Geri

   

 

 

İleri

 

كشف الأسرار

عن(شرح) أصول فخر الإسلام البزدوي

علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري

الحنيفي (ت  ٧٣٠هـ ١٣٣٠ م)

(أبي الحسن علي بن محمد بن الحسين فخر الإسلام البزدوي

الحنيفي (ت ٤٨٢هـ ١٠٨٩ م))

تحقيق عبد اللّه محمود محمد عمر الناشر دار الكتب العلمية

سنة النشر ١٤١٨هـ - ١٩٩٧م

مكان النشر بيروت عدد الأجزاء ٤

الجزء ١

الحمد للّه مصور النسم في شبكات الأرحام بلا مظاهرة ومعونة ومقدر القسم لطبقات الأنام بلا كلفة ومئونة شارع مشارع الأحكام بلطفه وأفضاله ناهج مناهج الحلال والحرام بكرمه ونواله مبدع فرائد الدرر من خطرات الفكر بسحائب فضله وإكرامه منشئ لطائف العبر من شواهد النظر برواتب طوله وإنعامه الذي أكمل بعنايته رونق الدين وأبهة الإسلام وصير برعايته الملة الحنيفية مرتفعة الأعلام نحمده حمدا تاه في وصفه أفهام العقلاء ونشكره شكرا حار في قدره أوهام الألباء على ما أوضح مناهج الشرع ورفع معالمه وأحكم قواعد الدين وأثبت دعائمه ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له شهادة رسخت عروقها في صميم الجنان ودعت صاحبها إلى نعيم الجنان

ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جبله اللّه من سلالة المجد والكرم وبعثه إلى كافة الخلق والأمم فأبان معالم الدين وأثاره وأضاء سبل اليقين ومناره حتى سطع نور الشرع عن ظلام الجفاء بحسن عنايته وظهر نور الدين عن أكمام الخفاء بيمن كفايته صلى اللّه عليه وعلى آله الذين لم تستر أقمار دينهم بغمام الشك والبداء ولم تحتجب أنوار يقينهم بأكمام الأهواء صلاة تتجدد على تعاقب الليالي والأيام وتتزايد على انتقاص الشهور والأعوام وسلم تسليما

وبعد فإن علوم الدين أحق المفاخر بالتوقير والتبجيل وأولى الفضائل بالتفضيل والتحصيل إذ هي الطريقة المسلوكة لنيل السعادات في الدنيا والمرقاة المنصوبة إلى الفوز بالكرامات في العقبى بنورها يهتدى من ظلمات الغواية إلى سبيل الرشاد وبيمنها يرتقى من حضيض الجهالة إلى ذروة الاجتهاد لا سيما علم أصول الفقه الذي هو أصعبها مدارك وأدقها مسالك وأعمها عوائد وأتمها فوائد لولاه لبقيت

(١/٧)

لطائف علوم الدين كامنة الآثار ونجوم سماء الفقه والحكمة مطموسة الأنوار لا تدخل ميامنه تحت الإحصاء ولا تدرك محاسنه بالاستقصاء

ثم إن كتاب أصول الفقه المنسوب إلى الشيخ الإمام المعظم والحبر الهمام المكرم العالم العامل الرباني مؤيد المذهب النعماني قدوة المحققين أسوة المدققين صاحب المقامات العلية والكرامات السنية مفخر الأنام فخر الإسلام أبي الحسن علي بن محمد بن الحسين البزدوي تغمده اللّه بالرحمة والرضوان وأسكنه أعلى منازل الجنان امتاز من بين الكتب المصنفة في هذا الفن شرفا وسموا وحل محله مقام الثريا مجدا وعلوا ضمن فيه أصول الشرع وأحكامه وأدرج فيه ما به نظام الفقه وقوامه وهو كتاب عجيب الصنعة رائع الترتيب صحيح الأسلوب مليح التركيب ليس في جودة تركيبه وحسن ترتيبه مرية وليس وراء عبادان قرية لكنه صعب المرام أبي الزمام لا سبيل إلى الوصول إلى معرفة لطفه وغرائبه ولا طريق إلى الإحاطة بطرفه وعجائبه إلا لمن أقبل بكليته على تحقيقه وتحصيله وشد حيازيمه للإحاطة لجملته وتفصيله بعد أن رزق في اقتباس العلم ذهنا جليا وذرعا من هو أجس أضاليل المنى خليا وقد تبحر مع ذلك في الأحكام والفروع وأحاط بما جاء فيها من المنقول والمسموع

وقد سألني إخواني في الدين وأعواني على طلب اليقين أن أكتب لهم شرحا يكشف عن أوجه غوامض معانيه نقابها ويرفع عن اللطائف المستترة في مبانيه حجابها ويوضح ما أبهم من رموزه وإشاراته المعضلة ويبين ما أجمل من ألفاظه وعباراته المشكلة ظنا منهم أني لما استسعدت بخدمة شيخي وسيدي وسندي وأستاذي وعمي وهو الإمام المحقق الرباني والقرم المدقق الصمداني ناصب رايات الشريعة كاشف آيات الحقيقة فتاح أقفال المشكلات كشاف غوامض المعضلات فخر الحق والدين ملاذ العلماء في العالمين قطب المتهجدين ختم المجتهدين محمد بن إلياس المايمرغي أفاض اللّه عليه سجال إنعامه وغفرانه وصب عليه شآبيب إكرامه ورضوانه ونشأت في حجره برواتب بره وأفضاله وربيت في بيته بصنائع جوده ونواله لعلي فزت بدرر من غرر فرائده

وأخذت حظا وافرا من موائد فوائده وإنه قد كان مختصا من بين العلماء باتفاق الأنام بتحقيق دقائق مصنفات فخر الإسلام فاستعفيت عن هذا الأمر الخطير وتشبثت بأهداب المعاذير علما مني بأني لست من فرسان هذا الميدان ولا لي بالإبلاء في مواقفه يدان وأين أنا من ذلك وقد تحيرت الفحول في حل مشكلاته

(١/٨)

بعد تهالكهم في بحثه وتنقيره وعجزت التحارير عن درك معضلاته مع حرصهم على تحقيقه وتفكيره فلم يزدهم ذلك إلا المبالغة في الإلحاح علي والإقامة في مواقف الاقتراح لدي فلم أجد بدا من إنجاح مسئولهم ولا مندوحة عن تحقيق مأمولهم فأجبتهم إلى ملتمسهم تفاديا من عقوقهم وسعيا إلى أداء حقوقهم وشرعت في هذا الأمر العظيم المهم والخطب الجسيم المدلهم مستعينا باللّه الكريم الجليل راجيا منه أن يهديني سواء السبيل متوكلا على كرمه الشامل في طلب التوفيق لإتمامه معتمدا على إنعامه العام في سؤال التيسير لابتدائه واختتامه

راغبا إليه في أن يجعل ما أقاسيه خالصا لوجهه الكريم متعوذا به من أن يتلقاني بسخطه وعقابه الأليم مبتهلا إليه في أن يحفظني عن الخطإ والزلل ويلهمني طريق الصواب والسداد في القول والعمل متضرعا إليه في أن ينفعني به وأئمة الإسلام ويجمعني وإياهم ببركات جمعه في دار السلام ولما كان هذا الكتاب كاشفا عن غوامض محتجبة عن الأبصار ناسب أن سميته كشف الأسرار وأرجو أن يكون كتابا سبق عامة الشروح ترتيبا وجمالا وفاق نظائره تحقيقا وكمالا ومن نظر فيه بعين الإنصاف عرف دعوى الصدق من الخلاف ثم إني وإن لم آل جهدا في تأليف هذا الكتاب وترتيبه ولم أدخر جدا في تسديده وتهذيبه فلا بد من أن يقع فيه عثرة وزلل وأن يوجد فيه خطأ وخطل فلا يتعجب الواقف عليه عنه فإن ذلك مما لا ينجو منه أحد ولا يستنكفه بشر وقد روى البويطي عن الشافعي رحمه اللّه أنه قال له إني صنفت هذه الكتب فلم آل فيها الصواب فلا بد أن يوجد فيها ما يخالف كتاب اللّه تعالى وسنة رسوله عليه السلام قال اللّه تعالى ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فما وجدتم فيها مما يخالف كتاب اللّه وسنة رسوله فإني راجع عنه إلى كتاب اللّه وسنة رسوله

وقال المزني قرأت كتاب الرسالة على الشافعي ثمانين مرة فما من مرة

(١/٩)

إلا وكنا نقف على خطإ فقال الشافعي هيه أبى اللّه أن يكون كتاب صحيحا غير كتابه فالمأمول ممن وقف عليه بعد أن جانب التعصب والتعسف ونبذ وراء ظهره التكلف والتصلف أن يسعى في إصلاحه بقدر الوسع والإمكان أداء لحق الأخوة في الإيمان وإحرازا لحسن الأحدوثة بين الأنام وإدخارا لجزيل المثوبة في دار السلام واللّه الموفق والمثيب عليه أتوكل وإليه أنيب

قال العبد الضعيف عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري ستر اللّه عيوبه وغفر ذنوبه

حدثني بهذا الكتاب شيخي وأستاذي وعمي الذي تقدم ذكره آنفا قراءة عليه بسرخس في المدرسة الملكية العباسية قال حدثني به أستاذ أئمة الدنيا مظهر كلمة اللّه العليا شمس الأئمة محمد بن عبد الستار بن محمد الكردري من أول الكتاب إلى باب أسباب الشرائع ومنه إلى آخر الكتاب الشيخ الإمام والقرم الهمام بدر الملة والدين محمد بن محمود بن عبد الكريم الكردري المعروف بخواهر زاده راويا عن حاله هذا قال حدثنا شيخ شيوخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الرشداني قال حدثنا إمام الأئمة ومقتدى الأمة نجم الدين أبو حفص عمر بن أحمد النسفي عن الشيخ الإمام المصنف قدس اللّه أرواحهم

(١/١٠)

قال الشيخ رحمه اللّه الحمد للّه خالق النسم ورازق القسم جرت سنة السلف والخلف بذكر الحمد في أوائل تصانيفهم اقتداء بكتاب اللّه تعالى

فإنه معنون به وعملا بقوله عليه السلام كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للّه فهو أقطع والحمد هو الثناء على الجميل من نعمة وغيرها يقال حمدته على إنعامه وحمدته على شجاعته واللام فيه لاستغراق الجنس عند أهل السنة على ما عرف أي الحمد كله للّه واللّه اسم تفرد به الباري سبحانه يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام لا شركة فيه لأحد قال اللّه تعالى هل تعلم له سميا أي هل تعلم أحدا يسمى بهذا الاسم غيره كذا روي عن الخليل وابن كيسان ولهذا اختص الحمد بهذا الاسم لأنه لما كان كالعلم للذات كان مستجمعا لجميع الصفات فكان إضافة الحمد إليه إضافة له إلى جميع أسمائه وصفاته ألا ترى أن الإيمان اختص بهذا الاسم حيث قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه مع أن الإيمان بجميع الأسماء والصفات واجب لأنه مستجمع للصفات ثم لما كان من سنة التأليف أن يوافق التحميد مضمونه

وغرض الشيخ من هذا التصنيف بيان أصول الفقه والفقه على ما روي عن أبي حنيفة رحمه اللّه معرفة النفس ما لها وما عليها قال خالق النسم إذ لا بد من وجود النفس لتعرف ما شرع لها

(١/١١)

مثل العقود وما شرع عليها مثل الواجبات والخالق ههنا بمعنى الإيجاد والنسمة الإنسان كذا في الصحاح والنسم جمع نسمة وفي المغرب النسمة النفس من نسم الريح ثم سميت بها النفس ومنها أعتق النسمة واللّه بارئ النسم ولما كان الإنسان محتاجا إلى العطاء في حالة البقاء أعقبه بقوله رازق القسم أي معطي العطايا والرزق العطاء وهو مصدر قولك رزقه اللّه والقسم جمع قسمة بمعنى القسم وهو الحظ والنصيب من الخير وفي ذكر الرزق دون الإعطاء لطف وهو أن الرزق ما يفرض للفقراء بخلاف العطاء فإنه اسم لما يفرض للعمال مثل المقاتلة والإنسان في أول أمره فقير محتاج لا قوة له على كسب وعمل فكان ذكر الرزق أشد مناسبة من ذكر العطاء مع أن فيه رعاية صنعة الترصيع

قوله مبدع البدائع وشارع الشرائع الإبداع الاختراع لا على مثال والبدائع جمع بديع بمعنى مبتدع أي مخترع الموجودات بلا مادة ومثال بقدرته الكاملة وحكمته الشاملة وفي ذكر هذه القضية بدون الواو بدلا من

قوله خالق النسم إشارة إلى أن خلق مثل هذا الموجود الذي فيه أنموذج من جميع ما في هذا العالم حتى قيل هو العالم الأصغر من عجائب قدرته وغرائب حكمته ثم هذا الجنس لما خلقوا على همم شتى وطبائع مختلفة وأهواء متباينة لا يكادون يجتمعون على شيء ويبعث لكل واحد همته إلى ما يستلذ طبعه وفيه من الفساد ما لا يخفى لأن ذلك يؤدي في العاجل إلى التقاتل والتفاني وفي الآجل إلى استحقاق العذاب الأليم شرع الشرائع زاجرا لهم عن ذلك وجامعا لهم على طريق واحد مستقيم فكان من أجل النعم والشرع الإظهار وشرع لهم كذا أي بين والشرائع جمع شريعة وهي ما شرع اللّه تعالى لعباده من الدين ثم ضمن الشارع معنى الجعل والتصيير فانتصب دينا على أنه مفعول ثان أي جاعل الشرائع دينا رضيا أو انتصب على الحال من الشرائع مع أنه ليس بصفة لوجود معنى الصفة فيه باعتبار وصفه كما انتصب قرآنا على الحال في

قوله عز اسمه كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا مع أنه ليس بصفة لكونه موصوفا بوصف أي فصلت آياته في حال كونه موصوفا بالعربية

وهو مثل قولك جاءني زيد رجلا صالحا

(١/١٢)

والدين وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات والرضى المرضي ووصفه به اقتداء بقوله عز وجل ورضيت لكم الإسلام دينا أي اخترته لكم من بين الأديان ويجوز أن يكون المراد من الشرائع مشروعات هذه الملة خاصة بدليل

قوله دينا على صيغة الواحد ولو كان المراد جميع الشرائع من لدن آدم إلى عهد النبي عليهما السلام لقيل أديانا رضية وأنوارا مضيئة والنور لغة اسم للكيفية العارضة من الشمس والقمر والنار على ظواهر الأجسام الكثيفة مثل الأرض والجدار ومن خاصيته أن تصير المرئيات بسببه متجلية منكشفة ولذا قيل في تعريفه هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره

ثم تسمية الدين نورا بطريق الاستعارة لأنه سبب لظهور الحق للبصيرة كما أن النور الجسماني سبب لظهور الأشياء للبصر والإضاءة متعد ولازم قال النابعة الجعدي أضاءت لنا النار وجها أغر ملتبسا بالفؤاد التباسا يضيء كضوء سراج السليط لم يجعل اللّه فيه نحاسا فاستعمله بالمعنيين واللزوم هو المختار والضياء أقوى من النور وأتم منه لأنه أضيف إلى الشمس والنور إلى القمر في قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ثم الشيخ وصف الدين بالنور أولا كما وصفه اللّه تعالى به في

قوله ولكن جعلناه نورا أي جعلنا الإيمان نورا وفي

قوله عز اسمه واللّه متم نوره أي دينه ثم وصفه بالإضاءة ثانيا لأنه في أول الأمر في حق المتمسك به بمنزلة نور القمر ثم يتزايد بالتأمل والاستدلال إلى أن يبلغ ضوء الشمس

ولأن الخلق كانوا في ظلمة ظلماء قبل البعث فكان ظهور الدين فيها بمنزلة ظهور نور القمر في الظلمة الجسمانية ثم ازداد حتى بلغ المشرق والمغرب بمنزلة ضياء الشمس فلهذا وصفه بهما ولأن استنارة العالم الجسماني بهذين الكوكبين فوصفه بالنور والإضاءة فكأنه قال هو الشمس والقمر في العالم الروحاني بطريق الاستعارة التخييلية

قوله وذكرا للأنام ومطية إلى دار السلام الذكر ههنا الشرف قال تعالى لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أي شرفكم ص والقرآن ذي الذكر قيل ذي الشرف والأنام الخلق وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه والمطية المركب والمطاء الظهر وهذا الكلام بطريق الاستعارة يعني كما أن المطية

(١/١٣)

وسيلة إلى الوصول إلى المقصد فكذلك الدين وسيلة إلى الوصول إلى المقصد الأقصى وهو دار السلام وسميت الجنة دار السلام لسلامة أهلها وما فيها من النعم عن الآفات والفناء أو لكثرة السلام فيها قال تعالى تحيتهم فيها سلام سلام عليكم طبتم سلام قولا من رب رحيم والسلام من أسماء اللّه تعالى فأضيفت الدار إليه تعظيما لها

قوله أحمده على الوسع والإمكان ولما نظر الشيخ رحمه اللّه في جلائل نعم اللّه تعالى على عباده وكمال قدرته وعظمته وعرف أن القدرة البشرية لا تفي بالقيام بمواجب حمده كما هو يستحقه وإن سلوك طريق النجاة لا يتيسر إلا بإعانته وتيسيره قال أحمده على الوسع والإمكان وأستعينه على طلب الرضوان يعني أحمده على حسب وسعي وطاقتي وبقدر ما يمكن الإقدام عليه من التحميد لا على حسب النعم إذا ليس ذلك وسع أحد قال تعالى وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها ثم الإمكان أعم من الوسع لأن الممكن قد يكون مقدورا للبشر وغير مقدور له ألا ترى أن نسف الجبال ممكن في نفسه

وإن لم يكن مقدورا للبشر والوسع راجع إلى الفاعل والإمكان إلى المحل وخص طلب الرضوان أي الرضا بالاستعانة فيه لأنه أعظم النعم وأعلاها قال تعالى ورضوان من اللّه أكبر ثم ذكر الشهادتين لأن ذلك من سنة الخطبة قال عليه السلام كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء

قوله وأصلي عليه وعلى آله أي ذريته وأصحابه أي متابعيه من المهاجرين والأنصار أو المراد من الآل الأتقياء من المؤمنين على ما قال عليه السلام آلي كل مؤمن تقي وتخصيص الأصحاب بالذكر بعد دخولهم في ذلك العموم لزيادة التعظيم

(١/١٤)

وتقديم الآل والأصحاب في الصلاة على عامة الأنبياء والمرسلين لتكميل الصلاة على النبي لا لتفضيلهم على الأنبياء إذ لا فضل لولي على نبي قط

قوله العلم نوعان اختلف في تفسير العلم فقيل لا يمكن تعريفه لأنه ضروري إذ كل أحد يعلم وجوده ضرورة ولأن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم فلو علم العلم بغيره كان دورا وقيل إنه صفة توجب في الأمور المعنوية تمييزا لا يحتمل النقيض

وقوله لا يحتمل النقيض احتراز عن الظن ونحوه وقيل هو صفة ينتفي بها عن الحي الجهل والشك والظن والسهو ومختار الشيخ أبي منصور الماتريدي رحمه اللّه أنه صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به ثم أنه عام يتناول علم النحو والطب والنجوم وسائر علوم الفلسفة كما يتناول علم التوحيد والشرائع فلا يستقيم تقسيمه بالنوعين واكتفاؤه عليهما كما لا يستقيم تقسيم الحيوان بأنه نوعان إنسان وفرس منحصرا عليهما لأنه أعم من ذلك إلا بتقييد وهو أن يقال المراد العلم المنجي أو العلم الذي ابتلينا به نوعان وكان الشيخ رحمه اللّه أخرج بقوله العلم نوعان غير هذين النوعين عن كونه علما لعدم ظهور فائدته في الآخرة وانحصار الفائدة فيها على النوعين فكان هذا من قبيل قولك العالم في البلد زيد مع وجود غيره من العلماء فيه لأنك لا تعدهم علماء في مقابلته علم التوحيد هو العلم بأن اللّه تعالى واحد لا شريك له وعلم الصفات هو العلم بأن للّه تعالى صفات ثبوتية قائمة بذاته قديمة غير محدثة مثل العلم والحياة والقدرة وغيرها من أوصاف الكمال لا كما زعمت المعتزلة من نفي الصفات ولا كما زعمت الكرامية من حدوث بعض الصفات وعلم الشرائع هو العلم بالمشروعات من السبب والعلة والشرط والحل

(١/١٥)

والحرمة والجواز والفساد والأحكام وإن دخلت في المشروعات لكنها لكونها مقصودة أفردت بالذكر والأصل في النوع الأول التمسك بالكتاب والسنة أي بمحكم الكتاب والسنة المتواترة

وهذا في المباحثة مع النفس أو مع أهل القبلة الذين أقروا برسالة النبي عليه السلام وبحقية القرآن وانتحلوا نحلة الإسلام إلا أنهم بسبب أهوائهم خرجوا عن حوزة الإسلام ونبذوا التوحيد وراء ظهورهم وأنكروا الصفات التي نطق بها القرآن والسنة زاعمين أن ما ذهبوا إليه هو عين الحق ومحض التوحيد فأما في المباحثة مع من أنكر الرسالة والقرآن مثل المجوس والثنوية والفلاسفة فلا ينفع التمسك فيها بالكتاب والسنة لإنكار الخصم حقيتهما فيتمسك إذن بالمعقول الصرف

ومجانبة الهوى والبدعة الهوى ميلان النفس إلى ما تستلذه من غير داعية الشرع والبدعة الأمر المحدث في الدين الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون يعني يتمسك بالكتاب والسنة مجانبا لهوى نفسه ومجانبا لما أحدثه غيره في الدين مما لم يكن منه فلا يحمل الكتاب والسنة على ما تهواه نفسه ولا على ما يوافق ما أبدعه غيره مثل ما قالت الرافضة المراد من الخمر والميسر والأنصاب أبو بكر وعمر وعثمان ومن الظلم في قوله تعالى ويوم يعض الظالم على يديه أبو بكر ومن

قوله لم أتخذ فلانا عمر ومثل ما قالت المعتزلة في قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أنه مشروط بشرط التوبة ليستقيم قولهم بالتخليد في النار لأصحاب الكبائر من المؤمنين ومثل حملهم المشيئة في قوله تعالى يضل من يشاء ونظائره على مشيئة القسر ليستقيم قولهم بعدم دخول الشرور والقبائح تحت

(١/١٦)

مشيئة اللّه تعالى وإرادته ولزوم طريق السنة أي عقيدة الرسول والجماعة أي عقيدة الصحابة أدركنا مشايخنا أي أستاذينا والسلف جمع سالف من سلف يسلف سلفا إذا مضى وعامة أصحابهم أي أكثرهم

وإنما قيد به لأن بعضهم كان موسوما بالبدعة مثل بشر بن غياث المريسي واعلم أن غرض الشيخ من تقرير هذه الكلمات في أول هذا الكتاب إبطال دعوى من زعم من المعتزلة أن أبا حنيفة رحمه اللّه كان على معتقدهم استدلالا بما نقل عنه أنه قال كل مجتهد مصيب ودفع طعن من طعن فيه من الشافعية وغيرهم من أصحاب الظواهر أنه كان من أصحاب الرأي وأنه كان يقدم الرأي على السنة فبدأ أولا بإبطال دعوى المعتزلة فقال وقد صنف أبو حنيفة في ذلك أي في علم التوحيد والصفات كتاب الفقه الأكبر سماه أكبر لأن شرف العلم وعظمته بحسب شرف المعلوم ولا معلوم أكبر من ذات اللّه تعالى وصفاته فلذلك سماه أكبر وذكر فيه إثبات الصفات فقال لم يزل ولا يزال بصفاته وأسمائه لم يحدث له صفة ولا اسم لم يزل عالما بعلمه والعلم صفته في الأزل وقادرا بقدرته والقدرة صفته في الأزل وخالقا بتخليقه والتخليق صفته في الأزل وفاعلا بفعله وفعله صفته في الأزل فالفاعل هو اللّه سبحانه وفعله صفته في الأزل والمفعول مخلوق وفعل اللّه تعالى غير مخلوق وصفاته أزلية غير مخلوقة ولا محدثة فمن قال إنها مخلوقة أو محدثة أو وقف فيها أو شك فيها فهو كافر باللّه تعالى وإثبات تقدير الخير والشر من اللّه عز وجل أي ذكر ذلك فيه أيضا فقال يجب أن يقول آمنت باللّه وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره من اللّه تعالى وإن ذلك كله بمشيئته أي ذكر ذلك أيضا فقال جميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة واللّه تعالى خالقها

وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره والطاعات كلها بمحبته ورضائه والمعاصي كلها بتقديره وعلمه وقضائه ومشيئته لا بمحبته ورضاه

وأما مسألتا الاستطاعة والأصلح فما وجدتهما في النسخ التي كانت عندي من الفقه الأكبر وليس في كلام الشيخ أيضا ما يوجب أنه قد ذكرهما فيه

(١/١٧)

فإنه لم يعطف ذلك على ما تقدم حيث لم يقل وإثبات الاستطاعة ولم يقل أيضا وأثبت فيه الاستطاعة ورد فيه القول بالأصلح بل استأنف الكلام وقال وأثبت الاستطاعة ورد القول بالأصلح مطلقا فلعله أثبتهما في موضع آخر أو في مباحثه ونحو ذلك

قوله وقال فيه لا يكفر أحد بذنب أي قال فيه فقد ذكر في كتاب العالم والمتعلم أن المؤمن لا يكون للّه عدوا وإن ركب جميع الذنوب بعد أن لا يدع التوحيد لأنه حين يرتكب العظيم من الذنب فاللّه أحب إليه مما سواه فإنه لو خير بين أن يحرق بالنار وبين أن يفتري على اللّه من قلبه لكان الاحتراق أحب إليه من ذلك ولا يخرج به من الإيمان ذكر فيه أيضا قال المتعلم رحمه اللّه فما قولك في أناس رووا أن المؤمن إذا زنى يخلع عنه الإيمان كما يخلع عنه القميص ثم إذا تاب أعيد إليه إيمانه أتكذبهم في قولهم أو تصدقهم فإن صدقت قولهم فقد دخلت في قول الخوارج وإن كذبت قولهم قالوا أنت مكذب للنبي عليه السلام فإنهم رووا ذلك عن رجال شتى حتى انتهى إلى النبي عليه السلام قال العالم رحمه اللّه أكذب هؤلاء ولا يكون تكذيبي لهم تكذيبا للنبي صلى اللّه عليه وسلم بل يكون تكذيبا للرواية عنه فإن الرجل إذا قال أنا مؤمن بكل شيء تكلم به النبي عم غير أنه لم يتكلم بالجور ولم يخالف القرآن كان هذا القول منه تصديقا بالنبي وبالقرآن وتنزيها له من الخلاف على القرآن وقد قال اللّه تعالى واللذان يأتيانها منكم فقوله منكم لم يعن به اليهود ولا النصارى وإنما عني به المسلمون وذكر في الفقه الأكبر أيضا ولا نكفر مسلما بذنب من الذنوب

وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها ولا نزيل عنه اسم الإيمان ونسميه مؤمنا حقيقة ويترحم له أي يدعى له بالرحمة ويقال رحمه اللّه قال عليه السلام لعدي بن حاتم لو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه أي لقلنا له رحمه اللّه

(١/١٨)

وذكر فيه أيضا قال المتعلم أخبرني عن الاستغفار لصاحب الكبيرة أهو أفضل أم الدعاء عليه باللعنة قال العالم رحمه اللّه الذنب على منزلتين غير الإشراك باللّه فأي الذنبين ركب هذا العبد فإن الدعاء له بالاستغفار أفضل لأنه مؤمن من أهل الشهادة والدعاء لأهل هذه الشهادة بالمغفرة أفضل لحرمة هذه الشهادة إذا ليس شيء يطاع اللّه تعالى به أفضل من الإقرار بهذه الشهادة وجميع ما أمر اللّه تعالى من فرائضه في جنب هذه الشهادة أصغر من بيضة في جنب السموات والأرضين وما بينهن فكما أن ذنب الإشراك أعظم كذلك أجر هذه الشهادة أعظم وكان في علم الأصول إماما صادقا أي إماما على التحقيق والشيء إذا بولغ في وصفه يوصف بالصدق يقال للرجل الشجاع وللفرس الجواد إنه لذو صدق أي صادق الحملة وصادق الجري كأنه ذو صدق فيما يعدك من ذلك قال صاحب الكشاف في قوله تعالى قدم صدق وفي إضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وإنه من السوابق العظيمة ومما يدل على تبحره فيه ما روى يحيى بن شيبان عن أبي حنيفة رحمه اللّه أنه قال كنت رجلا أعطيت جدلا في الكلام فمضى دهر فيه أتردد وبه أخاصم وعنه أناضل

وكان أكثر أصحاب الخصومات بالبصرة فدخلتها نيفا وعشرين مرة أقيم سنة وأقل وأكثر وكنت قد نازعت طبقات الخوارج من الإباضية وغيرهم وطبقات المعتزلة وسائر طبقات أهل الأهواء وكنت بحمد اللّه أغلبهم وأقهرهم ولم يكن في طبقات أهل الأهواء أحد جدلا من المعتزلة لأن ظاهر كلامهم مموه يقبله القلوب وكنت أزيل تمويههم بمبدأ الكلام

وأما الروافض وأهل الإرجاء الذين يخالفون الحق فكانوا بالكوفة أكثر وكنت قهرتهم بحمد اللّه أيضا وكنت أعد الكلام أفضل العلوم وأرفعها فراجعت نفسي بعدما مضى لي فيه عمر وتدبرت فقلت إن المتقدمين من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ورضي اللّه عنهم والتابعين وأتباعهم لم يكن يفوتهم شيء مما ندركه نحن وكانوا عليه أقدر وبه أعرف وأعلم بحقائق الأمور ثم لم يتهايئوا فيه متنازعين ولا مجادلين ولم يخوضوا فيه بل أمسكوا عن ذلك ونهوا أشد النهي ورأيت خوضهم في الشرائع وأبواب الفقه وكلامهم فيه عليه تجالسوا وإليه دعوا وكانوا يطلقون الكلام والمنازعة فيه ويتناظرون عليه وعلى ذلك مضى الصدر الأول من السابقين وتبعهم التابعون فلما ظهر لنا

(١/١٩)

من أمورهم ذلك تركنا المنازعة والخوض في الكلام ورجعنا إلى ما كان عليه السلف وشرعنا فيما شرعوا وجالسنا أهل المعرفة بذلك مع أني رأيت من ينتحل الكلام ويجادل فيه قوما ليس سيماهم سيما المتقدمين ولا منهاجهم منهاج الصالحين رأيتهم قاسية قلوبهم غليظة أفئدتهم لا يبالون مخالفة الكتاب والسنة والسلف الصالح فهجرتهم وللّه الحمد كذا ذكر الإمام ظهير الدين المرغيناني في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة رحمهما اللّه

قوله ودلت المسائل المتفرقة إلى آخره اعلم أن أهل الأهواء تفرقوا أولا على ست فرق القدرية والجبرية والرافضة والخارجية والمشبهة والمرجئة ثم تفرقت كل فرقة على اثنتي عشرة فرقة فصار الكل اثنتين وسبعين فرقة على ما عرف ففي المسائل المذكورة في المبسوط والجامع الصغير وغيرهما دليل على أنهم لم يميلوا إلى شيء من هذه المذاهب فقالوا في قوم صلوا بجماعة في ليلة مظلمة بالتحري فوقع تحري كل أحد إلى جهة إن من علم منهم بحال إمامه فسدت صلاته لأن إمامه في زعمه مخطئ فلو كان كل مجتهد مصيبا عندهم كما هو مذهب المعتزلة لما صح القول منهم بفساد الصلاة كما لو صلوا كذلك في جوف الكعبة فإن قيل إنما حكموا بفساد الصلاة لأن حقية كل جهة مختصة بمتحريها إذ اجتهاد كل مجتهد حق في حق نفسه لا في حق غيره حتى لم يجز العمل باجتهاده لغيره من المجتهدين كحل الميتة ثابت في حق المضطر دون غيره بخلاف الصلاة في الكعبة فإن كل جهة فيها حق بالنسبة إلى جميع الناس قلنا إذا كان اجتهاد كل مجتهد حقا بالنسبة إليه لا بد من أن يعتقد الغير الحقية بتلك النسبة كحل الميتة لما ثبت في حق المضطر لا بد من أن يعتقد غير المضطر الحل

(١/٢٠)

في حقه وإن لم يثبت ذلك في حق غير المضطر وههنا اعتقده مخطئا مطلقا فأوجب فساد الصلاة ولو كان الأمر على ما قالوا لما أوجب فساد الصلاة كالمتوضئ إذا اقتدى بالمتيمم صح صلاته عند أبي حنيفة وأبي يوسف

وإن كان جواز الأداء بالتيمم ثابتا في حق الإمام دون المقتدي لأنه لم يعتقد إمامه على الخطإ وقال أبو حنيفة رحمه اللّه في ميراث قسم بين الغرماء أو الورثة لا آخذ كفيلا من الغريم ولا من الوارث هو شيء احتاط به بعض القضاة وهو جور سمى اجتهاد ذلك البعض جورا ولو كان كل مجتهد مصيبا عنده لما صح وصفه بالجور وقالوا فيمن حلف إن لم آتك غدا إن استطعت فكذا إنه واقع على سلامة الأسباب والآلات للعرف فإن قال عنيت به استطاعة القضاء صدق ديانة حتى لا يحنث وإن لم يأته مع عدم المانع فدل أنهم قائلون بالاستطاعة مع الفعل على خلاف ما قاله المعتزلة وقالوا بجواز إمامة الفاسق وإن كانت مع الكراهية وفيه رد لمذهب الخوارج فإنهم قالوا بكفر من ارتكب معصية

وإمامة الكافر لا تجوز ولمذهب الرافضة أيضا لأنهم شرطوا لصحة الإمامة الإمام المعصوم وقالوا إذا قضى القاضي بشهادة الفاسق نفذ قضاؤه لأنهم مسلمون وفيه رد لمذهب الخوارج والاعتزال وقالوا بفرضية غسل الرجلين وفيه رد لمذهب الروافض واتفقوا على عدم جواز الدعاء بقوله اللّهم إني أسألك بمقعد العز من عرشك من القعود لأنه يشير إلى التمكن واختلفوا في جوازه بقوله بمعقد العز من العقد فقال أبو يوسف لا بأس به للحديث الوارد فيه وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهم اللّه لا يجوز لأنه يوجب تعلق العز بالعرش ويوهم حدوث هذه الصفة واللّه تعالى بجميع أوصافه قديم أزلي والحديث شاذ لا يجوز العمل به في مثل هذه الصورة وفيه رد لمذهب المشبهة واختلفوا أيضا في الحلف بوجه اللّه فقال أبو يوسف يكون يمينا لأن الوجه يذكر بمعنى الذات قال تعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وقال أبو حنيفة ومحمد لا يكون يمينا وأنه من إيمان السفلة أي الجهلة الذين يذكرونه بمعنى العضو الجارحة كذا في المبسوط وفيه رد لمذهب المشبهة أيضا

وقالوا إذا ارتكب العبد ذنبا يوجب الحد فأجري عليه الحد لا يحصل له التطهير به من غير توبة وندم للحديث الوارد فيه إليه أشير في سرقة المبسوط وفيه رد لمذهب

(١/٢١)

المرجئة فإن عندهم لا يضر ذنب مع الإيمان كما لا ينفع طاعة مع الكفر وبنوا مسائل لا تعد ولا تحصى على اختيار العبد وفيها رد لمذهب المجبرة فثبت أنهم لم يميلوا إلى شيء من مذاهب أهل الأهواء وخص نفي الاعتزال عنهم بالذكر أولا ثم عمم نفي جميع الأهواء عنهم لأن المعتزلة هم المدعون أنهم كانوا على مذهبهم لا غيرهم من أهل الأهواء

قوله وإنهم قالوا بكسر الهمزة على أنه كلام مستأنف لا بفتحها عطفا على أنهم لم يميلوا لأنه لم يوجد في المسائل ما يدل على حقية رؤية اللّه تعالى وحقية ما ذكر ولكنه ذكر في الفقه الأكبر واللّه تعالى يرى في الآخرة يراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رءوسهم بلا شبيه ولا كيفية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة وحقية عذاب القبر لمن شاء ذكر في الفقه الأكبر وإعادة الروح إلى العبد في قبره حق وضغطة القبر حق كائن وعذابه حق كائن للكفار كلهم أجمعين ولبعض المسلمين وعن حماد بن أبي حنيفة أنه قال سألت أبي عن عذاب القبر أحق هو فقال هو حق أتت به السنة وجاءت به الآثار وحقية خلق الجنة والنار يعني أقروا بخلق الجنة والنار وبأنهما موجودتان اليوم كذا ذكر في الفقه الأكبر أيضا أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تموت الحور أبدا ولا يفنى عذاب اللّه تعالى ولا ثوابه سرمدا حتى قال أبو حنيفة لجهم بعدما طال مناظرتهما وظهر مكابرته اخرج عني يا كافر وهو جهم بن صفوان رئيس الجبرية وكان من مذهبه أنهما ليستا بموجودتين اليوم

وإنما تخلقان يوم القيامة كما هو مذهب المعتزلة كذا سمعت من بعض الثقات وعليه يدل سياق كلام الشيخ من مذهبه أيضا أنهما مع أهاليهما تفنيان وإن الإيمان هو المعرفة فقط دون الإقرار وأنه لا فعل لأحد على الحقيقة إلا للّه تعالى وإن العباد فيما ينسب إليهم من الأفعال كالشجرة تحركها الريح والإنسان مجبر في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار كذا في المغرب والكفاية وتسميته إياه كافرا إما باعتبار غلوه في هواه أو على سبيل الشتم وقالوا بحقية سائر أحكام الآخرة من البعث بعد الموت وقراءة الكتب ووزن الأعمال والصراط والشفاعة كل ذلك مذكور في الفقه الأكبر على ما نطق به الكتاب والسنة

(١/٢٢)

مثل قوله تعالى وإن اللّه يبعث من في القبور قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه والوزن يومئذ الحق ونضع الموازين القسط ليوم القيامة

وقوله عليه السلام إن الصراط جسر ممدود على وجه جهنم أو على متن جهنم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وهذا أي النوع الأول وهو علم التوحيد والصفات وما يتعلق به مما يجب الاعتقاد به

قوله والنوع الثاني علم الفروع وهو الفقه سمي هذا النوع فرعا لتوقف صحة الأدلة الكلية فيه مثل كون الكتاب حجة مثلا على معرفة اللّه تعالى وصفاته وعلى صدق المبلغ وهو الرسول عليه السلام وإنما يعرف ذلك من النوع الأول فكان هذا النوع فرعا له من هذا الوجه إذ الفرع على ما قيل هو الذي يفتقر في وجوده إلى الغير وهو ثلاثة أقسام أي ثلاثة أجزاء بدليل

قوله فإذا تمت هذه الأوجه كان فقها علم المشروع بنفسه أي علم الأحكام مثل الحلال والحرام والصحيح والفاسد والواجب والمنهي والمندوب والمكروه إتقان المعرفة به أي أحكام العرفان بذلك المشروع وهو أي ذلك الإتقان هو معرفة النصوص بمعانيها أي مع معانيها كقولك دخلت عليه بثياب السفر أي معها واشتريت الفرس بلجامه وسرجه أي معهما أو معناه ملتبسة بمعانيها وكانت الجملة واقعة موقع الحال كما في قوله تعالى تنبت بالدهن أي ملتبسة بالدهن والمراد من المعاني المعاني اللغوية والمعاني الشرعية التي تسمى عللا وكان السلف لا يستعملون لفظ العلة وإنما يستعملون لفظ المعنى أخذا من

قوله عليه السلام لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث أي علل بدليل

قوله إحدى بلفظة التأنيث وثلاث بدون الهاء وضبط الأصول بفروعها أي الأصول المختصة

(١/٢٣)

بهذا النوع مع فروعها مثال ما ذكرنا أن يعرف أن قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط كناية عن الحدث فهذا معرفة معناه اللغوي ويعرف أن المعنى الشرعي المؤثر في الحكم خروج النجاسة عن بدن الإنسان الحي فإذا أتقن المعرفة بهذا الطريق عرف الحكم في غير السبيلين ومثال ضبط الأصل بفرعه أن يعرف أن الشك لا يعارض اليقين فإذا شك في طهارته وقد تيقن بالحدث وجب عليه الوضوء وبالعكس لا يجب

والقسم الثالث هو العمل به لأنه هو المقصود من العلم لا نفسه إذ الابتلاء يحصل به لا بالعلم نفسه ولا يقال إن الشيخ قسم نفس العلم أولا ثم أدخل العمل في قسمة العلم وهو مخالف لحد العلم وحقيقته لأنا نقول إنما أدخل العمل في التقسيم بالتقييد الذي ذكرناه وهو أن المراد هو العلم المنجي والنجاة ليست إلا في انضمام العمل إليه إلا أن العمل في النوع الأول بالقلب وهو الاعتقاد وفي هذا النوع بالجوارح مع أنا لا نسلم أن دخول العمل في التقسيم يضر به لأنك إذا فسرت الحيوان مثلا بأنه حساس متحرك بالإرادة وقسمته بأنه أنواع إنسان وفرس وكذا وكذا ثم فسرت الإنسان بأنه حيوان ناطق فدخول النطق في التقسيم لا يضر به وإن كان مغايرا للحيوانية حقيقة لوجود الحيوانية بكمالها مع زيادة قيد فكذا الشيخ قسم العلم بالنوعين ثم فسر أحد النوعين وهو الفقه بأنه العلم المنضم إليه العمل فكان صحيحا مستقيما ثم استدل على ما ادعى فقال وقد دل على هذا المعنى أي على أن الفقه هو الوجوه الثلاثة أنه تعالى سماه حكمة والحكمة لغة اسم للعلم المتقن والعمل به ألا ترى أن ضده السفه وهو العمل على خلاف موجب العقل وضد العلم الجهل وذكر في بعض النسخ الحكيم هو الذي يمنع نفسه عن هواها وعن القبائح مأخوذ من حكمة الفرس وهي التي تمنعه عن الحدة والجموحة وذكر في الكشاف والحكيم عند اللّه تعالى هو العالم العامل وفي عين المعاني كنهها ما يرد العقل من الخوض في معاني الربوبية إلى المحافظة على مباني العبودية فلأن يعود العقل معترفا بقصوره أحمد له من أن يتهم بإربه في أموره والتنكير في قوله تعالى خيرا كثيرا تنكير تعظيم كأنه قال فقد أوتي أي خير

(١/٢٤)

كثير والموعظة الحسنة هي التي لا تخفى على من تعظه أنك تناصحه بها وتقصد نفعه فيها ووصف الموعظة بالحسن دون الحكمة لأن الموعظة ربما آلت إلى القبح بأن وقعت في غير موضعها ووقتها

قال ابن مسعود رضي اللّه عنه كان النبي عليه السلام يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة فأما الحكمة فحسنة أينما وجدت إذ هي عبارة عن القول الصواب والفعل الصواب

قوله قال الشاعر وهو رؤبة أرسلت فيها أي في النوق وكلمة في لبيان موضع الإرسال ومحلها كما في قوله تعالى ولقد أرسلنا فيهم منذرين لا لتعدية الإرسال إلى المفعول الثاني فإنه تعدى إليه بإلى والقرم البعير المكرم الذي لا يحمل عليه ولا يذلل ولكن يكون للفحلة ومنه قيل للسيد قرم تشبيها له به والإقحام إلقاء النفس في الشدة وفي تاج المصادر الإقحام در آوردن جيزي در جيزي بعنف والطب هو الماهر بالضراب والأبلام بفتح الهمزة جمع بلمة يقال ناقة بها بلمة شديدة إذا اشتدت ضبعتها أي رغبتها إلى الفحل وبكسر الهمزة مصدر أبلمت الناقة إذا ورم حياؤها من شدة الضبعة ووجه التمسك بالبيت هو ما ذكر الشيخ أنه لما وجد فيه العلم والعمل أطلق عليه اسم الفقيه فثبت أن الفقه اسم للجميع فمن حوى أي جمع

هذه الجملة أي الوجوه الثلاثة كان فقيها مطلقا أي كاملا تاما وإلا أي وإن يجمعها واقتصر على وجه أو وجهين فهو فقيه من وجه دون وجه لوجود بعض أجزاء الحقيقة دون البعض ويسمي الشيخ هذا النوع حقيقة قاصرة

قوله وقد ندب اللّه تعالى إليه أي دعا يجوز أن يكون ابتداء كلام في بيان فضيلة الفقه ويجوز أن يكون من تتمة الدليل على أن الفقه هو العلم والعمل

وبيانه أن الشرع قد ورد بفضائل الفقه مطلقا في غير

(١/٢٥)

آية وحديث ومعلوم أن تلك الفضائل منتفية عنه عند تجرده عن العمل بدليل النصوص المطلقة الواردة في حق العلماء السوء مثل قوله تعالى فمثله كمثل الكلب

وقوله عز اسمه كمثل الحمار يحمل أسفارا

وقوله جل ذكره لم تقولون ما لا تفعلون

وقوله عليه السلام ويل للجاهل مرة وللعالم سبعين مرة وما روي أنه عليه السلام سئل عن شرار الخلق فقال اللّهم غفرا حتى كرر عليه فقال هم العلماء السوء إلى غير ذلك من الأحاديث فثبت أن مطلقه واقع على العلم والعمل جميعا توضيحه أن

قوله عليه السلام فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ورد فيمن يجمع بين العلم والعمل كما أشار الشيخ إليه فأما من أقبل على العلم وترك العمل به فهو سخرة الشيطان وضحكته فكيف يكون مثله أشد عليه من ألف عابد وذكر الإمام الغزالي رحمه اللّه في بيان تبديل أسامي العلوم أن الناس تصرفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى والوقوف على دقائقها وعللّها واسم الفقه في العصر الأول كان منطلقا على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا قال اللّه تعالى ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم والإنذار بهذا النوع من العلم دون تفاريع السلم والإجارة وقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات اللّه وروي أيضا موقوفا عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتا وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فأجابه فقال إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن ثكلتك أمك فريقد وهل رأيت فقيها بعينك إنما الفقيه هو الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بذنبه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف عن أعراض المسلمين فكان اسم الفقه متناولا لهذه العلوم وللفتاوى أيضا فخص بالفتاوى لا غير فتجرد الناس به لأغراض الجاه والاستتباع استرواحا بما جاء في فضيلة الفقه قوله تعالى

وما كان المؤمنون لينفروا كافة اللام لتأكيد النفي ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن وفيه أنه لو صح وأمكن ولم يؤد إلى مفسدة لوجب لوجوب التفقه على الكافة ولأن طلب العلم فريضة

(١/٢٦)

على كل مسلم ومسلمة فلولا نفر أي فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن فيه مصلحة فهلا نفر من كل فرقة طائفة أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة يكفونهم النفير ليتفقهوا في الدين ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها ولينذروا قومهم وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة وتؤمونه من المقاصد الركيكة من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا وفشو داء الضرائر بينهم وانقلاب حمالق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر أو شرذمة جثوا بين يديه وتهالكه على أن يكون موطئ العقب دون الناس كلهم فما أبعد هؤلاء من

قوله عز وجل لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا لعلهم يحذرون إرادة أن يحذروا اللّه فيعملوا عملا صالحا ووجه آخر وهو أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان إذا بعث بعثا بعد غزوة تبوك وبعدما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعا عن استماع الوحي والتفقه في الدين فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأن الجدال بالحجة أعظم أثرا من الجهاد بالسيف

وقوله ليتفقهوا الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة من بينهم ولينذروا قومهم ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه كذا في الكشاف ولا يقال هذه الآية على الوجه الثاني معارضة بقوله تعالى انفروا خفافا وثقالا لأنا نقول هذه الآية ناسخة للآيات التي توجب نفر الكل

وهو قول الحسن وأبي بكر الأصم أو هي نازلة حال كثرة المؤمنين وتلك في حال قلتهم أو هي محمولة على غير حالة هجوم العدو وتلك على حالة الهجوم إليه أشير في شرح التأويلات والإنذار هو الدعوة إلى العلم والعمل لأن المنذر إذا لم يعمل بما ينذر به لا يلتفت إليه ولا إلى كلامه أصلا كمن أشار إلى طعام لذيذ وقال لا تأكلوه فإنه مسموم ثم أخذ في أكله لا يلتفت إلى كلامه أصلا فثبت أنه لا بد للإنذار من العمل به وقد وصف اللّه تعالى الفقهاء بالإنذار بقوله ولينذروا قومهم فلا بد من أن يكونوا عالمين بما أنذروا به فثبت أن الفقيه هو العالم العامل والفقه هو العلم والعمل ألا ترى أنه تعالى ذم أق

واما على الإنذار بدون العمل بقوله أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم

(١/٢٧)

وبقوله كبر مقتا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون وقد حرضهم ههنا عليه فثبت أنه هو الدعوة إلى العلم والعمل جميعا عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال سئل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أي الناس أكرم قال أكرمهم عند اللّه أتقاهم قالوا ليس عن هذا نسألك قال أكرم الناس يوسف ابن نبي اللّه ابن نبي اللّه ابن خليل اللّه قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألونني قالوا نعم قال فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا فقه الرجل بالكسر فقها فهم وفقه فقاهة إذا صار فقيها

قوله وأصحابنا أي أصحاب مذهبنا وهم أبو حنيفة رحمه اللّه وأصحابه هم السابقون أي المتقدمون في هذا الباب أي الفقه ذكر ضمير الفصل ليدل على نوع تخصيص وحصر أي هم المختصون بالسبق فيه لا غيرهم لأنه لم يتقدمهم أحد في تخريج المسائل وتصحيح الأجوبة ولم يبلغ غايتهم في ترتيب الفروع على الأصول وبذل المجهود في تلك ولهم الرتبة العليا أي المنزلة التي لا منزلة فوقها والعليا والقصوى تأنيث الأعلى والأقصى وكان القياس أن تقلب واو القصوى ياء كواو العليا لأنها من الصفات الجارية مجرى الأسماء وواو فعلى تقلب ياء في مثل هذا الموضع إلا أنها جاءت بالواو أيضا في بعض اللغات على سبيل الشذوذ كما جاءت بالياء قال الإمام عبد القاهر وإذا كانت اللام واوا في فعلى فإنها تقلب في الصفات الجارية مجرى الأسماء إلى الياء من غير علة مثل الدنيا والعليا والقصيا وقد قالوا القصوى فجاء على الأصل كما جاء قود واستحوذ وذكر في الكشاف القصوى كالقودى في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا إلا أن استعمال القصوى أكثر كما كثر استعمال استصوب مع مجيء استصاب وأغليت مع غالت الرباني في المتأله العارف باللّه تعالى كذا في الصحاح وفي الكشاف الرباني الشديد التمسك بدين اللّه وطاعته وقيل هو الذي يرب الناس بصغار العلوم قبل كبارها

(١/٢٨)

وقيل هو الذي يرب الناس بعلمه وعمله بعمله وهو منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للتعظيم كاللحياني والنوراني وقد جاء ربى بفتح الراء وكسرها وضمها والقياس هو الفتح والباقي من تغيرات النسب والقدوة من الاقتداء كالأسوة من الايتساء لفظا ومعنى ويقال فلان قدوة أي يقتدى به يعني أنهم كانوا يلازمون طريق الصحابة والتابعين رضي اللّه عنهم في أخذ الأحكام من الكتاب ثم من السنة ثم من الإجماع ثم القياس ويسلكون نهجهم ولا يخترعون من عند أنفسهم ما يخالف طريقتهم في استخراج الأحكام واستنباطها

قوله وهم أصحاب الحديث والمعاني ولما طعن الخصوم في أبي حنيفة وأصحابه رحمهم اللّه أنهم كانوا أصحاب الرأي دون الحديث يعنون به أنهم وضعوا الأحكام باقتضاء آرائهم فإن وافق الحديث رأيهم قبلوه وإلا قدموا رأيهم على الحديث ولم يلتفتوا إليه رد عليهم طعنهم بقوله وهم أصحاب الحديث

وقد حكي أن الشيخ المصنف رحمه اللّه ناظر إمام الحرمين في ألوان تحصيله ببخارى بإشارة أخيه شيخ الأنام صدر الإسلام أبي اليسر وأفحمه فلما تفرقوا قال إمام الحرمين إن المعاني قد تيسرت لأصحاب أبي حنيفة ولكن لا ممارسة لهم بالحديث فبلغ الشيخ فرده في هذا التصنيف وقال وهم أصحاب الحديث والمعاني أما المعاني فقد سلم لهم العلماء أي سلموها لهم إجمالا وتفصيلا أما إجمالا فلأنهم سموهم أصحاب الرأي تعبيرا لهم بذلك وإنما سموهم بذلك لإتقان معرفتهم بالحلال والحرام واستخراجهم المعاني من النصوص لبناء الأحكام ودقة نظرهم فيها وكثرة تفريعهم عليها وقد عجز عن ذلك عامة أهل زمانهم فنسبوا أنفسهم إلى الحديث وأبا حنيفة وأصحابه إلى الرأي والرأي هو نظر القلب يقال رأى رأيا بدل ديد ورأى رؤيا بغير تنوين بخواب ديد ورأى رؤية بجشم ديد وفي المغرب الرأي ما ارتأه الإنسان واعتقده

وأما تفصيلا فما روي عن مالك بن أنس أنه كان يقول اجتمعت مع أبي حنيفة وجلسنا أوقاتا وكلمته في مسائل كثيرة فما رأيت رجلا أفقه منه ولا أغوص منه في معنى وحجة وروي أنه كان ينظر في كتب أبي حنيفة رحمهما اللّه

(١/٢٩)

وتفقه بها وعن حرملة أنه سمع الشافعي رحمه اللّه يقول من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة رحمه اللّه وعن أبي عبيد القاسم بن سلام عن الشافعي أنه قال من أراد الفقه فليلزم أصحاب أبي حنيفة رحمه اللّه واللّه ما صرت فقيها إلا باطلاعي في كتب أبي حنيفة لو لحقته قد لازمت مجلسه وبلغ ابن سريج أن رجلا وقع في أبي حنيفة فدعاه وقال يا هذا أتقع في رجل سلم له جميع الأمة ثلاثة أرباع العلم

وهو لا يسلم لهم الربع قال كيف ذاك فقال العلم قسمان سؤال وجواب وأنه وضع المسائل فسلم له النصف ثم أجاب فيها ووافقوه في النصف أو أكثر فسلم له الربع الآخر وإنما خالفوه في الباقي وهو لا يسلم لهم ذلك فبقي الربع متنازعا فيه بينه وبين الكل

قوله وهم أولى بالحديث أي بأن يكونوا من أصحاب الحديث أيضا تفصيلا وإجمالا أما تفصيلا فلما روي عن حي بن آدم أنه قال إن في الحديث ناسخا ومنسوخا كما في القرآن وكان النعمان جمع حديث أهل بلده كله فنظر إلى آخر ما قبض عليه النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأخذ به فكان فقيها وعن نعيم بن عمرو قال سمعت أبا حنيفة رحمه اللّه يقول عجبا للناس يقولون إني أقول بالرأي وما أفتي إلا بالأثر وعن النضر بن محمد قال ما رأيت أحدا أكثر أخذا للآثار من أبي حنيفة وعن يحيى بن نصر قال سمعت أبا حنيفة يقول عندي صناديق من الحديث ما أخرجت منها إلا اليسير الذي ينتفع به

وعن أحمد بن يونس قال سمعت أبي يقول كان أبو حنيفة شديد الاتباع للأحاديث الصحاح وعن الفضيل بن عياض قال كان أبو حنيفة فقيها معروفا بالفقه مشهورا بالورع واسع المال صبورا على تعليم العلم بالليل والنهار كثير الصمت هاربا من مال السلطان وكان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه وإن كان فيها قول عن الصحابة والتابعين أخذ به وإلا قاس فأحسن القياس وقيل لعبد اللّه بن المبارك المراد من الحديث الذي جاء أصحاب الرأي أعداء السنة أبو حنيفة وأمثاله فقال سبحان اللّه أبو حنيفة يجهد جهده أن يكون عمله على السنة فلا يفارقها في شيء منه فكيف يكون من أعادي السنة إنما هم أهل الأهواء والخصومات الذين يتركون الكتاب والسنة ويتبعون أهواءهم

وأما إجمالا فما ذكر الشيخ في الكتاب والمرسل المطلق وهو في اصطلاح

(١/٣٠)

المحدثين ما يرويه التابعي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يذكر من بينه وبين الرسول كما يفعل ذلك سعيد بن المسيب والنخعي والحسن والمراسيل اسم جمع له كالمناكير للمنكر كذا في المغرب تمسكا بالسنة والحديث السنة أعم من الحديث لأنها تتناول الفعل والقول والحديث مختص بالقول

وقيل إنما جمع بينهما لئلا يتوهم أن ذلك العام قد خص منه فأكده بذكر الحديث والأظهر أنهما مترادفان ههنا ورأوا أي اعتقدوا العمل به أي بالمرسل مع صفة الإرسال أولى من الرأي أي من العمل به كثيرا من السنة فإنهم جمعوا المراسيل فبلغ دفترا قريبا من خمسين جزءا أو أقل أو أكثر وعمل بالفرع وهو القياس بتعطيل الأصل أي ملتبسا به يعني عمل بالقياس معطلا للأصل وهو الحديث ومن شرط صحة العمل بالفرع أن يكون مقررا للأصل لا معطلا له وقدموا رواية المجهول وهو الذي لم يشتهر برواية الحديث ولم يعرف إلا برواية حديث أو حديثين على القياس حتى قدموا رواية معقل بن سنان على القياس في مسألة المفوضة وقدموا قول الصحابي لاحتمال السماع من الرسول على ما يعرف كل واحد مما ذكرنا في موضعه من أقسام السنة وأبواب النسخ وإذا أثبت ما ذكرنا من مذهبهم كيف يظن بهم أنهم كانوا يقدمون الرأي على الحديث الصحيح الثابت المتن ومع ذلك قدموا قول الصحابي ورواية المجهول على القياس فلو زعم أحد أنهم خالفوا الحديث في صورة كذا وكذا فذلك لمعارضة حديث آخر ثابت عندهم يؤيده القياس أو لدلالة آية أو نحو ذلك على ما بين في الكتب الطوال فأما أن يكون الرأي عندهم مقدما على السنة كما ظنه الطاعن فكلا

قوله لا يستقيم الحديث إلا بالرأي أي باستعمال الرأي فيه بأن يدرك معانيه الشرعية التي هي مناط الأحكام ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث أي لا يستقيم العمل بالرأي والأخذ به إلا بانضمام الحديث إليه مثال الأول أنه سئل واحد من أهل الحديث عن صبيين ارتضعا لبن شاة هل ثبتت بينهما حرمة الرضاع فأجاب بأنها ثبتت عملا بقوله عليه السلام كل

(١/٣١)

صبيين اجتمعا على ثدي واحد حرم

أحدهما على الآخر فأخطأ لفوات الرأي

وهو أنه لم يتأمل أن الحكم متعلق بالجزئية والبعضية وذلك إنما يثبت بين الآدميين لا بين الشاة والآدمي وسمعت عن شيخي رحمه اللّه أنه قال كان واحد من أصحاب الحديث يوتر بعد الاستنجاء عملا بقوله عليه السلام من استنجى فليوتر ونظير الثاني أن الرأي يقتضي أن لا تنتقض الطهارة بالقهقهة في الصلاة لأنها ليست بخارجة نجسة كما هي ليست بحدث خارج الصلاة لكن ثبت بحديث الأعرابي أنها حدث فوجب تركه به وكذلك الاستسقاء في الصوم لا يكون ناقضا له بمقتضى الرأي لأنه خارج وليس بداخل والصوم إنما يفسد مما يدخل لكن ثبت بالحديث أنه مفسد للصوم فيترك الرأي به فثبت أن كل واحد لا يستقيم بدون الآخر ولا يتخالجن في وهمك ما وقع في وهم بعض الطلبة أن

قوله لا يستقيم الحديث إلا بالرأي ولا الرأي إلا بالحديث مقتض للدور فيكون باطلا لأن معنى الدور أن يجعل كل واحد منهما في وجوده مفتقرا إلى الآخر كما إذا قيل لا يوجد الخمر إلا بالعنب ولا العنب إلا بالخمر فيبطل وليس الأمر كذلك ههنا لأن الرأي ليس بمفتقر في وجوده إلى الحديث ولا الحديث إلى الرأي ولكن افتقار كل واحد إلى الآخر في أمر آخر هو إثبات الحكم الشرعي في الحادثة كعلة ذات وصفين يفتقر كل وصف إلى الآخر في إثبات الحكم وليس هذا من الدور في شيء

وهو كما يقال لا يصير السكر سكنجبينا إلا بالخل ولا يصير الخل كذلك إلا بالسكر فكان توقف كل واحد منهما على الآخر في صيرورته سكنجبينا لا في وجوده فكذا ههنا فصار معنى الكلام لا يستقيم الحديث إلا بالرأي لإثبات الحكم الشرعي ولا الرأي إلا بالحديث لإثبات الحكم أيضا وليس فيها دور كما ترى يقال استراح فلان بزيد عن عمرو أي طلب راحة نفسه بالاشتغال بزيد والإعراض عن عمرو ومنه الحديث مستريح أو مستراح منه فمن استراح بظاهر الحديث أي اكتفى به وأعرض عن بحث المعاني ونكل عن ترتيب الفروع أي أعرض من نكل عن العدو وعن اليمين إذا جبن لبيان النصوص بمعانيها أي مع معانيها الدالة على الأحكام مثل الخصوص

(١/٣٢)

والعموم والحقيقة والمجاز إلى تمام الأقسام المذكورة وتعريف الأصول بفروعها يعني بين فيه الأصول ثم بنى على كل أصل فروعه مما يليق ذكره فيه على شرط الإيجاز والاختصار قد صنف الشيخ في أصول الفقه كتابا أطول من هذا الكتاب وبسط فيه الكلام بسطا وكان في مطالعة شيخي رحمه اللّه فوعد أن هذا التصنيف أوجز منه وما توفيقي من باب إضافة الصدر إلى المفعول القائم مقام الفاعل فإن التوفيق ههنا مصدر وفق المبني للمفعول لا مصدر وفق أي وما كوني موفقا لإصابة الحق فيما قصدت من تصنيف هذا الكتاب ووقوعه موافقا لرضاء اللّه إلا بمعونته وتأييده والمعنى أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه وطلب منه التأييد في ذلك والتوفيق جعل الشيء موافقا للشيء وتوفيق اللّه تعالى للعبد أن يجعل أفعاله الظاهرة موافقة لأوامره مع بقاء اختياره فيها وأن نيات قلبه موافقة لما يحبه إليه أشير في حصص الأتقياء والتوكل تفويض الأمر إلى اللّه تعالى والاعتماد عليه مع رعاية الأسباب والإنابة الإقبال إليه

وقيل التوبة الرجوع عن المعصية إلى اللّه والأوبة الرجوع عن الطاعة إليه بأن لا يعتمد على طاعته بل على فضله وكرمه والإنابة الرجوع إليه في جميع الأحوال فكانت أعم من الأوليين وفي تقديم عليه وإليه على الفعل أشار إلى التخصيص كما في إياك نعبد أي أخصه بتفويض الأمر إليه والاعتماد عليه وأخصه بالإقبال إليه في جميع الأمور والأحوال

قوله اعلم أن أصول الشرع ثلاثة إلى

قوله من هذه الأصول اعلم كلمة تذكر في ابتداء الكلام تنبيها للسامع على أن ما يلقى إليه من القول كلام يلزم حفظه ويجب ضبطه فيتنبه السامع له ويصغي إليه ويحضر قلبه وفهمه ويقبل عليه بكليته ولا يضيع الكلام فحسن موقعه في مثل هذا الموضع كما حسن موقع واستمع في قوله تعالى واستمع يوم يناد المناد وهو كما يروى عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه قال سبعة أيام لمعاذ رضي اللّه عنه اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك والأصول ههنا الأدلة إذ أصل كل علم ما يستند إليه تحقق ذلك العلم ويرجع فيه إليه ومرجع الأحكام إلى هذه الأدلة والشرع الإظهار في اللغة وهو إما بمعنى الشارع كالعدل والزور بمعنى العادل والزائر فيكون المعنى أدلة الشارع أي الأدلة التي نصبها الشارع على المشروعات أربعة ويكون

(١/٣٣)

اللام للعهد والمقصود من الإضافة تعظيم المضاف كقولك بيت اللّه وناقة اللّه أو بمعنى المشروع كالضرب بمعنى المضروب والخلق بمعنى المخلوق فيكون المعنى أدلة المشروع أي الأدلة التي تثبت المشروعات أربعة ويكون اللام للجنس والمقصود من الإضافة تعظيم المضاف إليه كقولك أستاذي فلان وكقولنا اللّه إلهنا ومحمد نبينا أي المشروعات التي تثبت بمثل هذه الأدلة معظمة يلزم رعايتها ويجب تلقيها بالقبول

ثم المشروع يتناول العلل والأسباب والشروط كما يتناول الأحكام فإن كان المراد منه الجميع ومن المعلوم أن القياس لا مدخل له في إثبات ما سوى الأحكام فالمعنى مجموع الأدلة التي تثبت بها المشروعات أربعة من غير نظر إلى أن كل واحد يثبت الجميع أو البعض وإن كان المراد منه الأحكام لا غير وهو الظاهر فالمعنى الأدلة التي تثبت بكل واحد منها الأحكام أربعة أو هو اسم لهذا الدين المشتمل على الأصول والفروع وغيرهما كالشريعة يقال شرع محمد كما يقال شريعته وكأنه إنما عدل عن لفظ الفقه إلى لفظ الشرع مخالفا لسائر الأصوليين لأن الإضافة تفيد الاختصاص وهذه الأدلة سوى القياس لا تختص بالفقه بل هي حجة فيما سواه من أصول الدين ولفظة الشرع أعم ويطلق على أصول الدين كإطلاقه على فروعه قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية فيكون إضافة الأصول إلى الشرع أعم فائدة وأكثر تعظيما للأصول ثم قدم الكتاب على الجميع لأنه في الشرع أصل مطلق من كل وجه وبكل اعتبار وأعقبه بالسنة لأن كونها حجة ثابت بالكتاب كما ستعرف وأخر الإجماع عنهما لتوقف موجبيته عليهما ولكن الثلاثة مع تفاوت درجاتها حجج موجبة للأحكام قطعا ولا تتوقف في إثبات الأحكام على شيء فقدمت على القياس الذي يتوقف في إثبات الحكم على المقيس عليه ولهذا أفرده بالذكر بقوله والأصل الرابع لأنه لما توقف في إثبات الحكم على المقيس عليه ولم يمكن إثبات الحكم به ابتداء كان فرعا له

وإلى هذه الفرعية أشار بقوله المستنبط من هذه الأصول وإن كان فيه احتراز عن القياس العقلي أيضا ولما لم يكن الحكم ثابتا في محل القياس بدونه كان أصلا للحكم وإليه أشار بقوله والأصل الرابع فلما كان أصلا من وجه دون وجه لا يدخل تحت المطلق لأنه يتناول الكامل الذي هو موجود من كل وجه أو أفرده بالذكر لأنه ظني في الأصل وقطعيته بعارض وما سواه من الأصول على العكس من ذلك وبعد كونه ظنيا أثره في تغيير وصف الحكم من الخصوص إلى العموم لا في إثبات أصله وأثر ما سواه من الأصول في إثبات أصل الحكم فلهذا وجب تمييزه عنها والاستنباط استخراج الماء من العين يقال نبط الماء من العين إذا خرج

(١/٣٤)

والنبط الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر وسمي النبط بهذا الاسم لاستخراجهم مياه القنى فاستعير لما يستخرجه الرجل بفرط ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم فكان في العدول عن لفظ الاستخراج إلى لفظ الاستنباط إشارة إلى الكلفة في استخراج المعنى من النصوص التي بها عظمت أقدار العلماء وارتفعت درجاتهم فإنه لولا المشقة ساد الناس كلهم وإلى أن حياة الروح والدين بالعلم والغوص في بحاره كما أن حياة الجسد والأرض بالماء قال تعالى فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها فأحيينا به بلدة ميتا

وقال جل ذكره أومن كان ميتا فأحييناه أي كافرا فهديناه وإليه وقعت الإشارة النبوية في

قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم الناس كلهم موتى إلا العالمون الحديث ثم مثال الاستنباط من الكتاب انتقاض الطهارة في الخارج من غير السبيلين بكونه خارجا نجسا قياسا على الخارج من السبيلين الثابت حكمه بقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط ومن السنة جريان الربا في الجص والنورة والحديد والصفر بالقدر والجنس قياسا على الأشياء الستة المنصوص عليها في

قوله عليه السلام الحنطة بالحنطة مثل بمثل الحديث ومن الإجماع سقوط تقوم منافع المغصوب بعلة أنها ليست بمحرزة قياسا على سقوط تقوم منافع البدل في ولد المغرور الثابت بالإجماع لأنهم لما أوجبوا قيمة الولد وسكتوا عن تقوم منافع البدن صار إجماعا منهم على سقوط تقومها لأن السكوت في موضع الحاجة إلى البيان بيان قد قيل في وجه انحصار الأصول على الأربعة أن الحكم إما أن يثبت بالوحي أو بغيره والأول إما أن يكون متلوا وهو الذي تعلق بنظمه الإعجاز وجواز الصلاة وحرمة القراءة على الحائض والجنب أو لم يكن والأول هو الكتاب

والثاني هو السنة وإن ثبت بغيره فإما أن يثبت بالرأي الصحيح أو بغيره والأول إن كان رأي الجميع فهو الإجماع وإن لم يكن فهو القياس

والثاني الاستدلالات الفاسدة

وأفعال النبي داخلة فيها وبعض أصحاب الشافعي حصرها بوجه آخر فقال الدليل الشرعي إما أن يكون واردا من جهة الرسول أو لم يكن والأول إن كان متلوا فهو الكتاب وإن لم يكن فهو السنة ويدخل فيها أقوال النبي وأفعاله

والثاني إن شرط فيه عصمة من صدر منه فهو الإجماع وإن لم يشترط فهو القياس ولكن الأولى أن يضاف ذلك إلى الاستقراء الصحيح لأن الدلائل الموجبة للأصالة لم تقم إلا على هذه الأربعة لأن العقل يوجب حصرها على الأربعة

(١/٣٥)

قوله

أما الكتاب فالقرآن اعلم أن الحد ونعني به المعرف للشيء لفظي ورسمي وحقيقي فاللفظي هو ما أنبأ عن الشيء بلفظ أظهر عند السائل من اللفظ المسئول عنه مرادف له كقولنا العقار الخمر والغضنفر الأسد لمن يكون الخمر والأسد أظهر عنده من العقار والغضنفر والرسمي هو ما أنبأ عن الشيء بلازم له مختص به كقولك الإنسان ضاحك منتصب القامة عريض الأظفار بادي البشرة والحقيقي ما أنبأ عن ماهية تمام الشيء وحقيقته كقولك في جسد الإنسان هو جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق فالأولان مؤنتها خفيفة إذ المطلوب منهما تبديل لفظ بلفظ أو ذكر وصف يتميز به المحدود عن غيره

وأما الحقيقي فمن شرائطه أن يذكر جميع أجزاء الحد من الجنس والفصول وأن يذكر جميع ذاتياته بحيث لا يشذ واحد وأن يقدم الأعم على الأخص وأن لا يذكر الجنس البعيد مع وجود الجنس القريب وأن يحترز عن الألفاظ الوحشية الغريبة والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة وأن يجتهد في الإيجاز فإن أتى بلفظ مستعار أو مشترك وعرف مراده بالتصريح أو بالقرينة فلا يستعظم ذلك إن كان قد كشف عن الحقيقة بذكر جميع الذاتيات إذ هو المقصود وغيره تزيينات وتحسينات فلا يبالي بتركها لكن من شرط الجميع الاطراد

وهو أنه متى وجد الحد وجد المحدود والانعكاس وهو أنه إذا عدم الحد عدم المحدود لأنه لو لم يكن مطردا لما كان مانعا لكونه أعم من المحدود ولو لم يكن منعكسا لما كان جامعا لكونه أخص من المحدود وعلى التقديرين لا يحصل التعريف إذا عرف هذا فنقول ما ذكر الشيخ رحمه اللّه تعالى ليس بحد حقيقي سواء أراد به تعريف مجموع الكتاب من حيث هو مجموع أو تعريف ما يطلق عليه لفظ الكتاب في الشرع حقيقة أو مجازا حتى دخل فيه الكل والبعض لأنه تعرض فيه للكتابة في المصحف والنقل وهما من العوارض ألا ترى

(١/٣٦)

أنه في زمن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان قرآنا بدون هذين الوصفين ولم يتعرض للإعجاز وهو معنى ذاتي لهذا الكتاب المحدود ثم قيل هو حد رسمي وأحسن الحدود الرسمية ما وضع فيه الجنس الأقرب وأتم باللوازم المشهورة فلا جرم قال فالقرآن وهو مصدر كالقراءة قال اللّه تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه أي قراءته وأنه بمعنى المقروء ههنا فيتناول جميع ما يقرأ من الكتب السماوية وغيرها فاحترز بقوله المنزل عن غير الكتب السماوية وعن الوحي الذي ليس بمتلو لأن المراد من المنزل ما أنزل نظمه ومعناه والوحي الذي ليس بمتلو لم ينزل إلا معناه وبقوله على رسول اللّه عما أنزل على غيره من الأنبياء عليهم السلام من التوراة والإنجيل والزبور أو نحوها

وبقوله المكتوب في المصاحف عما نسخت تلاوته وبقيت أحكامه مثل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من اللّه وبقوله المنقول عنه نقلا متواترا عما اختص بمثل مصحف أبي وغيره مما نقل بطريق الآحاد نحو

قوله فعدة من أيام أخر متتابعات وبقوله بلا شبهة عما اختص بمثل مصحف ابن مسعود رضي اللّه عنه مما نقل بطريق الشهرة وهذا على قول الجصاص ظاهر فإنه جعل المشهور أحد قسمي المتواتر وعلى قول غيره يكون

قوله نقلا متواترا احترازا عنهما

وقوله بلا شبهة تأكيدا وهذا الموضع صالح للتأكيد لقوة شبه المشهور بالمتواتر فعلى هذا القول يكون هذا تعريف الكتاب بالمعنى الثاني فيدخل فيه الكل والبعض وإنما لم يتعرض للإعجاز لأنه يدل على صدق الرسول لا على كونه كتاب اللّه تعالى إذ يتصور الإعجاز بما ليس بكلام اللّه تعالى إليه أشير في التقويم ولأن بعض الآية ليس بمعجز وهو من الكتاب كذا قيل ولأن أصالته للأحكام وكونه حجة فيه لا يتعلق بصفة الإعجاز وإنما يتعلق بما ذكر من الأوصاف وقيل هو حد لفظي لأن القرآن اسم علم للمنزل على الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم من الوحي المتلو كالتوراة اسم للمنزل على موسى والإنجيل اسم للمنزل على عيسى عليهما السلام قال اللّه تعالى إنا أنزلناه قرآنا عربيا والدليل عليه ما ذكر في الميزان أما الكتاب فهو المسمى بالقرآن وأنه

وإن أطلق على المعنى القائم بذات اللّه تعالى بالاشتراك

(١/٣٧)

أو بطريق المجاز وهو المراد من قولنا القرآن غير مخلوق لكنه من هذا الإطلاق أوضح من لفظ الكتاب لأنه لا يطلق إلا على هذين المعنيين بخلاف الكتاب فلهذا فسره به ثم قيده بالمنزل على رسول اللّه احترازا عن المعنى القائم بالذات وبالمكتوب احترازا عن المنسوخ تلاوته لا عن الوحي الغير المتلو كما ظنه البعض لأنه بداخل ليجب الاحتراز عنه والباقي على ما فسرنا فعلى هذا الطريق المنزل على الرسول قيد واحد بخلاف الطريق الأول ويكون هذا تعريفا للكتاب بالمعنى الأول فلا يدخل فيه البعض لأنه ليس القرآن حقيقة وعلى قول من جعل اسم القرآن حقيقة للبعض كما هو حقيقة للكل أن يكون هذا تعريفا لفظيا للكتاب بالمعنى الثاني إن كان للمشترك عموم عنده قال ابن الحاجب هذا تحديد للشيء بما يتوقف تصوره على ذلك الشيء لأن الوجود الذهني للمصحف فرع تصور القرآن فيكون دور أو هو باطل قلت ليس الأمر كما زعم لأن الأصحاف لغة جمع الصحائف في شيء لا جمع صحائف القرآن لا غير يقال أصحف أي جمعت فيه الصحف كذا في الصحاح والمصحف حقيقته مجمع الصحف وعلى هذا لا يتوقف معرفته على تصور القرآن فإن معرفته كانت ثابتة لهم قبل كتابة القرآن في المصحف بل قبل إنزال القرآن ولكون معناه معلوما سموه مصحفا لأنه كان متفرقا في صحائف أولا فجمعوه بين الدفتين وسموه به ويجوز أن يسمى غيره بهذا الاسم إذا وجد هذا المعنى وإني قد رأيت دفاتر من الجامع الصحيح للبخاري مكتوبا عليها المصحف الأول المصحف الثاني فعلى هذا يكون

قوله المكتوب في المصاحف احترازا عما لم يكتب من القرآن أصلا إن جاز الاحتراز عنه مثل ما ارتفع بالنسيان قبل الكتابة فإنه روي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة والأولى أن يحمل المصحف على المعهود وأن يمنع لزوم الدور على هذا الحد فإنه تعريف للكتاب وتوقف وجود المصحف في الذهن على تصور القرآن لا يمنع صحته لأن القرآن معلوم عند السامع متصور في ذهنه

وإن لم يكن الكتاب معلوما له ولو لم يكن القرآن معلوما له لما صح جعل القرآن مطلع الحد وإنما يلزم الدور المذكور على تعريف القرآن بمثل هذا الحد كما نقل عن بعض الأصوليين أنه قال القرآن ما نقل إلينا بين دفات المصاحف مع أنه يمكنه التخلص عنه

(١/٣٨)

أيضا بأن يقول المراد من المصاحف ما جمعته الصحابة من الوحي المتلو في المصحف فيندفع الدور

فإن قيل يلزم على اطراد هذا الحد التسمية سوى التي في سورة النمل فإنها دخلت تحت الحد وليست بقرآن ولم يتعلق بها جواز الصلاة ولا حرمة القراءة على الحائض والجنب ومن أنكرها لا يكفر وانتفاء اللوازم يدل على انتفاء الملزوم قلنا الصحيح من المذهب أنها من القرآن ولكنها ليست من كل سورة عندنا بل هي آية منزلة للفصل بين السور كذا ذكر أبو بكر الرازي ومثله روي عن محمد رحمة اللّه عليه أيضا ولهذا قال علماؤنا رحمهم اللّه في المصلي يتعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ثم يفتتح القراءة ويخفي بسم اللّه الرحمن الرحيم ففصلوها عن الثناء ووصلوها بالقراءة وذلك يدل على أنها عندهم من القرآن والأمر بالإخفاء يدل على أنها ليست من الفاتحة وإنها تقرأ تبركا كالقراءة في الأخريين والدليل على أنها من القرآن أنها كتبت مع القرآن بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقد قال ابن عباس رضي اللّه عنهما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل عليه السلام بسم اللّه الرحمن الرحيم في أول كل سورة وكذا انتقلت إلينا بين دفات المصاحف مع أنهم كانوا يبالغون في حفظ القرآن حتى كانوا يمنعون من كتابة أسامي السور مع القرآن ومن التعشير والنقط كي لا يختلط بالقرآن غيره فلو أبدع لاستحال في العادة سكوت أهل الدين عنه مع تصلبهم في الدين لا سيما ورأس السور يكتب بخط يتميز عن القرآن بالحمرة أو الصفرة عادة والتسمية تكتب بخط القرآن بحيث لا تتميز عنه فيحيل العادة السكوت على من يبدعها لولا أنه بأمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولكن النقل المتواتر لما لم يثبت أنها من السورة لم يثبت ذلك وقد اختلف الفقهاء وأئمة القراءة في كونها من السورة وأدنى أحوال الاختلاف المعتبر إيراث الشبه فلهذا لا يثبت كونها من كل سورة وحديث القسمة وهو معروف دليل ظاهر على ما قلناه وإنما لم يكفر من أنكر كونها من القرآن لأنه زعم أنها أنزلت وكتبت للتيمن بها كما تكتب على صدور الكتب وتذكر عند كل أمر ذي خطر لا لكونها من القرآن والتمسك بمثله يمنع الإكفار

وأما عدم جواز الصلاة فقد ذكر التمرتاشي في شرح الجامع الصغير أنه لو اكتفى بها يجوز الصلاة عند أبي حنيفة رحمه اللّه ولكن الصحيح أنها لا تجوز لأن في كونها آية تامة شبهة إذ الصحيح من مذهب الشافعي رحمه اللّه أنها مع ما بعدها إلى

(١/٣٩)

رأس الآية آية تامة فأورث ذلك شبهة في كونها آية فلا يتأدى بها الفرض المقطوع به

وأما جواز قراءتها للحائض والجنب فذلك عند قصد التيمن كما جاز لهما قراءة الحمد للّه رب العالمين على قصد الشكر فأما عند قصد قراءة القرآن فلا لأن من ضرورة كونها آية من القرآن حرمة قراءتها عليهما

قوله وهو النظم والمعنى جميعا إلى

قوله على ما يعرف في موضعه أي المبسوط أراد بالنظم العبارات وبالمعنى مدلولاتها ثم في العدول عن ذكر اللفظ الذي معناه الرمي يقال لفظ النوى أي رماه ولفظت الرحى بالدقيق أي رمت به إلى ذكر النظم الذي يدل على حسن الترتيب في أنفس الجواهر رعاية للأدب وتعظيم لعبارات القرآن وفي تعريف الخاص وغيره ذكر اللفظ لأن ذلك تعريف له من حيث هو خاص لا من حيث إنه خاص القرآن فلا يجب فيه رعاية الأدب والمراد من عامة العلماء جمهورهم ومعظمهم ومنهم من اعتقد أنه اسم للمعنى دون النظم وزعم أن ذلك مذهب أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى بدليل جواز القراءة بالفارسية عنده في الصلاة بغير عذر مع أن قراءة القرآن فيها فرض مقطوع به فرد الشيخ رحمه اللّه ذلك وأشار إلى فساده بقوله وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة عندنا أي المختار عندي أن مذهبه مثل مذهب العامة في أنه اسم للنظم والمعنى جميعا

وأجاب عما استدل به الزاعم بقوله إلا أنه أي لكن أبا حنيفة لم يجعل النظم ركنا لازما لأنه قال مبنى النظم على التوسعة لأنه غير مقصود خصوصا في حالة الصلاة إذ هي حالة المناجاة وكذا مبنى فرضية القراءة في الصلاة على التيسير قال تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن ولهذا تسقط عن المقتدي بتحمل الإمام عندنا وبخوف فوت الركعة عند مخالفنا بخلاف سائر الأركان فيجوز أن يكتفى فيه بالركن الأصلي وهو المعنى يوضحه أنه نزل أولا بلغة قريش لأنها أفصح اللغات فلما تعسر تلاوته بتلك اللغة على سائر العرب نزل التخفيف بسؤال الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأذن في تلاوته بسائر لغات العرب وسقط وجوب رعاية تلك اللغة أصلا واتسع الأمر حتى جاز لكل فريق منهم أن يقرءوا بلغتهم ولغة غيرهم وإليه أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف فلما جاز للعربي ترك لغته إلى لغة غيره من العرب حتى جاز للقرشي أن يقرأ بلغة تيم مثلا مع كمال قدرته على لغة

(١/٤٠)

نفسه جاز لغير العربي أيضا ترك لغة العرب مع قصور قدرته عنها والاكتفاء بالمعنى الذي هو المقصود فصار الحاصل أن سقوط لزوم النظم عنده رخصة إسقاط كمسح الخف والسلم وسقوط شطر صلاة المسافر حتى لم يبق اللزوم أصلا فاستوى فيه حال العجز والقدرة

وفي

قوله خاصة تنصيص على أن فيما سواه من الأحكام من وجوب الاعتقاد حتى يكفر كون من أنكر النظم منزلا وحرمة كتابة المصحف بالفارسية وحرمة المداومة والاعتياد على القراءة بالفارسية النظم لازم كالمعنى ولا يلزم عليه وجوب سجدة التلاوة بالقراءة بالفارسية وحرمة مس مصحف كتب بالفارسية على غير المتطهر وحرمة قراءة القرآن بالفارسية على الجنب والحائض على اختيار بعض المشايخ منهم شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه لأنه لم يرو عن المتقدمين من أصحابنا فيها رواية منصوصة وما ذكرنا جواب المتأخرين فالشيخ رحمه اللّه بنى على أصلهم لا على مختار المتأخرين وإنما بنوه على أن النظم إن فات فالمعنى الذي هو المقصود قائم فيثبت هذه الأحكام احتياطا لا على أن النظم ليس بلازم للقرآن والدليل عليه أنهم لم يذكروا فيها اختلافا بين أصحابنا ولو لم يكن طريق ثبوت هذه الأحكام ما ذكرنا لم يستقم هذا الجواب على قولهما لأن النظم عندهما كالمعنى ويؤيد ما ذكر الإمام المحبوبي في شرح الجامع الصغير جواز الصلاة حكم يختص بقراءة القرآن فيتعلق بالمنزل على الرسول صلى اللّه عليه وسلم قياسا على قراءة القرآن في حق الجنب والحائض يعني حرمة التلاوة تتعلق بالنظم والمعنى حتى لو قرأ الجنب أو الحائض بالفارسية جاز

وأجيب أيضا عن سجدة التلاوة بأنها ملحقة بالصلاة لأن السجدة من أركان الصلاة وبينها وبين سجدة التلاوة مشاركة في المعنى وهو مطلق السجود فيجوز أن تلحق بالصلاة بواسطتها وركنية النظم قد سقطت في الصلاة فتسقط فيما ألحق بها وعن المسألتين بأن المكتوب أو المقروء بالفارسية كلام اللّه تعالى وإن لم يكن قرآنا فيحرم مسه لغير المتطهر وقراءته للحائض والجنب كالتوراة والإنجيل والأول أحسن وأشمل ثم الخلاف فيمن لا يتهم بشيء من البدع وقد تكلم بالفارسية في الصلاة بكلمة أو أكثر غير مؤولة ولا محتملة للمعاني وزاد بعضهم ولم يختل نظم القرآن زيادة اختلال بأن قرأ مكان قوله تعالى معيشة ضنكا معيشة تنكا أو مكان جزاء بما كسبا سزاء أما لو قرأ تفسير القرآن فلا يجوز بالاتفاق وعن الإمام أبي

(١/٤١)

بكر محمد بن الفضل أن الخلاف فيما إذا جرى على لسانه من غير قصد أما من تعمد ذلك فيكون مجنونا أو زنديقا والمجنون يداوى والزنديق يقتل

وقيل الخلاف في الفارسية لأنها قربت من العربية في الفصاحة فأما القراءة بغيرها فلا يجوز بالاتفاق وقد صح رجوعه إلى قول العامة ورواه نوح بن أبي مريم عنه ذكره المصنف في شرح المبسوط وهو اختيار القاضي الإمام أبي زيد وعامة المحققين وعليه الفتوى

قوله وجعل المعنى ركنا لازما إلى

قوله يعرف في موضعه أي جعل أبو حنيفة رحمه اللّه المعنى لازما في حالة القدرة لا في حالة العجز والنظم ركنا قابلا للسقوط رخصة في جميع الأحوال كما جعل التصديق في الإيمان لازما في جميع الأحوال والإقرار ركنا زائدا يحتمل السقوط عند العذر فالحاصل أن المقصود إظهار التفاوت بين الركنين في إحدى الحالتين في الصورتين لأنه لا يمكن إظهار التفاوت بينهما في الحالة الأخرى فيهما لأن النظم والمعنى لا يفترقان في السقوط حالة العجز بالاتفاق كما لا يفترق التصديق والإقرار في اللزوم حالة الاختيار فلهذا وجب إظهار التفاوت بين النظم والمعنى حالة القدرة كما وجب في الإقرار والتصديق حالة الاضطرار ثم الغرض من إعادة

قوله والنظم ركنا يحتمل السقوط بعدما ذكر أنه لم يجعل النظم ركنا لازما تحقيق كونه زائدا بإتمام تشبيه الركنين بالركنين كما ذكرنا وتسمية الإقرار ركنا مذهب الفقهاء فأما عند المتكلمين فهو شرط إجراء الأحكام على ما يعرف في موضعه من هذا الكتاب ولا يستبعد تسمية النظم ركنا مع جواز تركه حالة القدرة كما لا يستبعد تسمية ما هو زائد على أصل الفرض في أركان الصلاة ركنا بعدما صار موجودا مع جواز تركه في الابتداء

فإن قيل لما جاز الاكتفاء بالمعنى عنده في الصلاة من غير عذر لا بد من أن يكون ذلك قرآنا إذ لا جواز للصلاة بدون القرآن بالإجماع وحينئذ لا يكون الحد المذكور متناولا له لعدم إمكان كتابة المعنى المجرد في المصحف ونقله بالتواتر وما تعلق المعنى به من العبارة الفارسية مثلا ليس بمكتوب في المصحف ولا منقول بالتواتر أيضا فلا يكون الحد جامعا أو لا يكون المعنى بدون النظم قرآنا فينبغي أن لا يجوز الصلاة قلنا إنما جاز الاكتفاء عنده بالمعنى إما لقيام المعنى المجرد في حالة الصلاة قيام النظم والمعنى أو لقيام العبارة الفارسية الدالة على معنى القرآن مقام النظم المنقول كما قال أبو يوسف ومحمد

(١/٤٢)

في حالة العذر فيكون النظم المكتوب المنقول موجودا تقديرا وحكما فيدخل تحت الحد ويكون الحد جامعا ويفسر

قوله المكتوب في المصاحف المنقول عنه نقلا متواترا بالكتابة والنقل حقيقة أو تقديرا أو نقول هو يسلم أن المعنى بدون النظم ليس بقرآن ولكنه لا يسلم أن جواز الصلاة متعلق بقراءة القرآن المحدود بل هو متعلق بمعناه ويحمل قوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن على أن المراد وجوب رعاية المعنى دون النظم لدليل لاح له فلا يرد الإشكال

قوله وإنما يعرف أحكام الشرع أي لا يعرف أحكام الشرع الثابتة بالقرآن أو أحكام شريعة محمد الثابتة بالقرآن إلا بمعرفة أقسام النظم والمعنى فيجب معرفة الأقسام لتحصل معرفة الأحكام وذلك أي المذكور وهو أقسام النظم والمعنى فيما يرجع إلى معرفة أحكام الشرع احترازا عما لم يتعلق به معرفة الأحكام من القصص والأمثال والحكم وغيرها إذ هو بحر عميق لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه ولا يقال ليس شيء من القرآن مما لا يتعلق به حكم من أحكام الشرع فإن وجوب اعتقاد الحقية وجواز الصلاة وحرمة القراءة على الجنب والحائض من أحكام الشرع وهي متعلقة بجميع عبارات القرآن فكيف يصح هذا الاحتراز لأنا نقول هذه الأحكام وإن تعلقت بالجميع لكنه لم يثبت معرفتها بالجميع بل تثبت ببعض النصوص من الكتاب أو السنة فيصح هذا الاحتراز

قوله الأول في وجوه النظم وجه الشيء طريقه يقال ما وجه هذا الأمر أي ما طريقه

وقدم النظم لأن التصرف في اللفظ الموضوع للمعنى مقدم على التصرف في المعنى طبعا فيقدم وضعا وكذا قدم المفرد على المركب لهذا صيغة ولغة قيل لكل لفظ معنى لغوي وهو ما يفهم من مادة تركيبه ومعنى صيغي وهو ما يفهم من هيئته أي حركاته وسكناته وترتيب حروفه لأن الصيغة اسم من الصوغ الذي يدل على التصرف في الهيئة لا في المادة فالمفهوم من حروف ضرب استعمال آلة التأديب في محل قابل له ومن هيئته وقوع ذلك الفعل في الزمان الماضي وتوحد المسند إليه وتذكيره وغير ذلك ولهذا يختلف كل معنى باختلاف ما يدل عليه كفتح ويضرب إلا أن في بعض الألفاظ يختص الهيئة بمادة فلا تدل على المعنى في غير تلك المادة كما في رجل مثلا فإن المفهوم من حروفه ذكر من بني آدم جاوز حد البلوغ ومن هيئته كونه مكبرا غير مصغر وواحد غير جمع وغير ذلك ولا تدل هذه الهيئة في أسد ونمر على شيء وفي بعضها

(١/٤٣)

كلاهما يدل على معنى واحد وهي الحروف ثم فيما نحن فيه دلالة اللغة والصيغة في الخاص دلالة حروف أسد مثلا على الهيكل المعروف ودلالة هيئته على توحده وكونه مكبرا وغير ذلك ولا يخرج الخاص عن الخصوص بالتعرض لمثل هذه العوارض فافهم وفي العام دلالة حروف أسد على ذلك ودلالة هيئته على تكثره وعمومه وفي المشترك دلالة حروف القرء على الحيض أو الطهر ودلالة الهيئة على التوحد ولكن الظاهر أنهما ترادف والمقصود تقسيم النظم باعتبار معناه في نفس الأمر لا باعتبار المتكلم والسامع فالشيخ أجل قدرا من أن يلتفت إلى مثل هذه التكلفات التي لا تليق بهذا الفن القسم الأول في تقسيم النظم نفسه بحسب توحد معناه وتعدده

والثاني في تقسيمه بعد التركيب بحسب ظهور المعنى للسامع وخفائه عليه لأن المراد من البيان ههنا إظهار المعنى أو ظهوره للسامع وذلك إنما يكون بعد التركيب وهو المراد من

قوله البيان بذلك النظم والثالث في تقسيم النظم بحسب استعمال المتكلم لأن اللفظ بسبب الاستعمال يتصف بكونه حقيقة أو مجازا لا بالوضع وأشار إلى جانب المتكلم بقوله في استعمال ذلك النظم وإلى جانب اللفظ واتصافه بالحقيقة والمجاز بقوله وجريانه في باب البيان والرابع في وجوه الوقوف أي وقوف السامع على مراد المتكلم ومعاني الكلام وقيل الأقسام الثلاثة أقسام النظم وهذا قسم المعنى بدليل أن الشيخ ذكر النظم في الأقسام الثلاثة فقال في وجوه النظم في وجوه البيان بذلك النظم في استعمال ذلك النظم وذكر المعاني في هذا القسم وكون الدلالة والاقتضاء من أقسام المعنى ظاهر وكذا كون العبارة والإشارة لأن العبارة وإن كانت نظما إلا أن نظر المستدل إلى المعنى دون النظم إذ الحكم إنما يثبت بالمعنى دون النظم نفسه فإن إباحة قتل المشركين مثلا ثبت بالمعنى الثابت بقوله تعالى فاقتلوا المشركين لا بعين النظم إلا أن المعنى لما كان مفهوما من النظم والعبارة سمي الاستدلال به استدلالا بالعبارة ولكنه في الحقيقة استدلال بالمعنى الثابت بالعبارة فصلح أن يكون من أقسام المعنى بهذا الطريق

ويجوز أن يكون جميع الأقسام للنظم والمعنى جميعا على أن يكون بعض الأقسام للنظم وبعضها للمعنى من غير أن يعين القسم الرابع له فيكون الدلالة والاقتضاء راجعين إلى المعنى والباقي أقسام النظم ويحتمل أن يكون النظم والمعنى داخلين في كل قسم إذ هو في بيان أقسام القرآن الذي هو النظم والمعنى جميعا فكان الخاص اسما للنظم باعتبار معناه وكذا العام وسائر الأقسام وعلى هذا الوجه يمكن أن يجعل الدلالة والاقتضاء من

(١/٤٤)

أقسام النظم والمعنى أيضا لأن المعنى فيهما لا يفهم بدون اللفظ أيضا وهذه الأوجه كلها لا يخلو عن تكلف واللّه أعلم بحقيقة مراد المصنف ثم إن الشيخ جعل معرفة وجوه الوقوف على المعاني من جملة أقسام الكتاب وفيه تساهل وتسامح لأن المعاني هي التي دخلت في أقسام الكتاب دون معرفة وجوه الوقوف عليها ولكن لما لم تعد المعاني بدون الوقوف عليها جعل معرفة وجوه الوقوف عليها من أقسام الكتاب تسامحا ثم ثبت بما ذكرنا من الأقسام الثلاثة أن للكلام معنى بحسب الوضع ومعنى بحسب التركيب وتقررا على المعنى الوضعي أو تجاوزا عنه بحسب إرادة المتكلم واستعماله فإذا قلت زيد منطلق مثلا فلكل واحد منهما معنى بحسب الوضع ولهما جميعا معنى بحسب التركيب وهو إسناد الانطلاق إلى زيد وكل واحد منهما حقيقة بحسب إرادة المتكلم وتقريره إياهما في موضوعهما فبقوله المراد أشار إلى هذا القسم وبقوله والمعاني إلى القسمين الأولين الوسع والإمكان

مترادفان ههنا أي على قدر طاقة العبد وإصابة التوفيق من اللّه تعالى وإليه أشار

قوله جل جلاله أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها قيل الماء القرآن نزل لحياة الجنان كالماء للأبدان والأودية القلوب يختلف في ضيقها وسعتها وأصلها وصفتها فيقر فيها بقدر إقرارها واليقين وتوفيق ربها والتلقين ما هو أصفى من الماء المعين ومنه قيل جميع العلم في القرآن لكن تقاصر عنه أفهام الرجال وإنما يتحقق قد تتأكد معرفة الشيء بذكر مقابله وتستفيد به زيادة وضوح وإن كانت ثابتة في نفسها ولهذا قيل وبضدها تتبين الأشياء ثم في هذا القسم لما لم يخالف بعضه بعضا لأن الكل ظهور ولكن بعضه أعلى من بعض بخلاف غيره إذ الخاص يخالف العام والحقيقة تخالف المجاز اختصه بذكر ما يقابله في قسم آخر على حدة دون غيره واعلم أنه ذكر في عامة الشروح في انحصار هذه الأقسام وجوه وأحسنها ما أذكره وهو أن المفهوم من النظم لا يخلو من أن يكون راجعا إلى نفس النظم فقط أو إلى غيره فالأول هو القسم الأول

والثاني لا يخلو من أن يكون راجعا إلى تصرف المتكلم أو إلى غيره فالأول أن يكون تصرفه تصرف بيان أي إلقاء معنى إلى السامع وهو القسم الثاني أو غير ذلك وهو القسم الثالث

والثاني هو القسم الرابع ثم القسم الأول وهو نفس النظم لا يخلو من أن يدل على مدلول واحد وهو الخاص أو أكثر بطريق الشمول وهو العام أو بطريق البدل من غير ترجح البعض على الباقي وهو المشترك أو مع ترجحه وهو المؤول

ولا يفيد الترجح بالدليل الظني احترازا عن المفسر كما قيده البعض فقال من

(١/٤٥)

غير ترجح البعض بدليل ظني وهو المشترك أو مع ترجحه به وهو المؤول لأنه يبقى حينئذ داخلا في قسم المشترك بل الأولى ترك التقييد ومنع الترجح في المفسر لأنه إنما يثبت فيما يبقى فيه احتمال غيره وفي المفسر بطل جانب المرجوح بالكلية حتى صار كالخاص بل أقوى فلا يدخل فيما نحن فيه والقسم الثاني وهو أن يكون راجعا إلى بيان المتكلم لا يخلو من أن يكون ظاهر المراد للسامع أو لم يكن والأول إن لم يكن مقرونا بقصد المتكلم فهو ظاهر وإن كان مقرونا به فإن احتمل التخصيص والتأويل فهو النص وإلا فإن قبل النسخ فهو المفسر وإن لم يقبل فهو المحكم وإن لم يكن ظاهر المراد فإما إن كان عدم ظهوره لغير الصيغة أو لنفسها والأول هو الخفي

والثاني فإن أمكن دركه بالتأمل فهو المشكل وإلا فإن كان البيان مرجوا فيه فهو المجمل وإن لم يكن مرجوا فهو المتشابه والقسم الثالث وهو أن يكون راجعا إلى الاستعمال لا يخلو من أن يكون اللفظ مستعملا في موضوعه وهو الحقيقة أو لا وهو المجاز وكل واحد منهما إن كان ظاهر المراد بسبب الاستعمال فهو الصريح وإلا فهو الكناية والقسم الرابع وهو قسم الاستثمار لا يخلو من أن يستدل في إثبات الحكم بالنظم أو غيره والأول إن كان مسوقا له فهو العبارة وإن لم يكن فهو الإشارة

والثاني إن كان مفهوما لغة فهو الدلالة وإن كان مفهوما شرعا فهو الاقتضاء وإن لم يكن مفهوما لغة ولا شرعا فهي التمسكات الفاسدة ولكن الأولى أن نضرب عن مثل هذه التكلفات صفحا لأن بعض هذه الانحصارات غير تام يظهر بأدنى تأمل بل يتمسك فيه بالاستقراء التام الذي هو حجة قطعا لأن الكتاب ما يمكن ضبطه في حق هذه التقسيمات والاستقراء فيما يمكن ضبطه حجة قطعية

قوله معرفة مواضعها أي مآخذ اشتقاق الألفاظ التي هي أسماء لأقسام الكتاب فهذا يرجع إلى أسماء للأقسام

وقوله صيغة ولغة إلى نفس ذلك القسم فإن

قوله المؤمنون مثلا يدل على مسميين موصوفين بالإيمان صيغة ولغة ثم سمي هذا اللفظ بالعام فمأخذ اشتقاق هذا القسم العموم وقس عليه وترتيبها

أي تقديم بعضها على البعض عند التعارض كما في النص مع الظاهر أو

(١/٤٦)

في الوجود كما في العام مع الخاص ومعانيها أي حقائقها وحدودها في اصطلاح الأصوليين وأحكامها أي الآثار الثابتة بها من ثبوت الحكم بها قطعا أو ظنا ووجوب التوقف وغير ذلك قال عامة الشارحين لما انقسم ما يرجع إلى معرفة أحكام الشرع من الكتاب عشرين قسما ثم انقسم كل واحد منها باعتبار هذا القسم أربعة أقسام صار أقسام الكتاب ثمانين قسما ولكنه مشكل لأن التقسيم على أنواع تقسيم الجنس إلى أنواعه بأن يؤخذ بزيادة قيد قيد وهو التقسيم المصطلح بين أهل العلم ولا بد فيه من أن يكون مورد التقسيم مشتركا بين أقسام فإنك إذا قسمت الجسم إلى جماد وحيوان كان كل واحد منهما جسما وإذا قسمت الحيوان إلى إنسان وفرس وطير كان كل واحد منهما جسما وحيوانا وتقسيم الكل إلى أجزائه كتقسيم الإنسان إلى الحيوان والناطق

ولا يستقيم فيه إطلاق اسم الكل على كل قسم بطريق الحقيقة فإن اسم الإنسان لا يطلق على الحيوان والناطق بل يطلق على المجموع وتقسيم الشيء باعتبار أوصافه كتقسيم الإنسان إلى عالم وكاتب وأبيض وأسود ولا بد فيه من اشتراك مورد التقسيم أيضا ومن أن يوجد في الجميع من يوصف بالكتابة دون العلم وبالبياض دون السواد وبالعكس ليتميز كل قسم عن غيره في الخارج وليس ما نحن بصدده من قبيل الأول لعدم اشتراك مورد التقسيم فيه بين الأقسام إذ لا يمكن أن يحكم على مأخذ العام مثلا بأنه عام ولا على مأخذ المجاز بأنه مجاز بل لا يمكن أن يحكم على ما ذكرنا أنه من الكتاب وأصل مورد التقسيم الكتاب ولا من قبيل الثاني لأن معرفة موضع الاشتقاق ليس من أجزاء الخاص وكذا معرفة معناه وحكمه وترتيبه وقس عليه سائر الأقسام ولا من قبيل الثالث لأن مورد التقسيم ليس بمشترك ولأن معرفة مأخذ اشتقاق لفظ الخاص ليس وصفا لحقيقة الخاص وهو لفظ الطواف أو الركوع والسجود مثلا كما أن معرفة مأخذ اشتقاق لفظ الإنسان لا يكون وصفا لحقيقة الإنسان وكذا معرفة معناه وحكمه وترتيبه ليست من أوصافه فلا يستقيم بهذا الاعتبار أيضا كما لا يستقيم أن يقال الإنسان أقسام قسم منه أن مأخذ اسمه الإنس وقسم منه أن معناه حيوان ناطق وقسم منه أنه مقدم على الفرس في الشرف

ولئن سلمنا أن المعاني المذكورة من أوصاف كل فرد باعتبار تعلقها به إذ صح أن يقال الخاص الذي مأخذ اشتقاق اسمه كذا أو معناه كذا أو حكمه كذا لا يستقيم أيضا إذ لا بد من أن يتميز كل

(١/٤٧)

قسم عن غيره بما يخصه ليظهر فائدة التقسيم ويمكن القول بأن الخاص أربعة أقسام والعام كذلك إلى آخر الأقسام وقد تعذر ذلك ههنا لأن المعاني المذكورة لازمة لكل فرد من أفراد كل قسم إذ ما من خاص إلا ولاسمه مأخذ وله معنى وحكم وترتيب فكيف يتميز خاص عن خاص باعتبار هذه المعاني وهذا كما يقال الإنسان قسمان قسم منه عريض الأظفار وقسم منه مستوي القامة وفساده ظاهر لأن المعنيين من لوازم كل فرد فيم يتميز أحد القسمين عن الآخر ولا يقال التمييز بين المعنيين ثابت في العقل فيكفي ذلك لصحة التقسيم لأنا نقول ذلك ساقط الاعتبار في التقسيم إذ التكلف إلى هذا الحد في التقسيم ليس من عادة أهل العلم وإنك لا تجد تقسيما في نوع من العلوم خصوصا في العلوم الإسلامية بهذا الاعتبار فثبت أن تقسيم الكتاب على ثمانين قسما غير متضح بل الأقسام عشرون كما ذكره الشيخ ولكن لكل قسم معنى وحكم وترتيب ولاسمه مأخذ على أن في كونها عشرين قسما كلاما أيضا

واعلم بأن الشيخ رحمه اللّه لم يرد بقوله قسم خامس أنه قسيم الأقسام الأربعة المتقدمة لأنه لا يستقيم لما ذكرنا بل أراد أن معرفة تلك الأقسام متوقفة على هذا القسم فكأنه قسم خامس لها وهو كما يقال المفصل هو السبع الثامن من الكشاف لتوقف معرفة الكشاف عليه لا أنه منه حقيقة

قوله وأصل الشرع هو الكتاب والسنة خصهما بالذكر لأن هذه الأقسام توجد فيهما دون الإجماع ولأن أكثر الأحكام تثبت بهما ولأن كل واحد منهما أصل للباقي على ما قيل لأن الحكم للّه تعالى وحده وقول الرسول ليس بحكم بل هو مخبر عن اللّه جل جلاله والكتاب هو كلام اللّه تعالى فيكون هو أصل الكل من هذا الوجه لكنا لا نعرف كلام اللّه تعالى إلا بقول الرسول عليه السلام لأنا لا نسمع من اللّه تعالى ولا من جبرائيل عليه السلام فيكون معرفة كلام اللّه تعالى متوقفة على قول الرسول فيكون هو الأصل من هذا الوجه

وأما الإجماع ففرع لهما ثبوتا من كل وجه وإن كان في إثبات الأحكام أصلا مطلقا ثم قال فلا يحل لأحد أن يقصر في هذا الأصل أي الكتاب ولم يقل في هذين الأصلين مع سبق ذكر الكتاب والسنة لأنه الآن في بيان الكتاب دون السنة فلهذا أفرده بالذكر ومحافظة النظم يجوز أن يكون عبارة عن الحفظ الذي هو ضد النسيان أي يحفظه ويضبط أقسامه ومعانيه ويجوز أن يكون عبارة عن المحافظة التي هي ضد الترك والتضييع أي بجعله نصب عينه

وأمام نفسه جاهدا في معرفة أقسامه ومعانيه غير مجاوز عن حدوده

وقوله مفتقرا مستعينا راجيا أحوال عن الضمير المنصوب في يلزمه

(١/٤٨)

قوله أما الخاص إلى آخره فقوله كل لفظ عام يتناول جميع المستعملات والمهملات وما يكون دلالته بالطبع كأخ على الوجع وأح على السعال وهو جار مجرى الجنس بالنسبة إلى ما ذكرنا فبقوله وضع لمعنى خرج غير المستعملات عن الحد والمراد بالوضع وهو تخصيص اللفظ بإزاء المعنى أو تعيين اللفظة بإزاء معنى بنفسها لازمته وهي الدلالة على المعنى الناشئة من جهة الوضع فيدخل فيه الحقيقة والمجاز وبقوله واحد خرج المشترك لأنه موضوع لأكثر من واحد على سبيل البدل وخرج المطلق أيضا على قول من لم يجعل المطلق خاصا ولا عاما وهو قول بعض مشايخنا وبعض أصحاب الشافعي رحمهم اللّه لأن المطلق ليس بمتعرض للوحدة ولا للكثرة لأنهما من الصفات وهو متعرض للذات دون الصفات وبقوله على الانفراد خرج العام فإنه وضع لمعنى واحد شامل للأفراد إذ المراد من

قوله على الانفراد كون اللفظ متناولا لمعنى واحد من حيث إنه واحد مع قطع النظر عن أن يكون له في الخارج أفراد أو لم تكن

وقوله وانقطاع المشاركة تأكيد للانفراد وبيان للازمه وبينهما نوع تغاير لأن الانفراد بالنظر إلى ذاته وانقطاع المشاركة بالنظر إلى غيره

ولو قيل المراد بالوضع حقيقته وهو الوضع الأول لكان أحسن لأن الحقيقة أو المجاز إنما يثبت بالإرادة لا بأصل الوضع والخصوص والعموم إنما يثبت كل واحد منهما بالنظر إلى أصل الوضع فلا يكون الحقيقة أو المجاز داخلا فيه بهذا الاعتبار بل إنما يصير الخاص أو العام حقيقة أو مجازا إذا انضم إليه إرادة موضوعه أو غير موضوعه ألا ترى أن المشترك الذي هو من هذا القسم إنما يكون مشتركا إذا اعتبر مجردا عن الإرادة فإنه إذا انضم إليه إرادة لم يبق مشتركا لأن إرادة الجميع لا يصح وبإرادة البعض لم يبق الاشتراك ولكن الاشتراك بالنظر إلى الوضع وصلاحية اللفظ لكل واحد على السواء ولا يلزم عليه المؤول فإنه مع انضمام الإرادة إليه من هذا القبيل لأن الإرادة لم يثبت يقينا فلم تخرجه من الاشتراك مطلقا بخلاف المفسر فإن قيل إن كان المراد من الوضع الأول فلا حاجة إلى الاحتراز عن المشترك لأنه عارض لم يكن

(١/٤٩)

في الوضع الأول

وإن كان مطلق الوضع فقد حصل الاحتراز عنه بقوله لمعنى لأنه صيغة فرد كرجل فلا يدل على أكثر من معنى واحد كما لا يدل رجل على أكثر من مسمى واحد قلنا المعنى في الأصل مصدر يقال عنى يعني عناية ومعنى وإن كان بمعنى المفعول ههنا فيجوز أن يراد به المأخوذ من جهة واحدة ومن جهتين فصاعدا لأن المصدر جنس قال اللّه تعالى لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا وزوال معنى المصدرية بإرادة المفعول لا يمنع ما ذكرنا فإن رتقا في قوله تعالى كانتا رتقا لم يثن وإن كان بمعنى مرتوقتين لبقاء صيغة المصدر فلما كان كذلك وجب تأكيده بالواحد

قوله وكل اسم إنما ذكر الاسم ههنا دون اللفظ لأن ما يدل على المشخص المعين وهو المراد من المسمى المعلوم لا يكون إلا اسما بخلاف القسم الأول لأن الدلالة على المعنى تحصل بالأفعال والحروف أيضا

وقوله على الانفراد هنا احتراز عن المشترك بين المشخصات لأنه بالنسبة إلى كل واحد اسم وضع لمسمى معلوم ولكن لا على الانفراد ثم المراد بالمعنى في

قوله وضع لمعنى إن كان مدلول اللفظ يدخل فيه المشخصات وغيرها فيكون الحد تاما متناولا خصوص الجنس والنوع والعين ويكون إفراد خصوص العين بالذكر لقوة المغايرة بينه وبين غيره إذ لا شركة في مفهومه أصلا بخلاف غيره من أنواع الخصوص وهذا كتخصيص أولي العلم بالذكر في قوله تعالى يرفع اللّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات بعد دخولهم في

قوله الذين آمنوا لقوة التفاوت بينهم وبين عامة المؤمنين في الدرجة والشرف وكتخصيص جبريل وميكائيل بالذكر في قوله تعالى من كان عدوا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال بعد دخولهما في عموم

قوله وملائكته لقوة منزلتهما وشرفهما عند اللّه تعالى وإن كان المراد منه ما هو كالعلم والجهل وهو الظاهر يكون هذا تعريفا لقسمي الخاص الاعتباري والحقيقي لا تعريف الخاص من حيث هو خاص وقيل تعريفه على هذا الوجه

قوله فصار الخصوص عبارة عما يوجب الانفراد ويؤيده ما ذكره صدر الإسلام أبو اليسر الخاص اسم لفرد كالرجل والمرأة

والغرض من تحديد كل قسم بحد على حدة بيان أن الخصوص يجري في المعاني والمسميات جميعا بخلاف العموم فإنه لا يجري إلا في المسميات فيكون في هذا

(١/٥٠)

تحقيق لنفي العموم عن المعاني ولهذا ذكر في حد المشترك وهو ما اشترك فيه معان أو أسام ليكون إشارة إلى أن الاشتراك يجري في القسمين كالخصوص بخلاف العموم ثم ذكر ههنا لمعنى واحد وذكر شمس الأئمة رحمه اللّه لمعنى معلوم مكان واحد فعلى ما ذكر هنا يكون المجمل داخلا فيه لأن اللفظ خاص سواء كان معلوما أو مجهولا لأن خصوصية اللفظ بالنسبة إلى الواقع لا بالنسبة إلى القائل والسامع فلا يشترط فيه العلم وعلى ما ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه لا يدخل وهو الأصح لأن الشيخين اتفقا في بيان حكم الخاص أنه لا يحتمل التصرف فيه بيانا لأنه بين بنفسه والمجمل لا يعرف إلا بالبيان فيكون خلاف الخاص ويمكن أن يقال المجمل لا يدخل في الحد على ما ذكره المصنف أيضا لأنه لما تعرض للوحدة بقوله واحد والمجمل لا يعرف وحدة مفهومه وكثرته فلا يمكن الحكم عليه بالوحدة كما لا يمكن بالكثرة فلا يدخل وبعد لحوق البيان به ومعرفة وحدة معناه لم يبق مجملا فيدخل

قوله فإذا أريد خصوص الجنس قيل إنسان الجنس أعلى من النوع اصطلاحا وتسمية الإنسان جنسا والرجل نوعا على لسان أهل الشرع واصطلاحهم لأنهم لا يعتبرون التفاوت بين الذاتي والعرضي الذي اعتبره الفلاسفة ولا يلتفتون إلى اصطلاحاتهم ولهذا لم يذكروا حدودهم في تصانيفهم وإنما يذكرون تعريفات توقف بها على معنى اللفظ ويحصل بها التمييز تركا منهم للتكلف واحترازا عما لا يعنيهم لحصول مقصودهم دونها قال السيد الإمام ناصر الدين السمرقندي رحمه اللّه في أصول الفقه هذا كتاب فقهي لا نشتغل فيه بصنعة التحديد في كل لفظ بل نذكر ما يعرف معانيها ويدل على حقائقها وأسرارها بالكشوف والرسوم

وقال فيه في موضع آخر ونحن لا نذكر الحدود المنطقية وإنما نذكر رسوما شرعية يوقف بها على معنى اللفظ كما هو اللائق بالفقه وإذا كان كذلك لم يلتفتوا إلى استبعادهم ذكر كلمة كل في الحدود بأنها لإحاطة الأفراد والتعريف للحقيقة لا للأفراد ولا إلى استنكارهم كون الرجل نوعا للإنسان بأن الإنسان نوع الأنواع إذ ليس بعده نوع عندهم

(١/٥١)

فحكموا تارة على الرجل والمرأة باختلاف الجنس نظرا إلى فحش التفاوت بينهما في المقاصد والأحكام فقالوا لو اشترى عبدا فظهر أنه أمة لا ينعقد البيع بخلاف البهائم مع أن اختلاف النوع لا يمنع الانعقاد وحكموا تارة بكونهما نوعي الإنسان نظرا إلى اشتراكهما في الإنسانية واختلافهما في الذكورة والأنوثة فهذا بيان اللغة والمعنى أي ما ذكرنا بيان معنى الخاص لغة وبيان معناه في اصطلاح الأصوليين فأما بيان ترتيبه وحكمه فسيأتي

(١/٥٢)

قوله ثم العام بعده أي بعد الخاص في الوجود لا عند التعارض لأن المفرد مقدم على المركب وجودا في الذهن كل لفظ فتخصيص اللفظ بالذكر إشارة إلى أن العموم من عوارض الألفاظ دون المعاني والمراد اللفظ الموضوع على التفسير الذي ذكرناه بقرينة مورد التقسيم فيخرج منه ما يدل بالطبع

وقوله ينتظم أي يشمل احتراز عن المشترك فإنه لا يشمل معنيين بل يحتمل كل واحد على السواء

وقوله جمعا احتراز عن التثنية فإنها ليست بعامة بل هي مثل سائر أسماء الأعداد في الخصوص

وأما من قال حد العام هو اللفظ الدال على الشيئين فصاعدا فقد احترز عنها أيضا بقوله فصاعدا وعن اشتراط الاستغراق فإنه عند أكثر مشايخ ديارنا ليس بشرط وعند مشايخ العراق من أصحابنا وعامة أصحاب الشافعي وغيرهم من الأصوليين هو شرط وحد العام عندهم هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد واحترزوا بقولهم المستغرق لجميع ما يصلح له عن النكرات في الإثبات وحدانا وتثنية وجمعا لأن رجلا يصلح لكل ذكر من بني آدم لكنه ليس بمستغرق وقس عليه رجلين ورجالا وبقولهم بحسب وضع واحد على اللفظ المشترك أو الذي له حقيقة ومجاز إذا عم كالعيون والأسود فإنه لا يتناول مفهوميه معا فالحاصل أن الاستغراق شرط عندهم والاجتماع عندنا ويظهر فائدة الخلاف في العام الذي خص منه فعندهم لا يجوز التمسك بعمومه حقيقة لأنه لم يبق عاما وعندنا يجوز لبقاء العموم باعتبار الجمعية

ولهذا ظن بعض الناس أن العام لا يتناول جميع الأفراد عند عدم المانع لقوله جمعا من الأسماء وهو نكرة في الإثبات فيتناول جمعا من الجموع لا الكل وليس كذلك فإن الشيخ قد نص في باب ألفاظ العموم أنه شامل لكل ما يطلق عليه إلا أنه لما لم يشترط لحقيقة العموم تناول الكل قال

(١/٥٣)

جمعا من الأسماء

قوله ومعنى قولنا من الأسماء يعني من المسميات فقوله يعني لم يقع موقعه إلا أن يؤول بمعنى أي لأنه يستعمل في محل التفسير ككلمة أي فيكون معناه أي من المسميات ويدل عليه عبارة شمس الأئمة فإنه قال ونعني بالأسماء ههنا المسميات ثم قيل تفسير الأسماء بالمسميات مع أن الاسم والمسمى واحد عندنا احتراز عن التسميات لأن الاسم يذكر ويراد به التسمية كما في قوله تعالى وللّه الأسماء الحسنى أي التسميات

وقوله عليه السلام إن للّه تعالى تسعة وتسعين اسما ويقال ما اسمك أي ما تسميتك فإذا احتمل الاسم التسمية احترز عنها وأكده بقوله من المسميات وإلا ظهر أنه احتراز عن المعاني فإن الاسم كما يدل على المشخص يدل على المعنى وقد اختار أن اللفظ الواحد لا ينتظم جمعا مع المعاني كما سيأتي فلذلك فسر الأسماء بالمسميات

قوله لفظا أي صيغته تدل على الشمول كصيغ الجموع مثل زيدون ورجال أو معنى أي عمومه باعتبار المعنى دون الصيغة كمن وما والجن والإنس فإنها عامة من حيث المعنى حيث تناولت جمعا من المسميات دون الصيغة لأنها ليست باسم جمع كذا قال أبو اليسر رحمه اللّه ولا يقال الحد المذكور ليس بجامع لأن النكرة المنفية ونحوها عامة كما نص عليه في هذا الكتاب وسائر الكتب ولم يتناولها هذا الحد إذ هي ليست بلفظ موضوع لانتظام جمع من المسميات بل عمومها ضروري كما عرف لأنا نقول الحدود لبيان الحقائق وعمومها مجازي لصدق حد المجاز عليه فإن رجلا في

قوله ما رأيت رجلا لفظ أريد به غير ما وضع له لعلاقة بين المحلين إذ الرجل وضع للفرد وأريد به غير موضوعه وهو العموم ههنا بقرينة النفي كما أريد بالأسد الشجاع في

قوله رأيت أسدا يرمي بقرينة الرمي للعلاقة بينهما

وقد نص على مجازيته في شرح أصول الفقه لابن الحاجب وإذا كان كذلك لا يمنع عدم دخولها في الحد صحته على أنا إن سلمنا أن

(١/٥٤)

عمومها حقيقي لا يقدح ذلك في صحة الحد أيضا لأن الحد المذكور لبيان العام صيغة ولغة بدلالة مورد التقسيم لا لمطلق العام وعموم النكرة المنفية لم يثبت بالصيغة بل بالضرورة والحد المذكور جامع مانع للعام الصيغي فيكون صحيحا ولو لم يشترط الوضع في اللفظ بأن أجري على إطلاقه ولم يلتفت إلى مورد التقسيم لكان الحد متنا لا لها إذ هي لفظ ينتظم جمعا من المسميات معنى فتبين بما ذكرنا أن الحد جامع كما أنه مانع

قوله ونخلة عميمة أي طويلة قيل لما كانت أجزاؤها كثيرة شملت الهواء أكثر من غيرها وقيل إذا طالت تشعبت أكثر مما إذا لم تطل والقرابة إذا توسعت انتهت إلى صفة العمومية فأول درجات القرابة البنوة ثم الأبوة ثم الأخوة ثم العمومة فبها تنتهي وتتوسع وليس بعدها قرابة أخرى إذ سائر القرابات بعد هذه الأربعة فرع لهذه الأربعة ولهذا انتهت المحرمية التي هي من أحكام القرابة إلى العمومة ولم تتعد إلى فروعها ولم يتعرض الشيخ للخؤولة لأن الأصل قرابة الأب إذ النسب إلى الأباء واعلم أن القاضي الإمام أبا زيد رحمه اللّه عرف العام كما عرفه الشيخ لكنه فسر الأسماء بالتسميات

كذا قال صاحب الميزان والانتظام لفظا أو معنى بطريق آخر فقال

وأما العام فما ينتظم جمعا من الأسماء لفظا أو معنى كقولك الشيء فإنه اسم لكل موجود ولكل موجود اسم على حدة والإنسان اسم عام في جنسه لأن جنسه يشتمل على أفراد ولكل فرد اسم على حدة ونقول مطر عام إذا عم الأمكنة فيكون عاما بمعناه وهو الحلول بالأمكنة لا بأسماء يجمعها المطر فسياق كلامه هذا يشير إلى أن مراده من الأسماء التسميات لأن

قوله ولكل موجود اسم على حدة ولكل فرد اسم على حدة يدل عليه ويشير أيضا إلى أن الانتظام لفظا أن يشمل اللفظ أسماء مختلفة كالشيء فإنه يشمل الأرض والسماء والجن والإنس وغيرها والانتظام معنى أن يحل المعنى محال كثيرة فدخل المحال المختلفة تحت العموم بواسطة المعنى كمعنى المطر لما حل محال كثيرة دخلت المحال تحت لفظ المطر دخول الموجودات تحت لفظ الشيء لكن بواسطة معناه وهو حلوله بها لا بلفظه لأنه لا دلالة له على المحال بخلاف الشيء فإن لفظه يدل على ما انتظمه

فالشيخ رحمه اللّه لما رأى أن انتظام اللفظ لمدلولات الأسماء لا للأسماء وأن دخول المحال تحت لفظ المطر بطريق الالتزام ولا مدخل له في التعريفات فسر الأسماء بالمسميات والانتظام اللفظي والمعنوي بما ذكر في الكتاب احترازا عما اختاره القاضي الإمام واختيارا للأصوب ووافقه شمس الأئمة وصدر الإسلام أبو اليسر وغيرهما فالشيء والإنس والجن ونحوها عام لفظي في اختيار القاضي الإمام وعام معنوي في اختيارهم

(١/٥٥)

قوله وهو كالشيء هذا من نظائر العام المعنوي والغرض من إيراده بعدما أورد نظير المعنوي مرة أن يبين أنه عام معنوي لا لفظي كما ظنه القاضي وأنه عام لا مشترك كما ذهب إليه بعض المتكلمين من أهل السنة فإنهم لما تمسكوا في مسألة خلق الأفعال بعموم قوله تعالى اللّه خالق كل شيء وقالوا الشيء اسم عام يتناول كل موجود فيدخل فيه الأعيان والأعراض اعترض الخصوم وقالوا قد خص منه ذات اللّه تعالى وصفاته فلا يجوز الاحتجاج به بعد الخصوص لخروجه عن كونه حجة أو لصيرورته ظنيا فأجاب بعض المتكلمين عن هذا الاعتراض بأنا لا نسلم أنه عام بل هو مشترك لأنه يتناول أفرادا مختلفة الحقائق ولئن اعتبر معنى الوجود فلذلك أيضا مختلف لأنه يطلق على ذات اللّه تعالى وهو واجب الوجود وعلى غيره وهو جائز الوجود والاختلاف بين الوجودين أكثر من الاختلاف بين الشمس والينبوع والباصرة لجواز المساواة بينهما في كثير من المعاني واستحالتها فيما نحن فيه فإذا أريد به المحدث يمتنع دخول القديم تحته كما في سائر الأسماء المشتركة

والعامة سلموا عمومه وقالوا إنه عام باعتبار مطلق الوجود فإنه متحد واختلاف الحقائق لا يمنع الدخول تحت أمر عام فإن لفظ العرض يتناول الأضداد وكذا لفظ اللون يتناول السواد والبياض بمعنى أعم منهما فلا يلزم منه الاشتراك وهذا معنى

قوله وإن كان كل موجود يتعرف باسمه الخاص ولكن بعضهم منعوا التخصيص فيه وقالوا التخصيص إنما يجري فيما يوجب ظاهر الكلام دخول المخصوص فيه لولا المخصص وهذا الكلام لا يوجب دخول المخاطب فيه فإن من قال دخلت الدار وضربت جميع من فيها وأخرجتهم منها لا يوجب ذلك دخوله في عموم كلامه ليصير ضاربا نفسه ومخرجا لها فلا يعد هذا تخصيصا وكذا في الأحكام إذا قال الرجل لامرأته طلقي من نسائي من شئت وله أربع نسوة لا يدخل المخاطبة في هذا الخطاب حتى لو طلقت نفسها لا يقع فكذا هذا وحاصل هذا الجواب أن دليل العقل لا يصلح مخصصا لأن التخصيص لإخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ وخلاف المعقول لا يمكن أن يتناوله اللفظ

ولأن التخصيص يكون متأخرا متصلا أو منفصلا وهذا سابق وأكثرهم سلموا كونه مخصوصا لأن دليل العقل يصلح مخصصا عند عامة الفقهاء والمتكلمين لكنهم لم يسلموا صيرورته ظنيا بمثل هذا التخصيص لأن ذلك في تخصيص يقبل التعليل أو التفسير كما ستعرف فأما فيما لا يقبله فلا ألا ترى أن العام بالاستثناء وهو من دلائل التخصيص عندهم كدليل العقل لا يخرج من القطع إلى الظن لأنه

(١/٥٦)

لا يقبل التعليل فكذا هذا

وقوله وإن كان كل موجود يتعلق بقوله يتناول كل موجود عندنا

وقوله ولا يتناول المعدوم معترض بينهما وفيه احتراز عن مذهبهم

وقوله عندنا احتراز عن القول بالاشتراك لا عن قول المعتزلة فافهم

قوله وهذا سهو منه أي

قوله أو المعاني سهو منه وفي ذكر السهو دون الخطإ رعاية الأدب إذ لا عيب في السهو للإنسان والسهو ما ينتبه صاحبه بأدنى تنبيه والخطأ ما لا يتنبه صاحبه أو ينتبه بعد إتعاب كذا قال صاحب المفتاح ثم معنى

قوله سهو أو مؤول أنه لا يخلو من أن أراد من

قوله جمعا من المعاني تعددها حقيقة أو مجازا فإن أراد الأول فلا يمكن تصحيح كلامه لأن تعدد المعاني حقيقة لا يكون بتعدد أفرادها في الخارج بل بتعددها في الذهن وذلك لا يكون إلا عند اختلافها فإنك إذا رأيت إنسانا وثبت في ذهنك معناه ثم رأيت آخر وآخر لا يثبت معنى آخر في ذهنك

وإن كان إنسانية زيد في الخارج غير إنسانية عمرو وخالد ولكن إذا رأيت أسدا أو ذئبا أو فرسا أو غيرها يثبت معنى آخر في ذهنك غير الأول فثبت أن تعدد المعاني إنما يكون عند اختلافهما وحينئذ لا يتناولها لفظ واحد على سبيل الشمول لأن أفراد العام لا بد من أن تكون متفقة فإذا اختلفت المعاني اختلفت أفراد العام فلا يدخل تحت لفظ واحد إلا بطريق البدل وذلك يسمى مشتركا ولا عموم له عنده أيضا ولا يلزم على هذا لفظ العرض أو الأعراض بأنه يشمل المعاني المختلفة على سبيل الحقيقة لأن تناوله ليس لكونها معاني مختلفة في ذواتها بل لكون كل واحد منها عرضا وهذا معنى واحد ألا ترى أنه لا يتناول البياض أو السواد أو الحركة أو السكون لأنه سواد أو بياض أو حركة أو سكون بل لكون كل واحد منها مستحيل البقاء فيكون كالشيء يتناول كل موجود بمعنى الموجود لا غير توضيحه أنه لم يوضع بإزاء السواد أو البياض فإنه لو فسر معناه بأنه السواد أو البياض أو نحوه يخطئ لغة

وقوله اختلافها وتغايرها ترادف ههنا وإن كان الاختلاف في نفس الأمر أخص من التغاير لاستلزامه التغاير من غير عكس وإن أراد الثاني أمكن تصحيحه لأن المعنى الواحد يجوز أن يسمى معاني مجازا لتعدده في الخارج بسبب تعلقه بالمحال المتعددة كالخصب

(١/٥٧)

يوصف بالعموم مجازا لما ذكرنا ولا بد للعام من معنى متحد يشترك فيه أفراد العام ليصح شموله إياها به وهو معنى قولنا أفراد العام متفقة الحدود وذلك كلفظة مسلمون مثلا فإنه لا يتناول الأشخاص الداخلة تحتها إلا بمعنى الإسلام ثم ذلك المعنى لما كان متعددا في الخارج فإن إسلام زيد غير إسلام عمرو

وإن كان متحدا حقيقة سماه معاني مجازا فيصير ما ذكر على هذا التأويل موافقا لما ذكرنا في التحقيق ولكن كان ينبغي أن يقول والمعاني بالواو التي هي لمطلق الجمع ليصح هذا التأويل ويصير تقدير كلامه العام ما يتناول جمعا من المسميات مع المعنى الذي به صارت متفقة ولكنه سماه معاني مجازا وهذا هو تفسير العام عندنا أيضا قال شمس الأئمة رحمه اللّه وهكذا رأيت في بعض النسخ من كتابه أي بالواو لكن

قوله أو يأبى هذا التأويل لأن أو لأحد الشيئين والعام يشمل كليهما فلا يصح هذا التأويل إلا أن يجعل أو بمعنى الواو وفيه بعد فلهذا قال والصحيح أنه سهو هذا معنى كلام الشيخ رحمه اللّه وحاصله أنه لم يجوز أن يشمل اللفظ معاني مختلفة لئلا يلزم القول بعموم المعاني وجعل المعاني مجازا عن معنى واحد ولكن أخاه صدر الإسلام أبا اليسر رحمه اللّه ذكر في أصول الفقه أن الجصاص بقوله أو المعاني لم يرد عموم المعاني ولكن يحتمل أنه أراد بقوله من الأسماء والمعاني ما ينتظم جمعا من الأعيان والأعراض فإنه إذا قال المسلمون عم المسلمين أجمع

وإذا قال الحركات عم الحركات كلها وهي المعاني فيجعل أبو اليسر المعاني على حقيقته وهذا أصح لأنه يجوز أن يتناول اللفظ الواحد معاني مختلفة بمعنى أعم منها كما في قولنا المعاني والعلوم والأعراض ونحوها فإن كلا منها عام على الحقيقة لكونه موضوعا لجمع من مدلولاته ولكن بمعنى متحد يشمل الكل وهو مطلق المعنى والعلم والعرض كما أشرنا إليه ألا ترى أن الشيء يتناول المعاني المختلفة بمعنى الموجود كما يتناول الأعيان فيجوز أن يتناول لفظ آخر معاني مختلفة بمعنى يشملها فعلى هذا يكون العام قسمين ما يتناول الأعيان بمعنى واحد وما يتناول المعاني بمعنى يعمها فيصح

قوله أو المعاني ويكون حده متعرضا للقسمين فيكون جامعا ولا يتعرض حد المصنف إلا لقسم واحد فلا يكون جامعا إلا أن يكون المراد من المسمى مفهوم اللفظ فحينئذ يتناولها وعن هذا قيل في تحديد العام هو لفظ ينتظم جمعا من المفهومات بالوضع ولكن طعنه على أبي بكر الجصاص يأبى هذا الحمل فافهم

(١/٥٨)

ولا يلزم مما ذكرنا القول بعموم المعاني لأن العموم وصف للمشتمل لا للمشتمل عليه إذ العام نعت فاعل كما في قولنا الرجال فإنه هو الموصوف بالعموم لا الأفراد الداخلة تحته وههنا الشامل هو اللفظ سواء اشتمل على أعيان أو على معان فيجوز وصفه بالعموم بالاتفاق فأما المعنى إذا شمل أشياء من غير أن يدل لفظه على الشمول كمعنى المطر أو الخصب إذا شمل الأمكنة والبلاد فهذا هو محل الاختلاف فعند العامة لا يوصف بالعموم إلا مجازا وعند البعض يوصف به حقيقة وما نحن فيه ليس من ذلك الباب في شيء ولا يقال حده ليس بمانع لأن

قوله ما ينتظم يتناول المعنى كما يتناول اللفظ والمعنى لا يوصف بالعموم حقيقة ولهذا تعرض المصنف للفظ فقال كل لفظ لأنا نقول يجوز عنده وصف المعنى بالعموم حقيقة فإنه ذكر أن إطلاق لفظه بالعموم حقيقة في المعاني كما هو في الألفاظ يقال عمهم الخصب باعتبار المعنى من غير أن يكون هذا عاما كذا ذكر شمس الأئمة

رحمه اللّه

(١/٥٩)

قوله

وأما المشترك أي المشترك فيه لأن المفهومات مشتركة والصيغة مشترك فيها

وقوله احتمل كذا أي بالوضع عرف ذلك بمورد التقسيم لأن هذا تقسيم نفس اللفظ ودلالته على المعنى من غير نظر إلى إرادة المتكلم

والمجاز لا يثبت إلا بإرادته

وقوله من المعاني أو الأسماء يوهم أن عدد الثلاث شرط في الاشتراك كما هو شرط في العموم ليس كذلك بل الاشتراك يثبت بين المعنيين أو الاسمين أيضا كالقرء ولهذا قيل في حده هو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعا أولا من حيث هما مختلفتان فاحترز بالموضوعة لحقيقتين مختلفتين عن الأسماء المفردة وبقوله وضعا أولا عن المنقول وبقوله من حيث هما مختلفتان عن مثل الشيء فإنه يتناول الماهيات المختلفة لكن لا من حيث إنها مختلفة بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد

وقوله أو اسما من الأسماء على اختلاف المعاني معناه أو مسمى من المسميات المختلفة المعاني باعتبار اختلافهما لا باعتبار معنى يشملها بخلاف العام فإنه قد يشمل المسميات المختلفة المعاني لكن لا لاختلافها في ذواتها بل بمعنى يشملها كما ذكرنا واعلم أن ذكر كلمة أو في التحديد إن كان يؤدي إلى تقسيم الحد فهو باطل لعدم حصول المقصود وهو التعريف وإن كان يؤدي إلى تقسيم المحدود لا إلى تقسيم الحد فهو جائز لعدم الاختلال في التعريف ثم إن تناول القسمين لفظ من ألفاظ الحد فهو تقسيم المحدود وإلا فهو تقسيم الحد كما لو قيل الجسم ما يتركب من جوهرين أو أكثر يكون

(١/٦٠)

تقسيما للمحدود لتناول التركيب إياهما ولو قيل الجسم ما يتركب من جوهرين أو ما له أبعاد ثلاثة يكون تقسيما للحد لعدم دخولهما تحت لفظ من ألفاظ الحد فيفسد فقوله أو اسما من الأسماء من قبيل تقسيم المحدود لا من تقسيم الحد لدخولهما تحت

قوله كل لفظ احتمل فيكون معناه المشترك ما احتمل واحدا من مفهومات اللفظ كما إن

قوله في تحديد العام لفظا أو معنى تقسيم للمحدود لدخولهما تحت

قوله ينتظم

وقوله على اختلاف حال من

قوله من الأسماء وعلى بمعنى مع كما في قولك تبحر فلان في العلوم على صغر سنه أي مع

والعامل فيه الفعل المقدر في الظرف ومحل الظرف النصب على الصفة ل اسما واللام في المعاني بدل من الإضافة وتقدير الكلام احتمل اسما استقر هو من الأسماء مختلفة معانيها

وقوله على وجه حال من المعاني ومن الأسماء جميعا بمعنى الشرط والعامل فيه احتمل واللام في الجملة بدل من الإضافة والتقدير احتمل معنى من المعاني أو اسما من الأسماء بشرط أن لا يثبت إلا واحد من المعاني أو الأسماء أي واحد من مفهوماته ومرادا تمييز والضمير في به راجع إلى اللفظ ثم المراد من المعاني إن كان مفهومات الألفاظ فالمراد من الأسماء الألفاظ الدالة عليها ولهذا قال شمس الأئمة الكردري رحمه اللّه تعالى إن لفظ العين إن كان موضوعا بإزاء لفظ الشمس والينبوع والذهب فهو نظير اشتراك الأسماء وإن كان موضوعا بإزاء مفهومات هذه الألفاظ فهو نظير اشتراك المعاني وإن كان المراد ههنا المعاني الذهنية كالعلم والجهل وهو ظاهر فالمراد من الأسماء المسميات أي الأعيان فالعين على هذا نظير الأسماء وكذا المولى والقرء ولهذا قال بعده من الأسماء ونظير المشترك في المعاني الإخفاء للإظهار والسر والنهل للري والعطش ولفظ بان بمعنى انفصل وظهر وبعد

وقوله من الأسماء قيل يتعلق بالقرء أي مثل القرء الذي هو بمعنى الحيض والطهر فإنه من الأسماء الجامدة وهو المشترك دون القرء الذي بمعنى الجمع والانتقال والأوجه أنه يتعلق بالجموع أي هذه النظائر من الأسماء لا من المعاني كما بينا

قوله وغير ذلك فإنه اسم أيضا للدينار والمال النقد والجاسوس والديدبان والمطر الذي لا يقلع وولد البقر الوحش وخيار الشيء ونفس الشيء يقال هو هو بعينه والناس القليل يقال بلد قليل العين أي قليل الناس وماء عن يمين قبلة العراق يقال نشأت سحابة من قبل العين وحرف من حروف المعجم وعيب في الجلد يقال في الجلد عين وأعاد لفظة مثل في

(١/٦١)

المولى لئلا يتوهم عطفه على مفهومات العين فيفسد المعنى إذا ولأن المغايرة بين الشيئين قد تكون على وجه يكون بينهما غاية الخلاف كالضدين وقد لا تكون كذلك ولا يبعد أن يذهب الوهم إلى أن اللفظ إذا دل على شيء لا يجوز أن يدل على ضده لغاية البعد بينهما بخلاف القسم الآخر ألا ترى أنه لا يقبل العموم بالاتفاق فالشيخ أزال ذلك الوهم بإيراد هذين النظيرين وبين أن الاشتراك يثبت في النوعين جميعا ثم لما بين أن لا عموم للمشترك أورد نظيرا من هذا الجنس وهو الصريم توضيحا لما ادعاه إذ هو أشد دلالة على انتفاء العموم لأن أحدا لم يقل بالعموم في مثل هذا المشترك كما سنبينه ولهذا قال على الاحتمال لا على العموم

واعلم أن الاشتراك خلاف الأصل والمراد به أن اللفظ إذا دار بين الاشتراك وعدمه كان الأغلب على الظن عدمه لأن الاشتراك يخل بالفهم في حق السامع لتردد الذهن بين مفهوماته وقد يتعذر عليه الاستكشاف إما لهيبة المتكلم أو للاستنكاف من السؤال فيحمله على غير المراد فيقع في الجهل وربما ذكره لغيره فيصير ذلك سببا لجهل جمع كثير ومن هذا قيل السبب الأعظم في وقوع الأغلاط حصول اللفظ المشترك وكذا في حق القائل لأنه يحتاج في تفسيره إلى أن يذكره باسم خاص فيقع تلفظه بالمشترك عبثا ولأنه ربما ظن أن السامع تنبه للقرينة الدالة على المراد مع أن السامع لم يتنبه لها فيتضرر كمن قال لعبده أعط فلانا عينا وأراد به خبزا أو شيئا آخر من الأعيان فأعطاه دينارا فيتضرر السيد فهذا يقتضي امتناع الوضع كما ذهب إليه جماعة ولكن وقوعه لما أبى ذلك بقي اقتضاء المرجوحية وهو المعني بكونه غير أصل يوضح ما ذكرنا أن لكل فرد من أفراد المشترك اسما خاصا آخر به يصير اللفظ المشترك مرادفا لذلك المعنى من غير عكس ولكنه إنما وقع إما لغفلة من الواضع إن كانت اللغات اصطلاحية كما ذهب إليه أبو هاشم وأتباعه بأن نسي وضعه الأول وقد اشتهر في قوم فوضعه ثانيا لمعنى آخر واشتهر في آخرين ثم تراضى الكل على الوضعين أو لاختلاف الواضعين بأن ما وضعه واضع لمعنى وضعه آخر لآخر ثم اشتهر كلامهما بين الأقوام أو للقصد إلى تعريف الشيء لغيره مجملا غير مفصل إذ هو مقصود في بعض الأحوال كالتفصيل في عامة الأحوال ألا ترى أن أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه كيف أجمل على الكافر الذي سأله عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقت ذهابهما إلى الغار وقال من هو فقال هو رجل يهديني السبيل

وإن كانت توقيفية

(١/٦٢)

كما ذهب إليه الأشعري وابن فورك فللابتلاء كما في إنزال المتشابه فيلزم مما ذكرنا أن لا يدل على كلا المعنيين بالوضع خلافا لقوم لما سنذكر واعلم أن النزاع فيما إذا أريد به كل واحد من معنييه لا المجموع من حيث هو مجموع فإنه غير متنازع فيه والفرق بينهما ثابت إذ من شرط الإرادة الخطور بالبال ويجوز أن يكون مريدا لهذا ولذاك ويكون غافلا عن المجموع من حيث هو مجموع لغفلته عن الهيئة الاجتماعية التي هي أحد أجزاء المجموع من حيث هو مجموع ويتضح الفرق بأن في اعتبار الجمعية يصير كل واحد من المعنيين جزء المعنى وبدون هذا الاعتبار يصير كل واحد كأنه هو المعنى بتمامه ألا ترى أنك لو قلت كل من دخل داري فله درهم يستحق كل داخل درهما ولو قلت جميع من دخل داري فله درهم فيستحق جميع الداخلين درهما واحدا وإذا عرفت هذا فاعلم أنه يجوز عند الشافعي وأبي بكر الباقلاني وجماعة من المعتزلة كالجبائي وعبد الجبار وغيرهم أن يراد بالمشترك كل واحد من معنييه أو معانيه بطريق الحقيقة إذا صح الجمع بينهما كاستعمال العين في الباصرة والشمس لا كاستعمال القرء في الحيض والطهر معا أو استعمال أفعل في الأمر بالشيء والتهديد عليه لأنه يمتنع الجمع بينهما إلا عند الشافعي وأبي بكر متى تجرد المشترك عن القرائن الصارفة إلى أحد معنييه وجب حمله على المعنيين كسائر الألفاظ العامة وعند الباقين لا يجب فصار العام عندهما قسمين قسم متفق الحقيقة وقسم مختلفها

وعند بعض المتأخرين يجوز إطلاقه عليهما مجازا لا حقيقة وعند أصحابنا وبعض المحققين من أصحاب الشافعي وجميع أهل اللغة وأبي هاشم وأبي عبد اللّه البصري لا يصح ذلك حقيقة ولا مجازا فمن جوز ذلك حقيقة تمسك بقوله تعالى ألم تر أن اللّه يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس فقيل

(١/٦٣)

أريد بالسجود وهو لفظ واحد معنيان مختلفان لأن سجود الناس وهو وضع الجبهة غير سجود الدواب وهو الخشوع والأصل في الإطلاق الحقيقة والدليل على أن المراد من سجود الناس وضع الجبهة لا الخشوع تخصيص كثير من الناس بالسجود دون من عداهم ممن حق عليه العذاب مع استوائهم في السجود بمعنى الخشوع وبقوله عز ذكره إن اللّه وملائكته يصلون على النبي أريد به معنيان مختلفان لأن الصلاة من اللّه تعالى رحمة ومن الملائكة استغفار مع أن الأصل في الإطلاق الحقيقة ومن جوز ذلك مجازا لا حقيقة قال لا يسبق المجموع إلى الفهم عند إطلاق المشترك بل يسبق أحد مفهوميه على سبيل البدل فيكون حقيقة في أحد معنييه فلو أطلق عليهما كان مجازا لكونه مستعملا في غير ما وضع له لعلاقة مخصوصة وهي تسمية الكل باسم الجزء وفيه تقليل الاشتراك الذي هو خلاف الأصل لأنه لو كان حقيقة فيهما صار مشتركا بين ثلاثة معان

وأما العامة فقالوا لو جاز استعماله فيهما معا يلزم الجمع بين المتنافيين لكون المستعمل مريدا لأحد مفهوميه خاصة ضرورة كونه مريدا لهما غير مريد إياه أيضا لاستعماله في المفهوم الآخر المستلزم لعدم إرادة الأول باعتبار أصل الوضع فيكون كل واحد من مفهوميه مرادا وغير مراد يوضحه أن اللفظ بمنزلة الكسوة للمعاني والكسوة الواحدة لا يجوز أن يكتسبها شخصان كل واحد بكمالها في زمان واحد فكذا لا يجوز أن يدل اللفظ الواحد على أحد مفهوميه بحيث يكون هو تمام معناه ويدل على المفهوم الآخر كذلك أيضا في ذلك الزمان نعم إنما يجوز ذلك لو كان كل واحد من مفهوميه جزءا لمعنى فيكون دلالته على المجموع من حيث هو مجموع وقد اتفقوا أنه ليس كذلك ولأنه لا يتحقق مقصود الواضع لأنه ما وضعه إلا لفرد من أفراد مفهوماته فقط ولا يحصل الابتلاء ولا التعريف الإجمالي أيضا لأنه يصير معلوما حينئذ من كل وجه

وأما تمسكهم بالآية الأولى فضعيف لأن المراد من السجود هو الخشوع والانقياد على ما قيل وهو يعم الجميع فلا يختلف المعنى والأوجه أن قوله تعالى وكثير مرفوع بفعل مضمر يدل عليه يسجد الأول أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة فيكون يسجد الأول بمعنى الانقياد والخضوع

والثاني بمعنى العبادة فيختلف المعنى لاختلاف اللفظ

وكذا تمسكهم بالآية الثانية لأن المراد من الصلاة هو العناية بأمر الرسول إظهارا لشرفه فيعم الرحمة والاستغفار أو تقدير الآية إن اللّه يصلي وملائكته يصلون

وأما قولهم يجوز ذلك مجازا تسمية للكل باسم الجزء ففاسد لأن إطلاق اسم الجزء على

(١/٦٤)

الكل وعكسه إنما يجوز لملازمة بينهما إذ الجزء مستلزم للكل من حيث هو جزء والكل مستلزم للجزء من كل وجه فإن الوجه مستلزم للذات والذات مستلزم له أيضا فيجوز ذكر الوجه وإرادة لازمه وعكسه فأما ما نحن فيه فليس من هذا الباب لأن الينبوع الذي هو من مفهومات العين لا يستلزم الشمس ولا الباصرة ولا الذهب بوجه وكذا العكس وكيف يستلزمها ولا اتصال له بها بوجه لا من حيث الوجود ولا من حيث كونه مفهوم اللفظ لأن كونه من مفهومات العين لا يتوقف على كون الباقي مفهوما منه فلا يكون بينهما علاقة بوجه فلا يجوز إطلاقه عليهما مجازا كما لا يجوز حقيقة لأن المجاز ذكر الملزوم وإرادة اللازم وقيل إنه يعم في النفي دون الإثبات كالنكرة والجامع أن كل واحد منهما يتناول واحدا من الجملة غير عين وقيل لا يعم فيه أيضا لما ذكرنا والجواب عن الاعتبار بالنكرة أن عمومها في النفي إنما يثبت ضرورة صدق خبره لا بموجب اللفظ ومثل تلك الضرورة لم يوجد في المشترك فإنك لو قلت ما رأيت عينا وأردت به الينبوع دون سائر مفهوماته لكنت صادقا وإن تعمم في ذلك المفهوم بخلاف قولك ما رأيت رجلا كذا في الميزان

ولا يلزم عليه ما لو حلف لا يكلم مواليه حيث يتناول يمينه الأعلى والأسفل وفيه تعميم المشترك في النفي لأن ذلك ليس لوقوعه في موضع النفي بل لأن المعنى الذي دعاه إلى اليمين وهو بغضه إياهم غير مختلف فيها فلا يتحقق فيه الاشتراك بل اللفظ في هذا الحكم بمنزلة العام فإن اسم الشيء يتناول الموجودات كلها باعتبار معنى واحد وهو صفة الوجود فكان منتظما للكل كذا هذا هكذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه في أصول الفقه

ومال إلى القول الأول في المبسوط وشرح الجامع

قوله وهذا يفارق المجمل إنما ذكر هذا لأن بعض من صنف في هذا الفن جعل الكتاب قسمين محكما ومتشابها وجعل كل كلام فيه ظهور من أنواع المحكم وجعل كل كلام فيه خفاء من أقسام المتشابه وجعل المشترك من أنواع المجمل وجعل المجمل مما يعرف بالتأمل في القرائن إذ المذهب عنده أن المتشابه مع جميع أقسامه مما يمكن أن يعلمه الراسخ في العلم فالمصنف رحمه اللّه نفى ذلك وفرق بينهما بما ذكر كذا سمعت من شيخي قدس اللّه روحه

فإن قلت هذا تقسيم معقول سهل المأخذ موافق للكتاب وهو قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فمن أين وقع هذه التقاسيم المعضلة المخالفة لظاهر الكتاب التي ذكرتموها قلت كم من شيء يتراءى أنه هو الصواب فإذا كشف عنه الغطاء بالتأمل ظهر أن الحق

(١/٦٥)

غيره فأنعم النظر إن الأقسام المذكورة هل هي موجودة في الكتاب أم لا فإذا وجدتها فلا بد من القبول إذ ليس الخبر كالمعاينة ثم إذا اشتبه عليك النص فتأمل فيه هل هو مقتض لقصر الكتاب على القسمين أو لا ولعمري أنه لا يقتضي ذلك لأن قوله تعالى منه آيات محكمات معناه بعضه آيات محكمات

وقوله وأخر صفة لمحذوف دل عليه الظاهر وهو آيات وتقديره واللّه أعلم ومنه آيات أخر متشابهات فهذا يدل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه ولا يدل على أن ليس فيه غيرهما كيف ولم يوجد من طرق القصر وهي العطف كقولك زيد شاعر لا منجم أو النفي والاستثناء كقولك ما زيد إلا شاعر أو إنما كقولك إنما زيد ذاهب أو التقديم كقولك تميمي أنا في هذا المقام شيء ألا ترى أنه لو عطف عليه وآيات أخر مفسرات وآيات أخر مجملات لاستقام ولو اقتضى الكلام الأول القصر على القسمين لم يستقم العطف عليه كما لو قيل منه آيات محكمات والباقي متشابهات

وأجيب عنه أيضا بأن اللّه تعالى قال وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم والمحكم لا يحتاج إلى البيان والمتشابه لا يرجى بيانه فلا بد من أن يكون فيه قسم آخر يتوقف على بيان الرسول عليه السلام ليصح إسناد البيان إليه في قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم فثبت أنه ليس بمقتصر على القسمين ولقائل أن يقول ليس المراد من البيان ما زعمت بل المراد منه التبليغ إذ هو بيان أيضا ألا ترى أنه عليه السلام أمر ببيان ما نزل إليه والبيان الذي أضيف إلى جميع ما نزل ليس إلا التبليغ فأما بيان المجمل فهو بيان لبعض ما نزل لا لكله والأولى أن يقال إن في الكتاب قسما يتوقف معرفته على بيان الرسول كالصلاة والربا والمتشابه لا يرجى بيانه والمحكم لا يتوقف معرفة معناه على البيان فثبت أنه لم يقتصر على القسمين وحاصله حينئذ يرجع إلى ما ذكرته أولا وبيان الفرق من وجهين

أحدهما أن المشترك قسمان قسم يمكن ترجيح بعض وجوهه بالتأمل في معناه لغة من غير بيان آخر وقسم لا يمكن الترجيح فيه إلا بالبيان فهذا القسم الأخير من أقسام المجمل دون الأول كما زعم المخالف

والثاني أن المشترك هو ما يمكن الوقوف على المراد منه بالتأمل من غير بيان فإذا لم يمكن ذلك لا يسمى مشتركا بل هو من أقسام المجمل فعلى الوجه الأول يسمى القسم الأخير مشتركا مع كونه مجملا وعلى الثاني لا يسمى مشتركا أصلا والوجه الأول أصح وإن كان ظاهر كلام المصنف يشير إلى الوجه الثاني لدخول هذا القسم في حد المشترك ولو لم يجعل هذا القسم من المشترك لم يكن الحد مانعا

والباء في بالتأمل للاستعانة وفي برجحان للسببية وكلاهما يتعلق بالإدراك ولغة تمييز للمعنى في

قوله معنى الكلام من باب ملأ

(١/٦٦)

الإناء عسلا

وقوله لغة بعده تمييز عن النسبة ونظير ما يحتمل الإدراك بالتأمل في معناه لغة قوله تعالى ثلاثة قروء فإن أصحابنا تأملوا في معنى القرء فوجدوه دالا على الجمع والانتقال في أصل اللغة وذلك في الحيض دون الطهر لأن المجتمع هو الدم والانتقال يحصل بالحيض إذ الطهر هو الأصل وتأملوا في لفظ الثلاثة فوجدوه دالا على الأفراد الكاملة وذلك في الحمل على الحيض فحملوه عليه ولقائل أن يقول معنى الجمع يدل على الطهر لا على الحيض لأن الطهر هو الجامع والدم ليس بجامع بل هو مجتمع

قوله لمعنى زائد ثبت شرعا كالربا فإنه اسم للزيادة وهي بنفسها ليست بمرادة لأن البيع وضع للاسترباح وكالصلاة فإنها اسم للدعاء أو تحريك الصلوين وليس ذلك بمراد بنفسه أو لانسداد باب الترجيح لغة كالناهل للعطشان والريان والصريم للصبح والليل وكما لو أوصى بثلث ماله لمواليه وله موال أعتقوه وموال أعتقهم ومات قبل أن يبين بطلت الوصية لأن المولى مشترك يتناول الأعلى والأسفل حقيقة واستعمالا ولا يمكن إدخالهما جميعا في الإيجاب لاختلاف المعنى لأن الأعلى منعم والأسفل منعم عليه ولا يمكن التعيين لأن مقاصد الناس مختلفة فمنهم من يقصد الأعلى بالوصية مجازاة وشكرا لإنعامه ومنهم من يقصد الأسفل إتماما للإنعام فلا يوقف على مراد الموصي وربما يؤدي التعيين إلى إبطال مراده فلذلك بطلت الوصية وقال زفر رحمه اللّه إن الوصية للفريقين وجعله قياس ما لو حلف لا يكلم مواليه حيث يتناول يمينه الأعلى والأسفل ولكن الفرق بينهما أن المقصود في الإيصاء مختلف فأما المقصود في اليمين فلا يختلف فيمكن أن يجعل كلامه مجازا عن

أحدهما بالنظر إلى اتحاد المقصود ويتعمم باعتبار هذا المجاز وعن أبي يوسف رحمه اللّه أنه أجاز الوصية وصرفها إلى الموالي الذين أعتقوه لأن شكر الإنعام واجب وإتمامه مندوب فصار صرفها إلى أداء الواجب أولى والجواب أن هذا الجواب لا يدخل في الحكم فلا يصح اعتباره في الحكم

وعن محمد رحمه اللّه أنه قال إذا اصطلحوا على حده صح لأن الجهالة تزول به كما في مسألة الإقرار لأحد هذين كذا في جامع المصنف وشمس الأئمة رحمهما اللّه والحاصل أن المجمل قسمان ما ليس له ظهور أصلا كالصلاة والزكاة والربا وما له ظهور من وجه كالمشترك الذي انسد فيه باب الترجيح فإنه ظاهر في أن المتكلم أراد هذا أو ذاك ولم يرد شيئا آخر ولكنه مجمل في تعيين ما أراده من المعنيين فقوله لمعنى زائد ثبت شرعا إشارة إلى القسم الأول

وقوله أو لانسداد باب الترجيح لغة إشارة إلى القسم الثاني

(١/٦٧)

قوله

وأما المؤول فكذا قيد بقوله من المشترك وبغالب الرأي وهما ليسا بلازمين فإن صاحب الميزان ذكر فيه أن الخفي والمشكل والمشترك والمجمل إذا لحقها البيان بدليل قطعي يسمى مفسرا وإذا زال الإشكال أي الخفاء بدليل فيه شبهة كخبر الواحد والقياس يسمى مؤولا وذكر في التقويم بعد ذكر المؤول وتفسيره كما فسره الشيخ هنا وكذا المراد من الكلام متى خفي لدقته فأوضح بالرأي كان مؤولا وقال صدر الإسلام المؤول اسم لمشترك تناول بعض ما دخل تحته بدليل غير مقطوع به من القياس ونحوه فثبت بما ذكرنا أن القيدين ليسا بلازمين فعلى هذا يكون المراد من

قوله من المشترك ما فيه نوع خفاء ومن غالب الرأي ما يوجب الظن فيكون تقدير الكلام المؤول ما ترجح مما فيه خفاء بعض وجوهه بدليل ظني فقوله ما ترجح بعض وجوهه بمنزلة الجنس فدخل فيه المفسر بقوله بدليل ظني احترز عنه

وقوله مما فيه خفاء ليس بلازم أيضا لأن الظاهر والنص يقبلان التأويل أيضا قال شمس الأئمة المفسر فوق الظاهر والنص لأن احتمال التأويل قائم فيهما في المفسر فالأولى أن يجعل

قوله من المشترك زائدا لا عبارة عما فيه خفاء أو يجعل بمعنى المحتمل أي المؤول ما ترجح من اللفظ المحتمل بعض محتملاته ليتناول الجميع ولكنه خلاف الظاهر فإن سياق كلامه يدل على أن المراد هو المشترك الذي سبق ذكره فإن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى وقيل في حد التأويل هو اعتبار احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر ثم قيل إنما دخل المؤول في أقسام النظم لأن الحكم بعد التأويل يضاف إلى الصيغة واللغة لأن إضافة الحكم إلى الدليل الأقوى أولى ولهذا كان

(١/٦٨)

الحكم في المنصوص عليه مضافا إلى النص لا إلى العلة لأنه أقوى منها وإن كان في غير محل النص مضافا إلى العلة بخلاف المفسر لأن التفسير اللاحق به مثله في القوة فيجوز إضافة الحكم إلى المفسر وهذا كالمجمل إذا لحقه البيان بخبر الواحد يكون ذلك ثابتا قطعا وإن كان خبر الواحد لا يوجب الحكم بنفسه قطعا لأن بعد البيان يضاف الحكم إلى المفسر لكونه أقوى لا إلى خبر الواحد ألا ترى أن خبر الواحد وهو

قوله عليه السلام إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك لما التحق بيانا بقوله تعالى أقيموا الصلاة ثبتت فرضية القعدة الأخيرة لما ذكرنا

قال العبد الضعيف أصلح اللّه شأنه أما قولهم المؤول من أقسام النظم بالطريق الذي ذكروا فمشكل لأنه إن كان يستقيم فيما إذا ترجح بعض وجوه المشترك بالرأي فلا يستقيم فيما إذا ظهر المراد من الخفي أو المشكل بالرأي ولا فيما إذا حمل الظاهر أو النص على بعض محتملاته بدليل ظني لأنها ليست من أقسام الصيغة واللغة إلا أن يجعل

قوله من المشترك قيدا لازما عند المصنف وفيه تعسف

وأما قولهم المجمل إذا لحقه البيان بخبر الواحد يكون الثابت به قطعيا فليس كذلك لما ذكرنا ولأن مثل هذا البيان لا يوجب الكشف لكونه ظنيا مثل القياس فكيف تثبت به الفرضية فإنها لا تثبت إلا بما هو قطعي الدلالة والثبوت فإن خبر الواحد لا يثبت الفرضية وإن كان قطعي الدلالة وكذا العام المخصوص وإن كان قطعي الثبوت وأي فرق بين معرفة المراد من المشترك بالرأي الذي هو ظني وبين معرفة المراد من المجمل بخبر الواحد الذي هو ظني

وأما استدلالهم بالقعدة ففاسد لأنا لا نسلم أنها فريضة بل هي واجبة ولكن الواجب نوعان واجب في قوة الفرض في العمل كالوتر عند أبي حنيفة رحمه اللّه حتى منع تذكره صحة الفجر كتذكر العشاء وواجب دون الفرض في العمل فوق السنة كتعيين الفاتحة حتى وجب سجود السهو بتركها ولكن لا تفسد الصلاة فالقعدة من القسم الأول فلذلك سميناها فرضا فأما أن يجب اعتقاد فرضيتها بحيث يكفر جاحدها أو يضلل فلا ألا ترى أن أبا بكر الأصم ومالكا لم يكفرا بإنكارهما فرضيتها ولم يكفر ابن عباس رضي اللّه عنهما بإنكاره ربا النقد مع لحوق البيان بآية الربا في الأشياء الستة

ولم يكفر من أنكر تقدير فرض المسح بالربع مع لحوق خبر المغيرة بيانا بمجمل الكتاب وهو قوله تعالى وامسحوا برءوسكم حتى قال بعض أصحابنا بالتقدير بثلاثة أصابع والشافعي بالقطر ومالك بالاستيعاب وكيف يثبت

(١/٦٩)

الحكم قطعا بمثل هذا البيان وفي ثبوته بيانا شبهة أولته بضم التاء إذا رجعته وصرفته بفتح التاءين وصار ذلك عاقبة الاحتمال أي احتمال اللفظ إياه قال اللّه تعالى هل ينظرون إلا تأويله أي عاقبة أمر الكتاب وما يئول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد

قوله وليس هذا كالمجمل أي ليس المؤول على التفسير الذي قلنا كالمجمل الذي عرف معناه ببيان المجمل فإن ذلك مفسر وليس بمؤول وكذا الظاهر أو النص أو المشكل أو غيرها إذا التحق به بيان قاطع فهو مفسر لا مؤول فلا يكون ما ذكر مختصا بالمجمل لكن غرضه إثبات الفرق بين التفسير والتأويل لأن الحديث المذكور يقتضي حرمة تفسير القرآن بالرأي بآكد الوجوه وإجماع الأمة من حيث العمل على استخراج معاني القرآن بالرأي يقتضي الجواز ولا بد من التوفيق ففرقوا بينهما وقالوا النهي وارد عن التفسير دون التأويل

ثم اختلفوا في الفرق فقيل التفسير هو الإخبار عن شأن من نزل فيه وعن سبب نزوله وذلك علم الصحابة رضي اللّه عنهم لأنهم شهدوا ذلك فهم يقولون فيه بالعلم وغيرهم بالرأي والتأويل وهو تبيين ما يحتمله اللفظ من المعاني ولهذا قيل التفسير للصحابة والتأويل للفقهاء وقيل التفسير بيان لفظ لا يحتمل إلا وجها واحدا والتأويل توجيه لفظ يتوجه إلى معان مختلفة إلى واحد منها بما ظهر عنده من الأدلة وقال الشيخ أبو منصور رحمه اللّه هو القطع على أن المراد باللفظ هذا فإن قام دليل مقطوع به على المراد يكون تفسيرا صحيحا مستحسنا وإن قطع على المراد لا بدليل مقطوع به فهو تفسير بالرأي وهو حرام لأنه شهادة على اللّه تعالى بما لا يأمن أن يكون كذبا فأما التأويل فهو بيان عاقبة الاحتمال بالرأي دون القطع فيقال يتوجه اللفظ إلى كذا وكذا وهذا الوجه أوجه لشهادة الأصول فلم يكن فيه شهادة على اللّه تعالى كذا في شرح التأويلات فالمصنف اختار قول الشيخ أبي منصور رحمهما اللّه

قوله مأخوذ من كذا مدار

(١/٧٠)

تركيب السفر يدل على الكشف لما ذكر ومنه يقال سفرت البيت أي كنسته ومنه السفير لأنه يكشف مراد اثنين وسافر الرجل انكشف عن البنيان ومنه السفر لأنه يكشف عن أخلاق المرء وأحواله فيكون هذا اللفظ أي التفسير مقلوبا من التسفير ومعناهما واحد وهو الكشف والإظهار على وجه لا شبهة فيه فيكون من باب الاشتقاق الكبير كجبذ وجذب وطسم وطمس إلا أنه قيل السفر كشف الظاهر لما ذكرنا والفسر كشف الباطن ومنه التفسرة للقارورة التي يؤتى بها عند الطبيب لأنها يكشف عن باطن العليل فسمي كشف المعاني تفسيرا لأنه كشف باطن الألفاظ

قوله وهذا معنى قول النبي أي ما ذكرنا أن التفسير هو الكشف بلا شبهة هو المراد من التفسير المذكور في الحديث

وقوله عليه السلام فليتبوأ أمر بمعنى الخبر أي فقد تبوأ أي اتخذ النار منزلا قضي بتأويله الباء للاستعانة والضمير في أنه راجع إلى الحاصل بالتأويل والاجتهاد أي حكم بأن ما صرفت اللفظ إليه واجتهدت في استخراجه وهو مراد اللّه تعالى وفي هذا أي الحديث إبطال قولهم لما ذكر وما روي عن أبي حنيفة رحمه اللّه أنه قال كل مجتهد مصيب أراد به في حق العمل أي يجوز له العمل بما أدى إليه اجتهاده ويؤجر عليه وإن كان خطأ عند اللّه تعالى أو أراد أن كل مجتهد مصيب في المقدمات ولكنه يقع في الخطإ بعد ذلك إن أصاب الحق غيره

(١/٧١)

قوله الظاهر اسم لكل المراد من الظاهر هو المصطلح أي الشيء الذي يسمى ظاهرا في اصطلاح الأصوليين ومن

قوله ما ظهر الظهور اللغوي فلا يكون فيه تعريف الشيء بنفسه إذ الأول بمنزلة العلم فلا يراعى فيه المعنى وقيل هو ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي ويحتمل غيره احتمالا مرجوحا وقيل هو ما لا يفتقر في إفادته لمعناه إلى غيره

قوله

وأما النص فكذا اعلم أن أكثر من تصدى لشرح هذا الكتاب والمختصر ذكروا أن قصد المتكلم إذا اقترن بالظاهر صار نصا وشرط في الظاهر أن لا يكون معناه مقصودا بالسوق أصلا فرقا بينه وبين النص قالوا لو قيل رأيت فلانا حين جاءني القوم ظاهرا في مجيء القوم لكونه غير مقصود بالسوق ولو قيل ابتداء جاءني القوم كان نصا في مجيء القوم لكونه مقصودا بالسوق وهذا لأن الكلام إذا سيق لمقصود كان فيه زيادة ظهور وجلاء بالنسبة إلى غير المسوق له ولهذا كانت عبارة النص راجحة على إشارته قالوا وإليه أشار المصنف بقوله بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة وبقوله فازداد وضوحا على الأول بأن قصد به وسيق له

قلت هذا الكلام حسن ولكنه مخالف لعامة الكتب فإن شمس الأئمة رحمه اللّه ذكر في أصول الفقه الظاهر ما يعرف المراد منه بنفس السماع من غير تأمل مثاله قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم

وقوله جل ذكره وأحل اللّه البيع

وقوله عز اسمه فاقطعوا أيديهما فهذا ونحوه ظاهر يوقف على المراد منه بسماع الصيغة

وهكذا ذكر القاضي الإمام أبو زيد في التقويم وصدر الإسلام أبو اليسر في أصول الفقه أيضا ورأيت في نسخة أخرى من تصانيف أصحابنا في أصول الفقه الظاهر اسم لما يظهر المراد منه بمجرد السمع من غير إطالة فكرة ولا إجالة رؤية نظيره في الشرعيات قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم

وقوله تعالى الزانية والزاني وذكر السيد الإمام الأجل أبو

(١/٧٢)

القاسم السمرقندي رحمه اللّه الظاهر ما ظهر المراد منه لكنه يحتمل احتمالا بعيدا نحو الأمر يفهم منه الإيجاب وإن كان يحتمل التهديد وكالنهي يدل على التحريم وإن كان يحتمل التنزيه فثبت بما ذكرنا أن عدم السوق في الظاهر ليس بشرط بل هو ما ظهر المراد منه سواء كان مسوقا أو لم يكن ألا ترى كيف جمع شمس الأئمة وغيره في إيراد النظائر بين ما كان مسوقا وغير مسوق وألا ترى أن أحدا من الأصوليين لم يذكر في تحديده للظاهر هذا الشرط ولو كان منظورا إليه لما غفل عنه الكل ليس ازدياد وضوح النص على الظاهر بمجرد السوق كما ظنوا إذ ليس بين قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم مع كونه مسوقا في إطلاق النكاح وبين قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم مع كونه غير مسوق فيه فرق في فهم المراد للسامع وإن كان يجوز أن يثبت ل

أحدهما بالسوق قوة يصلح للترجيح عند التعارض كالخبرين المتساويين في الظهور يجوز أن يثبت ل

أحدهما مزية على الآخر بالشهرة أو التواتر أو غيرهما من المعاني بل ازدياده بأن يفهم منه معنى لم يفهم من الظاهر بقرينة نطقية تنضم إليه سباقا أو سياقا تدل على أن قصد المتكلم ذلك المعنى بالسوق كالتفرقة بين البيع والربا لم تفهم من ظاهر الكلام بل بسياق الكلام

وهو قوله تعالى ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا عرف أن الغرض إثبات التفرقة بينهما وأن تقدير الكلام وأحل اللّه البيع وحرم الربا فأنى يتماثلان ولم يعرف هذا المعنى بدون تلك القرينة بأن قيل ابتداء أحل اللّه البيع وحرم الربا يؤيد ما ذكرنا ما قال شمس الأئمة رحمه اللّه

وأما النص فما يزداد بيانا بقرينة تقترن باللفظ من المتكلم ليس في اللفظ ما يوجب ذلك ظاهرا بدون تلك القرينة وإليه أشار القاضي الإمام في أثناء كلامه وقال صدر الإسلام النص فوق الظاهر في البيان لدليل في عين الكلام وقال الإمام اللامشي النص ما فيه زيادة ظهور سيق الكلام لأجله وأريد بالإسماع باقتران صيغة أخرى بصيغة الظاهر كقوله تعالى وأحل اللّه البيع نص في التفرقة بين البيع والربا حيث أريد بالإسماع ذلك بقرينة دعوى المماثلة

وأما

قوله بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة فمعناه ما ذكرنا أن المعنى الذي به ازداد النص وضوحا على الظاهر ليس له صيغة في الكلام يدل عليه وضعا بل يفهم بالقرينة التي اقترنت بالكلام أنه هو الغرض للمتكلم من السوق كما أن فهم

(١/٧٣)

التفرقة ليس باعتبار صيغة تدل عليه لغة بل بالقرينة السابقة التي تدل على أن قصد المتكلم هو التفرقة ولو ازداد وضوحا بمعنى يدل عليه صيغة بصير مفسرا فيكون هذا احترازا عن المفسر

يقال الماشطة تنض العروس فتقعدها على المنصة بفتح الميم وهي كرسيها لترى بين النساء قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم أي ما حل لكم من النساء لأن منهن ما حرم كاللاتي في آية التحريم وقيل ما ذهابا إلى الصفة لأن ما سؤال عن الصفة كما أن من سؤال عن الذات ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء ومنه قوله تعالى أو ما ملكت أيمانهم مثنى وثلاث ورباع معدولة عن أعداد مكررة وإنما منعت التصريف لما فيها من العدلين عدلها عن صيغتها وعدلها عن تكررها وهي نكرات يعرفن فاللام التعريف تقول فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ومحلهن النصب على الحال مما طاب تقديره فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا كذا في الكشاف وقيل ما طاب أي ما أدرك من طابت الثمرة إذا أدركت والوجه هو الأول لأن نكاح الصغائر جائز ظاهر في الإطلاق أي في إباحة نكاح ما يستطيبه المرء من النساء لأن أدنى درجات الأمر الإباحة وقيل في اختياره لفظ الإطلاق إشارة إلى أن الأصل في النكاح الحظر لأن النكاح رق وكونها حرة ينافي صيرورتها مملوكة ولأنها مكرمة بالتكريم الإلهي كما قال تعالى ولقد كرمنا بني آدم وصيرورتها موطوءة مصبة للماء المهين ينافي التكريم إلا أنه أبيح للضرورة على ما عرف ففي

قوله الإطلاق إشارة إلى إزالة هذه الحرمة الضمير في لأنه للشأن

وقصد به أي قصد العدد بالسوق فازداد هذا الكلام وهو قوله تعالى فانكحوا إلى

قوله رباع وضوحا على الأول وهو

قوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء من غير ذكر عدد بسبب أن قصد العدد بالكلام وسيق الكلام للعدد وهذا المعنى لم يكن مفهوما من الأول

(١/٧٤)

قوله وحكم الأول وهو الظاهر ثبوت ما انتظمه يقينا عاما كان أو خاصا وكذا الثاني وهو النص عاما كان أو خاصا وهو مذهب مشايخ العراق من أصحابنا منهم الشيخ أبو الحسن الكرخي وأبو بكر الجصاص وإليه ذهب القاضي أبو زيد ومن تابعه وعامة المعتزلة وقال عامة مشايخ ديارنا منهم الشيخ أبو منصور رحمه اللّه حكم الظاهر وجوب العمل بما وضع له اللفظ ظاهرا لا قطعا ووجوب اعتقاد حقية ما أراد اللّه تعالى من ذلك وكذا حكم النص وبه قال أصحاب الحديث وبعض المعتزلة وهو بناء على أن العام الخالي من قرينة الخصوص يوجب العلم والعمل قطعا عندنا وعندهم بخلافه لاحتمال الخصوص في الجملة وكذا كل حقيقة محتمل للمجاز ومع الاحتمال لا يثبت القطع كذا في الميزان وحاصله أن ما دخل تحت الاحتمال

وإن كان بعيدا لا يوجب العلم بل يوجب العمل عندهم كخبر الواحد والقياس وعندنا لا عبرة للاحتمال البعيد وهو الذي لا تدل عليه قرينة لأن الناشئ عن إرادة المتكلم وهي أمر باطن لا يوقف عليه والأحكام لا تتعلق بالمعاني الباطنة كرخص المسافر لا تتعلق بحقيقة المشقة والنسب بالأعلاق والتكليف باعتدال العقل لكونها أمورا باطنة بل بالسفر الذي هو سبب المشقة والفراش الذي هو دليل الأعلاق والاحتلام الذي هو دليل اعتدال العقل وسيأتي بيان هذا بعد إن شاء اللّه تعالى وذكر الغزالي رحمه اللّه في المستصفى الظاهر هو الذي يحتمل التأويل والنص هو الذي لا يحتمله ثم قال النص يطلق في تعريف العلماء على ثلاثة أوجه الأول ما أطلقه الشافعي فإنه سمى الظاهر نصا فهو منطلق على اللغة ولا مانع في الشرع والنص في اللغة بمعنى الظهور تقول العرب نصت الظبية رأسها إذا رفعت وأظهرت فعلى هذا حده حد الظاهر وهو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع فهو بالإضافة إلى ذلك المعنى الغالب ظاهر ونص

الثاني وهو الأشهر هو ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا على قرب ولا على بعد كالخمسة مثلا فإنه نص في معناه لا يحتمل شيئا آخر فكل ما كانت دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالإضافة إلى معناه نصا في

(١/٧٥)

طرفي الإثبات والنفي أعني في إثبات المسمى ونفي ما لا ينطلق عليه الاسم فعلى هذا حده اللفظ الذي يفهم منه على القطع معنى فهو بالإضافة إلى معناه المقطوع به نص ويجوز أن يكون اللفظ الواحد نصا وظاهرا ومجملا لكن بالإضافة إلى ثلاثة معان لا إلى معنى واحد

الثالث التعبير بالنص عما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصا فكان شرط النص بالوضع الثاني أن لا يتطرق إليه احتمال أصلا وبالوضع الثالث أن لا يتطرق إليه احتمال مخصوص وهو المعتضد بدليل ولا حجر في إطلاق النص على هذه المعاني الثلاثة لكن الإطلاق الثاني أوجه وأشهر وعن الاشتباه بالظاهر أبعد فظهر بهذا أن موجب الظاهر والنص على التفسير الذي اختاره مشايخنا ظني عند أصحاب الشافعي فأما على التفسير الذي اختاروه فقطعي كالمفسر

وقوله إلا أن هذا أي النص استثناء منقطع من المساواة التي دل عليها

قوله وكذا الثاني فيكون بمعنى لكن أولى منه أي من الظاهر لأن النص لما كان أوضح بيانا كان العمل به أولى ولأن فيه جمعا بين الدليلين بخلاف العكس لإمكان حمل الظاهر على معنى يوافق النص من غير عكس ولأنا إنما لم نعتبر الاحتمال الذي في الظاهر لعدم دليل يعضده فلما تأيد ذلك الاحتمال بمعارضة النص وجب حمله عليه

ونظير التعارض بين الظاهر والنص من الكتاب قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم مع فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن الأول ظاهر عام في إباحة نكاح غير المحرمات فيقتضي بعمومه وإطلاقه جواز نكاح ما وراء الأربع

والثاني نص يقتضي اقتصار الجواز على الأربع فيتعارضان فيما وراء الأربع فيرجح النص ويحمل الظاهر عليه ومن السنة

قوله عليه السلام لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب مع

قوله عليه السلام من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة فالأول ظاهر في نفي الجواز عام في كل صلاة لأن لا هذه لنفي الجنس فيتناول صلاة المقتدي والمنفرد

والثاني نص لأنه أشد وضوحا في إفادة معناه من الأول لأن استعمال لا لنفي الفضيلة واستعمال العام في بعض مفهوماته شائع ذائع فيتعارضان في حق المقتدي فيعمل بالنص ويحمل الأول على المنفرد أو على نفي الفضيلة

(١/٧٦)

قوله

وأما المفسر فما ازداد أي فكلام ازداد وضوحا على النص لأن احتمال التأويل منقطع فيه بخلاف النص فإن احتماله قائم فيه سواء كان ذلك الوضوح بسبب معنى في النص بأن كان أي النص مجملا وهو تسامح في العبارة لأن النص لا يكون مجملا بالنسبة إلى معنى واحد وإنما أراد به اللفظ أو الكلام ههنا

وقوله بأن كان مجملا بدل من

قوله بمعنى في النص بتكرير العامل فلحقه بيان قاطع احتراز عما ليس بقاطع ثبوتا أو دلالة حتى لا يصير المجمل مفسرا بخبر الواحد وإن كان قطعي الدلالة ولا ببيان فيه احتمال وإن كان قطعي الثبوت بل هو بعد في حيز التأويل وإن كان خرج عن حيز الإجمال ولهذا قال فانسد به باب التأويل نتيجة لقوله بيان قاطع أي بيان قاطع لا يحتمل الكلام التأويل بعد لحوقه به وإن كان النص أي اللفظ عاما وهو بيان لقوله بغيره على طريقة اللف والنشر ومن حقه أن يعاد حرف الجر ويقال بأن كان عاما إلا أن الشيخ لم يلتفت إلى ذلك نظرا إلى حصول فهم المعنى بدونه وحاصله أن البيان كما يلتحق بالكلام للتفسير يلتحق به للتأكيد والتقرير وبيان التفسير سببه معنى في نفس الكلام وهو الإجمال أما بيان التقرير فسببه إرادة المتكلم لا معنى في الكلام لأنه ظاهر في إفادة معناه لا يحتاج فيه إلى بيان ولكنه يحتمل أن يراد به غير ظاهره وذلك إنما يثبت بإرادة المتكلم فالتحاق البيان به يقطع ذلك الاحتمال وقيل معنى

قوله بمعنى في النص أن البيان يكون متصلا به كما في قوله تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا فسر الهلوع الذي كان مجملا ببيان متصل به

سئل أحمد بن يحيى ما الهلع فقال قد فسره

(١/٧٧)

اللّه ولا يكون تفسير أبين من تفسيره وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس وكما في النظير المذكور في الكتاب ومعنى

قوله بغيره أن لا يكون بيانه متصلا به بل ثبت ذلك بكلام آخر كالصلاة والزكاة ثبت تفسيرهما بأقوال النبي وأفعاله لا ببيان متصل به فالمثال المذكور في الكتاب على التفسير الأول من القسم الثاني وعلى التفسير الثاني من القسم الأول والصلاة والزكاة على العكس من ذلك والهلوع على التفسيرين من القسم الأول

قوله جمع أي صيغة عام أي معنى وإنما ذكرهما لأن صيغة الجمع قد يسلب عنها معنى العموم بدخول اللازم كما في

قوله لا أتزوج النساء وقد يذكر ويراد به الواحد مجازا كما في قوله تعالى وإذ قالت الملائكة يا مريم قيل المراد جبريل عليه السلام ويصلح هذا المثال نظيرا للأقسام الأربعة لأن قوله تعالى فسجد الملائكة ظاهر في سجود الملائكة وبقوله كلهم ازداد وضوحا على الأول فصار نصا وبقوله أجمعون انقطع الاحتمال بالكلية فصار مفسرا وهو إخبار لا يقبل النسخ فيكون محكما وحكمه الإيجاب قطعا وهذا لا خلاف فيه لأحد من أهل العلم

قوله بلا احتمال تخصيص ولا تأويل إشارة إلى رجحانه على النص قال المصنف رحمه اللّه في شرح التقويم وحكمه اعتقادا ما في النص وأنه لا يحتمل التأويل فيكون أولى من النص عند المقابلة

قال شمس الأئمة رحمه اللّه مثاله ما قال علماؤنا فيمن تزوج امرأة شهرا يكون ذلك متعة لا نكاحا لأن

قوله تزوجت نص للنكاح ولكن احتمال المتعة فيه قائم

وقوله شهرا مفسر في المتعة ليس فيه احتمال النكاح فإن النكاح لا يحتمل التوقيت بحال فإذا اجتمعا رجحنا المفسر وحملنا النص على ذلك المفسر فكان متعة لا نكاحا وذكر غيره نظير التعارض بينهما

قوله عليه السلام المستحاضة تتوضأ لكل صلاة مع

قوله صلى اللّه عليه وسلم المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة قال لأن الأول مسوق في مفهومه فكان نصا ولكنه يحتمل التأويل إذا اللام يستعار للوقت

(١/٧٨)

والثاني لا يحتمله فيكون مفسرا فيرجح ويحمل الأول عليه ولكن الأولى أن يجعل هذا نظير تعارض الظاهر مع النص أو المفسر لما بينا أن الاعتبار لازدياد الوضوح لا للسوق إلا أنه أي المفسر يحتمل النسخ أي في نفس الأمر لا هذا المثال فإنه من الإخبارات والخبر لا يحتمل النسخ ونعني به المعنى القائم باللفظ لأنه يؤدي حينئذ إلى الكذب أو الغلط وهو محال على اللّه تعالى

فأما اللفظ فيجوز أن يجري فيه النسخ وإن كان معناه محكما فإنه يجوز أن لا يتعلق بهذا النظم جواز الصلاة وحرمة القراءة للجنب وهو المراد من نسخ اللفظ وكذا يحتمل الاستثناء فإن إبليس استثني من قوله تعالى فسجد الملائكة لكن الشيخ لم يذكره لأن هذا الاحتمال ينقطع بعد تمام الكلام لأن الاستثناء لا يصح متراخيا فأما احتمال النسخ فباق لأنه لا يثبت إلا متراخيا

(١/٧٩)

فإذا ازداد أي المفسر قوة وأحكم المراد به الباء يتعلق بالإرادة وضمن أحكم معنى امتنع أو أمن أي امتنع المعنى الذي أريد بالمفسر عن النسخ والتبديل وهما مترادفان ههنا سمي محكما فظهر بما ذكر أنه لا بد من كون الكلام في غاية الوضوح في إفادة معناه وكونه غير قابل للنسخ ليسمى محكما وهو قول عامة الأصوليين من أصحابنا ومنهم من لم يشترط كونه غير قابل للنسخ وقال هو ما لا يحتمل إلا وجها واحدا وقيل ما في العقل بيانه وقيل هو الناسخ وقيل هو ما يوقف عليه ويفهم مراده وقيل هو ما ظهر لكل أحد من أهل الإسلام حتى لم يختلفوا فيه والمتشابه على أضدادها وقيل هو ما فيه الفرائض والحدود وقيل ما فيه الحلال والحرام والأصح هو الأول لأن مأخذه يدل على أنه لا يقبل النسخ يقال بناء محكم أي مأمون الانتقاض وأحكمت الصنعة أي أمنت نقضها وتبديلها وقيل هو مأخوذ من قولهم أحكمت فلانا عن كذا أي منعته قال الشاعر أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا

ومنه حكمة الفرس لأنها تمنعه من العثار والفساد فالمحكم ممتنع من احتمال التأويل ومن أن يرد عليه النسخ والتبديل ولهذا سمى اللّه تعالى المحكمات أم الكتاب أي الأصل الذي يكون المرجع إليه بمنزلة الأم للولد وسميت مكة أم القرى لأن الناس يرجعون إليها للحج وفي آخر الأمر والمرجع ما ليس فيه احتمال التأويل ولا احتمال النسخ والتبديل كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه

ثم انقطاع احتمال النسخ قد يكون لمعنى في ذاته بأن لا يحتمل التبدل عقلا كالآيات الدالة على وجود الصانع وصفاته جل جلاله

(١/٨٠)

وحدوث العالم ويسمى هذا محكما لعينه وقد يكون بانقطاع الوحي بوفاة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ويسمى هذا محكما لغيره

قوله تقابل هذه الوجوه إنما اختار لفظ المقابلة الذي هو أعم من التضاد الذي ذكره غيره ليمكنه بيان تحقيق المقابلة ونهاية الخلاف بقوله بعارض غير الصيغة ولا يرد عليه من السؤال ما ورد على غيره فلا يحتاج إلى جواب ضعيف لا يقبله السائل

(١/٨١)

قوله ما اشتبه معناه وخفي مراده قيل ما اشتبه معناه من حيث اللغة وخفي مراده أي الحكم الشرعي كما أن معنى السارق لغة وهو آخذ مال الغير على سبيل الخفية اشتبه في حق الطرار والنباش وكذا حكمه وهو وجوب القطع خفي في حقهما

والأشبه أنهما ينبئان عن معنى واحد بمنزلة المترادفين ولهذا لم يذكر الأول في المختصر والتقويم بعارض غير الصيغة أي خفي بسبب عارض لا أن يكون اللفظ خفيا في نفسه فإن آية السرقة ظاهرة في كل سارق لم يعرف باسم آخر ولكنها خفية في الطرار والنباش لعارض اختصاصهما باسمين آخرين يعرفان بهما واختلاف الأسماء يدل على اختلاف المعاني فبعدا بهذه الواسطة عن اسم السرقة فلهذا خفيت الآية في حقهما

وقوله لا ينال إلا بالطلب تأكيد

وفي

قوله وذلك أي الخفي مثل الطرار والنباش تسامح لأنهما ليسا بخفيين بل آية السرقة خفية في حقهما ولكن لما حصل المقصود وهو فهم المعنى لم يلتفت الشيخ إلى جانب اللفظ والأولى أن يقال وذلك مثل آية السرقة في حق الطرار والنباش كما ذكر هو في شرح التقويم وغيره في تصانيفهم ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى العارض أي العارض الذي صارت الآية خفية بسببه مثل اسم الطرار والنباش ولكن فيه بعد وذكر شمس الأئمة بعارض في الصيغة مكان قول المصنف بعارض غير الصيغة وعنى به أن الخفاء في الصيغة وهو السارق مثلا بالعارض وهو ما ذكرنا لا أن يكون أصله خفيا فيكون موافقا لما ذكره الشيخ رحمه اللّه وقيل المراد من الصيغة في كلام المصنف نظم الآية والمراد منها في كلام شمس الأئمة صيغة الطرار والنباش مثلا ولا اختلاف إذا بين كلاميهما ولكن الوجه هو الأول

(١/٨٢)

قوله ثم المشكل في ثم إشارة إلى تباعد رتبة المشكل في الخفاء عن الخفي لأنه في أدنى درجات الخفاء وفوق المشكل

وقوله وهو الداخل في إشكاله إشارة إلى مأخذه قال شمس الأئمة المشكل مأخوذ من قولهم أشكل على كذا أي دخل في أشكاله وأمثاله وهو اسم لما يشتبه المراد منه بدخوله في أشكاله على وجه لا يعرف المراد إلا بدليل يتميز به من بين سائر الأشكال

وقال القاضي الإمام هو الذي أشكل على السامع طريق الوصول إلى المعاني لدقة المعنى في نفسه لا بعارض فكان خفاؤه فوق الذي كان بعارض حتى كاد المشكل يلتحق بالمجمل وكثير من العلماء لا يهتدون إلى الفرق بينهما

قوله وهذا لغموض في المعنى أي الإشكال إنما يقع لغموض في المعنى قيل نظيره قوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا فإنه مشكل في حق الفم والأنف لأنه أمر بغسل جميع البدن والباطن خارج منه بالإجماع للتعذر فبقي الظاهر مرادا وللفم والأنف شبه بالظاهر حقيقة وحكما وشبه بالباطن كذلك على ما عرف فأشكل أمرهما باعتبار هذين الشبهين فبعد الطلب ألحقناهما بالظاهر احتياطا ثم وجدنا داخل العين خارجا من الوجوب مع أن له شبها بالظاهر وشبها بالباطن حقيقة وحكما أما حقيقة فظاهر

وأما حكما فلأن الماء لو دخل عين الصائم أو اكتحل لا يفسد صومه ولو خرج دم من قرحة في عينه ولم يخرج من العين لا يفسد وضوءه وأن يجاوز عن القرحة فتأملنا فيه فوجدناه خارجا للتعذر كالباطن لأن إيصال الماء إلى داخل العين سبب للعمى وليس في إيصاله إلى داخل الفم والأنف حرج فبقي داخلا تحت الوجوب هذا هو معنى التأمل بعد الطلب قلت هذا معنى فقهي لطيف إلا أن ما ذكروه لا يصلح نظيرا للمشكل لأن المشكل ما كان في نفسه اشتباه وليس ما ذكروه كذلك لأن معنى التطهر لغة وشرعا معلوم ولكنه اشتبه بالنسبة إلى الفم والأنف كاشتباه لفظ السارق بالنسبة إلى الطرار والنباش فكان من نظائر الخفي لا من نظائر المشكل وذكر شمس الأئمة الكردري رحمه

(١/٨٣)

اللّه أن من نظائره قوله تعالى ليلة القدر خير من ألف شهر

ولا بد من أن توجد ليلة القدر في كل اثني عشر شهرا فيؤدي إلى تفضيل الشيء على نفسه بثلاث وثمانين مرة فكان مشكلا فبعد التأمل عرف أن المراد ألف شهر ليس فيها ليلة القدر لا ألف شهر على الولاء ولهذا لم يقل خير من أربعة أشهر وثلاث وثمانين سنة لأنها توجد في كل سنة لا محالة فيؤدي إلى ما ذكرنا قلت ومثله

قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم من قرأ يس يريد بها وجه اللّه غفر اللّه له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة وفي رواية من قرأ سورة يس كان كمن قرأ القرآن عشر مرات ففيه تفضيل الشيء على نفسه أيضا فبعد التأمل عرف أن معناه فكأنما قرأ القرآن عشر مرات أو اثنتين وعشرين مرة بدونها لا معها ومن نظائره قوله تعالى فأتوا حرثكم أنى شئتم اشتبه معناه على السامع أنه بمعنى كيف أو بمعنى أين فعرف بعد الطلب والتأمل أنه بمعنى كيف بقرينة الحرث وبدلالة حرمة القربان في الأذى العارض وهو الحيض ففي الأذى اللازم أولى

وأما نظير الاستعارة البديعة فقوله تعالى قوارير من فضة فالقوارير لا يكون من الفضة وما كان من الفضة لا يكون قوارير ولكن للفضة صفة كمال وهي نفاسة جوهره وبياض لونه وصفة نقصان وهي أنها لا تصفو ولا تشف وللقارورة صفة كمال أيضا

وهي الصفاء والشفيف وصفة نقصان وهي خساسة الجوهر فعرف بعد التأمل أن المراد من كل واحد صفة كماله وأن معناه أنها مخلوقة من فضة وهي مع بياض الفضة في صفاء القوارير وشفيفها

وقوله عز اسمه فصب عليهم ربك سوط عذاب فللصب دوام ولا يكون له شدة وللسوط عكسه فاستعير الصب للدوام والسوط للشدة أي أنزل عليهم عذابا شديدا دائما وقيل ذكر الصب إشارة إلى أنه من السماء أي من عند اللّه وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحل بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به

وقوله جل ذكره فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف فاللباس لا يذاق ولكنه يشمل الظاهر ولا أثر له في الباطن والإذاقة أثرها في الباطن ولا شمول لها فاستعيرت الإذاقة لما يصل من أثر الضرر إلى

(١/٨٤)

الباطن واللباس بالشمول فكأنه قيل فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف أي أثرهما واصل إلى بواطنهم مع كونه شاملا لهم وبيان النظائر الثلاثة منقول من العلامة شمس الأئمة الكردري رحمه اللّه واعلم أن معنى الطلب والتأمل أن ينظر أولا في مفهومات اللفظ جميعا فيضبطها ثم يتأمل في استخراج المراد منها كما إذا نظر في كلمة أنى فوجدها مشتركة بين معنيين لا ثالث لهما فهذا هو الطلب ثم تأمل فيهما فوجدها بمعنى كيف في هذا الموقع دون أين فحصل المقصود وكما إذا نظر في قوله تعالى ليلة القدر خير من ألف شهر فوجده دالا على مفهومين

أحدهما أن يكون خيرا من ألف شهر متوالية

والثاني أن يكون خيرا من ألف شهر غير متوالية ولا ثالث لهما ثم تأمل فيهما فوجده بالمعنى الثاني لفساد في المعنى الأول فظهر المراد وقس عليه الباقي

(١/٨٥)

قوله ثم المجمل أي بعد المشكل المجمل ومعناه فوقه لأنه لما بدأ ببيان أدنى درجات الخفاء أولا كان كل ما بعده أعلى رتبة منه في الخفاء ما ازدحمت فيه المعاني أي تدافعت يعني يدفع كل واحد سواه لا أنه شمل معاني كثيرة

وقوله المعاني ليس بشرط لصيرورته مجملا لأن اللفظ المشترك بين معنيين قد يصير مجملا إذا انسد فيه باب الترجيح كما مر والمراد من المعنى ههنا مفهوم اللفظ والأولى أن يقال المراد من ازدحام المعاني تواردها على اللفظ من غير رجحان ل

أحدهما على الباقي كما في المشترك في أصل الوضع إلا أن التوارد ههنا أعم منه في المشترك لأنه في المشترك باعتبار الوضع فقط وههنا باعتباره وباعتبار غرابة اللفظ وتوحشه من غير اشتراك فيه وباعتبار إبهام المتكلم الكلام وهذا لأن المجمل أنواع ثلاثة نوع لا يفهم معناه لغة كالهلوع قبل التفسير ونوع معناه مفهوم لغة ولكنه ليس بمراد كالربا والصلاة والزكاة ونوع معناه معلوم لغة إلا أنه متعدد والمراد واحد منها ولم يمكن تعيينه لانسداد باب الترجيح فيه كما مر ففي القسم الأخير توارد المعنى باعتبار الوضع وفي القسمين الأولين باعتبار غرابة اللفظ وإبهام التكلم وقيل

قوله ما ازدحمت فيه المعاني زائد في التحديد إذ يكفيه أن يقول هو ما اشتبه المراد اشتباها لا يدرك إلا بالاستفسار كما قال شمس الأئمة هو لفظ لا يفهم المراد منه إلا بالاستفسار المجمل وقال القاضي الإمام هو الذي لا يعقل معناه أصلا ولكنه احتمل البيان

وقال آخر هو ما لا يمكن العمل به ببيان يقترن به قلت لما حصل المقصود وهو فهم المعنى لا ضير في ترك التكلف وبيان سبب الاشتباه واعلم أن البيان اللاحق بالمجمل قد يكون بيانا شافيا ويصير المجمل به مفسرا كبيان الصلاة والزكاة وقد يكون غير شاف ويصير المجمل به مؤولا كبيان الربا بالحديث الوارد في الأشياء الستة ولهذا قال عمر رضي اللّه تعالى عنه خرج النبي عليه السلام من الدنيا ولم يبين لنا أبواب الربا وهذا النوع من البيان قد يحتاج فيه إلى الطلب والتأمل لأن

(١/٨٦)

المجمل بمثل هذا البيان يخرج عن حيز الإجمال إلى حيز الإشكال بخلاف الأول وإلى ما ذكرنا أشار القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه في التقويم بقوله ثم بعد البيان يلزمه ما يلزم بالمفسر أو الظاهر على حسب اقتران البيان به فالشيخ لما أراد توضيح الفرق بينه وبين المشكل قال لا بد فيه من الاستفسار أولا ثم قد يحتاج فيه إلى ما يحتاج إليه في المشكل وهو الطلب والتأمل

ولهذا قدم نظير المجمل الذي يحتاج إلى الطلب والتأمل بعد البيان وهو الربا على المجمل الذي لم يحتج إلى أمر آخر بعد البيان كالصلاة والزكاة وبيان ما قلنا أنه يصير مشكلا بعد البيان أن الربا مع إجماله اسم جنس محلى باللام فيستغرق جميع أنواعه والنبي عليه السلام بين الحكم في الأشياء الستة من غير قصر عليها بالإجماع فبقي الحكم فيما وراء السنة غير معلوم كما كان قبل البيان فينبغي أن يكون مجملا فيما سواها إلا أنه لما احتمل أن يوقف على ما وراءها بالتأمل في هذا البيان نسميه مشكلا فيه لا مجملا وبعد الإدراك بالتأمل والوقوف على المعنى المؤثر صار مؤولا فيه أيضا فصار تقدير الكلام لا بد من الرجوع إلى الاستفسار في كل أنواعه ثم الطلب والتأمل في البعض قيل معنى الطلب طلب المعنى المؤثر والتأمل هو التأمل في صلاحه للتعدية والأظهر أن المراد هو الطلب والتأمل في اللفظ لإزالة الخفاء كما في المشكل لأن الطلب والتأمل كما ذكروا لا يختصان بالمجمل بل يكونان في المفسر والنص أيضا

قوله لا يدرك بمعاني اللغة بحال فإن مطلق الزيادة التي يدل عليه لفظ الربا وكذا الدعاء والنماء اللذان يدل عليهما لفظا الصلاة والزكاة لم يبقيا مرادين بيقين ونقلت هذه الألفاظ إلى معان أخر شرعية أما مع رعاية المعنى اللغوي أو بدونها فلا يوقف عليه إلا بالتوقيف كما في الوضع الأول انقطع به أي بالاغتراب أثره فلا يوقف عليه إلا بعد الاستفسار

وذكر في نسخة وأنه على مثال رجل غاب عن بلدته ودخل بلدة أخرى لا يعرفه أهل تلك البلدة بالتأمل فيه بل بالرجوع إلى أهل بلدته حتى لو شهد لا يحل للقاضي أن يقضي بشهادته ولا للمزكي أن يعدله إلا بالرجوع إلى أهل بلدته لتعرف حاله فإن طريق دركه متوهم أي مرجو من جهة المجمل وطريق درك المشكل قائم أي ثابت بدون بيان يلتحق به بل يعرف بالتأمل في مواضع اللغة

قوله إلا التسليم استثناء

(١/٨٧)

منقطع من لا طريق قبل الإصابة أي قبل يوم القيامة فإن المتشابهات تنكشف يوم القيامة وهذا أي ما ذكرنا من تفسير المتشابه وهو الذي لا طريق لدركه أصلا

قوله وعندنا لا حظ للراسخين إلا التسليم استثناء متصل من لا حظ أي ليس له موجب سوى اعتقاد الحقية فيه والتسليم وعلى بمعنى مع وهذا بيان حكم المتشابه وأن الوقف معطوف على

قوله لا حظ وفي بعض النسخ وعندنا أن لا حظ وهو أصح واختلفوا في أن الراسخ في العلم هل يعلم تأويل المتشابه فذهب عامة السلف من الصحابة والتابعين رضي اللّه عنهم إلى أنه لا حظ لأحد في ذلك وإنما الواجب فيه التسليم إلى اللّه تعالى مع اعتقاد حقية المراد عنده

وهو مذهب عامة متقدمي أهل السنة والجماعة من أصحابنا وأصحاب الشافعي وهو مختار المصنف وإليه أشار بقوله وعندنا وعلى هذا الوقف على

قوله إلا اللّه واجب لأنه لو وصل فهم أن الراسخين يعلمون تأويله فيتغير الكلام وذهب أكثر المتأخرين إلى أن الراسخ يعلم تأويل المتشابه وأن الوقف على

قوله والراسخون في العلم لا على ما قبله والواو فيه للعطف لا للاستئناف وهو مذهب عامة المعتزلة قالوا لو لم يكن للراسخ حظ في العلم بالمتشابه إلا أن يقولوا آمنا به كل من عند ربنا لم يكن لهم فضل على الجهال لأنهم يقولون ذلك أيضا قالوا ولم يزل المفسرون إلى يومنا هذا يفسرون ويؤولون كل آية ولم نرهم وقفوا عن شيء من القرآن وقالوا هذا متشابه لا يعلمه إلا اللّه بل فسروا الكل وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما أعلم كل القرآن إلا أربعة الغسلين والحنان والرقيم والأواه ثم روي عنه أنه علم ذلك

وروي عنه أنه كان يقول الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه وأنا ممن يعلم تأويله وقد اشتهر عن الصحابة

(١/٨٨)

تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور ويدل على ما ذكرنا ما قال مجاهد وابن جريج والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به وقال القتبي لم ينزل اللّه تعالى شيئا من القرآن إلا لينتفع به عباده ويدل على معنى أراده فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزم للطاعن فيه مقال ولزم منه الخطاب بما لا يفهم ولم يبق فيه فائدة وهل يجوز أن يقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه وإذا جاز أن يعرفه مع

قوله وما يعلم تأويله إلا اللّه جاز أن يعرف الربانيون من الصحابة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين

وأما العامة فقالوا الوقف على

قوله إلا اللّه واجب لأنه أكد أولا بالنفي ثم خصص اسم اللّه بالاستثناء فيقتضي أنه مما لا يشاركه في علمه سواه فلا يجوز العطف على

قوله إلا اللّه كما على لا إله إلا اللّه فقوله والراسخون يكون ثناء مبتدأ من اللّه تعالى عليهم بالإيمان والتسليم بأن الكل من عنده لا عطفا على اسم اللّه عز وجل كذا ذكر في بعض نسخ أصول الفقه والدليل عليه قراءة عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أن تأويله إلا عند اللّه وقراءة أبي وابن عباس في رواية طاوس عنه ويقول الراسخون

ولأنه تعالى ذم من اتبع المتشابه ابتغاء التأويل كما ذم على اتباعه له ابتغاء الفتنة بأن يجريه على الظاهر من غير تأويل ومدح الراسخين بقولهم كل من عند ربنا وبقولهم ربنا لا تزغ قلوبنا أي لا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ فاتبعوا المتشابه مؤولين أو غير مؤولين فدل هذا على أن الوقف على

قوله إلا اللّه لازم وروي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية وقال إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم اللّه فاحذروهم أمر بالحذر من غير فصل بين متابع ومتابع فيتناول الجميع وروي عنها أيضا أن النبي عليه السلام لم يفسر من القرآن إلا آيات علمهن جبريل عليه السلام فمن قال أنا أفسر الجميع فقد تكلف فيه ما لم يتكلفه الرسول عليه السلام ثم قيل لا اختلاف في هذه المسألة في الحقيقة لأن من قال بأن الراسخ يعلم تأويله

(١/٨٩)

أراد أنه يعلمه ظاهرا لا حقيقة ومن قال إنه لا يعلمه أراد أنه لا يعلمه حقيقة وإنما ذلك إلى القديم سبحانه وتعالى وقيل كل متشابه يمكن رده إلى محكم فإن الراسخ يعلم تأويله كقوله تعالى نسوا اللّه فنسيهم فهذا متشابه يمكن رده إلى قوله تعالى لا يضل ربي ولا ينسى الذي هو محكم لا يحتمل التأويل فيكون معناه جازاهم النسيان وهو الترك والإعراض وكل متشابه لا يمكن رده إلى محكم فالراسخ لا يعلم تأويله كقوله تعالى يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي ثم الراسخ في العلم هو الثابت المستقيم الذي لا يتهيأ استزلاله وتشكيكه وقيل هو الذي حقق العلم لبسط الفروع بالاجتهاد حتى رسخ في قلبه

وقيل هو الذي حقق العلم بالمعرفة والقول بالعمل وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم الراسخ من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه وعف بطنه وفرجه

قوله وأهل الإيمان جواب عما يقال الخطاب المنزل إما للتعريف أو للتكليف ولا بد فيهما من علم المخاطب ليمكنه العمل به أو يحصل له المعرفة به فإذا انسد باب العلم به أصلا خلا عن الحكمة لأن من خاطب عبده بشيء لا يفهمه لا يعد من الحكمة ولم يكن إذ ذاك فرق بينه وبين أصوات الطيور فبين الحكمة بقوله وأهل الإيمان على طبقتين أي منزلتين في العلم منهم من يطالب أي يؤمر بالإمعان أي المبالغة في السير أي في الطلب من أمعن الفرس إذا تباعد في عدوه لكونه مبتلى بضرب من الجهل إنما قال بضرب ولم يقل بالجهل لأنه لا يصح تكليف من لم يعلم شيئا أصلا فأنزل المحكم والمفسر ونحوهما ابتلاء لمثله ومنهم من يطالب بالوقف أي بالوقوف عن الطلب لأن الوقف يستعمل بمعنى اللازم وإن كان متعديا يقال على رأس هذه الآية وقف أي وقوف أو معناه وقف النفس عن الطلب أي حبسها

فأنزل المتشابه تحقيقا للابتلاء أي في حقه أو تتميما للابتلاء في حق الكل وهذا هو المعنى في الابتلاء بإنزال المجمل والمشكل والخفي فإن الكل لو كان ظاهرا جليا بطل معنى الامتحان ونيل الثواب بالجهد في الطلب ولو كان الكل مشكلا خفيا لم يعلم شيء حقيقة فجعل بعضها جليا ظاهرا وبعضها خفيا ليتوسل بالجلي

(١/٩٠)

إلى معرفة الخفي بالاجتهاد وإتعاب النفس وإعمال الفكر فيتبين المجد من المقصر والمجتهد من المفرط فيكون ثوابهم بقدر اجتهادهم ومراتبهم على قدر علومهم فيظهر فضيلة الراسخين في العلم لحاجة الناس إلى الرجوع إليهم والاقتداء بهم ولولا ذلك لاستوت الأقدام ولم يتميز الخاص من العام ولذهب التفاوت بين الناس ولا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا استووا هلكوا وقال اللّه تعالى ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ووجه آخر أنه تعالى ابتلى عباده بضروب من العبادات بعضها على كل البدن كالصلاة ونحوها وبعضها متفرق على الأعضاء بحسب ما يليق بكل عضو إقداما وامتناعا والقلب أشرف الأعضاء فابتلاه بإنزال الخفي والمشكل والمتشابه ليتعب بالتفكر فيما سوى المتشابه فيخرجه على موافقة الظاهر الجلي ويمتنع عن التفكر في المتشابه معتقدا حقيته فيكون ذلك عبادة منه كعبادات سائر الأعضاء بالإقدام والامتناع وذكر في عين المعاني الحكمة في إنزال المتشابه ابتلاء العقل لأن في تكليف الأحكام ابتلاء العاقل وله من تفهم معانيها وحكمها مفزع إلى العقل فلو لم يبتل العقل الذي هو أشرف الخلائق لاستمر العالم في أبهة العلم على المرودة وما استأنس إلى التذلل لعز العبودة

والحكيم إذا صنف كتابا ربما أجمل فيه إجمالا وأبهم فيما أفهم منه إشكالا ليكون موضع جثوة التلميذ لأستاذه انقيادا فلا يحرم باستغنائه برأيه هداية منه وإرشادا فالمتشابه هو موضع جثوة العقول لبارئها استسلاما واعترافا بقصورها والتزاما

قوله وهذا أعظم الوجهين بلوى أي الوقف عن الطلب أعظم ابتلاء من الإمعان في الطلب لأن العقل جبل على صفة يتأمل في غوامض الأشياء ليقف على حقائقها فكان منعه عن ذلك أشد عليه من حمله على تحصيل ما يميل إليه كما أن الابتلاء بالترك في حق سائر الجوارح أشد من الابتلاء بالعمل لأن النفس مائلة إلى الشهوات فكان امتناعها عنها أشق عليها من الإقدام على العمل ولهذا كان ثوابه أجزل كما أشار إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله لترك ذرة مما نهى اللّه أفضل من عبادة الثقلين ولهذا اختص به الراسخون في العلم لأن ابتلاء الرجل على قدر دينه قال عليه السلام إن أشد الناس بلاء الأنبياء

ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل وأعمها نفعا أي في الدنيا بالأمن من الوقوع في الزيغ والزلل بسبب الاتباع وجدوى أي في الآخرة بكثرة الثواب لأنه لما كان أعظم ابتلاء كان الصبر فيه أشد

(١/٩١)

فيكون الثواب فيه أكثر وبلوى وجدوى كلاهما بلا تنوين كدعوى ثم الخلف مع كون هذه الطريقة أسلم وأعم نفعا عدلوا عنها واشتغلوا بتأويل المتشابه لظهور أهل البدع والأهواء بعد انقراض زمان السلف وتمسكهم بالمتشابهات في إثبات مذاهبهم الباطلة فاضطر الخلف إلى إلزامهم وإبطال دلائلهم فاحتاجوا إلى التأويل

ولهذا قيل طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم

قوله ومثاله المقطعات أي مثال المتشابه الحروف المقطعة أي الحروف التي يجب أن يقطع في التكلم كل حرف منها عن الباقي بأن يؤتى باسم كل منها على هيئته كقوله ألف لام ميم بخلاف

قوله ألم فإنه يجب أن يوصل بعضها ببعض ليفيد المعنى وهذه الألفاظ وإن كان اسما حقيقة لكنها تسمى حروفا باعتبار مدلولاتها تجوزا ثم قيل هي من المتشابهات التي لم يطلع اللّه عليه الخلائق إلا من شاء منهم فيجب الإيمان بها ولا يطلب لها التأويل وقيل هي من ألسن الملائكة التي تفهم بعضهم من بعض وألسن الطيور والدواب فيحتمل أن يكون هذا مما لا يطلعنا اللّه تعالى ويعرفه الرسول بتعليم الملائكة إياه وقيل إنها ليست من المتشابه بل هي من جنس التكلم بالرمز فيحتمل التأويل فيقبل كل تأويل احتمله ظاهر الكلام لغة ولا يرده الشرع ولا يقبل تأويلات الباطنية التي خرجت عن الوجوه التي يحتملها ظاهر اللغة وأكثرها مخالفة للعقل والآيات المحكمة لأنها ترك للقرآن لا تأويل كذا في شرح التأويلات والدليل على أنها ليست من المتشابهات تأويل بعض السلف مثل ابن عباس وغيره هذه الحروف من غير رد وإنكار عليهم من الباقين ولم ينقل عن أحد منهم تأويل الوجه واليد والاستواء بل كانوا يزجرون عن ذلك حتى قال مالك بن أنس رحمه اللّه حين سئل عن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى الاستواء غير مجهول والكيف منه غير معقول والإيمان به واجب والشك فيه شرك والسؤال عنه بدعة ولما كان القول الأول قول الأكثر اختاره المصنف

ثم قال ومثاله إثبات رؤية اللّه تعالى ولم يقل وكذلك إثبات رؤية اللّه كما قال وكذلك إثبات الوجه واليد فرقا بين ما هو مختلف في كونه متشابها وبين ما هو متشابه بالاتفاق أو فرقا بين ما تشابه لفظه وبين ما تشابه معناه

وقوله إثبات رؤية اللّه أي إثبات كيفيتها لأن نفس الرؤية ليست بمتشابهة كذا قيل والمراد من الإثبات إثباتها في الاعتقاد لا في نفس الأمر إذ لا يمكن ذلك لأنه يؤدي إلى الحدوث بل هي في نفس الأمر ثابتة

وقوله لأنه موجود بصفة الكمال إشارة إلى علة جواز الرؤية فإنها الوجود

(١/٩٢)

عندنا على ما عرف

وقوله وأن يكون مرئيا لنفسه ولغيره من صفات الكمال لأن في الشاهد عدم رؤية ما عرف موجودا أمارة العجز والنقصان لأن من يتستر عن الناس إنما يتستر لعيب به ولنقصان حل فيه أو لعجزه عن مقاومة الناس في إيذائهم إياه واللّه تعالى غالب على كل شيء وهو أجمل من كل جميل منزه عن النقائص والعيوب موصوف بصفات الكمال فيجوز أن يكون مرئيا لأنه من صفات الكمال

وقوله والمؤمن لإكرامه بذلك أهل أي المؤمن أهل لأن يكرم بتلك الكرامة وإنما قال هذا لأن الشيء قد يمتنع لعدم الأهل

وإن كان في نفسه ممكنا فقال الرؤية ممكنة عقلا والمؤمن أهل لها كما هو أهل لغيرها من الكرامات التي لم تخطر على قلب بشر وقد ورد بها السمع فيجب القول بثبوتها واعلم أن أكثر المعتزلة يقولون بأن اللّه تعالى يرى ذاته ولكن لا يرى وطائفة منهم أنكروا أن يرى ويرى فقوله أن يكون مرئيا لنفسه رد لقول هذه الطائفة وإشارة إلى الإلزام على الأكثر لأنه تعالى لما كان يرى ذاته كانت رؤية ذاته ممكنة في نفس الأمر لأنه تعالى لا يوصف بما هو مستحيل ألا ترى أنه جل جلاله لا يوصف بأنه يرى المعدوم لأن رؤية المعدوم مستحيلة ولما كانت ممكنة يجوز أن يراه المؤمنون بلا كيف وجهة كما يرى هو نفسه بلا كيف وجهة

قوله لكن إثبات الجهة ممتنع لأن من شرط الرؤية في الشاهد أن يكون المرئي في جهة من الرائي وأن يكون مقابلا له ومحاذيا ويكون بينهما مسافة مقدرة لا في غاية القرب ولا في غاية البعد وكل ذلك على اللّه تعالى محال فصار إثبات الرؤية بوصفه أي بكيفيته متشابها أي بحيث لا يدرك بالعقل فنسلم ذلك إلى اللّه تعالى ولا نشتغل بالتأويل ومن جوز التأويل من المحققين المتأخرين قال لا نسلم أن ما ذكروا من القرائن اللازمة بل هي من الأوصاف الاتفاقية وذلك لأن المرئي في الشاهد ذو جهة يتحقق في حقه المقابلة فيرى كذلك فأما اللّه تعالى فمنزه عن الجهة والمقابلة والمسافة فيرى كما هو أيضا لأن الرؤية تحقق الشيء بالبصر كما هو والدليل عليه أن اللّه تعالى يرانا قال تعالى ألم يعلم بأن اللّه يرى وقد اعترف بذلك كثير من المعتزلة ورؤية اللّه تعالى إيانا من غير مقابلة ولا جهة فعلم أنها ليست من القرائن اللازمة للرؤية لأن ما كان من القرائن اللازمة الذاتية لا يتبدل بين الشاهد والغائب بل هي من الأوصاف الاتفاقية ككون الثاني في الشاهد محدثا وذا صورة ودم ولحم مع فوات هذه الأوصاف في الغائب بالاتفاق لكون هذه الأوصاف اتفاقية فعلى هذا لم يبق التشابه في الوصف أيضا لزواله بالتأويل واللّه الهادي

(١/٩٣)

قوله وكذلك أي وكإثبات الرؤية إثبات الوجه واليد للّه تعالى حق عندنا فبقوله عندنا احترز عن قول من قال لا يوصف اللّه تعالى سبحانه بالوجه واليد بل المراد من الوجه الرضاء أو الذات ونحوهما ومن اليد القدرة أو النعمة ونحوها فقال الشيخ بل اللّه تعالى يوصف بصفة الوجه واليد مع تنزيهه جل جلاله عن الصورة والجارحة لأن الوجه واليد من صفات الكمال في الشاهد لأن من لا وجه له أو لا يد يعد ناقصا وهو تعالى موصوف بصفات الكمال فيوصف بهما أيضا إلا أن إثبات الصورة والجارحة مستحيل وكذا إثبات الكيفية فتشابه وصفه فيجب تسليمه على اعتقاد الحقية من غير اشتغال بالتأويل واعلم أن في أمثال ما ذكرنا يتبع اللفظ الذي ورد به النص من الكتاب والسنة فلا يشتق منه الاسم ولا يقال اللّه تعالى متوجه إلى فلان بنظر الرحمة أو العناية ولا يبدل بلفظ آخر لا بالعربية ولا بغيرها فلا يبدل لفظ العين بالباصرة ولا لفظ القدم بالرجل ولا يقال بالفارسية أيضا جثم خداي وروى خداي ودست خداي وغير ذلك

قوله ولن يجوز إبطال الأصل أي لا يجوز الحكم بأن القول الرؤية والوجه واليد باطل بالعجز عن درك الوصف أي الكيفية لما فيه من إبطال المتبوع بالتبع والأصل بالفرع وذلك كمن رأى شخصا على شط نهر عظيم لا يتصور العبور منه بدون سفينة وملاح ثم رأى ذلك الشخص في الجانب الآخر من غير أن يشاهد سفينة وملاحا لا يمكنه أن ينكر عبوره من النهر وإن لم يدرك كيفية العبور فكذا فيما نحن فيه لما ثبت بالدلائل القاطعة جواز الرؤية وصفة الوجه واليد للّه سبحانه لا يجوز إنكارها بالعجز عن درك أوصافها والجهل بطريق ثبوتها فإنهم ردوا الأصول يجوز أن يكون معناه ردوا أصل الرؤية والوجه واليد لجهلهم بالصفات اللام في الصفات بدل المضاف إليه أي بكيفياتها

ويجوز أن يكون معناه ردوا الأصول أي الصفات جمع بأن قالوا ليس له صفة العلم والقدرة والحياة وغيرها لجهلهم بالصفات أي بكيفية ثبوتها بأن اشتبه عليهم طريقه وذلك لأن الصانع القديم واحد لا شريك له والصفات لو ثبتت لكانت غير الذات لا محالة لأن الصفة إذا لم تكن هي الذات فهي غير الذات لا محالة كزيد لما لم يكن عمرا كان غير عمر ولا محالة والقول بإثبات الأشياء المتغايرة في الأزل مناف للتوحيد ومن هذا سموا أنفسهم أهل التوحيد ولم يعلموا أنهم أبطلوا توحيدهم بتوحيدهم ويدل على هذا الوجه

قوله فصاروا

(١/٩٤)

معطلة أي فرقة معطلة أي قائلة بخلو الذات عن الصفات والتعطيل في الأصل نزع الحلي من امرأة مأخوذ من عطلت المرأة عطلا إذا خلا جيدها من القلائد إلا أنه يستعمل في التخلية عن الصفات لأنها بمنزلة الزينة ولهذا يقال حليته كذا أي هيئته التي هي صفته لأن تزينه بها ويجوز أن يكون مأخوذا من العطلة أي عطلوا النصوص وتركوها بلا عمل فصاروا معطلة لها

(١/٩٥)

قوله وتفسير القسم الثالث أي بالنسبة إلى أصل التقسيم وفي بعض النسخ الرابع أي بالنسبة إلى القسم المقابل الحقيقة كل لفظ أريد به ما وضع له قد ذكرنا أن ذكر كلمة كل في التعريف مستبعد واعتذرنا عنه

وقوله كل لفظ إشارة إلى أن الحقيقة من عوارض الألفاظ لا المعاني وكذا المجاز إذ المراد من كلمة ما في تعريفه اللفظ أيضا واعلم أن الحقيقة ثلاثة أقسام لغوية وشرعية وعرفية والسبب في انقسامها هذا هو أن الحقيقة لا بد لها من وضع والوضع لا بد له من واضع فمتى تعين نسبت إليه الحقيقة فقيل لغوية إن كان صاحب وضعها واضع اللغة كالإنسان المستعمل في الحيوان الناطق وقيل شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع كالصلاة المستعملة في العبادة المخصوصة ومتى لم يتعين قيل عرفية سواء كان عرفا عاما كالدابة لذوات الأربع أو خاصا كما لكل طائفة من الاصطلاحات التي تخصهم كالنقض والقلب والجمع والفرق للفقهاء والجوهر والعرض والكون للمتكلمين والرفع والنصب والجر للنحاة ولا يستراب في انقسام المجاز إلى نحو هذه الثلاثة فإن الإنسان المستعمل في الناطق مجاز لغوي والصلاة المستعملة في الدعاء مجاز شرعي وإن كانت حقيقة لغوية والدابة المستعملة في كل ما يدب مجاز عرفي وإن كانت حقيقة لغوية وإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد من الوضع وهو تعيين اللفظة بإزاء معنى بنفسها في التعريفين مطلق الوضع فيدخل فيهما الأقسام الستة ولا بد في تعريف المجاز من قيد وهو أن يقال لعلاقة مخصوصة بين المحلين أو نحوه كما ذكر صاحب المختصر لاتصال بينهما معنى أو ذاتا وإلا ينتقض بما إذا استعمل لفظ السماء في الأرض فإنه ليس بمجاز وإن كان مستعملا في غير ما وضع له بل هو وضع جديد

ولا يقال تعريف المجاز بما ذكر مع هذا القيد الذي شرطت غير جامع لخروج التجوز بتخصيص الاسم ببعض مسمياته في اللغة كتخصيص الدابة بذوات الأربع عنه إذ ليس هو مستعملا في غير ما وضع له وخروج

(١/٩٦)

التجوز بزيادة الكاف في مثل قوله تعالى ليس كمثله شيء عنه لعدم استعمالها في شيء أصلا وغير مانع لدخول الحقيقة العرفية والشرعية فيه لكونهما مستعملتين في غير ما وضعتا له والحقيقة من حيث هي حقيقة لا تكون مجازا لأنا نجيب عن الأول بأن حقيقة المطلق مخالفة لحقيقة المقيد من حيث هما كذلك وإذا كان لفظ الدابة حقيقة في مطلق كل دابة فاستعماله في الدابة المقيدة على الخصوص يكون استعمالا له في غير ما وضع له وعن الثاني بأن الكاف إذا لم يكن لها معنى كانت مستعملة لا فيما وضعت له أولا وعن الثالث بأنهما وإن كانتا حقيقتين بالنسبة إلى تواضع أهل الشرع والعرف فلا يخرجان بذلك عن كونهما مجازين بالنسبة إلى استعمالهما في غير ما وضعتا له أولا في اللغة إذ لا تناقض بين كون اللفظ حقيقة باعتبار ومجازا باعتبار آخر واختار بعض الأصوليين في تعريفهما أن الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به وقد دخل فيه الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية

والمجاز ما أفيد به غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة التي وقع التخاطب بها لعلاقة بينه وبين الأول وقد دخل فيه المجاز اللغوي والشرعي والعرفي أيضا ولكن لقائل أن يقول هذا التعريف يقتضي خروج الاستعارة عنه وكذا التعريف المذكور في الكتاب لأنا إذا قلنا على وجه الاستعارة هذا أسد قدرنا صيرورته في نفسه أسدا لبلوغه في الشجاعة التي هي خاصة الأسد إلى الغاية القصوى ثم أطلقنا عليه اسم الأسد فلا يكون هذا استعمالا للفظ في غير موضوعه ويجاب عنه أن تعظيمه بتقدير حصول قوة له مثل قوة الأسد لا يوجب تحقيق ذلك والتعريف للحقائق فيكون استعمال لفظ الأسد فيه استعمالا له في غير موضعه حقيقة وذكر صاحب المفتاح فيه أن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع كاستعمال الأسد في الهيكل المخصوص فلفظ الأسد موضوع له بالتحقيق ولا تأويل فيه قال وإنما ذكرت هذا القيد ليحترز به عن الاستعارة ففي الاستعارة تعد الكلمة مستعملة فيما هي موضوعة له على أصح القولين ولا نسميها حقيقة لبناء دعوى المستعار موضوعا للمستعار له على ضرب من التأويل قال والمجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع قال وقولي بالتحقيق احتراز من خروج الاستعارة التي هي من باب المجاز نظرا إلى دعوى

(١/٩٧)

استعمالها فيما هي موضوعة له وقولي مع قرينة مانعة إلى آخره احتراز عن الكناية فإن الكناية تستعمل وتراد بها المكنى فتقع مستعملة في غير ما هي موضوعة له مع أنا لا نسميها مجازا لعرائها عن هذا القيد

واعلم أن فعيلا إذا كان بمعنى الفاعل يلحقه تاء التأنيث لقرب الفاعل من الفعل الذي هو الأصل في لحوق تاء التأنيث به وإذا كان بمعنى المفعول غير جار على موصوف فكذلك تقول مررت بقتيل بني فلان وقتيلتهم رفعا للالتباس وإن كان جاريا على موصوف لا يلحقه التاء تقول رجل قتيل وامرأة جريح ثم الحقيقة إما فعيلة بمعنى فاعل من حق الشيء يحق إذا وجب وثبت وإليه أشار المصنف

وإما بمعنى مفعول من حققت الشيء أحقه إذا أثبته فيكون معناها الثابتة أو المثبتة في موضعها الأصلي والتاء للتأنيث إذا كانت بالمعنى الأول ولشبه التأنيث وهو نقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة كالنطيحة والأكيلة إذا كانت بالمعنى الثاني لأن النقل ثان كما أن التأنيث ثان وقال صاحب المفتاح هي عندي للتأنيث في الوجهين بتقدير لفظ الحقيقة قبل التسمية صفة مؤنث غير مجراة على الموصوف والمجاز مفعل بمعنى فاعل من الجواز بمعنى العبور والتعدي لأن الكلمة إذا استعملت في غير موضوعها فقد تعدت موضعها وهو المراد من

قوله متعد من أصله أي عن موضعه الأصلي ولهذا قيل إنه حقيقة عرفية في معناه مجاز لغوي لأن بناء المفعل للموضع أو للمصدر حقيقة لا للفاعل فإطلاقه على اللفظ المنتقل لا يكون إلا مجازا ولأن حقيقة معنى العبور والتعدي إنما تحصل في انتقال الجسم من حيز إلى حيز فأما في الألفاظ فلا فثبت أن ذلك إنما يكون على سبيل التشبيه

وكذا لفظ الحقيقة في مفهومه مجاز لغوي حقيقة عرفية أيضا لما ذكرنا أنها مأخوذة من الحق وهو حقيقة في الثابت ثم إنه نقل إلى العقد المطابق لأنه أولى بالوجود من العقد الغير المطابق ثم نقل إلى القول المطابق لعين هذه العلة ثم نقل إلى استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي إذ استعماله فيه تحقيق لذلك الوضع فظهر أنه مجاز واقع في الرتبة الثالثة بحسب اللغة الأصلية كذا قيل وذكر الغزالي في المستصفى أن لفظة الحقيقة مشتركة قد يراد بها ذات الشيء وحده ولكن إذا استعملت في الألفاظ أريد بها ما استعمل في موضوعه فهذا يدل على أن لفظ الحقيقة في مفهومه حقيقة لغوية أيضا وهو الأصح لأن الحقيقة اسم للثابتة لغة واللفظ المستعمل في موضوعه ثابت فيه فيكون إطلاق الحقيقة

(١/٩٨)

عليه بالحقيقة لا بالمجاز واعلم أيضا أن اللفظ بعد الوضع قبل الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز لأن شرطهما استعمال اللفظ بعد الوضع أما في موضوعه أو في غير موضوعه للعلاقة كما بينا وانتفاء المشروط بانتفاء الشرط غني عن البيان وإلى ما ذكرنا إشارة في

قوله أريد به ما وضع له وأريد به غير ما وضع له

قوله ولا ينال الحقيقة إلا بالسماع أي لا يوجد ولا يعرف كون اللفظ حقيقة فيما استعمل فيه إلا بالسماع من أهل اللغة أنه موضوع فيما استعمل فيه بخلاف المجاز فإنه يوقف عليه بالتأمل في طريقه أو معناه لا يمكن أن يستعمل اللفظ في موضوعه إلا بالسماع من أهل اللغة أنه موضوع فيه بخلاف المجاز فإنه يمكن أن يستعمل اللفظ في غير موضوعه من غير سماع أنهم استعملوه فيه

وحاصله أن استعمال اللفظ في مفهومه الحقيقي لغير الواضع موقوف على السماع بالاتفاق لأن دلالات الألفاظ لما لم تكن ذاتية إذ لو كانت ذاتية لما اختلفت باختلاف الأماكن والأمم ولاهتدى كل إنسان إلى كل لغة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم لا بد فيها من الوضع ولا بد فيه من السماع فأما استعمال اللفظ في معناه المجازي فلا يفتقر في كل فرد إلى السماع وإن كان يفتقر في معرفة طريقه إليه كإطلاق اسم الملزوم على اللازم والسبب على المسبب والخاص على العام وعكسهما وهو المراد من

قوله والمجاز ينال بالتأمل في طريقه وهو مذهب الجمهور وذهبت طائفة إلى اشتراط السماع في كل فرد من المجاز محتجين بأن السماع لو لم يشترط لجاز إطلاق النخلة على طويل غير إنسان كمنارة مثلا لوجود العلاقة المعتبرة التي هي كافية في جواز الإطلاق عندكم وهي المشابهة الصورية ولجاز إطلاق الشبكة على الصيد وإطلاق الابن على الأب وعكسهما للمجاورة والملازمة وكل ذلك ممتنع ولأنه لو جاز إطلاق الاسم على الشيء للعلاقة من غير السمع كإطلاق النخلة على المنارة مثلا فإن كان هذا الإطلاق لأنها أطلقت على الإنسان للطول وهو موجود في المنارة لكان هذا قياسا في اللغة وهو باطل وإلا كان اختراعا من المطلق وحينئذ لا يكون من لغة العرب وكلامنا فيها واحتج الجمهور بأنا نجد أهل العربية إذا وجدوا بين محلي الحقيقة والمجاز العلاقة المعتبرة يطلقون الاسم وإن لم يسمع من العرب استعمال تلك اللفظة فيه ولو كان السماع شرطا لتوقفوا في الإطلاق على النقل لاستحالة وجود المشروط بدون الشرط

وبأن الكل اتفقوا على أن استعمال اللفظ في مفهومه المجازي مفتقر إلى النظر في العلاقة المعتبرة وما يكون نقليا لا يكون كذلك إذ يكفي في استعمال اللفظ فيه كونه منقولا عن أهل اللغة كما في جميع المستعملات فإنا إذا رأيناهم استعملوا لفظا بإزاء معنى تابعناهم

(١/٩٩)

في إطلاقه عليه من غير نظر إلى شيء آخر والجواب عما ذكروا من عدم جواز الإطلاقات المذكورة أن وجود العلاقة إنما يكفي للإطلاق إذا كانت العلاقة معتبرة ولم يكن ثمة مانع وفي الصورتين الأوليين العلاقة ليست بمعتبرة لأن مجرد الطول ليس بمعتبر إذ هو معنى عام ولم يطلق على الإنسان لمجرد الطول بل له ولغيره من الأوصاف وكذا لا ملازمة بين الشبكة والصيد إذ الصيد قد يحصل بدون الشبكة والشبكة قد لا يحصل بها الصيد وفي الصورة الأخيرة المانع موجود لأنهما من المتقابلات وفي مثله لا يعتبر المجاورة

وأما قولهم لو جاز لكان قياسا أو اختراعا فلا نسلم أنه لو لم يكن قياسا لكان اختراعا لأنه إنما يكون كذلك لو لم يكن معلوما من مجاري كلامهم صحة الإطلاق لكنه ليس كذلك لأنا قد استقرأنا كلامهم فعلمنا أن العلاقة مصححة للإطلاق كما في رفع الفاعل ونصب المفعول وغيرهما من المسائل المعلومة وإلا لزم مما ذكرتم كون رفع الفاعل فيما لم يسمع عنهم قياسا أو اختراعا وأنتم لا تقولون به

وقوله ولا تسقط عن المسمى أبدا من إحدى العلامات الذي يميز بها الحقيقة عن المجاز ومعناه أن الحقيقة لا ينفي عن مسماها بحال بخلاف المجاز فإنه يمكن نفيه عن مفهومه في نفس الأمر ولهذا لما لم يصح أن ينفي لفظ الأسد عن الهيكل المخصوص وصح أن ينفي عن الإنسان الشجاع علمنا أنه حقيقة في الأول مجاز في الثاني وقيل التعريف بهذه العلامة غير مفيد لاستلزامه الدور وذلك لتوقف النفي وامتناعه على كون اللفظ مجازا أو حقيقة فإن من تردد في كون اللفظ حقيقة أو مجازا إنما يصح منه النفي لو علم كونه مجازا ويمتنع منه لو علم كونه حقيقة فلو توقف كونه حقيقة أو مجازا على صحة النفي وامتناعه لزم الدور

ولو قيل المراد من صحة النفي وعدم صحته وجدانه في مجاري استعمالاتهم وعدم وجدانه فيها ليندفع الدور فهو بعيد لأن الوجدان إن صلح علامة للمجاز ح فعدم الوجدان لا يصلح علامة للحقيقة إذ عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود الذي هو المطلوب فالأولى أن يجعل امتناع النفي في الحقيقة وصحته في المجاز من الخواص لا من العلامات بل المعتبر من العلامات أن اللفظ إذا تبادر مدلوله إلى الفهم عند الإطلاق بلا قرينة فهو حقيقة وإن لم يتبادر إليه إلا بالقرينة فهو مجاز لأن أهل اللغة إذا أرادوا إفهام المعنى للغير اقتصروا على عبارات مخصوصة وإذا عبروا عنه بعبارات أخر لم يقتصروا عليها بل ذكروا معها قرينة

قوله ومثال المجاز إلى آخره يعني كما أن النص لا يعرف إلا بالتوقيف ولكن يمكن أن يوقف على حكم الفرع من غير توقيف بسلوك طريقه وهو التأمل في النص

(١/١٠٠)

واستخراج الوصف المؤثر فإذا وجد ذلك في الفرع يعدى الحكم إليه فكذلك الحقيقة لا يمكن أن يثبت في محل إلا بالسماع من أهل اللغة ولكن المجاز يمكن أن يثبت في محل بالتأمل في طريقه من غير سماع وهو التأمل في محل الحقيقة واستخراج المعنى المشهور اللازم له فإذا وجد في محل آخر يجوز أن يستعار اللفظ له فيصح هذا من كل متكلم كما يصح القياس من كل مجتهد إلا أن المعتبر في القياس المعاني الشرعية وفي المجاز المعاني اللغوية

(١/١٠١)

قوله

وأما الصريح فما ظهر المراد منه ظهورا بينا أي انكشف انكشافا تاما وهو احتراز عن الظاهر وقيل لا بد فيه من قيد وهو أن يقال بالاستعمال أو بالعرف ونحوهما ليتميز عن المفسر والنص إذ الفرق بين الصريح وبين ما ذكرنا ليس إلا بكثرة الاستعمال في الصريح وعدمه في المفسر والنص إليه أشير في الميزان إلا أن الشيخ رحمه اللّه ترك ذكره لدلالة مورد التقسيم عليه إذ هذا القسم في بيان وجوه الاستعمال فعلى هذا لا يدخل فيه إلا الحقائق العرفية وقيل لا حاجة إلى هذا القيد لأن تمام انكشاف المعنى قد يحصل بالتنصيص والتفسير كما يحصل بكثرة الاستعمال فكما يدخل فيه الحقائق العرفية يدخل فيه النص والمفسر ويكون كل واحد قسما من أقسام الصريح ولكن لا يدخل فيه الظاهر لأن الشرط فيه كون الظهور بينا أي تاما وليس هو في الظاهر كذلك بل فيه مجرد الظهور ولهذا توصف الإشارة بالظهور فيقال هذه إشارة ظاهرة وهذه غامضة ولا توصف بالصراحة أصلا لعدم تمام الانكشاف فيها ويؤيده ما ذكره السيد الإمام أبو القاسم رحمه اللّه أن الصريح هو الذي يعرف مراده معرفة جلية وما ذكر الشيخ القاضي أبو زيد وشمس الأئمة رحمهما اللّه أن الصريح اسم لكلام مكشوف المعنى كالنص سواء كان حقيقة أو مجازا قلت هذا كلام حسن إذ لا استبعاد في تسمية النص أو المفسر صريحا وقد رأيت في كثير من الكتب ما يدل عليه إلا أن مورد التقسيم ههنا يوجب اشتراط الاستعمال فيه ولا يتحقق ذلك في النص والمفسر إذ ظهورهما باللغة لا بالاستعمال فتبين أن ما ذكرنا أولا أصح ثم لما استوى في الصريح الحقيقة والمجاز جمع الشيخ في إيراد النظائر بين ما هو مجاز لغوي وبين ما هو حقيقة لغوية فقوله أنت حر وأنت طالق ونكحت من قبيل الأول

وقوله بعت من قبيل الثاني

وقوله وهذا اللفظ أي الصريح موضوع لهذا المعنى أي لما ظهر المراد منه ظهورا

(١/١٠٢)

بينا إشارة إلى أنه من الأسماء المقررة وهي التي قررت على موضوعها اللغوي في العرف أو الشرع كالبيع والشراء لا من الأسماء المغيرة وهي التي غيرت عن موضوعها فيه كالصلاة والزكاة وهي فعيل بمعنى فاعل من صرح يصرح صراحة وصروحة إذ خلص وانكشف وتصريح الخمر أن يذهب عنه الزبد وصرح فلان بما في نفسه أي أظهره

قوله والصريح الخالص من كل شيء كلمة من متعلقة بالصريح أي الصريح من كل شيء خالصه قيل في الصحاح وكل خالص صريح ويجوز أن تكون متعلقة بالخالص أي الذي خلص من كل شيء وهو الصريح وكلاهما واحد فلما خلص هذا اللفظ عن محتملاته بمنزلة المفسر سمي صريحا

قوله وهو ما استتر المراد به أي خلاف الصريح لفظ استتر المعنى الذي أريد به وإنما فسر خلاف الصريح به لأن خلاف الشيء قد يكون نقيضه وقد يكون ضده فإن كان المراد من الخلاف ههنا نقيضه فهو ما لم يظهر المراد به ظهورا بينا وأنه يتناول الظاهر وهو ليس بكناية وكذا يتناول النص والمفسر والخفي والمشكل وغيرها إن قدر قيد الاستعمال وقيل هو ما لم يظهر المراد به بالاستعمال ظهورا بينا وفساده ظاهر وإن كان المراد ضده فهو ما استتر المراد به استتارا تاما ولا يوجد ذلك إلا في المجمل فلا يكون التعريف جامعا ولا مانعا فالشيخ بهذا التفسير بين أن المراد من خلاف الصريح ضده وهو الاستتار لا نقيضه إذ هو أولى بالتعريف به من نقيضه وهو عدم الظهور لكون الأول وجوديا

والثاني عدميا وبين أيضا بترك

قوله استتارا تاما أن

قوله ظهورا بينا في تعريف الصريح لزيادة البيان إذ هو مفهوم من تقدير قيد الاستعمال لأنه من لوازمه ثم لا بد من القيد المذكور أيضا عند من قال باشتراطه في الصريح بأن يقال هو ما استتر المراد به بالاستعمال أي يحصل الاستتار بالاستعمال بأن يستعملوه قاصدين للاستتار فإنه مقصود عندهم لأغراض صحيحة

وإن كان معناه ظاهرا في اللغة كما أن الانكشاف يحصل في الصريح باستعمالهم وإن كان خفيا في اللغة وعند من لم يقل باشتراطه في الصريح لا يشترط ههنا فيدخل فيه المشترك والمشكل وأمثالهما وعليه يدل كلام القاضي الإمام فإنه قال كل كلام يحتمل وجوها يسمى كناية ولهذا سمي المجاز قبل أن يصير متعارفا كناية لاحتمال الحقيقة وغيرها إلا أن الصحيح هو الأول لما ذكرنا من اشتراط اشتراك مورد التقسيم بين الأقسام ولا يحصل ذلك إلا باشتراط هذا القيد ثم إذا تأملت علمت أن المراد من الاستعمال وهو التلفظ بكلام لإفادة معنى في مورد التقسيم وهو

قوله والقسم الثالث في وجوه استعمال ذلك النظم مطلق الاستعمال إذ الاستعمال في الحقيقة والمجاز غير الاستعمال في الصريح إذ هو فيه مقيد بالكثرة وفي الحقيقة مقيد بالموضوع وفي المجاز بغير الموضوع وهو في الكناية غيره في الصريح إذ هو

(١/١٠٣)

فيها مقيد بقصد الاستتار فلا بد حينئذ من قدر مشترك أي معنى جامع ليستقيم التقسيم وليس ذلك إلا مطلق الاستعمال فافهم وقال صاحب المفتاح في تعريف الكناية هي ترك التصريح بذكر الشيء إلى ما يلزمه لينتقل من المذكور إلى المتروك كما تقول فلان طويل النجاد لينتقل منه إلى ما هو ملزومه وهو طول القامة والفرق بين المجاز والكناية من وجهين

أحدهما أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة بلفظها فلا يمتنع في قولك فلان طويل النجاد أن تريد طول نجاده من غير ارتكاب تأويل مع إرادة طول قامته والمجاز ينافي ذلك فلا يصح في نحو قولك في الحمام أسد أن تريد معنى الأسد من غير تأويل

والثاني أن مبنى الكناية على الانتقال من اللازم إلى الملزوم ومبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم وذكر غيره في الفرق بينهما أنه لا بد في المجاز من اتصال وتناسب بين المحلين وفي الكناية لا حاجة إليه فإن العرب تكني عن الحبشي بأبي البيضاء وعن الضرير بأبي العيناء ولا اتصال بينهما بل بينهما تضاد مثل هاء المغايبة وسائر ألفاظ الضمير مثل أنا وأنت وغيرها لأنها لما لم تميز بين اسم واسم إلا بدلالة أخرى لم تكن صريحة ولما احتملت التمييز بدلالة استقامت كناية عن الصريح فكانت ألفاظ الكناية من الصريح بمنزلة المشترك من المفسر من حيث إن ألفاظ الكناية مما لا يفهم معناها إلا بدلالة أخرى والصريح اسم لما فهم معناه منه بنفسه ولا يلزم على قول من زاد قيد الاستعمال في التعريف أن هذه الألفاظ كنايات بالوضع لا بالاستعمال فلا تكون داخلة في التعريف لأنه يقول إنها إنما وضعت ليستعملها المتكلم بطريق الكناية فإن المتكلم إذا أراد أن لا يصرح باسم زيد مثلا يكني عنه بهو كما يكني عنه بأبي فلان لا أنها كنايات قبل الاستعمال فكما أن الألفاظ الموضوعة لا تكون حقيقة قبل الاستعمال لا يكون هذه الألفاظ كنايات قبل الاستعمال أيضا فتكون داخلة في التعريف

قوله أخذت أي الكناية من قولهم كنيت وكنوت وقع على مذهب الكوفيين فإن المصدر مأخوذ من الفعل عندهم والفعل هو الأصل فأما على مذهب البصريين فالمصدر هو الأصل والفعل مشتق منه

ثم إن كانت لام الكلمة ياء وهو المشهور فهي في الكناية أصلية كما في النهاية والسقاية وإن كانت واوا وهي لغة فيها غير مشهورة ولهذا استشهد لها دون الياء فهي منقلبة عن الواو على غير قياس كما انقلبت الواو عنها في جبيت الخراج

(١/١٠٤)

جباوة والأصل جباية والكناية لغة أن تتكلم بشيء وتريد به غيره فهي من الأسماء المقررة والقذور المرأة التي تجتنب الأقذار والريب وأعرب بحجته أي أفصح بها من غير تقية من أحد والمصارحة المجاهرة يعني أني ربما أذكر غيرها وأريدها خوفا من عشيرتها وإخفاء لمحبتي إياها وربما غلبني سكر المحبة فأفصح بها من غير تقية من أحد وأذكرها صريحا وهذه جملة أي الحقيقة والمجاز والصريح والكناية يأتي تفسيرها أي تمام تفسيرها

(١/١٠٥)

قوله وتفسير القسم الرابع أي باعتبار أصل التقسيم أو الخامس باعتبار المقابل أن الاستدلال بعبارة النص أي بعينه ولهذا قال القاضي الإمام الثابت بعين النص ما أوجبه نفس الكلام وسياقه وكذا ذكر أبو اليسر أيضا فتكون هذه الإضافة من باب إضافة العام إلى الخاص كما في قولك جميع القوم وكل الدراهم ونفس الشيء والاستدلال انتقال الذهن من الأثر إلى المؤثر وقيل على العكس وهو المراد ههنا والعبارة لغة تفسير الرؤيا يقال عبرت الرؤيا أعبرها عبارة أي فسرتها وكذا عبرتها وعبرت عن فلان إذا تكلمت عنه فسميت الألفاظ الدالة على المعاني عبارات لأنها تفسر ما في الضمير الذي هو مستور كما أن المعبر يفسر ما هو مستور وهو عاقبة الرؤيا ولأنها تكلم عما في الضمير واعلم أنهم يطلقون اسم النص على كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة سواء كان ظاهرا أو مفسرا أو نصا حقيقة أو مجازا خاصا كان أو عاما اعتبارا منهم للغالب لأن عامة ما ورد من صاحب الشرع نصوص فهذا هو المراد من النص في هذا الفصل دون ما تقدم تفسيره حتى كان التمسك في إثبات الحكم بظاهر أو مفسر أو خاص أو عام أو صريح أو كناية أو غيرها استدلالا بعبارة النص لا غير هو العمل بظاهر ما سيق الكلام له المراد من العمل عمل المجتهد وهو إثبات الحكم لا العمل بالجوارح كما إذا قيل الصلاة فريضة لقوله تعالى أقيموا الصلاة والزنا حرام لقوله جل ذكره ولا تقربوا الزنا فهذا وأمثاله هو العمل بظاهر النص والاستدلال بعبارته واعلم أن دلالة الكلام على المعنى باعتبار النظم على ثلاث مراتب إحداها أن يدل على المعنى ويكون ذلك المعنى هو المقصود الأصلي منه كالعدد في قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع والثانية أن

(١/١٠٦)

يدل على معنى ولا يكون مقصودا أصليا فيه كإباحة النكاح من هذه الآية

والثالثة أن يدل على معنى هو من لوازم مدلول اللفظ وموضوعه كانعقاد بيع الكلب من

قوله عليه السلام إن من السحت ثمن الكلب الحديث فالقسم الأول مسوق ليس إلا والقسم الأخير ليس بمسوق أصلا والمتوسط مسوق من وجه وهو أن المتكلم قصد إلى التلفظ به لإفادة معنى غير مسوق من وجه وهو أنه إنما ساقه لإتمام بيان ما هو المقصود الأصلي إذ لا يتأتى له ذلك إلا به يوضح الفرق بين القسمين الأخيرين أن المتوسط يصلح أن يصير مقصودا أصليا في السوق بأن انفرد عن القرينة والقسم الأخير لا يصلح لذلك أصلا وإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد ههنا من كون الكلام مسوقا لمعنى أن يدل على مفهومه مطلقا سواء كان مقصودا أصليا أو لم يكن وفيما سبق في بيان النص والظاهر المراد من كونه مسوقا أن يدل على مفهومه مقيدا بكونه مقصودا أصليا فيدخل القسم المتوسط ههنا في السوق ولم يدخل فيه فيما سبق فإذا تمسك أحد في إباحة النكاح بقوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم أو في إباحة البيع بقوله عز اسمه وأحل اللّه البيع كان استدلالا بعبارة النص لا بإشارته ويؤيد ما ذكرنا ما قال صدر الإسلام في أصوله الحكم الثابت بعين النص أي بعبارته ما أثبته النص بنفسه وسياقه كقوله تعالى وأحل اللّه البيع وحرم الربا فعين النص يوجب إباحة البيع وحرمة الربا والتفرقة فسوى بين ما هو مقصود أصلي وهو الفرق وبين ما ليس كذلك وهو حل البيع وحرمة الربا فجعلهما ثابتين بعبارة النص لا بإشارته

(١/١٠٧)

قوله والاستدلال بإشارته الإشارة الإيماء فكأن السامع غفل عن المعنى المضمون في النص لإقباله إلى ما دل عليه ظاهر الكلام فالنص يشير إليه

وقوله لكنه غير مقصود تعرض لجانب المعنى

وقوله ولا سيق له النص تعرض لجانب اللفظ والضمير في لكنه وله راجع إلى ما وليس بظاهر من كل وجه لأنه لما لم يسق له الكلام لا بد من أن يكون فيه نوع غموض فيحتاج إلى ضرب تأمل ولهذا لا يقف عليه كل أحد قال القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما اللّه الإشارة من العبارة بمنزلة الكناية والتعريض من الصريح أو المشكل من الواضح ثم إن كان ذلك الغموض بحيث يزول بأدنى تأمل يقال هذه إشارة ظاهرة وإن كان يحتاج إلى زيادة فكرة يقال هذه إشارة غامضة

قوله ليس بظاهر من كل وجه ليس من تمام التعريف بل هو ابتداء كلام والغرض منه الإشارة إلى تعليل تسمية هذا القسم إشارة ولهذا قال فسميناه إشارة بالفاء

وقوله كرجل إلى آخره تشبيه لما ثبت بالنظم غير مقصود في ضمن ما هو المقصود بما أدرك بالبصر غير مقصود في ضمن ما هو المقصود والغرض منه التنبيه على كون هذا القسم من محاسن الكلام وأقسام البلاغة كما أن إدراك ما ليس بمقصود بالنظر مع إدراك ما هو المقصود به من كمال قوة الإبصار واللحظ النظر بمؤخر العين ويدرك غيره بإشارة لحظاته أي بلحظاته وكأنها تشير الناظر إلى ما أقبل عليه ليدركه الضمير في نظيره راجع إلى ما في

قوله ما ثبت بنظمه لغة على سبيل الترجمة بفتح الجيم أي التفسير ومنه الترجمان بفتح التاء والجيم وضمهما لمن يفسر كلام الغير لما سبق وهو قوله تعالى ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل لا لما قبله وهو

قوله فللّه وللرسول لأن قوله تعالى للفقراء بدل مما ذكرنا بتكرير العامل لا من

قوله فللّه وللرسول والمعطوف عليه لأنه تعالى هو الغني على الإطلاق ورسوله أجل قدرا من أن يطلق عليه اسم الفقير كيف وأنه تعالى أخرج رسوله عن الفقراء بقوله عز اسمه وينصرون اللّه ورسوله إليه أشير في الكشاف

وقيل هو معطوف على الأول بغير واو كما يقال هذا المال لزيد لبكر لعمرو كذا في التيسير فعلى هذا لا يكون ترجمة لما سبق بل يكون بيانا لمصرف آخر وعلى التفسيرين السوق لبيان مصارف الخمس

(١/١٠٨)

واسم الفقراء أي وذكر هذا الاسم دون غيره إشارة إلى أن الذين هاجروا من مكة قد زالت أملاكهم عما خلفوا بها باستيلاء الكفار عليه لأنه تعالى وصفهم بالفقر مع أنهم كانوا مياسير بمكة بدليل

قوله جل ذكره أخرجوا من ديارهم وأموالهم والفقر على الحقيقة بزوال الملك لا يبعد اليد عن المال لأن ضده الغنى وهو ملك المال لا قرب اليد من المال ألا ترى أن ابن السبيل غني حقيقة وإن بعدت يده عن المال لقيام الملك ولهذا وجب عليه الزكاة والمكاتب فقير حقيقة ولو أصاب مالا عظيما لعدم الملك حقيقة فلهذا قلنا إن استيلاءهم بشرط الأحرار سبب للملك إذ لو لم يكن كذلك لسماهم أبناء السبيل لأنه اسم لمن بعدت يده عن المال مع قيام الملك فيه وهذه من الإشارات الظاهرة التي تعرف بأدنى تأمل إلا أن الشافعي رحمه اللّه لم يعمل بها وقال إنما سماهم فقراء ولم يسمهم أبناء السبيل لأنه اسم لمن له مال في وطنه وهو بعيد عنه ويطمع أن يصل إليه وأنهم لم يكونوا مسافرين بالمدينة بل توطنوا بها وانقطعت أطماعهم بالكلية عن أموالهم فلم يستقم أن يسموا بابن السبيل ولكنهم لما كانوا محتاجين حقيقة وانقطع عنهم ثمرات أموالهم بالكلية وإن كانت باقية على ملكهم صحت تسميتهم فقراء تجوزا كأنه لا مال لهم أصلا كما صحت تسمية الكافر أصم وأعمى وأبكم وعديم العقل في قوله تعالى عز وجل صم بكم عمي فهم لا يعقلون

بهذا الطريق والدليل على صرفه إلى المجاز قوله تعالى ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا وليس المراد نفي السبيل الحسي بالإجماع فيرجع النفي إلى السبيل الشرعي والتملك بالقهر الذي هو عدوان محض أقوى جهات السبيل وما روي أن عيينة بن حصن أغار على سرح بالمدينة وفيها ناقة رسول اللّه العضباء وأسر امرأة الراعي قالت المرأة فلما جن الليل قصدت الفرار فما وضعت يدي على بعير إلا رغا حتى وضعت يدي على ناقة رسول اللّه العضباء فركنت إلي فركبتها وقلت إن نجاني اللّه عليها فللّه علي أن أنحرها فلما أتيت رسول اللّه عليه السلام وقصصت عليه القصة قال عليه السلام بئس ما جازيتها لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم وإنها ناقة من إبلي ارجعي إلى أهلك على اسم اللّه تعالى ولكنا نقول لا حجة له في الآية لأنها تدل على نفي سبيلهم على المؤمنين لا

(١/١٠٩)

على أموالهم وهم لا يملكوننا بالاستيلاء أيضا إنما الكلام في الأموال أو المراد نفي السبيل في الآخرة كما قال ابن عباس رضي اللّه عنهما بدليل

قوله فاللّه يحكم بينهم يوم القيامة أو نفي الحجة كما قال السدي ولا فيما ذكر من الحديث لأنه معارض بما روي أن عليا رضي اللّه عنه قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة ألا تنزل دارك يعني الدار التي ورثها النبي عليه السلام من خديجة رضي اللّه عنها وقد كان استولى عليها عقيل بعد هجرته فقال وهل ترك لنا عقيل من دار

ولا يقال إنما قال ذلك لأنه كان خربها ولم تبق صالحة للنزول لأن قول علي رضي اللّه عنه ألا تنزل دارك يأبى ذلك ومؤول بأن عيينة لم يحرزها بدار الحرب فلم يملكها ولا ملكت المرأة فلهذا استردها منها وجعل نذرها فيما لا تملك فلما لم يصلح ما ذكر من القرائن صارفا للفظ الفقراء إلى المجاز يحمل على الحقيقة إذ هي الأصل في الكلام فالحاصل أن الإشارة قد تكون موجبة لموجبها قطعا مثل العبارة مثلها في قوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وقد لا توجب قطعا وذلك عند اشتراك معنى الحقيقة والمجاز مرادا بالكلام فأما كونها حجة فلا خلاف فيه

قوله

وقوله عز وجل إما معطوف على

قوله قوله تعالى للفقراء

وقوله سيق لكذا جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب

وإما مبتدأ وسيق خبره فيكون مرفوع المحل وأشار عطف على سيق والضمير المستكن فيهما يرجع إلى القول وكذا البارز في بقوله أي سيق هذا القول لكذا وأشار هذا المسوق بقوله وعلى المولود له إلى كذا فكأنه قدر المسوق قائلا هذا الكلام أو الضمير المستكن في أشار والبارز في بقوله يرجعان إلى ما دل عليه

قوله سيق من السائق وهو اللّه تعالى إن جاز ذلك وكأنه هو مراد المصنف أي سيق هذا القول لكذا وأشار السائق هذا القول وهو اللّه تعالى بقوله وعلى المولود له إلى كذا أو الباء في بقوله زائدة وأشار مسند إلى القول والضمير البارز راجع إلى اللّه أي سيق قول اللّه وهو وعلى المولود له إلى آخره لكذا وأشار

قوله وعلى المولود له إلى كذا وفي الكل بعد

ولو قيل أشير لكان أحسن

قوله جل ذكره وعلى المولود له

(١/١١٠)

البقرة ٢٣٣ أي وعلى الذي ولد له وهو الأب وله في محل الرفع على الفاعلية نحو عليهم في غير المغضوب عليهم رزقهن وكسوتهن أي طعام الوالدات ولباسهن بالمعروف أي من غير إسراف ولا تقتير نظرا للجانبين أو تفسيره ما ذكر بعده في الآية ثم إن كان المراد من الوالدات في أول الآية المطلقات وهو الظاهر بدليل أن ما قبل الآية وما بعدها في ذكر المطلقات فالمراد إيجاب أصل الرزق والكسوة على طريق الأجر لأنهن يحتجن إلى ما يقمن به أبدانهن لأن الولد إنما يغتذي باللبن وإنما يحصل لها ذلك بالاغتذاء وتحتاج هي إلى التستر فكان هذا من الحوائج الضرورية كذا في التيسير

وإن كان المراد منها المنكوحات بدليل ذكر الرزق والكسوة دون الأجر فالمراد إيجاب فضل الطعام والكسوة الذي تحتاج إليه في حالة الرضاع لا أصل النفقة لأن ذلك واجب بالنكاح وعلى التقديرين الكلام مسوق لبيان إيجاب أصل النفقة أو فضلها على الأب وفي ذكر المولود له دون ذكر الوالد إشارة إلى أن النسب إلى الأب لأنه تعالى أضاف الولد إليه بحرف الاختصاص فيدل على أنه هو المختص بالنسبة إليه حتى لو كان الأب قرشيا والأم أعجمية يعد الولد قرشيا في باب الكفأة والإمامة الكبرى وفي العكس بالعكس ولهذا قيل وإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللأنساب آباء وفيه تنبيه أيضا على علة إيجاب هذه النفقة والكسوة على الآباء أي الوالدات لما ولدن لهم فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن أولادهم كالأظآر ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله تعالى واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده الآية

قوله وإلى

قوله أي قول النبي عليه السلام أنت ومالك لأبيك روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي عليه السلام فقال إن لي مالا وإن والدي يحتاج إلى مالي قال أنت ومالك لوالدك وفي رواية لوالديك كذا في المصابيح وذكر في الكشاف شكا رجل إلى رسول اللّه عليه السلام أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال إنه كان ضعيفا وأنا قوي وفقيرا وأنا غني فكنت لا أمنعه شيئا من مالي واليوم أنا ضعيف

وهو قوي وأنا فقير وهو غني ويبخل علي بماله فبكى

(١/١١١)

عليه السلام وقال ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى ثم قال للولد أنت ومالك لأبيك وذكر الإمام ظهير الدين البخاري في فوائده أن شيخا أتى النبي عليه السلام وقال إن ابني هذا له مال كثير وإنه لا ينفق علي من ماله فنزل جبرائيل عليه السلام وقال إن هذا الشيخ قد أنشأ في ابنه أبياتا ما قرع سمع بمثلها فاستنشدها فأنشدها الشيخ وقال غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أحني عليك وتنهل إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا باكيا أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني وعيني تهمل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدا للخلاف كأنه برد على أهل الصواب مؤكل فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال أنت ومالك لأبيك فهذا الحديث يدل على أن للأب حق التملك في مال ولده لأن ظاهره وإن دل على ثبوت حقيقة الملك له لكنه لما تخلف بالإجماع وبقوله عليه السلام الرجل أحق بماله من والده وولده والناس أجمعين ثبت به حق التملك له في ماله فيتملكه عند الحاجة بغير عوض إن كانت من الحوائج الأصلية وبعوض إن لم يكن كذلك وإن له تأويلا في نفسه فلا يعاقب بإتلاف ولده كما لا يعاقب بإتلاف عبده وقد عرف تحقيقه في موضعه فالنص المذكور بإشارته أيد هذا الحديث وآزره لأن موافقة الحديث الكتاب من دلائل صحة الحديث لقوله عليه السلام وما وافق فاقبلوه

فهذا معنى

قوله وأشار إلى

قوله أنت ومالك لأبيك قوله تعالى وحمله وفصاله المراد بيان مدة الرضاع لا الفطام ولكن عبر عن الرضاع به لأن الرضاع يليه الفصال ويلابسه لأنه ينتهي به والغرض هو الدلالة على الرضاع التام المنتهي بالفصال ووقته ثم المراد من الحمل إن كان هو الحمل بالأيدي إذ الطفل يحمل باليد في هذه المدة غالبا فالمدة المذكورة للحمل والفصال جميعا ولا

(١/١١٢)

تعرض للحمل في البطن حينئذ في الآية فلا يكون الإشارة المذكورة ثابتة فيها ويكون الآية حجة لأبي حنيفة رحمه اللّه في أن أكثر مدة الرضاع ثلاثون شهرا ويحمل على هذا التقدير قوله تعالى حولين كاملين وفصاله في عامين على بيان مدة وجوب أجر الرضاع على الأب دفعا للتعارض وإن كان المراد منه الحمل في البطن كما ذهب إليه الجمهور وهو الظاهر فالإشارة ثابتة ولا يمكن التمسك لأبي حنيفة بها في تلك المسألة بل يتمسك له بالمعقول وهو أن اللبن كما يغذي الصبي قبل الحولين يغذيه بعدهما والفطام لا يحصل في ساعة واحدة بل يفطم درجة فدرجة حتى ييبس اللبن ويتعود الصبي الطعام فلا بد من زيادة على حولين لمدة الفطام فإذا وجبت الزيادة قدرنا تلك الزيادة بأدنى مدة الحمل وذلك ستة أشهر اعتبارا للانتهاء بالابتداء كذا في المبسوط ثم هذا النص مسوق لبيان منة الوالدة لأنه تعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين ثم بين السبب في جانب الأم بقوله حملته أمه كرها أي ذات كره على الحال أو حملا ذا كره على الصفة للمصدر والكره المشقة

ثم زاد في البيان بقوله وحمله وفصاله ثلاثون شهرا أي مشقة الحمل لم تكن مقتصرة على زمان قليل بل هي مع مشقات الرضاع ممتدة هذه المدة وفيه إشارة إلى أن أقل مدة الحمل ستة أشهر كما قال علي أو ابن عباس رضي اللّه عنهم فيما روي أن امرأة ولدت لستة أشهر من وقت التزوج فرفع ذلك إلى عمر وفي رواية إلى عثمان رضي اللّه عنهما فهم برجمها فقال علي أو ابن عباس رضي اللّه عنهم أما إنها لو خاصمتكم بكتاب اللّه لخصمتكم أي غلبتكم في الخصومة قال اللّه تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقال عز اسمه والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين فبقي ستة أشهر لحملها فأخذ عمر بقوله وأثنى عليه ودرأ عنها الحد قال أبو اليسر رحمه اللّه وهذه إشارة غامضة وقف عليها عبد اللّه بن عباس بدقة فهمه وقد اختفى هذا الحكم على الصحابة فلما أظهره قبلوا منه ولا يقال لا بد في الإشارة من لفظ يدل على المشار إليه وليس ذلك فيما ذكرت بل هو من قبيل بيان الضرورة كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى لأنا نقول

قوله ثلاثون يشمل أفراده مطابقة فيكون الستة بعض مدلوله فيكون ثابتا بالنظم ولا منافاة بين بيان الضرورة والإشارة فليكن بيان ضرورة أيضا فإن قيل العادة المستمرة في مدة الحمل تسعة أشهر فكان المناسب في مقام بيان المنة ذكر الأكثر المعتاد لا ذكر الأقل النادر كما في جانب الفصال قلنا قد قيل نزلت الآية في أبي بكر رضي اللّه عنه حملته أمه بمشقة ثم وضعته

(١/١١٣)

على تمام ستة أشهر وقيل نزلت في الحسن أو الحسين رضي اللّه تعالى عنهما وضعته أمه على ما ذكر من المدة كذا في شرح التأويلات فإذا كان كذلك لا يستقيم ذكر ما ورائها لئلا يؤدي إلى الكذب ولأن هذه المدة أقل مدة الحمل إذ الإنسان لا يعيش إذا ولد لأقل من ستة أشهر فيكون مشقة الحمل في هذه المدة موجودة لا محالة في حق كل مخاطب فيكون اعتبار ما هو المتيقن به لكونه ملزما للمنة لا محالة أدخل في باب المناسبة بخلاف الفصال لأنه لا حد لجانب القلة فيه بل لا تيقن في نفس الرضاع إذ يجوز أن يعيش الإنسان بدون ارتضاع من الأم فلا جرم اعتبر فيه الأكثر لأنه هو الغالب فيه إذ الرضاع اختياري والشفقة حاملة على تكميل المدة فصار في التقدير كأنه قيل قد حملته ستة أشهر لا محالة إن لم تحمله أكثر منها وأرضعته سنتين فوجب عليه الإحسان إليها

(١/١١٤)

دلالة النص هي فهم غير المنطوق من المنطوق بسياق الكلام ومقصوده وقيل هي الجمع بين المنصوص وغير المنصوص بالمعنى اللغوي ويسميها عامة الأصوليين فحوى الخطاب لأن فحوى الكلام معناه كذا في الصحاح وفي الأساس عرفت في فحوى كلامه أي فيما تنسمت من مراده بما تكلم به مأخوذ من الفحاء وهو أبزار القدر ويسميها بعض أصحاب الشافعي مفهوم الموافقة لأن مدلول اللفظ في محل السكوت موافق لمدلوله في محل النطق

قوله بمعنى النص لغة أي بمعناه اللغوي لا بمعناه الشرعي ولغة تمييز لا اجتهادا ولا استنباطا ترادف وهذا نفي كونه قياسا واعلم أن الحكم إنما يثبت بالدلالة إذا عرف المعنى المقصود من الحكم المنصوص كما عرف أن المقصود من تحريم التأفيف والنهر كف الأذى عن الوالدين لأن سوق الكلام لبيان احترامهما فيثبت الحكم في الضرب والشتم بطريق التنبيه وكما عرف أن الغرض من تحريم أكل مال اليتيم في قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ترك التعرض لها فيثبت الحكم في الإحراق والإهلاك أيضا ولولا هذه المعرفة لما لزم من تحريم التأفيف تحريم الضرب إذ قد يقول السلطان للجلاد إذا أمره بقتل ملك منازع له لا تقل له أف ولكن اقتله لكون القتل أشد في دفع محذور المنازعة من التأفيف ويقول الرجل واللّه ما قلت لفلان أف وقد ضربه واللّه ما أكلت مال فلان وقد أحرقه فلا يحنث ثم إن كان ذلك المعنى المقصود معلوما قطعا كما في تحريم التأفيف فالدلالة قطعية وإن احتمل أن يكون غيره هو المقصود كما في إيجاب الكفارة على المفطر بالأكل والشرب فهي ظنية ولما توقف ثبوت الحكم بالدلالة على معرفة المعنى ولا بد في معرفته من نوع نظر ظن بعض أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم أن الدلالة قياس جلي فقالوا لما توقف على ما ذكرنا وقد وجد أصل كالتأفيف مثلا وفرع كالضرب وعلة جامعة مؤثرة كدفع الأذى يكون قياسا إذ لا معنى للقياس إلا ذلك إلا أنه لما كان ظاهرا سميناه جليا وليس كما ظنوا على ما ذهب إليه الجمهور لأن الأصل في القياس لا يجوز أن يكون جزءا من الفرع بالإجماع

وقد يكون في هذا النوع ما تخيلوه أصلا جزءا مما تخيلوه فرعا كما لو قال السيد لعبده لا تعط زيدا ذرة فإنه يدل على منعه من إعطاء ما فوق الذرة مع أن الذرة المنصوصة داخلة

(١/١١٥)

فيما زاد عليها ولأنه كان ثابتا قبل شرع القياس فعلم أنه من الدلالات اللفظية وليس بقياس ولهذا اتفق أهل العلم على صحة الاحتجاج به من مثبتي القياس ونفاته إلا ما نقل عن داود الظاهري لفهم المعنى منه على سبيل القطع أو الظن

قوله وهذا معنى يفهم منه لغة أي الأذى يفهم من التأفيف لغة لا رأيا كمعنى الإيلام من الضرب يعني إذا قيل اضرب فلانا أو لا تضربه يفهم منه لغة أن المقصود إيصال الألم بهذا الطريق إليه أو منعه عنه ولهذا لو حلف لا يضربه فضربه بعد الموت لا يحنث ولو حلف ليضربه فلم يضربه إلا بعد الموت لم يبر فكذلك معنى الأذى من التأفيف ثم تعدى حكمه أي حكم التأفيف وهو الحرمة إلى الضرب والشتم بذلك المعنى للتيقن بتعلق الحرمة به لا بالصورة حتى إن من لا يعرف هذا المعنى من هذا اللفظ أو كان من قوم هذا في لغتهم إكرام لم يثبت الحرمة في حقه ولما تعلق الحكم بالإيذاء في التأفيف صار في التقدير كأن قيل لا تؤذهما فثبت الحرمة عامة

ولا يقال ينبغي أن يحرم التأفيف للوالدين وإن لم يعرف المتكلم معناه أو استعمله بجهة الإكرام لأن العبرة للمنصوص عليه في محل النص لا للمعنى كما في أداء نصف صاع من تمر قيمته نصف صاع من بر عن نصف صاع من بر بطريق القيمة في صدقة الفطر فإنه لا يجوز لما ذكرنا لأنا نقول ذلك فيما إذا كان المعنى ثابتا بالاجتهاد فيكون ظنيا وأنه لا يظهر في مقابلة القطع فأما إذا كان المعنى ثابتا بالنص وعرف قطعا أن الحكم متعلق به فالحكم يدور على هذا المعنى لا غير كطهارة سؤر الهرة لما تعلقت بالطوف في

قوله عليه السلام الهرة ليست بنجسة الحديث كان سؤر الهرة الوحشية نجسا مع قيام النص لعدم الطوف وحاصل فرق المصنف أن المفهوم بالقياس نظري ولهذا شرط في القائس أهلية الاجتهاد بخلاف ما نحن فيه لأنه ضروري أو بمنزلته لأنا نجد أنفسنا ساكنة إليه في أول سماعنا هذه اللفظة ولهذا شارك أهل الرأي غيرهم فيه فلا يكون قياسا لانتفاء المشروط بانتفاء الشرط

قوله وأنه يعمل عمل النص أي هذا النوع وهو دلالة النص يثبت به عند المصنف ما يثبت بالنصوص حتى الحدود والكفارات وكذا عند من جعله قياسا من

(١/١١٦)

أصحاب الشافعي لأنها تثبت بالقياس عندهم فأما عند من جعله قياسا من أصحابنا فلا يثبت به الحدود والكفارات لأنها لا تثبت بالقياس عندنا فهذا هو فائدة الخلاف وإليه أشار المصنف فيما بعد

وسمعت عن شيخي قدس اللّه روحه وهو كان أعلى كعبا من أن يجازف أو يتكلم من غير تحقيق أنها تثبت بمثل هذا القياس عندهم كما تثبت بالقياس الذي علته منصوصة فعلى هذا لا يظهر فائدة الخلاف ويكون الخلاف لفظيا ويؤيده ما ذكر الغزالي في المستصفى وقد اختلفوا في تسمية هذا القسم قياسا ويبعد تسميته قياسا لأنه لا يحتاج فيه إلى فكرة واستنباط علة ومن سماه قياسا اعترف بأنه مقطوع به ولا مشاحة في الأسامي فمن كان القياس عنده عبارة عن نوع من الإلحاق يشمل هذه الصورة ولا مشاحة في عبارة

(١/١١٧)

قوله

وأما الثابت باقتضاء النص إلى آخره الاقتضاء الطلب ومنه اقتضى الدين وتقاضاه أي طلبه قيل في تفسير المقتضى هو ما أضمر في الكلام ضرورة صدق المتكلم ونحوه وقيل هو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا لكن يكون من ضرورة اللفظ وقال القاضي الإمام هو زيادة على النص لم يتحقق معنى النص بدونها فاقتضاها النص ليتحقق معناه ولا يلغو وهذه العبارات تؤدي معنى واحدا ولا بد من زيادة قيد في التعريف على مذهب من جعل المحذوف قسما آخر وهو أن يقال هو ما ثبت زيادة على النص لتصحيحه شرعا واعلم أن الشرع متى دل على زيادة شيء في الكلام لصيانته عن اللغو ونحوه فالحامل على الزيادة وهو صيانة الكلام هو المقتضي والمزيد هو المقتضى ودلالة الشرع على أن هذا الكلام لا يصح إلا بالزيادة هو الاقتضاء كذا ذكر بعض المحققين وقيل الكلام الذي لا يصح شرعا إلا بالزيادة هو المقتضي وطلبه الزيادة هو الاقتضاء والمزيد هو المقتضى وما ثبت به هو حكم المقتضى

ومثاله المشهور قولك لغيرك اعتق عبدك عني بألف فنفس هذا الكلام هو المقتضى لعدم صحته في نفسه شرعا وطلبه ما يصح به اقتضاء وما زيد عليه وهو البيع مقتضى وما ثبت بالبيع وهو الملك حكم المقتضى وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى وإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد من لفظة الثابت إن كان المقتضي لأنه هو الثابت باقتضاء النص فمعنى

قوله

وأما الثابت باقتضاء النص

وأما المقتضى والضمير المستكن في لم يعمل والبارز في عليه راجعان إلى النص ويقرأ بشرط تقدم على الإضافة ويكون التنوين في تقدم عوضا عن المضاف إليه وهو الضمير العائد إلى ما أي بشرط تقدمه كما يقتضيه هذا المقام وكذا ذكر المصنف فيما بعد وذلك وهذا إشارتان إلى الثابت والمقتضى بالفتح في

قوله بواسطة المقتضى بمعنى الاقتضاء لأن زنة المفعول من أوزان المصادر في المنشعبات واللام فيه بدل الإضافة والفاء في فإن إشارة إلى تعليل تسميته بهذا الاسم أو إلى تعليل اشتراط تقدمه عليه

وهي في فصار لبيان كونه نتيجة للجملة الأولى وتقدير الكلام

وأما المقتضى فالشيء الذي لم يعمل النص أي لم يفد شيئا ولم

(١/١١٨)

يوجب حكما إلا بشرط تقدم ذلك الشيء على النص وإنما سمي هذا الشيء بالمقتضى لأنه أمر اقتضاه النص وإنما شرط تقدمه عليه لأن ذلك أمر اقتضاء النص لصحة ما تناول النص إياه فتكون صحة النص متوقفة عليه توقف المشروط على الشرط فيقدم لا محالة ولما اقتضى النص ذلك الشيء لصحته صار ذلك الشيء مضافا إلى النص بواسطة اقتضاء النص إياه ويؤكد هذا الوجه ما ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه المقتضى عبارة عن زيادة على المنصوص بشرط تقديمه ليصير المنظوم مفيدا أو موجبا للحكم وبدونه لا يمكن إعمال المنظوم ورأيت في بعض الشروح

وأما الثابت بطلب النص لنفسه فشيء لم يعمل النص بدون تقدمه على النص فإن النص اقتضاه ليكون متناوله صحيحا فصار متناول النص مضافا إلى النص لكن بواسطة المقتضى إذ لو لم يكن المقتضى لما صح ما تناوله النص وإذا لم يصح لا يكون مضافا إلى النص كقوله عليه السلام شراء القريب إعتاق أضاف الإعتاق إلى الشراء بواسطة مقتضاه وهو الملك هو الذي يوجب العتق في القريب لا الشراء ولولا المقتضى لما صح إضافة الإعتاق إلى الشراء فجعل هذا الشارح اسم الإشارة راجعا إلى ما في متناوله وهذا وجه حسن أيضا وإن كان المراد من الثابت حكم المقتضى كما أن المراد من الثابت الحكم فيما تقدم فالاقتضاء بمعنى المقتضى ويقرأ بشرط بالتنوين والجملة بعده صفة له

وذلك إشارة إلى الشرط وهذا إلى الثابت والمقتضى بمعنى المفعول والفاء في فإن للإشارة إلى تعليل التقدم لا غير وهي في فصار للإشارة إلى كون إضافة الحكم نتيجة للاقتضاء وتقديره

وأما الحكم الثابت بمقتضى النص فما لم يعمل النص في إثباته أي لم يوجبه إلا بشرط تقدم على النص وإنما تقدم ذلك الشرط لأنه أمر اقتضاء النص لصحة متناوله ولما كان مثبت ذلك الحكم مضافا إلى النص لأن النص اقتضاه صار الحكم مضافا إلى النص أيضا بواسطته فلا يكون ثابتا بالرأي وإليه أشار بقوله فكان كالثابت بالنص أي الحكم الثابت بالمقتضي أو المقتضى على الوجه الأول كالثابت بالنص قال شمس الأئمة فعرفنا أن الثابت بطريق الاقتضاء بمنزلة الثابت بدلالة النص لا بمنزلة الثابت بطريق القياس ويؤيد هذا الوجه ما قال صدر الإسلام أبو اليسر رحمه اللّه

وأما الحكم الثابت بمقتضى النص فما ثبت بشيء زائد على النص اقتضاه النص فيكون الحكم ثابتا بالنص لأن المقتضى ثابت بالنص والحكم ثبت بالمقتضى فيكون المقتضى مع حكمه ثابتين بالنص

قوله وعلامته إلى آخره اعلم أن عامة الأصوليين من أصحابنا وجميع أصحاب الشافعي وجميع المعتزلة جعلوا ما يضمر في الكلام لتصحيحه ثلاثة أقسام

(١/١١٩)

ما أضمر ضرورة صدق المتكلم كقوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ الحديث وما أضمر لصحته عقلا كقوله تعالى إخبارا واسأل القرية وما أضمر لصحته شرعا كقول الرجل اعتق عبدك عني بألف وسموا الكل مقتضى ولهذا قالوا في تحديده هو جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق وهو مذهب القاضي الإمام أبي زيد ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى القول بجواز العموم في الأقسام الثلاثة وهو مذهب الشافعي وبعضهم إلى القول بعدم جوازه في جميعها وهو مذهب القاضي الإمام

وخالفهم المصنف وشمس الأئمة وصدر الإسلام وصاحب الميزان في ذلك فأطلقوا اسم المقتضى على ما أضمر لصحة الكلام شرعا فقط وجعلوا ما وراءه قسما واحدا وسموه محذوفا أو مضمرا وقالوا بجواز العموم في المحذوف دون المقتضى إلا أبا اليسر فإنه لم يقل بعموم المحذوف أيضا وإن سلم أنه غير المقتضى وسيأتيك الكلام فيه مشروحا إن شاء اللّه عز وجل فلما كان كذلك أراد الشيخ أن يفرق بين المقتضى والمحذوف ببيان العلامة فقال وعلامته أي علامة المقتضى أن يصح به أي بالمقتضى المذكور أي يصير مفيدا لمعناه وموجبا لما تناوله وفي بعض النسخ ولا يلغى عند ظهوره أي لا يتغير ظاهر الكلام عن حاله وإعرابه عند التصريح به كذا قيل بل يبقى كما كان قبله ويصلح بنصب الحاء أي المذكور لما أريد به من المعنى أي لا يتغير معناه أيضا وبمجموع ما ذكر يقع الفرق بينه وبين المحذوف لأن بالمحذوف وإن كان يصح المذكور إلا أنه ربما يتغير به ظاهر الكلام عن حاله وإعرابه كما في

قوله واسأل القرية وربما لم يتغير ولكنه لا يبقى صالحا لما أريد به لتغير معناه كما لو تزوج عبد بغير إذن سيده فأخبر المولى فقال طلقها لا يثبت الإجازة اقتضاء وإن كان يصح المذكور به ولا يتغير ظاهره عن حاله لكنه لا يبقى صالحا لما أريد به لأن دلالة حال العبد وهو تمرده على مولاه بهذا التزوج يدل على أن غرض المولى رد العقد والمتاركة فإنه يسمى طلاقا لا إبقاء النكاح وأنه في ولايته فيصح الأمر فلو ثبتت الإجازة اقتضاء لم يبق

قوله طلقها صالحا لما

(١/١٢٠)

أريد به

وهو إيجاب المتاركة بل يصير أمرا للعبد بالطلاق وليس في ولايته ذلك فلا يصح الأمر بخلاف ما إذا زوجه فضولي فبلغه الخبر فقال طلقها حيث يثبت الإجازة اقتضاء لأنه يبقى الكلام صالحا لما أريد به كما كان لأنه يملك التطليق بعد الإجازة كما كان يملكه قبلها فيملك الأمر به أيضا وإن قرئ ولا يصلح بالرفع ويجعل الضمير عائدا إلى المقتضى مع أنه يلزم منه انتشار الضمير فمعناه ويصلح المقتضى لما أريد به من تصحيح الكلام وذلك بأن يمكن إثباته تبعا للمقتضى قال أبو اليسر رحمه اللّه الشيء إنما يثبت بطريق الاقتضاء إذا كان تابعا للمصرح لأن المقتضى يصير تابعا للمصرح في الثبوت فينبغي أن يكون تابعا في الجملة حتى يصلح أن يصير تابعا له في الثبوت أو يكون مثله لأن الشيء قد يستتبع مثله ولا يجوز أن يكون أصلا له ألبتة ولهذا قلنا لو قال لامرأته يدك طالق لا يقع الطلاق ولا يقتضي ذكر اليد ذكر النفس وإن كان الطلاق لا يقع على اليد إلا بعد وقوعه على النفس لأن النفس أصل اليد فلا يجوز أن تصير تابعة لها في الذكر والثبوت لأنه يؤدي إلى أن يصير الأصل تبعا والتبع أصلا وكذا حكم النكاح والبيع وهذا بلا خلاف بيننا وبين الشافعي إلا أن عنده يقع الطلاق بإضافته إلى اليد بطريق آخر وإنما الاختلاف في عمومه هذا لفظه وعن هذا قلنا إذا قال لعبده كفر بهذا العبد عن يمينك لا يثبت الإعتاق اقتضاء لأن أهلية الإعتاق أصل لسائر التصرفات فلا تثبت تبعا

وكذلك قلنا إن الكفار لا يخاطبون بالشرائع إذ لو خوطبوا بها لثبت الإيمان مقتضى تبعا لها ولا يصح إذ جميع الأحكام الشرعية تبع للإيمان وكذلك ذكر في دعوى الجامع إذا ادعى على آخر أنك أخي لأبي وأمي فإن كان يدعي عليه حقا صحت الدعوى وقبلت الشهادة على ذلك وإلا فلا لأن الأخوة حق يبتنى على البنوة على الغائب وذلك أصل وهذا تابع له فلم يجز أن يصير ذلك مقتضى هذا فبقي هذا حقا على غائب فلم يسمع فإن ادعى حقا مقصودا صارت الأخوة والبنوة مقتضاه وتبعا له فوجب القضاء به غير مقتضى وإن كان يشبه المقتضى من وجه لأنه أي لأن الأهل إذا ثبت أي صرح به ما أضيف إليه أي السؤال الذي نسب إلى القرية وتعلق بها والضمير في إليه راجع إلى القرية على تأويل المذكور أو المسئول هذا هو المشهور في مثل هذا الضمير ولكن التحقيق فيه أن التأنيث إنما يجب مراعاة حقه إذا كان مرتبا على المذكر بزيادة حرف على صيغة التذكير كضارب وضاربة أو بصيغة غير صيغة التذكير أي يكون له مذكر في الجملة فإذا كان كذلك يلزم مراعاة حق التذكير والتأنيث وإذا لم يكن كذلك سقط اعتباره لعدم الترتيب وتعذر المراعاة كما في لفظ المعرفة والنكرة مثلا فإن تأنيثهما لما لم يكن مرتبا على التذكير كلام مبدل إذ ليس لهما مذكر لا بنقصان حرف التأنيث ولا بصيغة أخرى استوى فيهما التذكير

(١/١٢١)

والتأنيث سواء وصفت به نحو اسم معرفة واسم نكرة أو جعلته خبرا نحو زيد معرفة والرجل معرفة بخلاف المعرفة والمنكرة لأن تأنيثهما مرتب فأمكن المراعاة ونظيرهما لفظ اسم وشيء فتقول هذا اسم وهذه اسم وهذا شيء وهذه شيء

وكذا الفعل والحرف تقول ضربت فعل وضرب فعل وربت حرف ومن حرف فلا تقول هذا اسم وهذه سمة وهذا شيء وهذه شيئة وضرب فعل وضربت فعلة ومن حرف وربت حرفة فتبين أن التذكير والتأنيث إذا لم يكونا مرتبين لم يراع حقهما كذا في المحصل في شرح المفصل ولهذا قال جار اللّه في المفصل في المضمرات والضمير في قولهم ربه رجلا نكرة مبهم ولم يقل مبهمة ولما كان تأنيث القرية غير مرتب استوى فيه التذكير والتأنيث وليكن هذا على ذكر منك فإنك تحتاج إليه في هذا الكتاب كثيرا

قوله من باب الإضمار جعله من باب الإضمار هنا وسماه فيما بعد محذوفا وإلا صار ما له أثر في اللفظ كقوله وبلدة أي ورب بلدة

وقوله اللّه لأفعلن بالجر والحذف بخلافه كقوله تعالى واختار موسى قومه أي من قومه وقول الرجل اللّه لأفعلن بالنصب وما ذكر من النظير من هذا القبيل فكان تسميته بالمحذوف أولى وما ذكره ههنا توسع ومثاله أي مثال المقتضى الأمر بالتحرير وهو قوله تعالى فتحرير رقبة لأنه في معنى الأمر أي فحرروا رقبة مقتض للملك لأن تحرير الحر لا يتصور وكذا تحرير ملك الغير عن نفسه فصار التقدير فعليه تحرير رقبة مملوكة له ثم إذا قدر مذكورا لم يتغير موجب الكلام وبقي صالحا لما أريد به وهو التكفير وذكر السيد الإمام أبو القاسم رحمه اللّه والثابت مقتضى نحو قوله تعالى وصاحبهما في الدنيا معروفا ولا يتحقق المصاحبة إلا بالاتفاق وترك القتل فيثبت حرمة القتل ووجوب الاتفاق مقتضاه سابقا عليه

هذا إشارة إلى ما سبق من

قوله الخاص كذا إلى ما انتهى إليه وبيان ترتيبها أي في البعض لأنه لم يتبين الترتيب في الكل والفصل الرابع أي من البيان فكأنه جعل بيان معانيها لغة فصلا وبيان معانيها شرعا فصلا وبيان ترتيبها عند التعارض فصلا وبيان الأحكام رابع الفصول واللّه أعلم

(١/١٢٢)