحكام الشرعية النظرية وتسمى اعتقادية وأصلية ككون الإجماع حجة والإيمان واجبا وخرج أيضا علم اللّه تعالى وعلم جبريل والرسول عليهما الصلاة والسلام وكذا علم المقلد لأنه لم يحصل من الأدلة التفصيلية قوله يمكن أن يراد بالحكم الحكم يطلق في العرف على إسناد أمر إلى آخر أي نسبته إليه بالإيجاب أو السلب وفي اصطلاح الأصول على خطاب اللّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وفي اصطلاح المنطق على إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة ويسمى تصديقا وهو ليس بمراد هاهنا لأنه علم والفقه ليس علما بالعلوم الشرعية والمحققون على أن الثاني أيضا ليس بمراد وإلا لكان ذكر الشرعية والعملية تكرارا بل المراد النسبة التامة بين الأمرين التي العلم بها تصديق وبغيرها تصور وإلى هذا أشار بقوله يخرج التصورات ويبقى التصديقات فيكون الفقه عبارة عن التصديق بالقضايا الشرعية المتعلقة بكيفية العمل تصديقا حاصلا من الأدلة التفصيلية التي نصبت في الشرع على تلك القضايا وفوائد القيود ظاهرة على هذا التقدير والمصنف جوز أن يراد بالحكم هاهنا مصطلح الأصول فاحتاج إلى تكلف في تبيين فوائد القيود وتعسف في تقدير مراد القوم فذهب إلى أن المراد بالشرعي ما يتوقف على الشرع ولا يدرك لولا خطاب الشارع والأحكام منها ما هو خطاب بما يتوقف على الشرع كوجوب الصلاة والصوم ومنها ما هو خطاب بما لا يتوقف عليه كوجوب الإيمان باللّه تعالى ووجوب تصديق النبي عليه السلام لأن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري تعالى وعلمه وقدرته وكلامه وعلى التصديق بنبوة النبي عليه السلام بدلالة معجزاته فلو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور فالتقييد بالشرعية يخرج هذه الأحكام لأنها ليست شرعية بمعنى التوقف على الشرع وإنما قال الخطاب بما يتوقف أو لا يتوقف لأن الحكم المفسر بالخطاب قديم عندهم فكيف يتوقف على الشرع ولقائل أن يمنع توقف الشرع على وجوب الإيمان ونحوه سواء أريد بالشرع خطاب اللّه تعالى أو شريعة النبي عليه السلام وتوقف التصديق بثبوت شرع النبي عليه السلام على الإيمان باللّه تعالى وصفاته وعلى التصديق بنبوة النبي عليه السلام ودلالة معجزاته لا يقتضي توقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا على العلم بوجوبهما غايته أنه يتوقف على نفس الإيمان والتصديق وهو غير مفيد ولا مناف لتوقف وجوب الإيمان ونحوه على الشرع كما هو المذهب عندهم من أن لا وجوب إلا بالسمع قوله ثم الشرعي أي المتوقف على الشرع إما نظري لا يتعلق بكيفية عمل وإما عملي (١/٢٢) يتعلق بها فالتقييد بالعملية لإخراج النظرية يكون الإجماع حجة وهذا إنما يصح على التقدير الثاني لو كان الحكم المصطلح شاملا للنظري وفيه كلام سيجيء قوله أي العلم الحاصل قد يتوهم أن قوله من أدلتها متعلق بالأحكام وحينئذ لا يخرج علم المقلد لأنه علم بالأحكام الحاصلة عن أدلتها التفصيلية وإن لم يكن علم المقلد حاصلا عن الأدلة فدفع ذلك متعلق بالعلم لا بالأحكام إذ الحاصل من الدليل هو العلم بالشيء لا الشيء نفسه على أنه إذا أريد بالحكم الخطاب فهو قديم لا يحصل من شيء ومعنى حصول العلم من الدليل أنه ينظر في الدليل فيعلم منه الحكم فعلم المقلد وإن كان مستندا إلى قول المجتهد المستند إلى علمه المستند إلى دليل الحكم لكنه لم يحصل من النظر في الدليل وقيد الأدلة بالتفصيلية لأن العلم بوجوب الشيء لوجود المقتضي أو بعدم وجوده لوجود النافي ليس من الفقه قوله ولا شك أنه مكرر ذهب ابن الحاجب إلى أن حصول العلم بالأحكام عن الأدلة قد يكون بطريق الضرورة كعلم جبريل والرسول عليهما السلام وقد يكون بطريق الاستدلال أو الاستنباط كعلم المجتهد والأول لا يسمى فقها اصطلاحا فلا بد من زيادة قيد الاستدلال أو الاستنباط احترازا عنه والمصنف توهم أنه احتراز عن علم المقلد فجزم بأنه مكرر لخروجه بقوله من أدلتها التفصيلية فإن قيل حصول العلم عن الدليل مشعر بالاستدلال إذ لا معنى لذلك إلا أن يكون العلم مأخوذا عن الدليل فيخرج علم جبريل والرسول عليهما السلام أيضا قلنا لو سلم فذكر الاستدلال للتصريح بما علم التزاما أو لدفع الوهم أو للبيان دون الاحتراز ومثله شائع في التعريفات قوله ولما عرف الفقه المذكور في كتب الشافعية أن خطاب اللّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين تعريف للحكم الشرعي المتعارف بين الأصوليين لا للحكم المأخوذ في تعريف الفقه والمصنف ذهب إلى أنه تعريف له وأن الشرعي قيد زائد على خطاب اللّه تعالى وأن كونه تعريفا للحكم الشرعي إنما هو رأي بعض الأشاعرة كل ذلك لعدم تصفحه كتبهم فنقول عرف بعض الأشاعرة الحكم الشرعي بخطاب اللّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين والخطاب في اللغة توجيه الكلام نحو الغير للإفهام ثم نقل إلى ما يقع به التخاطب وهو هاهنا الكلام النفسي الأزلي ومن ذهب إلى أن الكلام لا يسمى في الأزل خطابا فسر الخطاب بالكلام الموجه للإفهام أو الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيئ لفهمه ومعنى تعلقه بأفعال المكلفين تعلقه بفعل من أفعالهم وإلا لم يوجد حكم أصلا إذ لا خطاب يتعلق بجميع الأفعال فدخل في الحد خواص النبي عليه السلام كإباحة ما فوق الأربع من النساء وخرج خطاب اللّه المتعلق بأحوال ذاته وصفاته (١/٢٣) وتنزيهاته وغير ذلك مما ليس بفعل المكلف لا يقال إضافة الخطاب إلى اللّه تعالى تدل على أن لا حكم إلا خطابه تعالى وقد وجب طاعة النبي عليه السلام وأولي الأمر والسيد فخطابهم أيضا حكم لأنا نقول إنما وجبت طاعتهم بإيجاب اللّه تعالى إياها فلا حكم إلا حكمه تعالى ثم اعترض على هذا التعريف بأنه غير مانع لأنه يدخل فيه القصص المبينة لأحوال المكلفين وأفعالهم والأخبار المتعلقة بأعمالهم كقوله تعالى واللّه خلقكم وما تعملون مع أنها ليست أحكاما فزيد على التعريف قيد يخصصه ويخرج ما دخل فيه من غير أفراد المحدود وهو قولهم بالاقتضاء أو التخيير فإن تعلق الخطاب بالأفعال في القصص والإخبار عن الأعمال ليس تعلق الاقتضاء أو التخيير إذ معنى التخيير إباحة الفعل والترك للمكلف ومعنى الاقتضاء طلب الفعل منه مع المنع عن الترك وهو الإيجاب أو بدونه وهو الندب أو طلب الترك مع المنع عن الفعل وهو التحريم أو بدونه وهو الكراهة وقد يجاب بأنه لا حاجة إلى زيادة قولهم بالاقتضاء أو التخيير لأن قيد الحيثية مراد والمعنى خطاب اللّه المتعلق بفعل المكلف من حيث هو فعل المكلف وليس تعلق الخطاب بالأفعال في صور النقض من حيث إنها أفعال المكلفين وهو ظاهر قوله وقد زاد البعض اعترضت المعتزلة على هذا التعريف بثلاثة أوجه الأول أن الخطاب عندكم قديم والحكم حادث لكونه متصفا بالحصول بعد العدم كقولنا حلت المرأة بعد ما لم تكن حلالا ولكونه معللا بالحادث كقولنا حلت بالنكاح وحرمت بالطلاق الثاني أنه يشتمل على كلمة أو وهو للتشكيك والترديد فينا في التعريف والتحديد الثالث أنه غير جامع للأحكام الوضعية مثل سببية الدلوك لوجوب الصلاة وشرطية الطهارة لها ومانعية النجاسة عنها والمصنف أهمل في تفسير الخطاب الوضعي ذكر المانعية فأجابت الأشاعرة عن الأول بمنع اتصاف الحكم بالحصول بعد العدم بل المتصف بذلك هو التعلق والمعنى تعلق الحل بها بعد ما لم يكن متعلقا وبمنع تعليل الحكم بالحادث بمعنى تأثير الحادث فيه بل معناه كون الحادث أمارة عليه ومعرفا له إذ العلل الشرعية أمارات ومعرفات لا موجبات ومؤثرات والحادث يصلح أمارة ومعرفا للقديم كالعالم للصانع وعن الثاني بأن أو هاهنا لتقسيم المحدود وتفصيله لأنه نوعان نوع له تعلق الاقتضاء ونوع له تعلق التخيير فلا يمكن جمعهما في حد واحد بدون التفصيل وأما الثالث فالتزمه بعضهم وزاد في التعريف قيدا يعمه ويجعله شاملا للحكم الوضعي فقال بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع أي وضع الشارع وجعله وأجاب بعضهم بأنا لا نسلم أن خطاب الوضع حكم ونحن لا نسميه حكما وإن اصطلح غيرنا على تسميته حكما فلا مشاحة معه وعليه تغيير التعريف ولو سلم (١/٢٤) فلا نسلم خروجها عن الحد فإن مرادنا من الاقتضاء والتخيير أعم من التصريح والضمني وخطاب الوضع من قبيل الضمني إذ معنى سببية الدلوك وجوب الصلاة عنده ومعنى شرطية الطهارة وجوبها في الصلاة أو حرمة الصلاة بدونها ومعنى مانعية النجاسة حرمة الصلاة معها أو وجوب إزالتها حالة الصلاة وكذا في جميع الأسباب والشروط والموانع وذهب المصنف أن الحق زيادة القيد لأن الخطاب نوعان تكليفي ووضعي فلما ذكر أحدهما وجب ذكر الآخر ولا وجه لجعل الوضع داخلا في الاقتضاء أو التخيير أي في التكليفي لأنهما مفهومان متغايران ولزوم أحدهما للآخر في بعض الصور لا يدل على اتحادهما وأنت خبير بأنه لا توجيه لهذا الكلام أصلا أما أولا فلأن الخصم يمنع كون الخطاب الوضعي حكما ويصطلح على تسمية بعض أقسام الخطاب حكما دون البعض فكيف يجب عليه ذكر الوضعي في تعريف الحكم بل كيف يصح وأما ثانيا فلأنه يمنع كونه خارجا عن التعريف ويجعل الخطاب التكليفي أعم منه شاملا له فأي ضرر له في تغاير مفهوميهما بل كيف يتحد مفهوم العام والخاص على أن قوله المفهوم من الخطاب الوضعي تعلق شيء بشيء فيه تسامح والمعنى أن المفهوم منه الخطاب بتعلق شيء بشيء لكونه شرطا له أو سببا أو مانعا قوله وبعضهم عرف ذكر في بعض المختصرات أن الحكم خطاب اللّه تعالى إشارة إلى الحكم الشرعي المعهود وصرح في كثير من الكتب بأن الحكم الشرعي خطاب اللّه تعالى فتوهم المصنف أن هذا تعريف للحكم عند البعض وللحكم الشرعي عند البعض ولا خلاف لأحد من الأشاعرة في أن هذا التعريف للحكم الشرعي قال المصنف إذا كان تعريفا للحكم فمعنى الشرعي (١/٢٥) ما يتوقف على الشرع ليكون قيدا مفيدا مخرجا لوجوب الإيمان ونحوه وإذا كان تعريفا للحكم الشرعي فمعنى الشرعي ما ورد به خطاب الشرع لا ما يتوقف على الشرع وإلا لكان الحد أعم من المحدود لتناوله مثل وجوب الإيمان مع أن المحدود لا يتناوله حينئذ لعدم توقفه على الشرع قوله فالحكم على هذا أي على تقدير أن يكون خطاب اللّه إلخ تعريفا للحكم الشرعي إسناد أمر إلى آخر لا خطاب اللّه تعالى المتعلق بفعل المكلف وإلا لكان ذكر الشرعية مكررا لما سبق من أن الشرع على هذا التقدير ما ورد به خطاب الشرع لا ما يتوقف على الشرع فإن قيل فيدخل في الأحكام الشرعية مثل وجوب الإيمان من أنه ليس من الفقه قلنا يخرج بقيد العملية قوله والفقهاء يريد أن الحكم في اصطلاح الفقهاء حقيقة فيما ثبت بالخطاب من الوجوب والحرمة ونحوهما وهو مجاز لغوي حيث أطلق المصدر أعني الحكم على المفعول أعني المحكوم به قوله يرد عليه إشارة إلى اعتراضات على تعريف الحكم مع الجواب عن البعض الأول أن المقصود تعريف الحكم المصطلح بين الفقهاء وهو ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة وغيرهما مما هو من صفات فعل المكلف لا نفس الخطاب الذي هو من صفات اللّه تعالى وهذا مما أورد في كتب الشافعية وأجيب عنه بوجوه الأول أنه كما أريد بالحكم ما حكم به أريد بالخطاب ما خوطب به للقرينة العقلية على أن الوجوب ليس نفس كلام اللّه الثاني أن الحكم هو الإيجاب والتحريم ونحوهما وإطلاقه على الوجوب والحرمة تسامح الثالث وهو للعلامة المحقق عضد الملة والدين أن الحكم نفس خطاب اللّه تعالى فالإيجاب هو نفس قوله افعل وليس للفعل منه صفة حقيقية فإن القول ليس لمتعلقه منه صفة لتعلقه بالمعدوم وهو إذا نسب إلى الحاكم يسمى إيجابا وإذا نسب إلى ما فيه الحكم وهو الفعل يسمى وجوبا وهما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار فلذلك تراهم يجعلون أقسام الحكم الوجوب والحرمة مرة والإيجاب والتحريم (١/٢٦) أخرى وتارة الوجوب والتحريم كما في أصول ابن الحاجب الثاني أنه غير منعكس لخروج الأحكام المتعلقة بأفعال الصبيان فالأولى أن يقال المتعلق بأفعال العباد وقد أجيب عن ذلك في كتبهم بأن الأحكام التي يتوهم تعلقها بفعل الصبي إنما هي متعلقة بفعل الولي مثلا يجب عليه أداء الحقوق من مال الصبي ورده المصنف أولا بأنه لا يصح في جواز بيعه وصحة إسلامه وصلاته وكونها مندوبة وثانيا بأن تعلق الحق بمال الصبي أو ذمته حكم شرعي وأداء الولي حكم آخر مترتب عليه وهذا السؤال لا يتأتى على مذهب من عرف الحكم بهذا التعريف فإنهم مصرحون بأن لا حكم بالنسبة إلى الصبي إلا وجوب أداء الحق من ماله وذلك على الولي ثم لا يخفى أن تعلق الحكم بماله أو ذمته لا يدخل في تعريف الحكم وإن أقيم العباد مقام المكلفين لانتفاء التعلق بالأفعال بأن الصحة والفساد ليسا من الأحكام الشرعية لأن كون المأتي به موافقا لما ورد به الشرع أو مخالفا أمر يعرف بالعقل ككون الشخص مصليا أو تاركا للصلاة ومعنى جواز البيع صحته ومعنى كون صلاته مندوبة أن الولي مأمور بأن يحرضه على الصلاة ويأمره بها لقوله عليه السلام مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع الثالث أن التعريف غير متناول للحكم الثابت بالقياس لعدم خطاب اللّه تعالى وأجاب بأن القياس مظهر للحكم لا مثبت ولا يخفى عليك أن السؤال وارد فيما ثبت بالسنة والإجماع أيضا والجواب أن كلا منهما كاشف عن خطاب اللّه ومعرف له وهذا معنى كونها أدلة الأحكام الرابع أنه غير شامل للأحكام المتعلقة بأفعال القلب مثل وجوب الإيمان أي التصديق ووجوب الاعتبار أي القياس لأن الظاهر من الأفعال أفعال الجوارح الخامس أنه لما أخذ في تعريف الحكم المتعلق بفعل المكلف اختص بالعمليات وخرجت النظريات بناء على اختصاص الفعل بالجوارح فيكون ذكر العملية في تعريف الفقه مكررا وأجاب عنهما بأن المراد بالفعل ما يعم القلب والجوارح وبالعمل ما يخص الجوارح فلا يخرج مثل وجوب الإيمان والاعتبار عن تعريف الحكم ولا يكون ذكر العملية مكررا لإفادته خروج ما لا يتعلق بفعل الجوارح عن تعريف الفقه ولقائل أن يقول إذا حمل الحكم في تعريف الفقه على المصطلح فذكر العملية مكرر قطعا لأن مثل وجوب الإيمان خارج بقيد الشرعية على ما مر ومثل كون الإجماع حجة غير داخل في الحكم المصطلح لخروجه بقيد الاقتضاء أو التخيير لا يقال معنى كون السنة والإجماع والقياس حججا وجوب العمل بمقتضاها فيدخل في الاقتضاء الضمني لأنا نقول فحينئذ لا يخرج بقيد العملية (١/٢٧) ويلزم أن يكون العلم به من الفقه ويمكن أن يقال إن التقييد بالعملية يقيد إخراج مثل جواز الإجماع ووجوب القياس وهو حكم شرعي قوله والشرعية ما لا يدرك لولا خطاب الشارع بنفس الحكم أو بأصله المقيس هو عليه فيخرج عنها وجوب الإيمان ويدخل مثل كون الإجماع أو القياس حجة على تقدير أن يكون حكما وإنما لم يفسر الشرعية بما ورد به خطاب الشرع لأن التقدير أن الحكم مفسر بخطاب اللّه تعالى إلى آخره وحينئذ يكون تقييده بالشرع تكرارا أو عند الأشاعرة ما ورد به خطاب الشرع في قوله ما لا يدرك لولا خطاب الشرع إذ لا مجال للعقل في درك الأحكام فلو كان خطاب اللّه تعالى إلى آخره تعريفا للحكم على ما زعم المصنف لا للحكم الشرعي لكان ذكر الشرعي تكرارا ألبتة أي تفسير فسر قوله فيدخل يريد أن تعريف الفقه على رأي الأشاعرة شامل للعلم عن دليل بحسن الجود والتواضع أي وجوبهما أو ندبهما وقبح البخل والتكبر أي حرمتهما أو كراهتهما وما أشبه ذلك لأنها أحكام لا تدرك لولا خطاب الشرع على رأيهم مع أن العلم بها من علم الأخلاق لا من علم الفقه وأقول إنما يلزم ذلك لو كانت هذه الأحكام عملية بالمعنى المذكور وهو ممنوع كيف والأمور المذكورة أخلاق ملكات نفسانية جعل المصنف العلم بحسنها وقبحها من علم الأخلاق وقد صرح فيما سبق بأنه يزاد عملا على معرفة النفس ما لها وما عليها ليخرج علم الأخلاق وبأن معرفة ما لها وما عليها من الوجدانيات أي الأخلاق الباطنية والملكات النفسانية علم الأخلاق ومن العمليات علم الفقه فكأنه نسي ما ذكره ثمة أو ذهل عن قيد العملية هاهنا قوله ولا يراد عليه المصطلح بين الشافعية أن العلم بالأحكام إنما يسمى فقها إذا كان حصوله بطريق النظر والاستدلال حتى أن العلم بوجوب الصلاة والصوم ونحو ذلك مما اشتهر كونه من الدين بالضرورة بحيث يعلمه المتدين وغيره لا يعد من الفقه اصطلاحا ولهذا يذكرون قيد (١/٢٨) الاكتساب والاستدلال فالإمام قيد في المحصول الأحكام بالتي لا يعلم كونها من الدين بالضرورة وقال هو احتراز عن العلم بوجوب الصلاة والصوم فإنه لا يسمى فقها بمعنى أنه لا يدخل في مسمى الفقه ولا يعد منه على ما صرح به في قيد العملية لا بمعنى أنه لو لم يحترز عنه لزم أن يكون العالم بمجرد وجوبهما فقيها على ما فهمه المصنف فاعترض بمنع لزوم ذلك بناء على أن الفقيه من له الفقه والفقه ليس علما ببعض الأحكام وإن قل حتى يكون العالم بمسألة أو مسألتين فقيها بل العالم بمائة مسألة غريبة استدلالية وحدها لا يسمى فقيها ثم إذا كان اصطلاحهم على أن العلم بضروريات الدين ليس من الفقه فلا بد من إخراجها عن تعريفهم الفقه فلا يكون القيد المخرج لها ضائعا ولا القول بكونها من الفقه صحيحا عندهم ولا الاصطلاح على ذلك صالحا للاعتراض عليهم قوله ثم اعلم أنه لا يراد بالأحكام اعتراض على تعريف الفقه بأن المراد بالأحكام إما الكل أي المجموع وإما كل واحد وإما بعض له نسبة معينة إلى الكل كالنصف أو الأكثر كالثلثين مثلا وإما البعض مطلقا وإن قل والأقسام بأسرها باطلة أما الأول فلأن الحوادث وإن كانت متناهية في نفسها بانقضاء دار التكليف إلا أنها لكثرتها وعدم انقطاعها ما دامت الدنيا غير داخلة تحت حصر الحاصرين وضبط المجتهدين وهو المعني بقوله لا تكاد تتناهى فلا يعلم أحكامها جزئيا فجزئيا لعدم إحاطة البشر بذلك ولا كليا تفصيليا لأنه لا ضابط يجمعها لاختلاف الحوادث اختلافا لا يدخل (١/٢٩) تحت الضبط فلا يكون أحد فقيها وأما الثاني فلأن بعض من هو فقيه بالإجماع قد لا يعرف بعض الأحكام كمالك سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري وأما الثالث فلأن الكل مجهول الكمية والجهل بكمية الكل يستلزم الجهل بكمية الكسور المضافة إليه من النصف وغيره ضرورة وبهذا يظهر أنه لا يصح أن يراد أكثر الأحكام لأنه عبارة عما فوق النصف وهو أيضا مجهول وأما الرابع فلأنه يستلزم أن يكون العالم بمسألة أو مسألتين من الدليل فقيها وليس كذلك اصطلاحا وهذا مذكور فيما سبق فلم يصرح به هاهنا بل أشار إليه بلفظ ثم أي بعدما لا يراد البعض وإن قل لإيراد الكل إلى آخره وهاهنا بحث وهو أن من الأحكام ما يصح حمله على الكل دون كل واحد كقولنا كل القوم يرفع هذا الحجر لا كل واحد منهم ومنها ما هو بالعكس كقولنا كل واحد من الناس يكفيه هذا الطعام لا كل الناس ومنها ما لا يختلف كقولنا ضربت كل القوم أو كل واحد منهم ومعرفة الأحكام من هذا القبيل إذ معرفة جميع الأحكام معرفة كل حكم وبالعكس وإن التزم المصنف أن معرفة جميع الأحكام أعم من معرفة كل واحد أو البعض فقط فعدم تناهي الحوادث لا ينافي ذلك والظاهر أنه قصد بالكل مجموع الأحكام الماضية والآتية وبكل واحد ما يقع ويدخل في الوجود على التفصيل ويلتفت إليه ذهن المجتهدين حيث علل عدم إرادة الأول بلا تناهي الحوادث والثاني بثبوت لا أدري ولما أجاب ابن الحاجب بأن المراد بالأحكام المجموع ومعنى العلم بها التهيؤ لذلك رده المصنف بأن التهيؤ البعيد حاصل لغير الفقيه والقريب غير مضبوط إذ لا يعرف أن أي قدر من الاستعداد يقال له التهيؤ القريب ولما فسر التهيؤ بكون الشخص بحيث يعلم بالاجتهاد حكم كل واحد من الحوادث لاستجماعه المأخذ والأسباب والشرائط التي يتمكن بها من تحصيلها ويكفيه الرجوع إليها في معرفة الأحكام رده المصنف بأربعة أوجه يمكن الجواب عنها بأنا لا نسلم أن عدم تيسر معرفة بعض الأحكام لبعض الفقهاء أو الخطأ في الاجتهاد ينافي التهيؤ بالمعنى المذكور لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة أو وجود الموانع أو معارضة الوهم العقلي أو مشاكلة الحق الباطل ونحو ذلك ولا نسلم أن شيئا من الأحكام التي لم يرد بها نص ولا إجماع يكون بحيث لا مساغ فيه للاجتهاد ويدل عليه حديث معاذ رضي اللّه عنه حيث اعتمد الاجتهاد برأيه فيما لا يجد فيه النص ولم يقل النبي عليه السلام فإن لم يكن محل للاجتهاد ولا نسلم أن لا دلالة للفظ العلم على التهيؤ المخصوص فإن معناه ملكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام وإطلاق العلم عليها شائع ذائع في العرف كقولهم في تعريف العلوم علم كذا وكذا فإن المحققين على أن المراد به هذه الملكة ويقال لها أيضا الصناعة لا نفس الإدراك وكقولهم وجه الشبه بين العلم والحياة كونهما جهتي الإدراك قوله بل هو العلم تعريف مخترع للفقه بحيث تنضبط معلوماته والتقييد بكل الأحكام يخرج به البعض إلا أنه يدل على أنه إذا ظهر نزول الوحي بحكم أو بحكمين فالعالم به مع الملكة المذكورة (١/٣٠) لا يسمى فقيها وإذا علم ثلاثة أحكام يسمى فقيها وقيد نزول الوحي بالظهور احترازا عما نزل به الوحي ولم يبلغ بعد فليس من شرط الفقيه معرفته قوله مع ملكة الاستنباط أي العلم بما ذكر بشرط كونه مقرونا بملكة استنباط الفروع القياسية من تلك الأحكام أو استنباط الأحكام من أدلتها حتى إن العلم بالحكم بمجرد سماع النص للعلم باللغة من غير اقتدار على النظر والاستدلال لا يعد من الفقه والأول أوجه قوله لا المسائل القياسية أي لا يشترط في الفقيه العلم بالمسائل القياسية لأنها نتيجة الفقاهة والاجتهاد لكونها فروعا مستنبطة بالاجتهاد فيتوقف العلم بها على كون الشخص فقيها فلو توقفت الفقاهة عليها لزم الدور فإن قيل هذا إنما يستقيم في أول القائسين وأما من بعده فيجوز أن يشترط فيه العلم بالمسائل القياسية التي استنبطها المجتهد الأول من غير لزوم دور قلنا لا يجوز للمجتهد التقليد بل يجب عليه أن يعرف المسائل القياسية باجتهاده فلو اشترط العلم بها لزم الدور نعم يشترط أن يعرف أقوال المجتهدين في المسائل القياسية لئلا يقع في مخالفة الإجماع فإن قيل المسائل القياسية مما ظهر نزول الوحي بها إذ القياس مظهر لا مثبت فيشترط للمجتهد الأخير العلم بها قلنا نزول الوحي بها إنما ظهر للمجتهد السابق لا في الواقع ولا عند المجتهد الثاني وليس له تقليد الأول فلا يشترط له معرفته ويمكن أن يراد ما ظهر نزول الوحي به لا يتوسط القياس ثم هاهنا أبحاث الأول أن المقصود تعريف الفقه المصطلح بين القوم وهو عندهم اسم لعلم مخصوص معين كسائر العلوم وعلى ما ذكره المصنف هو اسم لمفهوم كلي يتبدل بحسب الأيام والأعصار فيوما يكون علما بجملة من الأحكام ويوما بأكثر وأكثر وهكذا يتزايد إلى انقراض زمن النبي عليه السلام ثم أخذ يتزايد بحسب الأعصار وانعقاد الإجماعات وأيضا ينتقص بحسب النواسخ والإجماع على خلاف أخبار الآحاد الثاني أن التعريف لا يصدق على فقه الصحابة في زمن النبي عليه السلام لعدم الإجماع في زمانه وكأنه أراد أنه العلم بما ظهر نزول الوحي به فقط إن لم يكن إجماع وبه وبما انعقد عليه الإجماع إن كان ومثله في التعريفات بعيد الثالث أنه يلزم أن يكون العلم بالأحكام القياسية خارجا عن الفقه وذلك عندهم معظم مسائل الفقه اللّهم إلا أن يقال إنه فقه بالنسبة إلى من أدى إليه اجتهاده إذ قد ظهر عليه نزول الوحي به وحينئذ (١/٣١) يكون الفقه بالنسبة إلى كل مجتهد شيئا آخر الرابع أنه إن أريد بظهور نزول الوحي لظهور في الجملة فكثير من فقهاء الصحابة لم يعرفوا كثيرا من الأحكام التي ظهر نزول الوحي بها على بعض الصحابة كما رجعوا في كثير من الوقائع إلى عائشة رضي اللّه تعالى عنها ولم يقدح ذلك في فقاهتهم وإن أريد الظهور على الأعم الأغلب فهو غير مضبوط لكثرة الرواة وتفرقهم في الأسفار والأشغال ولو سلم فيلزم أن لا يكون العلم بالحكم الذي يرويه الآحاد من الفقه حتى يصير شائعا ظاهرا على الأكثر فيصير فقها وبالجملة هذا التعريف لا يخلو عن الإشكال والاختلال قوله فجوابه أولا مشعر بأن ما أظهر القياس نزول الوحي به فهو خارج عن الفقه للقطع بأنه ظني ثم ما ورد به النص أو الإجماع أيضا إنما يكون قطعيا إذا كان ثبوتهما أيضا قطعيا القطع بأن الأحكام الثابتة بأخبار الآحاد ظنية قوله وثالثا هو الذي ذكر في المحصول وغيره أن الحكم مقطوع والظن في طريقه وتقريره أنه لما دل الإجماع على وجوب العمل بالظن وكثرت أخبار الآحاد في ذلك حتى صارت متواترة المعنى وهذا معنى اعتبار الشارع غلبة الظن في الأحكام صار ذلك بمنزلة نص قطعي من الشارع على أن كل حكم يغلب على ظن المجتهد فهو ثابت في علم اللّه فيكون ثبوت الحكم المظنون قطعيا فيصح إطلاق العلم على إدراكه هذا على تقدير تصويب كل مجتهد فإن قيل المظنون ما يحتمل النقيض والمعلوم ما لا يحتمله فيتنافيان قلنا يكون مظنونا فيصير معلوما بملاحظة هذا القياس وهو أنه قد علم كونه مظنونا للمجتهد وكل ما علم كونه مظنونا للمجتهد على كونه ثابتا في نفس الأمر قطعا بناء على تصويب كل مجتهد وأما على تقدير أن المصيب واحد فكأنه ثبت نص قطعي على أن كل حكم غلب على ظن المجتهد فهو واجب العمل أو ثابت بالنظر إلى الدليل وإن لم يكن ثابتا في علم اللّه تعالى فيكون وجوب العمل به أو ثبوته بالنظر إلى الدليل قطعيا لكن يلزم على الأول أن يكون الفقه عبارة عن العلم بوجوب العمل بالأحكام وعلى الثاني أن يكون الثابت بالنظر إلى الدليل الظني وإن لم يعلم ثبوته في الواقع قطعيا وأنت تعلم أن الثابت القطعي ما لا يحتمل عدم الثبوت في الواقع وغاية ما أمكن في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين في شرح المنهاج وهو أن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به قطعا للدليل القاطع وكل حكم يجب العمل به قطعا علم (١/٣٢) قطعا أنه حكم للّه تعالى وإلا لم يجب العمل به وكل ما علم قطعا أنه حكم اللّه تعالى فهو معلوم قطعا فكل ما يجب العمل به معلوم قطعا فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا فالفقه علم قطعي والظن وسيلة إليه وحله أنا لا نسلم أن كل حكم يجب العمل به قطعا علم قطعا أنه حكم اللّه تعالى لم لا يجوز أن يجب العمل قطعا بمن يظن أنه حكم اللّه فقوله وإلا لم يجب العمل به عين النزاع وإن بنى ذلك على أن كل ما هو مظنون المجتهد فهو حكم اللّه تعالى قطعا كما هو رأي البعض يكون ذكر وجوب العمل ضائعا لا معنى له أصلا قوله وأصول الفقه ما سبق كان بيان مفهوم أصول الفقه وهذا بيان ما صدق عليه هذا المفهوم من الأنواع المنحصرة بحكم الاستقراء في الأربعة ووجه ضبطه أن الدليل الشرعي إما وحي أو غيره والوحي إن كان متلوا فالكتاب وإلا فالسنة وغير الوحي إن كان قول كل الأمة في عصر فالإجماع وإلا فالقياس أو أن الدليل إما أن يصل من الرسول عليه السلام أو لا والأول إن تعلق بنظمه الإعجاز فالكتاب وإلا فالسنة والثاني إن اشترط عصمة من صدر عنه فالإجماع وإلا فالقياس وأما شرائع من قبلنا والتعامل وقول الصحابي ونحو ذلك فراجعة إلى الأربعة وكذا المعقول نوع استدلال بأحدها وإلا فلا دخل للرأي في إثبات الأحكام وما جعله بعضهم نوعا خامسا من الأدلة وسماه الاستدلال فحاصله يرجع إلى التمسك بمعقول النص أو الإجماع صرح بذلك في الأحكام ثم الثلاثة الأول أصول مطلقة لكونها أدلة مستقلة مثبتة للأحكام والقياس أصل من وجه لاستناد الحكم إليه ظاهرا دون وجه لكونه فرعا للثلاثة لابتنائه على علة مستنبطة من موارد الكتاب والسنة والإجماع فالحكم بالتحقيق مستند إليها وأثر القياس في إظهار الحكم وتغيير وصفه من الخصوص إلى العموم ومن هنا يقال أصول الفقه ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع (١/٣٣) والأصل الرابع القياس المستنبط من هذه الأصول الثلاثة واعترض بوجوه الأول أنه لا معنى للأصل المطلق إلا ما يبتنى عليه غيره سواء كان فرعا لشيء آخر أو لم يكن ولهذا صح إطلاقه على الأب وإن كان فرعا الثاني أن السبب القريب للشيء مع أنه مسبب عن البعيد أولى بإطلاق اسم السبب عليه من البعيد وإن لم يكن مسببا عن شيء آخر الثالث أن أولوية بعض الأقسام في معنى المقسم لازمة في كل قسمة فيلزم أن بفرد القسم الضعيف فيقال مثلا الكلمة قسمان اسم وفعل والقسم الثالث هو الحرف الرابع أن تغيير الحكم من الخصوص إلى العموم لا يمكن إلا بتقديره في صورة أخرى وهو معنى الأصالة المطلقة الخامس أن الإجماع أيضا يفتقر إلى السند فينبغي أن لا يكون أصلا مطلقا والجواب عن الأول أنا لا ندعي أن لعدم الفرعية دخلا في مفهوم الأصل بل إن الأصل مقول بالتشكيك وإن الأصل الذي يستقل في معنى الأصالة وابتناء الفرع عليه كالكتاب مثلا أقوى من الأصل الذي يبتنى في ذلك المعنى على شيء آخر بحيث يكون فرعه في الحقيقة مبتنيا على ذلك الشيء كالقياس والأضعف غير داخل في الأصل المطلق بمعنى الكامل في الأصالة وهذا بين وأما الأب فإنما يبتنى على أبيه في الوجود لا في الأبوة والأصالة للولد فلا يكون مما ذكرنا في شيء وعن الثاني أن السبب القريب هو المؤثر في فرعه والمفضي إليه وأثر البعيد إنما هو في الواسطة التي هي السبب القريب لا في فرعه فبالضرورة يكون أولى وأقوى من البعيد في معنى السببية والأصالة لذلك الفرع وفيما نحن فيه القياس ليس بمثبت لحكم الفرع فضلا عن أن يكون قريبا ليكون أولى بالأصالة بل هو مظهر لاستناد حكم الفرع إلى النص أو الإجماع وعن الثالث أنا لا نسلم لزوم أولوية بعض الأقسام في كل تقسيم وكيف يتصور ذلك في تقسيم الماهيات الحقيقية إلى أنواعها وأفرادها كتقسيم الحيوان إلى الإنسان وغيره ولو سلم لزوم ذلك في كل قسمة فلا نسلم لزوم الإشارة إلى ذلك والتنبيه عليه غاية ما في الباب أنه يجوز عن الرابع أنه إن أريد بالتقدير التقرير بحسب الواقع حتى يكون القياس هو الذي يقرر الحكم ويثبته في صورة الفرع فلا نسلم امتناع التغيير بدونه وإن أريد التقرير بحسب علمنا فهو لا يقتضي إسناد الحكم حقيقة إلى القياس ليكون أصلا له كاملا وعن الخامس بعد تسليم ما ذكر أن الإجماع إنما يحتاج إلى السند في تحققه لا في نفس الدلالة على الحكم فإن المستدل به لا يفتقر إلى ملاحظة السند والالتفات إليه بخلاف القياس (١/٣٤) فإن الاستدلال به لا يمكن بدون اعتبار أحد الأصول الثلاثة والعلة المستنبطة منها وقد يجاب بأن الإجماع يثبت أمرا زائدا على ما يثبته السند وهو قطعية الحكم بخلاف القياس فإنه لا يفيد زيادة بل ربما يورثه نقصانا بأن يكون حكم الأصل قطعيا وحكمه ظني قوله وعلى الفقه بعد ما تقرر أن أصول الفقه لقب للعلم المخصوص لا حاجة إلى إضافة العلم إليه إلا أن يقصد زيادة بيان وتوضيح كشجر الأراك والقاعدة حكم كلي ينطبق على جزئياته ليتعرف أحكامها منه كقولنا كل حكم دل عليه القياس فهو ثابت والتوصل القريب مستفاد من الباء السببية الظاهرة في السبب القريب ومن إطلاق التوصل إلى الفقه إذ في البعيد يتوصل إلى الواسطة ومنها إلى الفقه فيخرج العلم بقواعد العربية والكلام لأنها من مبادئ أصول الفقه والتوصل بهما إلى الفقه ليس بقريب إذ يتوصل بقواعد العربية إلى معرفة كيفية دلالة الألفاظ على مدلولاتها الوضعية وبواسطة ذلك يقتدر على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وكذلك يتوصل بقواعد الكلام إلى ثبوت الكتاب والسنة ووجوب صدقهما ليتوصل بذلك إلى الفقه والتحقيق في هذا المقام أن الإنسان لم يخلق عبثا ولم يترك سدى بل تعلق بكل من أعمال حكم من قبل الشارع منوط بدليل يخصه ليستنبط منه عند الحاجة ويقاس على ذلك الحكم ما يناسبه لتعذر الإحاطة بجميع الجزئيات فحصلت قضايا موضوعاتها أفعال المكلفين ومحمولاتها أحكام الشارع على التفصيل فسمي العلم بها الحاصل من تلك الأدلة فقها ثم نظروا في تفاصيل تلك الأدلة والأحكام وعمومها فوجدوا الأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس والأحكام راجعة إلى الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة وتأملوا في كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالا من غير نظر إلى تفاصيلهما إلا على طريق المثال فحصل لهم قضايا كلية متعلقة بكيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالا وبيان طرقه وشرائطه ليتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من تلك الأحكام الجزئية عن أدلتها التفصيلية فضبطوها ودونوها وأضافوا إليها من اللواحق والمتممات وبيان الاختلافات ما يليق بها وسموا العلم بها أصول الفقه فصارت عبارة عن العلم (١/٣٥) بالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه ولفظ القواعد مشعر بقيد الإجمال وزاد المصنف قيد التحقيق احترازا عن علم الخلاف ولقائل أن يمنع كون قواعده مما يتوصل به إلى الفقه توصلا قريبا بل إنما يتوصل بها إلى محافظة الحكم المستنبط أو مدافعته ونسبته إلى الفقه وغيره على السوية فإن الجدلي إما مجيب يحفظ وضعا وإما معترض يهدم وضعا إلا أن الفقهاء أكثروا فيه من مسائل الفقه وبنوا نكاته عليها حتى توهم أن له اختصاصا بالفقه قوله ونعني بالقضايا الكلية اعلم أن المركب التام المحتمل للصدق والكذب يسمى من حيث اشتماله على الحكم قضية ومن حيث احتماله الصدق والكذب خبرا ومن حيث إفادته الحكم إخبارا ومن حيث كونه جزءا من الدليل مقدمة ومن حيث إنه يطلب بالدليل مطلوبا ومن حيث يحصل من الدليل نتيجة ومن حيث يقع في العلم ويسأل عنه مسألة فالذات واحدة واختلاف العبارات باختلاف الاعتبارات والمحكوم عليه في القضية يسمى موضوعا والمحكوم به محمولا وموضوع المطلوب يسمى أصغر ومحموله أكبر والدليل يتألف لا محالة من مقدمتين تشتمل إحداهما على الأصغر وتسمى الصغرى والأخرى على الأكبر وتسمى الكبرى وكلتاهما مشتمل على أمر متكرر فيهما يسمى الأوسط والأوسط إما محمول في الصغرى موضوع في الكبرى ويسمى الدليل بهذا الاعتبار الشكل الأول أو بالعكس ويسمى الشكل الرابع أو محمول فيهما ويسمى الشكل الثاني أو موضوع فيهما ويسمى الشكل الثالث مثلا إذا قلنا الحج واجب لأنه مأمور الشارع وكل ما هو مأمور الشارع فهو واجب فالحج الأصغر والواجب الأكبر والمأمور الأوسط وقولنا الحج مأمور الشارع هي الصغرى وقولنا وكل ما هو مأمور الشارع فهو واجب هي الكبرى والدليل المذكور من الشكل الأول فالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه هي القضايا الكلية التي تقع كبرى لصغرى سهلة الحصول عند الاستدلال على مسائل الفقه بالشكل الأول كما في المثال المذكور وضم القواعد الكلية إلى الصغرى السهلة الحصول ليخرج المطلوب الفقهي من القوة إلى الفعل هو معنى التوصل بها إلى الفقه لكن تحصيل القاعدة الكلية يتوقف على البحث عن أحوال الأدلة والأحكام وبيان شرائطهما وقيودهما المعتبرة في كلية القاعدة فالمباحث المتعلقة بذلك هي مطالب أصول الفقه وتندرج كلها تحت العلم بالقاعدة على ما شرحه المصنف بما لا مزيد عليه قوله ويكون القياس قد أدى إليه رأي مجتهد يعني يشترط ذلك فيما سبق فيه اجتهاد الآراء ليحترز به عن مخالفة الإجماع أما إذا لم يسبق في المسألة اجتهاد أو سبق اجتهاد مجتهد واحد فقط فلا خفاء في جواز الاجتهاد على خلافه قوله ولا يبعد أن يقال الظاهر إنه بعيد لم يذهب إليه أحد والمتعرضون لمباحث التقليد في كتبهم مصرحون بأن البحث عنه إنما وقع من جهة كونه في مقابلة الاجتهاد لا من جهة أنه من أصول الفقه (١/٣٦) قوله ولا يقال إلى الفقه لأن المقلد يتوصل بقواعده إلى مسائل الفقه لا إلى الفقه الذي هو العلم بالأحكام عن أدلتها الأربعة لأن علمه بها ليس عن أدلتها الأربعة قوله يبحث في هذا العلم عن الأدلة الشرعية والأحكام يعني عن أحوالهما عن حذف المضاف إذ لا يبحث في العلم عن نفس الموضوع بل عن أحواله وعوارضه إلا أن حذف هذا المضاف شائع في عبارة القوم قوله فموضوع هذا العلم المراد بموضوع العلم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية والمراد بالعرض هاهنا المحمول على الشيء الخارج عنه وبالعرض الذاتي ما يكون منشؤه الذات بأن يلحق الشيء لذاته كالإدراك للإنسان أو بواسطة أمر يساويه كالضحك للإنسان بواسطة تعجبه أو بواسطة أمر أعم منه داخل فيه كالتحرك للإنسان بواسطة كونه حيوانا والمراد بالبحث عن الأعراض الذاتية حملها على موضوع العلم كقولنا الكتاب يثبت الحكم قطعا أو على أنواعه كقولنا الأمر يفيد الوجوب أو على أعراضه الذاتية كقولنا العام يفيد القطع أو على أنواع أعراضه الذاتية كقولنا العام الذي خص منه البعض يفيد الظن وجميع مباحث أصول الفقه راجعة إلى إثبات الأعراض الذاتية للأدلة والأحكام من حيث إثبات الأدلة للأحكام وثبوت أحكام بالأدلة بمعنى أن جميع محمولات مسائل هذا الفن هو الإثبات والثبوت وما له نفع ودخل في ذلك فيكون موضوعه الأدلة الأحكام من حيث إثبات الأدلة للأحكام وثبوت الأحكام بالأدلة فإن قلت فما بالهم يجعلون من مسائل الأصول إثبات الإجماع والقياس للأحكام ويجعلون منها إثبات الكتاب والسنة لذلك قلت لأن المقصود بالنظر في الفن هي الكسبيات المفقرة إلى الدليل وكون الكتاب والسنة حجة بمنزلة البديهي في نظر الأصول لتقرره في الكلام وشهرته بين الأنام بخلاف الإجماع والقياس ولهذا تعرضوا لما ليس إثباته للحكم بينا كالقراءة الشاذة وخبر الواحد قوله وأما الثالث يعني العوارض الذاتية التي لا تكون مبحوثا عنها في هذا العلم ولا دخل لها في لحوق ما هي مبحوث عنها من القسمين يعني قسمي العوارض التي للأدلة والعوارض التي للأحكام وذلك كالإمكان والقدم والحدوث والبساطة والتركيب وكون الدليل جملة اسمية أو فعلية ثلاثية مفرداته أو رباعية معربة أو مبنية إلى غير ذلك مما لا دخل له في الإثبات والثبوت فلا يبحث عنها في الأصول وهذا كما أن النجار ينظر في الخشب من جهة صلابته ورخاوته ورقته وغلظه واعوجاجه واستقامته ونحو ذلك مما يتعلق بصناعته لا من جهة إمكانه وحدوثه وتركبه وبساطته ونحو ذلك (١/٣٧) قوله أن يذكر مباحث الحكم بعد مباحث الأدلة لأن الدليل مقدم بالذات والبحث عنه أهم في فن الأصول قوله كما أن موضوع المنطق التصورات والتصديقات لأنه يبحث عن أحوال التصور من حيث إنه حد أو رسم فيوصل إلى تصور ومن حيث إنه جنس أو فصل أو خاصة فيركب منها حد أو رسم وعن أحوال التصديق من حيث إنه حجة توصل إلى تصديق ومن حيث إنه قضية أو عكس قضية أو نقيض فيؤلف منها حجة وبالجملة جميع مباحثه راجعة إلى الإيصال وما له دخل في الإيصال وقد يقع البحث عن أحوال التصور الموصل إليه بأنه إن كان بسيطا لا يحد وإن كان مركبا من الجنس والفصل يحد وإن كان له خاصة لازمة بينة يرسم وإلا فلا ويمكن أن يجعل ذلك راجعا إلى البحث عن أحوال التصور من حيث إنه الموصل بأن يقال معناه أن الحد يوصل إلى المركب دون البسيط فيكون من المسائل قوله لكن الصحيح ذهب صاحب الأحكام إلى أن موضوع أصول الفقه هو الأدلة الأربعة ولا يبحث فيه عن أحوال الأحكام بل إنما يحتاج إلى تصورها ليتمكن من إثباتها ونفيها لكن الصحيح أن موضوعه الأدلة والأحكام لأنا رجعنا الأدلة بالتعميم إلى الأربعة والأحكام إلى الخمسة ونظرنا في المباحث المتعلقة بكيفية إثبات الأدلة للأحكام إجمالا فوجدنا بعضها راجعة إلى أحوال الأدلة وبعضها إلى أحوال الأحكام كما ذكره المصنف في تحصيل القضية الكلية التي يتوصل بها إلى الفقه فجعل أحدهما من المقاصد والآخر من اللواحق تحكم غاية ما في الباب أن مباحث الأدلة أكثر وأهم لكنه لا يقتضي الأصالة والاستقلال قوله فإن أريد بالحكم هذا كلام لا حاصل له لأن الأدلة الشرعية معرفات وأمارات ولو سلم أنها أدلة حقيقية فلا معنى للدليل إلا ما يفيد العلم بثبوت الشيء أو انتفائه غاية ما في الباب أن العلم يؤخذ بمعنى الإدراك الجازم أو الراجح ليعم القطعي والظني فيصح في جميع الأدلة وهذا لا يتفاوت بقدم الحكم وحدوثه وقد اضطر إلى ذلك آخر الأمر وليس معنى الدليل ما يفيد نفس الثبوت كما هو شأن العلل الخارجية وإن جعلنا الحكم حادثا على ما يشعر به كلامه قوله واعلم إلخ هذه ثلاثة مباحث في الموضوع أوردها مخالفا لجمهور المحققين يتعجب منها الناظر فيها الواقف على كلام القوم في هذا المقام الأول أن إطلاق القول بجواز تعدد الموضوع وإن كان فوق الاثنين غير صحيح بل التحقيق أن المبحوث عنه في العلم إما أن يكون إضافة بين الشيئين أو لا وعلى الأول إما أن تكون العوارض التي لها دخل في المبحوث عنه بعضها ناشئا عن أحد المضافين وبعضها ناشئا عن المضاف الآخر أو لا فإن كان كذلك فموضوع العلم كلا (١/٣٨) المضافين كما وقع البحث في الأصول عن إثبات الأدلة للأحكام والأحوال التي لها دخل في ذلك بعضها ناشئ عن الدليل كالعموم والاشتراك والتواتر وبعضها عن الحكم ككونه عبادة أو عقوبة فموضوعه الأدلة والأحكام جميعا وأما إذا لم يكن المبحوث عنه إضافة كما في الفقه الباحث عن وجوب فعل المكلف وحرمته وغير ذلك أو كان إضافة لكن لا دخل للأحوال الناشئة عن أحد المضافين في المبحوث عنه كما في المنطق الباحث عن إيصال تصور أو تصديق إلى تصور أو تصديق ولا دخل لأحوال التصور والتصديق الموصل إليه في ذلك على ما قرره المصنف فيما سبق فالموضوع لا يكون إلا واحدا لأن اختلاف الموضوع يوجب اختلاف المسائل الموجب لاختلاف العلم ضرورة أن العلم إنما يختلف باختلاف المعلومات وهي المسائل وفيه نظر لأنه إن أريد باختلاف المسائل مجرد تكثرها فلا نسلم أنه يوجب اختلاف العلم وظاهر أن مسائل العلم الواحد كثيرة ألبتة وإن أريد عدم تناسبها فلا نسلم أن مجرد تكثر الموضوعات يوجب ذلك وإنما يلزم ذلك لو لم تكن الموضوعات الكثيرة متناسبة والقوم صرحوا بأن الأشياء الكثيرة إنما تكون موضوعا لعلم واحد بشرط تناسبها ووجه التناسب اشتراكها في دان كالخط والسطح والجسم التعليمي للّهندسة فإنها تتشارك في جنسها وهو المقدار أعني الكم المتصل القار الذات أو في عرضي كبدن الإنسان وأجزائه والأغذية والأدوية والأركان والأمزجة وغير ذلك إذا جعلت موضوعات الطب فإنها تتشارك في كونها منسوبة إلى الصحة التي هي الغاية في ذلك العلم فعلم أنهم لم يهملوا رعاية معنى يوجب الوحدة وأن ليس لأحد أن يصطلح على أن الفقه والهندسة علم واحد موضوعه فعل المكلف والمقدار أنه فيما أورد من المثالين مناقض نفسه لأن موضوع الأصول ثم أشياء كثيرة إذ محمولات مسائله ليست أعراضا ذاتية لمفهوم الدليل بل للكتاب والسنة والإجماع والقياس على الانفراد أو التشارك بين اثنين أو أكثر وكذا التصور والتصديق في المنطق قوله ومنها أنه قد يذكر الحيثية المبحث الثاني في تحقيق الحيثية المذكورة في الموضوع حيث يقال موضوع هذا العلم هو ذلك الشيء من حيث كذا ولفظ حيث موضوع للمكان استعير لجهة الشيء واعتباره يقال الموجود من حيث إنه موجود أي من هذه الجهة وبهذا الاعتبار فالحيثية المذكورة في الموضوع قد لا تكون من الأعراض المبحوث عنها (١/٣٩) في العلم كقولهم موضوع العلم الإلهي الباحث عن أحوال الموجودات المجردة هو الموجود من حيث إنه موجود بمعنى أنه يبحث عن العوارض التي تلحق الموجود من حيث إنه موجود لا من حيث إنه جوهر أو عرض أو جسم أو مجرد وذلك كالعلية والمعلولية والوجوب والإمكان والقدم والحدوث ونحو ذلك ولا يبحث فيه عن حيثية الوجود إذ لا معنى لإثباتها للموجود وقد تكون من الأعراض المبحوث عنها في العلم كقولهم موضوع علم الطب بدن الإنسان من حيث يصح ويمرض وموضوع العلم الطبيعي الجسم من حيث يتحرك ويسكن والصحة والمرض من الأعراض المبحوث عنها في الطب وكذا الحركة والسكون في الطبيعي فذهب المصنف إلى أن الحيثية في القسم الأول جزء من الموضوع وفي الثاني بيان للأعراض الذاتية المبحوث عنها في العلم إذ لو كانت جزءا من الموضوع كما في القسم الأول لما صح أن يبحث عنها في العلم وتجعل من محمولات مسائله إذ لا يبحث في العلم عن أجزاء الموضوع بل عن أعراضه الذاتية ولقائل أن يقول لا نسلم أنها في الأول جزء من الموضوع بل قيد لموضوعيته بمعنى أن البحث يكون عن الأعراض التي تلحقه من تلك الحيثية وبذلك الاعتبار وعلى هذا لو جعلنا الحيثية في القسم الثاني أيضا قيدا للموضوع على ما هو ظاهر كلام القوم لا بيانا للأعراض الذاتية على ما ذهب إليه المصنف لم يكن البحث عنها في العلم بحثا عن أجزاء الموضوع ولم يلزمنا ما لزم المصنف من تشارك العلمين في موضوع واحد بالذات والاعتبار نعم يرد الإشكال المشهور وهو أنه يجب أن لا تكون الحيثية من الأعراض المبحوث عنها في العلم ضرورة أنها ليست مما تعرض للموضوع من جهة نفسها وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه ضرورة أن ما به يعرض الشيء للشيء لا بد وأن يتقدم على العارض مثلا ليست الصحة والمرض مما يعرض لبدن الإنسان من حيث يصح ويمرض ولا الحركة والسكون مما يعرض للجسم من حيث يتحرك ويسكن والمشهور في جوابه أن المراد من حيث إمكان الصحة والمرض والحركة والسكون والاستعداد لذلك وهذا ليس من الأعراض والمبحوث عنها في العلم والتحقيق أن الموضوع لما كان عبارة عن المبحوث في العلم عن أعراضه الذاتية قيد بالحيثية على معنى أن البحث عن العوارض يكون باعتبار الحيثية وبالنظر إليها أي يلاحظ في جميع المباحث هذا المعنى الكلي لا على معنى أن جميع العوارض المبحوث عنها يكون لحوقها للموضوع بواسطة هذه الحيثية ألبتة قوله ومنها أن المشهور المبحث الثالث في جواز تشارك العلوم المختلفة في موضوع واحد بالذات والاعتبار وكما خالف القوم في جواز تعدد الموضوع لعلم واحد كذلك خالفهم في امتناع اتحاد الموضوع لعلوم متعددة وادعى جوازه بل وقوعه أما الجواز فلأنه يصح أن يكون لشيء واحد أعراض ذاتية متنوعة أي مختلفة بالنوع يبحث في علم عن بعض أنواعها وفي علم آخر عن بعض آخر فيتمايز العلمان بالأعراض المبحوث عنها وإن اتحد الموضوع وذلك لأن اتحاد العلم واختلافه إنما هو بحسب المعلومات أعني المسائل وكما تتحد المسائل باتحاد موضوعاتها بأن يرجع الجميع إلى موضوع العلم وتختلف باختلافها كذلك تتحد باتحاد محمولاتها بأن يرجع الجميع إلى نوع من الأعراض الذاتية للموضوع وتختلف باختلافها فكما اعتبر اختلاف العموم باختلاف الموضوعات يجوز أن يعتبر باختلاف المحمولات بأن يؤخذ موضوع واحد بالذات والاعتبار ويجعل البحث عن (١/٤٠) بعض أعراضه الذاتية علما وعن البعض الآخر علما آخر فيكونان علمين متشاركين في الموضوع متمايزين في المحمول وأما الوقوع فلأنهم جعلوا أجسام العالم وهي البسائط موضوع علم الهيئة من حيث الشكل وموضوع علم السماء والعالم من حيث الطبيعية والحيثية فيهما بيان الأعراض (١/٤١) الذاتية المبحوث عنها لأجزاء الموضوع وإلا لما وقع البحث عنها في العلمين فموضوع كل منهما أجسام العالم على الإطلاق إلا أن البحث في الهيئة عن أشكالها وفي السماء والعالم عن طبائعها (١/٤٢) فهما علمان مختلفان باختلاف محمولات المسائل مع اتحاد الموضوع وعلم السماء والعالم علم تعرف فيه أحوال الأجسام التي هي أركان العالم وهي السماوات وما فيها والعناصر الأربعة وطبائعها وحركاتها ومواضعها وتعريف الحكمة في صنعها وتنضيدها وهو من أقسام العلم الطبيعي الباحث عن أحوال الأجسام من حيث التغير وموضوعه الجسم المحسوس من حيث هو معروض للتغير في الأحوال والثبات فيها ويبحث فيه عما يعرض له من حيث هو كذلك كذا ذكره أبو علي ولا يخفى أن الحيثية في الطبيعي مبحوث عنها وقد صرح بأنها قيد للعروض وهاهنا نظر أما أولا فلأن هذا مبني على ما ذكر من كون الحيثية تارة جزءا من الموضوع وأخرى بيانا للمبحوث عنها وقد عرفت ما فيه أما ثانيا فإنهم لما حاولوا معرفة أحوال الأعيان الموجودات وضعوا الحقائق أنواعا وأجناسا وبحثوا عما أحاطوا به من أعراضه الذاتية فحصلت لهم مسائل (١/٤٣) كثيرة متحدة في كونها بحثا عن أحوال ذلك الموضوع وإن اختلفت محمولاتها فجعلوها بهذا الاعتبار علما واحدا يفرد بالتدوين والتسمية وجوزوا لكل أحد أن يضيف إليه ما يطلع عليه من أحوال ذلك الموضوع فإن المعتبر في العلم هو البحث عن جميع ما تحيط به الطاقة الإنسانية من الأعراض الذاتية للموضوع فلا معنى للعلم الواحد إلا أن يوضع شيء أو أشياء متناسبة فنبحث عن جميع عوارضه الذاتية ونطلبها ولا معنى لتمايز العلوم إلا أن هذا ينظر في أحوال شيء وذاك في أحوال شيء آخر مغاير له بالذات أو بالاعتبار بأن يؤخذ في أحد العلمين مطلقا وفي الآخر بالبرهان مقيدا أو يؤخذ في كل منهما مقيدا بقيد آخر وتلك الأحوال مجهولة مطلوبة والموضوع معلوم بين الوجود فهو الصالح سببا للتمايز وأما ثالثا فلأنه ما من علم إلا ويشتمل موضوعه على أعراض ذاتية متنوعة فلكل أحد أن يجعله علوما متعددة بهذا الاعتبار مثلا يجعل البحث عن فعل المكلف من حيث الوجوب علما ومن حيث الحرمة علما آخر إلى غير ذلك فيكون الفقه علوما متعددة موضوعها فعل المكلف فلا ينضبط الاتحاد والاختلاف وتحقيق هذه المباحث في كتاب البرهان من منطق الشفاء قوله وإنما قلنا استدل على ثبوت الأعراض الذاتية المتنوعة لشيء واحد بأن الواحد الحقيقي الذي لا كثرة في ذاته بوجه من الوجوه يتصف بصفات كثيرة وإن كان بعضها حقيقيا كالقدرة وبعضها إضافيا كالخلق وبعضها سلبيا كالتجرد عن المادة والمتصف بصفات كثيرة متصف بأعراض ذاتية متنوعة ضرورة أنه لا شيء من تلك الصفات لاحقا له لجزئه لعدم الجزء له ولا المباين لامتناع احتياج الواحد الحقيقي في صفاته إلى أمر منفصل وكان ينبغي أن يتعرض لهذا أيضا وحينئذ إما أن يكون لحقوق كل منها لصفة أخرى فيلزم التسلسل في المبادئ أعني الصفات (١/٤٤) التي كل منها مبدأ لصفة أخرى وهو محال لبرهان المذكورة في الكلام أو يكون بعضها لذاته فيثبت عرض ذاتي وحينئذ فالبعض الآخر لا يجوز أن يكون لجزئه لما مر فهو إما لذاته فيثبت عرض ذاتي آخر وهو المطلوب أو لغيره ولا يجوز أن يكون الغير مباينا لما مر بل يكون صفة من صفاته ولا بد أن ينتهي إلى ما يكون لحوقه لذاته وإلا لزم التسلسل في المبادئ فإن قيل يجوز أن ينتهي إلى العرض الذاتي الأول فلا يلزم تعدد الأعراض الذاتية ولو سلم فاللازم تعددها وهو غير مطلوب والمطلوب تنوعها وهو غير لازم قلنا اللاحق بواسطة العرض الذاتي الأول أيضا عرض ذاتي فيلزم التعدد والصفات المتعددة في محل واحد متنوعة لا محالة ضرورة أن اختلاف أشخاص نوع واحد من الصفات إنما هو باختلاف المحل قوله ولأنه يلزم عطف على مضمون الكلام السابق أي وإن كان لغيره فهو باطل لأنه يلزم استكمال الواحد الحقيقي في صفاته بالغير وهو محال لأنه يوجب النقصان في ذاته والاحتياج في كمالاته وفيه نظر لأنه إن أريد الاستكمال بالأمر المنفصل فظاهر أنه غير لازم لجواز أن يكون لحوق البعض الآخر لصفة وإن أريد أعم من المنفصل والصفة فلا نسلم أن احتياج بعض الصفات إلى البعض يوجب النقصان في الذات كيف والخلق يتوقف على العلم والقدرة والإرادة ويمكن أن يجعل هذا مختصا بما يكون الغير منفصلا وما سبق مختصا بما يكون غير منفصل فيتم بمجموعهما المطلوب أعني إثبات عرض ذاتي آخر (١/٤٥) قوله فنضع تفريع على قوله فيبحث عن كذا وكذا يعني بسبب أن البحث في هذا الفن إنما هو عن أحوال الأدلة والأحكام نضع الكتاب أي مقاصده على قسمين وإلا فبحث التعريف والموضوع أيضا من الكتاب مع أنه خارج عن القسمين لكونه غير داخل في المقاصد |