باب ما جاء في سؤال الأنبياء و في شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم قال اللّه تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم و ما كنا غائبين ، و قال : فوربك لنسألنهم أجمعين . فيبدأ بالأنبياء عليهم السلام فيقول : ماذا أجبتم قيل : في تفسيرها كانوا قد علموا و لكن ذهبت عقولهم و عزبت أفهامهم و نسوا من شدة الهول و عظيم الخطب و صعوبة الأمر فقالوا : لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ثم يقربهم اللّه تعالى فيدعى نوح عليه السلام ، و يقال : إن الهيبة تأخذ بمجامع قلوبهم فيذهلون عن الجواب . ثم إن اللّه يثبتهم و يحدث لهم ذكراً فيشهدون بما أجابت به أممهم و يقال إنما قالوا ذلك تسليماً كما فعل المسيح في قوله تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب . و الأول أصح لأن الرسل يتفاضلون ، و المسيح من أجلهم لأنه كلمة اللّه و روحه ، قاله أبو حامد . و خرج ابن ماجه ، حدثنا أبو كريب و أحمد بن سنان قالا : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : يجيء النبي يوم القيامة و معه الرجل و يجيء النبي و معه الرجلان و يجيء النبي و معه الثلاثة ، و أكثر من ذلك فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم . فيدعى قومه في قال : هل بلغكم ؟ فيقولون : لا في قال : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد و أمته فتدعى أمة محمد صلّى اللّه عليه و سلم ، في قال : هل بلغ هذا ؟ فيقولون : نعم فيقول : و ما علمكم بذلك ؟ فيقولون : أخبرنا نبينا صلّى اللّه عليه و سلم بذلك أن الرسل قد بلغوا فصدقناه . قال فذلك قوله تعالى : و كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيداً . و ذكره البخاري أيضاً بمعناه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك و سعديك يارب فيقول : هل بلغت ؟ فيقول : نعم فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير ، فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد و أمته فيشهدون أنه قد بلغ ، فذلك قوله : و كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيداً . أخرجه ابن المبارك في رقائقه مرسلاً بأطول من هذا ف قال : أخبرني رشدين ابن سعد قال : أخبرني ابن أنعم المغافري عن حبان بن أبي جبلة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : إذا جمع اللّه عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل عليه السلام ، فيقول له ربه : ما فعلت في عهدي هل بلغت عهدي ؟ فيقول : نعم قد بلغت جبريل فيدعى جبريل عليه السلام فيقول : هل بلغك إسرافيل عهدي ؟ فيقول : نعم يا رب قد بلغني ، فيخلي عن إسرافيل ، و يقال لجبريل هل بلغت عهدي ؟ فيقول جبريل : نعم قد بلغت الرسل فيدعي الرسل فيقول : هل بلغكم جبريل عهدي ؟ فيقولون : نعم . فيخلي عن جبريل ، ثم يقال للرسل هل بلغكم عهدي ؟ فيقولون : قد بلغنا أممنا ، فتدعى الأمم فيقال لهم : هل بلغكم الرسل عهدي ؟ فمنهم المصدق و منهم المكذب فتقول الرسل : إن لنا عليهم شهوداً يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك فيقول : من يشهد لكم ؟ فيقولون محمد و أمته فتدعى أمة محمد فيقول : تشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه ؟ فيقولون : نعم ، رب شهدنا أن قد بلغوا ، فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب : كيف تشهدون على من لم تدركوا ؟ فيقولون : ربنا بعثت إلينا رسولا ، و أنزلت إلينا عهدك و كتابك و قصصك علينا إنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا ، فيقول الرب : صدقوا . فذلك قوله عز و جل : و كذلك جعلناكم أمة وسطاً ، و الوسط العدل لتكونوا شهداء على الناس ، و يكون الرسول عليكم شهيد قال ابن أنعم : فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد إلا من كان في قلبه حنة على أخيه . قلت : و ذكر هذا الخبر أبو محمد في كتاب العاقبة له ، فذكر بعد قوله : و الوسط العدل ، ثم يدعى غيره من الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين ثم ينادي كل إنسان باسمه واحداً واحداً و يسألون واحداً واحداً ، و تعرض أعمالهم على رب العزة جل جلاله قليلها و كثيرها حسنها و قبيحها . قال المؤلف : و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أن هذا يكون بعد ما يحكم اللّه تعالى بين البهائم و يقتص للجماء من القرناء و يفصل بين الوحش و الطير ، ثم يقول لهم : كونوا تراباً فتسوى بهم الأرض و حينئذ يود الذين كفروا و عصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض و يتمنى الكافر فيقول : يا ليتني كنت تراباً . ثم يخرج النداء من قبل اللّه تعالى : أين اللوح المحفوظ ؟ فيؤتى به له هرج عظيم ، فيقول اللّه تعالى : أين ما سطرت فيك من توارة و زبور و إنجيل و فرقان ؟ فيقول : يارب نقله مني الروح الأمين فيؤتى به يرعد و تصك ركبتاه ، فيقول اللّه تعالى : يا جبريل هذا اللوح المحفوظ يزعم أنك نقلت منه كلامي و وحيى أصدق ؟ قال : نعم يا رب . قال : فما فعلت فيه ؟ قال : أنهيت التوراة إلى موسى ، و أنهيت الزبور إلى داود و أنهيت الإنجيل إلى عيسى ، و أنهيت الفرقان إلى محمد عليه السلام ، و أنهيت إلى كل رسول رسالته و إلى أهل الصحف صحائفهم ، فإذا بالنداء يا نوح فيؤتى به يرعد و تصطك فرائصه فيقول : يانوح زعم جبريل أنك من المرسلين , قال : صدق ، فقيل له : ما فعلت مع قومك ؟ قال دعوتهم ليلاً نهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ، فإذا بالنداء يا قوم نوح فيؤتى بهم زمرة واحدة . في قال : هذا أخوكم نوح يزعم أنه بلغكم الرسالة . فيقولون : يا ربنا كذب ما بلغنا من شيء و ينكرون الرسالة ، فيقول اللّه : يا نوح ألك بينة ؟ فيقول : نعم يا رب بينتي عليهم محمد و أمته ، فيقولون : كيف و نحن أول الأمم و هم آخر الأمم ؟ فيؤتى بالنبي صلّى اللّه عليه و سلم فيقول يا محمد هذا نوح يستشهد فيشهد له تبليغ الرسالة فيقرأ صلّى اللّه عليه و سلم إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه إلى آخر السورة ، فيقول الجليل جل جلاله : قد وجب عليكم الحق و حقت كلمة العذاب على الكافرين فيؤمر بهم زمرة واحدة إلى النار من غير وزن عمل و لا حساب ، ثم ينادي : أين هود ؟ فيفعل قوم هود مع هود كما فعل قوم نوح مع نوح فيستشهد عليهم بالنبي صلّى اللّه عليه و سلم و خيار أمته فيتلو كذبت عاد المرسلين فيؤمر بهم إلى النار مثل أمة نوح ، ثم ينادي : يا صالح و يا ثمود فيأتون فيستشهد صالح عندما ينكرون فيتلوا النبي صلّى اللّه عليه و سلم كذبت ثمود المرسلين إلى آخر القصة فيفعل بهم مثلهم و لا يزال يخرج أمة بعد أمة قد أخبر عنهم القرآن بياناً و ذكرهم فيه إشارة كقوله تعالى و قروناً بين ذلك كثيراً و قوله ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها و قوله و الذين من بعدهم لا يعلمهم إلا اللّه جاءتهم رسلهم بالبينات و في ذلك تنبيه على أولئك القرون الطاغية كقوم تارخ و تارح و دوحاو أسرا و ما أشبه ذلك حتى ينتهي النداء إلى أصحاب الرس و تبع و قوم إبراهيم ، و في كل ذلك لا يرفع لهم ميزان و لا يوضع لهم حساب و هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، و الترجمان يكلمهم لأن الرب تعالى من نظر إليه و كلمه لم يعذبه ، ثم ينادي بموسى ابن عمران فيأتي و هو كأنه ورقة في ريح عاصف قد اصفر لونه و اصطكت ركبتاه فيقول له : يا ابن عمران جبريل يزعم أنه بلغك الرسالة و التوراة فتشهد له بالبلاغ ؟ قال : نعم : قال فارجع إلى منبرك واتل ما أوحى إليك من ربك فيرقى المنبر ، ثم يقرأ فينصت له كل من في الموقف فيأتي بالتوراة غضة طرية على حسنها يوم أنزلت حتى تتوهم الأحبار أنهم ما عرفوها يوماً ثم ينادي يا داود فيأتي و هو يرعد و كأنه ورقة في ريح عاصف تصطك ركبتاه فيصفر لونه ، فيقول اللّه جل ثناؤه يا داود : زعم جبريل أنه بلغك الزبور فتشهد له البلاغ ؟ فيقول : نعم يا رب فيقال له : ارجع إلى منبرك واتل ما أوحى إليك . فيرقى ثم يقرأ و هو حسن الناس صوتاً . و في الصحيح أنه صاحب المزامير . ثم ينادي المنادي أين عيسى بن مريم ؟ فيؤتى به على باب المرسلين فيقول : أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون اللّه ثم يحمد تحميداً ما شاء اللّه تعالى و يثنى عليه كثيراً ثم يعطف على نفسه بالذم و الاحتقار و يقول سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ، فيضحك اللّه و يقول هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم يا عيسى ارجع إلى منبرك واتل الإنجيل الذي بلغك جبريل ، فيقول : نعم ثم يرقى و يقرأ فتشخص إليه الرؤوس لحسن ترديده و ترجيعه فإنه أحكم الناس به رواية فيأتي به غضاً طرياً حتى يظن الرهبان أنهم ما عملوا به قط ، ثم ينقسم قومه فرقتين المجرمون مع المجرمين و المؤمنون مع المؤمنين . ثم يخرج النداء أين محمد ؟ فيؤتى به صلّى اللّه عليه و سلم فيقول يا محمد هذا جبريل يزعم أنه بلغك القرآن ، فيقول : نعم يا رب فيقال له ارجع إلى منبرك و اقرأ فيتلوا صلّى اللّه عليه و سلم القرآن فيأتي به غضاً طريا له حلاوة و عليه طلاوة و يستبشر به المتقون و إذا وجوههم ضاحكة مستبشرة و المجرمون و جوههم مغبرة مقترة فإذا تلا النبي القرآن توهمت الأمة أنهم ما سمعوه قط . و قد قيل للأصمعي تزعم أنك أحفظهم لكتاب اللّه قال : يا ابن أخي يوم أسمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كأني ما سمعته ، فإذا فرغت قراءة الكتب خرج النداء من قبل سرداقات الجلال : و امتازوا اليوم أيها المجرمون فيرتج الموقف و يقوم فيه روع عظيم و الملائكة قد امتزجت بالجن و الجن بيني آدم و الكل لجة واحدة ثم يخرج النداء : يا آدم ابعث بعث النار ، فيقول : كم يا رب ؟ فيقال له : من كل ألف تسع مائة و تسعة و تسعون إلى النار و واحد إلى الجنة على مايأتي بيانه ، فلا يزال يستخرج من سائر الملحدين و الغافلين و الفاسقين حتى لا يبقى إلا قدر حفنة الرب كما قال الصديق رضي اللّه عنه : نحن حفنات بحفنات الرب سبحانه و تعالى ، على مايأتي إن شاء اللّه تعالى . |