Geri

   

 

 

İleri

 

باب تقسيم السنة في حق النبي صلى اللّه عليه وسلم

أي بيان طريقته في إظهار أحكام الشرع

قوله ولولا جهل بعض الناس والطعن بالباطل بأن قالوا لا يجوز للنبي عليه السلام أن يحكم بالرأي والاجتهاد وأن يعتمد في بيان الأحكام على غير الوحي لأن ذلك مؤد إلى انحطاط درجة النبوة إلى درجة الاجتهاد لكان الأولى منا الكف عن تقسيمه أي تقسيم سنته وطريقته في إظهار أحكام الشرع على تأويل المذكور لأن معنى التعظيم في حق من هو دونه عدم اشتغاله بمثل هذا التقسيم فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم هو المتفرد بالكمال الذي لا يحيط به إلا اللّه عز وجل وفي الاشتغال بالتقسيم نوع إحاطة وفيه أيضا نسبة الخطأ في بعض الصدور إليه عليه السلام مع عدم التقرير عليه وفيه سوء أدب فكان الأولى تركه ولكن طعن الجاهل وتعنته بأن قال كيف ساغ له الاشتغال بالاجتهاد مع توصله إلى ما يوجب علم اليقين وهو الوحي حمل على هذا التقسيم ورخص في الاشتغال به دفعا لعنتهم وكشفا عن شبهتهم

قوله والوحي نوعان يعني أنه عليه السلام كان معتمدا على الوحي في إظهار جميع أحكام الشرع إلا أن الوحي نوعان ظاهر وباطن إلى آخر ما ذكر

وقسم شمس الأئمة رحمه اللّه ذلك على ثلاثة أقسام إلى وحي ظاهر وإلى وحي باطن وإلى ما يشبه الوحي وجعل القسمين الأولين من الوحي الظاهر والقسم الثالث من الوحي الباطن وعمله بالاجتهاد مما يشبه الوحي ولكل وجه يعرف بالتأمل وبعد علمه أي علم النبي عليه السلام بالمبلغ وهو الملك بآية قاطعة ظهرت له توجب على اليقين بأنه ملك يبلغه عن اللّه عز وجل كما ظهرت لنا الآيات القاطعة الدالة على وجود الصانع جل جلاله والمعجزات الظاهرة الدالة على صدق الأنبياء عليهم السلام وهو أي ما ثبت

(٣/٣٠٣)

بلسان الملك هو الذي أنزل عليه بلسان الروح الأمين وهو جبرائيل عليه السلام المراد من

قوله جل ذكره إنه لقول رسول كريم قل نزله روح القدس نزل به الروح الأمين على قلبك

قوله كما قال النبي عليه السلام إن روح القدس نفث في روعي أي أوقع في قلبي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أي تستوفي رزقها بكماله فاتقوا اللّه أي اجهدوا في طلب التقوى وجدوا في تحصيلها كل الجهد والجد فإنها لا تحصل إلا بالسعي لا في طلب الرزق فإنه لا يفوت أحدا بل أجملوا في طلبه بمباشرة الأسباب المشروعة وترك المبالغة فيه المؤدية إلى الوقوع في المحظور معتقدين أن الرزق من اللّه تعالى لا من الكسب بل الاشتغال به للامتثال بالأمر ويجوز أن يكون فاتقوا اللّه متعلقا ب أجملوا أي فاتقوا اللّه في طلب الرزق بالإجمال في طلبه بالاحتراز عن الاشتغال بالأسباب المحظورة والتصرفات المنهي عنها والثالث ما تبدى أي ظهر لقلبه يعني من الحق بلا شبهة

وقوله بلا معارض ولا مزاحم تأكيد والإلهام من أقسام الوحي بدليل قوله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحيا أي بطريق الإلهام وهو القذف في القلب كما قذف في قلب أم موسى عليه السلام إلا أن النبي لما عرف قطعا أنه من اللّه تعالى كان ذلك حجة قاطعة فهذا أي ما ذكرنا من الأقسام الثلاثة وحي ظاهر كله لظهوره في حق النبي صلى اللّه عليه وسلم في درك حقيته أي النبي عليه السلام مبتلى بدرك حقيته بالتأمل فيما ظهر له من الآية الدالة على حقيته ونحن مبتلون بدرك حقيته أيضا بعد تبليغه إلينا بالتأمل في المعجزات الدالة على صدقه

وإنما اختلف طريق الظهور بأن ظهر البعض بتبليغ الملك والبعض بإشارته والبعض بإظهار اللّه عز وجل من غير واسطة وهذه أي هذه الأقسام الثلاثة من خواص النبي صلى اللّه عليه وسلم لا شركة للأمة فيها إذ الوحي من خصائصه بلا شبهة وكذا الإلهام الذي لا يبقى معه شبهة لا يوجد في حق غيره ولو وجد وأكرم غيره بذلك كان ثبوته له لحق النبي عليه السلام أي

(٣/٣٠٤)

لحرمته على مثال كرامات الأولياء فإنها تثبت لحرمة النبي عليه السلام وإتماما لمعجزته على ما عرف وإذا كان كذلك لا يخرج بثبوته للغير من خصائصه عليه السلام على أنه إن ثبت للغير لا يكون حجة في أحكام الشرع فثبت أن كون الإلهام حجة مخصوص بالنبي عليه السلام

قوله

وأما الوحي الباطن فكذا جعل الاجتهاد منه عليه السلام وحيا باطنا باعتبار المآل فإن تقديره عليه السلام على اجتهاده يدل على أنه هو الحق حقيقة كما إذا ثبت بالوحي ابتداء وجعله شمس الأئمة مشابها للوحي بهذا الاعتبار أيضا فقال

وأما ما يشبه الوحي في حق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهو استنباط الأحكام من النصوص بالرأي والاجتهاد فإن ما يكون من رسول اللّه عليه السلام بهذا الطريق فهو بمنزلة الثابت بالوحي لقيام الدليل على أنه يكون صوابا لا محالة فإنه كان لا يقر على الخطأ فكان ذلك منه حجة قاطعة ومثل هذا من الأمة لا يجعل بمنزلة الوحي لأن المجتهد يخطئ ويصيب وقد علم أنه كان له عليه السلام من الكمال ما لا يحيط به إلا اللّه فلا شك أن غيره لا يساويه في إعمال الرأي والاجتهاد

قوله واختلف في هذا الفصل أي في جواز الاجتهاد للنبي صلى اللّه عليه وسلم وفي كونه متعبدا به فأبى بعضهم وهم الأشعرية وأكثر المعتزلة والمتكلمين أن يكون الاجتهاد حظ النبي عليه السلام في الأحكام الشرعية إلا أن بعضهم قالوا إنه غير جائز عليه عقلا وهو منقول عن أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم وبعضهم قالوا إنه جائز عليه عقلا ولكنه لم يتعبد به شرعا وقال بعضهم وهم عامة أهل الأصول كان له العمل في أحكام الشرع بالوحي والرأي جميعا أي بالوحي الظاهر والباطن وهو منقول عن أبي يوسف من أصحابنا وهو مذهب مالك والشافعي وعامة أهل الحديث وقال أكثر أصحابنا بأنه عليه السلام كان متعبدا بانتظار الوحي في حادثة ليس فيها وحي فإن لم ينزل الوحي بعد الانتظار كان ذلك دلالة للإذن بالاجتهاد ثم قيل مدة الانتظار مقدرة بثلاثة أيام وقيل بخوف فوت الغرض وذلك يختلف بحسب الحوادث كانتظار الولي الأقرب في النكاح مقدر بفوت الخاطب الكفء

(٣/٣٠٥)

وكلهم اتفقوا أن العمل يجوز له بالرأي في الحروب وأمور الدنيا احتج الفريق الأول بالنص وهو قوله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أخبر أنه لا ينطق إلا عن وحي والحكم الصادر عن اجتهاد لا يكون وحيا فيكون داخلا تحت النفي وبالمعقول وهو أن النبي عليه السلام كان ينصب أحكام الشرع ابتداء والاجتهاد دليل محتمل للخطاء لأنه رأي العباد فلا يصلح لنصب الشرع ابتداء لأن نصب الشرع حق اللّه تعالى فكان إليه نصبه لا إلى العباد بخلاف أمور الحرب وما يتعلق بالمعاملات لأن ذلك من حقوق العباد إذ المطلوب إما دفع ضر عنهم أو جر نفع إليهم مما يقوم به مصالحهم واستعمال الرأي جائز في مثله لحاجة العباد إلى ذلك وليس في وسعهم فوق ذلك واللّه تعالى يتعالى عما يوصف به العباد من العجز والحاجة فما هو حقه لا يثبت ابتداء إلا بما يكون موجبا علم اليقين يبينه أن المصير إلى الرأي الذي هو محتمل للخطأ إنما يجوز عند الضرورة حتى لم يجز الاشتغال به مع وجود النص والضرورة إنما تثبت في حق الأمة لا في حقه عليه السلام إذ الوحي يأتيه في كل وقت فكان اشتغاله بالرأي كاشتغالنا به مع وجود النص وهذا كتحري القبلة فإنه يجوز لمن بعد عن الكعبة ولم يجد سبيلا إلى الوقوف عليها للضرورة لا لمن كان مشاهدا للكعبة ولا لمن يجد سبيلا إلى الوقوف عليها لعدم الضرورة المحوجة إلى التحري ولأنه لو جاز له الاجتهاد لجاز مخالفته لمجتهد آخر لأن جواز المخالفة من أحكام الاجتهاد وبالاتفاق لا يجوز لأحد أن يخالفه في حكمه فعلم أن الاجتهاد غير سائغ له لانتفاء موجبه في حقه ألا ترى أن في أمور الحرب لما جاز له الرأي جازت مخالفته حتى خالفه السعدان في إعطاء شطر ثمار المدينة وأسيد بن حضير في النزول يوم بدر على ما سيأتي بيانه

ولأن الاجتهاد منه عليه السلام سبب لتنفير الناس عنه لأنهم متى سمعوا أنه يحكم برأيه في شريعته يسبق إلى أوهامهم قبل أن يتأملوا حق التأمل أنه ينصبه من تلقاء نفسه وذلك سبب للنفرة إذ الطبع ينفر عن اتباع ميله وما يؤدي إلى النفرة لا يكون هو مأذونا فيه لتأديته إلى المناقشة لكونه مبعوثا للدعوة إليه لا للنفرة عنه ووجه القول الآخر وهو قول العامة الكتاب والسنة والدليل المعقول أما الكتاب فقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار أمر بالاعتبار عاما لأولي البصائر إذ المراد من البصر البصيرة وكأن

قوله يا

(٣/٣٠٦)

أولي الأبصار تعليل للاعتبار أي اعتبروا يا أولي الأبصار لاتصافكم بالبصيرة والنبي عليه السلام أعظم الناس بصيرة وأصفاهم سريرة وأصوبهم اجتهادا وأحسنهم استنباطا وهو معنى

قوله أحق الناس بهذا الوصف أي بوصف البصيرة فكان أولى بهذه الفضيلة وبالدخول تحت هذا الخطاب وقال تعالى ففهمناها سليمان روي أن رجلين تحاكما إلى داود وعنده سليمان عليهما السلام

أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث إن هذا انفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي فلم يبق منه شيئا فقال لك رقاب الغنم فقال سليمان أو غير ذلك ينطلق أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها ويقوم أصحاب الغنم على الحرث حتى إذا كان ليلة نفشت فيه دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم ودفع هؤلاء إلى هؤلاء حرثهم وأكثر المفسرين على أن الحرث كان كرما قد تدلت عناقيدهم فقال داود عليه السلام القضاء ما قضيت وحكم بذلك فأخبر اللّه تعالى عن تلك القضية بقوله عز اسمه وداود وسليمان إلى أن قال ففهمناها سليمان الهاء ضمير الحكومة المدلول عليها بقوله إذ يحكمان في الحرث وذلك أي ذلك التفهيم عبارة عن الرأي من غير نص أي المراد أنه وقف على الحكم بطريق الرأي لا بطريق الوحي لأن ما كان بطريق الوحي فداود وسليمان عليهما السلام فيه سواء وحيث خص سليمان بالفهم علم أن المراد به الفهم بطريق الرأي ولأن القضية التي قضاها داود أولا لو كانت بالوحي لما وسع سليمان خلافه ولما خالف ومدح على ذلك علم أنه كان بالرأي

وذكر في المطلع قيل إنهما اجتهدا جميعا فجاء اجتهاد سليمان عليه السلام أشبه بالصواب فرجع داود إلى اجتهاد سليمان قبل الحكم لأن الحكم إذا وقع بالاجتهاد لا ينتقض باجتهاد آخر وكذلك قوله تعالى أي ومثل

قوله ففهمناها سليمان قوله تعالى إخبارا عن داود عليه السلام لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه جواب من داود عليه السلام بالرأي فإنه كان بطريق التنبيه وإنما يحسن ذلك إذا فوض الحكم إلى رأيه وعبارة شمس الأئمة أوضح فإنه قال وقد حكم داود بين الخصمين حين تسوروا المحراب فإنه قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وهذا بيان بالقياس الظاهر ونقل عن أبي يوسف رحمه اللّه أنه تمسك فيه بقوله تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه فإنه بعمومه يتناول الحكم بالنص وبالاستنباط منه إذ الحكم لكل منها حكم بما أراه اللّه وأورد عليه أن المراد بما أراك مما أنزله إليك لدلالة السابق عليه إذ لا

(٣/٣٠٧)

مناسبة بين قول القائل أنفذت إليك ذلك الكتاب لتحكم بغيره وأجيب عنه بأن الحكم الذي استنبط من المنزل حكم بالمنزل لأنه حكم بمعناه وبأن التقييد بالمنزل خلاف الأصل

وقرر أبو علي الفارسي هذا التمسك فقال الإراءة هاهنا لا تستقيم أن تكون لإراءة العين لاستحالتها في الأحكام ولا لمعنى الإعلام لوجوب ذكر المفعول الثالث كذكر الثاني لأن المعنى ما أراكه اللّه لتتم الصلة فتبين أن المعنى لتحكم بين الناس بما جعله اللّه لك رأيا وأجيب بأن الإراءة بمعنى الإعلام وما مصدرية لا موصولة لتحتاج إلى ضمير ويكون قد حذف المفعولان وهو جائز

وأما السنة فحديث الخثعمية فإنه عليه السلام اعتبر فيه دين اللّه بدين العباد وذلك بيان بطريق القياس وقد مر بيانه في باب الأداء والقضاء وحديث القبلة للصائم وهو ما روي أن عمر رضي اللّه عنه سأل النبي عليه السلام فقال إني أتيت اليوم أمرا عظيما فقال وما ذاك فقال هششت إلى امرأتي فقبلتها فقال رأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك قال لا قال ففيم إذا أي ففيم تشك إذ قد عرفت ذلك فاعتبر فيه مقدمة الجماع وهي القبلة بمقدمة الشرب وهي المضمضة في عدم فساد الصوم وهو قياس ظاهر بل عدم الفساد في القبلة أظهر لأنها تهيج الشهوة ولا تسكنها والتمضمض تسكن شيئا من العطش وقال فيمن أتى أهله إنه يؤجر روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في حديث طويل وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول اللّه أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر اعتبر مباشرة الحلال في استحقاق موجبها وهو الأجر بضدها وهو مباشرة الحرام في استحقاق موجبها وهو الوزر وهذا بيان الرأي والاجتهاد والمج رمي الماء من الفم مما يطلب

وأما المعقول فهو أن الاجتهاد مبني على العلم بمعاني النصوص ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

(٣/٣٠٨)

أسبق الناس في العلم أي أكملهم فيه حتى كان يعلم بالمتشابه الذي لا يعلمه أحد من الأمة بعده وكان عالما بمعنى النص الذي هو متعلق الحكم لا محالة وبعد العلم به والوقوف على طريق الاستعمال لا وجه لمنعه عن ذلك لأنه نوع حجر وذلك لا يليق بعلو درجته مع اطلاع غيره فيه يوضحه أنه لو لم يجز له العمل بالاجتهاد الذي هو أعلى درجات العلم للعباد وأكثر صوابا لاشتماله على المشقة وجاز لأمته ذلك لكانت الأمة أفضل منه في هذا الباب وإنه غير جائز ولا يقال إنما يلزم ذلك أن لو لم يكن له منصب أعلى منه لأنه كان يستدرك الأحكام وحيا وهو أعلى من الاجتهاد لأنا نقول الوحي وإن كان أعلى من الاجتهاد لكن ليس فيه تحمل المشقة في استدراك الحكم فلا يظهر فيه أثر جودة الخاطر وقوة القريحة وإذا كان هذا نوعا مفردا من الفضيلة لم يخل الرسول عنه بالكلية ثم الشيخ رحمه اللّه ذكر هاهنا أن المتشابه وضح للرسول عليه السلام دون غيره وهكذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه وهو يتراءى مخالفا لظاهر الكتاب لأن الوقف إن وجب على

قوله عز وجل وما يعلم تأويله إلا اللّه كما هو مختار السلف والشيخين فذلك يقتضي أن لا يعلمه الرسول كما لا يعلمه غيره من العباد وإن كان الوقف على قوله تعالى والراسخون في العلم كما هو مختار الخلف يلزم أن لا يكون الرسول عليه السلام مخصوصا بعلمه بل الراسخون يعلمونه أيضا فأما أن يعلمه الرسول ولا يعلمه غيره فمخالف لما دل عليه النص من كل وجه

وأجيب عنه بأن معنى الآية على تقدير الوقوف على إلا اللّه وما يعلم أحد تأويله بدون تعلم اللّه إلا اللّه كما في قوله تعالى قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللّه أي لا يعلم بدون تعليم اللّه إلا اللّه فيكون إلا حينئذ بمعنى غير وإذا كان كذلك جاز أن يكون الرسول مخصوصا بالتعليم بدون إذن بالبيان لغيره فيبقى غير معلوم من حق غيره واعترض بأن الآية تقتضي حصر العلم على اللّه عز وجل وإذا صار الرسول عليه السلام عالما بالمتشابهات النازلة قبل نزول هذه الآية بالتعليم لا يستقيم الحصر وكان ينبغي أن يقول وما يعلم تأويله إلا اللّه ورسوله وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون التعليم حاصلا بعد نزول هذه الآية فلا يكون الرسول عليه السلام عالما بالمتشابه قبل نزولها فيستقيم الحصر بقوله وما يعلم تأويله إلا

(٣/٣٠٩)

اللّه وبأن الآية دلت على حصر العلم على اللّه عز وجل وعلى من علمه اللّه بالتأويل الذي ذكر ألا ترى أن تلك الآية توجب حصر علم الغيب على اللّه تعالى ثم إنه لا يمنع أن يعلم غير اللّه بتعليمه كما قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فكذا هاهنا

قوله إلا أن اجتهاد غيره جواب عما يقال لما جاز له الاجتهاد وكان ينبغي أن يكون منزلته دون النص فيكون ظنيا كاجتهاد غيره ويجوز مخالفته إذ ذاك فقال ليس كذلك لأن اجتهاد غيره يحتمل الخطأ والقرار عليه واجتهاده لا يحتمل الخطأ عند أكثر العلماء لأنا أمرنا باتباعه في الأحكام بقوله عز وجل فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وبغيره من الآيات فلو جاز الخطأ عليه لكنا مأمورين باتباع الخطأ وذلك غير جائز وإن احتمل الخطأ كما هو مذهب أكثر أصحابنا بدليل

قوله عز اسمه عفا اللّه عنك لم أذنت لهم

فإنه يدل على أنه عليه السلام أخطأ في الإذن لهم وبدليل نزول العتاب في أسارى بدر وغيرهما من الدلائل فلا يحتمل القرار على الخطأ لما ذكرنا أنه يؤدي إلى الأمر باتباع الخطأ فإذا أقره اللّه على اجتهاده دل أنه كان هو الصواب فيوجب علم اليقين كالنص فيكون مخالفته حراما وكفرا وهو نظير الإلهام فإن إلهام النبي عليه السلام حجة قاطعة لا يسع مخالفته بوجه وإلهام غيره ليس بحجة

قوله وذلك مثل أمور الحرب أي الاجتهاد والعمل بالرأي في سائر أحكام الشرع مثل العمل بالرأي في أمور الحرب من غير فرق والغرض منه إبطال الفرق الذي ادعته الطائفة الأولى ألا ترى أنه شاورهم في أسارى بدر وهو مشاورة في حكم الشرع لأن مفاداة الأسير بالمال جوازها وفسادها من أحكام الشرع ومما هو حق اللّه تعالى فعلم أنه كان يشاورهم في الأحكام كما في الحروب

وقصة ذلك ما روي أنه لما كان يوم بدر وهزم المشركون وقتل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون استشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الأسارى فقال أبو بكر رضي اللّه عنه هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وأرى أن نأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم اللّه فيكونوا لنا عضدا فقال رسول اللّه

(٣/٣١٠)

صلى اللّه عليه وسلم لعمر رضي اللّه عنه ما ترى يا ابن الخطاب فقال إنهم كذبوك وأخرجوك وهؤلاء أئمة الكفر وقادة المشركين فأرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر وعليا من عقيل وحمزة من العباس فلنضربن أعناقهم حتى يعلم اللّه أنه ليس في قلوبنا مودة للمشركين فقال عليه السلام مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم حيث قال ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا عمر كمثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فهوي ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر فأخذ منهم الفداء فأنزل اللّه تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى إلى

قوله لولا كتاب من اللّه سبق أي لولا حكم سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أنه لا يعاقب أحدا بخطاء وهذا خطأ في الاجتهاد لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما يؤدي إلى إسلامهم وتدينهم وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وقيل كناية أنه يستحل لهم الفدية التي أخذوها وقيل إن أهل بدر مغفور لهم وقيل إن اللّه لا يعذب قوما إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ولم يتقدم النهي عن ذلك لمسكم فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم فقال صلى اللّه عليه وسلم لو نزل بنا عذاب ما نجا إلا عمر وإنما أمضى ذلك الحكم لأن الحكم إذا أمضي بالاجتهاد ثم نزل نص بخلافه وظهر خطؤه عمل به في المستقبل لا فيما مضى كذا قيل والأصح أن اللّه تعالى أمضى ذلك الحكم بعد العتاب بقوله فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا

قوله وكما شاور سعد بن معاذ روي أن الأمر لما ضاق على المسلمين في حرب الأحزاب وكان في الكفار قوم من أهل مكة عونا لهم رئيسهم عيينة بن حصن الفزاري وأبو سفيان بن حرب بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عيينة وقال ارجع أنت وقومك ولك ثلث ثمار مدينة فأبى إلا أن يعطيه نصفها فاستشار في ذلك الأنصار وفيهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة

أحدهما رئيس الأوس والآخر رئيس الخزرج فقالا هذا شيء أمرك اللّه به أم شيء رأيته من نفسك فقال لا بل رأي رأيته من عند نفسي فقالا يا رسول اللّه إنهم لم ينالوا في الجاهلية من ثمار المدينة إلا بشراء أو بقرى فإذا أعزنا اللّه بالإسلام لا نعطيهم الدنية فليس بيننا وبينهم إلا السيف وفرح بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أصرفهم عنكم فإذا ثبتم فذاك ثم قال للذين جاءوا بالصلح اذهبوا فلا نعطيهم إلا السيف

(٣/٣١١)

وكذلك أخذ برأي أسيد بن حضير لما أراد النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر النزول فقال له أسيد بن حضير أو حباب بن المنذر إن كان عن وحي فسمعا وطاعة وإن كان عن رأي فإني أرى أن ننزل على الماء ونأخذ الحياض فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم برأيه ونزل على الماء ثم المشاورة في أسارى بدر نظير لقوله شاورهم في سائر الحوادث لما قلنا إنها مشاورة في حكم شرعي فأما المشاورة في بذل شطر الثمار والنزول على الماء فلا يصح نظيرا له لأنها مشاورة في أمور الحرب فلا تصلح إلزاما على الخصم وظني أن الواو في

قوله وكما شاور سعد بن معاذ وقعت زائدة من الناسخ فبدونها يستقيم الكلام فيصير المشاورة في الأسارى نظيرا لقوله شاور في سائر الحوادث ومشاورة السعدين والأخذ برأي أسيد نظيرين لقوله مثل مشاورته في أمور الحرب وكذا رأيت مكتوبا بدون الواو في نسخة عتيقة مقروءة على العلامة شمس الأئمة الكردي رحمه اللّه وعلى من قبله أيضا

قوله وقد كان يقطع الأمر أي الشأن دونهم متصل بقوله مثل مشاورته في أمور الحرب يعني كان يحكم في أمر الحرب الأمر بطريق القطع إذا كان فيه وحي كما كان يفعل كذلك في سائر الحوادث وحاصله أنه أبطل الفرق المذكور بإثبات المساواة بين أمور الحرب وسائر الحوادث فيما إذا وجد فيها الوحي وفيما إذا لم يوجد فقال إذا لم يوجد الوحي كان يستشيرهم فيهما جميعا وإذا وجد الوحي يقطع الأمر فيها من غير مشاورة والتفات إلى رأي أحد فلا معنى للفرق الذي ذكروه ثم أكد هذا المعنى وهو إبطال الفرق بقوله والجهاد محض حق اللّه تعالى ليس بينه وبين غيره فرق فإذا جاز له العمل بالرأي جاز في غيره من الأحكام أيضا

وقوله ولا تحل المشورة مع قيام الوحي متصل بقوله شاور في سائر الحوادث يعني وإذا ثبت أنه شاورهم في سائر الحوادث ولا تحل المشورة مع قيام الوحي بل تحل لأجل العمل بالرأي علم أنه إنما شاورهم للعمل بالرأي وفي

قوله خاصة إشارة إلى دفع سؤال وهو أن يقال يجوز أن تكون المشورة لتطبيب قلوبهم فقال ليس كذلك بل للعمل بالرأي خاصة قال شمس الأئمة رحمه اللّه ولا معنى لقول من يقول إنما كان يستشيرهم في الأحكام لتطييب قلوبهم لأن فيما كان الوحي ظاهرا معلوما ما كان يستشيرهم وفيما كان يستشيرهم لا يخلو إما إن كان يعمل برأيهم أو لا يعمل فإن كان لا

(٣/٣١٢)

يعمل برأيهم وكان ذلك معلوما لهم فليس في هذه الاستشارة تطييب النفس بل هي نوع من الاستهزاء وظن ذلك برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محال وإن كان يستشيرهم ليعمل برأيهم فلا شك أن رأيه كان أقوى من رأيهم

وإذا جاز له العمل برأيهم فيما لا نص فيه فجواز ذلك برأيه أولى ويتبين أنه إنما كان يستشيرهم لتقريب الوجوه وتخمير الرأي على ما كان يقال المشورة تلقيح العقول ويقال من الحزم أن تستشير ذا رأي ثم تطيعه ثم إنما أعاد

قوله إلا أن النبي معصوم عن القرار على الخطأ وبعده ما ذكره مرة ردا لكلام الخصم وجوابا عن قولهم الاجتهاد يحتمل للخطأ فلا يصلح لنصب الشرع وإذا كان كذلك أي وإذا كان الأمر كما قلنا إنه معصوم عن القرار على الخطأ كان اجتهاده ورأيه بعدما قرر عليه صوابا بلا شبهة ويجوز أن يصدر الحكم عن الاجتهاد ثم ينضم إليه ما يوجب القطع بالصحة وينضم تحريم المخالفة كالإجماع الصادر عن الاجتهاد

وقوله إلا أنا اخترنا تقديم انتظار الوحي استثناء من القول الثاني وبيان للمذهب المختار وهذا على قول من جعل الحق في المجتهدات واحدا فأما على قول من قال بتعدد الحقوق فلا يتصور الخطأ في اجتهاده عنده لأن اجتهاد غيره لا يحتمل الخطأ فاجتهاده أولى فوجب تقديم الطلب أي طلب النص بانتظار الوحي لاحتمال الإصابة أي إصابة النص بنزول الوحي وصار ذلك أي انتظار الوحي في حقه عليه السلام كطلب النص النازل الخفي بين النصوص في حق سائر المجتهدين يعني النص الذي اختفى بين النصوص ولم يصل إلى المجتهد إذ لم يحل له الاجتهاد قبل طلبه قال القاضي الإمام وكان تربصه عليه السلام لنزول الوحي بمنزلة تربصنا للتأمل في المنزل وقال شمس الأئمة وكان الانتظار في حقه بمنزلة التأمل في النص المؤول والخفي في حق غيره ومدة الانتظار على ما نرجو نزوله أي نزول الوحي يعني هي ما فيه ما دام رجاء نزول الوحي باقيا إلا أن يخاف الفوت أي فوت الغرض أو فوت الحكم في الحادثة يعني يخاف أن يفوت الحادثة بلا حكم وحينئذ ينقطع طمعه عن الوحي فيحكم بالرأي

قال صاحب الميزان وهذا القول حسن يعني اشتراط الانتظار

(٣/٣١٣)

ما دام يرجى نزول الوحي أحسن لكن قول العامة أحق وكان عليه العمل لجميع أنواع الوحي والتبليغ عند الحاجة والانتظار للوحي الظاهر في غير موضع الحاجة

وأما تمسك الخصم بقوله تعالى وما ينطق عن الهوى ففاسد إذ لا دليل على موضع النزاع فإنه نزل في شأن القرآن ردا لما زعم الكفار أنه افتراء من عنده فكان معناه أن ما ينطق به قرآنا فهو وحي لا عن هوى لا أن ما ينطق به مطلقا كذلك ولئن سلمنا أن المراد به التعميم لأن بخصوص السبب لا يتخصص عموم اللفظ فلا نسلم أن اجتهاده مع التقرير عليه ليس بوحي بل هو وحي بان كما أشار إليه الشيخ ولأنه إذا تعبدنا بالاجتهاد بالوحي يكون نطقه بذلك الحكم عن وحي لا عن هوى ولأن المراد من الهوى هو النفس الباطل لا الرأي الصواب الصادر عن عقل ونظر في أصول الشرع واندرج فيما ذكرنا الجواب عن بقية كلماتهم فلا نعيده

قوله ومما يتصل بسنة نبينا شرائع من قبله لأنها لما بقيت إلى مبعث النبي عليه السلام وصارت شريعة له لما سنبين كانت من سننه وإنما أخرناه للاختلاف في كونها شريعة لنبينا عليه السلام وذكر الضمائر الثلاثة الأواخر مع كونها راجعة إلى الشرائع على تأويل المذكور أو لكون الشرائع مضافة إلى المذكور وهو من قبله واللّه أعلم وهذا

(٣/٣١٤)