باب ما جاء في حوض النبي صلّى اللّه عليه و سلم في الموقف و سعته و كثره أوانيه و ذكر أركانه و من عليها ذهب صاحب القوت و غيره إلى أن حوض النبي صلّى اللّه عليه و سلم إنما هو بعد الصراط ، و الصحيح أن للنبي صلّى اللّه عليه و سلم حوضين : أحدهما في الموقف قبل الصراط ، و الثاني في الجنة و كلاهما يسمى كوثرا على ما يأتي ، و الكوثر في كلام العرب الخير الكثير ، و اختلف في الميزان و الحوض أيهما قبل الآخر ، فقيل : الميزان قبل ، و قيل : الحوض . قال أبو الحسن القابسي : و الصحيح أن الحوض قبل . قلت : و المعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم كما تقدم ، فيقدم قبل الصراط و الميزان و اللّه أعلم ، و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة ، و حكى بعض السلف من أهل التصنيف : أن الحوض يورد بعد الصراط و هو غلط من قائله . قال المؤلف : هو كما قال . و قد روى البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه قال بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل رجل من بيني و بينهم ف قال : هلم فقلت إلى أين ؟ ف قال : إلى النار و اللّه ، قلت ما شأنهم فقال إنهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة أخرى حتى إذا عرفتهم خرج من بيني و بينهم رجل فقال لهم : هلم فقلت إلى أين ؟ قال إلى النار و اللّه . قلت : ما شأنهم قال إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم . قلت : فهذا الحديث مع صحته أدل دليل على أن الحوض يكون في الموقف قبل الصراط ، لأن الصراط إنما هو جسر على جهنم ممدود يجاز عليه ، فمن جازه سلم من النار على ما يأتي ، و كذا حياض الأنبياء عليهم السلام تكون أيضاً في الموقف على ما يأتي . و روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن الوقوف بين يدي اللّه تعالى هل فيه ماء ؟ قال : أي و الذي نفسي بيده إن فيه لماء و إن أولياء اللّه تعالى ليردون حياض الأنبياء و يبعث اللّه سبعين ألف ملك بأيديهم عصي من نار يذودون الكفار عن حياض الأنبياء . مسلم عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال : قلت يا رسول اللّه ما آنية الحوض ؟ قال : و الذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء و كواكبها في الليلة المظلمة المصحية ، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ ، آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ ، عرضه مثل طوله ، ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضاً من الثلج و أحلى من العسل . و عن ثوبان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال : إني لبعقر حوضي أذود الناس لأهل اليمين أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم فسئل عن عرضه ف قال : من مقامي إلى عمان . و سئل عن شرابه ف قال : أشد بياضاً من الثلج و أحلى من العسل ، يغت فيه ميزابان من الجنة أحدهما من ذهب و الأخر من ورق . في غير كتاب مسلم يعب فيه ميزابان من الكوثر الحديث . و في أخرى ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليه قدح . مسلم عن أنس قال : بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفي إغفاءه ، ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا : ما أضحك يا رسول اللّه ؟ قال : نزلت علي آنفاً سورة فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك و انحر * إن شانئك هو الأبتر ثم قال : أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : اللّه و رسوله أعلم . قال : فإنه نهر و عدنيه ربي عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم ، فيختلج العبد منهم فأقول : يا رب إنه من أمتي ، في قال : ما تدري ما أحدث بعدك . و في رواية أخرى : ما أحدث . و عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حوضي مسيرة شهر ، و زواياه سواء ، و ماؤه من الورق ، و ريحه أطيب من المسك ، كيزانه كنجوم السماء من ورد فشرب منه لم يظمأ بعده أبداً . أخرجه البخاري . و عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال : إن أمامكم حوضاً كما بين جرباً و أذرح فيه أباريق كنجوم السماء من ورد فشرب منه لم يظمأ بعدها أبداً . قال عبيد اللّه فسألته فقال قريتين بالشام بينهما مسيرة ثلاث . أخرجه البخاري . و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال : إن حوضي أبعد من أيلة إلى عدن لهو أشد بياضاً من الثلج و أحلى من العسل باللبن ، و لآنيته أكثر من عدد النجوم و إني لأصد الناس كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه ، قالوا : يا رسول اللّه أتعرفنا يومئذ ؟ قال : نعم لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غير محجلين من أثر الوضوء . ابن ماجه ، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال : إن لي حوضاً ما بين الكعبة ، و بيت المقدس أبيض مثل اللبن آنيته عدد نجوم السماء ، و إني لأكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة . فصل : ظن بعض الناس أن هذه التحديات في أحاديث الحوض اضطراب و اختلاف و ليس كذلك ، و إنما تحدث النبي صلّى اللّه عليه و سلم بحديث الحوض مرات عديدة و ذكر فيها تلك الألفاظ المختلفة مخاطباً لكل طائفة بما كانت تعرف من مسافات مواضعها ، فيقول لأهل الشام ما بين أذرح و جرباً ، و لأهل اليمن من صنعاء إلى عدن . و هكذا و تارة آخرى يقدر بالزمان فيقول : مسيرة شهر ، و المعنى المقصود أنه حوض كبير متسع الجوانب و الزوايا فكان ذلك بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهات فخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها ، و اللّه أعلم . و لا يخطر ببالك أو يذهب وهمك إلى أن الحوض يكون على وجه هذه الأرض و إنما يكون وجوده في الأرض المبدلة على مسامتة هذه الأقطار أو في الموضع تكون بدلاً من هذه المواضع في هذه الأرض و هي أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم ، و لم يظلم على ظهرها أحد قط كما تقدم ، تطهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء ، و يغت : معناه يصب ، و يشخب أي يسيل ، و العقر مؤخر الحوض حيث تقف الإبل إذا وردته ، و تسكن قافه و تضم في قال : عقر و عقر كعسر و عسر قاله في الصحاح . و الهمل من النعم الضوال من الإبل واحدها هامل قاله الهروي و المعنى أن الناجي منهم قليل كهمل النعم ، و يقال : إن على أحد أركانه أبا بكر ، و على الثاني عمر ، و على الثالث عثمان ، و على الرابع عليا . قلت : هذا لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع و قد رفعه صاحب الغيلانيات من حديث حميد عن أنس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : إن على حوضي أربعة أركان . فأول ركن منها في يد أبي بكر ، و الركن الثاني في يد عمر ، و الركن الثالث في يد عثمان ، و الركن الرابع في يد علي رضي اللّه عنهم أجمعين . فمن أحل أبا بكر و أبغض عمر لم يسقه أبو بكر و من أحب عمر و أبغض أبا بكر لم يسقه عمر ، و من أحب عثمان و أبغض علياً لم يسقه عثمان ، و من أحب علياً و أبغض عثمان لم يسقه علي . و ذكر الحديث . |