باب المعارضةأي باب بيانها قوله وهذا الفصل أي فصل بيان المعارضة أربعة أقسام في الأصل أي باعتبار نفس المعارضة من غير نظر إلى أنها وقعت في الحجج الشرعية أو في غيرها وهذا ليس من قبيل تقسيم الجنس إلى أنواعه كتقسيم الحيوان إلى إنسان وفرس وحمار وغيرها ليشترط فيه اشتراط مورد التقسيم بين الأقسام بل هو من قبيل تقسيم الكل إلى أجزائه كتقسيم الإنسان إلى حيوان وناطق فإن مورد التقسيم بيان المعارضة والبيان بصفة الكمال لا يحصل إلا ببيان الأقسام الأربعة فكان بيان كل قسم بمنزلة جزء من البيان فلذلك لم يشترط فيه اشتراط مورد التقسيم قوله وركن المعارضة كذا ركن الشيء ما لا وجود لذلك الشيء إلا به وأنه يطلق على جزء من الماهية كقولنا القيام ركن الصلاة ويطلق على جميعها كما في هذه الصورة فإن ما فسر الركن به هو تفسير نفس التعارض أيضا كذا قيل وإنما قيد بتساوي الحجتين ليتحقق التقابل والتدافع إذ لا مقابلة بين الضعيف والقوي بل يترجح القوي فالمشهور لا يقابل المتواتر وخبر الواحد لا يعارض المشهور وقيد بتضاد الحكمين أي بمخالفتهما لأنهما إذا كانا متفقين يتأيد كل دليل بالآخر ولا يقع التعارض وذلك أي اشتراط اتحاد المحل والوقت باعتبار أن المضادة والتنافي بين الشيئين لا تتحقق في محلين وكاجتماع الحل والحرمة في المنكوحة وأمها من أن الموجب واحد وهو النكاح فكيف إذا كان اثنين ولا في وقتين لما ذكر في الكتاب ويندرج فيما ذكر اتحاد الحال أيضا فإن اختلافها من قبيل اختلاف المحل أو اختلاف الوقت واتحاد النسبة شرط أيضا وإن لم يذكره الشيخ لجواز اجتماع الضدين في محل (٣/١١٩) واحد في وقت واحد بالنسبة إلى شخصين كاجتماع الحل والحرمة في المنكوحة بالنسبة إلى الزوج وغيره وكاجتماع الأبوة والبنوة في شخص واحد في واحد بالنسبة إلى ولده ووالده قال شمس الأئمة رحمه اللّه ومن الشرط أن يكون كل واحد منهما موجبا على وجه يجوز أن يكون ناسخا للآخر إذا عرف التاريخ بينهما فيجري التعارض بين الآيتين والسنتين ولا يجري بين القياسين لأن أحدهما لا يجوز أن يكون ناسخا للآخر فإن النسخ لا يكون إلا عن تاريخ وذلك لا يتحقق في القياسين ولا بين أقوال الصحابة رضي اللّه عنهم لأن كل واحد منهم إنما قال ذلك عن رأيه فالرواية لا تثبت بالاحتمال وكما أن الرأيين من واحد لا يصلح أن يكون أحدهما ناسخا للآخر فكذا من اثنين وقد سمى بعض العلماء التعارض الذي بينا تناقضا فقال إذا اختلف الكلامان في النفي والإثبات سميا متناقضين ويعني به أن يكذب أحدهما إذا صدق الآخر ثم قال ولا يتحقق هذا التناقض إلا بوحدة المحكوم عليه فإنك إذا قلت الحمل يذبح ويشوى لا يناقضه قولك الحمل لا يذبح ولا يشوى إذا أردت به برج الحمل وبوحدة المحكوم فإنك إذا قلت المكره مختار أي له قدرة على الامتناع لا يناقضه قولك المكره ليس بمختار على معنى أنه ما خلي ورأيه وشهوته ويندرج فيما ذكرنا ما ذكروا من اشتراط وحدة الزمان والمكان والإضافة والقوة والفعل والكل والجزء والشرط لأنك إذا قلت زيد جالس أي في هذا الزمان أو المكان زيد ليس بجالس أي في زمان أو مكان آخر كان المحكوم في الأول غيره في الثاني وكذا إذا قلت زيد أب أي لعمر زيد ليس بأب أي لخالد إذ المحكوم في الأول أبوة عمرو وفي الثاني أبوة خالد أو قلت الخمر في الدن مسكر أي بالقوة الخمر في الدن ليس بمسكر أي بالفعل إذ المحكوم فيهما أمران متغايران ولو قلت الزنجي أسود أي جلده الزنجي ليس بأسود أي جميع أجزائه كان المحكوم عليه في الأول بعض الأجزاء وفي الثاني كلها فيتغايران وكذا إذا قلت الجسم مفرق للبصر أي بشرط كونه أبيض الجسم ليس بمفرق للبصر أي بشرط كونه أسود فإن المحكوم عليه في الأول الجسم الموصوف بالبياض وفي (٣/١٢٠) الثاني الجسم الموصوف بالسواد وهما متغايران وبالجملة يشترط أن لا يغاير أحد الكلامين للآخر في شيء ألبتة إلا في النفي والإثبات فينفي أحدهما ما يثبته الآخر بعينه من ذلك المحكوم عليه بعينه من غير تفاوت قوله وحكم المعارضة كذا إذا تحقق التعارض بين النصين وتعذر الجمع بينهما فالسبيل فيه الرجوع إلى طلب التاريخ فإن علم التاريخ وجب العمل بالمتأخر لكونه ناسخا للمتقدم وإن لم يعلم سقط حكم الدليلين لتعذر العمل بهما وب أحدهما عينا لأن العمل ب أحدهما ليس بأولى من العمل بالآخر والترجيح لا يمكن بلا مرجح ولا ضرورة في العمل أيضا لوجود الدليل الذي يمكن العمل به بعدهما فلا يجب العمل بما يحتمل أنه منسوخ وإذا تساقطا وجب المصير إلى دليل آخر يمكن به إثبات الحكم لأن الحادثة التحقت بما إذا لم يكن فيه ذلك النصان بتساقطهما فلا بد من طلب دليل آخر يتعرف به حكم الحادثة ثم إن كان التعارض بين الآيتين وجب المصير إلى السنة إن وجدت وهو معنى قوله إن أمكن أو إلى أقوال الصحابة والقياس إن لم توجد وإن كان بين السنتين وجب المصير إلى ما بعد السنة مما يمكن به إثبات حكم الحادثة وذلك نوعان أقوال الصحابة والقياس ثم عند من أوجد تقليد الصحابي مطلقا فيما يدرك بالقياس وفيما لا يدرك به وجب المصير إلى أقوالهم أولا فإن لم يوجد فإلى القياس ويؤيده ما ذكر الشيخ في شرح التقويم حكم المعارضة هو أنه إذا وقع التعارض بين آيتين فالميل إلى السنة واجب وإن وقع التعارض بين سنتين فالميل إلى أقوال الصحابة وإن وقع بين أقوال الصحابة فالميل إلى القياس ولا تعارض بين القياس وبين أقوال الصحابة وعند من لا يوجب تقليد الصحابي فيما يدرك بالقياس وجب المصير إلى ما ترجح عنده من القياس وقول الصحابي لأن قوله لما كان بناء على الرأي كان بمنزلة قياس آخر فكان بمنزلة تعارض قياسين فيجب العمل ب أحدهما بشرط التحري ثم مختار الشيخ إن كان القول الأول يكون قوله على الترتيب في الحجج متعلقا بالمجموع أي حكم المعارضة بين الآيتين المصير إلى السنة وبين السنتين نوعان المصير إلى أقوال الصحابة والقياس لكن على الترتيب لا على التساوي وإن كان القول الثاني يكون قوله على الترتيب في الحجج متعلقا بما تقدم لا بقوله إلى القياس وأقوال الصحابة أي الكتاب مقدم على السنة فعند العجز عن العمل به يصار إلى السنة والسنة مقدمة على القياس وأقوال الصحابة فعند العجز (٣/١٢١) عن العمل بها يصار إلى أحدهما وقيل معناه على الترتيب في الحجج بحسب اختلاف العلماء واتفاقهم في ذلك وذكر في بعض الشروح وإنما قال وبين سنتين نوعان وإن كان يصار إلى قول الصحابي أولا ثم إلى القياس لأن المصير إليهما من حكم المعارضة بين السنتين إلا أن قول الصحابي شبهة السماع فيقدم على القياس قوله وعند العجز يعني عند العجز عن المصير إلى دليل آخر على الترتيب المذكور بأن لم يوجد بعد النصين المتعارضين دليل آخر يعمل به أو يوجد التعارض في الجميع يجب تقرير الأصول أي يجب العمل بالأصل في جميع ما يتعلق بالنصين كما سيجيء بيانه فصار الحاصل أن حكم المعارضة نوعان المصير إلى ما بعد المتعارضين من الدليل إن أمكن وتقرير الأصول إن لم يمكن ثم في النوع الأول إن كان التعارض بين آيتين فالمصير إلى السنة وإن كان بين سنتين فنوعان المصير إلى القياس وإلى أقوال الصحابة وإن جعلت المصير إلى أقوال الصحابة والقياس نوعا واحدا وتقرير الأصول عند العجز نوعا آخر فله وجه وبالجملة في هذا الكلام نوع اشتباه ولم يتضح لي سره ثم المصير إلى السنة في تعارض الآيتين والمصير إلى أقوال الصحابة والقياس في تعارض السنتين إنما يجب إذا كان التساوي ثابتا في عدد الحجج بأن كان من كل جانب واحد أو أكثر فإن كان من جانب دليل واحد ومن جانب دليلان فاختلف فيه فقال بعضهم إن أحد الدليلين يسقط بالتعارض والدليل الآخر الذي سلم عن المعارضة يتمسك به ولا يجب المصير إلى ما بعده من الدلائل وعند بعضهم لا عبرة لكثرة العدد وقلته في التعارض وسيأتي بيانه إن شاء اللّه عز وجل ثم قيل نظير التعارض بين الآيتين والمصير إلى السنة قوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن وقوله عز وجل وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا فإن الأول بعمومه يوجب القراءة على المقتدي لوروده في الصلاة باتفاق أهل التفسير وبدلالة السياق والسياق الثاني ينفي وجوبها عنه إذ الإنصات لا يمكن مع القراءة وأنه ورد في القراءة في الصلاة أيضا عند عامة أهل التفسير فيتعارضان فيصار إلى الحديث وهو قوله عليه السلام من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة وقوله عليه السلام في الحديث المعروف وإذا قرأ فأنصتوا ولا يعارضهما قوله عليه السلام لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب لأنه محتمل في نفسه قد يراد به نفي الفضيلة على ما عرف ونظير التعارض بين السنتين والمصير إلى القياس ما روى النعمان بن بشير رضي اللّه (٣/١٢٢) عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم صلى صلاة الكسوف كما تصلون ركعة وسجدتين وما روت عائشة رضي اللّه عنها أنه صلاها ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات فإنهما لما تعارضا صرنا إلى القياس وهو الاعتبار بسائر الصلوات قوله أو قراءتين مثل قوله تعالى وأرجلكم بالنصب والجر وقوله جل ذكره يطهرن بالتشديد والتخفيف ولا يقال ينبغي أن لا يقع التعارض بين القراءتين لأنه إنما يقع للجهل بالناسخ ولا يتصور نسخ إحدى القراءتين بالأخرى لنزولهما في وقت واحد فلا يتحقق شرط النسخ وهو زمان يتمكن فيه من العمل أو الاعتقاد لأنا نقول لا نسلم نزولهما في وقت واحد بل الإذن بالقراءة الثانية ثبت بسؤال الرسول صلى اللّه عليه وسلم بعد ما نزلت القراءة الأولى بزمان طويل فيتحقق شرط النسخ وتكون القراءة الثانية ناسخة لحكم الأولى فيما لم يمكن الجمع بينهما إلا أنا لما لم نعرف الأولى من الثانية وقع التعارض بينهما كما يقع بين الآيتين قوله لأن القياس لا يصلح ناسخا أي لا يصلح ناسخا لشيء أصلا أما الكتاب والسنة والإجماع فلأن الناسخ لا بد أن يكون فوق المنسوخ أو مثله ولا مماثلة بين الكتاب والسنة والإجماع وبين القياس وأما القياس فلأن النسخ لبيان انتهاء مدة حسن المشروع ولهذا لا بد من أن يكون بينهما مدة ولا مدخل للرأي في معرفة انتهاء حسن المشروع ولا يتحقق التقدم والتأخر في المعاني المودعة في النص أيضا وبيان ذلك أي بيان عدم التعارض بين القياسين كذا يعني المراد من قولنا لا تعارض بين القياسين أنهما لا يسقطان به بل يجب العمل ب أحدهما لشرط التحري إذا احتاج إلى العمل وإن لم يقع له حاجة إلى العمل يتوقف فيه وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه اللّه يعمل بأيهما شاء من غير تحر ولهذا صار له في مسألة واحدة قولان وأقوال وأما الروايتان اللتان رويتا عن أصحابنا في مسألة واحدة فإنما كانتا في وقتين مختلفين فإحداهما صحيحة والأخرى فاسدة ولكن لم تعرف الأخيرة منهما كالحديث الذي روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بروايتين (٣/١٢٣) مختلفتين فإنه عليه السلام قد قالهما في زمانين ولكن لم يعرف السابق من اللاحق كذا ذكر أبو اليسر فصار حاصل ما ذكرنا أن التعارض يجري بين النصين اللذين يتحقق النسخ فيهما ولا يجري بين القياسين بل يعمل المجتهد بأيهما شاء بشهادة قلبه فأقام الشيخ دليلا على الحاصل فقال لأن تعارض النصين كذا وتقريره ما ذكره القاضي الإمام في التقويم أن النصين لا يتعارضان إلا والأول منهما منسوخ لا يجوز العمل به لكنا جهلناه والجهل لا يصير عملا شرعيا والاختيار عمل شرعي وأما القياسان فيتعارضان على طريق أن كل واحد منهما صحيح العمل به لأنه جعل حجة يعمل به أصاب المجتهد به الحق عند اللّه تعالى أو أخطأه ولما كان كل واحد منهما حجة لم يسقط وجوب العمل فإن قيل لما كان كل واحد من القياسين حجة يجب العمل به وجب أن يختار أيهما شاء من غير تحر كما في أجناس ما يقع به التكفير قلنا قد بينا أن القياس حجة صحيحة في حق العمل فإذا تعارض القياسان كان كل واحد منهما حجة في حق العمل به لكن كلاهما ليس بحجة في حق إصابة الحق لأن الحق عند اللّه تعالى واحد والقياس لا يدل عليه من كل وجه ولقلب المؤمن نور يدرك به ما هو باطن لا دليل عليه كما قال عليه السلام اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه وإصابة الحق غيب فتصلح شهادة القلب حجة في ذلك فيعمل بما شهد به قلبه ولما ثبت أن القياس حجة في حق العمل دون الإصابة فمن حيث إنهما حجتان في العمل بهما يثبت الخيار من غير تحر كما في الكفارات ومن حيث إن الحق عند اللّه تعالى واحد صارا متعارضين فيجب أن يسقطا لأن أحدهما خطأ والآخر صواب ولا يدرى أيهما الصواب كما في النصين فمن وجه يسقط ومن وجه لا يسقط فقلنا يحكم فيه برأيه ويعمل بشهادة قلبه بخلاف الكفارات كذا ذكر الشيخ في شرح التقويم قوله فأما تعارض القياسين فلم يقع من قبل الجهل من كل وجه أي من قبل الجهل بالدليل الذي يجب العمل به لأن ذلك أي القياس وضع الشرع أي دليل وضعه (٣/١٢٤) الشرع لأجل العمل به وإن وقع خطأ فإن الشرع وضع القياس بطريقه وهو أن يجتهد في المنصوص ويبين الوصف المؤثر ويحافظ شرائطه فيكون كل قياس صحيحا بوضع الشرع فلا يكون التعارض بناء على الجهل من هذا الوجه فأما في الحقيقة أي في إصابة الحق حقيقة ووقوع العلم فلا أي لم يضعه الشرع طريقا إليه فيكون سبب التعارض الجهل من هذا الوجه إلا أنه أي لكن القايس لما كان مأجورا على عمله أي اجتهاده أخطأ الحق أو أصاب وجب التخيير أي الحكم بالتخيير لاعتبار شبهة الحقيقة أي بالنظر إلى كون كل واحد منهما حقا في وجوب العمل ووجب العمل بشهادة القلب طلبا للحق حقيقة لأنه واحد ولهذا كان له أن يعمل ب أحدهما بشهادة قلبه وليس له أن يعمل بالقياسين جميعا كما قال الشافعي رحمه اللّه لأن الحق لما كان واحدا كان الجمع بينهما في العمل جمعا بين الحق والباطل كذا قال أبو اليسر لأنه أي المذكور وهو شهادة القلب دليل لطلب الحق عند الضرورة وهي انقطاع الأدلة كما في اشتباه القبلة وغيره والفراسة نظر القلب بنور يقع فيه وفي الصحاح الفراسة بالكسر اسم من قولك تفرست فيه خيرا أي أبصرت وفهمت وهو يتفرس أي يتثبت وينظر وتقول منه رجل فارس النظر وأنا أفرس منه أي أعلم وأبصر ومنه قوله عليه السلام اتقوا فراسة المؤمن وأما فيما يحتمل النسخ أي التعارض فيما يحتمل النسخ وهو الكتاب والسنة فجهل محض أي بناء على جهل محض بالناسخ بلا شبهة أي بلا شبهة حقية في كليهما في حق العمل بل الحق ليس إلا واحدا منهما في حق العلم أو العمل جميعا قوله ولأن القول بتعارض القياسين يعني إذا قلنا بتحقق التعارض في القياسين فلا نجد بدا من ترتيب حكمه عليه وهو التساقط ويؤدي ذلك إلى العمل بلا دليل لأنه حينئذ يضطر إلى معرفة حكم الحادثة الواقعة ولا يمكنه ذلك إلا بدليل وأحد القياسين حق عند اللّه تعالى لا محالة وحجة يقينا فكان العمل ب أحدهما على احتمال أنه الحجة حقيقة أولى من العمل بلا دليل فحل له العمل بالمحتمل لهذه الضرورة فأما في تعارض الحجتين من الكتاب أو السنة فلا ضرورة لأنه يترتب عليهما دليل شرعي يرجع إليه في معرفة حكم الحادثة وهو القياس فلا ضرورة في العمل بما يحتمل أنه ليس بحجة أصلا وهو المنسوخ قوله ومثال ذلك أي نظير ما ذكرنا من التساقط وعدم التخيير في تعارض النصين (٣/١٢٥) وعدم التساقط وثبوت التخيير بشرط التحري في تعارض القياسين مسألتا الإناءين والثوبين فإن المسافر إذا كان معه إناءان من الماء أحدهما نجس والآخر طاهر وليس له ماء طاهر سواهما وأنه لا يعرف الطاهر من النجس ليس له أن يتحرى للوضوء عندنا خلافا للشافعي رحمه اللّه بل يصلي بالتيمم لأنه أي التيمم أو التراب طهور مطلق عند العجز عن الماء الطاهر وقد تحقق العجز هاهنا بالتعارض فلم يكن مضطرا إلى استعمال التحري للوضوء لما أمكنه إقامة الفرض بالبدل فلذلك لا يجوز له التوضؤ ب أحدهما بالتحري وبدونه فهذا نظير تعارض النصين ونظير تعارض القياسين مسألة الثوبين وهي ما لو كان معه ثوبان نجس وطاهر ولا يعرف الطاهر من النجس وليس له ثوب آخر طاهر ولا ماء يغسلهما به فإنه يتحرى ويصلي في الذي يقع تحريه على أنه طاهر لأن الضرورة قد تحققت هاهنا لأنه لا يجد بدا من ستر العورة في الصلاة وليس للستر بد يتوصل به إلى إقامة الفرض فجاز له التحري لهذه الضرورة حتى أن في مسألة الإناءين لو احتاج إلى الماء للشرب عند استيلاء العطش وعدم الماء الطاهر كان له أن يتحرى أيضا لأن الماء لا خلف له في حق الشرب فكان مضطرا في إقامة الشرب به فيجوز له التحري للشرب ألا ترى أنه جاز له شرب الماء النجس حقيقة عند الضرورة فالتحري الذي فيه إصابة الطاهر مأمول فيه أولى بالجواز يوضحه أن في مسألة الإناءين لو كانا نجسين لا يؤمر بالتوضؤ بهما ولو فعل لا يجوز لوجود الخلف وهو التراب وفي مسألة الثوبين لو كان كلاهما نجسين يؤمر بالصلاة في أحدهما ويجزيه وذلك لأن ليس للستر أو للثوب خلف ينتقل الحكم إليه عند العجز فيجوز له التحري الذي فيه إصابة الطاهر مأمول أيضا وقوله لضرورة في العمل بلا دليل معناه أنه لو لم يعمل بالتحري الذي هو دليل جائز العمل عند الضرورة لاحتاج إلى العمل باستصحاب الحال الذي هو ليس بدليل لأنه يحتاج إلى أن يصلي في أيهما بناء على أن الأصل فيه الطهارة إذ لا يجوز له أن يصلي عريانا في هذه الحالة بالاتفاق لوجود الثوب الطاهر من وجه كما لا يجوز له الصلاة عريانا إذا وجد ثوبا ربعه طاهر لا غير لوجود الثوب الطاهر من وجه باعتبار أن للربع حكم الكل في بعض الصور والعدول عن العمل بالدليل إلى ما ليس بدليل فاسد ثم ما ذكرنا من عدم جواز التحري ووجوب التيمم في مسألة الإناءين مذهبنا وعند الشافعي رحمه اللّه يتحرى ويتوضأ بما يقع تحريه عليه أنه طاهر لأن التراب إنما جعل طهورا في حالة العجز عند استعمال الطاهر قطعا ولم يوجد العجز لأن دليل الوصول إلى الطاهر قائم وهو التحري فقيام الدليل يمنع ثبوت صفة الطهورية ولأنه متى صلى بتوضؤ (٣/١٢٦) بالماء الذي تحراه كانت صلاة بطهارة حقيقية من وجه ومتى صلى بتيمم كانت صلاة بغير طهارة حقيقية من كل وجه لأن التيمم ليس بطهارة حقيقية على أصله فكان الأول أولى وإنا نقول إن التحري حجة ضرورية فلا يظهر إلا عند فقد التحصيل من كل وجه وقد أمكنه التحصيل بالخلف فلا يكون التحري معتبرا في هذه الحالة وقوله إنه جعل خلفا حالة العجز عن استعمال الطاهر كذلك ولكن العجز عنه ثابت لأنه لا يمكنه الاستعمال إلا بالتحري وشرع الخلف يمنع عنه ولأن حل الصلاة بتيمم علق بعدم ظهور مطلق لا بعدم ظهور من وجه دون وجه فصار الفرض أن الخصم جعل الشرع التحري مانعا من ثبوت الخلفية للتراب لأن العجز لا يثبت مع التحري وقلنا التحري ليس بدليل موصل إليه وإنما اعتبر حجة لبناء الحكم عليه عند ضرورة فقد سائر الأدلة فإذا كان ثمة خلف مشروع يمنع ظهور حجية التحري فيثبت العجز فإذا لا يمكنه اعتبار التحري حجة إلا عند فقد الخلف لأن الخلف أقوى من التحري كذا في إشارات الأسرار لأبي الفضل وهذا الخلاف إذا كان الطاهر والنجس سواء أو كانت الغلبة للنجس فإن كانت الغلبة للطاهر بأن كان أحد الأواني الثلاثة نجسا واثنان طاهران يجب التحري بالاتفاق لأن الاعتبار للغالب وباعتبار الغالب لزمه استعمال الماء الطاهر وإصابته بتحريه مأمولة ثم فيما إذا كانا سواء أو كانت الغلبة للنجس حتى لزمه التيمم فالأحوط أن يريق الكل ثم يتيمم إليه أشار محمد رحمه اللّه ليكون تيممه في حال عدم الماء بيقين وإن لم يرق أجزأه أيضا لأنه عدم آلة الوصول إلى الماء الطاهر وذكر الطحاوي رحمه اللّه أنه يخلط المائين ثم يتيمم وهذا أحسن لأن بالإراقة ينقطع عنه منفعة الماء وبالخلط لا ينقطع فإنه يسقيه دوابه ويشربه عند الضرورة وبعض المتأخرين من مشايخ بلخ كان يقول يتوضأ بالإناءين جميعا احتياطا لأنه يتيقن بزوال الحدث عند ذلك لأنه قد توضأ مرة بالماء الطاهر وحكم نجاسة الأعضاء أخف من حكم الحدث فإذا كان قادرا على إزالة أغلظ الحدث لزمه ذلك وقاس بسؤر الحمار يؤمر بالتوضؤ به مع التيمم احتياطا ولسنا نأخذ به لأنه إذا فعل ذلك كان متوضئا بما يتيقن بنجاسته ومنجسا أعضاءه أيضا خصوصا رأسه فإنه بعد المسح بالماء النجس لا يطهر بالمسح بالماء الطاهر فلا معنى للأمر به بخلاف سؤر الحمار فإنه ليس بمنجس ولهذا لو غمس الثوب فيه جازت صلاته فيه فيستقيم الأمر بالجمع بينه وبين التيمم احتياطا كذا في المبسوط قوله وكذلك من اشتبهت عليه القبلة عطف على مسألة الثوبين أي وكما أن (٣/١٢٧) صاحب الثوبين يعمل بالتحري عند الاشتباه من اشتبهت عليه القبلة بانقطاع الأدلة يعمل به أيضا ولا يكون له أن يختار أي جهة شاء من غير تحر لما قلنا يعني في تعارض القياسين إن الصواب في الحقيقة واحد منهما أي من الاجتهادين وإن كان كل واحد صوابا في حق العمل به فكذا الصواب في جهات الكعبة واحد في الحقيقة وإن كانت كل جهة صوابا في انتقال الحكم إليه عند الاشتباه أو لما قلنا في موضعه في شرح المبسوط وغيره إن الصواب في مسألة القبلة في الحقيقة واحد من الظنين أو من الجهتين لأن الكعبة ليست إلا واحدة وإذا كان كذلك لم يسقط الابتلاء بإيجاب التحري لما مر في مسألة القياسين حتى لو توجه إلى جهة عند الاشتباه من غير تحر وجبت عليه إعادة الصلاة لأن التحري صار فرضا من فروض صلاته فإذا تركه لا يجزيه صلاته كما لو ترك استقبال القبلة عند عدم العذر إلا إذا تبين أنه أصاب القبلة فحينئذ تجوز صلاته لأن فرضية التحري لمقصود وقد توصل إلى ذلك المقصود بدونه فسقطت فرضيته عنه قوله وإذا عمل بذلك يعني إذا ثبت له الخيار في تعارض القياسين وعمل ب أحدهما بالتحري لم يجز نقضه أي نقض ذلك العمل إلا بدليل فوقه من الكتاب والسنة بأن ظهر نص بخلافه فتبين به أن العمل كان باطلا حتى لم يجز نقض حكم أمضي أي أتم بالاجتهاد بمثله أي باجتهاد مثله وقوله لأن الأول متصل بقوله لم يجز نقضه إلا بدليل فوقه لأن الأول أي القياس الأول ترجح بالعمل به أي يقوى باتصال العمل به وترجحت جهة الصواب فيه به لأن الحكم بصحة العمل يتضمن الحكم بكونه حجة وصوابا ظاهرا ومن ضرورته ترجح جانب الخطأ في الآخر فلا يجوز نقض ما ثبت بالدليل الأقوى بما هو أضعف منه وقوله لم ينقض التحري باليقين في القبلة جواب عما يقال إنك قد قلت إن الاجتهاد لا ينقض بمثله ولكنه ينقض بدليل فوقه في مسألة اشتباه القبلة لم ينقض ما أدى بالتحري بدليل فوقه بأن تيقن بأنه كان مخطئا للقبلة في تحريه كما ينقض حكم أمضي بالاجتهاد إذا ظهر نص بخلافه فأجاب بأن ذلك اليقين حادث ليس بمناقض يعني هذا اليقين لم يكن موجودا عند الاجتهاد حقيقة ولم يكن له طريق إلى التوصل إليه لانقطاع الأدلة بالكلية وإنما حدث بعد العمل بذلك الاجتهاد فلا يؤثر ذلك في إبطال ما مضى بمنزلة ما إذا عمل بالاجتهاد في حياة النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم نزل نص بخلافه لم يؤثر ذلك في انتقاض ذلك العمل لأنه لم يكن موجودا قبل الاجتهاد والعمل ألا ترى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم افتدى عن أسارى بدر بالاجتهاد ثم نزل نص بخلافه وهو قوله تعالى (٣/١٢٨) ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ولم يؤثر ذلك في إبطال ما مضى لما ذكرنا فكذا هذا بخلاف العمل بالاجتهاد في زماننا فإنه إذا ظهر نص بخلافه ينتقض لأن الموجب للبطلان كان موجودا وقت الاجتهاد وكان طريق الوصول إليه وهو الطلب قائما إلا أنه خفي عليه لتقصيره في الطلب فينقضي لفوات شرط صحة الاجتهاد وهو عدم النص هذا هو الكلام في العمل بأحد القياسين فيما مضى فأما الكلام في العمل بالقياس الآخر في المستقبل فعلى ما ذكر في الكتاب أن الحكم المطلوب بالاجتهاد إن احتمل الانتقال من محل إلى محل أو الانتساخ والتعاقب وجب العمل بالاجتهاد الآخر إذا تبدل رأيه إليه وإلا فلا أي إن لم يحتمل الانتقال والتعاقب لا يجوز العمل بالاجتهاد على خلاف الأول في المستقبل لأنا لو قلنا بالجواز أدى إلى تصويب كل قياس لما بينا أنه إذا تحرى وعمل وجعل التحري حجة له ضرورة صار الذي عمل به هو الحق عند اللّه تعالى بدليل التحري والآخر خطأ فإذا جوزنا له العمل بالآخر صار هذا هو الحق عند اللّه تعالى أيضا فإذا كان الحكم مما لا يحتمل التعاقب والانتقال لزم القول بتعدد الحقوق عند اللّه تعالى لا محالة فأما إذا كان مما يحتمل الانتقال والتعاقب فلا يلزم منه القول بالتعدد وقد ابتلينا بالقياس في الحوادث وقد استقر رأيه في هذه الحادثة على أن الصواب هو الآخر فيلزمه العمل به كما إذا لم يعارضه القياس الأول قوله وكذلك في سائر المجتهدات أي كما يعمل بتبديل التحري في المستقبل في مسألة القبلة يعمل بتبديل الرأي في المجتهدات القابلة للانتقال في المستقبل أيضا إذا استقر رأيه على أن الصواب هو الثاني لأن تبدل الرأي يشبه النسخ فيعمل به في المستقبل ولا يظهر به بطلان الماضي كما في النسخ الحقيقي وهذا إذا لم يلحق به حكم حاكم فإن لحق به حكم فلا يعمل بتبدل الرأي في المستقبل أيضا كما لا يعمل به في الماضي لأن القضاء الذي نفذ في محل لا يحتمل الانتقال إلى محل آخر فيلزم ذلك المحل وإليه أشار الشيخ بقوله من المشروعات القابلة للانتقال بيانه إذا أدى اجتهاد مجتهد إلى الخلع الفسخ مثلا فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده الحادث ولكن لا يحرم الوطآت السابقة ولو حكم حاكم بصحة النكاح بعد أن خالع الزوج ثم تغير اجتهاده لم يفرق بينهما ولم ينقض الاجتهاد (٣/١٢٩) السابق بصحة النكاح في المستقبل فإنه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل واضطربت الأحكام ولم يوثق بها كذا ذكر بعض الأصوليين قوله وأما الذي لا يحتمله أي لا يحتمل الانتقال فرجل صلى في ثوب على تحري طهارته حقيقة أي وقع تحريه على ثوب هو في الحقيقة طاهر أو تقديرا أي صلى في ثوب بالتحري وهو في الحقيقة نجس لكن الشرع لما حكم بجواز الصلاة فيه ثبت طهارته تقديرا أو معناه أن الشك وقع في الثوبين اللذين أحدهما نجس والآخر طاهر كله حقيقة أو الآخر ربعه أو أكثر منه طاهر فصلى في أحدهما على ظن أنه هو الطاهر حقيقة أو تقديرا ثم وقع أكبر رأيه على الآخر أنه هو الطاهر حقيقة أو تقديرا لم يجز ما صلى في الثاني ما لم يثبت طهارته حقيقة أو تقديرا بدليل موجب للعلم لأنا لما حكمنا بجواز الصلاة في الثوب الأول فقد حكمنا بأنه هو الطاهر ومن ضرورته الحكم بنجاسة الثوب الثاني وهذا وصف أي تنجس الثوب وصف لا يقبل الانتقال من محل إلى محل لأن النجاسة متى يثبت في محل لا يتحول عنه إلى مكان آخر ولا يرد الشرع بتحوله لأن الشرع لا يرد بتغير الحقائق فلو قلنا بصحة التحري ثانيا كان تحويلا فبطل العمل به أي بهذا التحري الثاني بخلاف أمر القبلة لأنه ليس من ضرورته الحكم بجواز الصلاة إلى جهة الحكم بأن تلك الجهة هي الكعبة ألا ترى أنه وإن تبين الخطأ جازت صلاته فكان تحريه إلى جهة أخرى مصادفا محله وهاهنا من ضرورة الحكم بجواز الصلاة الأولى الحكم بأن الطاهر ذلك الثوب ألا ترى أنه لو تبين فيه النجاسة يلزمه الإعادة بينه أن الصلاة إلى غير القبلة تجوز في حالة الاختيار ومع العلم وهو التطوع على الدابة والصلاة في الثوب الذي فيه نجاسة كثيرة لا تجوز في حالة الاختيار فمن ضرورة جواز الأولى تعيين صفة الطهارة في ذلك الثوب والنجاسة في الثوب الآخر والأخذ بالدليل الحكمي واجب ما لم يظهر خلافه وعلى هذا قال محمد رحمه اللّه في المبسوط لو لم يعلم أن في أحدهما نجاسة حتى صلى وهو ساه في أحدهما الظهر وفي الآخر العصر وفي الأول المغرب وفي الآخر العشاء ثم نظر فإذا في أحدهما قذر ولا يدري أنه الأول أو الآخر فصلاة الظهر والمغرب جائزة وصلاة العصر والعشاء فاسدة لأنه لما صلى الظهر في أحدهما جازت صلاته باعتبار الظاهر فذلك بمنزلة الحكم بطهارة ذلك الثوب وبنجاسة الثوب الآخر فكل (٣/١٣٠) صلاة أداها في الثوب الأول فهي جائزة وما أداها في الثوب الآخر وجبت إعادتها ولا يلزمه إعادة المغرب لمكان الترتيب لأنه حين صلى المغرب ما كان يعلم أن عليه إعادة العصر والترتيب بمثل هذا العذر يسقط قوله ومثال القسم الثاني وهو تقرير الأصول عند العجز من القسم الرابع وهو حكم المعارضة إذ هو رابع الأقسام المذكورة في أول باب سؤر الحمار والبغل فإن الدلائل لما تعارضت في سؤر الحمار ولم يمكن العمل بالقياس بقي مشتبها فوجب تقرير الأصول كما ذكر في الكتاب ثم قيل في بيان التعارض إن الأخبار تعارضت في إباحة لحم الحمار وحرمته فإن عبد اللّه بن أبي أوفى رضي اللّه عنه روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر وروى غالب بن أبجر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أباح لحوم الحمر الأهلية فأوجب ذلك اشتباها في لحمه ويلزم منه الاشتباه في سؤره لأنه متولد من اللحم فيؤخذ منه حكمه منه وكذا اختلاف الصحابة رضي اللّه عنهم فيه ظاهر أيضا فإن ابن عمر رضي اللّه عنهما كان يكره التوضؤ بسؤر الحمار والبغل ويقول إنه رجس وابن عباس رضي اللّه عنهما كان يقول إن الحمار يعتلف القت والتبن فسؤره طاهر لا بأس بالتوضؤ به والقياس لا يصلح شاهدا أي لأحد الجانبين أو مثبتا للحكم هاهنا لأنه لا يصلح لنصب الحكم ابتداء إذ القياس لتعديه الحكم لا للإثبات ابتداء لأن نصب أحكام الشرع بالرأي باطل ولهذا لا يجوز إثبات حرم المدينة وكون الوتر ركعة بالقياس كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه عز وجل وما نحن فيه من هذا القبيل وإذا لم يصلح القياس شاهدا وجب تقرير الأصول على ما ذكر في الكتاب هذا هو المذكور في عامة الكتب ويؤيد ما ذفي الأسرار في مسألة سؤر السباع وأما سؤر الحمار فهو عندنا في حكم لحمه ولحمه مشكل وليس بحرام بات وكذلك السؤر عندنا لا يفرق بينهما في حكم التحريم والنجاسة بوجه إلا أن تحقق الاشتباه والإشكال بهذا الطريق غير مسلم عند البعض لأنه إنما يتحقق إذا لم يثبت رجحان أحدهما على الآخر وقد ثبت رجحان الخبر الموجب للحرمة على الموجب للحل هاهنا حتى حكم أكثر العلماء بحرمة لحمه وقد ذكره الشيخ بعد هذا بورقة أيضا فينبغي أن يحكم بنجاسة سؤره أيضا ألا ترى أن أصحابنا حكموا بنجاسة (٣/١٣١) سؤر الضبع مع تعارض أخبار الحل والحرمة في لحمها باعتبار ترجيح الحرمة كيف والدليل الموجب للحل وهو حديث غالب مؤول فإنه عليه السلام قال له كل من سمين مالك وذلك محمول على أكل الثمن على ما عرف أو على حال الضرورة على ما روي في بعض الروايات أنه قيل للنبي صلى اللّه عليه وسلم إنه قد أصابتنا سنة وإن سمين مالنا في الحمير فقال كلوا من سمين مالكم وإذا كان كذلك لم يتحقق شرط التعارض وهو المساواة في الحجتين أو اتحاد المحل وكذلك ادعاؤهم أن القياس لا يصلح شاهدا فيما نحن فيه لأنه لنصب الحكم في هذا المحل غير فرع أيضا لأن ذلك فيما إذا لم يوجد له أصل يلحق به فأما إذا وجد فلا وهاهنا أمكن إلحاق سؤر الحمار بسؤر الكلب في النجاسة بعلة حرمة الأكل أو بسؤر الهرة في الطهارة بعلة الطوف فأنى يكون هذا نصب الحكم ابتداء ألا ترى أن سؤر سواكن البيوت ألحق بسؤر الهرة في الطهارة وسؤر السباع ألحق بسؤر الكلب في النجاسة ولم يكن ذلك نصب الحكم ابتداء فكذا هذا فالأحسن في بيان التعارض ما ذكره شمس الأئمة البيهقي في الكفاية أن الأخبار تعارضت في طهارة سؤره ونجاسته فإن جابرا رضي اللّه عنه روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال نعم وبما أفضلت السباع وهذا يدل على أن سؤره طاهر وروى أنس رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس وهذا يدل على أن سؤره نجس وقد تعارضت الآثار عن الصحابة أيضا كما ذكرنا ولم يصلح القياس شاهدا لأن السؤر إن اعتبر بالعرق ينبغي أن يكون طاهرا إذ العرق طاهر في الروايات الظاهرة وإن اعتبر باللبن ينبغي أن يكون نجسا إذ اللبن نجس في أصح الروايتين وإذا ثبت التعارض في الدلائل وتحقق العجز عن العمل بها بقي الاشتباه وصار الحكم مشكلا فوجب تقرير الأصول وهو إثبات ما كان على ما كان فلا يتنجس به ما كان طاهرا ولا يطهر به ما كان نجسا لأن الطهارة أو النجاسة عرفت ثابتة بيقين فلا تزول بالشك (٣/١٣٢) وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه أن لحمه حرام بلا إشكال وحرمة لحمه تدل على نجاسة سؤره من غير إشكال لكن الضرورة أوجبت سقوط النجاسة فإن الحمار يربط في الدور والأفنية ويشرب من الأواني كالهرة إلا أن الضرورة فيه دونها في الهرة لأنه لا يدخل المضايق التي تدخلها الهرة فلو انتفت الضرورة أصلا لكان سؤره نجسا لحرمة لحمه كسؤر الكلب لأن طوف الكلب حول الأبواب لا في داخل الدار والبيوت ولو تحققت من كل وجه لكان الماء طاهرا وطهورا كسؤر الهرة فلما استوى الوجهان من غير ترجيح تساقطا ووجب المصير إلى ما كان ثابتا والثابت قبل التعارض شيئان الطهارة في جانب الماء والنجاسة في جانب اللعاب وليس أحدهما بأولى من الآخر فبقي مشكلا فلا يطهر ما كان نجسا ولا ينجس ما كان طاهرا بخلاف الماء إذا أخبر عدل بنجاسته وآخر بطهارته فإنه لا يصير مشكلا لأن الأصل هناك بعد سقوط الخبرين بالتعارض شيء واحد وهو الطهارة فوجب المصير إليه فبقي الماء طاهرا من غير إشكال وهاهنا الأصل بعد التساقط شيئان الطهارة في الماء والنجاسة في اللعاب فبقي مشكلا فإن قيل لما وجب تقرير الأصول وقد عرف الماء طاهرا وطهورا بيقين لزم أن يبقى كذلك ولا يزول واحد منهما بالشك قلنا من ضرورة تقرير الأصول زوال صفة الطهورية عن الماء لأنها لو بقيت لزال الحدث والنجاسة به إذ لا معنى للطهورية في عرف الفقهاء إلا إزالة الحدث والنجاسة ولو قلنا بزوالهما به لا يكون هذا تقريرا للأصول بل يكون عملا بأحد الأصلين وإهدارا للآخر فوجب القول بزوال الطهورية وأعني به وقوع الشك والاشتباه فيها إلا أنها زالت بالكلية بدليل وجوب الجمع بينه وبين التيمم فإن قيل هلا سقط استعمال الماء عند التعارض ووجب المصير إلى الخلف لا غير كما في مسألة الإناءين التي مر تقريرها قلنا لأن استعمال المطهر قد وجب عليه وهذا الماء كان مطهرا بيقين ووقع الشك في زوال هذا الوصف فلا يسقط عنه استعماله بالشك ووجب ضم التيمم إليه احتياطا فأما في مسألة الإناءين ف أحدهما نجس بيقين كما أن الآخر طاهر بيقين وقد وجب عليه الاحتراز عن النصين كما وجب استعمال المطهر وقد عجز باعتبار عدم العلم عن استعمال المطهر منهما ولم يعجز عن الاحتراز عن النجس فلذلك سقط عنه استعمالهما ووجب المصير إلى الخلف ولا يقال وجب أن يسقط استعماله أيضا احترازا عن النجاسة كما في تلك المسألة لأنه يحتمل أن يكون نجسا كما يحتمل أن يكون طاهرا لأنا قد بينا أن الطاهر لا يتنجس به فلا يكون في ترك استعماله احتراز عن النجاسة ولهذا لو وجد ماء مطلقا لا يجب عليه (٣/١٣٣) غسل الرأس بعدما توضأ به وقوله فقلنا إن سؤر الحمار طاهر يشير إلى أن الشك في طهوريته لا في طهارته عنده وهو اختيار عامة المشايخ رحمهم اللّه ووجهه ما ذكرنا أن الماء عرف طاهرا بيقين فلا يزول هذا الوصف بالشك فكان السؤر طاهرا غير طهور وهو منصوص في غير موضع أي كونه طاهرا منصوص في مواضع كثيرة فقد ذكر في كتاب الصلاة إن أصاب لعاب دابة لا يؤكل لحمها أو عرقها ثوبا فصلى فيه أجزته الصلاة وإن فحش وعن أبي يوسف رحمه اللّه لعاب الحمار إذا أصاب الثوب فصلى فيه أجزته وإن فحش وعن محمد رحمه اللّه ثلاث مياه لو غمس فيه الثوب تجوز الصلاة فيه الماء المستعمل وسؤر الحمار وبول ما يؤكل لحمه وعند بعضهم الشك في طهارته لأن اللعاب إن كان طاهرا كان الماء طاهرا أو طهورا ما لم يغلب اللعاب عليه ولو كان نجسا كان الماء نجسا كسؤر الكلب فكان الشك فيهما جميعا وإنما لا يتنجس الثوب والعضو به لأن اليقين لا يزول بالشك لا لأنه طاهر حقيقة وكأن هذا الاختلاف لفظي لأن من قال الشك في طهوريته لا في طهارته أراد أن الطاهر لا يتنجس به ووجب الجمع بينه وبين التراب لا أنه ليس في طهارته شك أصلا لأن الشك في طهوريته إنما نشأ من الشك في طهارته لتعارض الأدلة في طهارته ونجاسته قوله وكذلك عرقه أي كسؤر الحمار عرقه في كونه طاهرا أو هذا جواب ظاهر الرواية وهو الصحيح لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يركب الحمار معروريا والحر حر الحجاز فلا بد من أن يعرق الحمار ولأن معنى الضرورة في عرقه ظاهر لمن يركبه وذكر في شرح الجامع الصغير للقاضي الإمام فخر الدين رحمه اللّه وفي لعاب الحمار والبغل وعرقهما إذا أصاب الثوب أو البدن عن أبي حنيفة رحمه اللّه ثلاث روايات في رواية قدره بالدرهم وفي رواية قدره بالكثير الفاحش وهي رواية الأمالي وفي رواية لا يمنع وإن فحش وعليه الاعتماد وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه اللّه أن عرق الحمار نجس إلا أنه عفي عنه لمكان الضرورة فعلى هذا لو وقع في الماء القليل يفسد وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه اللّه وذكر القدوري رحمه اللّه أن عرق الحمار طاهر في الروايات المشهورة كذا في المحيط (٣/١٣٤) قوله ولبن الأتان أي هو طاهر كسؤرها وهو رواية عن محمد رحمه اللّه فإنه نقل عنه أن لبن الأتان طاهر ولا يؤكل وهو اختيار الشيخ وصاحب الهداية وفي ظاهر الرواية هو نجس كذا في المحيط وذكر الإمام التمرتاشي في شرح الجامع الصغير وعن البزدوي أنه يعتبر فيه الكثير الفاحش وعن عين الأئمة الصحيح أنه نجس نجاسة غليظة لأنه حرام وليس فيه ضرورة فسمي مشكلا لما قلنا ذكر في المبسوط أن سؤر الحمار مشكوك فيه غير متيقن بطهارته ولا بنجاسته وكان أبو طاهر الدباس رحمه اللّه ينكر هذه العبارة ويقول لا يجوز أن يكون الشك من أحكام الشرع فقال الشيخ رحمه اللّه ليس المراد منه أنه مشكوك في الحقيقة أو أنه شرع مشكلا حقيقة بل سمي مشكلا لما قلنا من تعارض الأدلة ووجوب ضم التيمم إليه للاحتياط لا أنه يعني به الجهل أي لا أن يعني بهذه العبارة أن حكمه مجهول لأن حكمه معلوم وهو وجوب الاستعمال وانتفاء النجاسة وضم التيمم إليه على ما بينا قوله وكذلك الجواب في الخنثى أي ومثل الجواب الذي ذكرنا في سؤر الحمار من تقرير الأصول والعمل بالاحتياط عند وقوع الإشكال الجواب في الخنثى المشكل أيضا وهو الشخص الذي له ما للرجال والنساء ولم يوجد فيه ما يترجح به أحد الجانبين على الآخر أعني الذكورة والأنوثة فإنه لما أشكل حاله بتعارض الجهتين وجب تقرير الأصول والعمل بالاحتياط في موضعه فيجعل بمنزلة الذكور في بعض الأحكام وبمنزلة الإناث في البعض على ما يدل عليه الحال في كل حكم فيقال أكبر النصيبين في الميراث أعني نصيبي الرجل والمرأة لم يكن ثابتا له فلا يثبت بالشك ويتأخر عن الرجال ويتقدم على النساء في الصلاة احتياطا ولا يختنه الرجل ولا المرأة لاشتباه حاله بل تشترى أمة تختنه من ماله أو مال بيت المال على ما عرف في كتاب الخنثى والألف فيه للتأنيث كما في حبلى والبشرى وكان ينبغي أن يقال الخنثى المشكلة ويؤنث الضمير الراجع إليه كما هو المذكور في كلام الفصحاء إلا أن الفقهاء نظروا إلى عدم تحقق التأنيث في ذاته فلم يلحقوا علامة التأنيث في وصفه وضميره تغليبا للذكورة وقد يوصف الرجل به أيضا فيقال رجل خنثى ورجال خناثى وخناث قال الشاعر لعمرك ما الخناث بنو قشير بنسوان يلدن ولا رجال قوله وكذلك جوابهم أي جواب علمائنا في المفقود فإنه لما تعارض حياته ومماته وجب تقرير الأصول فجعل حيا في ماله حتى لا يورث عنه لأن حياته كانت ثابتة (٣/١٣٥) فلا تزول بالشك وميتا في مال غيره حتى لا يرث عن أحد لأن استحقاقه لم يكن ثابتا فلا يثبت بالشك أيضا قوله ومثال ما قلنا من الفرق بين ما يحتمل المعارضة من النصوص وبين ما لا يحتملها من القياس وأقوال الصحابة ما إذا أوقع الطلاق أو العتاق في محل مبهم بأن قال لامرأتيه إحديكما طالق أو قال لأمتيه أحديكما حرة وما إذا أوقع الطلاق أو العتاق في محل عين ثم نسيه بأن قال لإحدى امرأتيه أنت طالق أو لإحدى أمتيه أنت حرة ثم نسي المطلقة والمعتقة فإن في المسألة الأولى يثبت له خيار التعيين لأن الإبهام لم ينشأ عن الجهل المحض كما في القياسين وقد كان تعيين المحل مملوكا له شرعا كابتداء الإيقاع فبمباشرة الإيقاع أسقط ما كان له من الخيار في أصل الإيقاع ولم يسقط ما كان له من الخيار في التعيين فيبقى ذلك الخيار ثابتا له شرعا وهو معنى قوله لأن وراء الإبهام محل يحتمل التصرف أي بعدما أوقع أصل الطلاق أو العتاق مبهما بقي شيء آخر يحتمل التصرف أي الإيجاد من قبل المالك وهو تعيين المحل أو معناه بعدما أوقع أصل الطلاق مبهما بقي محل يحتمل التصرف وهو ذات المرأة لأن الطلاق المبهم لم ينزل في المحل على ما عرف فتبقى كل واحدة منهما محلا لتصرفه فصلح الملك أي بقاء الملك في المحل دليلا لولاية الاختيار وهو كالقياسين لما كان كل واحد حجة في حق العمل ثبت فيهما التخيير وفي المسألة الثانية لا يثبت الخيار لأن الطلاق أو العتاق قد نزل في أحديهما وخرج المحل عن ملكه والتعارض ثبت في حقه بين المحلين لجهله بالمحل الذي عينه عند الإيقاع وجهله لا يثبت الخيار له شرعا ولو جعل إليه ذلك كان فيه إثبات صرف الحرمة عن محلها إلى غير محلها كما في تعارض النصين لما ثبت بناء على الجهل بالناسخ لم يثبت الخيار إذ لو ثبت ذلك لكان فيه صرف الحقيقة عن حجة إلى ما ليس بحجة قوله وإذا عرفت ركن المعارضة يعني لما علمت أن ركن المعارضة تقابل الحجتين على السواء وإن شرطها اتحاد المحل والوقت كما بينا وجب أن تبني عليه أي على ما عرفت كيفية المخلص عن التعارض على سبيل العدم أي على وجه يعدمه من الأصل بأن يقول لا نسلم أن المعارضة ثابتة لعدم ركنها وهو المساواة في الحجتين أو عدم شرطها وهو عدم اتحاد المحل أو الوقت إلى آخر ما بينا فما ذكر من بيان حكم (٣/١٣٦) المعارضة هو المخلص منها على تقدير تحققها وتسليمها وهذا هو المخلص منها على سبيل المنع مثل المحكم يعارضه المجمل أو المتشابه فإن قوله تعالى ليس كمثله شيء محكم في نفي المماثلة فلا يعارضه قوله عز وجل الرحمن على العرش استوى لأنه متشابه لانتفاء ركن المعارضة وهو التساوي في الحجتين ولو استدل مستدل في حل البيع في صورة من الصور بعموم قوله تعالى وأحل اللّه البيع لا يكون لخصمه أن يعارضه بقوله عز اسمه وحرم الربا لأنه مجمل فلا يعارض الظاهر كذا في بعض الشروح ومثل الكتاب المشهور من السنة مثل قوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن لا يعارضه قوله عليه السلام لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ومثل قوله عليه السلام البينة على المدعي واليمين على من أنكر لا يعارضه خبر القضاء بشاهد ويمين لانتفاء المساواة في الحجتين قوله وأما الحكم فكذا إنما يطلب المخلص من حيث الحكم لأن من شرط المعارضة أن يكون الحكم الذي يثبته أحد الدليلين عين ما ينفيه الآخر بالتحقيق التدافع والتمانع فإذا اختلف الحكم عند التحقيق بأن ينفي أحدهما غير ما يثبته الآخر لا يثبت التدافع لإمكان الجمع بينهما فلا يتحقق التعارض مثل قوله تعالى في سورة البقرة لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم فإنه يوجب المؤاخذة في كل يمين مكسوبة بالقلب أي مقصودة سواء كانت معقودة أو غير معقودة فيتحقق المؤاخذة في الغموس وقوله جل جلاله في سورة المائدة لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان يقتضي أن لا يتحقق المؤاخذة في الغموس لأن الأيمان على نوعين معقودة فيها مؤاخذة ولغو لا مؤاخذة فيه (٣/١٣٧) والآية سيقت لبيان المؤاخذة في المعقودة ونفيها عن اللغو والغموس ليست بمعقودة فكانت لغوا في حق المؤاخذة إذ اللغو اسم لكلام لا فائدة فيه وليست في الغموس فائدة اليمين المشروعة لأنها ثلث خلت عنها لأنها شرعت لتحقيق البر أو الصدق وقد فات ذلك في الغموس أصلا فكانت لغوا أي كلاما لا عبرة به من حيث إنه لم ينعقد لحكمه كبيع الحر فكانت الغموس داخلة في عموم قوله تعالى لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم وهو معنى قول الشيخ والغموس داخل في هذا اللغو أي اللغو المذكور في المائدة ولم يقل داخلة لتأويل الغموس بالحلف وإذا كان كذلك تحقق التعارض بين الآيتين من حيث الظاهر في حق الغموس إذ الأولى توجب المؤاخذة فيها والثانية تنفيها عنها فيتخلص عنه بيان اختلاف الحكم بأن يقال المؤاخذة المثبتة وهي المذكورة في قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم مطلقة والمطلق ينصرف إلى الكامل فيكون المراد منها المؤاخذة بالعقوبة في الآخرة لأنها المؤاخذة الكاملة فإن الآخرة خلقت للجزاء وللمؤاخذة حقا للّه تعالى بالعدل فأما الدنيا فدار ابتلاء يؤاخذ المطيع فيها بمحنة تطهيرا وينعم على العاصي استدراجا والمؤاخذات المعجلة في الدنيا لم تشرع إلا بأسباب لنا فيها ضرب ضرر لتكون زواجر عنها كلها لصلاحنا فلا تتمحض مؤاخذة لحق اللّه تعالى وإنما تتمحض في الآخرة فثبت أن المطلق من المؤاخذة ينصرف إلى المؤاخذة في الآخرة والمؤاخذة المنفية وهي المذكورة في سورة المائدة في قوله عز وجل لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم مقيدة بدار الابتلاء أي المراد منها نفي المؤاخذة بالكفارة في الدنيا بدليل قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته فيكون الحكم الذي أثبته أحد النصين غير الحكم الذي ينفيه الآخر فلم يتحد محل النفي والإثبات فأمكن الجمع بينهما وبطل التدافع ثم الشافعي رحمه اللّه نفى التعارض بطريق آخر فحمل المؤاخذة المذكورة في الآية الأولى على المؤاخذة بالكفارة لأن المؤاخذة المذكورة في الآية الثانية مفسرة بالكفارة فيكون تفسيرا للأولى وحمل العقد المذكور في الآية الثانية على كسب القلب الذي هو القصد لا العقد الذي ضده الحل لأن العقد يطلق على قصد القلب وعزمه على الشيء كما يطلق على ربط أحد الكلامين بالآخر يقال عقدت على كذا أي عزمت واعتقدت كذا أي قصدت ومنه العقيدة للعزيمة قال الشاعر عقدت على قلبي بأن نكتم الهوى فصاح ونادى إنني غير فاعل (٣/١٣٨) وقوله تعالى بما كسبت قلوبكم مفسر لا يحتمل إلا القصد فيحمل المحتمل على المفسر فيكون الغموس على هذا التأويل داخلة في العقد لا في اللغو فيجب فيها الكفارة والدليل على صحة هذا التأويل أنه تعالى شرع الكفارة بنفس اليمين من غير شرط حنث فقال ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته وقال تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ولم يقل إذا حنثتم ولا تجب الكفارة بنفس اليمين إلا في الغموس فصار حاصل كلامه أن معنى الآيتين واحد وهو نفي الكفارة عن اللغو وإثباتها في الغموس والمعقودة فقال الشيخ رحمه اللّه لما بطل التدافع والتعارض بالطريق الذي بينا لا يصح أن يحمل البعض على البعض أي يحمل العقد على كسب القلب والمؤاخذة المطلقة على المؤاخذة المقيدة لأن فيه تقليل فائدة النص فإنا متى حملنا أحدهما على الآخر كان تكرارا وحمل كلام صاحب الشرع على الإفادة ما أمكن أولى من حمله على الإعادة مع أن فيه عدولا عن الحقيقة من غير ضرورة لأن حقيقة العقد ربط أحد طرفي الحبل بالآخر والعقد الشرعي يسمى عقدا لما فيه من ارتباط أحد الكلامين بالآخر أو ارتباط الكلام بمحل الحكم إن كان الكلام واحدا وعزيمة القلب لا ترتبط بشيء لأنها لا توجب حكما إلا أنها سبب العقد فإنه يقصد بقلبه ثم يتكلم بلسانه فانطلق عليه اسم العقد فكان مجازا يوضحه أن الآية قرئت بالتشديد كما قرئت بالتخفيف وبالتشديد لا يحتمل عقد القلب أصلا فكان حمل القراءة بالتخفيف على ما يوافق القراءة الأخرى وفيه رعاية الحقيقة وتكثير الفائدة أولى من حملها على القصد وذكر الشيخ أبو منصور رحمه اللّه أنه تعالى نفى المؤاخذة عن اللغو في الآية الأولى وأثبتها في الغموس والمراد منها المؤاخذة بالإثم ونفاها في الآية الأخرى عن اللغو وأثبتها في المعقودة وفسرها هاهنا بالكفارة فكان بيانا أن المؤاخذة في المعقودة بالكفارة وفي الغموس بالإثم وفي اللغو لا مؤاخذة أصلا فلزم تسليم البيان والعمل بكل نص على حدة دون صرف النصوص بعضها في بعض وتقييد البعض بالبعض فعلى هذا لا يكون الغموس داخلة في اللغو ولا في العقدة فلا تجب فيها الكفارة ولا يثبت التعارض أيضا إلا أن الشيخ أثبت التعارض بأن جعلها داخلة في اللغو ليمكنه إيراده في هذا الفصل وقوله لأن المؤاخذة يتصل بقوله سقط التعارض أو يتعلق بمحذوف وهو ولما كانت الغموس داخلة في اللغو كان التعارض بين النصين ثابتا في اليمين الغموس إلا أنه يندفع باختلاف الحكم لأن المؤاخذة إلى آخره (٣/١٣٩) قوله وأما الحال أي دفع التعارض باختلاف الحال فمثل قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن بالتخفيف والتشديد فإن القراءة بالتخفيف تقتضي أن يحل القربان بانقطاع الدم سواء انقطع على أكثر مدة الحيض أو على ما دونه لأن الطهر عبارة عن انقطاع دم الحيض يقال طهرت المرأة إذا خرجت من حيضها والقراءة بالتشديد تقتضي أن لا يحل القربان قبل الاغتسال سواء كان الانقطاع على أكثر مدة الحيض أو على ما دونه كما ذهب إليه عطاء ومجاهد وزفر والشافعي رحمهم اللّه لأن التطهر هو الاغتسال والقول بهما غير ممكن لأن حتى للغاية وبين امتداد الشيء إلى غاية وبين اقتصاره دونها تناف فيقع التعارض ظاهرا لكنه يرتفع باختلاف الحالين أي بأن تحمل كل واحدة من القراءتين على حال فتحمل القراءة بالتخفيف على الانقطاع على أكثر مدة الحيض لأنه انقطاع بيقين وحرمة القربان تثبت باعتبار قيام الحيض لأنه تعالى أمر باعتزالهن لمعنى الأذى بقوله عز اسمه قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض فبعد الانقطاع على أكثر مدة الحيض لا يجوز تراخي الحرمة إلى الاغتسال لأنه يؤدي إلى جعل الطهر الذي هو ضد الحيض حيضا وهو تناقض وإبطال للتقدير الوارد في الحيض أو يؤدي إلى منع الزوج عن حقه وهو القربان بدون العلة المنصوص عليها وهي الأذى وكلاهما فاسد وتحمل القراءة بالتشديد على الانقطاع على ما دون أكثر مدة الحيض لأن في هذه الحالة لا يثبت الانقطاع بيقين لتوهم أن يعاودها الدم ويكون ذلك حيضا فإن الدم ينقطع مرة ويدر أخرى فلا بد من مؤكد لجانب الانقطاع وهو الاغتسال أو ما يقوم مقامه وقد أقامت الصحابة رضي اللّه عنهم الاغتسال مقام الانقطاع فإن الشعبي ذكر أن ثلاثة عشر نفرا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا إن المرأة إذا كانت أيامها دون العشرة لا يحل لزوجها أن يقربها حتى تغتسل وإذا حملناهما على ما ذكرنا من الحالين انقطع التعارض فإن قيل قوله تعالى فإذا تطهرن في القراءة يأبى هذا التوفيق لأنه يوجب الاغتسال في جميع الأحوال ولو كان كما زعمتم لكان ينبغي أن يقرأ في قراءة التخفيف فإذا طهرن فثبت أن المراد هو الجمع بين الطهر والاغتسال بالقراءتين أي حتى يطهرن بانقطاع حيضهن وحتى يتطهرن بالاغتسال قلنا لما بينا أن تأخير حق الزوج إلى الاغتسال في الانقطاع على العشرة لا يجوز لما فيه من الفساد يحمل قوله تعالى تطهرن في قراءة التخفيف على (٣/١٤٠) طهرن فإن تفعل قد يجيء بمعنى فعل من غير أن يدل على صنع كتبين بمعنى بان أي ظهر وكما يقال في صفات اللّه عز وجل تكبر وتعظم ولا يراد به صفة تكون بإحداث الفعل إليه أشار شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه وقد نقل عن طاوس ومجاهد أن معناه توضأن أي صرن أهلا للصلاة كذا في عين المعاني يلزم مما ذكرتم الجمع بين المعنيين المختلفين فإن قيل التطهر حقيقة في الاغتسال وحمله على انقطاع الدم إن كان بطريق الحقيقة فهو إثبات العموم المشترك وإن كان بطريق المجاز فهو جمع بين الحقيقة والمجاز لأن المعنيين أريدا من قوله تعالى فإذا تطهرن إذ هو ثابت في كل قراءة وإرادة المعنيين المختلفين من لفظ واحد غير جائزة ولا يقال معنى التطهر الاغتسال لا غير عند من اختار التشديد وانقطاع الدم لا غير عند من اختار التخفيف فلا يكون فيه جمع بين المعنيين المختلفين لأنا نقول جميع القراءات المشهورة حق عند جميع القراء وجميع أهل السنة فمن اختار التشديد فالتخفيف عنده حق ومن اختار التخفيف فالتشديد عنده كذلك فيلزم الجمع عند الجميع في كل قراءة قلنا لا يلزم الجمع لأن إرادة الانقطاع في حال اختيار التخفيف وفي هذه الحالة ليس له معنى غيره وإرادة الاغتسال في حال اختيار التشديد وليس له معنى آخر في هذه الحالة والحالتان لا يجتمعان إذ لا يقرأ بهما في حالة واحدة فلا يلزم الجمع بين المعنيين المختلفين إذ من شرطه اتحاد الحال ولم يوجد وهو نظير قوله تعالى من بعد غلبهم فإن الغلب مصدر بمعنى اللازم على قراءة غلبت على المجهول أي غلبوا وهم من بعد أن صاروا مغلوبين سيغلبون على عدوهم وبمعنى المتعدي على قراءة غلبت على المعروف أي غلبوا وهم من بعد أن كانوا غالبين على خصمهم سيغلبون فالمعنيان مختلفان ولكنه جاز إرادتهما لاختلاف الحالتين كذلك هنا وذكر في شرح التأويلات أن الآية محمولة على ما دون العشرة لأن الغالب في النساء أن لا يمتد حيضهن إلى أكثر مدة الحيض ولا يقتصر على الأقل بل يكون فيما بين الوقتين ألا ترى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال في صفة النساء هن ناقصات العقل والدين ثم (٣/١٤١) وصف نقصان دينهن بأن تتحيض إحداهن في الشهر ستا أو سبعا وصفهن جملة بنقصان الدين ثم فسر النقصان في جملتهن بما ذكر فدل أن ذلك هو الغالب في جملتين والخطاب ينصرف إلى ما هو الغالب فدل أن المراد من الآية هو النهي عن قربانهن إذا كانت أيامهن دون العشرة وبه نقول على القراءتين جميعا أما القراءة بالتشديد فظاهر وأما بالتخفيف فلأن الانقطاع فيما دون العشرة لا يثبت إلا بالاغتسال أو ما يقوم مقامه لما ذكرنا فكان المراد من الطهر الاغتسال أيضا فلذلك قرئ في القراءة بالتخفيف فإذا تطهرن دون طهرن ليدل على أن الانقطاع بالاغتسال قوله وكذلك قوله تعالى أي وكما أن القراءتين في الآية المتقدمة متعارضتان من حيث الظاهر ويندفع ذلك التعارض باختلاف الحال فكذا القراءتان في قوله تعالى وامسحوا برءوسكم وأرجلكم بخفض اللام ونصبها متعارضتان إذ الخفض معطوف على الرأس فيقتضي وجوب مسح الرجل لا غير كما هو مذهب الروافض والنصب معطوف على الوجه فيوجب وجوب الغسل وعدم جواز الاكتفاء بالمسح فيتعارضان ظاهرا فيتخلص عنه باختلاف الحال على ما ذكر في الكتاب وقوله وصح ذلك جواب عما يقال لا يستقيم الحمل على هذا الوجه لأن اللّه تعالى أمر بالمسح على الرجل على قراءة الخفض لا على الخف إذ لم يقل وامسحوا برءوسكم وخفافكم فقال قد صح ذلك أي حمل قراءة الخفض على المسح بالخف وإن أضيف المسح إلى الرجل لأن الجلد لما أقيم مقام بشرة القدم لاتصاله بها صار مسحه بمنزلة مسح القدم فصار إضافة المسح إلى الرجل وإرادة الخف منها وفي بعض النسخ فصار مسحه بمنزلة غسل القدم أي الجلد لما قام مقام بشرة القدم كان المسح مصادفا بشرة القدم تقديرا كما أن الغسل يصادف بشرة القدم تحقيقا فيصح إضافة المسح إلى الرجل وفي ذكر الرجل دون الخف فائدة وهي أن المسح لو أضيف إلى الخف بأن قيل وامسحوا برءوسكم وخفافكم لأوهم جواز المسح على الخف وإن كان غير ملبوس ففي إضافته إلى الرجل وإرادة الخف إزالة ذلك الوهم وما ذكر الشيخ هو اختيار بعض العلماء فإنهم أثبتوا شرعية المسح على الخف بالكتاب بهذا الطريق فأما عند عامة المحققين فالمسح ثابت بالسنة دون الكتاب وهو المذكور في المبسوط والهداية وعامة (٣/١٤٢) الكتب فإنه لو كان ثابتا به لكان مغيا إلى الكعبين كالغسل وما قيل يحتمل أنه كان مغيا إلى الكعبين ثم نسخت الغاية بالسنة وبقي أصل المسح لا يخلو عن ضعف لأن النسخ إنما يثبت بالنقل ولم ينقل عن أحد من السلف أنه كان مغيا ثم نسخ ولهذا قال أبو حنيفة رحمه اللّه ما قلت بالمسح على الخفين حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار أو قال مثل فلق الصبح ولو كان ثابتا بالكتاب لما استقام هذا الكلام منه ثم عند هؤلاء القراءة بالخفض وإن كان معطوفة على الرأس فهي موجبة للغسل أيضا لأنه أريد بالمسح الغسل في حق الرجل للمشاكلة وهي أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته كقوله تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وجزاء سيئة سيئة مثلها وقول الشاعر قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصا وللتفاوت بين الفعلين إذ كل واحد منهما إمساس العضو بالماء والمتوضئ لا يقنع بصب الماء على الأعضاء حتى يمسحها في الغسل ويقال تمسحت للصلاة أي توضأت وقال تعالى فطفق مسحا بالسوق والأعناق أي غسل أعناقها وأرجلها غسلا خفيفا في قول إزالة للغبار عنها لكرامتها عليه ولا يقال فيه جمع بين الحقيقة والمجاز لأن حقيقة المسح قد أريدت بقوله وامسحوا فلا يجوز أن يراد به الغسل لأنا نقول إنما أريد الغسل بالمسح المقدر الدال عليه الواو في قوله وأرجلكم إذ التقدير وامسحوا برءوسكم وامسحوا بأرجلكم دون المذكور صريحا فلا يكون فيه جمع بينهما فإن قيل أي فائدة في عطف المغسول على الممسوح قلنا هي التحذير عن الإسراف المنهي عنه فعطف على الممسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها كذا في الكشاف قوله وذلك مثل قول ابن مسعود رضي اللّه عنه والمتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا تعتد بوضع الحمل عند ابن مسعود وقال علي رضي اللّه عنه تعتد بأبعد الأجلين أي بأطول العدتين لأن كل آية توجب عدة على وجه فيجمع بينهما احتياطا وقال ابن مسعود رضي اللّه عنه هذا إذا لم يعرف التاريخ فإذا عرف تعين الآخر للعمل به لأنه ناسخ وقد ثبت تأخر قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن عنده حتى دعا إلى (٣/١٤٣) المباهلة فلا معنى للجمع بينهما والمباهلة مفاعلة من البهلة بضم الباء وفتحها وهي اللعنة ويروى لاعنته وذلك أنهم كانوا إذا اختلفوا في شيء اجتمعوا وقالوا بهلة اللّه على الظالم كذا في المغرب فجعل ابن مسعود رضي اللّه عنه التأخر دليل النسخ ولم ينكره علي رضي اللّه عنه فثبت أنه كان معروفا فيما بينهم أن المتأخر من النصين ناسخ للمتقدم قوله وأما الذي ثبت دلالة إلى آخره إذا اجتمع المبيح والمحرم نقل عن عيسى بن أبان وأبي هاشم أنهما يطرحان ويرجع المجتهد إلى غيرهما من الأدلة كالوليين عقد كل واحد منهما على المولية ولا يعلم تقدم أحدهما أنهما يبطلان وكالغرقى بعضهم على البعض وفي القواطع لأبي منصور السمعاني إذا اقتضى أحد الخبرين الحظر والآخر الإباحة ففيه وجهان أحدهما أنهما سواء لأنهما حكمان شرعيان وصدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة والوجه الآخر وهو الأصح أن الحاظر أولى لأنه أحوط وعندنا يرجح المحرم لقوله عليه السلام ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال وقوله عليه السلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ولا يريبه جواز ترك هذا الفعل لأنه بين كونه حراما أو مباحا وإنما يريبه جواز فعله فيجب تركه ولما روي عن عمر رضي اللّه عنه قال في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى ولأن من طلق إحدى نسائه أو أعتق إحدى إمائه ونسيها يحرم عليه وطء جميعهن بالاتفاق ترجيحا للحرمة وما ذكر في الكتاب من كون المحرم ناسخا لأنا نعلم أنهما وجدا في زمانين إذ لو كانا في زمان واحد لكانا متناقضين ونسبة التناقض إلى الشارع محال ثم لو كان الحاظر متقدما يتكرر النسخ ولو كان المبيح متقدما لا يتكرر فكان المتيقن وهو النسخ مرة أولى من الأخذ بالتكرار الذي فيه احتمال أو معناه أن الحاظر ناسخ بيقين (٣/١٤٤) تقدم أو تأخر لأنه إما ناسخ للإباحة الأصلية أو للإباحة العارضة والمبيح محتمل لأنه إن تقدم كان مقررا للإباحة الأصلية لا ناسخا لها فكان العمل بما هو ناسخ بيقين أولى من العمل بالمحتمل قوله وهذا أي جعل الحاظر ناسخا للمبيح بناء على كذا اختلف العلماء في الأشياء التي تحتمل أن يرد الشرع بإباحتها وحظرها أنها قبل ورود الشرع على الإباحة أم على الحظر فذهب أكثر أصحابنا خصوصا العراقيون منهم وكثير من أصحاب الشافعي إلى أنها على الإباحة وأنها هي الأصل فيها حتى أن من لم يبلغه الشرع أبيح له أن يأكل ما شاء من المطعومات إليه أشار محمد رحمه اللّه في الإكراه حيث قال ولو تهدد بقتل حتى يأكل الميتة أو يشرب الخمر فلم يفعل حتى قتل خفت أن يكون آثما لأن أكل الميتة وشرب الخمر لم يحرما إلا بالنهي عنهما فجعل الإباحة أصلا والحرمة بعارض النهي وهو قول أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم وأصحاب الظواهر وقال بعض أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي ومعتزلة بغداد إنهما على الحظر حتى أن من لم يبلغه الشرع لا يباح له شيء إلا ما يدفع به الهلاك عن نفسه مثل التنفس والانتقال عن مكان إلى مكان وقالت الأشعرية وعامة أهل الحديث إنها على الوقف لا توصف بحظر ولا إباحة حتى أن من لم يبلغه الشرع ينبغي أن يتوقف ولا يتناول شيئا فإن تناول شيئا لا يوصف فعله بالحظر ولا بالإباحة قال عبد القاهر البغدادي وتفسير الوقف عندهم أن من فعل شيئا قبل ورود الشرع لم يستحق بفعله من اللّه تعالى ثوابا ولا عقابا وإلى هذا القول مال الشيخ أبو منصور رحمه اللّه فإنه ذكر في شرح التأويلات وقال أهل السنة والجماعة إن العقل لا حظ له في معرفة هذا القسم يعني فيما يجوز أن يرد الشرع بإباحته فيجب التوقف فيه إلى أن يرد الشرع إلا بقدر ما يحتاج إليه للبقاء وجه القول الأول أنه تعالى غني على الحقيقة جواد على الإطلاق والغني الجواد لا يمنع ماله عن عباده إلا ما كان فيه ضرر فتكون الإباحة هي الأصل باعتبار غناه وجوده والحرمة لعوارض ولم يثبت فيبقى على الإباحة ووجه القول الثاني أن الأشياء كلها مملوكة للّه تعالى على الحقيقة والتصرف في ملك الغير لا يثبت إلا بإباحة المالك فلما لم يثبت الإباحة بقيت على الحظر لقيام سببه وهو ملك الغير (٣/١٤٥) ووجه قول الواقفية أن الحرمة أو الإباحة لا تثبت إلا بالشرع فقبل وروده لا يتصور ثبوت واحد منهما فلا يحكم فيها بحظر ولا إباحة ثم الشيخ رحمه اللّه اختار القول الأول إلا أنه لم يقل بكون الإباحة أصلا على الإطلاق على معنى أن اللّه تعالى خلق الأشياء في أصل وضعها مباحة من غير تكليف بحظر وتحريم ثم بعث الأنبياء عليهم السلام وأوحى إليهم بحظر بعضها وإبقاء بعضها على الإباحة الأصلية لأن ذلك إنما يستقيم أن لو خلق الخلائق ولم يكلفوا بشيء مدة ثم بعث فيهم الأنبياء بالتكليف فكلفوا بتحريم البعض وإبقاء الباقي على ما كان وليس الأمر كذلك إذ الناس لم يتركوا سدى أي مهملا في زمان فإن أول البشر آدم عليه السلام وهو كان صاحب شرع قد أتى بالأمر والنهي والحظر والإباحة ولم يخل قرن بعده عن دليل سمعي وإن فتر بحيث يحتاج إلى تحديد النظر كما قال اللّه تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير أي وما من أمة فيما مضى إلا جاءهم منذر وإذا كان كذلك تعذر القول بكون الإباحة أصلا على الإطلاق فلذلك لم يقل الشيخ به وإنما قال بكونها أصلا في زمان الفترة وهو الزمان الذي بين عيسى ومحمد عليهما السلام لأن الإباحة والحرمة قد ثبتتا في الأشياء بالشرائع الماضية وبقيتا إلى زمان الفترة ثم كانت الإباحة ظاهرة في زمان الفترة فيما بين الناس فيبقى إلى أن يثبت الدليل الموجب للحرمة في شريعتنا فهذا هو المراد بكون الإباحة أصلا لا أنها أصل على الإطلاق وفي الحقيقة هو بيان محل الخلاف لأنه لا يتصور القول بالإباحة أو الحظر أو التوقف قبل وجود الخلائق لأن هذه الأحكام بالنسبة إليهم وبعدما وجدوا لم يتركوا سدى في زمان فلم يكن محل الخلاف إلا زمان الفترة ويؤيده ما ذكر في شرح التأويلات في هذه المسألة وهذا الخلاف إنما يتحقق فيمن بلغ في شاهق جبل ولم يبلغه دليل السمع أو في زمان الفترة وذكر عبد القاهر البغدادي وهذا أي الوقف مذهب أبي الحسن الأشعري وضرار وبشر المريسي وبه قال أكثر أصحاب الشافعي مع قولهم بأنه لم يخل زمان العقلاء عن شريعة وإنما تكلموا في هذه المسألة على تقدير كونها لا على تقدير حصولها وذكر أبو اليسر في آخر هذه المسألة والصحيح من الأقوال أن ما يجوز أن يحرم تارة ويباح أخرى فقبل ورود الشرع أو في حق من لم يبلغ إليه الشرع لا يوصف بالحرمة ولا بالإباحة وفعل الإنسان (٣/١٤٦) فيه أيضا لا يوصف بالحل ولا بالحرمة كفعل من لا يدخل تحت الخطاب أما بعد ورود الشرع فالأموال على الإباحة بالإجماع ما لم يظهر دليل الحرمة لأن اللّه تعالى ألزمهم العبادات ولا يقدرون على تحصيلها إلا بالعصمة عن الإتلاف والعصمة لا تثبت إلا بتحريم إتلاف الأنفس والأطراف جميعا قوله وذلك أي ترجيح المحرم وجعله ناسخا للمبيح مثل ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه حرم الضب وهو ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها أنه أهدي لها ضب فسألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أكله فكرهه فجاء سائل فأرادت أن تطعمه إياه فقال عليه السلام أتطعمين ما لا تأكلين فدل أنه كرهه لحرمته إذ لو لم يكن كراهية الأكل للحرمة لأمرها بالتصدق كما أمر به في شاة الأنصاري بقوله أطعموها الأسارى وما روي عن عبد الرحمن بن حسنة أنه قال نزلنا أرضا كثيرة الضباب فأصابتنا مجاعة وطبخنا منها وإن القدور لتغلي بها إذ جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ما هذا فقلنا ضباب أصبناها فقال إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض وأنا أخشى أن تكون هذه فاكفنوها وروي أنه أباحه وهو ما روى ابن عمر رضي اللّه عنهما أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الضب قال لم يكن من طعام قومي فأجد نفسي تعافه فلا أحله ولا أحرمه وما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال أكل الضب على مائدة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي الآكلين أبو بكر رضي اللّه عنه ورسول اللّه عليه السلام كان ينظر إليه ويضحك فنحن رجحنا المحرم على المبيح وحملنا دليل الإباحة على ما كان قبل التحريم وحرم لحوم الحمر الأهلية وروي أنه أباحها كما بينا في مسألة السؤر فعلمنا بالمحرم وجعلناه ناسخا للمبيح وكذلك الضبع أي وكالضب أو الحمار الضبع في أن المحرم والمبيح فيه تعارضا فالمبيح حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما أنه سئل عن الضبع أصيد هو قال نعم فقيل أيؤكل لحمه فقال نعم فقيل أشيء سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال نعم والمحرم حديث (٣/١٤٧) ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير فرجحنا المحرم لما ذكرنا وحديث جابر إن صح فمحمول على الابتداء وما يجري مجرى ذلك أي مجرى ما ذكرنا من النظائر مثل الثعلب والقنفذ والسلحفاة قوله واختلف مشايخنا إلى آخره الدليل المثبت هو الذي يثبت أمرا عارضا والنافي هو الذي ينفي العارض ويبقي الأمر الأول كما أشير إليه في الكتاب فإذا تعارض نصان أحدهما مثبت والآخر ناف يترجح المثبت عند الشيخ أبي الحسن الكرخي وهو مذهب أصحاب الشافعي لأن المثبت يخبر عن حقيقة والنافي اعتمد الظاهر فيكون قول المثبت راجحا على قول النافي لاشتماله على زيادة علم كما في الجرح والتعديل إذا تعارضا يقدم قول الجارح على قول المعدل لأنه يخبر عن حقيقة والمعدل يخبر معتمدا على الظاهر وكما إذا شهد شاهدان أن عليه كذا وشهد آخران لا شيء عليه يترجح المثبت ولأن المثبت يفيد التأسيس والنافي يفيد التأكيد والتأسيس أولى من التأكيد وقال عيسى بن أبان والقاضي عبد الجبار من المعتزلة أنهما يتعارضان لأن ما يستدل به على صدق الراوي في المثبت من العقل والضبط والإسلام والعدالة موجود في النافي فيتعارضان ويطلب الترجيح من وجه آخر وقد اختلف عمل أصحابنا المتقدمين يعني أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا رحمهم اللّه في هذا الباب أي في تعارض النفي والإثبات ففي بعض الصور عملوا بالمثبت وفي بعضها عملوا بالنافي وحاصل ما ذكر هاهنا من المسائل التي اختلف عملهم فيها خمس مسائل إحداها مسألة خيار العتاقة وهي ما إذا أعتقت الأمة المنكوحة يثبت خيار فسخ النكاح إذا كان زوجها عبدا بالاتفاق وكذا إذا كان زوجها حرا عندنا وعند الشافعي رحمه اللّه لا يثبت لها الخيار إذا كان زوجها حرا لأن المساواة حصلت بالحرية فلا يثبت لها الخيار كما لو أيسرت والزوج موسر بخلاف ما إذا كان عبدا لأنه ليس بكفو لها بعد العتق ونحن نقول إن الملك يزداد عليها بالحرية على ما عرف في مسألة اعتبار الطلاق فلها أن تدفع الزيادة عن (٣/١٤٨) نفسها والأصل فيه حديث بريرة رضي اللّه عنها فقد روى عروة بن الزبير عن عائشة رضي اللّه عنها أن بريرة أعتقت وزوجها عبد فخيرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولو كان حرا لما خيرها وروي عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي اللّه عنها أن زوجها كان حرا حين عتقت فالنص الأول ناف لأنه مبق على الأمر الأصلي إذ لا خلاف أن العبودية كانت ثابتة قبل العتق والثاني مثبت لأنه يثبت أمرا عارضا وهو الحرية فأصحابنا أخذوا بالمثبت في هذه المسألة والثانية مسألة نكاح المحرم فعند الشافعي رحمه اللّه لا يجوز لأن الوطء حرام بدواعيه والعقد داع إليه وضعا وشرعا لأنه سبب موضوع فتعدت الحرمة إليه كما في حرمة المصاهرة وكما في شراء الصيد للمحرم وعندنا يجوز لأن حرمة المرأة على المحرم باعتبار الارتفاق إما كاملا كالوطء أو قاصرا كالمس والقبلة وليس في العقد فلا يحرم كشراء الجارية والطيب واللباس والأصل فيه حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلى اللّه عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم وروى يزيد بن الأصم أنه تزوجها وهو حلال بسرف أي خارج عن الإحرام فالأول ناف لأنه مبق على الأمر الأول فإن الإحرام كان ثابتا قبل التزوج والثاني مثبت لأنه يدل على أمر عارض على الإحرام وعلماؤنا أخذوا فيها بالنافي وسرف بوزن كتف جبل بطريق المدينة كذا في المغرب وفي الصحاح وسرف اسم موضع وعن المستغفري سرف على رأس ميل من مكة بها قبر ميمونة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم ورضي عنها وكانت ماتت بمكة فحملها ابن عباس إلى سرف ويجوز ترك صرفه بتقدير التأنيث وصرفه بتقدير عدمه وقوله واتفقت الروايات جواب عما قال أبو الحسن إن علماءنا إنما أخذوا بهذه الرواية لأن الإحرام عارض والحل أصل فكان هذا منهم عملا بالمثبت لا بالنافي فقال اتفقت الروايات أنه لم يكن في الحل الأصلي وإنما اختلف في (٣/١٤٩) الحل المعترض على الإحرام فكان الحل عارضا والإحرام أصلا والمراد من اتفاق الروايات اتفاق عامتها فإنه قد روي أن رسول اللّه تزوجها صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة قبل أن يحرم كذا في معرفة الصحابة للمستغفري والثالثة مسألة وقوع الفرقة بتباين الدارين وهي ما إذا خرج أحد الزوجين من دار الحرب تقع الفرقة عندنا وعند الشافعي رحمه اللّه لا تقع وقد روى عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن زينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هاجرت من مكة إلى المدينة وزوجها أبو العاص بن الربيع كافر بمكة ثم إنه أسلم بعد ذلك بسنتين وهاجر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فردها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليه بالنكاح الأول وهو ناف لأنه مبق على الأمر الأول وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ردها عليه بنكاح جديد وهو مثبت لأنه يدل على أمر عارض فأخذ علماؤنا بالمثبت دون النافي والرابعة مسألة كتاب الاستحسان فالمخبر بالطهارة ناف لأنه مبق على الأمر الأصلي والمخبر بالنجاسة مثبت لأنه مخير عن أمر عارض وأخذوا فيها بالنافي دون المثبت والخامسة مسألة تعارض الجرح والتعديل بأن أخبر مزك أنه عدل وأخبر آخر أنه مجروح يرجح خبر الجارح وهو مثبت لأنه يثبت أمرا عارضا على خبر المعدل وهو ناف لأنه مبق على الأمر الأول إذ العدالة هي الأصل فهذا بيان اختلاف عملهم في هذا الباب والأصل الجامع ما ذكر في الكتاب مما يعرف بدليله أي يكون بناء على دليل كالإثبات أو لا يعرف بدليله أي لا يكون مبنيا على دليل بل يكون مبنيا على الاستصحاب الذي هو ليس بدليل أو يشتبه حاله أي يجوز أن يكون مبنيا على دليل ويجوز أن يكون مبنيا على الاستصحاب (٣/١٥٠) قوله وذلك أي النفي الذي هو مثل الإثبات مثل ما قال محمد في السير الكبير ولو أن امرأة قالت للقاضي إني سمعت زوجي يقول المسيح ابن اللّه وقال الزوج قد وصلت بكلامي شيئا آخر فقلت النصارى يقولون المسيح ابن اللّه أو قلت المسيح ابن اللّه قول النصارى فلم تسمع المرأة بعض كلامي وقالت المرأة كذب فالقول قول الزوج مع يمينه لأنه ما أقر بالسبب الموجب للفرقة فإن عين هذه الكلمة لا تكون موجبة للفرقة فيكون منكرا لما تدعيه من السبب الموجب للفرقة بخلاف ما لو قالت إني سمعته يقول المسيح ابن اللّه فقال الزوج إنما أردت بذلك حكاية عمن يقول هذا حيث بانت منه امرأته لأن ما في ضميره لا يصلح ناسخا لحكم ما تكلم به فإن ما في الضمير دون ما تكلم به والشيء لا ينسخه إلا ما هو مثله أو فوقه فإن شهد الشهود للمرأة أنا سمعناه يقول كذا ولم نسمع منه غير ذلك فالقول قول الزوج أيضا لأنه لا تنافي بين أقوالهم لم نسمع وبين قول الزوج قلت قالت النصارى كذا لأنه صح أن يقال قال فلان قولا ولكني لم أسمع فلا يصلح حجة للإلزام وإن قالوا نشهد أنه قال ذلك ولم يقل غير ذلك قبلت الشهادة لأن الشهود أثبتوا السبب الموجب للفرقة وقوله غير مقبول فيما يبطل شهادة الشهود وإنما قبلت هذه الشهادة وإن قامت على النفي لأنها صدرت عن دليل موجب للعلم لأن ما يكون من باب الكلام يكون مسموعا لمن كان بالقرب من المتكلم وما لم يسمع منه يكون دندنة لا كلاما وذكر في شرح السير الكبير أنها إنما قبلت لأن وقوع الفرقة ليس بهذه الشهادة بل بما سبق مما هو إثبات وهو بمنزلة شهادة الشهود على أن هذا أخو الميت ووارثه لا نعلم له وارثا غيره يوضحه أن قولهم لم يقل شيئا غير ذلك فيه إثبات أن ما يدعي من الزيادة في ضميره لا في كلامه وذلك لا يصلح ناسخا لموجب كلامه حتى لو قال الشهود لا ندري قال ذلك أو لم يقل إلا أنا لم نسمع منه غير قوله المسيح ابن اللّه فالقول قول الزوج ولا يفرق بينه وبين امرأته لأن الشهود ما أثبتوا أن الزيادة في ضميره لا في كلامه وإنما قالوا لم نسمع منه وكما لم تسمعوا ذلك منه فالقاضي لم يسمع أيضا (٣/١٥١) وكذلك في الطلاق أي ومثل الحكم المذكور في هذه المسألة حكم ادعاء الزوج الاستثناء في الطلاق أو في الخلع بأن قال قد قلت أنت طالق إن شاء اللّه أو خالعتك إن شاء اللّه وأنكرت المرأة الاستثناء فالقول قوله فإن شهد الشهود عليه بطلاق أو خلع بغير استثناء بأن قالوا قد تكلم بالطلاق أو الخلع ولم يتكلم بالاستثناء قبلت الشهادة ولم يقبل قوله وإن قالوا لم نسمع منه غير كلمة الطلاق كان القول قوله في ذلك ولم تقبل الشهادة لما ذكرنا إلا أن يظهر منه ما يكون دليل صحة الخلع من قبض البدل أو سبب آخر فحينئذ لا يقبل قوله في ذلك كذا في شرح السير الكبير لشمس الأئمة رحمه اللّه الدندنة أن تسمع من الرجل نغمة ولا تفهم ما يقول قوله وأما ما لا طريق لإحاطة العلم به فإنه لا يقبل عليه أي فيه خبر المخبر في مقابلة الإثبات لأنه خبر لا عن دليل موجب بل عن استصحاب حال وخبر المخبر صادر عن دليل موجب له ولأن السامع والمخبر في هذا النوع سواء فإن السامع غير عالم بالدليل المثبت كالمخبر بالنفي فلو جاز أن يكون هذا الخبر معارضا لخبر المثبت لجاز أن يكون علم السامع معارضا لخبر المثبت الداعي إلى التزكية في الحقيقة هو إن لم يقف المزكى منه أي من الشاهد على ما تجرح عدالته فكان مآل تزكيته الجهل بسبب الجرح إذ لا طريق للمزكي إلى الوقوف على جميع أحوال الشاهد في جميع الأوقات حتى يكون إخباره بعدالته عن دليل يوجب العلم بها والجرح يعتمد الحقيقة أي الجارح يخبر عن دليل يوجب العلم وهو المعاينة فصار أولى والقول قوله وقلما توقف عبارة عن العدم بطريق المجاز أي لا توقف وما ذكرنا من ترجيح الجرح على التزكية مذهب عامة الفقهاء والأصوليين إلا أن بعضهم فصلوا (٣/١٥٢) وقالوا الجارح إما أن يعين السبب أو لا فإن عين فإما أن ينفيه المعدل أم لا فإن نفاه فإما أن ينفيه بطريق يقيني أم لا فإن عين السبب ونفاه المعدل بطريق يقيني مثل أن يقول الجارح رأيته قد قتل فلانا المسلم بغير حق في وقت كذا ويقول المعدل قد رأيته حيا بعد ذلك أو يقول الجارح رأيته شرب الخمر طوعا يوم الجمعة ويقول المعدل كنت مصاحبا له في جميع ذلك اليوم فلم يشربها أصلا فههنا يتعارضان ويرجح أحدهما على الآخر ببعض أسباب الترجيح وفي غير هذه الصورة يقدم الجرح لأنه اطلاع على زيادة لم يطلع عليها المعدل وما نفاها يقينا فوجب تقديمه وينبغي أن يكون مذهبنا هكذا أيضا لأن هذا التعديل نفي عن دليل فيجوز أن يعارض الإثبات وهو الجرح قوله دون ما يسقط به التعارض في نفس الحجة وهو كون أحدهما نفيا والآخر إثباتا يعني لا يقال أحدهما نفي والآخر إثبات والنفي مبني على عدم الدليل فلا يعارض للإثبات لأن هذا النفي ثبت بالدليل فصار مثل الإثبات وهو أن يجعل أي الرجوع إلى أسباب الترجيح أي يجعل رواية ابن عباس رضي اللّه عنهما لفقاهته وضبطه وإتقانه أولى من رواية يزيد بن الأصم الذي لا يعادله في شيء مما ذكرنا فإن قوة الضبط تدل على قلة الوهم والغلط والدليل على زيادة ضبطه وإتقانه أنه فسر القصة على ما روى عنه جابر بن زيد وعطاء بن أبي رباح ومجاهد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك يعني في عمرة القضاء وهو حرام وكان زوجه أياها العباس بن عبد المطلب فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ثلاثا فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة فقالوا قد انقضى أجلك فاخرج عنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعاما فحضرتموه قالوا لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخلف أبا رافع (٣/١٥٣) مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف فبنى عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلم هنالك هكذا في معرفة الصحابة للمستغفري وشرح الآثار للطحاوي وحديث يزيد قد ضعفه عمرو بن دينار حيث قال للزهري وما يدري يزيد بن الأصم أعرابي بوال على عقبه أتجعله مثل ابن عباس ولم ينكر عليه الزهري قال أبو جعفر رحمه اللّه في شرح الآثار والذين رووا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوجها وهو محرم أهل علم وثبت أصحاب ابن عباس سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد وهؤلاء كلهم أئمة وفقهاء يحتج برواياتهم وآرائهم والذين نقلوا عنهم كذلك أيضا منهم عمرو بن دينار وأيوب السختياني وعبد اللّه بن أبي نجيح فهؤلاء أيضا أئمة يقتدى برواياتهم وقد روي عن عائشة رضي اللّه عنها ما يوافق رواية ابن عباس وروى ذلك عنها من لا يطعن أحد فيه أبو عوانة عن مغيرة عن أبي الضحى عن مسروق رحمهم اللّه فكل هؤلاء أئمة يحتج برواياتهم فما رووا من ذلك أولى مما روى من ليس كمثلهم في الضبط والثبت والفقه والأمانة وما قالوا أن أبا رافع كان رسولا بينهما فكان هو أعرف بالبيان وهو يروي أنه تزوجها وهو حلال قلنا الرسول قد يغيب عند العقد أما الولي فلا والعباس ولي من جانبها فكان ابنه أعرف بحال أبيه وما روي عن ميمونة رضي اللّه عنها أنه عليه السلام تزوجها وهو حلال محمول على أن الخبر بلغها بعد الحل لأن العباس كان ينكحها قوله وحديث بريرة وزينب لا يعرف إلا بناء على ظاهر الحال أي خبر النافي في هذين الحديثين وهو أنه عليه السلام خيرها وزوجها عبد وأنه عليه السلام رد زينب بالنكاح الأول بناء على ظاهر الحال أي على استصحاب الحال لا على دليل موجب للعلم فإن من روى أنه كان عبدا بنى خبره على أنه عرف العبودية ثابتة فيه ولم يعلم بالدليل المثبت للحرية ومن روى الرد بالنكاح الأول بنى خبره على عدم العلم بالدليل الموجب أيضا وهو مشاهدة النكاح الجديد وأنه قد عرف النكاح بينهما قائما فيما مضى وشاهد ردها فروى أنه ردها بالنكاح الأول وإذا كان كذلك كان الإثبات أولى لابتنائه على دليل موجب للعلم مع أن رواية الرد بالنكاح الأول محمولة على أنه ردها عليه بحرمة (٣/١٥٤) النكاح الأول أي أنها كانت منكوحة قبل ذلك فردها عليه بنكاح جديد ولم يزوجها غيره ثم إنهم قالوا خبر العبودية في حديث بريرة راجح على خبر الحرية لأن رواية عروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي اللّه عنها وهي كانت خالة عروة وعمة قاسم فكان سماعهما مشافهة وراوي خبر الحرية للأسود عن عائشة وسماعه عنها من وراء الحجاب فكانت الرواية الأولى أولى لزيادة تيقن في المسموع عند عدم الحجاب والجواب عنه أن التيقن فيما قلنا أكثر لابتنائه على الدليل كما ذكرنا ولأن فيما قلنا عملا بالروايتين فإنه لما روي أنه كان عبدا وأنه كان حرا جعلناه حرا في حال وعبدا في حال والحرية تكون بعد الرق ولا يكون الرق بعد الحرية العارضة فجعلنا الرق سابقا والحرية لاحقة جمعا بينهما مع أن الروايات لو اتفقت على أنه كان عبدا لم تنف ثبوت التخيير إذا كان زوج المعتقة حرا لأنه ما قال إني خيرتها لأن زوجها كان عبدا ولو قال ذلك لا ينفي التخيير أيضا عند الحرية لأن عدم العلة لا يدل على عدم الحكم وقوله لو كان حرا لم يخيرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كلام عائشة ويجوز أن يكون من كلام عروة فلا يدل ذلك على انتفاء الخيار عند الحرية ومسألة الماء أي النفي في مسألة الماء والطعام والشراب من جنس ما يعرف بدليله لأنه إذا أخذ الماء من واد جار في إناء طاهر ولم يغب ذلك الإناء عنه كان في الإخبار بطهارته معتمدا على دليل موجب للعلم كالمخبر بنجاسته فيتحقق التعارض ويجب الترجيح بالأصل لما ذكر في الكتاب قوله ومن الناس من رجح بفضل عدد في الرواة ولا يرجح أحد الخبرين على الآخر بأن يكون رواته أكثر من رواة الآخر عند عامة أصحابنا وهو قول بعض أصحاب الشافعي وذهب أكثرهم إلى صحة الترجيح بكثرة الرواة وبه قال أبو عبد اللّه الجرجاني من أصحابنا وأبو الحسن الكرخي في رواية لأن الترجيح إنما يحصل بقوة لأحد الخبرين لا توجد في الآخر ومعلوم أن كثرة الرواة نوع قوة في أحد الخبرين لأن قول الجماعة أقوى في الظن وأبعد من السهو وأقرب إلى إفادة العلم من قول الواحد لأن خبر كل واحد يفيد ظنا (٣/١٥٥) ولا يخفى أن الظنون المجتمعة كلما كانت أكثر كانت أغلب على الظن حتى ينتهي إلى القطع ولهذا رجح محمد رحمه اللّه في كتاب الاستحسان قول الاثنين على قول الواحد فيما إذا أخبر واحد بطهارة الماء أو بحل الطعام والشراب واثنان بالنجاسة أو بالحرمة أو على القلب يجب العمل بخبر الاثنين لما ذكرنا يؤيده أن في باب الشهادة يرجح خبر الاثنين على خبر الواحد حتى كان خبر المثنى حجة لطمأنينة القلب إليه دون خبر الواحد فكذلك في الأخبار وقد اشتهر من الصحابة رضي اللّه عنهم الاعتماد على خبر المثنى دون الواحد ولنا أن خبر الواحد وخبر الاثنين والثلاثة وأكثر من ذلك في إيقاع العلم سواء فإن كل واحد يوجب علم غالب الرأي فلا يترجح أحد الخبرين بكثرة المخبرين كما في الشهادة فإنها لا تترجح بكثرة العدد لاستواء الاثنين وما فوقهما في إيقاع العلم وكون كل واحد حجة وليس هذا مثل الإخبار عن نجاسة الماء وطهارته فإن المخبر هناك يخبر عن معاينة وحقيقة فكان في معنى الشهادة وقول الواحد ليس بحجة من حيث الشهادة وقول الاثنين حجة فكان العمل به أوجب أما هاهنا فالخبر لا يخبر عن معاينة فكان خبرا محضا وخبر الواحد والاثنين فيه سواء هذا هو الفرق بين المسألتين كذا ذكره أبو اليسر ولقائل أن يقول المخبر هاهنا يخبر عن معاينة أيضا فإنه يخبر عن سماعه من الرسول عليه السلام أو من غيره من الرواة فكان في معنى الشهادة فينبغي أن يترجح خبر الاثنين على الواحد والصحيح ما ذكره الإمام شمس الأئمة رحمه اللّه أن هذا النوع من الترجيح قول محمد خاصة فقد ذكر نظيره في السير الكبير أن أهل العلم بالسير ثلاث فرق أهل الشام وأهل الحجاز وأهل العراق فكل ما اتفق فيه الفريقان منهم على قول أخذت بذلك وتركت ما انفرد به فريق واحد وهذا ترجيح بكثرة القائلين صار إليه محمد وأبى ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه قال والصحيح ما قالا فإن كثرة العدد لا تكون دليل قوة الحجة قال تعالى ولكن أكثرهم لا يعلمون وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقال ما يعلمهم إلا قليل وقليل ما هم ثم السلف من الصحابة وغيرهم لم يرجحوا بكثرة العدد في باب العمل بأخبار الآحاد فالقول به يكون قولا بخلاف إجماعهم أرأيت لو وصل إلى السامع أحد الخبرين بطريق واحد والآخر بطرق أكان يرجح ما وصل إليه بطريق إذا كان راوي الأصل واحدا فهذا لا يقول به أحد وذكر في (٣/١٥٦) الميزان لا يترجح الخبر بكثرة الرواة عند عامة مشايخنا لأنه يحتمل أن يكون الخبر الذي رواته أقل متأخرا فيكون ناسخا لذلك وهذا المعنى لا يرفع الرواة قوله وكذلك لا يجب الترجيح بالذكورة والحرية إنما ذكر هذا جوابا عن اعتبارهم الخبر بالشهادة في خبر الاثنين في باب الشهادة راجح على خبر الواحد فكذلك في باب الأخبار فقال وكما لا يصح ما ذكرتم لأنه خلاف السلف لا يصح اعتباره بالشهادة أيضا فإن الترجيح بالذكورة والحرية ثابت في باب الشهادة حتى كانت شهادة الرجلين راجحة على شهادة المرأتين وشهادة الحرين راجحة على شهادة العبدين ولم يجب الترجيح لهما في رواية الأخبار حتى كان خبر المرأة مثل خبر الرجل وخبر العبد مثل خبر الحر فعرفنا أن اعتبار الأخبار بالشهادة غير مستقيم قال شمس الأئمة رحمه اللّه ولا يؤخذ حكم رواية الأخبار من حكم الشهادات ألا ترى أن التعارض في رواية الأخبار تقع بين خبر المرأة وخبر الرجل وبين خبر المحدود في القذف بعد التوبة وخبر غير المحدود وبين خبر المثنى وخبر الأربعة وإن كان يظهر التفاوت بينهما في الشهادات حتى يثبت بشهادة الأربعة ما لا يثبت بشهادة الاثنين وهو الزنا وكذلك طمأنينة القلب إلى قول الأربعة أكثر ومع ذلك يتحقق التعارض بين شهادة الاثنين وبين شهادة الأربعة في الأموال ليعلم أنه لا يؤخذ حكم الحادثة من حادثة أخرى ما لم يعلم المساواة بينهما من كل وجه قوله ولكنهم لا يسلمون هذا إلا في الأفراد يعني أنهم يسلمون أن الترجيح بالذكورة والحرية لا يجب في الأفراد حتى لا يترجح خبر رجل واحد على خبر امرأة واحدة وخبر حر على خبر عبد لكنهم لا يسلمون عدم الترجيح بينهما في العدد بل يقولون خبر الحرين أولى من خبر العبدين وخبر الرجلين أولى من خبر المرأتين لأن خبر الحرين والرجلين حجة تامة دون خبر العبدين والمرأتين فيترجح كما في الشهادة بخلاف الأفراد فإن كل واحد منهما ليس بحجة فكان خبر الحر كخبر العبد وخبر الرجل كخبر المرأة كما في مسألة الماء يعني إذا أخبره عبد ثقة بطهارة الماء وحر ثقة بنجاسته أو على القلب فيتحقق التعارض ويعمل بأكبر رأيه لأن الحجة لا تتم من طريق الحكم بخبر حر واحد ومن حيث الدين الحر والمملوك سواء فلتحقق المعارضة يصير إلى الترجيح بأكبر الرأي وإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان وبالأمر الآخر حران ثقتان أخذ بقول الحرين لأن الحجة تتم بقول الحرين في الحكم ولا تتم بقول المملوكين فعند التعارض يترجح قول الحرين نص عليه في المبسوط وإذا ثبت ترجيح خبر الحرين في مسألة الماء يثبت (٣/١٥٧) في الأخبار أيضا ثم إنهم لما لم يسلموا ذلك في العدد لا يتم الإلزام عليهم بما ذكر فأبطل عليهم كلامهم ليتم الإلزام فقال إلا أن هذا أي ما ذكروا من ترجيح خبر الحرين والرجلين متروك بإجماع السلف فإن المناظرات جرت من وقت الصحابة إلى يومنا هذا بأخبار الآحاد ولم يرو في شيء منها اشتغالهم بالترجيح بالذكورة والحرية في الأفراد والعدد ولا بالترجيح بزيادة عدد الرواة ولو كان ذلك صحيحا لاشتغلوا به كما اشتغلوا بالترجيح بزيادة الضبط والإتقان وبزيادة الثقة فأما ترجيح خبر المثنى على خبر الواحد وخبر الحرين على خبر العبدين في مسألة الماء فلظهور الترجيح في العمل به فيما يرجع إلى حقوق العباد فأما في أحكام الشرع فخبر الواحد وخبر المثنى في وجوب العمل بهما سواء كذا أجاب الإمام شمس الأئمة رحمه اللّه قوله وهذه الحجج بجملتها أي الحجج التي مر ذكرها من الكتاب بجميع أقسامه من الخاص والعام وغيرهما سوى المحكم منها والسنة بجملة أنواعها من المتواتر والمشهور والآحاد تحتمل البيان أي تحتمل أن يلحقها بيان إما على وجه التقرير أو التفسير أو التغيير فوجب إلحاق باب البيان بذكر هذه الحجج رعاية للمناسبة وهذا الذي نشرع فيه (٣/١٥٨) |