التوضيح في حل غوامض التنقيح في أصول الفقه عبيد اللّه بن مسعود بن (تاج الشريعة) محمود بن أحمد المحبوبي البخاري الحنفي، صدر الشريعة الأصغر ابن صدر الشريعة الأكبر (ت. ٧٤٧ هـ / ١٣٤٦ م) تحقيق زكريا عميرات الناشر دار الكتب العلمية سنة النشر ١٤١٦هـ - ١٩٩٦م. مكان النشر بيروت عدد الأجزاء ٢ بسم اللّه الرحمن الرحيم (١/٥) حامدا للّه تعالى أولا وثانيا ولعنان الثناء إليه ثانيا وعلى أفضل رسله وآله مصليا (١/٦) وفي حلبة الصلوات مجليا ومصليا وبعد فإن العبد المتوسل إلى اللّه تعالى بأقوى الذريعة (١/٧) عبيد اللّه بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وأنجح جده يقول لما وفقني اللّه بتأليف تنقيح الأصول أردت أن أشرح مشكلاته وأفتح مغلقاته معرضا عن شرح المواضع التي من يحلها بغير إطناب لا يحل له النظر في ذلك الكتاب واعلم أني لما سودت كتاب التنقيح وسارع بعض الأصحاب إلى انتساخه ومباحثته وانتشر النسخ في بعض الأطراف ثم بعد ذلك وقع فيه قليل من التغييرات وشيء من المحو والإثبات فكتبت في هذا الشرح عبارة المتن على النمط الذي تقرر عندي لتغيير النسخ المكتوبة قبل التغييرات إلى هذا النمط ثم لما تيسر إتمامه وفض بالاختتام ختامه مشتملا على تعريفات وحجج مؤسسة على قواعد المعقول وتفريعات مرصصة بعد ضبط الأصول وترتيب أنيق لم يسبقني على مثله أحد مع تدقيقات غامضة لم يبلغ فرسان هذا العلم إلى هذا الأمد سميت هذا الكتاب بالتوضيح في حل غوامض التنقيح واللّه تعالى مسئول أن يعصم عن الخطأ والخلل كلامنا وعن السهو والزلل أقلامنا وأقدامنا (١/٨) إليه يصعد الكلم الطيب افتتح بالضمير قبل الذكر ليدل على حضوره في الذهن فإن ذكر اللّه تعالى كيف لا يكون في الذهن سيما عند افتتاح الكلام كقوله تعالى وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وقوله إنه لقرآن كريم وقوله الطيب صفة الكلم والكلم إن كان جمعا وكل جمع يفرق بينه وبين واحدة بالتاء يجوز في وصفه التذكير والتأنيث نحو نخل خاوية ونحو منقعر من محامد لأصولها من شارع (١/٩) الشرع ماء ولفروعها من قبول القبول نماء القبول الأول ريح الصبا على أن جعل أصول الشريعة ممهدة المباني وفروعها رقيقة الحواشي أي لطيفة الأطراف والجوانب ودقيقة (١/١٠) المعاني بني على أربعة أركان قصر الأحكام وأحكمه بالمحكمات غاية الإحكام وجعل المتشابهات مقصورات خيام الاستتار ابتلاء لقلوب الراسخين فإن إنزال المتشابهات على مذهبنا وهو الوقف اللازم على قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا اللّه (١/١١) لابتلاء الراسخين في العلم بكبح عنان ذهنهم عن التفكر فيها والوصول إلى ما يشتاقون إليه من العلم بالأسرار التي أودعها فيها ولم يظهر أحدا من خلقه عليها والنصوص منصة عرائس أبكار أفكار المتفكرين منصة العروس مكان يرفع العروس عليه للجلوة وكشف القناع عن جمال مجملات كتابة بسنة نبيه المصطفى وفصل خطابه أي الخطاب الفاصل بين الحق (١/١٢) والباطل صلى اللّه عليه وعلى آله وأصحابه ما رفع أعلام الدين بإجماع المجتهدين ووضع معالم العلم على مسالك المعتبرين أراد بمعالم العلم العلل التي يعلم القائس بها الحكم في المقيس وأراد بالمعتبرين بكسر الباء القائسين ومسالكهم هي مواقع سلوكهم بأقدام الفكر من مواد النصوص إلى الأحكام الثابتة في الفروع فمبدأ سلوكهم هو لفظ النص فيعبرون منه إلى معانيه اللغوية الظاهرة ثم منها إلى معانيه الشرعية الباطنة فيجدون فيها علامات وأمارات وضعها الشارع ليهتدوا بها إلى مقاصدهم ولما قال بني على أربعة أركان قصر الأحكام ذكر الأركان الأربعة وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الوجه الذي بنى الشارع قصر الأحكام عليها (١/١٣) وبعد فإن العبد المتوسل إلى اللّه تعالى بأقوى الذريعة عبيد اللّه بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وجد سعده يقول لما رأيت فحول العلماء مكبين في كل عهد وزمان على مباحثة أصول الفقه أي مقبلين عليها من أكب على وجهه سقط عليه فإن من أقبل على الشيء غاية الإقبال فكأنه أكب عليه للشيخ الإمام مقتدى الأئمة العظام فخر الإسلام علي البزدوي بوأه اللّه تعالى دار السلام وهو كتاب جليل الشأن باهر البرهان مركوز كنوز معانيه في صخور عباراته ومرموز غوامض نكته في دقائق إشاراته ووجدت بعضهم طاعنين على ظواهر ألفاظه لقصور نظرهم عن مواقع ألحاظه أي لا يدركون بإمعان النظر ما يدركه هو بلحاظ عينه من غير أن ينظر إليه قصدا أردت تنقيحه وتنظيمه وحاولت أي طلبت تبيين مراده وتفهيمه وعلى قواعد المعقول وتأسيسه وتقسيمه موردا فيه زبدة مباحث المحصول وأصول الإمام المدقق جمال العرب ابن الحاجب مع تحقيقات بديعة وتدقيقات غامضة منيعة تخلو الكتب عنها سالكا فيه مسلك الضبط والإيجاز متشبثا بأهداب السحر متمسكا بعروة الإعجاز اختار في الإعجاز العروة وفي السحر الأهداب لأن الإعجاز أقوى وأوثق من السحر واختار في العروة لفظ الواحد وفي الأهداب لفظ الجمع لأن الإعجاز في الكلام أن يؤدى المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق ولا يكون هذا إلا واحدا وأما السحر في الكلام فهو دون الإعجاز وطرقه فوق الواحد فأورد فيه لفظ الجمع وسميته بتنقيح الأصول واللّه تعالى مسئول أن يمتع به مؤلفه وكاتبه وقارئه وطالبه (١/١٤) ويجعله خالصا لوجهه الكريم إنه هو البر الرحيم أصول الفقه أي هذا أصول الفقه أو أصول الفقه ما هي فنعرفها أولا باعتبار الإضافة وثانيا باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص أما تعريفها باعتبار الإضافة فيحتاج إلى تعريف المضاف والمضاف إليه فقال الأصل ما يبتنى عليه غيره فالابتناء شامل للابتناء الحسي وهو ظاهر والابتناء العقلي وهو ترتب الحكم على دليله وتعريفه بالمحتاج إليه لا يطرد وقد عرفه الإمام في المحصول بهذا واعلم أن التعريف إما حقيقي كتعريف الماهيات الحقيقية وإما اسمي كتعريف الماهيات الاعتبارية كما إذا ركبنا شيئا من أمور هي أجزاؤه باعتبار تركيبنا ثم وضعنا لهذا المركب اسما كالأصل والفقه والجنس والنوع ونحوها فالتعريف الاسمي هو تبيين أن هذا الاسم لأي شيء وضع وشرط لكلا التعريفين الطرد أي كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود والعكس أي كل ما صدق ما عليه المحدود صدق عليه الحد فإذا قيل في تعريف الإنسان إنه حيوان ماش لا يطرد ولو قيل حيوان إن كان بالفعل لا ينعكس ولا شك أن تعريف الأصل تعريف اسمي أي بيان أن لفظ الأصل لأي شيء وضع فالتعريف الذي ذكر في المحصول لا يطرد لأنه أي الأصل لا يطلق على الفاعل أي العلة الفاعلية والصورة أي العلة الصورية والغاية أي العلة الغائبة والشروط كأدوات الصناعة مثلا فعلم أن هذا التعريف صادق على هذه الأشياء لكونها محتاجا إليها والمحدود لا يصدق عليها لأن شيئا من هذه الأشياء لا يسمى أصلا فلا يصح هذا التعريف الاسمي (١/١٥) والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها ويزاد عملا ليخرج الاعتقاديات والوجدانيات فيخرج الكلام والتصرف ومن لم يزد أراد الشمول هذا التعريف منقول عن أبي حنيفة فالمعرفة إدراك الجزئيات عن دليل فخرج التقليد وقوله ما لها وما عليها يمكن أن يراد به ما تنتفع به النفس وما تتضرر به في الآخرة كما في قوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فإن أريد بهما الثواب والعقاب فاعلم أن ما يأتي به المكلف إما واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه كراهة تنزيه أو مكروه كراهة تحريم أو حرام فهذه ستة ثم لكل واحد طرفان طرف الفعل وطرف الترك يعني عدم الفعل فصارت اثني عشر ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه وفعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب مما يعاقب عليه والباقي لا يثاب ولا يعاقب عليه فلا يدخل في شيء من القسمين (١/١٦) وإن أريد بالنفع عدم العقاب وبالضرر العقاب ففعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب يكون من القسم الثاني أي مما يعاقب عليه والتسعة الباقية تكون من الأول أي مما لا يعاقب عليه وإن أريد بالنفع الثواب وبالضرر عدم الثواب ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه ثم العشرة الباقية مما لا يثاب عليه عليها ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يجب عليها ففعل ما سوى الحرام والمكروه تحريما وترك ما سوى الواجب مما يجوز لها وفعل الواجب وترك الحرام والمكروه تحريما مما يجب عليها بقي فعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب خارجين عن القسمين ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يحرم عليها فيشملان جميع الأصناف إذا عرفت هذا فالحمل على وجه لا يكون بين القسمين واسطة أولى ثم ما لها وما عليها يتناول الاعتقاديات كوجوب الإيمان ونحوه والوجدانيات أي الأخلاق الباطنة والملكات النفسانية والعمليات كالصلاة والصوم والبيع ونحوها فمعرفة ما لها وما عليها من الاعتقاديات هي علم الكلام ومعرفة ما لها وما عليها من الوجدانيات هي علم الأخلاق والتصوف كالزهد والصبر والرضا وحضور القلب في الصلاة ونحو ذلك ومعرفة ما لها وما عليها من العمليات هي الفقه المصطلح فإن أردت بالفقه هذا المصطلح زدت عملا على قوله ما لها وما عليها وإن أردت ما يشمل الأقسام الثلاثة لم تزد وأبو حنيفة رحمه اللّه إنما لم يزد عملا لأنه أراد الشمول أي أطلق الفقه على العلم بما لها وعليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات ثم سمى الكلام فقها أكبر (١/١٧) وقيل العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية فالعلم جنس والباقي فصل فقوله بالأحكام يمكن أن يراد بالحكم هاهنا إسناد أمر إلى آخر ويمكن أن يراد (١/١٨) الحكم المصطلح وهو خطاب اللّه تعالى المتعلق إلخ فإن أريد الأول يخرج العلم بالذوات والصفات التي ليست بأحكام عن الحد أي يخرج التصورات ويبقي التصديقات وبالشرعية يخرج العلم بالأحكام العقلية والحسية كالعلم بأن العالم محدث والنار محرقة وإن أريد الثاني فقوله بالأحكام يكون احترازا عن علم ما سوى خطاب اللّه تعالى المتعلق إلى آخره فالحكم بهذا التفسير قسمان شرعي أي خطاب اللّه تعالى بما يتوقف على الشرع وغير شرعي أي خطاب اللّه تعالى بما لا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان باللّه تعالى ووجوب تصديق النبي عليه السلام ونحوهما مما لا يتوقف على الشرع لتوقف الشرع عليه ثم الشرعي إما نظري وإما عملي فقوله العملية يخرج العلم بالأحكام الشرعية النظرية كالعلم بأن الإجماع حجة وقوله من أدلتها أي العلم الحاصل للشخص الموصوف به من أدلتها المخصوصة بها وهي الأدلة الأربعة وهذا القيد يخرج التقليد لأن المقلد وإن كان قول المجتهد دليلا له لكنه ليس من تلك الأدلة المخصوصة وقوله التفصيلية يخرج الإجمالية كالمقتضي والنافي وقد زاد ابن الحاجب على هذا قوله بالاستدلال ولا شك أنه مكرر ولما عرف الفقه بالعلم بالأحكام الشرعية وجب تعريف الحكم وتعريف الشرعية فقال (١/١٩) فارغة (١/٢٠) فارغة (١/٢١) والحكم قيل خطاب اللّه تعالى هذا التعريف منقول عن الأشعري فقوله خطاب اللّه تعالى يشمل جميع الخطابات وقوله المتعلق بأفعال المكلفين يخرج ما ليس كذلك فبقي (١/٢٢) في الحد نحو واللّه خلقكم وما تعملون مع أنه ليس بحكم فقال بالاقتضاء أي الطلب وهو إما طلب الفعل جازما كالإيجاب أو غير جازم كالندب وإما (١/٢٣) طلب الترك جازما كالتحريم أو غير جازم كالكراهة أو التخيير أي الإباحة وقد زاد البعض أو الوضع ليدخل الحكم بالسببية والشرطية ونحوهما اعلم أن الخطاب نوعان إما تكليفي وهو المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وإما وضعي وهو الخطاب بأن هذا سبب ذلك أو شرطه (١/٢٤) كالدلوك سبب للصلاة والطهارة شرط فلما ذكر أحد النوعين وهو التكليفي وجب ذكر النوع الآخر وهو الوضعي والبعض لم يذكر الوضعي لأنه داخل في الاقتضاء أو التخيير لأن المعنى من كون الدلوك سببا للصلاة أنه إذا وجد الدلوك وجبت الصلاة حينئذ والوجوب من باب الاقتضاء لكن الحق هو الأول لأن المفهوم من الحكم الوضعي تعلق شيء بشيء آخر والمفهوم من الحكم التكليفي ليس هذا ولزوم أحدهما للآخر في صورة لا يدل على اتحادهما نوعا وبعضهم قد عرف الحكم الشرعي بهذا أي بعض المتأخرين من متابعي الأشعري قالوا الحكم الشرعي خطاب اللّه تعالى فالحكم على هذا إسناد أمر إلى آخر والفقهاء يطلقونه على ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا بطريق إطلاق اسم المصدر على المفعول كالخلق على المخلوق لكن لما شاع فيه صار منقولا اصطلاحيا وهو حقيقة اصطلاحية يرد عليه أي على تعريف الحكم وهو خطاب اللّه تعالى إلخ إن الحكم المصطلح بين الفقهاء ما ثبت بالخطاب لا هو أي لا الخطاب فلا يكون ما ذكر تعريفا للحكم المصطلح بين الفقهاء وهو المقصود بالتعريف هنا (١/٢٥) وأيضا يخرج منه ما يتعلق بفعل الصبي كجواز بيعه وصحة إسلامه وصلاته وكونها مندوبة ونحو ذلك فإنه ليس بمتعلق بأفعال المكلفين مع أنه حكم فإن قيل هو حكم باعتبار تعلقه بفعل وليه قلنا هذا في الإسلام والصلاة لا يصح وأما في غير الإسلام والصلاة فإن تعلق الحق بماله أو بذمته حكم شرعي ثم أداء الولي حكم آخر مترتب على الأول لا عينه وسيجيء في باب الحكم الأحكام المتعلقة بأفعاله فينبغي أن يقال بأفعال العباد ويخرج منه ما ثبت بالقياس إذ لا خطاب هنا إلا أن يقال اعلم أن المصادر قد تقع ظرفا نحو آتيك طلوع الفجر أي وقت طلوعه فقوله إلا أن يقال هذا القبيل فإنه استثناء (١/٢٦) مفرغ من قوله ويخرج منه ما ثبت بالقياس أي جميع الأوقات إلا وقت قوله في جواب الإشكال يدرك بالقياس أن الخطاب ورد بهذا إلا أنه ثبت بالقياس فإن القياس مظهر للحكم لا مثبت فاندفع الإشكال وأيضا يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا أي من الحد مع أنها حكم فالمراد بالإيمان هنا التصديق فوجوب التصديق حكم مع أنه ليس من الأفعال إذ المراد (١/٢٧) بالأفعال المذكورة أفعال الجوارح ووجوب الاعتبار أي القياس حكم مع أنه ليس من أفعال الجوارح ويقع التكرار بين العملية وبين المتعلق بأفعال المكلفين لأنه قال في حد الفقه العلم بالأحكام الشرعية العملية والحكم خطاب اللّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين فيكون حد الفقه العلم بخطابات اللّه تعالى المتعلقة بأفعال المكلفين الشرعية العملية فيقع التكرار إلا أن يقال نعني بالأفعال ما يعم فعل الجوارح وفعل القلب وبالعملية ما يختص بالجوارح فاندفع بهذه العناية التكرار وخرج جواب الإشكال المتقدم وهو قوله يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا لأنهما من أفعال القلب والشرعية ما لا تدرك لولا خطاب الشارع سواء كان الخطاب واردا في عين هذا الحكم أو واردا في صورة يحتاج إليها هذا الحكم كالمسائل القياسية فتكون أحكامها شرعية إذ لولا خطاب الشارع في المقيس عليه لا يدرك الحكم في المقيس فيدخل في حد الفقه حسن كل فعل وقبحه عند نفاة كونهما عقليين اعلم أن عندنا وعند جمهور المعتزلة حسن بعض الأفعال وقبحها يدركان عقلا وبعضها لا بل يتوقف على (١/٢٨) خطاب الشارع فالأول لا يكون من الفقه بل هو علم الأخلاق والثاني هو الفقه وحد الفقه يكون صحيحا جامعا مانعا على هذا المذهب وأما عند الأشعري وأتباعه فحسن كل فعل وقبحه شرعي فيكونان من الفقه مع أن حسن التواضع والجود ونحوهما وقبح أضدادهما لا يعدان من الفقه المصطلح عند أحد فيدخل في حد الفقه المصطلح ما ليس منه فلا يكون هذا تعريفا صحيحا للفقه المصطلح على مذهب الأشعري ولا يزاد عليه أي على حد الفقه المصطلح التي لا يعلم كونها من الدين ضرورة لإخراج مثل الصلاة والصوم فإنهما منه وليس المراد بالأحكام بعضها وإن قل اعلم أن هذا القيد ذكر في المحصول ليخرج مثل الصلاة والصوم وأمثالهما إذ لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها وليس كذلك فأقول هذا القيد ضائع لأنا لا نسلم أنه لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها لأن المراد بالأحكام ليس بعضها وإن قل فإن الشخص العالم بمائة مسألة من أدلتها سواء يعلم كونها من الدين ضرورة أو لا يعلم كالمسائل الغريبة التي في كتاب الرهن ونحوه لا يسمى فقيها فالعلم بوجوب الصلاة والصوم من الفقه مع أن العالم بذلك وحده لا يسمى فقيها كالعلم بمائة مسألة غريبة فإنه من الفقه لكن العالم بها وحدها ليس بفقيه فلا معنى لإخراجهما منه بذلك العذر الفاسد ثم اعلم أنه لا يراد بالأحكام الكل لأن الحوادث لا تكاد تتناهى ولا ضابط يجمع أحكامها ولا يراد كل واحد لوجود لا أدري ولا بعض له نسبة معينة بالكل كالنصف أو (١/٢٩) الأكثر للجهل به ولا التهيؤ للكل إذ التهيؤ البعيد قد يوجد لغير الفقيه والقريب مجهول غير منضبط ولا يراد أنه يكون بحيث يعلم بالاجتهاد حكم كل واحد لأن العلماء المجتهدين لم يتيسر لهم علم بعض الأحكام مدة حياتهم كأبي حنيفة رحمه اللّه تعالى لم يدر الدهر (١/٣٠) وللخطأ في الاجتهاد ولأن حكم بعض الحوادث ربما يكون مما ليس للاجتهاد فيه مساغ وأيضا لا يليق في الحدود أن يذكر العلم ويراد به تهيؤ مخصوص إذ لا دلالة للفظ عليه أصلا وإذا عرفت هذا فلا بد أن يكون الفقه علما بجملة متناهية مضبوطة فلهذا قال بل هو العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التي قد ظهر نزول الوحي بها والتي انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها فالمعتبر أن يعلم في أي وقت كان جميع ما قد ظهر نزول الوحي به في ذلك الوقت فالصحابة رضي اللّه تعالى عنهم كانوا فقهاء في وقت نزول بعض الأحكام بعده ثم ما لم يظهر نزول الوحي به قد لا يعلمه الفقيه والصحابة رضي اللّه عنهم لعربيتهم كانوا عالمين بما ذكر ولم يطلق الفقيه إلا على المستنبطين منهم وعلم المسائل الإجماعية يشترط إلا في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعدم الإجماع في زمنه (١/٣١) لا المسائل القياسية للدور بل يشرط ملكة الاستنباط الصحيح هو أن يكون مقرونا بشرائطه وما قيل إن الفقه ظني فلم أطلق العلم عليه فجوابه أولا أنه مقطوع به فإن الجملة التي ذكرنا أنها فقه وهي ما قد ظهر نزول الوحي به وما انعقد الإجماع عليه قطعية وثانيا أن العلم يطلق على الظنيات كما يطلق على القطعيات كالطب ونحوه وثالثا أن الشارع لما اعتبر غلبة الظن في الأحكام صار كأنه قال كلما غلب ظن المجتهد بالحكم يثبت الحكم فكلما وجد غلبة ظن المجتهد يكون ثبوت الحكم مقطوعا به فهذا الجواب على مذهب من يقول إن كل مجتهد مصيب يكون صحيحا وأما عند من لا يقول به فيراد بقوله كلما غلب ظن المجتهد يثبت الحكم أنه يجب عليه العمل أو يثبت الحكم بالنظر إلى الدليل وإن لم يثبت في علم اللّه تعالى (١/٣٢) وأصول الفقه الكتاب والسنة والإجماع والقياس وإن كان ذا فرعا للثلاثة لما ذكر أن أصول الفقه ما يبتنى عليه الفقه أراد أن يبين أن ما يبتنى عليه الفقه أي شيء هو فقال هو هذه الأربعة فالثلاثة الأول أصول مطلقة لأن كل واحد منها مثبت للحكم أما القياس فهو أصل من وجه لأنه أصل بالنسبة إلى الحكم وفرع من وجه لأنه فرع بالنسبة إلى الثلاثة الأول إذ العلة فيه مستنبطة من مواردها فيكون الحكم الثابت بالقياس ثابتا بتلك الأدلة وأيضا هو ليس بمثبت بل هو مظهر أما نظير القياس المستنبط من الكتاب فكقياس حرمة اللوطة على حرمة الوطء في حالة الحيض الثابتة بقوله تعالى قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض والعلة هي الأذى وأما المستنبط من السنة فكقياس حرمة قفيز من الجص بقفيزين على حرمة قفيز من الحنطة بقفيزين الثابتة بقوله عليه السلام الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا وأما المستنبط من الإجماع فأوردوا لنظيره قياس الوطء الحرام على الحلال في حرمة المصاهرة يعني قياس (١/٣٣) حرمة وطء أم المزنية على حرمة وطء أم أمته التي وطئها والحرمة في المقيس عليه ثابتة إجماعا ولا نص فيه بل النص ورد في أمهات النساء من غير اشتراط الوطء ولما عرف أصول الفقه باعتبار الإضافة فالآن يعرفه باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص فيقول وعلم أصول الفقه العلم بالقواعد التي يتوصل بها إليه على وجه التحقيق أي العلم بالقضايا الكلية التي يتوصل بها إلى الفقه توصلا قريبا (١/٣٤) وإنما قلنا توصلا قريبا احترازا عن المبادئ كالعربية والكلام وإنما قلنا على وجه التحقيق احترازا عن علم الخلاف والجدل فإنه وإن اشتمل على القواعد الموصلة إلى مسائل الفقه لكن لا على وجه التحقيق بل الغرض منه إلزام الخصم وذلك كقواعدهم المذكورة في الإشارة والمقدمة ونحوهما لتبتنى عليها النكت الخلافية ونعني بالقضايا الكلية المذكورة ما يكون إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه أي إذا استدللت على حكم مسائل الفقه بالشكل الأول فكبرى الشكل الأول هي تلك القضايا الكلية كقولنا هذا الحكم ثابت لأنه حكم يدل على ثبوته القياس وكل حكم يدل على ثبوته القياس فهو ثابت وإذا استدللت على مسائل الفقه بالملازمات الكلية مع وجود الملزوم فالملازمات الكلية هي تلك القضايا كقولنا هذا الحكم ثابت لأنه كلما دل القياس على ثبوت هذا الحكم يكون هذا الحكم ثابتا لكن القياس دل على ثبوت هذا الحكم فيكون ثابتا واعلم أنه يمكن أن لا يكون هذه القضية الكلية بعينها مذكورة في مسائل أصول الفقه (١/٣٥) لكن تكون مندرجة في قضية كلية هي مذكورة في مسائل أصول الفقه كقولنا كلما دل القياس على الوجوب في صورة النزاع يثبت الوجوب فيها فإن هذه الملازمة مندرجة تحت هذه الملازمة وهي كلما دل القياس على ثبوت كل حكم هذا شأنه يثبت هذا الحكم والوجوب من جزئيات ذلك الحكم فكأنه قيل كلما دل القياس على الوجوب يثبت (١/٣٦) الوجوب وكلما دل القياس على الجواز يثبت الجوار فالملازمة التي هي إحدى مقدمتي الدليل تكون من مسائل أصول الفقه بطريق التضمن ثم اعلم أن كل دليل من الأدلة الشرعية إنما يثبت به الحكم إذا كان مشتملا على شرائط تذكر في موضعها ولا يكون الدليل منسوخا ولا يكون له معارض مساو أو راجح ويكون القياس قد أدى إليه رأي مجتهد حتى لو خالف إجماع المجتهدين يكون باطلا فالقضية المذكورة سواء جعلناها كبرى أو ملازمة إنما تصدق كلية إذا اشتملت على هذه القيود فالعلم بالمباحث المتعلقة بهذه القيود يكون علما (١/٣٧) بالقضية الكلية التي هي إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه فتكون تلك المباحث من مسائل أصول الفقه وقولنا يتوصل بها إليه الظاهر أن هذا يختص بالمجتهد فإن المبحوث عنه في هذا العلم قواعد يتوصل المجتهد بها إلى الفقه فإن المتوصل إلى الفقه ليس إلا المجتهد فإن الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلة التي ليس دليل المقلد منها فلهذا لم تذكر (١/٣٨) مباحث التقليد والاستفتاء في كتبنا ولا يبعد أن يقال إنه يعم المجتهد والمقلد والأدلة الأربعة إنما يتوصل بها المجتهد لا المقلد فأما المقلد فالدليل عنده قول المجتهد فالمقلد يقول هذا الحكم واقع عندي لأنه أدى إليه رأي أبي حنيفة رحمه اللّه وكل ما أدى إليه رأيه فهو واقع عندي فالقضية الثانية من أصول الفقه أيضا فلهذا ذكر بعض العلماء في كتب الأصول مباحث التقليد والاستفتاء (١/٣٩) فعلى هذا علم أصول الفقه هو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى مسائل الفقه ولا يقال إلى الفقه لأن الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلة وقولنا على وجه التحقيق لا ينافي هذا المعنى فإن تحقيق المقلد أن يقلد مجتهدا يعتقد ذلك المقلد حقيقة رأي ذلك المجتهد هذا الذي ذكرنا إنما هو بالنظر إلى الدليل وأما بالنظر إلى المدلول فإن القضية (١/٤٠) المذكورة إنما يمكن إثباتها كلية إذا عرف أنواع الحكم وأن أي نوع من الأحكام يثبت بأي نوع من الأدلة بخصوصية ناشئة من الحكم ككون هذا الشيء علة لذلك فإن هذا الحكم لا يمكن إثباته بالقياس ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم به وهو فعل المكلف ككونه عبادة أو عقوبة ونحو ذلك مما يندرج في كليلة تلك القضية فإن الأحكام تختلف باختلاف أفعال المكلفين فإن العقوبات لا يمكن إثباتها بالقياس ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم عليه وهو المكلف ومعرفة الأهلية والعوارض التي تعرض على الأهلية سماوية ومكتسبة مندرجة تحت تلك القضية الكلية أيضا لاختلاف الأحكام باختلاف المحكوم عليه بالنظر إلى وجود العوارض وعدمها فيكون تركيب الدليل على إثبات مسائل الفقه بالشكل الأول هكذا هذا الحكم ثابت لأنه حكم هذا شأنه متعلق بفعل هذا شأنه وهذا الفعل صادر من مكلف هذا شأنه ولم توجد العوارض المانعة من ثبوت هذا الحكم ويدل على ثبوت هذا الحكم قياس هذا شأنه هذا هو الصغرى ثم الكبرى قولنا وكل حكم موصوف بالصفات المذكورة يدل على ثبوته القياس الموصوف فهو ثابت فهذه القضية الأخيرة من مسائل أصول الفقه وبطريق الملازمة هكذا كلما وجد قياس موصوف بهذه الصفات دال على حكم موصوف بهذه الصفات يثبت ذلك الحكم لكنه وجد القياس الموصوف إلخ فعلم أن جميع المباحث المتقدمة مندرجة تحت تلك القضية الكلية المذكورة التي هي إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه فهذا هو معنى التوصل القريب المذكور وإذا علم أن جميع مسائل الأصول راجعة إلى قولنا كل حكم كذا يدل على ثبوته دليل كذا فهو ثابت أو كلما وجد دليل كذا دال على حكم كذا يثبت ذلك الحكم على أنه يبحث في هذا العلم عن الأدلة الشرعية لأحكام الكليتين من حيث إن الأولى مثبتة للثانية والثانية ثابتة بالأولى والمباحث التي ترجع إلى أن الأولى مثبتة للثانية والثانية ثابتة بالأولى بعضها ناشئة عن الأدلة وبعضها ناشئة عن الأحكام فموضوع هذا العلم الأدلة الشرعية والأحكام إذ يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأدلة الشرعية وهي إثباتها الحكم وعن العوارض الذاتية للأحكام وهي ثبوتها بتلك الأدلة فيبحث فيه عن أحوال الأدلة المذكورة وما يتعلق بها الفاء في قوله فيبحث متعلق بحد هذا العلم أي إذا كان حد أصول الفقه هذا يجب أن يبحث فيه عن أحوال الأدلة والأحكام ومتعلقاتهم ا والمراد بالأحوال العوارض الذاتية وما يتعلق بها عطف على الأدلة والضمير في قوله بها يرجع إلى الأدلة وما يتعلق بها هو الأدلة المختلف فيها كاستصحاب الحال والاستحسان وأدلة المقلد والمستفتي وأيضا ما يتعلق بالأدلة الأربعة مما له مدخل في (١/٤١) كونها مثبتة للحكم كالبحث عن الاجتهاد ونحوه واعلم أن العوارض الذاتية للأدلة ثلاثة أقسام منها العوارض الذاتية المبحوث عنها وهي كونها مثبتة للأحكام ومنها ما ليست بمبحوث عنها لكن لها مدخل في لحوق ما هي مبحوث عنها ككونها عامة أو مشتركة أو خبر واحد وأمثال ذلك ومنها ما ليس كذلك ككونه ثلاثيا أو رباعيا قديما أو حادثا أو غيرها فالقسم الأول يقع محمولات في القضايا التي هي مسائل هذا العلم والقسم الثاني يقع أوصافا وقيودا لموضوع تلك القضايا كقولنا الخبر الذي يرويه واحد يوجب غلبة الظن بالحكم وقد يقع موضوعا لتلك القضايا كقولنا العام يوجب الحكم قطعا وقد يقع محمولا فيها نحو النكرة في موضوع النفي عامة وكذلك الأعراض الذاتية للحكم ثلاثة أقسام أيضا الأول ما يكون مبحوثا عنه وهو كون الحكم ثابتا بالأدلة المذكورة والثاني ما يكون له مدخل في لحوق ما هو مبحوث عنه ككونه متعلقا بفعل البالغ أو بفعل الصبي ونحوه والثالث ما لا يكون كذلك فالأول يكون محمولا في القضايا التي هي مسائل هذا العلم والثاني أوصافا وقيودا لموضوع تلك القضايا وقد يقع موضوعا وقد يقع محمولا كقولنا الحكم المتعلق بالعبادة يثبت بخبر الواحد ونحو العقوبة لا تثبت بالقياس ونحو زكاة الصبي عبادة وأما الثالث من كلا القسمين بمعزل عن هذا العلم وعن مسائله ويلحق به البحث عما يثبت بهذه الأدلة وهو الحكم وعما يتعلق به الضمير المجرور في قوله ويلحق به راجع إلى البحث المدلول في قوله فيبحث عما يثبت أي عن أحوال ما يثبت وقوله عما يتعلق به أي بالحكم وهو الحاكم والمحكوم به والمحكوم عليه واعلم أن قوله ويلحق به يحتمل أمرين أحدهما أن يراد به أن يذكر مباحث الحكم بعد مباحث الأدلة على أن موضوع هذا العلم الأدلة والأحكام والثاني أن موضوع هذا العلم الأدلة فقط وإنما يبحث عن الأحكام على أنه من لواحق هذا العلم فإن أصول الفقه هي أدلة الفقه ثم أريد به العلم بالأدلة من حيث إنها مثبتة للحكم فالمباحث الناشئة عن الحكم وما يتعلق به خارجة عن هذا العلم وهي مسائل قليلة تذكر على أنها لواحق وتوابع لمسائل هذا العلم كما أن موضوع المنطق التصورات والتصديقات من حيث إنها موصلة إلى تصور وتصديق فمعظم مسائل المنطق راجع إلى أحوال الموصل وإن كان يبحث فيه على سبيل الندرة عن أحوال التصور الموصل إليه كالبحث عن الماهيات أنها قابلة للحد فهذا البحث يذكر على طريق التبعية فكذا هنا وفي بعض كتب الأصول لم يعد مباحث الحكم من مباحث هذا العلم لكن الصحيح هو الاحتمال الأول وقوله وهو الحكم فإن أريد بالحكم (١/٤٢) الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين وهو قديم فالمراد بثبوته بالأدلة الأربعة ثبوت علمنا به بتلك الأدلة وإن أريد بالحكم أثر الخطاب كالوجوب والحرمة فثبوته ببعض الأدلة الأربعة صحيح وبالبعض لا كالقياس مثلا لأن القياس غير مثبت للوجوب بل مثبت غلبة ظنه بالوجوب كما قيل إن القياس مظهر لا مثبت فيكون المراد بالإثبات إثبات غلبة الظن وإن نوقش في ذلك بأن اللفظ الواحد لا يراد به المعنى الحقيقي والمجازي معا فنقول نريد في الجميع إثبات العلم لنا أو غلبة الظن لنا واعلم أني لما وقعت في مباحث الموضوع والمسائل أردت أن أسمعك بعض مباحثها التي لا يستغني المحصل عنها وإن كان لا يليق بهذا الفن منها أنهم قد ذكروا أن العلم الواحد قد يكون له أكثر من موضوع واحد كالطب فإنه يبحث فيه عن أحوال بدن الإنسان وعن الأدوية ونحوها وهذا غير صحيح والتحقيق فيه أن المبحوث عنه في العلم إن كان إضافة شيء إلى آخر كما أن في أصول الفقه يبحث عن إثبات الأدلة للحكم وفي المنطق يبحث فيه عن إيصال تصور أو تصديق إلى تصور أو تصديق وقد يكون بعض العوارض التي لها مدخل في المبحوث عنه ناشئة عن أحد المضافين وبعضها عن الآخر فموضوع هذا العلم كلا المضافين وإن لم يكن المبحوث عنه الإضافة لا يكون موضوع العلم الواحد أشياء كثيرة لأن اتحاد العلم واختلافه إنما هو باتحاد المعلومات أي المسائل واختلافها فاختلاف الموضوع يوجب اختلاف العلم وإن أريد بالعلم لواحد ما وقع الاصطلاح على أنه علم واحد من غير رعاية معنى يوجب الوحدة فلا اعتبار به على أن لكل واحد أن يصطلح حينئذ على أن الفقه والهندسة علم واحد وموضوعه شيئان فعل المكلف والمقدار وما أوردوا من النظير وهو بدن الإنسان والأدوية فجوابه أن البحث في الأدوية إنما هو من حيث إن بدن الإنسان يصح ببعضها ويمرض ببعضها فالموضوع في الجميع بدن الإنسان ومنها أنه قد يذكر الحيثية أحدهما أن الشيء مع تلك الحيثية موضوع كما يقال (١/٤٣) الموجود من حيث إنه موجود موضوع للعلم الإلهي فيبحث فيه عن الأعراض الذاتية التي تلحقه من حيث إنه موجود كالوحدة والكثرة ونحوهما ولا يبحث فيه عن تلك الحيثية لأن الموضوع ما يبحث عن أعراضه لا ما يبحث عنه أو عن أجزائه وثانيهما أن الحيثية تكون بيانا للأعراض الذاتية المبحوث عنها فإنه يمكن أن يكون للشيء أعراض ذاتية متنوعة وإنما يبحث في علم عن نوع منها فالحيثية بيان ذلك النوع فقولهم موضوع الطب بدن الإنسان من حيث إنه يصح ويمرض وموضوع الهيئة أجسام العالم من حيث إن لها شكلا يراد به المعنى الثاني لا الأول إذ في الطب يبحث عن الصحة والمرض وفي الهيئة عن الشكل فلو كان المراد هو الأول يجب أن يبحث في الطب والهيئة عن أعراض لاحقة لأجل الحيثيتين ولا يبحث عن الحيثيتين والواقع خلاف ذلك ومنها أن المشهور أن الشيء الواحد لا يكون موضوعا للعلمين أقول هذا غير ممتنع بل واقع فإن الشيء الواحد يكون له أعراض متنوعة ففي كل علم يبحث عن بعض منها كما ذكرناه وإنما قلنا إن الشيء الواحد يكون له أعراض متنوعة فإن الواحد الحقيقي يوصف (١/٤٤) بصفات كثيرة ولا يضر أن يكون بعضها حقيقة وبعضها إضافية وبعضها سلبية ولا شيء منها يلحقه لجزئه لعدم الجزء له فلحوق بعضها لا بد أن يكون لذاته قطعا للتسلسل في المبدأ فلحوق البعض الآخر إن كان لذاته فهو المطلوب وإن كان لغيره نتكلم في ذلك الغير حتى ينتهي إلى ذاته قطعا للتسلسل في المبدأ ولأنه يلزم استكماله من غيره إذا ثبت ذلك يمكن أن يكون الشيء الواحد موضوع علمين ويكون تميزهما بحسب الأعراض المبحوث عنها وذلك لأن اتحاد العلمين واختلافهما بحسب اتحاد المعلومات واختلافها والمعلومات هي المسائل فكما أن المسائل تتحد وتختلف بحسب موضوعاتها وهي راجعة إلى موضوع العلم فكذلك تتحد المسائل وتختلف بحسب محمولاتها وهي راجعة إلى تلك الأعراض وإن أريد أن الاصطلاح جرى بأن الموضوع معتبر في ذلك لا المحمول فحينئذ لا مشاحة في ذلك على أن قولهم إن موضوع الهيئة هي أجسام العالم من حيث إنها شكل وموضوع علم السماء والعالم من الطبيعي أجسام العالم من حيث إنها طبيعية قول بأن موضوعهما واحد لكن اختلافهما باختلاف المحمول لأن الحيثية فيهما بيان المبحوث عنه لا أنها جزء الموضوع وإلا يلزم أن لا يبحث فيهما عن هاتين الحيثيتين بل عما يلحقهما لهاتين الحيثيتين والواقع خلاف ذلك واللّه أعلم (١/٤٥) فنضع الكتاب على قسمين |