باب ما جاء في عقوبة مانعي الزكاة و فضيحة الغادر و الغال في الموقف و قت الحساب مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : ما من صاحب ذهب و لا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صحفت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه و جبينه و ظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار . قيل يا رسول اللّه : فالإبل ؟ قال : و لا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها و من حقها حلبها يوم و ردها إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أو فر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها و تعضه بأفواهها قيل : يا رسول اللّه فالبقر و الغنم ؟ قال : و لا صاحب بقر و لا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء و لا جلحاء و لا غضباء تنطحه بقرونها و تطؤه بأظلافها ، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار و ذكر الحديث . أخرجه البخاري بمعناه . و روى مالك موقوفاً و النسائي و البخاري مرفوعاً عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : من آتاه اللّه مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا و لا يحسبن الذين يبخلون الآية ، وذكر مسلم من حديث جابر قال و لا صاحب كنز لا يؤدي فيه حقه إلا جاء يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه فاتحاً فاه فإذا أتاه فر منه فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني فإذا رأى أن لا بد له منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل و ذكر الحديث . و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ذات يوم فذكر الغلول وعظم أمره ثم قال : لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول اللّه أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول يا رسول اللّه أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول اللّه أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول اللّه : أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول اللّه أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول اللّه أغثني فأقول لا أملك لك من اللّه شيئاً قد أبلغتك أخرجه البخاري أيضاً . و عن ابن عمر رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : إذا جمع اللّه الأولين و الآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان . و عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة و ذكر أبو داود الطيالسي قال : حدثنا قرة بن خالد ، عن عبد الملك بن عمير ، عن رافع بن شداد ، عن عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال : إذا آمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء غدر يوم القيامة فصل : علماؤنا رحمهم اللّه في قوله تعالى و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة أن ذلك على الحقيقة كما بينه صلّى اللّه عليه و سلم أي يأت به حاملاً له على ظهره و رقبته معذباً بحمله و ثقله و مرعوباً بصوته و موبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد ، و كذا مانع الزكاة كما في صحيح الحديث . قال أبو حامد : فمانع زكاة الإبل يحمل بعيراً على كاهله له رغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم ، و مانع زكاة البقر يحمل ثوراً على كاهله له خوار و ثقل يعدل الجبل العظيم ، و مانع زكاة الغنم يحمل شاة لها ثغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم و الرغاء و الخوار و الثغاء كالرعد القاصف ، و مانع زكاة الزرع يحمل على كاهله أعدالاً قد ملئت من الجنس الذي كان يبخل به براً كان أو شعيراً أثقل ما يكون ينادي تحته بالويل و الثبور ، و مانع زكاة المال يحمل شجاعاً أقرع له زبيبتان و ذنبه قد انساب في منخريه و استدارت بجيده و ثقل على كاهله كأنه طوق بكل و حي في الأرض و كل واحد ينادي مثل هذا فتقول الملائكة هذا ما بخلتم به في الدنيا رغبة فيه وشحاً عليه و هوقوله تعالى سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . قلت : و هذه الفضيحة التي أوقعها اللّه بالغال و مانعي الزكاة نظير الفضيحة التي يوقعها بالغادر ، و جعل اللّه هذه المعاقبات حسب ما يعهده البشر و يفهمونه ألا ترى إلى قول الشاعر : أسمى و يحك هل سمعت بغدرة رفع اللواء لنا بها في المجمع فكانت العرب ترفع للغادر لواء في المحافل و مواسم الحج ، و كذلك يطاف بالجاني مع جنايته ، و ذهب بعض العلماء إلى أن ما يجيء به الغال يحمله عبارة عن وزر ذلك و شهرة الأمر أي يأتي يوم القيامة قد شهر اللّه أمره كما يشهر لو حمل يعيراً له رغاء أو فرساً له حمحمة . قلت : و هذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز و التشبيه ، و قد أخبر النبي صلّى اللّه عليه و سلم بالحقيقة فهو أولى . و قد روى أبو داود عن سمرة بن جندب قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالاً فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسها و يقسمها ، فجاء رجل يوماً بعد النداء بزمام من شعر ، فقال يا رسول اللّه : هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة . قال : أسمعت بلالاً ثلاثاً ؟ قال : نعم قال : فما منعك أن تجيء به فاعتذر إليه فقال كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك فصل : و روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال : إن الحجر ليرن لسبع خلفات فيلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفاً ، و يؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به قال فهو قول اللّه تعالى و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ذكره علي بن سليمان المرادي في الأربعين له . و قوله : يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة دليل على أن في الآخرة للناس ألوية ، فمنها ألوية خزي و فضيحة يعرف بها أهلها ، و منها ألوية حمد و ثناء و تشريف و تكريم . قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لواء الحمد بيدي . و روي لواء الكرم و قدم و تقدم . و روى الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار فعلى هذا من كان إماماً و رأساً في أمر ما معروفاً به فله لواء يعرف به خيراً كان أو شراً ، و قد يجوز أن يكون للصالحين الأولياء ألوية يعرفون بها تنويهاً بهم و إكراماً لهم ، و اللّه أعلم . و إن كانوا غير معروفين قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على اللّه لأبره و قال إن اللّه يحب العبد التقي الغني الخفي أخرجهما مسلم . و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة : و في الحديث الصحيح أن أول ما يقضي اللّه فيه الدماء ، و أول من يعطى اللّه أجورهم الذين ذهبت أبصارهم ينادى يوم القيامة بالمكفوفين فيقال لهم أنتم أحرى أحق من ينظر إلينا ثم يستحي اللّه تعالى منهم و يقول لهم : اذهبوا إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية و تجعل بيد شعيب عليه السلام فيصير أمامهم و معهم ملائكة النور ما لا يحصى عددهم إلا اللّه تعالى يزفونهم كما تزف العروس ، فيمر بهم على الصراط كالبرق الخاطف و صفة أحدهم الصبر و الحلم كابن عباس و من ضاهاه من الأئمة ثم ينادي أين أهل البلاء ؟ و يريد المجذومين فيؤتى بهم فيحييهم اللّه بتحية طيبة بالغة فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء و تجعل بيد أيوب عليه السلام فيصير أمامهم ذات اليمين ، و صفة المبتلى صبر و حلم كعقيل بن أبي طالب و من ضاهاه من الأئمة ثم ينادي : أين الشباب المتعففون ؟ فيؤتى بهم إلى اللّه فيرحب بهم نعماً و يقول ما شاء اللّه أن يقول ، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء ثم تجعل في يد يوسف عليه السلام و يصير أمامهم إلى ذات اليمين ، و صفة الشباب صبر و علم و حلم كراشد بن سليمان و من ضاهاه من الأئمة ، ثم يخرج النداء أين المتحابون في اللّه ؟ فيؤتى بهم إلى اللّه تعالى فيرحب بهم و يقول ما شاء اللّه أن يقول ، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين ، و صفة المتحاب في اللّه صبر و علم و حلم لا يسخط و لا يسيء من رضى الأحوال الدنيوية كأبي تراب أعني علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه و من ضاهاه من الأئمة ، ثم يخرج النداء أين الباكون ؟ فيؤتى بهم إلى اللّه تعالى فتوزن دموعهم و دم الشهداء و مداد العلماء فيرجع الدمع فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية ملونة لأنهم بكوا في أنواع مختلفة هذا بكى خوفاً و هذا بكى طمعاً و هذا بكى ندماً و تجعل بيد نوح عليه السلام ، فتهم العلماء بالتقدم عليهم و يقولون علمنا بكاءهم فإذا النداء على رسلك يا نوح فتوقف الزمرة ثم يوزن مداد العلماء فيرجع دم الشهداء فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية مزعفرة و تجعل في يد يحيى عليه السلام ، ثم ينطلق أمامهم فيهم العلماء بالتقدم عليهم و يقولون عن علمنا قاتلوا فنحن أحق بالتقدم ، فيضحك لهم الجليل جل جلاله و يقول لهم أنتم عندي كأنبيائي أشفعوا فيمن تشاءون ، فيشفع العالم في جيرانه و إخوانه و يأمر كل واحد منهم ملكاً ينادي في الناس : ألا إن فلاناً العالم قد أمر له أن يشفع فيمن قضى له حاجة أو أطعمه لقمة حين جاع أو سقاه شربة ماء حين عطش فليقم إليه فإنه يشفع له . و في الصحيح أول من يشفع المرسلون ، ثم النبيون ، ثم العلماء و يعقد لهم راية بيضاء و تجعل بيد إبراهيم عليه السلام ، فإنه أشد المرسلين مكاشفة ثم ينادي : أين الفقراء ؟ فيؤتى بهم إلى اللّه عز و جل فيقول لهم مرحباً بمن كانت الدنيا سبحنهم ، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية صفراء و تجعل في يد عيسى بن مريم عليه السلام و يصير إلى ذات اليمين ، ثم ينادي أين الأغنياء ؟ فيؤتى بهم إلى اللّه عز و جل فيعدد عليهم ما خولهم فيه خمسمائة عام ، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية ملونة و تجعل بيد سليمان عليه السلام و يصير أمامهم في ذات اليمين . و في الحديث : أن أربعة يستشهد عليهم بأربعة : ينادى بالأغنياء و أهل الغبطة فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة اللّه ؟ فيقولون : أعطانا اللّه ملكاً و غبطة شغلنا عن القيام بحقه في دار الدنيا فيقال لهم : من أعظم ملكاً : أنتم أم سليمان ؟ فيقولون : بل سليمان . في قال : ما شغله ذلك عن القيام بحق اللّه و الدأب في ذكره . ثم يقال : أين أهل البلاء ؟ فيؤتى بهم أنواعاً فيقال لهم : أي شيء شغلكم عن عبادة اللّه تعالى ؟ فيقولون : ابتلانا اللّه في دار الدنيا بأنواع من الآفات و العاهات شغلتنا عن ذكره و القيام بحقه فيقال لهم : من أشد بلاء : أنتم أم أيوب ؟ فيقولون بل أيوب .فيقال لهم : ما شغله ذلك عن حقنا و الدأب لذكرنا ثم ينادي : ابن الشباب العطرة و المماليك فتقول الشباب : أعطانا اللّه جمالاً و حسناً فتناً به فكنا مشغولين عن القيام بحقه و كذلك المماليك فيقولون : شغلنا رق العبودية في الدنيا فيقال لهم : أنتم أكثر جمالاً أم يوسف عليه السلام . فلقد كان في رق العبودية ما شغله ذلك عن القيام بحقنا و لا الدأب لذكرنا ثم ينادي : أين الفقراء ؟ فيؤتى بهم أنواعاً فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة اللّه تعالى ؟ فيقولون : ابتلانا اللّه في دار الدنيا بفقر شغلنا فيقال لهم : من أشد فقراً . . أنتم أم عيسى عليه السلام ؟ ! فيقولون : بل عيسى فيقول لهم : ما شغله ذلك عن القيام بحقنا و الدأب لذكرنا . . . فمن بلى بشيء من هذه الأربع فليذكر صاحبه . . فصل : و قوله هذه غدرة فلان ابن فلان دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم و أسماء آبائهم و قد تقدم هذا في غير موضع ، و في هذا رد على من قال إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك ستراً على آبائهم ، و هذا الحديث خلاف قولهم . خرجه البخاري و مسلم و حسبك . فصل : و قوله فيكوي بها جنبه الحديث إنما خص الجنب و الجبهة و الظهر بالكي لشهرته في الوجه و شناعته ، و في الجنب و الظهر لأنه آلم و أوجع ، و قيل خص الوجه لتقطيبه في وجه السائل أولاً و الجنب لأزوراره عن السائل ثانياً و الظهر لانصرافه إذا راد في السؤال و أكثر منه ، فرتب اللّه تعالى هذه العقوبات في هذه الأعضاء لأجل ذلك و اللّه أعلم . و قالت الصوفية : لما طلبوا الجاه و المال شان اللّه وجوههم ، و لما طووا كشحاً عن الفقير إذ جالسهم كويت جنوبهم و لما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها و اعتماداً عليها كويت ظورههم . فصل : و قوله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قيل : معناه لو حاسب فيها غير اللّه تعالى و إنما هو سبحانه و تعالى يفرغ منه في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا . و قيل : قدر مواقفهم للحساب عن الحسن و قال ابن اليمان كل موقف منها ألف سنة . و في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال : و الذي نفسي بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة و قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري و ذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال : يقصر يومئذ على المؤمن حتى يكون كوقت الصلاة . و في الحديث لا ينتصف النهار حتى يستقر أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار ذكره ابن عزير في غريب القرآن له . و بطح : ألقي على وجهه . قاله بعض المفسرين . و قال أهل اللغة : البطح : هو البسط كيفيما كان غير الوجه أو على الوجه ، و منه سميت بطحاء مكة لانبساطها ، و بقاع قرقر أي موضع مستو واسع و أصل القاع : الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء و جمعه قيعان ، و العقصاء : الملتوية القرن . و الجلحاء : التي لا قرن لها . و العضباء : المكسورة داخلة القرن يريد : إنها كلها ذوات قرون صحاح و يمكن بها النطح و الطعن حتى يكون أشد لألمه و أبلغ في عذابه ، و اللّه أعلم . |